مجموع فتاوى ابن تيمية – 04 – الجزء الرابع
(العقيدة)
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كتاب مفصل الاعتقاد
سئل ما قولكم في مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين؟
فصل: في كون أهل الحديث أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل
فصــل: في أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد
إن السابقين الأولين لهم في كلام الرسول ثلاث طرق
إن لفظ التأويل قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات له ثلاثة معان
فصــل: في أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها
فصــل: في قول من قال إن الحشوية على ضربين
فصــل: في قول المعترض في الرد على الحنابلة
فصــل: الأقوال نوعان
قال الشيخ : الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة
سئل: ما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين؟
فصــل: في طرق المخاطبة
سئل:عـن الروح هل هي قديمة أو مخلوقة؟
سئل الشَّيخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن حقيقة ماهية الجن
سئل الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الجان المؤمنين
قولُ الشَيْخُ ـ رَحمهُ اللَّهُ ـ ردًا لقول من قال: كل مولود على ما سبق له في علم اللّه أنه سائر إليه
سُئِلَ عَن قَوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)
قوله أيضًا عن حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
فَصــل في ذكر اللّه الحفظة الموكلين ببني آدم، الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم
سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائمًا؟
سُئلَ عَنْ قَوْله صلى الله عليه وسلم: (إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة)
سُئِلَ عَنْ عَرْضِ الأدْيَانَ عَنْدَ الْمَوْتِ
سُئِلَ: هَل جَمِيعُ الْخَلْقِ ـ حَتَّى المَلاَئِكَةِ ـ يَمُوتُونَ ؟
فصــل في مذهب سائر المسلمين في إثبات القيامة الكبرى
سُئلَ شَيْخُ الإسْلاَم ـ رَحمَهُ اللَّه ـ عن [الروح المؤمنة]
سُئِلَ: هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيتُ فِى قَبْرِهِ؟
سُئِلَ شَيْخُ الإسْلاَم ـ رَحمهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات
َسُئلَ عن الصغير، وعن الطفل إذا مات: هل يمتحن؟
سُئلَ الشَّيْخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ عن الصغير هل يحيا ويسأل أو يحيا ولا يسأل؟
سُئِلَ شَيْخ الإسْلام ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ ـ وهو بمصر عن [عذاب القبر]
سئل: وهو بمصر عن [عذاب القبر] ؟
سئل: بماذا يخاطب الناس يوم البعث؟
سئل عن الميزان: هل هو عبارة عن العدل أم له كفتان؟
سئل عَنْ الْكُفّار: هل يحاسبون يوم القيامة أم لا؟
سئل: عن العبد المؤمن هل يَكْفُر بالمعصية أم لا؟
سئل عن رجل مسلم يعمل عملًا يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة
سئل عن الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
سُئلَ عن أَطفال المؤمنين هل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها أم يكبرون ويتزوجون؟
سئل: هل يتناسل أهل الجنة؟ والولدان هل هم ولدان أهل الجنة؟
سئل عن رجل قيل له: إنه ورد عن النبي: (أن أهل الجنة يأكلون ويشربون) فقال : من أكل وشرب بال وتغوط؟
سئل: هل أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون بتلذذ كالدنيا؟
فَصـل: أفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل
سئل فيمن يقول: إن غير الأنبياء يبلغ درجتهم بحيث يأمنون مكر اللّه؟
سئل عن رجل قال: إن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ معصومون من الكبائر دون الصغائر؟
سئل عن رجلين تنازعا في أمر نبي اللّه عيسى ابن مريم ـ عليه السلام؟
سئل: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك ؟
سئل عن هذه الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مـوسى وهو يصلي في قبره؟
سئل عن الذبيح من ولد خليل اللّه إبراهيم ـ عليه السلام ـ هل هو إسماعيل أو إسحاق؟
سئل عن الخضر وإلياس هل هما معمران؟
سئل: هل كان الخضر ـ عليه السلام ـ نبيًا أو وليًا ؟ وهل هو حي إلى الآن؟
سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم وقت الساعة ؟
سئل: عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل ؟
سئل: عن المطيعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هل هم أفضل من الملائكة؟
سئل: هل سجد ملائكة السماء والأرض أم ملائكة الأرض خاصة؟
فَصــل: في التفضيل بين الملائكة والناس
سئل:عن[خديجة] و[عائشة] أمي المؤمنين أيتهما أفضل ؟
فَصْــل: وأفضل نساء هذه الأمة [خديجة]، و[عائشة]، و[فاطمة]؟
فَصْــل: في نساء النبي صلى الله عليه وسلم
فَصـل: هل أبو بكر وعمر أفضل من الخضر؟
سئل: عن رجلين اختلفا فقال أحدهما: أبو بكر الصديق وعمر بـن الخطاب أعلم وأفقه من على بن أبي طالب؟
سئل: عن رجل متمسك بالسنة ويحصل له ريبة في تفضيل الثلاثة على عليّ لقوله ـ عليه السلام ـ له: (أنت مني وأنا منك)؟
سئل: لا أفضل على عليٍّ غيره وإذا ذكر[علي] صلى عليه مفردًا هل يجوز له أن يخصه بالصلاة دون غيره؟
سئل:عن قول الشيخ أبي محمد عبد اللّه بن أبي زيد في آخر عقيدته؟
سئل: عما شَجَرَ بين الصحابة ـ علي ومعاوية وطلحة وعائشة ـ هل يطالبون به أم لا؟
فائــدة: إن كان المختار الإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة فلا يجب الاعتقاد بأن كل واحد منهم كان مجتهدا متأولا؟
فصل: في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين
سئل: عن إسلام معاوية بن أبي سفيان متى كان؟
فَصْـــل: في الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة
فَصْــل: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق
سئل: عن جماعة يقولون: إن الدين فسد من حين أخذت الخلافة من علي بن أبي طالب؟
سئل: هل يصح عند أهل العلم: أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ قاتل الجن في البئر؟
سئل: عمن قال أن عليا قاتل الجن في البئر وأنه حمل على اثني عشر ألفًا وهزمهم؟
سئل: عن فاطمة أنها قالت: يارسول اللّه إن عليًا يقوم الليالي كلها إلا ليلة الجمعة؟
سئل:عن رجل قال عن علي بن أبي طالب أنه ليس من أهل البيت ولا تجوز الصلاة عليه والصلاة عليه بدعة؟
سئل: أن علي بـن أبي طالب قال: إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني؟
فَصــل: هل كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقًا؟
سئل: عن رجلين تنازعا في ساب أبي بكر أحدهما يقول: يتوب اللّه عليه وقال الآخر: لا يتوب اللّه عليه؟
سئل: عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد وطعنوا في ابن مسعود وروايته؟
سئل: عن رجل يناظر مع آخر في [مسألة المصراة] فطعن أحدهما في أبي هريرة وروايته؟
سئل: عن فرقة من المسلمين يقرون بالشهادتين ويصومون إلا أنهم يكفرون سابِّي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟
كتاب مفصل الاعتقاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
سئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه ما قولكم في مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين؟ ما الصواب منهما؟ وما تنتحلونه أنتم من المذهبين؟ وفي أهل الحديث: هل هم أولى بالصواب من غيرهم؟ وهل هم المرادون بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم؟.
فأجاب: -
الحمد لله. هذه المسائل بسطها يحتمل مجلدات لكن نشير إلى المهم منها والله الموفق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] . وقد شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان. فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم. فمن سبيلهم في الاعتقاد: [الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه] التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير لها ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين; ولا سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها؛ ومعناها إلى المتكلم بها. وقال بعضهم - ويروى عن الشافعي: [آمنت بما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله]. وعلموا أن المتكلم بها صادق لا شك في صدقه فصدقوه ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه. وأخذ ذلك الآخر عن الأول ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز لهم والعدول عن طريقتهم وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم ونرجو أن يجعلنا الله تعالى ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه؛ وسلوك الطريق الذي سلكوه. والدليل على أن مذهبهم ما ذكرناه: أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها؛ غير مرتاب فيها؛ ولا شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ولا تأولوه ولا شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية. إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما لا يحل. بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا: أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف؛ وتارة بالضرب وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته. ولذلك لما بلغ عمر - رضي الله عنه - أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل فبينما عمر يخطب قام فسأله عن: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذريات:1]{فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} [الذريات:2]وما بعدها. فنزل عمر فقال: [لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف [ثم أمر به فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسا إلا قالوا: [عزمة أمير المؤمنين] فتفرقوا عنه حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج أتي فقيل له: هذا وقتك فقال: لا نفعتني موعظة العبد الصالح. ولما سئل [مالك بن أنس]- رحمه الله تعالى - فقيل له: يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى؟ فأطرق مالك وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه فيه. فرفع رأسه إلى السائل وقال: [الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأحسبك رجل سوء]. وأمر به فأخرج. ومن أول الاستواء بالاستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير سبيله. وهذا الجواب من مالك - رحمه الله - في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات. مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها. فيقال في مثل النزول: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصفات إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة. وثبت عن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - أنه قال: [اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب: على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا. فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة] انتهى. فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإمام كيف حكى الإجماع في هذه المسألة ولا خير فيما خرج عن إجماعهم. ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه. وأولوا ذلك؛ فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: [إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم -تبارك وتعالى- بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله؛ على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات. ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية. وقد أعاذ الله [أهل السنة] من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز من قائل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وبقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4].وقال سعيد بن جبير: [ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين]. وثبت عن الربيع بن سليمان أنه قال: سألت الشافعي - رحمه الله تعالى - عن صفات الله تعالى؟ فقال: [حرام على العقول أن تمثل الله تعالى؛ وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع؛ وعلى النفوس أن تفكر؛ وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه] عليه الصلاة والسلام. وثبت عن الحسن البصري أنه قال: [لقد تكلم مطرف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده. قالوا: وما هو يا أبا سعيد؟ قال: [الحمد لله الذي من الإيمان به: الجهل بغير ما وصف به نفسه]. وقال سحنون [من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه]. وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير - أنه قال: [أصول السنة] - فذكر أشياء - ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: من الآية67] وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه:5]ومن زعم غير هذا فهو جهمي. فمذهب السلف رضوان الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها. لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات وإثبات الذات إثبات وجود؛ لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات. وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرجنا عن المقصود في هذا الجواب. فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفي بما قدمناه ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إلا خروجا عن سواء السبيل والله الموفق. وقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رضوان الله عليهم بما نقلناه جملة عنهم وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك. ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل لقد بلغني عمن ذهب إلى التأويل لهذه الآيات والأخبار من أكابرهم: الاعتراف بأن مذهب السلف فيها ما قلناه. ورأيته لبعض شيوخهم في كتابه قال: [اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها. وهو مذهب السلف] فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه بقول المنازع والحمد لله. وما أحسن ما جاء عن [عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة] أنه قال: [عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة. فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطإ والحمق والتعمق. فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم. فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا. ولهم كانوا على كشفها أقوى. وبتفصيلها لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة؛ فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم؛ وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان. ولقد وصفوا منه ما يكفي؛ وتكلموا منه بما يشفي. فمن دونهم مقصر؛ ومن فوقهم مفرط. لقد قصر دونهم أناس فجفوا؛ وطمح آخرون فغلوا؛ وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم].
فصل
وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو. فنبين ذلك بالقياس المعقول؛ من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول كما قال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: من الآية53]؛ فأخبر: أنه سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق. ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: من الآية53] أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك. فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم. فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى؛ مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك. وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها: فهم أكمل الناس عقلا؛ وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلاما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلالا وأقومهم جدلا وأتمهم فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا. وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل. فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين. وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد: من الآية17] وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: من الآية66] {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} [النساء:67] {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 68].وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم. وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل. وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض. وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم. فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض: فهذا أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم. حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقر بذلك كما قال الإمام أحمد: [آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز] فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته فأما وقت الموت فلا بد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق. ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته: مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف؛ سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ من اليهود والنصارى عشرون ألفا. وهو إنما نبل عند الأمة باتباع الحديث والسنة. وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة. وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك وكذلك مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلاغها إياه أو لاعتقاده ضعف دلالتها أو رجحان غيرها عليها. وكذلك المسائل الاعتقادية الخبرية؛ لم ينبل أحد من الطوائف ورءوسهم عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسنة فالمعتزلة أولا - وهم فرسان الكلام - إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من يغضي عن مساوئهم لأجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الإثبات والسنة والحديث وردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث: من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الأخبار وتحريف الكلم عن مواضعه والغلو في على ونحو ذلك. وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير على وعثمان وغيرهما وما كفروا به المسلمين من الذنوب ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في الإيمان. ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة. وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الكلابية والكرامية والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة؛ والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة. فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث. وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم. ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كليهما. وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه وينتصر له بذلك. فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه - كالبيهقي؛ والقشيري أبي القاسم؛ وابن عساكر الدمشقي - إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث أو بما رده من أقوال مخالفيهم لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك كشيخه الأول [أبي على]; وولده [أبي هاشم]. لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات؛ والقدر والإمامة؛ والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان وله من الردود على المعتزلة والقدرية؛ والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم: ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك؛ ويعرف له حقه وقدره {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: من الآية3] وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والأتباع ما صار. لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله: هي من جنس المجاهد المنتصر. فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان [يحيى بن يحيى] يقول: [الذب عن السنة أفضل من الجهاد] والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون وقد يكون فيه فجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم) ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره: نصره للسنة والدين فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه. فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات. والحسنات: هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره. وهذا هو السنة. فالخير كله - باتفاق الأمة - هو فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك. ومن تكلم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة. وبهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام والمتكلمين الصفاتية كابن كرام؛ وابن كلاب والأشعري. وما تكلم فيه من تكلم من أعيان الأمة وأئمتها المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء؛ وأهل الحديث والصوفية إلا بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه أو لاقتضاء أصل قياس - مهدوه - رد ذلك كما يقع نحو ذلك في المسائل العلمية. فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النص إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاده صحة ما عارضه لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان فيستحق من الذم ما لا يستحقه في النص الخفي وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف؛ يعظم فيه أمر المخالفة للسنة.
ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر؛ حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة. فلعنوا الكلابية والأشعرية: كما كان في مملكة الأمير [محمود بن سبكتكين] وفي دولة السلاجقة ابتداء وكذلك الخليفة القادر؛ ربما اهتم بذلك واستشار المعتزلة من الفقهاء ورفعوا إليه أمر القاضي [أبي بكر] ونحوه وهموا به حتى كان يختفي وإنما تستر بمذهب الإمام أحمد وموافقته ثم ولى النظام وسعوا في رفع اللعنة واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق كالدامغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي وفتواهما حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية. وقد قيل: إن أبا إسحاق استعفي من ذلك فألزموه وأفتوا بأنه لا يجوز لعنتهم ويعزر من يلعنهم وعلل الدامغاني: بأنهم طائفة من المسلمين. وعلل أبو إسحاق - مع ذلك -: بأن لهم ذبا وردا على أهل البدع المخالفين للسنة فلم يمكن المفتي أن يعلل رفع الذم إلا بموافقة السنة والحديث. وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها: - ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان ويعزر فاعله تعزيرًا بليغًا رادعًا وأما لبس الحلق والدمالج والسلاسل والأغلال والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة. وشر الأمور محدثاتها وهي لهم في الدنيا وهي لباس أهل النار وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك. ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات ولا تقبيل القبور ويعزر فاعله. ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا. والمؤمن لا يكون لعانا وما أقر به من عود اللعنة عليه قال: ولا تحل الصلاة عند القبور ولا المشي عليها من الرجال والنساء ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قال: وأما لعن العلماء لأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر. وعادت اللعنة عليه فمن لعن من ليس أهلا للعنة وقعت اللعنة عليه. والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين. قال: وأما دخولهم النيران فمن لا يتمسك بالقرآن فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم كما يفتتن الناس بما يظهر على يدي الدجال فإنه من ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع فإن كان على الاستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة ومن لم يكن على الاستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره. فإن الله يضل من لا خلاق له بما يظهر على يدي هؤلاء. وأما من تمسك بالشرع الشريف: فإنه لو رأى من هؤلاء من يطير في الهواء؛ أو يمشي على الماء؛ فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد. انتهى. فالفقيه أبو محمد أيضا إنما منع اللعن وأمر بتعزير اللاعن لأجل ما نصروه من [أصول الدين] وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث والرد على من خالف القرآن والسنة والحديث. ولهذا كان الشيخ أبو إسحاق يقول: [إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة] وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد ولهذا قال أبو القاسم بن عساكر في مناقبه: [ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة] ابن القشيري ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها لا تجد من يمدح الأشعري بمدحة؛ إلا إذا وافق السنة والحديث ولا يذمه من يذمه إلا بمخالفة السنة والحديث. وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث واتفاق شهاداتهم على أن الحق في ذلك. ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه. فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه والقاضي [أبو بكر بن الباقلاني] لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره. وأما مثل الأستاذ أبي المعالي؛ وأبي حامد؛ ونحوهما ممن خالفوا أصوله في مواضع فلا تجدهم يعظمون إلا بما وافقوا فيه السنة والحديث وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في الفقه الموافق للسنة والحديث ومما ذكروه في الأصول مما يوافق السنة والحديث وما ردوه مما يخالف السنة والحديث. وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإلا لم يصح ذلك. وكانت الرافضة والقرامطة - علماؤها وأمراؤها - قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية حتى غلبت على الشام والعراق وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق وقهروهم بخراسان وحجروهم بمصر. وكان في وقتهم من الوزراء مثل: [نظام الملك] ومن العلماء مثل: [أبي المعالي الجويني] فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك. وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه: [كأبي الوليد الباجي] والقاضي [أبي بكر بن العربي] ونحوهما لا يعظمون إلا بموافقة السنة والحديث وأما الأكابر: مثل [ابن حبيب] و[ابن سحنون] ونحوهما؛ فلون آخر. وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل [القدر] و [الإرجاء] ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة. وكذلك ما ذكره في [باب الصفات] فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت في الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك. لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات وإن كان [أبو محمد بن حزم] في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له كما نفي المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر؛ ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال؛ والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء. وتعظيم أئمة الأمة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الأصول والفروع من الأقوال والأعمال: أكثر من أن يذكر هنا. وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك مثل: دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين. كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل. فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله , والرشيد كان كثير الغزو والحج. وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الفتنة هاهنا); ظهر حينئذ كثير من البدع وعربت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم - من المجوس الفرس والصابئين الروم والمشركين الهند - وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيمانا وعدلا وجودا فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك. وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدا للصلوات في أوقاتها من بني أمية فإن أولئك كانوا كثير الإضاعة لمواقيت الصلاة كما جاءت فيهم الأحاديث: (سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة). لكن كانت البدع في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعة وكانت الشريعة أعز وأظهر وكان القيام بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم. وفي دولة [أبي العباس المأمون] ظهر [الخرمية] ونحوهم من المنافقين وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة.
فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب؛ كان من أثر ذلك: ما ظهر من استيلاء الجهمية؛ والرافضة؛ وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة. وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلا وعدلا وإنما هو جهل وظلم إذ التسوية بين المؤمن والمنافق؛ والمسلم والكافر أعظم الظلم وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه. وكان في أيام [المتوكل] قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية؛ وألزموا الصغار فعزت السنة والجماعة وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم. وكذلك في أيام [المعتضد] والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن طريقة من غيرهم. وكان الإسلام في زمنهم أعز وكانت السنة بحسب ذلك. وفي دولة [بني بويه] ونحوهم: الأمر بالعكس فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة. قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم. فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك وجرت حوادث كثيرة. ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه: كان الإسلام والسنة في مملكته أعز فإنه غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله. فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه مقموعة. وكذلك السلطان [نور الدين محمود] الذي كان بالشام؛ عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم. وكذلك ما كان في زمنه من خلافة بني العباس ووزارة ابن هبيرة لهم فإنه كان من أمثل وزراء الإسلام. ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره. وما يوجد من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال ومن شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على بعض كذلك؛ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير وأئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد لأن [الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد] وكذلك ما يوجد من شهادتهم لأهل الحديث بالسلامة والخلاص من أنواع الضلال وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال. وهذا باب واسع كما قدمناه. وجميع الطوائف المتقابلة من أهل الأهواء تشهد لهم بأنهم أصلح من الأخرىن وأقرب إلى الحق فنجد كلام أهل النحل فيهم وحالهم معهم بمنزلة كلام أهل الملل مع المسلمين وحالهم معهم. وإذا قابلنا بين الطائفتين - أهل الحديث وأهل الكلام - فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول: إنما يعيبهم بقلة المعرفة؛ أو بقلة الفهم. أما الأول: فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة؛ أو بآثار لا تصلح للاحتجاج. وأما الثاني: فبأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة بل قد يقولون القولين المتناقضين ولا يهتدون للخروج من ذلك. والأمر راجع إلى شيئين: - إما زيادة أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة كالأحاديث الموضوعة وإما أقوال مفيدة لكنهم لا يفهمونها إذ كان اتباع الحديث يحتاج أولا إلى صحة الحديث. وثانيا إلى فهم معناه كاتباع القرآن. فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين. ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا. ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل [الأصول والفروع] وبآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وربما تأولوه على غير تأويله؛ ووضعوه على غير موضعه. ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان الأمة ويجهلونهم ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا وقد يكون منكرا من القول وزورا وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم وقد رأيت من هذا عجائب. لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما لا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علما لكن كل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم.
وبيان ذلك: أن ما ذكر من فضول الكلام الذي لا يفيد مع اعتقاد أنه طريق إلى التصور والتصديق - هو في أهل الكلام والمنطق أضعاف أضعاف أضعاف ما هو في أهل الحديث؛ فبإزاء احتجاج أولئك بالحديث الضعيف احتجاج هؤلاء بالحدود والأقيسة الكثيرة العقيمة؛ التي لا تفيد معرفة؛ بل تفيد جهلا وضلالا وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر وما أحسن قول الإمام أحمد: [ضعيف الحديث خير من رأي فلان].
ثم لأهل الحديث من المزية: أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمه بعضهم هو كلام في نفسه حق وقد آمنوا بذلك وأما المتكلمة: فيتكلفون من القول ما لا يفهمونه ولا يعلمون أنه حق وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة بل إما في تأييده؛ وإما في فرع من الفروع وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقة الثابتة.
إذا عرف هذا فقد قال الله تعالى عن أتباع الأئمة من أهل الملل المخالفين للرسل {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: من الآية83] وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] إلى قوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: من الآية68] ومثل هذا في القرآن كثير؛ وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم؛ لذلك فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة؛ ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول مما يجهله غيرهم أو يكذب به والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين وخاتم الرسل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الله كتابه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فهو الأمين على جميع الكتب؛ وقد بلغ أبين البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيمًا بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا وموافقة له علما وعملاً.
وأما غير اتباعه من أهل الكلام؛ فالكلام في أقيستهم التي هي حججهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم وهذا يدخل فيه كل من خالف شيئا من السنة والحديث من المتكلمين والفلاسفة فالكلام في هذا المقام واسع لا ينضبط هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولا للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد ـ والله أعلم ـ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الإحتلام كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة؛ وإما
أن تكون المسألة باطلاً فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظمها؛ وذكر مسألة التوحيد. فقلت التوحيد حق لكن اذكر ما شئت من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط وذهب إلى ابنه وكان أيضا من المتعصبين لهم فذكر ذلك له قال فأخذ يعظم ذلك علي فقلت أنا لا أشك في التوحيد ولكن أشك في هذا الدليل المعين ويدلك على ذلك أمور أحدها أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا وأضعف الناس علما ويقينا وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي وإنما العلم في جواب السؤال ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر وقد قيل إن الأشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب باب الحيرة والشك والاضطراب لكن هو مسرف في هذا الباب بحيث له نهمة في التشكيك دون التحقيق بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض بل لا بد فيه من نوع من الحق وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي كان يقول أستلقي على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم أذكر المقالات وحجج هؤلاء وهؤلاء واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا أنشد الخطابي حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور فإذا كانت هذه حال حججهم فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا وكيف يليق بمثل هؤلاء أن ينسبوا إلى الحشو أهل الحديث والسنة الذين هم أعظم الناس علما ويقينا وطمأنينة وسكينة وهم الذين يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون وهم بالحق يوقنون لا يشكون ولا يمترون فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم والنافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد غاية ما يقوله أحدهم أنهم جزموا بغير دليل وصمموا بغير حجة وإنما معهم التقليد وهذا القدر قد يكون في كثير من العامة لكن جزم العلم غير جزم الهوى فالجازم بغير علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به، والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم اذ كون الإنسان عالما وغير عالم مثل كونه سامعًا ومبصرًا وغير سامع ومبصر فهو يعلم من نفسه ذلك مثل ما يعلم من نفسه كونه محبًا ومبغضًا ومريدًا وكارهًا ومسرورًا ومحزونًا ومنعمًا ومعذبًا وغير ذلك ومن شك في كونه يعلم مع كونه يعلم فهو بمنزلة من جزم بأنه علم وهو لا يعلم وذلك نظير من شك في كونه سمع ورأى أو جزم بأنه سمع ورأى ما لم يسمعه ويراه والغلط أو الكذب يعرض للإنسان في كل واحد من طرفي النفي والإثبات لكن هذا الغلط أو الكذب العارض لا يمنع أن يكون الإنسان جازمًا بما لا يشك فيه من ذلك كما يجزم بما يجده من الطعوم والأراييح وإن كان قد يعرض له من الانحراف ما يجد به الحلو مرا فالأسباب العارضة لغلط الحس والباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس والأصل هو الصحة في الإدراك وفي الحركة فإن الله خلق عباده على الفطرة وهذه الأمور يعلم الغلط فيها بأسبابها الخاصة كالمرة الصفراء العارضة للطعم وكالحول في العين ونحو ذلك وإلا فمن حاسب نفسه على ما يجزم به وجد أكثر الناس الذين يجزمون بما لا يجزم به إنما جزمهم لنوع من الهوى كما قال تعالى وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم وقال ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء وأما النصارى فأعظم ضلالا منهم وإن كانوا في العادة والأخلاق أقل منهم شرا فليسوا جازمين بغالب ضلالهم بل عند الاعتبار تجد من ترك الهوى من الطائفتين ونظر نوع نظر تبين له الإسلام حقا والمقصود هنا أن معرفة الإنسان بكونه يعلم أو لا يعلم مرجعه إلى وجود نفسه عالمة ولهذا لا نحتج على منكر العلم إلا بوجودنا نفوسنا عالمة كما احتجوا على منكري الأخبار المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك وجازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه وجعل المحققون وجود العلم بخبر من الأخبار هو الضابط في حصول التواتر إذ لم يحدوه بعدد ولا صفة بل متى حصل العلم كان هو المعتبر والإنسان يجد نفسه عالمة وهذا حق فإنه لا يجوز أن يستدل الإنسان على كونه عالما بدليل فإن علمه بمقدمات ذلك الدليل يحتاج إلى أن يجد نفسه عالمة بها فلو احتاج علمه بكونه عالما إلى دليل أفضى إلى الدور أو التسلسل ولهذا لا يحس الإنسان بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيا أو إن كان نظريا إذا علم المقدمتين وبهذا استدل على منكري إفادة النظر العلم وإن كان في هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه فالغرض أن من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الاستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلال أو غير ذلك والعلم يحصل في النفس كما تحصل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب وعامة ذلك بملائكة الله تعالى فإن الله سبحانه ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لحسان اللهم أيده بروح القدس) وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: من الآية22] وقال: ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده) وقال عبدالله بن مسعود: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال ابن مسعود أيضًا أن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير تصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق وهذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه وربما رفعه بعضهم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل من شعور وإرادة وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به ومعرفة النافع الملائم والمحبة له ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة فأحبته واطمأنت إليه وذلك هو المعروف وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة فانكرته قال تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والإنسان كما سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (حيث قال أصدق الأسماء حارث وهمام) فهو دائما يهم ويعمل لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبينا على اعتقاد باطل إما في نفس المقصود فلا يكون نافعا ولا ضارا وإما في الوسيلة فلا تكون طريقا إليه وهذا جهل وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله ويعلم أنه ينفعه ويتركه لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى او دفع ألم آخر جاهلا ظالما حيث قدم هذا على ذاك ولهذا قال أبو العالية سألت أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: من الآية17] فقالوا كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وإذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجيا وإن كان راهبا خائفا لم يسع إلا في النجاة ولم يهرب إلا من الخوف فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه فكل بني آدم له اعتقاد فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه أو لوجود المحبوب عنده أو لدفع المكروه عنه؛ والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله فإذا كذب بالحق فلم يصدق به ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرًا بترك تصديق الحق وطلب الخير فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر فذكر عبدالله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان؛ فلمة الملك تصديق بالحق، وهو ما كان من غير جنس الاعتقاد الفاسد، ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر؛ وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده، أما مع رجائه إن كان مع هوى نفس وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر.
فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة، من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة، من لمة الشيطان، قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة: من الآية268] [البقرة:268]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} [آل عمران:175] أي: يخوفكم أولياءه، وقال تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ}[الأنفال:48]
والشيطان وَسْواس خَنَّاس، إذا ذكر العبد ربه خنس، فإذا غفل عن ذكره وسوس؛ فلهذا كان ترك ذكر الله سببًا ومبدأ لنزول الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة في القلب، ومِنْ ذكر الله ـ تعالى ـ تلاوة كتابه وفهمه، ومذاكرة العلم، كما قال معاذ بن جبل: ومذاكرته تسبيح.
وقد تنازع أهل الكلام في حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل، فقال بعضهم: ذلك على سبيل التولد. وقال المنكرون للتولد: بل ذلك بفعل الله ـ تعالى. والنظر إما متضمن للعلم وإما موجب له، وهذا ينصره المنتسبون للسنة من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقالت المتفلسفة: بل ذلك يحصل بطريق الفيض من العقل الفعال عند استعداد النفس لقبول الفيض. وقد يزعمون أن العقل الفعال هو جبريل.
فأما قول القائلين: إن ذلك بفعل الله، فهو صحيح؛ بناء على أن الله هو معلم كل علم وخالق كل شىء، لكن هذا كلام مجمل ليس فيه بيان لنفس السبب الخاص، وأما قول القائلين بالتولد، فبعضه حق وبعضه باطل، فإن كان دعواهم أن العلم المتولد هو حاصل بمجرد قدرة العبد، فذلك باطل قطعًا، ولكن هو حاصل بأمرين: قدرة العبد، والسبب الآخر، كالقوة التي في السهم والقبول الذي في المحل، ولا ريب أن النظر هو بسبب، ولكن الشأن فيما به يتم حصول العلم.
وأما زعم المتفلسفة أنه بالعقل الفعال، فمن الخرافات التي لا دليل عليها، وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل، وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالاتها، فهو من فيضه وبسببه، فهو من أبطل الباطل.
ولكن إضافتهم ذلك إلى أمور روحانية صحيح في الجملة؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يدبر أمر السموات والأرض بملائكته التي هي السفراء في أمره، ولفظ [الملك] يدل على ذلك، وبذلك أخبرت الأنبياء، وقد شهد الكتاب والسنة من ذلك بما لا يتسع هذا الموضع لذكره، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في ملائكة تخليق الجنين وغيره.
وأما تخصيص روح واحد متصل بفلك القمر، يكون هو رب هذا العالم، فهذا باطل، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، ولكن لابد أن يُعْلم أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملائكة، أو الشياطين، فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر. والتصديق والتكذيب مقرونان بنظر الإنسان، كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته.
فإذا كان النظر في دليل هاد ـ كالقرآن ـ وسلم من معارضات الشيطان تضمن ذلك النظر العلم والهدي؛ ولهذا أمر العبد بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة. وإذا كان النظر في دليل مضل والناظر يعتقد صحته، بأن تكون مقدمتاه أو إحداهما متضمنة للباطل، أو تكون المقدمات صحيحة لكن التأليف ليس بمستقيم، فإنه يصير في القلب بذلك اعتقاد فاسد، وهو غالب شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم.
فإذا كان الناظر لابد له من منظور فيه، والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيد علمًا، بل ربما خطر له بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات، يحسبها أدلة، لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصور.
وأما النظر المفيد للعلم، فهو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادي ـ على العموم والإطلاق ـ هو [كتاب الله]، و[سنة نبيه] فإن الذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر، هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى، وهو بذكر الله وما نزل من الحق.
فإذا أراد النظر والاعتبار في الأدلة المطلقة من غير تعيين مطلوب، فذلك النظر في كتاب الله وتدبره، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 ،16]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:53،52].
وأما النظر في مسألة معينة وقضية معينة، لطلب حكمها والتصديق بالحق فيها، والعبد لا يعرف ما يدله على هذا أو هذا فمجرد هذا النظر لا يفيد بل قد يقع له تصديقات يحسبها حقًا وهي باطل، وذلك من إلقاء الشيطان، وقد يقع له تصديقات تكون حقًا، وذلك من إلقاء الملك .
وكذلك إذا كان النظر في الدليل الهادي وهو القرآن، فقد يضع الكلم مواضعه ويفهم مقصود الدليل فيهتدى بالقرآن، وقد لا يفهمه، أو يحرف الكلم عن مواضعه فيضل به، ويكون ذلك من الشيطان، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82]، وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ} [البقرة:26]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124، 125]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}[فصلت: 44]، وقال: {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138].
فالناظر في الدليل بمنزلة المترائى للهلال قد يراه، وقد لا يراه لعشى في بصره، وكذلك أعمى القلب.
وأما الناظر في المسألة، فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به وينتفع. فأمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة، وهو ذكر الله ـ تعالى ـ والغفلة عنه، فإن الشيطان وسواس خناس، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس.
وذكر الله يعطي الإيمان وهو أصل الإيمان. والله ـ سبحانه ـ هو رب كل شىء ومليكه، وهو معلم كل علم وواهبه، فكما أن نفسه أصل لكل شىء موجود، فذكره، والعلم به أصل لكل علم، وذكره في القلب.
والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه:}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فأمره أن يقرأ باسم الله، فتضمن هذا الأمر بذكر الله، وما نزل من الحق، وقال:}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1ـ 5 ] .
فذكر ـ سبحانه ـ أنه خلق أكرم الأعيان الموجودة ـ عمومًا وخصوصًا ـ وهو الإنسان، وأنه المعلم للعلم ـ عمومًا وخصوصًا ـ للإنسان، وذكر التعليم بالقلم الذي هو آخر المراتب؛ ليستلزم تعليم القول وتعليم العلم الذي في القلب.
وحقيقة الأمر: أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى، طالب سائل، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله ويدله، كما قال: (يا عبادي، كلكم ضَالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
ومما يوضح ذلك: أن الطالب للعلم بالنظر والاستدلال، والتفكر والتدبر، لا يحصل له ذلك إن لم ينظر في دليل يفيده العلم بالمدلول عليه، ومتى كان العلم مستفادًا بالنظر، فلا بد أن يكون عنـد الناظر مـن العلـم المذكـور الثابـت في قلبه ما لا يحتاج حصوله إلى نظر، فيكون ذلك المعلوم أصلاً وسببًا للتفكر الذي يطلب به معلومًا آخر؛ ولهذا كان الذكر متعلقًا بالله؛ لأنه ـ سبحانه ـ هو الحق المعلوم، وكان التفكر في مخلوقاته، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191].
وقد جاء الأثر: (تفكَّروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق)؛ لأن التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة، والمقاييس، وذلك يكون في الأمور المتشابهة، وهي المخلوقات .
وأما الخالق ـ جل جلاله، سبحانه وتعالى ـ فليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد. وبالذكر، وبما أخبر به عن نفسه، يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة، لا تنال بمجرد التفكير والتقدير ـ أعني من العلم به نفسه، فإنه الذي لا تفكير فيه.
فأما العلم بمعاني ما أخبر به، ونحو ذلك، فيدخل فيها التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة؛ ولهذا كان كثير من أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق. وهذا حسن، إذا ضموا إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك، وكثير من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكر والنظر، ويجعلون ذلك هو الطريق إلى معرفة الحق.
والنظر صحيح إذا كان في حق ودليل ـ كما تقدم ـ فكل من الطريقين فيها حق، لكن يحتاج إلى الحق الذي في الأخرى، ويجب تنزيه كل منهما عما دخل فيها من الباطل، وذلك كله باتباع ما جاء به المرسلون، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وبينا طرق أهل العبادة والرياضة والذكر، وطريق أهل الكلام والنظر والاستدلال، وما في كل منهما من مقبول ومردود، وبينا ما جاءت به الرسالة من الطريق الكاملة الجامعة لكل حق، وليس هذا موضع بسط ذلك.
وإنما المقصود هنا أن الإنسان محس بأنه عالم، يجد ذلك ويعرفه بغير واسطة أحد،كما يحس بغير ذلك.
وحصول العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم، فالجسم يحس بالطعام والشراب، وكذلك القلوب تحس بما يتنزل إليها من العلوم التي هي طعامها، وشرابها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن)، وكما قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد:17]، وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
فضرب مثل الهدى والعلم الذي ينزل على القلوب بالماء الذي ينزل على الأرض.
وكما أن لله ملائكة موكلة بالسحاب والمطر، فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم، هذا رزق القلوب وقوتها، وهذا رزق الأجساد وقوتها، قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3، الأنفال:3، الحج:35، القصص:54، السجدة:16، الشورى:38]، قال: إن من أعظم النفقة نفقة العلم، أو نحو هذا الكلام. وفي أثر آخر: نعمت العطية، ونعمت الهدية، الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم. وفي أثر آخر عن أبي الدرداء: ما تصدق عبد بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها إخوانا له مؤمنين، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها. أو ما يشبه هذا الكلام.
وعن كعب بن عُجْرَة قال: ألا أهدي لك هدية؟ فذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل الصدقة أن يتعلم الرجل علمًا، ثم يعلمه أخاه المسلم). وقال معاذ بن جبل: عليكم بالعلم، فإن طلبه عبادة، وتعلمه لله حسنة، وبذله لأهله قربة، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح.
ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شىء، حتى الحيتان في البحر، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، لما في ذلك من عموم النفع لكل شىء. وعكسه كاتمو العلم، فإنهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، قال طائفة من السلف: إذا كتم الناس العلم، فعمل بالمعاصي أحتبس القَطْرُ، فتقول البهائم: اللهم عصاة بني آدم، فإنا منعنا القَطْر بسبب ذنوبهم.
وإذا كان علم الإنسان بكونه عالمًا مرجعه إلى وجوده ذلك، وإحساسه في نفسه بذلك وهذا أمر موجود بالضرورة ،لم يكن لهم أن يخبروا عما في نفوس الناس، بأنه ليس بعلم بغير حجة، فإن عدم وجودهم من نفوسهم ذلك لا يقتضي أن الناس لم يجدوا ذلك، لا سيما إذا كان المخبرون يخبرون عن اليقين الذي في أنفسهم، عمن لا يشكون في علمه وصدقه ومعرفته بما يقول.
وهذا حال أئمة المسلمين وسلف الأمة، وحملة الحجة، فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم الضروري، كما في الحكاية المحفوظة عن [نجم الدين العُكْبَريِّ] لما دخل عليه متكلمان: أحدهما: أبو عبد الله الرازي، والآخر: من متكلمي المعتزلة، وقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين، فقال: نعم، أنا أعلم علم اليقين. فقالا: كيف يمكن ذلك، ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر، فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الآخر دليلاً؟ ـ وأظن الحكاية في تثبيت الإسلام ـ فقال: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين. فقالا: صف لنا علم اليقين، فقال: علم اليقين ـ عندنا ـ واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يقولان: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها؟! ويستحسنان هذا الجواب.
وذلك؛ لأن طريق أهل الكلام تقسيم العلوم إلى ضروري وكسبي، أو بديهي ونظري.
فالنظري الكسبي: لابد أن يرد إلى مقدمات ضرورية أو بديهية، فتلك لا تحتاج إلى دليل، وإلا لزم الدور أو التسلسل.
والعلم الضروري: هو الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه الانفكاك عنه، فالمرجع في كونه ضروريًا إلى أنه يعجز عن دفعه عن نفسه.
فأخبر الشيخ أن علومهم ضرورية، وأنها ترد على النفوس على وجه تعجز عن دفعه، فقالا له: ما الطريق إلى ذلك؟ فقال: تتركان ما أنتما فيه، وتسلكان ما أمركما الله به من الذكر والعبادة. فقال الرازي: أنا مشغول عن هذا. وقال المعتزلي: أنا قد احترق قلبي بالشبهات، وأحب هذه الواردات، فلزم الشيخ مدة، ثم خرج من محل عبادته، وهو يقول: والله يا سيدي، ما الحق إلا فيما يقوله هؤلاء المشبهة ـ يعني: المثبتين للصفات، فإن المعتزلة يسمون الصفاتية مشبهة ـ وذلك أنه علم علمًا ضروريًا لا يمكنه دفعه عن قلبه أن رب العالم لابد أن يتميز عن العالم، وأن يكون بائنًا منه، له صفات تختص به، وأن هذا الرب الذي تصفه الجهمية إنما هو عدم محض.
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن الشيخ العارف أبي جعفر الهمداني -[هو أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله بن أبي الفتح الهمداني، والمالكي، ولد سنة 546هـ، وأقام بالقاهرة مدة ثم توجه إلى دمشق، وروى الكثير، وكان ثقة صالحًا من أهل القرآن، قيل: إنه توفى سنة 636هـ بدمشق.] -لأبي المعالي الجويني، لما أخذ يقول على المنبر: كان الله ولا عرش، فقال: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط:[يا الله] إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، ونزل.
وذلك لأن نفس استوائه على العرش ـ بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ علم بالسمع، الذي جاءت به الرسل، كما أخبر الله به في القرآن والتوراة.
وأما كونه عاليًا على مخلوقاته بائنا منهم، فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية، التي يشترك فيها جميع بني آدم.
وكل من كان بالله أعرف، وله أعبد، ودعاؤه له أكثر، وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل، فالفطرة مكملة بالفطرة المنزلة، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملًا، والشريعة تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به، فهذا هذا، والله أعلم.
فصــل
والحاصل أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلين عنده ـ وإن استلزم ذلك كثرة مخالفة النصوص ـ وهذا موجود في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الإرادية تجد المتكلم قد يطرد قياسه طردًا مستمرًا فيكون في ظاهر الأمر أجود ممن نقضها، وتجد المستن الذي شاركه في ذلك القياس قد يقول ما يناقض ذلك القياس في مواضع، مع استشعار التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة، وهو الأغلب. وربما يخيل بفروق ضعيفة فهو في نقض علته والتفريق بين المتماثلين فيها، يظهر أنه دون الأول في العلم والخبرة وطرد القول، وليس كذلك، بل هو خير من الأول. فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسدًا في أصله؛ لمخالفة النص والقياس الصحيح، فالذي طرده أكثر فسادًا وتناقضًا من هذا الذي نقضه. وهذا شأن كل من وافق غيره على قياس ليس هو في نفس الأمر بحق، وكان أحدهما من النصوص في مواضع ما يخالف ذلك القياس، وهذا يسميه الفقهاء في مواضع كثيرة: الاستحسان. فتجد القائلين بالاستحسان، الذي تركوا فيه القياس لنص خيرًا من الذين طردوا القياس وتركوا النص.
ولهذا يروى عن أبي حنيفة، أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زُفَر، فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرمتم الحلال وحللتم الحرام، فإن زفر كان كثير الطرد، لما يظنه من القياس مع قلة علمه بالنصوص.
وكان أبو يوسف نظره بالعكس، كان أعلم بالحديث منه؛ ولهذا توجد المسائل التي يخالف فيها زفر أصحابه عامتها قياسية، ولا يكون إلا قياسًا ضعيفًا عند التأمل، وتوجد المسائل التي يخالف فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتبعه محمد عليها، عامتها اتبع فيها النصوص والأقيسة الصحيحة؛ لأن أبا يوسف رحل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز، واستفاد من علم السنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورة بالكوفة، وكان يقول: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت؛ لعلمه بأن صاحبه ما كان يقصد إلا اتباع الشريعة، لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه.
وهذا ـ أيضًا ـ حال كثير من الفقهاء ـ بعضهم مع بعض ـ فيما وافقوا عليه من قياس لم تثبت صحته بالأدلة المعتمدة، فإن الموافقة فيه توجب طرده، ثم أهل النصوص قد ينقضونه، والذين لا يعلمون النصوص يطردونه.
وكذلك هذه حال أكثر متكلمة أهل الإثبات مع متكلمة النفاة في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، قد يوافقونهم على قياس فيه نفي، ثم يطرده أولئك فينفون به ما أثبتته النصوص، والمثبتة لا تفعل ذلك، بل لابد من القول بموجب النص، فربما قالوا ببعض معناها، وربما فرقوا بفرق ضعيف.
وأصل ذلك: موافقة أولئك على القياس الضعيف، وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك.
وهكذا تجد هذا حال من أعان ظالمًا في الأفعال، فإن الأفعال لا تقع إلا عن إرادة، فالظالم يطرد إرادته فيصيب من أعانه، أو يصيب ظلمًا لا يختاره هذا، فيريد المعين أن ينقض الطرد، ويخص علته؛ ولهذا يقال: من أعان ظالمًا بُلى به، وهذا عام في جميع الظلمة من أهل الأقوال والأعمال، وأهل البدع والفجور. وكل من خالف الكتاب والسنة: من خبر أو أمر أو عمل، فهو ظالم.
فإن الله أرسل رسله؛ ليقوم الناس بالقسط، ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وقد بين الله ـ سبحانه ـ له من القسط ما لم يبينه لغيره، وأقدره على ما لم يقدر عليه غيره، فصار يفعل ويأمر بما لا يأمر به غيره ويفعله.
وذلك أن بني آدم في كثير من المواضع قد لا يعلمون حقيقة القسط ولا يقدرون على فعله، بل ما كان إليه أقرب وبه أشبه كان أمثل، وهي الطريقة المثلى. وقد بسطنا هذا في مواضع، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .
والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة واليقين والطمأنينة، والجزم الحق والقول الثابت، والقطع بما هم عليه أمر لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين.
وهب أن المخالف لا يسلم ذلك، فلا ريب أنهم يخبرون عن أنفسهم بذلك، ويقولون: إنهم يجدون ذلك، وهو وطائفته يخبرون بضد ذلك، ولا يجدون عندهم إلا الريب. فأي الطائفتين أحق بأن يكون كلامها موصوفًا بالحشو؟ أو يكون أولى بالجهل والضلال، والإفك والمحال؟ وكلام المشائخ والأئمة من أهل السنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظم من أن نطيل به الخطاب.
الوجه الثاني: أنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه[قيصر] لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخْطَة له، بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد، ولهذا قال بعض السلف ـ عمر بن عبد العزيز أو غيره ـ: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.
وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم، رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك ـ رحمه الله ـ يقول: لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته، كما قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1ـ3]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوافق عليه أهل السنة والحديث، ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض لا يقبل بحال.
وبالجملة، فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة، بل المتفلسف أعظم اضطرابًا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل: أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل: ابن سينا وأمثاله.
وأيضا، تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان. وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافًا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب، فالمعتزلة أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضيات، وصفات الأفلاك، من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال.
وقد ذكر من جمع مقالات الأوائل، مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب [الدقائق] من مقالاتهم، بقدر ما يذكره الفارابي، وابن سينا، وأمثالهما أضعافًا مضاعفة.
وأهل الإثبات من المتكلمين ـ مثل الكلابية والكرامية والأشعرية ـ أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضًا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صَنَّف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه، ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 ،119]، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك.
ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء، كانوا أعظم اختلافًا، و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ أيضًا ـ أبعد عن السنة والحديث، كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيما الرافضة، فإنه يقال: إنهم أعظم الطوائف اختلافًا؛ وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم.
وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم، وأهل الكلام وأئمتهم، قفى بذكر أئمة هؤلاء ووصف أقوالهم وأعمالهم، ووصف أئمة هؤلاء، وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم أهل الحق والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحشو والباطل .
وأيضًا، المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات، واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب، ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه.
ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع، والرجل لا يصدر عنه فساد العمل إلا لشيئين؛ إما الحاجة، وإما الجهل، فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فلا يفعله، اللهم إلا من غلب هواه عقله واستولت عليه المعاصي، فذاك لون آخر وضرب ثان.
وأيضاً، فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه، وفي التعميم ما يغني عن التعيين، فأي فريق أحق بالحشو والضلال من هؤلاء؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم، كما يوجد النفاق فيهم كثيرًا.
وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك.
ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، فقد حكى عن الجهم بن صفوان: أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها، كرؤساء العشائر مثل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ودخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك.
أو يقال: هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد الله بن أبي سرح، الذي كان كاتب الوحي، فارتد ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عام الفتح، ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على الإسلام.
فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم، أحسن أحواله: أن يكون مسلمًا، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفًا في أول [مختلف الحديث]، وقد حكى أهل المقالات لبعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو عيسى الوراق والنوبختي وأبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبوعبد الله الشهرستاني، وغيرهم، ممن يذكر مقالات أهل الكلام.
وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام.
ومن العجب، أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل. وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ [النظر والاستدلال] ولفظ [الكلام]، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال.
وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه [أصول الدين]، وهذا اسم عظيم، والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم. فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين. وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر، والاعتبار، والاستدلال.
وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة،كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم، الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول هو الدليل الهادي الخِرِّيت-[الخِرِّيت: الدليل الحاذق]- في هذا الصراط، كما قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:45 ،46]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:53،52]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وقال عبد الله بن مسعود: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: (هذا سبيل الله، وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه). ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} .
وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء الله ـ هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب، وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم ،الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانًا للحديث، فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحًا بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم، إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات، وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك، بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة، تلقيًا لذلك عن متفلسف أو متكلم، فيكون ذلك الاعتقاد صادًا لهم عن سبيل الله، كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها، وتسلك الصراط المستقيم إليه، وتعبده ـ كما فطروا عليه، وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته ـ صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك، حتى تجد خلقًا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه، وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة، وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم، بل يجعلونه تنزيهًا مطلقًا مجملاً.
ومنهم من لا يفهم قول الجهمية. بل يفهم من النفي معنى صحيحًا، ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك، ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك.
مثل أن يفهم من قولهم: ليس في جهة، ولا له مكان، ولا هو في السماء، أنه ليس في جوف السموات، وهذا معنى صحيح، وإيمانه بذلك حق، ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك، بل مرادهم: أنه ما فوق العرش شيء أصلاً، ولا فوق السموات إلا عدم محض، ليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عُرج بالنبي إلى ربه أصلا، هذا مقصودهم.
وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم: هو نفس الموجودات؛ إذ لم تجد قلوبهم موجودًا إلا هذه الموجودات، إذا لم يكن فوقها شيء آخر، وهذا من المعارف الفطرية الشهودية الوجودية: أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو وجود آخر مباين له متميز عنه، لاسيما إذا علموا أن الأفلاك مستديرة وأن الأعلى هو المحيط؛ فإنهم يعلمون أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو موجود فوقه.
فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجود آخر ولا فوق العالم شيء، لزم أن يقولوا: هو هذا الوجود المخلوق، كما قال الاتحادية. وهذه بعينها هي حجة الاتحادية. وهذا بعينه هو مشرب قدماء الجهمية وحدثائهم كما يقولون: هو في كل مكان، وليس هو في مكان. ولايختص بشيء، يجمعون دائمًا بين القولين المتناقضين؛ لأنهم يريدون إثبات موجود، وليس عندهم شيء فوق العالم، فتعين أن يكون هو العالم أو يكون فيه. ثم يريدون إثبات شيء غير المخلوق، فيقولون: ليس هو في العالم كما ليس خارجًا عنه، أو يقولون: هو وجود المخلوقات دون أعيانها، أو يقولون: هو الوجود المطلق فيثبتونه فيما يثبتون؛ إذ كانت قلوبهم متشابهة في النفي والتعطيل، وهو إنكار موجود حقيقي مباين للمخلوقات عالٍ عليها. وإنما يفترقون فيما يثبتونه، ويكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض، فيقولون: هو في العالم، وليس هو فيه، أو هو العالم وليس إياه، أو يغلبون الإثبات فيقولون: بل هو نفس الوجود، أو النفي، فيقولون: ليس في العالم ولا خارجًا عنه، أو يدينون بالإثبات في حال وبالنفي في حال، إذا غلب على أحدهم عقله غلب النفي، وهو أنه ليس في العالم، وإذا غلب عليه الوجْد والعبادة رجح الإثبات وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو، لا تجد جهميًا إلا على أحد هذه الوجوه الأربعة، وإن تنوعوا فيما يثبتونه ـ كما ذكرته لك ـ فهم مشتركون في التعطيل .
وقد رأيت منهم ومن كتبهم، وسمعت منهم وممن يخبر عنهم من ذلك ما شاء الله، وكلهم على هذه الأحوال ضالون عن معبودهم وإلههم وخالقهم. ثم رأيت كلام السلف والأئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك. فمَنَّ الله علينا باتباع سبيل المؤمنين وآمنا بالله وبرسوله، وكل هؤلاء يجد نفسه مضطربة في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه، وإنما يسكن بعض اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده، أو خوفه من مخالفة أصحابه، أو زعمه أن هذا من حكم الوهم والخيال دون العقل.
وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم ولا هو العالم، الذي ترده فطرهم وشهودهم وعقولهم، غير ما في الفطرة من الإقرار بصانع فوق العالم، فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف، وذاك إنكار الفطرة بالباطل المنكر.
ومن هذا الباب: ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة: أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرة، والأستاذ أبو المعالي يذكر على المنبر: كان الله ولا عرش، ونفى الاستواء ـ على ما عرف من قوله، وإن كان في آخر عمره رجع عن هذه العقيدة، ومات على دين أمه وعجائز نيسابور ـ قال: فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، أو كما قال، ونزل.
فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم، فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه، إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء، فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله ـ تعالى ـ فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟!
والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟) قالت: في السماء. قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ،جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله ـ تعالى ـ عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان.
فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشدقون ممن سول لهم الشيطان وأملى لهم.
ومن أمثلة ذلك: أن الذين لبسوا الكلام بالفلسفة ـ من أكابر المتكلمين ـ تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة، ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين، وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم، مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه [أبوعبد الله الرازي]، الذي احتذى فيه حذو ابن سينا، و[عين القضاة الهمداني]، فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة، وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين، لا في الأحاديث الصحيحة ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السؤال والطرقية، أو بعض شياطين الوعاظ أو بعض الزنادقة.
ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج ـ الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم، ولا يوجد في أثارة من علم ـ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين، وعلمائهم، حتى إن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك، حتى أروه النسخة بخط بعض المشائخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه:[المطالب العالية]، وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين.
وتجد أبا حامد الغزالي ـ مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب[الأربعين] ونحوه، كتابه:[المضنون به على غير أهله]، فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد ومقالات أهل الملل، يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي.
فإن أبا حامد كثيرًا ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع.
وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب وآتاه الله إيمانًا مجملاً ـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوف إلى تفصيل الجملة، فيجد في كلام المشائخ والصوفية ما هو أقرب إلى الحق، وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين، والأمر كما وجده، لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي عنـد خاصة الأمة من العلوم والأحوال، وما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة، حتى نالوا من المكاشفات العلمية والمعاملات العبادية ما لم ينله أولئك.
فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق، حيث لم يكن عنده طريق غيرها، لانسداد الطريقة الخاصة السنية النبوية عنه بما كان عنده من قلة العلم بها، ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين، حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة.
ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل ولطريقة العلم، وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، وإنما هو عقائد فلسفية وكلامية، كما قال السلف: العلم بالكلام هو الجهل، وكما قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.
ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه، حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام ـ فيما علقه عنه ـ ينكر أن يكون [بداية الهداية] من تصنيفه، ويقول: إنما هو تقول عليه، مع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين.
وأما المضنون به على غير أهله، فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضًا، ولكن كان هو وأمثاله ـ كما قدمت ـ مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن ـ كما قدمناه ـ وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.
ولهذا كان الشيخ أبو عمرو بن الصلاح -[هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، ولد سنة 577هـ، صنف في علوم الحديث، وتوفي في سنة 643هـ بدمشق.]- يقول ـ فيما رأيته بخطه ـ: أبو حامد كثر القول فيه ومنه.
فأما هذه الكتب ـ يعني المخالفة للحق ـ فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله .
ومقصوده أنه لا يذكر بسوء؛ لأن عفو الله عن الناسى والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن، وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية.
ولهذا، فقد رد عليه علماء المسلمين ،حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر.
وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه. ورد عليه أبو عبد الله المازري في كتاب أفرده، ورد عليه أبو بكر الطرطوشي، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقه، رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه، ورد عليه الشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما ،ورد عليه ابن عقيل، وابن الجوزي ،وأبو محمد المقدسي وغيرهم.
وهذا باب واسع، فإن الخارجين عن طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق: طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التخييل.
فأهل التخييل: هم الفلاسفة والباطنية، الذين يقولون: إنه خيل أشياء، لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل.
وطريقة التأويل: طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو ـ وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده ـ فكان مقصوده: أن هذا يكون سببًا للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافق قولهم؛ ليثابوا على ذلك، فلم يكن قصده لهم البيان والهداية، والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلوا حالهم في العلم مع عدمه خيرًا من حالهم مع وجوده.
وأولئك المتقدمون، كابن سينا وأمثاله، ينكرون على هؤلاء، ويقولون: ألفاظه كثيرة، صريحة لا تقبل التأويل، لكن كان قصده التخييل، وأن يعتقد الناس الأمر على خلاف ما هو عليه.
وأما الصنف الثالث: الذين يقولون: إنهم أتباع السلف، فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم: أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه، والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال، ومما يعتمدون عليه من ذلك ما فهموه من قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران:7]، ويظنون أن التأويل هو المعنى الذي يسمونه هم تأويلا، وهو مخالف للظاهر.
ثم هؤلاء قد يقولون: تجري النصوص على ظاهرها، وتأويلها لا يعلمه إلا الله، ويريدون بالتأويل ما يخالف الظاهر، وهذا تناقض منهم. وطائفة يريدون بالظاهر ألفاظ النصوص فقط، والطائفتان غالطتان في فهم الآية.
وذلك أن لفظ [التأويل] قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات، له ثلاثة معان:
أحدها: أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره. وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]، ومنه قول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم اغفر لي)، يتأوَّلُ القرآن .
والثاني: يراد بلفظ التأويل :التفسير، وهو اصطلاح كثير من المفسرين، ولهذا قال مجاهد ـ إمام أهل التفسير: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه، وهذا مما يعلمه الراسخون.
والثالث: أن يراد بلفظ [التأويل]: صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك؛ لدليل منفصل يوجب ذلك. وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفًا لما يدل عليه اللفظ ويبينه. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وظن هؤلاء أن قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران:7]، يراد به هذا المعنى، ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين: قوم يقولون: إنه لا يعلمه إلا الله. وقوم يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمونه، وكلتا الطائفتين مخطئة.
فإن هذا التأويل في كثير من المواضع ـ أو أكثرها وعامتها ـ من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشُّهُب.
وقد صنف الإمام أحمد كتابًا في الرد على هؤلاء، وسماه: [الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله] فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير ما هو معناه، ولم يقل أحمد ولا أحد من الأئمة: إن الرسول لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها، ولا قالوا: إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه.
كيف وقد أمر الله بتدبر كتابه، فقال تعالى :{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، ولم يقل: بعض آياته؟ وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82، محمد:24]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، وأمثال ذلك في النصوص التي تبين أن الله يحب أن يتدبر الناس القرآن كله، وأنه جعله نورًا وهدى لعباده، ومحال أن يكون ذلك مما لا يفهم معناه، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود ـ أنهم قالوا: كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم نجاوزها، حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من يقول في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملاحدة، فكيف يكون قوله في السلف؟ حتى يدعي اتباعه، وهو مخالف للرسول والسلف عند نفسه وعند طائفته، فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسول يرى عدم إظهاره، لما فيه من فساد الناس. وأما عند أهل العلم والإيمان فلا.
وقول النفاة باطل باطنًا وظاهرًا، والرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعوه منزهون عن ذلك، بل مات صلى الله عليه وسلم وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأخبرنا أن كل ما حدث بعده من محدثات الأمور فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة .
وربما أنشد بعض أهل الكلام بيت مجنون بني عامر:
وكل يدعي وصلا لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا
فمن قال: من الشعر ما هو حكمة، أو تمثل ببيت من الشعر فيما تبين له أنه حق، كان قريبًا. أما إثبات الدعوى بمجرد كلام منظوم من شعر أو غيره، فيقال لصاحبه: ينبغي أن تبين أن السلف لا يقرون بمن انتحلتهم. وهذا ظاهر فيما ذكره هو وغيره، ممن يقولون عن السلف ما لم يقولوه، ولم ينقله عنهم أحد له معرفة بحالهم، وعدل فيما نقل، فإن الناقل لابد أن يكون عالمًا عدلاً.
فإن فرض أن أحدًا نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف، كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلاً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلمًا وأحاديثهما، إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث، وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب.
وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة.
هذا أبو الحسن الأشعري، نشأ في الاعتزال أربعين عامًا يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الرد عليهم.
وهذا أبو حامد الغزالي ـ مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ـ ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف [إلجام العوام عن علم الكلام].
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وكان يتمثل كثيرًا:
نهاية إقـــــدام العقــول عقـــال ** وأكـثر سعي العالمين ضـــلال
وأرواحنــا فـي وحشة مـن جسومــنا ** وحاصـل دنيـانا أذى ووبـــال
ولـم نستفد مــن بحثنا طول عمـرنــا ** سوى أن جمـعنا فيـه قيـل وقالـوا
وهذا إمام الحرمين، ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف. وكان يقول: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام ! فلو أنى عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه. والآن: إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنذا أموت على عقيدة أمي ـ أو قال: عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني [-هو شيخ أهل الكلام والحكمة، برع في الفقه، وكان قوي الفهم، مليح الوعظ، صنف كتاب، نهاية الإقدام و كتاب الملل والنحل، وتوفي سنة 645-]: أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلـها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائــر ** على ذقن، أو قارعـًا سن نادم
وابن الفارض ـ من متأخري الاتحادية، صاحب القصيدة التائية المعروفة بـ [نظم السلوك]، وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب. وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك! الله أعلم بها وبما اشتملت عليه وقد نفقت كثيرًا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد ـ لما حضرته الوفاة أنشد:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمــنًا ** واليوم أحسبها أضغاث أحـلام
ولقد كان من أصول الإيمان: أن يثبت الله العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:24ـ27].
والكلمة أصل العقيدة؛ فإن الاعتقاد هو الكلمة التي يعتقدها المرء، وأطيب الكلام والعقائد كلمة التوحيد واعتقاد أن لا إله إلا الله، وأخبث الكلام والعقائد كلمة الشرك، وهو اتخاذ إله مع الله، فإن ذلك باطل لا حقيقة له؛ ولهذا قال سبحانه:{مّا لّهّا مٌن قّرّارُ}؛ ولهذا كان كلما بحث الباحث وعمل العامل على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة لا يزداد إلا ضلالاً وبعدًا عن الحق وعلمًا ببطلانها، كما قال تعالى :{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:39، 40].
فذكر ـ سبحانه ـ مثلين :
أحدهما: مثل الكفر والجهل المركب الذي يحسبه صاحبه موجودًا، وفي الواقع يكون خيالاً معدومًا كالسراب، وأن القلب عطشان إلى الحق كعطش الجسد إلى الماء. فإذا طلب ما ظنه ماءًا وجده سرابًا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وهكذا تجد عامة هؤلاء الخارجين عن السنة والجماعة.
والمثل الثاني: مثل الكفر والجهل البسيط الذي لا يتبين فيه صاحبه حقًا ولا يرى فيه هدى، والكفر المركب مستلزم للبسيط، وكل كفر فلابد فيه من جهل مركب.
فضرب الله ـ سبحانه ـ المثلين بذلك ليبين حال الاعتقاد الفاسد، ويبين حال عدم معرفة الحق ـ وهو يشبه حال المغضوب عليهم والضالين ـ حال المصمم على الباطل حتى يحل به العذاب، وحال الضال الذي لا يرى طريق الهدى.
فنسأل الله العظيم أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يرزقنا الاعتصام بالكتاب والسنة.
ومن أمثلة ما ينسبه كثير من أتباع المشائخ والصوفية إلى المشائخ الصادقين من الكذب والمحال، أو يكون من كلامهم المتشابه الذي تأولوه على غير تأويله، أو يكون من غلطات بعض الشيوخ وزلاتهم، أو من ذنوب بعضهم وخطئهم مثل: كثير من البدع والفجور الذي يفعله بعضهم بتأويل سائغ أو بوجه غير سائغ، فيعفى عنه أو يتوب منه أو يكون له حسنات يغفر له بها، أو مصائب يكفر عنه بها، أو يكون من كلام المتشبهين بأولياء الله من ذوي الزهادات والعبادات والمقامات، وليس هو من أولياء الله المتقين، بل من الجاهلين الظالمين المعتدين، أو المنافقين أو الكافرين.
وهذا كثير ملأ العالم، تجد كل قوم يدعون من الاختصاص بالأسرار والحقائق ما لا يدعى المرسلون، وأن ذلك عند خواصهم، وأن ذلك لا ينبغي أن يقابل إلا بالتسليم، ويحتجون لذلك بأحاديث موضوعة، وتفسيرات باطلة. مثل قولهم عن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث هو وأبو بكر بحديث، وكنت كالزنجي بينهما،فيجعلون عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه كالزنجي. وهو حاضر يسمع الكلام، ثم يدعي أحدهم أنه علم ذلك بما قذف في قلبه، ويدعي كل منهم أن ذلك هو ما يقوله من الزور والباطل، ولو ذكرت ما في هذا الباب من أصناف الدعاوي الباطلة لطال.
فمنهم من يجعل للشيخ قصائد يسميها [جنيب القرآن]، ويكون وجده بها وفرحه بمضمونها أعظم من القرآن، و يكون فيها من الكذب والضلال أمور.
ومنهم من يجعل له قصائد في الاتحاد، وأنه خالق جميع الخلق، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه يسجد له ويعبد.
ومنهم من يصف ربه في قصائده بما نقل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم، التي هي كذب مفترى وكفر صريح مثل: مواكلته ومشاربته، ومماشاته ومعانقته، ونزوله إلى الأرض وقعوده في بعض رياض الأرض، ونحو ذلك، ويجعل كل منهم ذلك من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة التي تكون لخواص أولياء الله المتقين.
ومن أمثلة ذلك: أنك تجد عند الرافضة والمتشيعة، ومن أخذ عنهم مِنْ دعوى علوم الأسرار، والحقائق، التي يدعون أخذها عن أهل البيت، إما من العلوم الدينية، وإما من علم الحوادث الكائنة، ما هو عندهم من أجل الأمور التي يجب التواصي بكتمانها، والإيمان بما لا يعلم حقيقته من ذلك، وجميعها كذب مختلق وإفك مفترى.
فإن هذه الطائفة [الرافضة] من أكثر الطوائف كذبًا وادعاء للعلم المكتوم؛ ولهذا انتسبت إليهم الباطنية والقرامطة.
وهؤلاء خرج أولهم في زمن أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وصاروا يدعون أنه خص بأسرار من العلوم والوصية، حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه، فيخبرهم بانتفاء ذلك، ولما بلغه أن ذلك قد قيل، كان يخطب الناس وينفي ذلك عن نفسه.
وقد خرَّجَ أصحاب الصحيح كلام عليٍّ هذا من غير وجه، مثل ما في الصحيح عن أبي جُحَيْفَة قال: سألت عليا: هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: (لا، والذي فلق الحبة وبَرَأ النَّسَمَة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطيه الله الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة. قلت:وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر. ولفظ البخارى: هل عندكم شيء من الوحي غير ما في كتاب الله ؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن).
وفـي الصحيحـين عن إبراهيم التيمي عن أبيه ـ وهذا من أصح إسناد على وجه الأرض ـ عن علي قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور)، وفي رواية لمسلم: خطبنا على بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا كتابًا نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ـ قال: وصحيفته معلقة في قراب سيفه ـ فقد كذب، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام) الحديث.
وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق، فمن أكبر الأشياء كذبًا حتى يقال: ما كذب على أحد ما كذب على جعفر ـ رضي الله عنه.
ومن هذه الأمور المضافة: كتاب [الجَفْر]، الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث. والجفر: ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده، وكذلك كتاب [البطاقة] الذي يدعيه ابن الحِلِّيّ ونحوه من المغاربة، ومثل كتاب: [الجدول] في الهلال، و[الهفت] عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره.
ومثل كتاب [رسائل إخوان الصفا] الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية وأتوا بكلام المتفلسفة، وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير، ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلام جعفر الصادق. وهذا قول زنديق وتشنيع جاهل.
ومثل ما يذكره بعض العامة من ملاحم [ابن غنضب]، ويزعمون أنه كان معلمًا للحسن والحسين. وهذا شيء لم يكن في الوجود باتفاق أهل العلم، وملاحم [ابن غنضب] إنما صنفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها، وهو شعر فاسد يدل على أن ناظمه جاهل.
وكذلك عامة هذه الملاحم المروية بالنظم ونحوه، عامتها من الأكاذيب، وقد أحدث في زماننا من القضاة والمشائخ غير واحدة منها، وقد قررت بعض هؤلاء على ذلك، بعد أن ادعى قدمها، وقلت له: بل أنت صنفتها، ولبستها على بعض ملوك المسلمين لما كان المسلمون محاصرين عَكَّة، وكذلك غيره من القضاة وغيرهم لبسوا على غير هذا الملك.
وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في الأمور الدينية؛ لأن تشوف الذين يغلبون الدنيا على الدين إلى ذلك أكثر وإن كان لأهل الدين إلى ذلك تشوف، لكن تشوفهم إلى الدين أقوى وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق والباطل من النور ما لأهل الدين.فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير، وأكلت به أموال عظيمة بالباطل، وقتلت به نفوس كثيرة من المتشوفة إلى الملك ونحوها.
ولهذا ينوِّعون طرق الكذب في ذلك ويتعمدون الكذب فيه، تارة بالإحالة على الحركات والأشكال الجسمانية الإلهية من حركات الأفلاك والكواكب، والشهب والرعود، والبروق والرياح، وغير ذلك، وتارة بما يحدثونه هم من الحركات والأشكال، كالضرب بالرمل والحصى والشعير، والقرعة باليد ونحو ذلك، مما هو من جنس الاستقسام بالأزلام، فإنهم يطلبون علم الحوادث بما يفعلونه من هذا الاستقسام بها، سواء كانت قداحًا أو حصًى، أو غير ذلك مما ذكره أهل العلم بالتفسير.
فكل ما يحدثه الإنسان بحركة من تغيير شيء من الأجسام؛ ليستخرج به علم ما يستقبله فهو من هذا الجنس، بخلاف الفأل الشرعي، وهو الذي كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يخرج متوكلاً على الله فيسمع الكلمة الطيبة: (وكان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة) لأن الفأل تقوية لما فعله بإذن الله والتوكل عليه، والطيرة معارضة لذلك، فيكره للإنسان أن يتطير، وإنما تضر الطيرة من تطير؛ لأنه أضر نفسه، فأما المتوكل على الله فلا.
وليس المقصود ذكر هذه الأمور وسبب إصابتها تارة وخطئها تارات. وإنما الغرض أنهم يتعمدون فيها كذبًا كثيرًا، من غير أن تكون قد دلت على ذلك دلالة، كما يتعمد خلق كثير الكذب في الرؤيا، التي منها الرؤيا الصالحة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وكما كانت الجن تخلط بالكلمة تسمعها من السماء مائة كذبة، ثم تلقيها إلى الكهان.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان. قال: (فلا تأتهم). قال: قلت: ومنا رجال يتطيرون. قال: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدهم). قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال: ( كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك).
فإذا كان ما هو من أجزاء النبوة ومن أخبار الملائكة ما قد يتعمد فيه الكذب الكثير، فكيف بما هو في نفسه مضطرب لا يستقر على أصل؟ فلهذا تجد عامة من في دينه فساد يدخل في الأكاذيب الكونية، مثل أهل الاتحاد، فإن ابن عربي ـ في كتاب [عنقاء مغرب] وغيره ـ أخبر بمستقبلات كثيرة، عامتها كذب، وكذلك ابن سبعين، وكذلك الذين استخرجوا مدة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود، ومن حركات الكواكب الذي ورثوه من الصابئة، كما فعل أبو نصر الكندي، وغيره من الفلاسفة، وكما فعل بعض من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب الرازي، ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع.
وقد رأيت من أتباع هؤلاء طوائف يدعون أن هذه الأمور من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة، وخاطبت في ذلك طوائف منهم، وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى، وأنه لا يجري من هذه الأمور شيء، وطلبت مباهلة بعضهم؛ لأن ذلك كان متعلقًا بأصول الدين، وكانوا من الاتحادية الذين يطول وصف دعاويهم.
فإن شيخهم الذي هو عارف وقته وزاهده عندهم، كانوا يزعمون أنه هو المسيح الذي ينزل، وأن معنى ذلك نزول روحانية عيسى ـ عليه السلام ـ وأن أمه اسمها مريم، وأنه يقوم بجمع الملل الثلاث، وأنه يظهر مظهرًا أكمل من مظهر محمد وغيره من المرسلين. ولهم مقالات من أعظم المنكرات يطول ذكرها ووصفها.
ثم إن من عجيب الأمر، أن هؤلاء المتكلمين المدعين لحقائق الأمور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج كل منهم بما يقع له من حديث موضوع، أو مجمل لا يفهم معناه، وكلما وجد أثرًا فيه إجمال نزله على رأيه، فيحتج بعضهم بالمكذوب، مثل المكذوب المنسوب إلى عمر: كنت كالزنجي، ومثل ما يروونه من [سر المعراج]، وما يروونه من أن أهل الصُّفَّة -[أهل الصُّفَّة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يسكنونه.-] سمعوا المناجاة من حيث لا يشعر الرسول، فلما نزل الرسول أخبروه، فقال: (من أين سمعتم؟) فقالوا: كنا نسمع الخطاب.
حتى إني لما بينت لطائفة ـ تمشيخوا وصاروا قدوة للناس ـ أن هذا كذب ما خلقه الله قط. قلت: ويبين لك ذلك أن المعراج كان بمكة بنص القرآن وبإجماع المسلمين، والصُّفَّة إنما كانت بالمدينة، فمن أين كان بمكة أهل صُفَّة؟
وكذلك احتجاجهم بأن أهل الصُفَّة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع المشركين لما انتصروا، وزعموا أنهم مع الله؛ ليحتجوا بذلك على متابعة الواقع، سواء كان طاعة لله أو معصية؛ وليجعلوا حكم دينه هو ما كان، كما قال الذين أشركوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: من الآية148] [الأنعام :148]، وأمثال هذه الموضوعات كثيرة.
وأما المجملات، فمثل احتجاجهم بنهي بعض الصحابة عن ذكر بعض خفي العلم، كقول على ـ رضي الله عنه ـ: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله ؟ وقول عبد الله بن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وقول عبد الله بن عباس في تفسير الآيات: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت، وكفرك بها تكذيبك بها.
وهذه الآثار حق، لكن ينزل كل منهم ذاك الذي لم يحدث به على ما يدعيه هو من الأسرار والحقائق، التي إذا كشفت وجدت من الباطل والكفر والنفاق، حتى إن أبا حامد الغزالي في [منهاج القاصدين] وغيره، هو وأمثاله تمثل بما يروى عن علي بن الحسين أنه قال:
فإذا كانت هذه طرق هؤلاء الذين يدعون من التحقيق وعلوم الأسرار ما خرجوا به عن السنة والجماعة، وزعموا أن تلك العلوم الدينية أو الكونية مختصة بهم، فآمنوا بمجملها ومتشابهها، وأنهم منحوا من حقائق العبادات وخالص الديانات ما لم يمنح الصدر الأول حفاظ الإسلام وبدور الملة، ولم يتجرؤوا عليها برد وتكذيب ـ مع ظهور الباطل فيها تارة، وخفائه أخرى ـ فمن المعلوم أن العقل والدين يقتضيان أن جانب النبوة والرسالة أحق بكل تحقيق وعلم ومعرفة، وإحاطة بأسرار الأمور وبواطنها.
هذا لا ينازع فيه مؤمن، ونحن الآن في مخاطبة من في قلبه إيمان.
وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول، وأعلمهم بأقواله، وأفعاله، وحركاته، وسكناته، ومدخله، ومخرجه، وباطنه، وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثًا عن ذلك وعن نقلته، وأعظمهم تدينا به واتباعًا له واقتداء به، وهؤلاء هم أهل السنة والحديث؛ حفظاً له، ومعرفة بصحيحه وسقيمه، وفقها فيه وفهما يؤتيه الله إياه في معانيه، وإيمانًا وتصديقًا، وطاعة وانقياداً واقتداء واتباعًا، مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم وتمييزهم، وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم، فإنهم أسَدُّ الناس نظرًا وقياسًا ورأيًا، وأصدق الناس رؤيا وكشفًا .
أفلا يعلم من له أدنى عقل ودين، أن هؤلاء أحق بالصدق والعلم والإيمان والتحقيق ممن يخالفهم؟ وأن عندهم من العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع؟ وأن الذي عندهم هو الحق المبين؟ وأن الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي معه من الحشو ما معه، ومن الضلال كذلك؟ وهذا باب يطول شرحه، فإن النفوس لها من الأقوال والأفعال ما لا يحصره إلا ذو الجلال.
والأقوال إخبارات، وإنشاءات؛ كالأمر، والنهي، فأحسن الحديث وأصدقه كتاب الله، خبره أصدق الخبر، وبيانه أوضح البيان، وأمره أحكم الأمر: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]، وكل من اتبع كلامًا أو حديثًا ـ مما يقال: إنه يلهمه صاحبه، ويوحى إليه، أو إنه ينشئه ويحدثه مما يعارض به القرآن ـ فهو من أعظم الظالمين ظلمًا.
ولهذا لما ذكر الله ـ سبحانه ـ قول الذين ما قدروا الله حق قدره، حيث أنكروا الإنزال على البشر، ذكر المتشبهين به المدعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة، فإن المماثل له إما أن يقول: إن الله أوحى إلى، أو يقول: أوحي إلى، وألقى إلى، وقيل لي، ولا يسمى القائل أو يضيف ذلك إلى نفسه، ويذكر أنه هو المنشئ له.
ووجه الحصر: أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره، وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول الله، أو من قول نفسه. فإنه إذا جعله من كلام الشياطين لم يقبل منه، وما جعله من كلام الملائكة فهو داخل فيما يضيفه إلى الله، وفيما حذف فاعله، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} [الأنعام:93]
وتدبر كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيًا من الله ولم يسم الموحي، فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس الإنباء، وجعل الآخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله؛ ولهذا قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} {الأنعام: من الآية144}، ثم قال: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ}، فالمفترى للكذب والقائل:{أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} من جملة الاسم الأول، وقد قرن به الاسم الآخر، فهؤلاء الثلاثة المدعون لشبه النبوة. وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة. فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم، كمسيلمة الكذاب وأمثاله.
وهذه هي أصول البدع التي نردها نحن في هذا المقام؛ لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيرًا له، من رأى أو كشف أو نحو ذلك.
فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية،هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه، وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقيق، وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال، المنكرون عليهم، المكذبون لله ورسوله.
فإنَّ نَبْزَهُم [النَّبْز: اللَّقَب] بالحشوية: إن كان لأنهم يروون الأحاديث بلا تمييز، فالمخالفون لهم أعظم الناس قولاً لحشو الآراء والكلام الذي لا تعرف صحته، بل يعلم بطلانه، وإن كان لأن فيهم عامة لا يميزون، فما من فرقة من تلك الفرق إلا ومن أتباعها من أجهل الخلق وأكفرهم، وعوام هؤلاء هم عُمَّار المساجد بالصلوات، وأهل الذكر والدعوات، وحجاج البيت العتيق، والمجاهدون في سبيل الله، وأهل الصدق والأمانة، وكل خير في العالم. فقد تبين لك أنهم أحق بوجوه الذم، وأن هؤلاء أبعد عنها، وأن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم، فيما اختصهم الله به من الوراثة النبوية التي لا توجد إلا عندهم.
وأيضًا، فينبغي النظر في الموسومين بهذا الاسم وفي الواسمين لهم به: أيهما أحق؟ وقد علم أن هذا الاسم مما اشتهر عن النفاة ممن هم مظنة الزندقة، كما ذكر العلماء ـ كأبي حاتم وغيره ـ أن علامة الزنادقة تسميتهم لأهل الحديث حشوية.
ونحن نتكلم بالأسماء التي لا نزاع فيها، مثل: لفظ [الإثبات، والنفي] فنقول:
من المعلوم أن هذا من تلقيب بعض الناس لأهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره، فكل من كان عنه أبعد كان أعظم ذمًا بذلك؛ كالقرامطة، ثم الفلاسفة، ثم المعتزلة، وهم يذمون بذلك المتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية، والأشعرية، والفقهاء، والصوفية وغيرهم، فكل من اتبع النصوص وأقرها سموه بذلك، ومن قال بالصفات العقلية مثل: العلم والقدرة، دون الخبرية، ونحو ذلك، سمى مثبتة الصفات الخبرية حشوية، كما يفعل أبو المعالي الجويني، وأبو حامد الغزالي ونحوهما.
ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمد يتبعه في فقهه وكلامه، لكن أبو محمد كان أعلم بالحديث وأتبع له من أبي المعالي وبمذاهب الفقهاء. وأبو المعالي أكثر اتباعًا للكلام، وهما في العربية متقاربان.
وهؤلاء يعيبون منازعهم، إما لجمعه حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتباع الحديث في مسائل الأصول من مذهب الحشو؛ لأنها مسائل علمية، والحديث لا يفيد ذلك، لأن اتباع النصوص مطلقًا في المباحث الأصولية الكلامية حشو؛ لأن النصوص لا تفي بذلك؛ فالأمر راجع إلى أحد أمرين: إما ريب في الإسناد أو في المتن، إما لأنهم يضيفون إلى الرسول ما لم يعلم أنه قاله؛ كأخبار الآحاد، ويجعلون مقتضاها العلم، وإما لأنهم يجعلون ما فهموه من اللفظ معلومًا وليس هو بمعلوم، لما في الأدلة اللفظية من الاحتمال.
ولا ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق، يبطل العلم بما بعث الله به رسوله، تارة يقول: لا نعلم أنهم قالوا ذلك، وتارة يقول: لا نعلم ما أرادوا بهذا القول. ومتى انتفى العلم بقولهم أو بمعناه، لم يستفد من جهتهم علم، فيتمكن بعد ذلك أن يقول ما يقول من المقالات، وقد أمن على نفسه أن يعارض بآثار الأنبياء؛ لأنه قد وكل ثغرها بذينك الدامحين الدافعين لجنود الرسول عنه، الطاعنين لمن احتج بها.
وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة، وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم إقرار من لا يتلقى من جهتهم علمًا، فيكون الرسول عنده بمنزلة خليفة يعطي السِّكَّة [السِّكَّة: حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم] والخطبة رسمًا ولفظًا، كتابة وقولاً، من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع. فله صورة الإمامة بما جعل له من السكة والخطبة، وليس له حقيقتها.
وهذا القدر ـ وإن استجازه كثير من الملوك ـ لعجز بعض الخلفاء عن القيام بواجبات الإمارة من الجهاد والسياسة، كما يفعل ذلك كثير من نواب الولاة لضعف مستنيبه وعجزه فيتركب من تقدم ذي المنصب والبيت وقوة نائبه صلاح الأمر، أو فعل ذلك لهوى ورغبة في الرئاسة ولطائفته، دون من هو أحق بذلك منه، وسلك مسلك المتغلبين بالعدوان ـ فمن المعلوم أن المؤمن بالله ورسوله لا يستجيز أن يقول في الرسالة: إنها عاجزة عن تحقيق العلم وبيانه، حتى يكون الإقرار بها مع تحقيق العلم الإلهي من غيرها موجبًا لصلاح الدين، ولا يستجيز أن يتعدى عليها بالتقدم بين يدي الله ورسوله، ويقدم علمه وقوله على علم الرسول وقوله، ولا يستجيز أن يسلط عليها التأويلات العقلية، ويدعى أن ذلك من كمال الدين، وأن الدين لا يكون كاملاً إلا بذلك.
وأحسن أحواله: أن يدعي أن الرسول كان عالمًا بأن ما أخبر به له تأويلات وتبيان، غير ما يدل عليه ظاهر قوله ومفهومه، وأنه ما ترك ذلك إلا لأنه ما كان يمكنه البيان بين أولئك الأعراب ونحوهم، وأنه وكل ذلك إلى عقول المتأخرين، وهذا هو الواقع منهم.
فإن المتفلسفة تقول: إن الرسل لم يتمكنوا من بيان الحقائق لأن إظهارها يفسد الناس، ولا تحتمل عقولهم ذلك، ثم قد يقولون: إنهم عرفوها. وقد يقول بعضهم: لم يعرفوها، أو أنا أعرف بها منهم، ثم يبينونها هم بالطرق القياسية الموجودة عندهم. ولم يعقلوا أنه إن كان العلم بها ممكنا فهو ممكن لهم، كما يدعون أنه ممكن لهم، وإلا فلا سبيل لهم إلى معرفتها بإقرارهم، وكذلك التعبير وبيان العلم بالخطاب والكتاب إن لم يكن ممكنًا فلا يمكنكم ذلك وأنتم تتكلمون وتكتبون علمكم في الكتب. وإن كان ذلك ممكنًا فلا يصح قولكم: لم يمكن الرسل ذلك.
وإن قلتم: يمكن الخطاب بها مع خاصة الناس دون عامتهم ـ وهذا قـولهم ـ فمن المعلوم أن علم الرسل يكون عند خاصتهم كما يكون علمكم عند خاصتكم. ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به. ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول، وعلم خاصته مثل: الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل: أبي بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولي أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول، وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك.
فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم، وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم: علم خاصة الرسول وبطانته، كما أن خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وخواص القرامطة والباطنية يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمة الإسلام مثل أئمة العلماء. فإن خاصة كل إمام أعلم بباطن أموره، مثل: مالك بن أنس، فإن ابن القاسم لما كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أمره اعتمد أتباعه على روايته، حتى إنه تؤخذ عنه مسائل السر التي رواها ابن أبي الغَمْر، وإن طعن بعض الناس فيها، وكذلك أبو حنيفة، فأبو يوسف، ومحمد ، وزُفَر أعلم الناس به، وكذلك غيرهما.
وقد يكتب العالم كتابًا أو يقول قولاً، فيكون بعض من لم يشافهه به أعلم بمقصوده من بعض من شافهه به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فرُبَّ مُبَلَّغ أوْعَى من سامِع)، لكن بكل حال لابد أن يكون المبلغ من الخاصة العالمين بحال المبلغ عنه، كما يكون في أتباع الأئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم.
ومن المستقر في أذهان المسلمين: أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقًا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثير، فزكت في نفسها وزكى الناس بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم :{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45]، فالأيدي: القوةُ في أمر الله، والأبصار: البصائرُ في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجَّرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهماً خاصًا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقد سئل: هل خصكم رسول اللهصلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبَرَأ النَّسَمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة. وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص، فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ورووها كل بحسبه:}قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}.
وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نَضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوَعَاها، ثم أداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وهذا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حبر الأمة، وترجمان القرآن، مقدار ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثًا الذي /يقول فيه: سمعت ورأيت، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك له في فهمه والاستنباط منه، حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا، قال أبو محمد ابن حزم: وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار، وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمعوا ما سمع، وحفظوا القرآن كما حفظه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم، و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
وأين تقع فتاوى ابن عباس، وتفسيره، واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويَدْرُسُه بالليل دَرْسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه، والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها.
وهكذا ورثتهم من بعدهم، اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص، لا على خيال فلسفي، ولا رأي قياسي، ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات، لا جرم كانت الدائرة والثناء الصدق، والجزاء العاجل والآجل لورثة الأنبياء التابعين لهم في الدنيا والآخرة؛ فإن المرء على دين خليله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]
/ وبكل حال، فهم أعلم الأمة بحديث الرسول، وسيرته ومقاصده وأحواله.
ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه، أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا، واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن.
وأدنى خصلة في هؤلاء محبةُ القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما. ففقهاء الحديث أخْبَرُ بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم.
ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام، المعتقدين لمضمونهما، هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه من هؤلاء. هذا أمر محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى الله عليه وسلم وأحواله، وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيرًا من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه.
وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم، سواء كان موضوعًا أو غير موضوع، فيعدلون إلى أحاديث يعلم خاصة الرسول بالضرورة اليقينية أنها مكذبة عليه، عن أحاديث يعلم خاصته بالضرورة اليقينية أنها قوله، وهم / لا يعلمون مراده، بل غالب هؤلاء لا يعلمون معاني القرآن، فضلاً عن الحديث، بل كثير منهم لا يحفظون القرآن أصلا. فمن لا يحفظ القرآن، ولا يعرف معانيه، و لا يعرف الحديث ولا معانيه، من أين يكون عارفًا بالحقائق المأخوذة عن الرسول؟!
وإذا تدبر العاقل، وجد الطوائف كلها، كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية، فقال: لا نسلم صحة الحديث ! وربما قال: لقوله عليه السلام كذا، وتكون آية من كتاب الله. وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر.
وحدثني ثقة: أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين، رجلٌ يسمى [شمس الدين الأصبهاني] شيخ الأيكي، فأعطوه جزءًا من الربعة فقرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْمَصْ ) حتى قيل له: ألف لام ميم صاد.
فتأمل هذه الحكومة العادلة! ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث، ويعدلون عن مذهبهم، جهلة زنادقة منافقون بلا ريب؛ ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن [ابن أبي قتيلة] أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق. ودخل بيته، فإنه عرف مغزاه.
/ وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم، من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل العلم فكانوا يقولون: هم [الأبدال] لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم حقيقة، ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة، كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه، هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال، وهذا في الأمرين جميعًا. وكانوا يقولون: هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، الظاهرون على الحق؛ لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم، وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.
فصــل
وتلخيص النكتة: أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها، وإذا علموها، فإما أنه كان يمكنهم بيانها بالكلام والكتاب، أو لا يمكنهم ذلك، وإذا أمكنهم ذلك البيان، فإما أن يمكن للعامة وللخاصة، أو للخاصة فقط.
فإن قال: إنهم لم يعلموها، وإن الفلاسفة والمتكلمين أعلم بها منهم، وأحسن بيانًا لها منهم، فلاريب أن هذا قول الزنادقة المنافقين. وسنتكلم معهم بعد هذا ؛إذ الخطاب هنا لبيان أن هذا قول الزنادقة، وأنه لا يقوله إلا منافق أو جاهل.
وإن قال: إن الرسل مقصدهم صلاح عموم الخلق، وعموم الخلق لا يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة، فخاطبوهم بضرب الأمثال؛ لينتفعوا بذلك، وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية، فتضمن خطابهم عن الله وعن اليوم الآخر، من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد. وذلك يقرر في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يحض النفوس على عبادة الله، وعلى الرجاء والخوف؛ فينتفعون / بذلك، وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم؛ إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية الإمكان في كشف الحقائق لعموم النوع البشرى، ومقصود الرسل حفظ النوع البشري، وإقامة مصلحة معاشه ومعاده.
فمعلوم أن هذا قول حُذَّاق الفلاسفة، مثل: الفارابي، وابن سينا وغيرهما، وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث.
فالفارابي يقول: إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة أو نحو هذه العبارة.
وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع، ويقول: ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمد مع أولئك العرب الجفاة، أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه؛ لأنهم لايرون فيه من العلم ما يقتضي العمل.
وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله، ومن بعده طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء، وكذلك في كلام الرازي.
وأما الاتحادية ونحوهم من المتكلمين، فعليه مدارهم، ومبنى كلام الباطنية والقرامطة عليه، لكن هؤلاء ينكرون ظواهر الأمور العملية / والعلمية جميعًا، وأما غير هؤلاء فلا ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة، لكن قد يجعلونها لعموم الناس لا لخصوصهم، كما يقولون مثل ذلك في الأمور الخبرية.
ومدار كلامهم على أن الرسالة متضمنة لمصلحة العموم علماً وعملاً، وأما الخاصة فلا. وعلى هذا يدور كلام أصحاب [رسائل إخوان الصفا] وسائر فضلاء المتفلسفة.
ثم منهم من يوجب اتباع الأمور العملية من الأمور الشرعية، وهؤلاء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلاء فلاسفتهم. وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا؛ إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية، فإن قدماء الفلاسفة كانوا يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلاد، فلأن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى. فإنهم ـ كماقال ابن سينا: اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي.
وكل عقلاء الفلاسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري، وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلاسفة المشاهير، ثم قد يزعمون أن الرسل والأنبياء حكماء كبار، وأن الفلاسفة الحكماء أنبياء صغار، وقد يجعلونهم صنفين. وليس هذا موضع شرح ذلك، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع.
وإنما الغرض أن هؤلاء الأساطين من الفلاسفة والمتكلمين، غاية /ما يقولون هذا القول، ونحن ذكرنا الأمر على وجه التقسيم العقلي الحاصر لئلا يخرج عنه قسم؛ ليتبين أن المخالف لعلماء الحديث علما وعملاً، إما جاهل، وإما منافق، والمنافق جاهل وزيادة، كما سنبينه ـ إن شاء الله ـ والجاهل هنا فيه شعبة نفاق، وإن كان لا يعلم بها فالمنكر لذلك جاهل منافق.
فقلنا: إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق، وأحسن بيانًا لها، فهذا زنديق منافق إذا أظهر الإيمان بهم باتفاق المؤمنين، وسيجىء الكلام معه.
وإن قال: إن الرسل كانوا أعظم علمًا وبيانًا، لكن هذه الحقائق لا يمكن علمها، أو لا يمكن بيانها مطلقًا، أو يمكن الأمران للخاصة.
قلنا: فحينئذ لا يمكنكم أنتم ما عجزت عنه الرسل من العلم والبيان.
إن قلتم: لا يمكن علمها.
قلنا: فأنتم وأكابركم لايمكنكم علمها بطريق الأولى.
وإن قلتم: لا يمكنهم بيانها.
قلنا: فأنتم وأكابركم لا يمكنكم بيانها.
وإن قلتم: يمكن ذلك للخاصة دون العامة.
قلنا: فيمكن ذلك من الرسل للخاصة دون العامة.
/ فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنهم فهم ذلك، جعلوا السابقين الأولين دون المتأخرين في العلم والإيمان. وهذا من مقالات الزنادقة؛ لأنه قد جعل بعض الأمم الأوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عقلاً وتحقيقًا للأمور الإلهية وللعبادية من هذه الأمة، فهذا من مقالات المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متفقون على أن هذه الأمة خير الأمم وأكملهم، وأن أكمل هذه الأمة وأفضلها هم سابقوها.
وإذا سلم ذلك، فأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم: أهل الحديث وأهل السنة؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، والسنة عندنا: آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، أي: دلالات على معناه.
ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقًا زنديقًا، وهو عبد الله بن سَبَأ؛ فإنه إذا قدح في السابقين الأولين فقد قدح في نقل الرسالة، أو في فهمها، أو في اتباعها. فالرافضة تقدح تارة في علمهم بها، وتارة في اتباعهم لها ـ وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود.
والزنادقة من الفلاسفة والنصيرية وغيرهم، يقدحون تارة في النقل، وهو / قول جهالهم، وتارة يقدحون في فهم الرسالة، وهو قول حُذَّاقهم، كما يذهب إليه أكابر الفلاسفة والاتحادية ونحوهم، حتى كان التلمساني مرة مريضًا، فدخل عليه شخص ومعه بعض طلبة الحديث، فأخذ يتكلم على قاعدته في الفكر أنه حجاب، وأن الأمر مداره على الكشف، وغرضه كشف الوجود المطلق، فقال ذلك الطالب: فما معنى قول أم الدرداء: أفضل عمل أبي الدرداء التفكر؟ فتبرم بدخول مثل هذا عليه، وقال للذي جاء به: كيف يدخل عليَّ مثل هذا؟ ثم قال: أتدري يا بني ما مثل أبي الدرداء وأمثاله؟ مثلهم مثل أقوام سمعوا كلامًا وحفظوه لنا، حتى نكون نحن الذين نفهمه ونعرف مراد صاحبه، ومثل بريد حمل كتابًا من السلطان إلى نائبه، أو نحو ذلك، فقد طال عهدي بالحكاية، حدثني بها الذي دخل عليه وهو ثقة يعرف ما يقول في هذا. وكان له في هذه الفنون جَوَلانٌ كثير.
وكذلك ابن سينا، وغيره، يذكر من التنقص بالصحابة ما ورثه من أبيه وشيعته القرامطة، حتى تجدهم إذا ذكروا في آخر الفلسفة حاجة النوع الإنساني إلى الإمامة، عرضوا بقول الرافضة الضلال، لكن أولئك يصرحون من السب بأكثر مما يصرح به هؤلاء.
ولهذا تجد بين [الرافضة] و[القرامطة] و[الاتحادية] اقترانًا واشتباهًا. يجمعهم أمور:
منها: الطعن في خيار هذه الأمة، وفيما عليه أهل السنة والجماعة، وفيما / استقر من أصول الملة وقواعد الدين، ويدعون باطنا امتازوا به واختصوا به عمن سواهم، ثم هم مع ذلك متلاعنون، متباغضون مختلفون، كما رأيت وسمعت من ذلك ما لا يحصى، كما قال الله عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]، وقال عن اليهود: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} [المائدة:64].
وكذلك المتكلمون المخلطون الذين يكونون تارة مع المسلمين ـ وإن كانوا مبتدعين، وتارة مع الفلاسفة الصابئين، وتارة مع الكفار المشركين، وتارة يقابلون بين الطوائف وينتظرون لمن تكون الدائرة، وتارة يتحيرون بين الطوائف، وهذه الطائفة الأخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى الإسلام من العلماء والأمراء وغيرهم، لاسيما لما ظهر المشركون من الترك على أرض الإسلام بالمشرق في أثناء المائة السابعة. وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين.
فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم، وهذان هما مقدمتا الزندقة ـ كما قدمناه ـ ثم يعتمد فيما أقر به من أمور الإسلام على ما علم بالاضطرار من دين الإسلام، مثل العبادات والمحرمات الظاهرة، وكذلك الإقرار بمعاد الأجساد ـ بعد الاطلاع على التفاسير والأحاديث ـ يجعل العلم بذلك مستفادًا من أمور كثيرة، فلا يعطل تعطيل/ الفلاسفة الصابئين، ولا يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين. وكذلك[الصحابة]، وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه وبعلمهم في الجملة لكن يزعم في مواضع: أنهم لم يعلموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثورًا عنهم التكلم بلغة الفلاسفة، ويجعل هذا حجة له في الرد على من زعم. . .[بياض].
وكذلك هذه المقالات لا تجدها إلا عند أجهل المتكلمين في العلم، وأظلمهم من هؤلاء المتكلمة والمتفلسفة والمتشيعة والاتحادية في الصحابة، مثل قول كثير من العلماء والمتأمرة: أنا أشجع منهم، وإنهم لم يقاتلوا مثل العدو الذي قاتلناه، ولا باشروا الحروب مباشرتنا، ولا ساسوا سياستنا، وهذا لا تجده إلا في أجهل الملوك وأظلمهم.
فإنه إن أراد أن نفس ألفاظهم، وما يتوصلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه، فهذا لا يضرهم؛ إذ العلم بلغات الأمم ليس مما يجب على الرسل وأصحابهم، بل يجب منه ما لا يتم التبليغ إلا به، فالمتوسطون بينهم من التراجمة يعلمون لفظ كل منهما ومعناه. فإن كان المعنيان واحدًا كالشمس والقمر، وإلا علموا ما بين المعنيين من الاجتماع والافتراق، فينقل لكل منهما مراد صاحبه، كما يصور المعاني ويبين ما بين المعنيين من التماثل، والتشابه، والتقارب.
/فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول، وفيما جاء به بيان الحجة على بطلان كفر كل كافر، وبيان ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانًا من مقاييس أولئك الكفار؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، أخبر ـ سبحانه ـ أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم.
وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار ـ من حكم أو دليل ـ يندرج فيما علمه الصحابة.
وهذه الآية ذكرها الله تعالى بعد قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:30، 31]، فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول، وأن هذه العداوة أمر لابد منه، ولا مفر عنه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29].
والله ـ تعالى ـ قد أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالمين، وضرب الأمثال فيما أرسله به لجميعهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27]، فأخبر أنه ضرب لجميع الناس في هذا القرآن من كل مثل.
/ ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في المحاربات. فإذا كان عدو المسلمين ـ في تحصنهم وتسلحهم ـ على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة.
وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك، لا لفضل قوته وشجاعته، ولكن لمجانسته لهم، كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب ـ وهم خيار العجم ـ أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي، وكما يكون العربي المتشبه بالعجم ـ وهم أدنى العرب ـ أعلم بمخاطبة العرب من العجمي.
فقد جاء في الحديث: (خيار عجمكم المتشبهون بعربكم، وشرار عربكم المتشبهون بعجمكم).
ولهذا لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم [الطائف] رماهم بالمنجنيق، وقاتلهم قتالاً لم يقاتل غيرهم مثله في المزاحفة كيوم بدر وغيره، وكذلك لما حوصر المسلمون عام [الخندق] اتخذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير الحصار. وقيل: إن سلمان أشار عليهم بذلك، فسلموا ذلك له ؛ لأنه طريق إلى فعل ما أمر الله به ورسوله.
وقد قررنا في قاعدة [السنة والبدعة]: أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه / الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك. وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته.
ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله. ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.
فسنة خلفائه الراشدين هي: مما أمر الله به ورسوله، وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها.
فكما أن الله بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب، وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلام رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما في كتبهم من ذلك، وما حرفوه وبدلوه من دينهم، وصدق بما جاءت به الرسل قبله، حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان.
/والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف، وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، وهو المسفسط والمقرمط، أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم، وهو المعرض عن النظر والاستدلال. فكما أن الإحساس الظاهر لا يحصل للمعرض ولا يقوم للجاحد، فكذلك الشهود الباطن لا يحصل للمعرض عن النظر والبحث، بل طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهدًا، كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهدًا، كما قال بعض السلف: ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيهم، وقال أبي ابن كعب وابن مسعود: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وقال معاذ بن جبل، ويروى مرفوعًا، وهو محفوظ عن معاذ: عليكم بالعلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة. فجعل الباحث عن العلم مجاهدًا في سبيل الله.
ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل، قال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن.
وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب، الذين علموا ما عندهم بلغتهم، وترجموا لنا بالعربية، انتفع بذلك في مناظرتهم ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سلام، / وسلمان الفارسي، وكعب الأحبار، وغيرهم، يحدثون بما عندهم من العلم، وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكون حجة عليهم من وجه، وعلى غيرهم من وجه آخر، كما بيناه في موضعه.
والألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة، كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر. وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيرًا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية.
والمعاني الصحيحة، إما مقاربة لمعاني القرآن، أو مثلها، أو بعينها، وإن كان في القرآن من الألفاظ والمعاني خصائص عظيمة.
فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أوعقل، مثل أن ينقل عما في كتبهم عن الأنبياء ما يخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو خلاف ما ذكره الله في كتبهم، كزعمهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بتحميم [أي: جعل وجهه أسود. يقال: حَمَمْتُ وجهه تحميمًا: إذا سودته بالفحم] الزاني دون رجمه، أمكن للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة، كعبد الله ابن سلام ونحوه، لما قال لحبرهم: ارفع يدك عن آية الرجم، فإذا هي تلوح، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم الزانيين منهما، بعد أن قام عليهم الحجة من كتابهم، وذلك أنه موافق لما أنزل الله عليه من الرجم، وقال: (اللهم إني / أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)، ولهذا قال ابن عباس في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} [المائدة: 44]، قال ـ: محمد صلى الله عليه وسلم، من النبيين الذين أسلموا، وهو لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة: 49].
وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية، قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين، أو ممن يعلم خطهم منا، كزيد بن ثابت، ونحوه، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم ذلك، والحديث معروف في السنن، وقد احتج به البخاري في]باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان؟[، قال: وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت: أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود، حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه.
والمكاتبة بخطهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد، وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، مثل كتابة اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط الأعاجم، وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي، وقيل: يكتفي بذلك؛ ولهذا قال سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]
فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلاوتها، إن كانوا صادقين في نقل / ما يخالف ذلك، فإنهم كانوا: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:78]، و{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ} [البقرة:79]، ويكذبون في كلامهم وكتابهم؛ فلهذا لا تقبل الترجمة إلا من ثقة.
فإذا احتج أحدهم على خلاف القرآن برواية عن الرسل المتقدمين، مثل الذي يروى عن موسى أنه قال: (تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض) أمكننا أن نقول لهم: في أي كتاب هذا ؟ أحضروه ـ وقد علمنا أن هذا ليس في كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب وعندهم النبوات التي هي مائتان وعشرون، و[كتاب المثنوي] الذي معناه المثناة، وهي التي جعلها عبد الله بن عمرو فينا من أشراط الساعة، فقال: لا تقوم الساعة حتي يقرأ فيهم بالمثناة، ليس أحد يغيرها، قيل: وما المثناة ؟ قال: ما استكتب من غير كتاب الله.
وكذلك إذا سئلوا عما في الكتاب من ذكر أسماء الله وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم، بموافقة الأنبياء المتقدمين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوا الكلم عن مواضعه، أمكن معرفة ذلك، كما تقدم.
وإن ذكروا حجة عقلية فهمت ـ أيضًا ـ مما في القرآن بردها إليه، مثل إنكارهم للنسخ بالعقل، حتى قالوا: لا ينسخ ما حرمه، ولا ينهي عما أمر به، فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة:142]. / قال البراء بن عازب ـ كما في الصحيحين: هم اليهود ؛ فقال سبحانه: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
فذكر ما في النسخ من تعليق الأمر بالمشيئة الإلهية، ومن كون الأمر الثاني قد يكون أصلح وأنفع، فقوله: {يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} بيان للأصلح الأنفع، وقوله: {مَن يَشَاء} رد للأمر إلى المشيئة.
وعلى بعض ما في الآية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا: التكليف إما تابع لمحض المشيئة، كما يقوله قوم، أو تابع للمصلحة، كما يقوله قوم، وعلى التقديرين فهو جائز.
ثم إنه ـ سبحانه ـ بَيَّنَ وقوع النسخ بتحريم الحلال في التوراة، بأنه أحل لإسرائيل أشياء ثم حرمها في التوراة، وأن هذا كان تحليلاً شرعيًا بخطاب، لم يكونوا استباحوه بمجرد البقاء على الأصل، حتى لا يكون رفعه نسخًا، كما يدعيه قوم منهم، وأمر بطلب التوراة في ذلك. وهكذا وجدناه فيها، كما حدثنا بذلك مسلمة أهل الكتاب في غير موضع.
وهكذا مناظرة الصابئة الفلاسفة، والمشركين، ونحوهم، فإن الصابئ الفيلسوف إذا ذكر ما عند قدماء الصابئة الفلاسفة من الكلام ـ الذي عُرِّب وتُرْجم بالعربية وذكره ـ إما صرفًا، وإما على الوجه الذي تَصَّرف فيه متأخروهم بزيادة أو نقصان، وبَسْطٍ واختصار، ورد بعضه وإتيان بمعان / أخر، ليست فيه ونحو ذلك ـ فإن ذكْر ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل[الطب] و[الحساب] المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل محمد بن زكريا الرازي، وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء ما غايته، انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز. كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وكما استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر ـ لما خرجا من مكة مهاجِرَيْن ـ [ابن أُريْقط] رجلاً من بني الديِّل هاديًا خِرِّيتًا، والخريت: الماهر بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما، ووعداه غار ثور صبح ثالثة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم، وكل هذا في الصحيحين، وكان أبو طالب ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويَذُبُّ عنه مع شركه، و هذا كثير.
فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا} [آل عمران:75]، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلمُ الكافرَ إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة، كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة، مثل ولايته على المسلمين، وعلوه عليهم ونحو ذلك.
فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، / بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك.
وإن ذكروا ما يتعلق بالدين، فإن نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالا، وإن أحالوا معرفته على القياس العقلي، فإن وافق ما في القرآن فهو حق، وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، ففي القرآن الحق، والقياس البين الذي يبين بطلان ما جاؤوا به من القياس، وإن كان ما يذكرونه مجملاً فيه الحق ـ وهو الغالب على الصابئة المبدلين، مثل[أرسطو] وأتباعه، وعلى من اتبعهم من الآخرين ـ قبل الحق ورد الباطل، والحق من ذلك لا يكون بيان صفة الحق فيه كبيان صفة الحق في القرآن. فالأمر في هذا موقوف على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته.
والترجمة والتفسير ثلاث طبقات:
أحدها: ترجمة مجرد اللفظ، مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف، ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلاء، فهذا علم نافع؛ إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ، فلا يجرده عن اللفظين جميعًا.
/ والثاني: ترجمة المعنى وبيانه، بأن يصور المعنى للمخاطب، فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ، كما يشرح للعربي كتابًا عربيًا قد سمع ألفاظه العربية، لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها، وتصوير المعني يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى، إما تحديدًا وإما تقريبًا.
الدرجة الثالثة: بيان صحة ذلك وتحقيقه، بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى، إما بدليل مجرد وإما بدليل يبين علة وجوده.
وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى، كما يحتاج في [الدرجة الثانية] إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى. وقد يكون نفس تصوره مفيدًا للعلم بصدقه، وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى قياس، ومثل، ودليل آخر.
فإذا عرف القرآن هذه المعرفة، فالكلام الذي يوافقه أو يخالفه ـ من كلام أهل الكتاب والصابئين والمشركين ـ لابد فيه من الترجمة للفظ والمعنى أيضًا، وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن ؛ لفظه ومعناه، كما أمر بذلك / الرسول، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العَجَم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة.
وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين، بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم، لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه، فلأن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلا، وأحسن حديثًا، ولغتهم أوسع، لاسيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه.
فإذا سئلنا عن كلام يقولونه: هل هو حق أو باطل، ومن أين يتبين الحق فيه والباطل قلنا ـ من القول: بالحجة والدليل، كما كان المشركون وأهل الكتاب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، أو يناظرونه، وكما كانت الأمم تجادل رسلها؛ إذ كثير من الناس يدعي موافقة الشريعة للفلسفة.
مثال ذلك: إذا ذكروا [العقول العشرة]، و[النفوس التسعة] وقالوا: إن العقل الأول هو الصادر الأول عن الواجب بذاته، وإنه من لوازم ذاته ومعلول له، وكذلك الثاني عن الأول، وإنَّ لكل فلك عقلاً ونفسًا.
/ قيل: قولكم:[عقل، ونفس] لغة لكم، فلابد من ترجمتها، وإن كان اللفظ عربيًا فلابد من ترجمة المعنى.
فيقولون: [العقل] هو الروح المجردة عن المادة ـ وهي الجسد وعلائقها ـ سموه عقلاً ويسمونه مفارقًا، ويسمون تلك المفارقات للمواد؛ لأنها مفارقة للأجساد، كما أن روح الإنسان إذا فارقت جسده كانت مفارقة للمادة التي هي الجسد و[النفس]: هي الروح المدبرة للجسم، مثل نفس الإنسان إذا كانت في جسمه، فمتى كانت في الجسم كانت محركة له، فإذا فارقته صارت عقلاً محضًا، أي: يعقل العلوم من غير تحريك بشيء من الأجسام، فهذه العقول والنفوس.
وهذا الذي ذكرناه من أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس، وأكثرهم لا يحصلون ذلك.
قالوا: وأثبتنا لكل فلك نفسًا؛ لأن الحركة اختيارية، فلا تكون إلا لنفس، ولكل نفس عقلاً؛ لأن العقل كامل لا يحتاج إلى حركة، والمتحرك يطلب الكمال فلابد أن يكون فوقه ما يشبه به، وما يكون علة له، ولهذا كانت حركة أنفسنا للتشبه بما فوقنا من العقول، وكل ذلك تشبه بواجب الوجود بحسب الإمكان.
والأول لا يصدر عنه إلا عقل ؛ لأن النفس تقتضي جسمًا، والجسم فيه / كثرة، والصادر عنه لا يكون إلا واحدًا. ولهم في الصدور اختلاف كثير ليس هذا موضعه.
قيل لهم: أما إثباتكم أن في السماء أرواحًا، فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب الله، ولكن ليست هي [الملائكة]، كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول، وما أنزل من قبله، ويقولون: ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة والفلسفة، فإنهم قالوا: العقول والنفوس عند الفلاسفة هي الملائكة عند الأنبياء، وليس كذلك، لكن تشبهها من بعض الوجوه.
فإن اسم الملائكة والملك يتضمن أنهم رسل الله، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، وكما قال: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، فالملائكة رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والأرض، كما قال تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وكما قال: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وأمره الديني الذي تنزل به الملائكة، فإنه قال: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75].
وملائكة الله لا يحصى عددهم إلا الله، كما قال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
وقيل لهم: الذي في الكتاب والسنة، من ذكر الملائكة وكثرتهم، أمر لا يحصر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك قائم أو قاعد، أو راكع، أو ساجد)، [الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي: أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى] وقال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5].
فمن جعلهم عشرة، أو تسعة عشر، أو زعم أن التسعة عشر الذين على سَقَر هم العقول والنفوس، فهذا من جهله بما جاء عن الله ورسوله، وضلاله في ذلك بين؛ إذ لم تتفق الأسماء في صفة المسمى ولا في قدره، كما تكون الألفاظ المترادفة، وإنما اتفق المسميان في كون كل منهما روحًا متعلقًا بالسموات.
وهذا من بعض صفات ملائكة السموات، فالذي أثبتوه هو بعض / الصفات لبعض الملائكة، وهو بالنسبة إلى الملائكة وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القلة، أقل مما يؤمن به السامرة من الأنبياء بالنسبة إلى الأنبياء؛ إذ هم لا يؤمنون بنبي بعد موسى ويُوشَع.
كيف وهم لم يثبتوا للملائكة من الصفة إلا مجرد ما علموه من نفوسهم مجرد العلم للعقول، والحركة الإرادية للنفوس؟
ومن المعلوم أن الملائكة لهم من العلوم، والأحوال، والإرادات، والأعمال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، ووصفهم في القرآن بالتسبيح والعبادة لله أكثر من أن يذكر هنا، كما ذكر ـ تعالى ـ في خطابه للملائكة، وأمره لهم بالسجود لآدم.
وقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]،
وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26: 29]،
وقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]، وقوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقوله تعالى:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 ،125]، وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال:12]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل:32]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقوله: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13: 16].
وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10: 12].
وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقوله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقوله تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 1-3].
وقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:149-166].
وفي الصحيحين عـن جابر بن سَمُْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول، ويتراصون في الصف)، وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعْصَعَة في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر صعوده إلى السماء السابعة ـ قال: (فرفع لي البيت المعمور؛ فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم).
وقال البخاري: وقال همَّام عن قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أمَّنَ القارئ فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي الرواية الأخرى في الصحيحين إذا قال: (آمين، فإن الملائكة في السماء تقول: آمين).
وفي الصحيح أيضًا عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي / الصحيح عن عروة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تنزل في العَنَان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة سيارة فضلاء، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله ـ وهو أعلم ـ من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك ويحمدونك، ويسألونك. قال: وما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا :يا رب لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا، وأجَرْتُهم مما استجاروا، قال: يقولون: رب، فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
/ وفي الصحيحين عن ُعرْوَة ،عن عائشة حدثته؛ أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العَقَبَة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم على، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأَخْشَبَيْن[الأخشبان: هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. والأخشب كل جبل خشن غليظ الحجارة] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا).
وأمثال هذه الأحاديث الصحاح مما فيها ذكر الملائكة الذين في السموات وملائكة الهواء والجبال، وغير ذلك كثيرة.
وكذلك الملائكة المتصرفون في أمور بني آدم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ـ حديث الصادق المصدوق ـ إذ يقول: (ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح) وفي الصحيح حديث البراء ابن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان:(اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك)، وفي الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أجب عني، اللّهم أيده /بروح القُدُس)، وفي الصحيح عن أنس قال: (كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل)، وفي الصحيحين عن عائشة: أن الحارث بن هشام قال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: (أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشده علي، فَيُفْصِم عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول) [وقوله: فيُفْصِم: أي فيقْلِع].
وإتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورة أعرابي، وتارة في صورة دحْيَة الكلبي، ومخاطبته وإقراؤه إياه كثيرًا، أعظم من أن يذكر هنا.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون).
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل، كأنها نمرقة فجاء فقام، وجعل يتغير وجهه، فقلت:ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟) قالت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: (أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، إن من صنع الصور يعذب يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم)، وفي الصحيحين /عن ابن عباس قال: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لاتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة تماثيل).
وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: (وعد النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مُصَلاَّه الذي صلى فيه: اللّهم اغفر له، اللّهم ارحمه، ما لم يحدث).
وأمثال هذه النصوص، التي يذكر فيها من أصناف الملائكة وأوصافهم وأفعالهم، ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه من [العقول، والنفوس] أو أن يكون جبريل هو [العقل الفعال] وتكون ملائكة الآدميين هي القوى الصالحة، والشياطين هي القوى الفاسدة، كما يزعم هؤلاء.
وأيضًا، فزعمهم أن العقول والنفوس ـ التي جعلوها الملائكة، وزعموا أنها معلولة عن الله صادرة عن ذاته صدور المعلول عن علته ـ هو قول بتولدها عن الله، وأن الله ولد الملائكة، وهذا مما رده الله ونزه نفسه عنه، وكذب قائله، وبين كذبه بقوله :{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3، 4] وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:151 - 157]، وبقوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26- 28]، وقال تعالى :{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 -95] .
فأخبر أنهم معبدون، أي: مذللون مصرفون، مدينون مقهورون، ليسوا كالمعلول المتولد تولدًا لازمًا لا يتصور أن يتغير عن ذلك. وأخبر أنهم عباد لله، لا يشبهون به كما يشبه المعلول بالعلة، والولد بالوالد، كما يزعمه هؤلاء الصابئون، وقال تعالى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة:116، 117]، فأخبر أنه يقتضي كل شيء بقوله: [كن] لا بتولد المعلول عنه.
وكذلك قال سبحانه: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100، 101]
/ فأخبر أن التولد لا يكون إلا عن أصلين،كما تكون النتيجة عن مقدمتين، وكذلك سائر المعلولات المعلومة لا يحدث المعلول إلا باقتران ما تتم به العلة، فأما الشيء الواحد وحده فلا يكون علة ولا والدًا قط، لا يكون شيء في هذا العالم إلا عن أصلين، ولو أنهما الفاعل والقابل، كالنار والحطب، والشمس والأرض، فأما الواحد وحده فلا يصدر عنه شيء ولا يتولد.
فبين القرآن أنهم أخطؤوا طريق القياس في العلة والتولد، حيث جعلوا العالم يصدر عنه بالتعليل والتولد، وكذلك قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] خلاف قولهم: إن الصادر عنه واحد. وهذا وفاء بما ذكره الله ـ تعالى ـ من قوله وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]
إذ قد تكفل بذلك في حق كل من خرج عن اتباع الرسول، فقال تعالى :{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، [فذكر] الوحدانية والرسالة إلى قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 ـ 29]، فكل من خرج عن اتباع الرسول فهو ظالم بحسب ذلك. والمبتدع ظالم بقدر ما خالف من سنته: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:30-33].
وهؤلاء الصابئة قد أتوا بمثل، وهو قولهم: الواحد لا يصدر عنه ويتولد عنه إلا واحد، والرب واحد فلا يصدر عنه إلا واحد يتولد عنه. فأتى الله بالحق وأحسن تفسيرًا، وبين أن الواحد لا يصدر عنه شيء ولا يتولد عنه شيء أصلا، وأنه لم يتولد عنه شيء، ولم يصدر عنه شيء، ولكن خلق كل شيء خلقًا، وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين. ولهذا قال مجاهد ـ وذكره البخاري في صحيحه ـ في الشفع والوتر: (إن الشفع هو الخلق، فكل مخلوق له نظير، والوتر هو الله الذي لا شبيه له)، فقال:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101].
وذلك أن الآثار الصادرة عن العلل والمتولدات في الموجودات لابد فيها من شيئين أحدهما: يكون كالأب، والآخر: يكون كالأم القابلة. وقد يسمون ذلك الفاعل والقابل كالشمس مع الأرض، والنار مع الحطب، فأما صدور شيء واحد عن شيء واحد،فهذا لا وجود له في الوجود أصلا.
وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس،وبالصوت ـ كالطنين ـ مع الحركة والنقر، فهو أيضًا حجة لله ورسوله والمؤمنين عليهم. وذلك أن الشعاع إن / أريد به نفس ما يقوم بالشمس، فذلك صفة من صفاتها، وصفات الخالق ليست مخلوقة، ولا هي من العالم الذي فيه الكلام.
وإن أريد بالشعاع ما ينعكس على الأرض، فذلك لابد فيه من شيئين، وهما الشمس التي تجري مجرى الأب الفاعل، والأرض التي تجري مجرى الأم القابلة، وهي الصاحبة للشمس.
وكذلك الصوت لا يتولد إلا عن جسمين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه، فيتولد الصوت الموجود في أجسام العالم عن أصلين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه.
فمهما احتجوا به من القياس، فالذي جاء الله به هو الحق وأحسن تفسيرًا، وأحسن بيانًا وإيضاحًا للحق وكشفًا له.
وأيضًا، فجعلها علة تامة لما تحتها، ومؤكدة له، وموجبة له حتى يجعلوها مبادئنا، ويجعلوها لنا كالآباء والأمهات، وربما جعلوا العقل هو الأب، والنفس هي الأم، وربما قال بعضهم :]الوالدان[: العقل والطبيعة، كما قال صاحب الفصوص في قول نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28]، أي: من كنت نتيجة عنهما،وهما العقل والطبيعة. وحتى يسمونها الأرباب والآلهة الصغرى، ويعبدونها. وهو كفر مخالف لما جاءت به الرسل.
/ وبهذا وصف بعض السلف الصابئة بأنهم يعبدون الملائكة، وكذلك في الكتب المعربة عن قدمائهم، أنهم كانوا يسمونها الآلهة والأرباب الصغرى، كما كانوا يعبدون الكواكب أيضًا.
والقرآن ينفي أن تكون أربابًا، أو أن تكون آلهة، ويكون لها غير ما للرسول الذي لا يفعل إلا بعد أمُرِ مُرْسِلِه، و لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له في الشفاعة، وقد رد الله ذلك على من زعمه من العرب والروم وغيرهم من الأمم، فقال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}؟ [آل عمران:80] وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ{ [الأنبياء:62، 72]، وقال تعالى :{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ :22، 32].
وقد تقدم بعض الأحاديث في صعق الملائكة إذا قضى الله بالأمر الكوني أو بالوحي الديني.
وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم:62] ، وقال تعالى :{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} الآية[الأنبياء:26]، /وقال تعالى :{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وقال تعالى :{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57]، نزلت الآية في الذين يدعون الملائكة والنبيين.
واستقصاء القول في ذلك ليس هذا موضعه.
فإن الله ـ سبحانه ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم. فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة، كلية عامة لما كان متفرقًا منتشرًا في كلام غيره، ثم إنه يسمى كل شيء بما يدل على صفته المناسبة للحكم المذكور المبين، وما يبين وجه دلالته.
فإن تنزيهه نفسه عن الولد والولادة واتخاذ الولد، أعم وأقوم من نفيه بلفظ العلة؛ فإن العلة أصلها التغيير، كالمرض الذي يحيل البدن عن صحته، والعليل ضد الصحيح. وقد قيل: إنه لا يقال:[معلول] إلا في الشرب، يقال: شرب الماء علا بعد نَهَل، وعللته: إذا سقيته مرة ثانية.
وأما استعمال اسم [العلة] في الموجب للشيء أو المقتضى له، فهو من عرف أهل الكلام، وهي ـ وإن كان بينهما وبين العلة اللغوية مناسبة من جهة التغير ـ فالمناسبة في لفظ [التولد] أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهر. يقول الناس: /هذا الأمر يتولد عنه كذا، وهذا يولد كذا، وقد تولد عن ذلك الأمر كيت وكيت، لكل سبب اقتضى مسببًا من الأقوال والأعمال، حتى أهل الطبائع يقولون: [الأركان والمولدات]، يريدون ما يتولد عن الأصول الأربعة ـ التراب، والماء، والهواء، والنار ـ من معدن، ونبات، وحيوان.
فنفيه ـ سبحانه ـ عن نفسه أن يلد شيئًا اقتضى ألا يتولد عنه شيء، ونفيه أن يتخذ ولدًا يقتضى أنه لم يفعل ذلك بشيء من خلقه على سبيل التكريم، وأن العباد لا يصلح أن يتخذ شيئًا منهم بمنزلة الولد. وهذا يبطل دعوى من يدعي مثل ذلك في المسيح وغيره، ومن يقول: {نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ} [المائدة:18]، ومن يقول: الفلسفة هي التشبه بالإله، فإن الولد يكون من جنس والده ويكون نظيرًا له، وإن كان فرعًا له، ولهذا كان هؤلاء القائلون بهذه المعاني من أعظم الخلق قولاً بالتشبيه والتمثيل، وجعل الأنداد له والعدل والتسوية؛ ولهذا كانت الفلاسفة الذين يقولون بصدور العقول والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل يجعلونها له أندادًا، ويتخذونها آلهة وأربابًا، بل قد لا يعبدون إلا إياها، ولا يدعون سواها، ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها.
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:1، 2]
[بهامش الأصل هنا متروك محل خمسة أسطر. قال في المسودة: يتلوه الوريقة، ولم نجدها]
فإن هؤلاء جعلوا لله شركاء الجن وخلقهم، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، و[الجن] قد قيل: إنه يعم الملائكة، كما قيل في قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158]، وإن كان قد قيل في سبب ذلك: زعم بعض مشركي العرب أن الله صاهر إلى الجن فولدت الملائكة، فقد كانوا يعبدون الملائكة أيضًا، كما عبدتها الصابئة الفلاسفة، كما قال تعالى :{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ:40 ،41] ، يعني: أن الملائكة لم تأمرهم بذلك؛ وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم ، كما يكون للأصنام شياطين.
وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها، حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه، وهو شيطان من الشياطين.
ولهذا قال تعالى :{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60-62]،
وقال :{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فهم وإن لم يقصدوا عبادة الشيطان وموالاته، ولكنهم في الحقيقة يعبدونه ويوالونه.
فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المبتدعة مؤمنون بقليل مما جاءت به الرسل في أمر الملائكة، في صفتهم وأقدارهم.
وذلك، أن هؤلاء القوم إنما سلكوا سبيل الاستدلال بالحركات الفلكية والقياس على نفوسهم، مع ما جحدوه وجهلوه من خلق الله وإبداعه.
وسبب ذلك: ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم: أن أساطينهم الأوائل، كفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم، ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بأثارة الأنبياء ما عند سلفه. وكان عنده قدر يسير من الصابئية الصحيحة، فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية، وصارت قانونًا مشى عليه أتباعه، واتفق أنه قد يتكلم في طبائع الأجسام، أو في صورة المنطق أحيانًا بكلام صحيح.
وأما الأولون، فلم يوجد لهم مذهب تام مبتدع بمنزلة مبتدعة المتكلمين في المسلمين، مثل: أبي الهذيل، وهشام بن الحكم، ونحوهما، ممن وضع مذهبًا / في [أبواب أصول الدين] فاتبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمة المسلمين ـ مثل مالك، وحماد بن زيد، والثوري، ونحوهم ـ إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء، فمن لم يكن له علم بطريق المسلمين، يعتاض عنه بما عند هؤلاء، وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة، وهو خفاء سنن المرسلين فيهم، وبذلك يقع الهلاك.
ولهذا كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، قال مالك ـ رحمه الله: السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وهذا حق. فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين. واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله، فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطنًا وظاهرًا. والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح ـ عليه السلام ـ وركوب السفينة معه.
وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبينين لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله. والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك، كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ،كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله / لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
فأخبر عنهم بكمال بر القلوب، مع كمال عمق العلم، وهذا قليل في المتأخرين، كما يقال: من العجائب فقيه صوفي، وعالم زاهد ونحو ذلك. فإن أهل برّ القلوب وحسن الإرادة وصلاح المقاصد يحمدون على سلامة قلوبهم من الإرادات المذمومة، ويقترن بهم كثيرًا عدم المعرفة، وإدراك حقائق أحوال الخلق التي توجب الذم للشر والنهي عنه، والجهاد في سبيل الله، وأهل التعمق في العلوم قد يدركون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في أنواع الغى والضلالات، وأصحاب محمد كانوا أبر الخلق قلوبًا وأعمقهم علماً.
ثم إن أكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن بتعمقهم التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين، وهو القول والعمل بلا علم، وطلب ما لا يدرك. وأصحاب محمد كانوا ـ مع أنهم أكمل الناس علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ـ أقل الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف، ما يهدي الله بها أمة، وهذا من منن الله على هذه الأمة. وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلفات والشطحات، ما هو من أعظم الفضول المبتدعة، والآراء المخترعة، لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين.
/ويروى أن الله ـ سبحانه ـ قال للمسيح: إني سأخلق أمة أفضلها على كل أمة، وليس لها علم ولا حلم، فقال المسيح: أي رب، كيف تفضلهم على جميع الأمم، وليس لهم علم ولا حلم؟ قال: أهبهم من علمي وحلمي، وهذا من خواص متابعة الرسول. فأيهم كان له أتبع كان في ذلك أكمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:28 ،29[.
وكذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى وعبد الله بن عمر: (مثلنا ومثل الأمم قبلنا، كالذي استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى. ثم قال: من يعمل لي إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فعملت المسلمون، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجرًا. قال: فهل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
فدل الكتاب والسنة على أن الله يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤته لأهل الكتابين قبلهم، فكيف بمن هو دونهم من الصابئة؟ دع مبتدعة الصابئة من المتفلسفة ونحوهم.
/ ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل.
فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان، أو اليد والسِّنَان[السِّنان: الرُّمْح]، وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام.
والمقصود التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله: أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم، والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث، فهو ـ إن كان من المؤمنين بالرسل ـ فهو جاهل، فيه شعبة قوية من شعب النفاق، وإلا فهو منافق خالص من الذين :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] وقد يكون من :{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:35]، ومن {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16].
وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه ـ وإن كان ذلك ظاهرًا بالفطرة لكل سليم الفطرة ـ فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم / بالحقائق وأقومهم قولاً وحالاً، لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك، وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق.
ولايقال: هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان، لأنه يقال: إن ذلك في غيرهم أكثر والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم، هذه هي المقابلة العادلة.
وإنما غيَّر الفطرة قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك،مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم، وإحسان لبعض العمل، فيكون ذلك شبهة في قبول غيره، وترجيح صاحبه، ولا غرض لنا في ذكر الأشخاص، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب [مختلف الحديث] وغيره من العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من الأمور المبينة لما ذكرناه.
وإنما المقصود ذكر نفس الطريقة العلمية والعملية، التي تعرف بحقائق الأمور الخبرية النظرية، و توصل إلى حقائق الأمور الإرادية العملية، فمتى كان غير الرسول قادرًا على علم بذلك أو بيان له أو محبة لإفادة ذلك، فالرسول أعلم بذلك وأحرص على الهدى، وأقدر على بيانه منه، وكذلك أصحابه من بعده وأتباعهم.
وهذه صفات الكمال والعلم والإرادة والإحسان والقدرة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة:
/ (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب).
فعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نستخير الله بعلمه، فيعلّمنا من علمه ما نعلم به الخير، ونستقدره بقدرته، فيجعلنا قادرين؛ إذ الاستفعال هو طلب الفعل، كما قال في الحديث الصحيح:
يقول الله تعالى: (يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم ضالُّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم).
فاستهداء الله طلب أن يهدينا، واستطعامه طلب أن يطعمنا، هذا قوت القلوب، وهذا قوت الأجسام، وكذلك استخارته بعلمه واستقداره بقدرته. ثم قال: (وأسألك من فضلك العظيم)، فهذا السؤال من جوده ومَنِّه، وعطائه وإحسانه الذي يكون بمشيئته ورحمته وحنانه؛ ولهذا قال: (فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم) ولم يقل: إني لا أرحم نفسي؛ لأنه في مقام الاستخارة يريد الخير لنفسه ويطلب ذلك، لكنه لا يعلمه ولا يقدر عليه، إن لم يعلّمه الله إياه ويقدره عليه.
فإذا كان الرسول أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية، وأحب الخلق للتعليم والهداية والإفادة، وأقدر الخلق على البيان والعبارة، امتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواصه معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه،/فامتنع أن يكون عند أحد من الطوائف من معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث.
وإذا لم يكن في الطوائف من هو أعلم بالحقائق وأبين لها منه، وجب أن يكون كل ما يذمون به من جهل بعضهم هو في طائفة المخالف الذام لهم أكثر، فيكون الذام لهم جاهلا ظالمًا، فيه شعبة نفاق، إذا كان مؤمنًا. وهذا هو المقصود.
ثم إن هذا الذي بيناه مشهود بالقلب، أعلم ذلك في كل أحد ممن أعرف مفصلاً.
وهذه جملة يمكن تفصيلها من وجوه كثيرة، لكن ليس هذا موضعه.
فصــل
وأما قول من قال: إن الحشوية على ضربين، أحدهما: لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم، والآخر: تستر بمذهب السلف. ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه، دون التشبيه والتجسيم، وكذا جميع المبتدعة يزعمون هذا فيهم كما قال القائل:
وكل يدعي وصلاً لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا
فهذا الكلام فيه حق وباطل .
فمن الحق الذي فيه: ذم من يمثل الله بمخلوقاته، ويجعل صفاته من جنس صفاتهم، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال تعالى : {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
[الإخلاص:4]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]
وقد بسطنا القول في ذلك، وذكرنا الدلالات العقلية التي دل عليها كتاب الله في نفي ذلك، وبينا منه ما لم يذكره النفاة الذين يتسمون بالتنزيه، ولا يوجد في كتبهم، ولا يسمع من أئمتهم، بل عامة حججهم التي يذكرونها حجج ضعيفة؛ لأنهم يقصدون إثبات حق وباطل، فلا يقوم على ذلك حجة مطردة /سليمة عن الفساد، بخلاف من اقتصد في قوله وتحرى القول السديد؛ فإن الله يصلح عمله، كما قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب:70، 71].
وفيه من الحق الإشارة إلى الرد على من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم، أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان. فتمثيل الله بخلقه والكذب على السلف من الأمور المنكرة، سواء سمى ذلك حشوًا أو لم يسم، وهذا يتناول كثيرًا من غالية المثبتة الذين يروون أحاديث موضوعة في الصفات مثل حديث[عَرَق الخيل] و[نزوله عشية عَرَفَة على الجمل الأورق حتى يصافح المشاة ويعانق الركبان]، و[تجلّيه لنبيه في الأرض]، أو[رؤيته له على كرسي بين السماء والأرض]، أو[رؤيته إياه في الطواف] أو [في بعض سكك المدينة]، إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة.
فقد رأيت من ذلك أمورًا من أعظم المنكرات والكفران، وأحضر لي غير واحد من الناس من الأجزاء والكتب ما فيه من ذلك ما هو من الافتراء على الله وعلى رسوله. وقد وضع لتلك الأحاديث أسانيد، حتى إن منهم من عمد إلى كتاب صنفه الشيخ أبو الفرج المقدسي، فيما يمتحن به السُّنِّي من البدعي. فجعل ذلك الكتاب مما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج، وأمره أن يمتحن به الناس، فمن أقرَّ به فهو سني، ومن لم يقر به فهو بدعي، وزادوا فيه على الشيخ أبي الفرج أشياء لم يقلها هو ولا عاقل، والناس المشهورون قد يقول أحدهم من المسائل / والدلائل ما هو حق أو فيه شبهة حق، فإذا أخذ الجهال ذلك فغيروه صار فيه من الضلال ما هو من أعظم الإفك والمحال.
والمقصود أن كلامه فيه حق وفيه من الباطل أمور:
أحدها: قوله: لا يتحاشى من الحشو والتجسيم ذم للناس بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، والذي مدحه زين وذمه شين هو الله. والأسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين، لا تكون إلا من الأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، ودل عليها الكتاب والسنة أو الإجماع، كالمؤمن، والكافر والعالم، والجاهل، والمقتصد، والملحد.
فأما هذه الألفاظ الثلاثة فليست في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله، ولا نطق بها أحد من سلف الأمة وأئمتها لا نفيًا ولا إثباتًا.
وأول من ابتدع الذم بها[المعتزلة] الذين فارقوا جماعة المسلمين، فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة ترك للقول السديد الواجب في الدين، واتباع لسبيل المبتدعة الضالين، وليس فيها ما يوجد عن بعض السلف ذمه إلا لفظ [التشبيه]، فلو اقتصر عليه لكان له قدوة من السلف الصالح، ولو ذكر الأسماء التي نفاها الله في القرآن ـ مثل لفظ [الكفء، والند، والسمى] وقال: منهم من لا يتحاشى من التمثيل ونحوه ـ لكان قد ذم بقول نفاه الله في كتابه، ودل القرآن على ذم قائله ثم ينظر: هل قائله موصوف بما وصفه به من الذم أم لا؟
/فأما الأسماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ولا مدحهم، فيحتاج فيها إلى مقامين:
أحدهما: بيان المراد بها. والثاني: بيان أن أولئك مذمومون في الشريعة.
والمعترض عليه له أن يمنع المقامين، فيقول: لا نسلم أن الذين عنيتهم داخلون في هذه الأسماء التي ذممتها، ولم يقم دليل شرعي على ذمها، وإن دخلوا فيها، فلا نسلم أن كل من دخل في هذه الأسماء فهو مذموم في الشرع.
الوجه الثاني: أن هذا الضرب الذي قلت: [إنه لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم] إما أن تدخل فيه مثبتة الصفات الخبرية التي دل عليها الكتاب والسنة، أو لا تدخلهم، فإن أدخلتهم كنت ذامًا لكل من أثبت الصفات الخبرية، ومعلوم أن هذا مذهب عامة السلف، ومذهب أئمة الدين.
بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه،؛ كأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني [هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهْران الإسفرائيني، الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين، صاحب المصنفات الباهرة، له الجامع في أصول الدين و أدب الجدل و مسائل الدرر وغيرها، توفى بنيسابور سنة 814هـ]، وأبي بكر ابن فُورَك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي ابن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من / يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله ـ تعالى ـ وعماد المذهب عنهم: إثبات كل صفة في القرآن، وأما الصفات التي في الحديث، فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها.
فإذا كنت تذم جميع أهل الإثبات من سلفك وغيرهم، لم يبق معك إلا الجهمية ـ من المعتزلة ـ ومن وافقهم على نفي الصفات الخبرية ـ من متأخري الأشعرية ونحوهم ـ ولم تذكر حجة تعتمد.
فأي ذم لقوم في أنهم لا يتحاشون مما عليه سلف الأمة وأئمتها وأئمة الذام لهم؟
وإن لم تدخل في اسم الحشوية من يثبت الصفات الخبرية، لم ينفعك هذا الكلام، بل قد ذكرت أنت في غير هذا الموضع هذا القول.
وإذا كان الكلام لا يخرج به الإنسان عن أن يذم نفسه، أو يذم سلفه ـ الذين يقر هو بإمامتهم، وأنهم أفضل ممن اتبعهم ـ كان هو المذموم بهذا الذم على التقديرين، وكان له نصيب من الخوارج الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأولهم: (لقد خبت وخسرت، إن لم أعدل) يقول: إذا كنت مقرًا بأني رسول الله، وأنت تزعم أني أظلم، فأنت خائب خاسر. وهكذا من ذم من يقر بأنهم خيار الأمة وأفضلها، وأن طائفته إنما تلقت العلم والإيمان منهم، هوخائب خاسر في هذا الذم، وهذه حال الرافضة في ذم الصحابة.
/الوجه الثالث: قوله: [والآخر يتستر بمذهب السلف]، إن أردت بالتستر الاستخفاء بمذهب السلف، فيقال: ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع، مثل بلاد الرافضة والخوارج ،فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه، كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب.
فإن كان هؤلاء في بلد أنت لك فيه سلطان ـ وقد تستروا بمذهب السلف ـ فقد ذممت نفسك، حيث كنت من طائفة يستر مذهب السلف عندهم، وإن كنت من المستضعفين المستترين بمذهب السلف فلا معنى لذم نفسك، وإن لم تكن منهم ولا من الملأ، فلا وجه لذم قوم بلفظ التستر.
وإن أردت بالتستر: أنهم يجتنون به، ويتقون به غيرهم، ويتظاهرون به، حتى إذا خوطب أحدهم قال: أنا على مذهب السلف ـ وهذا الذي أراده، والله أعلم ـ فيقال له: لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا، فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا، فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقًا له في الظاهر فقط دون الباطن، فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتُوكَل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن نُنَقِّب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم.
/ وأما قوله : مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه.
فيقال له: لفظ التوحيد، والتنزيه، والتشبيه، والتجسيم ألفاظ قد دخلها الاشتراك، بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلمين وغيرهم، وكل طائفة تعني بهذه الأسماء ما لا يعنيه غيرهم.
فالجهمية من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفى جميع الصفات، وبالتجسيم والتشبيه: إثبات شيء منها، حتى إن من قال: [إن الله يرى]، أو [إن له علمًا]، فهو عندهم مشبه مجسم.
وكثير من المتكلمة الصفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفي الصفات الخبرية أو بعضها، وبالتجسيم والتشبيه إثباتها أو بعضها.
والفلاسفة تعني بالتوحيد ما تعنيه المعتزلة وزيادة، حتى يقولون: ليس له إلا صفة سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما.
والاتحادية تعني بالتوحيد: أنه هو الوجود المطلق، ولغير هؤلاء فيه اصطلاحات أخرى.
وأما التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فليس هو متضمنًا شيئًا من هذه الاصطلاحات، بل أمر الله عباده أن يعبدوه وحده، لا يشركوا /به شيئًا، فلا يكون لغيره نصيب فيما يختص به من العبادة وتوابعها ـ هذا في العمل. وفي القول: هو الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله.
فإن كنت تعني أن مذهب السلف هو التوحيد بالمعنى الذي جاء به الكتاب والسنة، فهذا حق، وأهل الصفات الخبرية لا يخالفون هذا.
وإن عنيت أن مذهب السلف هو التوحيد والتنزيه الذي يعنيه بعض الطوائف، فهذا يعلم بطلانه كل من تأمل أقوال السلف الثابتة عنهم، الموجودة في كتب آثارهم، فليس في كلام أحد من السلف كلمة توافق ما تختص به هذه الطوائف، ولا كلمة تنفي الصفات الخبرية.
ومن المعلوم أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم، فليرجع في ذلك إلى الآثار المنقولة عنهم، وإن كان إنما يعرف بالاستدلال المحض بأن يكون كل من رأى قولاً عنده هو الصواب قال: هذا قول السلف؛ لأن السلف لا يقولون إلا الصواب، وهذا هو الصواب، فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم أنه على مذهب السلف، فقائل هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بلا نقل عنهم، بل بدعواه: أن قوله هو الحق.
وأما أهل الحديث، فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة،/يذكرون من نقل مذهبهم من علماء الإسلام، وتارة يروون نفس قولهم في هذا الباب، كما سلكناه في جواب الاستفتاء.
فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين:
أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم، ومن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة.
والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث والتصوف، وأهل الكلام، كالأشعري وغيره.
فصار مذهب السلف منقولاً بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا، كما يفعل أهل البدع.
ثم لفظ[التجسيم]لا يوجد في كلام أحد من السلف ـ لا نفيًا ولا إثباتًا ـ فكيف يحل أن يقال: مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته، بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم؟!.
وكذلك لفظ [التوحيد]ـ بمعنى: نفي شيء من الصفات ـ لايوجد في كلام أحد من السلف.
وكذلك لفظ التنزيه ـ بمعني نفي شيء من الصفات الخبرية ـ لا يوجد في كلام أحد من السلف.
/ نعم، لفظ [التشبيه] موجود في كلام بعضهم وتفسيره معه، كما قد كتبناه عنهم، وأنهم أرادوا بالتشبيه: تمثيل الله بخلقه، دون نفي الصفات التي في القرآن والحديث.
وأيضًا، فهذا الكلام لو كان حقًا في نفسه لم يكن مذكورًا بحجة تتبع، وإنما هو مجرد دعوى على وجه الخصومة التي لا يعجز عنها من يستجيز ويستحسن أن يتكلم بلا علم ولا عدل.
ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالات الناس من أهل السنة والبدعة؛ فإنه قال: [وكذا جميع المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف]، فليس الأمر كذلك، بل الطوائف المشهورة بالبدعة ـ كالخوارج والروافض ـ لا يدعون أنهم على مذهب السلف، بل هؤلاء يكفرون جمهور السلف. فالرافضة تطعن في أبي بكر، وعمر، وعامة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وسائر أئمة الإسلام، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟ ولكن ينتحلون مذهب أهل البيت كذبًا وافتراء.
وكذلك الخوارج، قد كَفَّروا عثمان، وعليًا، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟
الوجه الرابع: أن هذا الاسم ليس له ذكر في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة المسلمين، ولا شيخ أو عالم /مقبول عند عموم الأمة. فإذا لم يكن ذلك لم يكن في الذم به لا نص ولا إجماع، ولا ما يصلح تقليده للعامة، فإذا كان الذم بلا مستند للمجتهد ولا للمقلدين عمومًا كان في غاية الفساد والظلم؛ إذ لو ذم به بعض من يصلح لبعض العامة تقليده لم يكن له أن يحتج به؛ إذ المقلد الآخر لمن يصلح له تقليده لا يذم به.
ثم مثل أبى محمد وأمثاله لم يكن يستحل أن يتكلم في كثير من فروع الفقه بالتقليد، فكيف يجوز له التكلم في أصول الدين بالتقليد؟
والنكتة: أن الذام به إما مجتهد، وإما مقلد. أما المجتهد، فلا بد له من نص أو إجماع، أو دليل يستنبط من ذلك، فإن الذم والحمد من الأحكام الشرعية، وقد قدمنا بيان ذلك، وذكرنا أن الحمد والذم، والحب والبغض، والوعد والوعيد، والموالاة والمعاداة، ونحو ذلك من أحكام الدين، لا يصلح إلا بالأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، فأما تعليق ذلك بأسماء مبتدعة فلا يجوز، بل ذلك من باب شرع دين لم يأذن به الله، وأنه لابد من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله.
والمعتزلة ـ أيضًا ـ تفسق من الصحابة والتابعين طوائف، وتطعن في كثير منهم وفيما رَوَوْه من الأحاديث التي تخالف آراءهم وأهواءهم، بل تكفر ـ أيضًا ـ من يخالف أصولهم التي انتحلوها من السلف والخلف، فلهم من الطعن في علماء / السلف وفي علمهم ما ليس لأهل السنة والجماعة، وليس انتحال مذهب السلف من شعائرهم ـ وإن كانوا يقررون خلافة الخلفاء الأربعة، ويعظمون من أئمة الإسلام وجمهورهم ما لا يعظمه أولئك ـ فلهم من القدح في كثير منهم ما ليس هذا موضعه و[للنظَّام] من القدح في الصحابة ما ليس هذا موضعه.
وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها ـ فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضلالاً كبيرًا.
فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنة والجماعة ـ العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة: الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض. والسني في اصطلاحهم: من لا يكون رافضيًا؛ وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة.
فَعُلِمَ أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك [هو أبو محمد عبدوس بن عبد الله بن محمد بن مالك، الحافظ الكبير، سمع من قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن راهويه وغيرهما، وتوفي سنة 282هـ وقيل: سنة 283هـ ]: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
/ وأما متكلمة أهل الإثبات من الكُلاَّبية، والكُرَّامية، والأشعرية، مع الفقهاء والصوفية، وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم وله أَتْبَع. وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها.
أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع، فهذا باطل قطعًا، فإن ذلك غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم.
يوضح ذلك: أن كثيرًا من أصحاب أبي محمد من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف ـ في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث ـ يقولون: مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأما المتكلمون من أصحابنا، فمذهبهم كيت وكيت، وكذلك يقولون: مذهب السلف: أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لاتتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوبًا وإما جوازًا ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين، هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم.
أفلا عاقل يعتبر، ومغرور يزدجر، أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يحدث مقالة تخرج عنهم؟ أليس هذا صريحًا أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون؟! وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح والدين المتين.
/ وأيضًا، فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد، فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة.
وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق [أمهر وأعلم] وأعلم من السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل، وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرًا للسلف ـ كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج ـ ولا تفسيقًا لهم ـ كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم ـ كان تجهيلاً لهم وتخطئة وتضليلاً، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقاً فزَعْمًا: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة.
ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة ـ في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها ـ القرن الأول، ثم / الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على عِلْم، كما قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه: من كان منكم مُسْتَنَّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال غيره: عليكم بآثار من سلف فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفى، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه.
هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شَرٌّ منه حتى تلقوا ربكم)، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى ؟ هذا لا يكون أبدًا.
وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا!
وأيضًا، فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية ـ كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله: كيف تدعون طريقة السلف، وغاية ما عند السلف: أن يكونوا / موافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فإن عامة ما عند السلف من العلم والإيمان، هو ما استفادوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد، الذي قال الله فيه:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد:9]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 28،29]،
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى52 ،53].
وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملاحدة، الذين يقولون: إن الرسول لم يبين الحق في باب التوحيد، ولا بين للناس ما هو الأمر عليه في نفسه، بل أظهر للناس خلاف الحق، والحق: إما كتمه وإما أنه كان غير عالم به.
فإن هؤلاء الملاحدة من المتفلسفة، ومن سلك سبيلهم من المخالفين لما جاء به الرسول في الأمور العلمية، كالتوحيد والمعاد وغير ذلك، يقولون: إن الرسول أحكم الأمور العملية المتعلقة بالأخلاق والسياسة المنزلية والمدنية، / وأتى بشريعة عملية هي أفضل شرائع العالم، ويعترفون بأنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموسه ولا أكمل منه، فإنهم رأوا حسن سياسته للعالم وما أقامه من سنن العدل، ومحاه من الظلم.
وأما الأمور العلمية التي أخبر بها ـ من صفات الرب وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والجنة والنار ـ فلما رأوها تخالف ما هم عليه صاروا في الرسول فريقين:
فغلاتهم يقولون: إنه لم يكن يعرف هذه المعارف، وإنما كان كماله في الأمور العملية: العبادات والأخلاق، وأما الأمور العلمية، فالفلاسفة أعلم بها منه، بل ومن غيره من الأنبياء. وهؤلاء يقولون: إن عليًا كان فيلسوفًا، وأنه كان أعلم بالعلميات من الرسول، وأن هارون كان فيلسوفًا، وكان أعلم بالعلميات من موسى.
وكثير منهم يعظم فرعون، ويسمونه أفلاطون القبطي، ويدعون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته ـ الذي يقول بعض الناس: إنه شعيب ـ يقول هؤلاء: إنه أفلاطون أستاذ أرسطو، ويقولون: إن أرسطو هو الخضر ـ إلى أمثال هذا الكلام الذي فيه من الجهل والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال.
أقل ما فيه جهلهم بتواريخ الأنبياء، فإن أرسطو باتفاقهم كان وزيرًا / للإسكندر بن فيلبس المقدوني، الذي تؤرخ به اليهود والنصارى التاريخ الرومي، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة .
وقد يظنون أن هذا هو: [ذو القرنين] المذكور في القرآن، وأن أرسطو كان وزيرًا لذي القرنين، المذكور في القرآن، وهذا جهل. فإن هذا الإسكندر بن فيلبس لم يصل إلى بلاد الترك، ولم يبن السَّدّ، وإنما وصل إلى بلاد الفرس.
وذو القرنين المذكور في القرآن وصل إلى شرق الأرض وغربها، وكان متقدمًا على هذا، يقال: إن اسمه الإسكندر بن دارا، وكان موحدًا مؤمنًا، وذاك مشركًا، كان يعبد هو وقومه الكواكب والأصنام، ويعانون السحر، كما كان أرسطو وقومه من اليونان مشركين يعبدون الأصنام، ويعانون السحر، ولهم في ذلك مصنفات، وأخبارهم مشهورة، وآثارهم ظاهرة بذلك، فأين هذا من هذا؟!
والمقصود هنا بيان ما يقوله هؤلاء الفلاسفة الباطنية فيما جاء به الرسول.
والفريق الثاني منهم، يقولون: إن الرسول كان يعلم الحق الثابت في نفس الأمر في التوحيد والمعاد، ويعرف أن الرب ليس له صفة ثبوتية، وأنه لا يرى ولا يتكلم، وأن الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الأبدان لا تقوم، وأنه ليس لله ملائكة هم أحياء ناطقون ينزلون بالوحي / من عنده ويصعدون إليه، ولكن يقول بما عليه هؤلاء الباطنية في الباطن، لكن ما كان يمكنه إظهار ذلك للعامة؛ لأن هذا إذا ظهر لم تقبله عقولهم وقلوبهم بل ينكرونه وينفرون منه، فأظهر لهم من التخييل والتمثيل ما ينتفعون به في دينهم، وإن كان في ذلك تلبيس عليهم وتجهيل لهم، واعتقادهم الأمر على خلاف ما هو عليه، لما في ذلك من المصلحة لهم.
ويجعلون أئمة الباطنية، كبني عبيد بن ميمون القدَّاح الذين ادعوا أنهم من ولد محمد ابن إسماعيل بن جعفر، ولم يكونوا من أولاده، بل كان جدهم يهوديًا ربيبيًا لمجوسي، وأظهروا التشيع. ولم يكونوا في الحقيقة على دين واحد من الشيعة لا الإمامية، ولا الزيدية، بل ولا الغالية الذين يعتقدون إلهية علي، أو نبوته، بل كانوا شرًا من هؤلاء كلهم.
ولهذا كثر تصانيف علماء المسلمين في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وكثر غزو المسلمين لهم. وقصصهم معروفة. وابن سينا وأهل بيته كانوا من أتباع هؤلاء على عهد حاكمهم المصري؛ ولهذا دخل ابن سينا في الفلسفة.
وهؤلاء يجعلون محمد بن إسماعيل هو الإمام المكتوم، وأنه نسخ شرع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويقولون: إن هؤلاء الإسماعيلية كانوا أئمة معصومين، بل قد يقولون: إنهم أفضل من الأنبياء، وقد يقولون: إنهم آلهة يعبدون.
ولهذا أرسل الحاكم غلامه [هشتكير] الدرزي إلى وادي تيم الله بن ثعلبة / بالشام، فأضل أهل تلك الناحية وبقاياه فيهم إلى اليوم يقولون بإلهية الحاكم وقد أخرجهم عن دين الإسلام، فلا يرون الصلوات الخمس، و لا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت الحرام، ولا تحريم ما حرمه الله ورسوله من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر وغير ذلك.
وهؤلاء يدعون المستجيب لهم أولاً إلى التشيع، والتزام ما توجبه الرافضة وتحريم ما يحرمونه، ثم بعد هذا ينقلونه درجة بعد درجة حتى ينقلونه في الآخر إلى الانسلاخ من الإسلام، وأن المقصود هو معرفة أسرارهم، وهو العلم الذي به تكمل النفس، كما تقوله الفلاسفة الملاحدة، فمن حصل له هذا العلم وصل إلى الغاية، وسقطت عنه العبادات التي تجب على العامة، كالصلوات الخمس، وصيام رمضان، وحج البيت، وحلت له المحرمات التي لا تحل لغيره.
فهؤلاء يجعلون الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إذا عظموه وقالوا: كان كاملاً في العلم ـ من جنس رؤوسهم الملاحدة، وأنه كان يظهر للعامة خلاف ما يبطنه للخاصة. وقد بينا من فساد أقوالهم في غير هذا الموضع ما لا يناسبه هذا المقام.
فإن المقصود هنا أن هؤلاء النفاة للعلو وللصفات الخبرية، كصاحب اللمعة وأمثاله يقولون في الرسول من جنس قول هؤلاء: إن الذي أظهره ليس هو الحق الثابت في نفس الأمر؛ لأن ذلك ما كان يمكنه إظهاره للعامة، فإذا / كانوا يقولون هذا في الرسول نفسه فكيف قولهم في أتباعه من سلف الأمة من الصحابة والتابعين.
ومن كان هذا أصل قوله في الرسول والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كان مخالفًا لهم لا موافقًا، لا سيما إذا أظهر النفي الذي كان الرسول وخواص أصحابه عنده يبطنونه ولا يظهرونه، فإنه يكون مخالفًا لهم أيضًا.
وهذا المسلك يراه عامة النفاة، كابن رشد الحفيد وغيره. وفي كلام أبي حامد الغزالي من هذا قطعة كبيرة. وابن عقيل وأمثاله قد يقولون أحيانًا هذا، لكن ابن عقيل الغالب عليه إذا خرج عن السنة أن يميل إلى التجهم والاعتزال في أول أمره، بخلاف آخر ما كان عليه، فقد خرج إلى السنة المحضة.
وأبو حامد يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية؛ ولهذا رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبى بكر بن العربي، فإنه قال: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه العلماء المذكورون قبل .
فصــل
ثم قال المعترض: قال أبو الفرج ابن الجوزي في الرد على الحنابلة: إنهم أثبتوا لله ـ سبحانه ـ عينًا، وصورة، ويمينًا، وشمالاً، ووجهًا زائدًا على الذات، وجبهة، وصدرًا، ويدين، ورجلين، وأصابع، وخنصرًا، وفخذًا، وساقًا، وقدمًا، وجنبًا، وحِقْوًا [الحِقْو: هو الكشح والإزار، أو هو معقده] وخلفًا، وأمامًا، وصعودًا، ونزولاً، وهرولة، وعجبًا، لقد كملوا هيئة البدن! وقالوا: يحمل على ظاهره، وليست بجوارح، ومثل هؤلاء لا يحدثون، فإنهم يكابرون العقول، وكأنهم يحدثون الأطفال.
قلت: الكلام على هذا فيه أنواع:
الأول: بيان مافيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية.
الثاني: بيان أنه رد بلا حجة ولا دليل أصلاً.
الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل.
أما أولا: فإن هذا المصنف الذي نقل منه كلام أبي الفرج لم يصنفه / في الرد على الحنابلة كما ذكر هذا، وإنما رد به ـ فيما ادعاه ـ على بعضهم، وقصد أبا عبد الله بن حامد والقاضي أبا يعلى وشيخه أبا الحسن بن الزاغوني ومن تبعهم، وإلا فجنس الحنابلة لم يتعرض أبو الفرج للرد عليهم، ولا حكى عنهم ما أنكره، بل هو يحتج في مخالفته لهؤلاء بكلام كثير من الحنبلية، كما يذكره من كلام التميميين، مثل: رزق الله التميمي [هو أبو محمد عبد الوهاب بن عبد العزيز بن يزيد البغدادي، الشيخ الإمام الواعظ، كان فقيه الحنابلة، ولد سنة 400هـ، وتوفى سنة 488هـ]، وأبي الوفا بن عقيل، ورزق الله كان يميل إلى طريقة سلفه، كجده أبي الحسن التميمي، وعمه أبي الفضل التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى ـ هو صاحب أبي الحسن التميمي ـ وقد ذكر عنه أنه قال: لقد خرِئ [تَغَوَّط] القاضي أبو يعلى على الحنابلة خَريَةً لا يغسلها الماء.
وسنتكلم على هذا بما ييسره الله، متحرين للكلام بعلم وعدل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمازال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعًا. ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف، لكن نزاعهم في مسائل الدِّق، وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها، ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعًا وافتراقًا، لكثرة اعتصامهم بالسنة والآثار؛ لأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبينة ـ لما تنازع فيه الناس ـ ما ليس لغيره. وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب؛ ولهذا كان جميع من ينتحل السنة من طوائف الأمة ـ فقهائها ومتكلمتها وصوفيتها ـ ينتحلونه.
/ثم قد يتنازع هؤلاء في بعض المسائل، فإن هذا أمر لابد منه في العالم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن هذا لابد من وقوعه، وأنه لما سأل ربه ألا يلقي بأسهم بينهم منع ذلك، فلابد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من نوع تنازع، لكن لابد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة، كما أنه لابد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف، لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.
ولهذا لماكان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة، كان منتحلاً للإمام أحمد، ذاكرًا أنه مقتد به متبع سبيله. وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف، حتى إن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكر من حجج أصحابه؛ لأنه كان عنده من متكلمة أصحابه.
وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون؛ أبو الحسن التميمي، وابنه، وابن ابنه، ونحوهم، وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور؛ ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد ـ لما ذكر اعتقاده ـ اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي. وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه، ولم يذكر فيه ألفاظه، وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه، وجعل يقول: [وكان أبوعبد الله].وهو بمنزلة من يصنف / كتابًا في الفقه على رأي بعض الأئمة، ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه، وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصده، فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة. ومن المعلوم أن أحدهم يقول: حكم الله كذا، أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة، بحسب ما بلغه وفهمه، وإن كان غيره أعلم بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده.
فهذا ـ أيضًا ـ من الأمور التي يكثر وجودها في بني آدم؛ ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الأئمة، كما يختلف بعض أهل الحديث في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة، ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمعصوم، فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين، وأمرين متناقضين ولم يشعر بالتناقض.
لكن إذا كان في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة ـ وقد تختلف الروايات حتى يكون بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالاستدلال بينهم اختلاف كثير ـ لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره، بل هو أولى بذلك؛ لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره؛ لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يعرف سبيله وهو حجته على عباده، /فلو وقع فيه ضلال لم يبين لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعميت سبيله؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه، بل هذا الرسول آخر الرسل، وأمته خير الأمم؛ ولهذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.
الوجه الثاني: أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات، بل له من الكلام في الإثبات نظمًا ونثرًا ما أثبت به كثيرًا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف. فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة، وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات، كما هو حال أبي الوفاء ابن عقيل وأبي حامد الغزالي.
الوجه الثالث: أن باب الإثبات ليس مختصًا بالحنبلية، ولا فيهم من الغلو ما ليس في غيرهم، بل من استقرأ مذاهب الناس وجد في كل طائفة من الغلاة في النفي والإثبات ما لا يوجد مثله في الحنبلية، ووجد من مال منهم إلى نفي باطل أو إثبات باطل، / فإنه لا يسرف إسراف غيرهم من المائلين إلى النفي والإثبات، بل تجد في الطوائف من زيادة النفي الباطل والإثبات الباطل ما لا يوجد مثله في الحنبلية. وإنما وقع الاعتداء في النفي والإثبات فيهم مما دب إليهم من غيرهم الذين اعتدوا حدود الله بزيادة في النفي والإثبات؛ إذ أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء.
وكان علم الإمام أحمد وأتباعه، له من الكمال والتمام، على الوجه المشهور بين الخاص والعام،ممن له بالسنة وأهلها نوع إلمام، وأما أهل الجهل والضلال، الذين لا يعرفون ما بعث الله به الرسول، ولا يميزون بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وبين الروايات المكذوبة والآراء المضطربة، فأولئك جاهلون قدر الرسول والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين نطق بفضلهم القرآن، فهم بمقادير الأئمة المخالفين لهؤلاء أولى أن يكونوا جاهلين؛ إذ كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم والإيمان، وهم في هذه الأحوال إلى الكفر أقرب منهم للإيمان.
تجد أحدهم يتكلم في أصول الدين وفروعه بكلام مَنْ كأنه لم ينشأ في دار الإسلام، ولاسمع ما عليه أهل العلم والإيمان، ولا عرف حال سلف هذه الأمة، وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والأعمال الصالحة، ولا عرف مما بعث الله به نبيه ما يدله على الفرق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد.
/ وتجد وقيعة هؤلاء في [أئمة السنة وهداة الأمة] من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكر، وعمر، وأعيان المهاجرين والأنصار، ووقيعة اليهود والنصارى ومن تبعهم من منافقي هذه الأمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقيعة الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم في الأنبياء والمرسلين، وقد ذكر الله في كتابه من كلام الكفار والمنافقين في الأنبياء والمرسلين وأهل العلم والإيمان ما فيه عبرة للمعتبر، وبينة للمستبصر، وموعظة للمتهوك [المتحيِّر] المتحير.
وتجد عامة أهل الكلام ومن أعرض عن جادة السلف ـ إلا من عصم الله ـ يعظمون أئمة الاتحاد، بعد تصريحهم في كتبهم بعبارات الاتحاد ، ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه، ولهم في قلوبهم من الإجلال والتعظيم والشهادة بالإمامة والولاية لهم، وأنهم أهل الحقائق، ما الله به عليم.
هذا ابن عربي يصرح في فصوصه: أن الولاية أعظم من النبوة، بل أكمل من الرسالة، ومن كلامه:
مقام النبوة في برزخ ** فُوَيْقَ الرسول ودون الولي
وبعض أصحابه يتأول ذلك بأن ولاية النبي أفضل من نبوته، وكذلك ولاية الرسول أفضل من رسالته، أو يجعلون ولايته حاله مع الله، ورسالته حاله مع الخلق وهذا من بليغ الجهل.
فإن الرسول إذا خاطب الخلق، وبلغهم الرسالة لم يفارق الولاية، بل هو ولي / الله في تلك الحال، كما هو ولي الله في سائر أحواله، فإنه ولي الله ليس عدوًا له في شيء من أحواله، وليس حاله في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلى ودعا الله وناجاه.
وأيضًا، فما يقول هذا المتكلف في قول هذا المعظم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبنة من فضة، وهو لبنتان من ذهب وفضة، ويزعم أن لبنة محمد صلى الله عليه وسلم هي العلم الظاهر، ولبنتاه الذهب: علم الباطن، والفضة: علم الظاهر، وأنه يتلقى ذلك بلا واسطة، ويصرح في فصوصه: أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة؛ لأن الولي يأخذ بلا واسطة والنبي بواسطة، فالفضيلة التي زعم أنه امتاز بها على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم عنده مما شاركه فيه.
وبالجملة، فهو لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فإنه أخذ بزعمه عن الله ما هو متابعه فيه في الظاهر، كما يوافق المجتهد المجتهد والرسول الرسول، فليس عنده من اتباع الرسول والتلقي عنه شيء أصلاً، لا في الحقائق الخبرية، ولا في الحقائق الشرعية.
وأيضًا، فإنه لم يرض أن يكون معه كموسى مع عيسى، وكالعالم مع العالم في الشرع الذي وافقه فيه، بل ادعى أنه يأخذ ما أقره عليه من الشرع من الله في الباطن، فيكون أخذه للشرع عن الله أعظم من أخذ الرسول.
/ وأما ما ادعى امتيازه به عنه وافتقار الرسول إليه ـ وهو موضع اللبنة الذهبية ـ فزعم أنه يأخذه عن المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول.
فهذا كما ترى في حال هذا الرجل، وتعظيم بعض المتأخرين له.
وصرح الغزالي بأن قتل من ادعي أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوة، أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم.
ولا نطيل الكلام في هذا المقام؛ لأنه ليس المقصود هنا.
وأيضًا، فأسماء الله وأسماء صفاته عندهم شرعية سمعية، لا تطلق بمجرد الرأي، فهم في الامتناع من هذه الأسماء أحق بالعذر ممن امتنع من تسمية صفاته أعراضًا.
وذلك أن الصفات التي لنا منها ما هو عرَض كالعلم والقدرة، ومنها ما هو جسم وجوهر قائم بنفسه، كالوجه واليد، وتسمية هذه جوارح وأعضاء أخص من تسميتها أجسامًا؛ لما في ذلك من معنى الاكتساب والانتفاع والتصرف، وجواز التفريق والبعضية.
/الوجه الرابع: أن هذا السؤال لا يختص بهؤلاء، بل إثبات جنس هذه الصفات قد اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أهل الفقه والحديث والتصوف والمعرفة وأئمة أهل الكلام من الكُلاَّبيَّة والكُرّامية والأشعرية، كل هؤلاء يثبتون لله صفة الوجه واليد ونحو ذلك.
وقد ذكر الأشعري في كتاب المقالات أن هذا مذهب أهل الحديث، وقال: إنه به يقول.
فقال في جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: الإقرار بكذا وكذا، وأن الله على عرشه استوى، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وأن له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن :27]
وقد قدمنا فيما تقدم أن جميع أئمة الطوائف هم من أهل الإثبات، وما من شيء ذكره أبو الفرج وغيره مما هو موجود في الحنبلية ـ سواء كان الصواب فيه مع المثبت أو مع النافي، أو كان فيه تفصيل ـ إلا وذلك موجود فيما شاء الله /من أهل الحديث والصوفية، والمالكية، والشافعية، والحنفية ونحوهم، بل هو موجود في الطوائف التي لا تنتحل السنة والجماعة، والحديث، ولا مذهب السلف، مثل الشيعة وغيرهم، ففيهم في طرفي الإثبات والنفي ما لا يوجد في هذه الطوائف.
وكذلك في أهل الكتابين ـ أهل التوراة والإنجيل ـ توجد هذه المذاهب المتقابلة في النفي والإثبات، وكذلك الصابئة من الفلاسفة وغيرهم لهم تقابل في النفي والإثبات، حتى إن منهم من يثبت ما لا يثبته كثير من متكلمة الصفاتية، ولكن جنس الإثبات على المتبعين للرسل أغلب، من الذين آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين. وجنس النفي على غير المتبعين للرسل أغلب، من المشركين والصابئة المبتدعة.
وقد ذكرنا ـ في غير هذا الجواب ـ مذهب سلف الأمة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف، بحيث لا يبقى لأحد من الطوائف اختصاص بالإثبات.
ومن ذلك ما ذكره شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي، في كتابه الذي سماه [الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، إلزامًا لذوي البدع والفضول]، وكان من أئمة الشافعية، ذكر فيه من كلام الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، والبخاري ـ صاحب الصحيح ـ / وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم.
وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام، وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم دون غيرهم؛ لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقًا وغربًا إلى مذاهبهم؛ ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم، وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها، من جودة الحفظ والبصيرة، والفطنة والمعرفة بالكتاب، والسنة، والإجماع والسند والرجال، والأحوال، ولغات العرب، ومواضعها، والتاريخ، والناسخ، والمنسوخ، والمنقول، والمعقول، والصحيح، والمدخول في الصدق، والصلابة، وظهور الأمانة، والديانة، ممن سواهم.
قال: وإن قصر واحد منهم في سبب منها، جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم، فإن غيرهم من الأئمة ـ وإن كانوا في منصب الإمامة ـ لكن أخلَّوا ببعض ما أشرت إليه مجملاً من شرائطها؛ إذ ليس هذا موضعًا لبيانها.
قال: ووجه ثالث لابد من أن نبين فيه، فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزامًا للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه، أو يبدعه، أو يكفره، فانتحال مذهبه ـ مع مخالفته / له في العقيدة ـ مستنكر ـ والله ـ شرعًا وطبعًا، فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له : هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد. ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذًا عن سواء السبيل فيما تزعمه؛ إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد.
قال:وقد افتتن ـ أيضًا ـ خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية،وهذه ـ والله ـ سُبَّة وعار، وفلتة تعود بالوبال والنكال، وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار، فإن مذهبهم ما رويناه: من تكفيرهم الجهمية، والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية.
وبسط الكلام في مسألة اللفظ إلى أن قال: فأما غير ما ذكرناه من الأئمة، فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم.
قال: فإن قيل: فهلا اقتصرتم إذاً على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث، وهم الأئمة؛ الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، إذ لا نرى أحدًا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم ؟
قلنا: لأن من ذكرناه من الأئمة ـ سوى هؤلاء ـ أرباب المذاهب في الجملة، إذ كانوا قدوة في عصرهم، ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة. وذلك أن ابن عيينة كان قدوة، ولكن لم يصنف في / الذي كان يختاره من الأحكام، وإنما صنف أصحابه، وهم الشافعي، وأحمد، وإسحاق، فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم.
وأما الليث بن سعد، فلم يقم أصحابه بمذهبه، قال الشافعي: لم يرزق الأصحاب إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما، فاندرج مذهبه تحت مذهبهما.
وأما الأوزاعي، فلا نرى له في أعم المسائل قولاً إلا ويوافق قول مالك، أو قول الثوري أو قول الشافعي فاندرج اختياره ـ أيضًا ـ تحت اختيار هؤلاء. وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما.
قال: فإن قيل: فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة؟ قلت: من التعليقة للشيخ أبي حامد الإسفرائيني، التي هي ديوان الشرائع، وأم البدائع في بيان الأحكام، ومذاهب العلماء الأعلام، وأصول الحجج العظام، في المختلف والمؤتلف.
قال: وأما اختيار أبي زُرْعَة، وأبي حاتم في الصلاة والأحكام ـ مما قرأته وسمعته من مجموعيهما ـ فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور. وأما البخاري فلم أر له اختيارًا، ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول: استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق.
فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم، دون غيرهم؛ إذ هم أرباب / المذاهب في الجملة، ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة، وليس من سواهم في درجتهم، وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم.
ثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر: في ذكر خلاصة تحوي مناصيص الأئمة بعد أن أفرد لكل منهم فصلاً قال: لما تتبعت أصول ما صح لي روايته، فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الأئمة، فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتها، وافتتحت كل [فصل] بنيف من المحامد، يكون لإمامتهم إحدى الشواهد، داعية إلى اتباعهم، ووجوب وفاقهم، و تحريم خلافهم وشقاقهم، فإن اتباع من ذكرناه من الأئمة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغنا عن الصحابة والتابعين؛ إذ لا يسع مسلمًا خلافه، ولا يعذر فيه، فإن الحق لا يخرج عنهم؛ لأنهم الأدلاء، وأرباب مذاهب هذه الأمة، والصدور والسادة، والعلـماء القـادة، أولـو الــدين والــديانة، والصــدق والأمانة، والعــلم الوافر،والاجتهاد الظاهر؛ ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع، فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله، حتى صاروا أرباب المذاهب في المشارق والمغارب، فليرضوا كذلك بهم في الأصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه ودعوا إليه.
قال: فإنا نعلم قطعًا أنهم أعرف قطعًا بما صح من معتقد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، لجودة معارفهم وحيازتهم شرائط الإمامة، ولقرب عصرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما بيناه في أول الكتاب.
/ قال: ثم أردت ـ ووافق مرادي سؤال بعض الإخوان ـ أن أذكر خلاصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم، فإنها أقرب إلى الحفظ، وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب، فاستعنت بمن عليه التكلان، وقلت: إن الذي آثرناه من مناصيصهم يجمعه فصلان: أحدهما: في بيان السنة وفضلها. والثاني :في هجران البدعة وأهلها.
أما الفصل الأول: فاعلم أن [السنة] طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسنن بسلوكها وإصابتها. وهي أقسام ثلاثة :أقوال، وأعمال، وعقائد. فالأقوال: نحو الأذكار والتسبيحات المأثورة. والأفعال: مثل سنن الصلاة والصيام والصدقات المذكورة، ونحو السير المرضية، والآداب المحكية ، فهذان القسمان في عداد التأكيد والاستحباب، واكتساب الأجر والثواب. والقسم الثالث: سنة العقائد، وهي من الإيمان إحدى القواعد.
قال: وها أنذا أذكر ـ بعون الله ـ خلاصة ما نقلته عنهم مفرقًا، وأضيف إليه ما دُوِّن في كتب الأصول مما لم يبلغني عنهم مطلقًا، وأرتبها مرشحة، وببعض مناصيصهم موشحة، بأوجز لفظ على قدر وسعي، ليسهل حفظه على من يريد أن يعي، فأقول:
ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلاثة أضرب: ضرب يتعلق بأسماء الله، وذاته، وصفاته، وضرب يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه ومعجزاته، وضرب يتعلق بأهل الإسلام في أولاهم وأخراهم.
/ أما الضرب الأول: فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات ودل القرآن المبين، والحديث الصحيح المتين على ثبوتها .
قال ـ رحمه الله تعالى ـ وهي أن الله ـ تعالى ـ أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم عليٌّ عظيم، رفيع مجـيد وله بطش شديـد، وهـو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو، والكلام، والسلام، والقول، والنداء، والتجلي، واللقاء، والنزول، والصعود، والاستواء، وأنه ـ تعالى ـ في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه.
قال مالك: إن الله في السماء وعلمه في كل مكان، وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض، وقال سفيان الثوري: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد:4] قال: علمه. قال الشافعي: إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، قال أحمد: إنه مستوٍ على العرش عالم بكل مكان. وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء، / وإنه يعلو على كرسيه، والإيمان بالعرش والكرسي، وما ورد فيهما من الآيات والأخبار.
وأن الكلم الطيب يصعد إليه، وتعرج الملائكة والروح إليه، وأنه خلق آدم بيديه، وخلق القلم وجنة عدن وشجرة طوبى بيديه،وكتب التوراة بيديه، وأن كلتا يديه يمين، وقال ابن عمر: خلق الله بيديه أربعة أشياء: آدم، والعرش، والقلم، وجنة عدن، وقال لسائر الخلق: كن فكان،وأنه يتكلم بالوحي كيف يشاء، قالت عائشة ـ رضي الله عنها: لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى.
وأن القرآن كلام الله بجميع جهاته منزل غير مخلوق، ولا حَرْفٌ منه مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، قال عبد الله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر، وأن الكتب المنزلة على الرسل مائة وأربعة كتب كلام الله غير مخلوق، قال أحمد: وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلاوة الناس وكيفما يقرأ وكيفما يوصف، فهو كلام الله غير مخلوق، قال البخاري: وأقول: في المصحف قرآن، وفي صدور الرجال قرآن، فمن قال غير هذا يستتاب، فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر.
قال: وذكر الشافعي المعتقد بالدلائل، فقال: لله أسماء وصفات جاء بها / كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها ـ إلى أن قال ـ نحو إخبار الله ـ سبحانه ـ إيانا أنه سميع بصير، وأن له يدين لقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}]المائدة:64]، وأن له يمينًا بقوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وأن له وجهًا لقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص:88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وأن له قدمًا لقوله: (حتى يضع الرب فيها قدمه). يعني: جهنم.
وأنه يضحك من عبده المؤمن لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله: (إنه لقى الله وهو يضحك إليه)، وأنه يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه ليس بأعور، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الدجال فقال:(إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم،كما يرون القمر ليلة البدر، وأن له إصبعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن).
قال: وسوى ما نقله الشافعي أحاديث جاءت في الصحاح والمسانيد، وتلقتها الأمة بالقبول والتصديق، نحو ما في الصحيح من حديث الذات، وقوله: (لا شخص أغير من الله)، وقوله: (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني)، وقوله: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله،من أجل ذلك حرم /الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، وقوله: (يد الله ملأى)، وقوله: (بيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)، وقوله: (إن الله يقبضُ يوم القيامة الأرضين، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك).
ونحوه قوله: (ثلاث حثيات من حثيات الرب)، وقوله: (لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه)، وقوله في حديث أبي رزِين: قلت: يا رسول الله، فما يفعل ربنا بنا إذا لقيناه؟ قال:(تعرضون عليه بادية له صفحاتكم، لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء، فينضح قبلكم، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة). أخرجه أحمد في المسند.
وحديث: القبضة التي يخرج بها من النار قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمَمًا،فيلقيهم في نهر من أنهار الجنة يقال له: نهر الحياة.[وقوله حُمَمًا: أي مثل الفَحْمَة سوادًا].
ونحو الحديث: (رأيت ربي في أحسن صورة)، ونحو قوله:(خلق آدم على صورته)، وقوله: (يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه)، وقوله: (كلم أباك كفاحًا)، وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له) وقوله: (يتجلى لنا ربنا يوم القيامة ضاحكًا)
وفي حديث المعراج في الصحيح: (ثم دنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)، وقوله: (كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش: / إن رحمتي سبقت غضبي)، وقوله: (لا تزال جهنم يلقي فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ـ وفي رواية: رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قَد قَدِ وفي رواية: قَطِ قَطِ ـ بعزتك).
ونحو قوله: (فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)، وقوله: (يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان).
إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا اعتقادنا فيها، وفي الآي الواردة في الصفات: أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولانتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نُعْمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، بل نؤمن بها ونَكِل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم.
روينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب ـ عز وجل ـ فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات فلا يدركه أحد ـ الحديث إلى آخره.
/ وكما روينا عن مالك، والأوزاعي، وسفيان، والليث، وأحمد بن حنبل، أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول: أمِرُّوها كما جاءت.
وكما روى عن محمد بن الحسن ـ صاحب أبي حنيفة ـ أنه قال في الأحاديث التي جاءت: (إن الله يهبط إلى السماء الدنيا) ونحو هذا من الأحاديث: إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها، ولا نفسرها. انتهى كلام الكرجي ـ رحمه الله تعالى.
والعجب أن هؤلاء المتكلمين، إذا احتج عليهم بما في الآيات والأحاديث من الصفات قال: قالت الحنابلة: إن الله، كذا وكذا، بما فيه تشنيع وترويج لباطلهم، والحنابلة اقتفوا أثر السلف، وساروا بسيرهم، ووقفوا بوقوفهم، بخلاف غيرهم، والله الموفق.
النوع الثاني: أن هذا الكلام ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم، فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين، وأهل الكتاب، لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه، والباطل الذي معهم، فقد قال الله ـ عز وجل ـ لنبيه / صلى الله عليه وسلم: \{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
فلو كان خصم من يتكلم بهذا الكلام ـ سواء كان المتكلم به أبو الفرج أو غيره، من أشهر الطوائف بالبدع كالرافضة ـ لكان ينبغي أن يذكر الحجة، ويعدل عما لا فائدة فيه؛ إذ كان في مقام الرد عليهم، دع والمنازعون له ـ كما ادعاه ـ هم عند جميع الناس أعلم منه بالأصول والفروع. وهو في كلامه ورده لم يأت بحجة أصلاً لا حجة سمعية، ولا عقلية ـ وإنما اعتمد تقليد طائفة من أهل الكلام ـ قد خالفها أكثر منها من أهل الكلام ـ فقلدهم فيما زعموا أنه حجة عقلية، كما فعل هذا المعترض.
ومن يرد على الناس بالمعقول إن لم يبين حجة عقلية، وإلا كان قد أحال الناس على المجهولات، كمعصوم الرافضة، وغوث الصوفية.
فأما قوله: إن مثل هؤلاء لا يحدثون، فيقال له: قد بعث الله الرسل إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الله، فمن الذي أسقط الله مخاطبته من الناس ؟ دع من تعرف أنت وغيرك ممن فضلهم الله ما ليس هذا موضعه،ولو أراد سفيه أن يرد على الراد بمثل رده لم يعجز عن ذلك.
وكذلك قوله: إنهم يكابرون العقول. فنقول: المكابرة للعقول / إما أن تكون في إثبات ما أثبتوه، وإما أن تكون في تناقضهم بجمع من إثبات هذه الأمور ونفي الجوارح.
أما الأول: فباطل؛ فإن المجسمة المحضة التي تصرح بالتجسيم المحض، وتغلو فيه لم يقل أحد قط: إن قولها مكابرة للعقول، ولا قال أحد: إنهم لا يخاطبون، بل الذين ردوا على غالية المجسمة ـ مثل هشام بن الحكم وشيعته ـ لم يردوا عليهم من الحجج العقلية إلا بحجج تحتاج إلى نظر واستدلال، والمنازع لهم ـ وإن كان مبطلاً في كثير مما يقوله ـ فقد قابلهم بنظير حججهم، ولم يكونوا عليه بأظهر منه عليهم، إذ مع كل طائفة حق وباطل.
وإذا كان مثل أبي الفرج ابن الجوزي إنما يعتمد في نفي هذه الأمور على ما يذكره نفاة النظار، فأولئك لا يكادون يزعمون في شيء من النفي والإثبات أنه مكابرة للمعقول، حتى جاحدوا الصانع، الذين هم أجهل الخلق وأضلهم وأكفرهم، وأعظمهم خلافًا للعقول ـ لا يزعم أكثر هؤلاء الذين انتصر بهم أبو الفرج: أن قولهم مكابرة للعقول، بل يزعمون أن العلم بفساد قولهم إنما يعلم بالنظر والاستدلال.
وهذا القول ـ وإن كان يقوله جل هؤلاء النفاة من أهل الكلام، فليس هو طريقة مرضية، لكن المقصود: أن هؤلاء النفاة لا يزعمون أن العلم بفساد / قول المثبتة معلوم بالضرورة ولا أن قولهم مكابرة للعقل، وإن شنعوا عليهم بأشياء ينفر عنها كثير من الناس، فذاك ليستعينوا بنفرة النافرين على دفعهم، وإخماد قولهم، لا لأن نفور النافرين عنهم يدل على حقٍّ أو باطل، ولا لأن قولهم مكابرة للعقل، أو معلوم بضرورة العقل، أو ببديهته فساده. هذا لم أعلم أحدًا من أئمة النفاة ـ أهل النظر ـ يدعيه في شيء من أقواله المثبتة، وإن كان فيها من الغلو ما فيها.
ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين، لا يدل على صحة قول ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدى من الله، بل الاستدلال بذلك هو استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله. فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله. قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، وقال: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال تعالى لداود: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[ص:26] وقال تعالى: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة:77]،
وقال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليهود وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].
فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله وبعد هدى الله الذي بينه لعباده، فهو بهذه المثابة؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والتفرق ـ المخالفين للكتاب والسنة ـ أهل الأهواء، حيث قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدى من الله.
وأما قول المعترض عن أبى الفرج: ـ وكأنهم يخاطبون الأطفال ـ فلم تخاطب الحنابلة إلا بما ورد عن الله ورسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، الذين هم أعرف بالله وأحكامه، وسلمنا لهم أمر الشريعة، وهم قدوتنا فيما أخبروا عن الله وشرعه، وقد أنصف من أحال عليهم، وقد شاقق من خرج عن طريقتهم، وادعى أن غيرهم أعلم بالله منهم، أو أنهم علموا وكتموا، وأنهم لم يفهموا ما أخبروا به، أو أن عقل غيرهم في [باب معرفة الله] أتم، وأكمل، وأعلم مما نقلوه، وعقلوه، وقد قدمنا ما فيه كفاية في هذا الباب، والله الموفق، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله وقدس سره:
فصــل
الأقوال نوعان:
أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًا، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، و البحث عنها إنما هو عما أرادته الأنبياء، فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى، ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلاً، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء، فهو محرف للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.
النوع الثاني: ما ليس منقولاً عن الأنبياء، فمن سواهم ليس معصومًا، فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده،و معرفة صلاحه من فساده، / فمن قال من أهل الكلام:إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، ولا في الأفعال المأمور بها ما لأجله كانت حسنة، ولا المنهي عنها ما لأجله كانت سيئة، فهذا مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة من السلف.
وأول من قاله في الإسلام جهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فإنه أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات، وأول من قال بخلق كلام الله وإنكار رؤيته في الآخرة.
ونصوص الكتاب والسنة في إبطال هذا كثيرة جدًا كقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فسلب النار طبيعتها، وقوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ:15]، وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً} [الأعراف:57]، فأخبر أن الرياح تقل السحاب، أي تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلاً بطبعه، وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ} [الحج:5]، فجعلها فاعلة بطبعها، وقوله: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10] وهو الكثير المنفعة، والزوج: الصنف.
والأدلة في ذلك كثيرة، يخبر فيها أنه يخلق بالأسباب والحكم، وأخبر أنه قائم بالقسط، وأنه لا يظلم الناس شيئًا، فلا يضع شيئًا في غير موضعه، ولا يسوي بين مختلفين، ولا يفرق بين متماثلين، كما قال: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ} الآية [الجاثية:21]، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [ص:28]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية [القلم:35]، وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ}الآية [فاطر:19، 20] وغيرها كثير.
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية [الأعراف:157]، فدلت هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مصلح لفسادها، وليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به؛ إذ هذا قدر مشترك، فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص، وما نهى عنه مختص بأنه منكر محذور، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحرمه مختص بأنه خبيث، ومثل هذا كثير في القرآن وغيره من الكتب، كالتوراة والإنجيل، والزبور، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
/ قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى:
الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة، وتمامها بالجواب عما يعارضها.
فإن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين؛ لقول عمر: نعمت البدعة، وبأشياء أحدثت بعده صلى الله عليه وسلم، وليست مكروهة؛ للأدلة من الإجماع والقياس.
وربما ضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة، بمنزلة من إذا قيل لهم: {تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [المائدة:104]
وما أكثر من يحتج به من المنتسبين إلى علم أو عبادة، بحجج ليست من أصول العلم، وقد يبدي ذوو العلم له مستندًا من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله لها وعمله بها ليس مستندًا إلى ذلك؛ وإنما يذكرها دفعًا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة إنما هي إبداء المدارك التي هي مستند الأقوال والأعمال،/وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق في العلم والعمل، وهذه قاعدة دلت عليها السنة والإجماع مع الكتاب، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك، فقد اتخذ شريكًا لله شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقد يغفر له لأجل تأويل إذا كان مجتهدًا، الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة:31].
فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن الله به ـ من تحليل، أو تحريم، أو استحباب، أو إيجاب ـ فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي. ثم قد يكون كل منهما معفوًا عنه. فيتخلف الذم لفوات شرطه، أو وجود مانعه، وإن كان المقتضى له قائمًا، ويلحق الذم من تبين له الحق، فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه، لهوى أو كسل ونحو ذلك.
وأيضًا، فإن الله عاب على المشركين شيئين:
أحدهما: أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا.
الثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله، كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث / عياض عن مسلم، وقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام:148] فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة. ثم منهم من عبد غير الله؛ ليتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله، كما أحدثت النصارى من العبادات.
وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين، إما اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه.
ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم، أن الأعمال عبادات وعادات، فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به.
/ سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عن رجل قال:
إذا كان المسلمون مقلدين، والنصارى مقلدين، واليهود مقلدين، فكيف وجه الرد على النصارى واليهود، وإبطال مذهبهم والحالة هذه؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين؟
فأجاب ـ رضي الله عنه:
الحمد لله، هذا القائل كاذب ضال في هذا القول، وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة، كالذين ذكر الله عنهم أنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69، 70]، ونظائر هذا في القرآن كثير.
فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها، وترك اتباع الحق / الذي يجب اتباعه، فهذا هو المقلد المذموم، وهذه حال اليهود والنصارى، بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة، الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66ـ 86]،
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} إلى قوله: {خَذُولًا} [الفرقان:27ـ 29].
وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166، 167]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} إلى قوله:
{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر:47، 48] وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب.
والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله، إما أن يتبع الظن، وإما أن يتبع ما يهواه، وكثير يتبعهما.
وهذه حال كل من عصى رسول الله من المشركين وأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن أهل البدع والفجور من هذه الأمة، كما قال تعالى: /{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} إلى قوله: {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23]، والسلطان: هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الهدى الذي جاءهم من عند الله، كما قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} إلى قوله: {بِبَالِغِيهِ} [غافر:65].
وقال لبني آدم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123ـ127].
وبيان ذلك: أن الشخص إما أن يبين له أن ما بعث الله به رسوله حق، ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق، فهذا متبع للظن، والأول متبع لهواه... اجتماع الأمرين: قال تعالى في صفة الأولين: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} إلى قوله: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
وقال تعالى في صفة الأخسرين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}/الآية [الكهف: 103] وقال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء}[فاطر:8].
فالأول: حال المغضوب عليهم، الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه، كما هو موجود في اليهود.
والثاني: حال الذين يعملون بغير علم، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص:50].
وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه، وكذلك من اتبع الرسول بغير بصيرة ولا تبين، وهو الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل الإيمان إلى قلبه، كالذي يقال له في القبر: من ربك ؟ وما دينك؟ وما نبيك؟. فيقول: هاه، هاه، لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته ـ هو مقلد ـ فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، أي: لمات.
وقد قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. فمن لم يدخل الإيمان في قلبه وكان مسلمًا في الظاهر، فهو من المقلدين المذمومين.
فإذا تبين أن المقلد مذموم ـ وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه ـ كالذي يترك طاعات رسل الله، ويتبع ساداته وكبراءه، أو يتبع الرسول ظاهرًا / من غير إيمان في قلبه،تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليدًا مذمومًا، وكذلك المنافقون من هذه الأمة.
وأما أهل البدع، ففيهم بر وفجور، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، إنما يتبعونهم لأجل أنهم رسل الله، وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا ومحمد صلىالله عليه وسلم أولى وأحرى.
مثال ذلك: إذا قال اليهود والنصارى: قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى ـ مع دعواه النبوة ـ ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه، وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجئ به مفتر كذاب ـ ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه ـ وإنما يجىء به مع دعوى النبوة نبي صادق. قيل له: كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى.
فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشريعة، ونقلوا ما جاء به من الآيات المعجزات، أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى، وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع، والعمل الصالح وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما / من الفرق أعظم مما بين العَرَم [العَرَم: اللحم. يقال: إن جزوركم لطيب العَرَمَةَ، أي: طيب اللحم] والعِرْق.
فإن الذى عند المسلمين، من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وملائكته وأنبيائه ورسله، ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى، وهذا بين لكل من يبحث عن ذلك.
وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل: الصلوات الخمس، وغيرها من الصلوات، والأذكار والدعوات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب، وما عندهم من الشريعة في المعاملات، والمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب.
فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع، وعمل صالح، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعى.
والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم، فإنما حصل بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن مع هذا أن يكون موسى وعيسى نبيين، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس بنبي، وأن اليهود والنصارى على الحق؟!
/ فما هم عليه من الهدى ودين الحق، أعظم مما عند اليهود والنصارى، وذلك إنما تلقوه من نبيهم.
وهذا القدر يعترف به كل عاقل ـ من اليهود والنصارى ـ يعترفون بأن دين المسلمين حق، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم، كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس، لكن من لم يتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه؛ لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب؛ لأنه إن كان دينه حقًا فديننا أيضًا حق، والطريق إلى الله ـ تعالى ـ متنوعة، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة، فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجح على الآخر، فأهل المذاهب الأخرى ليسوا كفارًا ولا من أهل الكتاب.
هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون[المتظرفون، يقال: تَكَيَّسَ الرجل: إذا تَظَرَّف] من أهل الكتاب، والمتفلسفة ونحوهم، وبطلانها ظاهر، فإنه كما علم علمًا ضروريًا متواترًا أنه دعا المشركين إلى الإيمان، فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين، فجاهد بني قينقاع، وبني النضير، وقريظة، وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن محمد / مولاه الذي كان تبناه، وجعفر وغيرهما من أهله، وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران.
وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده،جاهدوا أهل الكتاب، وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون.
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به، مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه، ويكفر من لم يتبعه منهم، ويذمه ويلعنه، والوعيد له، كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه، والوعيد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم}الآية [النساء:47]، وفي القرآن من قوله: يا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل، ما لا يحصي إلا بكلفة.
وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} الآية إلى قوله: {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 1ـ7]. ومثل هذا في القرآن كثير جدًا. وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ:28].
واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم: (فُضِّلْتُ على الأنبياء بخمس) ذكر فيها أنه قال:(كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس، فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر ـ الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته ـ أنه دعا أهل الكتاب إلى / الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، فحاصر بني قينقاع، ثم أجلاهم إلى أذْرِعَات ] بلد في أطراف الشام]، وحاصر بني النضير، ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر.
ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد، وقتل رجالهم، وسبى حريمهم، وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في سورة الأحزاب، وقاتل أهل خيبر حتي فتحها، وقتل من قتل من رجالهم، وسبى من سبى من حريمهم، وقسم أرضهم بين المؤمنين، وقد ذكرها الله ـ تعالى ـ في سورة الفتح، وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك، وفيها أنزل الله سورة براءة.
وفي عامة السور المدنية، مثل البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغير ذلك من السور المدنية، من دعوة أهل الكتاب، وخطابهم، ما لا تتسع هذه الفتوى لِعُشْرِهِ.
ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار، الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له، وأطوعهم لأمره، وأحفظهم لعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس، فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون.
/ ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
قال سعيد بن جبير:تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، ومعنى الحديث متواتر عنه، معلوم بالاضطرار، فإذا كان الأمر كذلك، لزم بأنه رسول الله إلى كل الطوائف، فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم، فإن رسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم، وأموالهم، وديارهم بغير إذن الله.
فمن قال: إن الله أمره بذلك وفعله، ولم يكن الله أمره بذلك، كان كاذبًا مفتريًا ظالمًا{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] وكان مع كونه ظالمًا مفتريًا، من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادًا، وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم، لا يقولون إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا دخل الجنة، ومن عصانا دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا نبي صادق، أو متنبئ كذاب، كمسيلمة والأسود وأمثالهما.
فإذا علم أنه نبي كيفما كان، لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقًا، وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء:64] وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب، /وأنه تجب عليهم طاعته، كان ذلك حقًا؛ ومن أقر بأنه رسول الله، وأنكر أن يكون مرسلاً إلى أهل الكتاب، بمنزلة من يقول: إن موسى كان رسولاً، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وأن الله لم يأمره بذلك، وأن الله لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوراة، ولا كلمه على الطور، ومن يقول: إن عيسى كان رسول الله، لم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وأنه ظلم اليهود، وأمثال ذلك من المقالات، التي هي أكفر المقالات.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} الآية [النساء:150ـ152]، وقال لبني إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} إلى قوله: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطعة، يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق، دون اليهود والنصارى، فإنها مبنية على مقدمتين:
إحداهما: أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته، وهدي أمته أبين وأوضح، تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وزيادة، فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك، وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة، وما جاء به، وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء / بما عليه أمته، وإن شاء بما بعث به من المعجزات، فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى، كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بها أبين وأكمل.
والمقدمة الثانية: أنه أخبر أن رسالته عامة إلى أهل الأرض، من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلاً إلى بعض الناس دون بعض، وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر، والدلائل القطعية.
وأما اليهود والنصارى، فأصل دينهم حق، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] لكن كل من الدينين مبدل منسوخ، فإن اليهود بدلوا وحرفوا، ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح صلى الله عليه وسلم.
ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى ـ مثل نبوة الأنبياء، وهي أكثر من عشرين نبوة وغيرها ـ تبين أنهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ، وتبين صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من الأعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين، ما قد صنف فيه العلماء مصنفات، وفيها ـ أيضا ـ من التناقض والاختلاف مايبين ـ أيضًا ـ وقوع التبديل، وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما يبين أنها منسوخة، فعندهم ما يدل على هذه المطالب، وقد ناظرنا غير واحد / من أهل الكتاب وبينا لهم ذلك، وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم، ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك.
وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر، ما يبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الذي بعثت به الرسل قبله، وأخبر من توحيد الله وصفاته بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، وقال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس:94].
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل، ولكن هذا حكم معلق بشرط، والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه، وفي ذلك سعة لمن شك، أو أراد أن يحتج، أو يزداد يقينًا.
فصــل
فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب، وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء؛ لا موسى، ولا عيسى، ولا غيرهما ، فللمخاطبة طرق:
منها: أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم ـ من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم ـ نظير الكلام بين المسلمين وأهل الكتاب.
فنقول: من المعلوم لكل عاقل ـ له أدنى نظر وتأمل ـ أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل، فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل، إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه، وعند أهل الملل ما لا يوجد عند غيرهم، وذلك أن العلوم والأعمال نوعان:
نوع يحصل بالعقل؛ كعلم الحساب والطب، وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك، فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل، فإن علوم المتفلسفة ـ من علوم المنطق والطبيعة والهيئة، وغير ذلك ـ من متفلسفة الهند واليونان، وعلوم فارس والروم لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها، لكمال عقولهم، وحسن ألسنتهم، وكان / كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين، وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل، وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية، وعلوم الديانات، فهذه مختصة بأهل الملل، وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية، فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة. فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم إلى دلالة العقول عليها، فهي عقلية شرعية، فليس لمخالف الرسول أن يقول: هذه لم تعلم إلا بخبرهم، فإثبات خبرهم بها دور، بل يقال: بعدالتهم وإرشادهم، وتبيينهم للمعقول، صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة، والأقيسة العقلية.
وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبطلان قول من خالفهم.
النوع الثاني: ما لا يعلم إلا بخبر الرسل، فهذا يعلم بوجوه:
منها: اتفاق الرسل على الإخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم، فإن المخبر إما أن يكون صادقًا خبره مطابقًا لمخبره، وإما ألا يكون، وإذا لم يكن خبره مطابقًا لمخبره، فإما أن يكون متعمدًا للكذب ،وإما أن يكون مخطئًا، فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد، كان خبره صدقًا لا محالة.
ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة، لا يمكن في العادة خطؤهم، وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ، ولا يمكن أن يقال إنه يمكن الكذب في مثل ذلك، أفاد خبرهما العلم، وإن لم يعلم /حالهما، فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الأمور الأسرار، ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الأول، فأخبر عن تلك المناجاة والأسرار مثلما أخبر به الأول، جزمنا قطعًا بصدقهما.
ومعلوم أن مـوسى أخبــر بما أخــبر به قبل أن يبعث محمـد صلى الله عليه وسلم، وقـبل أن يبعث المسيح .
ومعلوم ـ أيضًا ـ لكل من كان عالمًا بحال محمد صلى الله عليه وسلم، أنه نشأ بين قوم أميين، لا يقرؤون كتابًا ولا يعلمون علوم الأنبياء، وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والإنجيل، ونبوة الأنبياء.
وقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلم من توحيد اللّه وصفاته، وأسمائه وملائكته وعرشه وكرسيه، وأنبيائه ورسله، وأخبارهم وأخبار مكذبيهم، بنظير ما يوجد في كتب الأنبياء، من التوراة وغيرها.
فمن تدبر التوراة والقرآن، علم أنهما جميعًا يخرجان من مشكاة واحدة، كما ذكر ذلك النجاشي، وكما قال ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.
ولهذا قرن اللّه ـ تعالى ـ بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} إلى قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:48، 49]، وقالت الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} الآية [الأحقاف:30]، وقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} إلى قوله: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:91، 92].
فهذه الطريقة، كل من علم ما جاء به موسى والنبيون قبله وبعده، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، علم علمًا يقينًا أنهم كلهم مخبرون عن اللّه، صادقون في الإخبار، وأنه يمتنع ـ والعياذ بالله ـ خلاف الصدق من خطأ وكذب.
ومن الطرق: الطرق الواضحة القاطعة المعلومة إلى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الأنبياء، وأحوال من كذبهم وكفر بهم، حال نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وحال إبراهيم وقومه، وحال موسى وفرعون، وحال محمد صلى الله عليه وسلم وقومه.
وهذا الطريق قد بينها اللّه في غير موضع من كتابه كقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]، وقال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} إلى قوله
:{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} إلى قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:42ـ46]، وقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟} [الصافات:137، 138]
وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] .
فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة، ويستدل بذلك على عقوبة اللّه لهم، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} الآيتين [الإسراء:17، 18]. فذكر طريقين يعلم بهما ذلك:
أحدهما: ما يعاين ويعقل بالقلوب.
والثاني: ما يسمع، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الأنبياء، ومصدقهم ومكذبهم، وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه ـ سبحانه ـ عاقب مكذبهم وانتقم منهم، وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه، وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب اللّه على أهله، وأن طاعة الرسل طاعة للّه، ومعصيتهم معصية للّه.
ومن الطرق أيضًا: أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة، وآياتهم القاهرة، وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد مدعي النبوة وهو كذاب، من غير تناقض، ولا تعارض، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
/ ومن الطرق: أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب، ولا ينكره إلا جاهل غاو.
وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير، فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به، ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض، وكفر ببعض. واللّه ـ سبحانه ـ وتعالى ـ أعلم، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه أجمعين.
/ سُئِلَ شيخُ الإِسْلام أَبُو العَبَّاس ابن تَيْمِية ـ قدس اللَّه رُوحَــهُ ـ عـن [الروح]، هل هي قديمة، أو مخلوقة؟ وهل يُبدَّع من يقول بقدمها أم لا؟ وما قول أهل السنة فيها، وما المراد بقوله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. هل المفوض إلى اللّه ـ تعالى ـ أمر ذاتها، أوصفاتها، أو مجموعهما؟ بينوا ذلك من الكتاب والسنة.
فأجاب ـ رضي اللَّه عَنْهُ:
الحمد للّه رب العالمين، روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم.
وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في كتاب [اللقط] لما تكلم على خلق الروح قال: النَّسَم: الأرواح. قال: وأجمع الناس على أن اللّه خالق الجثة، / وبارئ النسمة، أي: خالق الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال: والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة.
وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن مَنْدَه في ذلك كتابًا كبيرًا في [الروح والنفس]، وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئًا كثيرًا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره ،كما ذكره أحمد في كتابه في [الرد على الزنادقة والجهمية] فقال في أوله:
الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنور اللّه أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب / اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين، وتكلم على ما يقال: إنه متعارض من القرآن إلى أن قال:
وكذلك الجهم وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، وأضلوا بشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم ـ عدو اللّه ـ أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، كان أكثر كلامه في اللّه، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم [السمنية[فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك.
فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: بلى. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا.قالوا: فهل شممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا له: فوجدت له مَجَسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح اللّه، من ذاته، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا ؟ قال بلى. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فهل سمعت / كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسًا ومَجَسّا؟ قال: لا. قال: كذلك اللّه، لا يرى له وجه، و لا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.
وساق الإمام أحمد الكلام في [القرآن] و[الرؤية] وغير ذلك، إلى أن قال: ثم إن الجهم ادعى أمرًا، فقال: إنا وجدنا آية في كتاب اللّه تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا: أي آية؟ قال: قول اللّه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء:171] وعيسى مخلوق.
فقلنا: إن اللّه منعك الفهم في القرآن، عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن؛ لأنه يسميه مولودًا، وطفلًا، وصبيًا، وغلامًا، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ولكن المعنى في قول اللّه:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] ،فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من اللّه قول، وليس الكن مخلوقًا.
وكذب النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح اللّه وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى: / عيسى روح اللّه من ذات اللّه، وكلمة اللّه من ذات اللّه، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.
وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس هو الكلمة. قال: وقول اللّه: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} يقول من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية:13]، يقول: من أمره، وتفسير روح اللّه: أنها روح بكلمة اللّه، خلقها اللّه، كما يقال: عبد اللّه، وسماء اللّه، فقد ذكر الإمام أحمد أن زنادقة النصارى هم الذين يقولون: إن روح عيسى من ذات اللّه، وبين أن إضافة الروح إليه إضافة ملك وخلق، كقولك: عبد اللّه، وسماء اللّه، لا إضافة صفة إلى موصوف، فكيف بأرواح سائر الآدميين؟ وبين أن هؤلاء الزنادقة الحلولية يقولون بأن اللّه إذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه.
وقال الشيخ أبو سعيد الخرازـ أحد أكابر المشائخ الأئمة من أقران الجنيد، فيما صنفه ـ في أن الأرواح مخلوقة، وقد احتج بأمور منها: لو لم تكن مخلوقة لما أقرت بالربوبية، وقد قال لهم حين أخذ الميثاق ـ وهم أرواح في أشباح؛ كالذر ـ: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، وإنما خاطب الروح مع الجسد، وهل يكون الرب إلا لمربوب ؟ قال: ولأنها لو لم تكن مخلوقة ما كان على النصارى لوم في عبادتهم عيسى، ولا حين قالوا: إنه ابن اللّه، وقالوا: هو اللّه.
/قال: ولأنه لو كان الروح غير مخلوق ما دخلت النار، ولأنها لو كانت غير مخلوقة لما حجبت عن اللّه، ولا غيبت في البدن، ولا ملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف؛ ولأنها لو لم تكن مخلوقة لم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج. ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ وأرواح الكفار سود مثل الحمم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع في الجنة، وتأوى في فناء العرش)، وأرواح الكفار في برهوت [بئر عميقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها].
وقال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري: هذه الأرواح من أمر اللّه مخلوقة .خلقها اللّه من الملكوت، كما خلق آدم من التراب، وكل عبد نسب روحه إلى ذات اللّه أخرجه ذلك إلى التعطيل، والذين نسبوا الأرواح إلى ذات اللّه هم أهل الحلول الخارجون إلى الإباحة، وقالوا: إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا، وصرنا أحرارًا، ووضعت عنا العبودية، وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء، والأموال وغير ذلك. وهم زنادقة هذه الأمة وذكر عدة مقالات لها وللزنادقة .
قلت: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان:
صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من / ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول، والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة.
وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها ـ من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة ـ يزعمون أنها من ذات اللّه، وهؤلاء أشرُّ قولًا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه، ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد.
وقد كفَّر اللّه النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد ؟ حتى في فرعون، وهامان، وقارون، وكل ما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن اللّه ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة .
فإن الإنسان عبارة عن البدن والروح معًا، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح،كما قال أبو الدرداء: إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني.وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس قال: لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث اللّه ملكًا يقضى بينهما، فيقول: إنما مثلكما كمثل مُقْعَد وأعمى دخلاً بستانًا، فرأى المقعد فيه ثمرًا معلقًا، فقال للأعمى: إني أرى ثمرًا، ولكن / لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه ولكني لا أراه. فقال له المقعد: تعال، فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمر. قال: الملك: فعلى أيهما العقوبة؟ فقالا:عليهما جميعًا قال: فكذلك أنتما.
وأيضًا، فقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض، وتنعم وتعذب، ويقال لها: اخرجي أيتها الروح الطيبة ،كانت في الجسد الطيب، اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ويقال للأولى: أبشري بَروْح ورَيْحان، ويقال للثانية: أبشري بحَمِيم وغَسَّاق وآخر من شكله أزواج، وأن أرواح المؤمنين تعرج إلى السماء، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء.
وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن شَقِيق عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها)، قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك؛ قال: (فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللّه عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل)، قال: (وإن الكافر إذا خرجت روحه)، قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعنًا، (فيقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، قال: فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل). قال أبو هريرة ـ رضي اللّه عنه: فلما ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النتن رد على أنفه ريطة كانت عليه.
/ وفي حديث المعراج الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى آدم، وأرواح بنيه عن يمينه وشماله، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أسْوِدَة، وعن شماله أسودة)، قال: (فإذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى)، قال: (مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح)، قال: (قلت: يا جبريل، من هذا ؟ قال: هذا آدم صلى الله عليه وسلم ،وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى).
[والأسودة جمع سواد، وتجمع على أساود، وهي الجماعات المتفرقة، وقيل: هي جمع لـ (سواد)، وهو الشخص، كذلك؛ لأنه يرى من بعيد] وقد ثبت ـ أيضًا ـ أن أرواح المؤمنين والشهداء وغيرهم في الجنة، قال الإمام أحمد في رواية حنبل: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة، والأبدان في الدنيا، يعذب اللّه من يشاء، ويرحم بعفوه من يشاء. وقال عبد اللّه بن أحمد: سألت أبي عن أرواح الموتى: أتكون في أفنية قبورها؟ أم في حواصل طير؟ أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نَسَمَة المؤمن إذا مات طائر تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه).
وقد روى عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزَّرَازِير[جمع زرزور، وهو نوع من العصافير]، يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها، قال: وقال بعض الناس: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوى إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش.
وقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: سألنا عبد اللّه ـ يعني ابن /مسعود ـ عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث تشاء، ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء؟ ـ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات ـ فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب ،نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا).
وقد قال اللّه تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27ـ30]،
فخاطبها بالرجوع إلى ربها، وبالدخول في عباده ودخول جنته، وهذا تصريح بأنها مربوبة. والنفس هنا هي الروح التي تقبض، وإنما تتنوع صفاتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما ناموا عن صلاة الفجر في السفر ـ قال: (إن اللّه قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء) وفي رواية: (قبض أنفسنا حيث شاء)، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]، والمقبوض المتوفى هي الروح، كما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر)، فضج ناس من أهله فقال:/(لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يُؤَمِّنُون على ما تقولون)، ثم قال: (اللّهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره، ونور له فيه).
وروى مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (ألم تروا أن الإنسان إذا مات شَخَصَ بصره؟) قالوا: بلى. قال: (فكذلك حين يتبع بصره نفسه) فسماه تارة روحًا، وتارة نفسًا.
وروى أحمد بن حنبل، وابن ماجه عن شداد بن أوس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإنه يُؤَمَّن على ما يقول أهل الميت).
ودلائل هذا الأصل وبيان مسمى [الروح والنفس] وما فيه من الاشتراك كثير لا يحتمله هذا الجواب، وقد بسطناه في غير هذا الموضع.
فقد بان بما ذكرناه أن من قال: إن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة، فهو من أعظم أهل البدع الحلولية، الذين يجر قولهم إلى التعطيل، بجعل العبد هو الرب وغير ذلك من البدع الكاذبة المضلة.
وأما قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، فقد قيل: إن الروح هنا ليس هو روح الآدمي، وإنما هو ملك في قوله:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38]، /وقوله}تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] وقيل: بل هو روح الآدمي، والقولان مشهوران، وسواء كانت الآية تعمهما، أو تتناول أحدهما، فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة لوجهين:
أحدهما: أن الأمر في القرآن يراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38] وهذا في لفظ غير الأمر، كلفظ الخلق والقدرة والرحمة والكلمة وغير ذلك. ولو قيل: إن الروح بعض أمر اللّه أو جزء من أمر اللّه، ونحو ذلك مما هو صريح في أنها بعض أمر اللّه، لم يكن المراد بلفظ الأمر إلا المأمور به لا المصدر؛ لأن الروح عين قائمة بنفسها، تذهب وتجيء وتنعم وتعذب، وهذا لا يتصور أن يكون مسمى مصدر: أمر يأمر أمرًا. وهذا قول سلف الأمة وأئمتها وجمهورها.
ومن قال من المتكلمين: إن الروح عرض قائم بالجسم، فليس عنده مصدر: أمر يأمر أمرًا .
والقرآن إذا سمى أمر اللّه، فالقرآن كلام [اللّه] والكلام اسم مصدر: كَلَّم يُكَلِّم تكليمًا وكلامًا، وتَكَلَّم تَكَلمًا وكلامًا. فإذا سمى أمرًا بمعنى المصدر كان ذلك مطابقًا، لا سيما والكلام نوعان: أمر وخبر.
/ أما الأعيان القائمة بأنفسها فلا تسمى أمرًا لا بمعنى المفعول به وهو المأمور به كما سمى المسيح كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة، وكما يسمى المقدور قدرة والجنة رحمة، والمطر رحمة، في مثل قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]، وفي قول النبي صلىالله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال للجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من شئت)، وقوله: (إن اللَّهَ خلقَ الرحمة ـ يوم خلقها ـ مائة رحمة) ونظائر ذلك كثيرة، وهذا جواب أبي سعيد الخراز، قال: فإن قيل: قد قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] وأمره منه قيل: أمره ـ تعالى ـ هو المأمور به المكون بتكوين المكون له .
وكذلك قال ابن قتيبة في [كتاب المشكل]: أقسام الروح، فقال: هي روح الأجسام التي يقبضها اللّه عند الممات، والروح جبريل، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]، وقال:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87، 253]، أي: جبريل، والروح ـ فيما ذكره المفسرون ـ ملك عظيم من ملائكة اللّه ـ تعالى ـ يقوم وحده فيكون صفًا، وتقوم الملائكة صفًا، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، قال: ونسب الروح إلى اللّه؛ لأنه بأمره، أو لأنه بكلمته.
والوجه الثاني: أن لفظة [من] في اللغة قد تكون لبيان الجنس، كقولهم: باب من حديد. وقد تكون لابتداء الغاية، كقولهم: خرجت من مكة، فقوله تعالى:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ليس نصًا في أن الروح بعض الأمر، ومن / جنسه، بل قد تكون لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء:171] حيث قال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} يقول: من أمره كان الروح منه كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ{ [الجاثية:13]، ونظير هذا أيضًا قوله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل:53].
فإذا كانت المسخرات والنعم من اللّه، ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}؛ أنها بعض ذات اللّه، ومعلوم أن قوله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أبلغ من قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فإذا كان قوله}وَرُوحٌ مِّنْهُ} لا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون بعضًا له، فقوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أولى بألا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون ذلك بعضًا له بل ولا بعضًا من أمره.
وهذا الوجه يتوجه إذا كان الأمر هو الأمر الذي هو صفة من صفات اللّه، فهذان الجوابان كل منهما مستقل، ويمكن أن يجعل منهما جواب مركب، فيقال: قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إما أن يراد بالأمر المأمور به، أو صفة للّه ـ تعالى ـ وإن أريد به الأول أمكن أن تكون الروح بعض ذلك، فتكون مخلوقة، وإن أريد بالأمر صفة [اللّه] كان قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} كقوله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}، وقوله: {جَمِيعًا مِّنْهُ} ونحو ذلك .
وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن الأمر صفة للّه قديمة، وأن روح /بني آدم بعض تلك الصفة، ولم تدل الآية على واحد من المقدمتين، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم .
وقد يجيء اسم الروح في القرآن بمعنى آخر، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، وقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة:22]، ونحو ذلك. فالقرآن الذي أنزله اللّه كلامه، ولكن ليس الكلام في هذا مما يتعلق بالسؤال.
وأما قول السائل: هل المفوض إلى اللّه أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما؟ فليس هذا من خصائص الكلام في الروح، بل لا يجوز لأحد أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على اللّه ما لا يعلم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف:169]، وقد قالت الملائكة لما قال لهم: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:31، 32]، وقد قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، وقال الخضر لموسى ـ لما نقر العصفور في البحر ـ: ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
/ وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم في كل شيء، ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه فيسمعكم ما تكرهون، قال: فسألوه وهو متكئ على العسيب [العسيب: جريدة من النخل]، فأنزل اللّه هذه الآية.
فبين بذلك أن ملك الرب عظيم، وجنوده، وصفة ذلك، وقدرته أعظم من أن يحيط به الآدميون، وهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، فلا يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ولا كل ما في الوجود، فما يعلم جنود ربك إلا هو.
سئل الشَّيخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن قائل يقول: إن لم يتبين لي حقيقة ماهية الجن وكُنْه صفاتهم، وإلا فلا أتبع العلماء في شيء.
فأجــاب: أما كونه لم يتبين له كيفية الجن وماهياتهم، فهذا ليس فيه إلا إخباره بعدم علمه، لم ينكر وجودهم؛ إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة، فإن من الناس من رآهم، وفيهم من رأى من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين.
ومن الناس من كلمهم وكلموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب.
وكذلك ما جرى لغيرنا، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون بما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به.
/ سئل الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الجان المؤمنين: هل هم مخاطبون بفروع الإسلام كالصوم والصلاة، وغير ذلك من العبادات، أوهم مخاطبون بنفس التصديق لا غير ؟
فأجَـــاب: لا ريب أنهم مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلي الإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم. وهذا ما لم أعلم فيه نزاعًا بين المسلمين.
وكذلك لم يتنازعوا أن أهل الكفر والفسوق والعصيان منهم يستحقون لعذاب النار، كما يدخلها من الآدميين، لكن تنازعوا في أهل الإيمان منهم، فذهب الجمهور من أصحاب مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد: إلى أنهم يدخلون الجنة. وروى في حديث رواه الطبراني:أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة [رَبَض الجنة: أي ما حولها خارجا عنها]، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم.
/ وذهب طائفةـ منهم أبو حنيفة فيما نقل عنه ـ إلى أن المطيعين منهم يصيرون ترابًا كالبهائم، ويكون ثوابهم النجاة من النار.
وهل فيهم رسل أم ليس فيهم إلا نذر؟ على قولين:
فقيل: فيهم رسل لقوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130].
وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر، وهذا أشهر، فإنه أخبر عنهم باتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى}الآية [الأحقاف:29 ،30] قالوا: وقوله:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}؟ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ٍ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من المالح، وكقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح:16] والقمر في واحدة.
وأما التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، فدلائله كثيرة، مثل ما في مسلم عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، فانطلقوا) فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: (لكم كل عَظْم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون، وكل بعرة علف لدوابكم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستنجوا بالعظم والروث) وذلك لئلا يفسد عليهم طعامهم وعلفهم، وهذا يبين أن ما أباح لهم من ذلك ما ذكر اسم اللّه عليه دون ما لم يذكر اسم اللّه عليه.
/ وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} إلى قوله: {إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48] فأخبر عن الشيطان أنه يخاف اللّه، والعقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور، وليس هو هنا التصديق.
وأيضًا، فإبليس ـ الذي هو أبو الجن ـ لم تكن معصيته تكذيبًا؛ فإن اللَّه أمره بالسجود، وقد علم أن اللّه أمره، ولم يكن بينه وبين اللّه رسول يكذبه، ولما امتنع عن السجود لآدم عاقبه اللّه العقوبة البليغة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سَجَد ابنُ آدمَ اعتزل الشيطان يبكي) الحديث.
وقد قال ـ تعالى ـ في قصة سليمان: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} إلى قوله: {عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] وقد جعل فى ذلك ما أمرهم به من طاعة سليمان، وقد قال ـ تعالى ـ عن إبليس: إنه عصى ولم يقل: كذب، وقد قال ـ تعالى ـ عن الجن: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} إلى قوله: {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} الآية [الأحقاف:30-32]، فأمروا بإجابة داعي اللّه، الذي هو الرسول. والإجابة والاستجابة هي طاعة الأمر والنهي، وهي العبادة التي خلق لها الثقلان، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
ومن قال: [إن العبادة] هي المعرفة الفطرية الموجودة فيها، وأن ذلك هو الإيمان وهو داخل في الثقلين فقط، فإن ذلك لو كان كذلك لم يكن في الثقلين كافر، واللّه أخبر بكفر إبليس وغيره من الجن والإنس، وقد قال تعالى: /{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85] وأخبر أنه يملؤها منه ومن أتباعه، وهذا يبين أنه لا يدخلها إلا من اتبعه، فعلم أن من يدخلها من الكفار والفساق من أتباع إبليس. ومعلوم أن الكفار ليسوا بمؤمنين، ولا عارفين اللّه معرفة يكونون بها مؤمنين.
ولكن اللام لبيان الجملة الشرعية، المتعلقة بالإرادة الشرعية، كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية [النساء:26[.
وقد تكون لبيان العاقبة الكونية كما في قوله: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} الآية [الأنعام:125] ، وهذا كقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] أي خلق قومًا للاختلاف، وقومًا للرحمة، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179]، فاللام في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وإن كانت هي اللام في هذه الآية، فإن مدلولها لام إرادة الفاعل ومقصوده، ولهذا تنقسم في كتاب اللّه إلى إرادة دينية، وإرادة كونية، كما تنقسم في كتـاب اللّه ـ تعالى ـ الكلمات والأمر والحكم والقضاء، والتحريم والإذن، وغير ذلك .
وأيضًا، فقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا} إلى قوله:{وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]، فبين أن الثقلين جميعًا تلت عليهم الرسل آيات اللّه؛ ولهذا لما قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورة على الصحابة قال: (لَلْجِنُّ كانوا ...) الحديث. دعاهم إلى طاعة اللّه لما فيه من الأمر والنهي، لا إلى مجرد حديث لا طاعة معه، فإن مثل هذا التصديق، كان مع إبليس، فلم يغن عنه من اللّه شيئًا.
والدلائل الدالة على هذا الأصل، وما في الحديث والآثارـ من كون الجن يحجون ويصلون ويجاهدون، وأنهم يعاقبون على الذنب ـ كثيرة جدًا .
وقد قال ـ تعالى ـ فيما أخبر عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11] قالوا: مذاهب شتى؛ مسلمين، ويهود، ونصارى، وشيعة، وسنة.
فأخبر أن منهم الصالحين، ومنهم دون الصالحين، فيكون: إما مطيعًا في ذلك فيكون مؤمنا، وإما عاصيًا في ذلك فيكون كافرًا، ولا ينقسم مؤمن إلى صالح وإلى غير صالح؛ فإن غير الصالح لا يعتقد صلاحه لترك الطاعات، فالصالح هو القائم بما وجب.
/سُئِلَ ـ رَحِمِهَ اللَّهُ ـ عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النطفة تكون أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًاعلقة، ثم أربعين مضغة، ثم يكون التصوير والتخطيط والتشكيل) ثم ورد عن حذيفة بن أسيد: (أنه إذا مر للنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث اللّه ـ تعالى ـ إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها، وعظامها، ثم يقول: يا رب، أذكر، أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق وما الأجل؟) وذكر الحديث، فما الجمع بين الحديثين؟
فأجَـــاب: الحمد للّه رب العالمين، أما الحديث الأول، فهو في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، / فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)
وفي طريق آخر: وفي رواية: (ثم يبعث اللّه ملكًا ويؤمر بأربع كلمات، ويقال: اكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح). فهذا الحديث الصحيح ليس فيه ذكر التصوير متى يكون، لكن فيه أن الملك يكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد، قبل نفخ الروح وبعد أن يكون مضغة.
وحديث أنس بن مالك الذي في الصحيح يوافق هذا وهو مرفوع قال: (إن اللّه عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال الملك: أي رب، ذكر أم أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه). فبين في هذا أن الكتابة تكون بعد أن يكون مضغة.
وأما حديث حذيفة بن أسيد، فهو من أفراد مسلم، ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكًا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها. ثم يقول: يا رب، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يارب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛ ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقضي/ ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص).
فهذا الحديث، فيه أن تصويرها بعد اثنتين وأربعين ليلة، وأنه بعد تصويرها وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، يقول الملك: يا رب، أذكر أم أنثى؟ ومعلوم أنها لا تكون لحما وعظامًا حتى تكون مضغة، فهذا موافق لذلك الحديث في أن كتابة الملك تكون بعد ذلك، إلا أن يقال: المراد تقدير اللحم والعظام.
وقد روى هذا الحديث بألفاظ فيها إجمال بعضها أبين من بعض، فمن ذلك ما رواه مسلم ـ أيضًا ـ عن حذيفة، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إن النطفة تكون في الرحم أربعين ليلة، ثم يَتَسَوَّرُ عليها الذي يخلِّقها فيقول: يا رب، أذكر، أم أنثى؟ فيجعله اللّه ذكرًا، أو أنثى. ثم يقول: يا رب، سوَىٌّ، أو غير سوَىٌّ ؟ فيجعله اللّه ـ تعالى ـ سويًا أو غير سوي ثم يقول: يا رب، ما أجله وخلقه؟ ثم يجعله اللّه شقيًا أو سعيدًا) [يَتَسَوَّرُ عليها، أي: ينزل عليها].
فهذا فيه بيان أن كتابة رزقه وأجله، وشقاوته وسعادته، بعد أن يجعله ذكرًا أو أنثى، وسويًا، أو غير سوي.
وفي لفظ لمسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة أو بخمس وأربعين ليلة. فيقول: يا رب، أشقي، أو سعيد ؟ فيكتب. يا رب، أذكر، أم أنثى ؟ فيكتب رزقه، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، / ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص) فهذا اللفظ فيه تقديم كتابة السعادة والشقاوة، ولكن يشعر بأن ذلك يكتب بحيث مضت الأربعون.
ولكن هذا اللفظ لم يحفظه رواته كما حفظ غيره.
ولهذا شك: أبَعْدَ الأربعين، أو خمس وأربعين؟ وغيره إنما ذكر أربعين، أو اثنين وأربعين، وهو الصواب ؛ لأن من ذكر اثنين وأربعين ذكر طرفى الزمان، ومن قال: أربعين حذفهما، ومثل هذا كثير في ذكر الأوقات، فقدم المؤخر وأخر المقدم. أو يقال: إنه لم يذكر ذلك بحرف [ثم] فلا تقتضي ترتيبًا، وإنما قصد أن هذه الأشياء تكون بعد الأربعين.
وحينئذ فيقال: أحد الأمرين لازم، إما أن تكون هذه الأمور عقيب الأربعين، ثم تكون عقب المائة والعشرين، ولا محذور في الكتابة مرتين، ويكون المكتوب أولا فيه كتابة الذكر والأنثى. أو يقال: إن ألفاظ هذا الحديث لم تضبط حق الضبط.
ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه، ولهذا أعرض البخاري عن روايته، وقد يكون أصل الحديث صحيحًا، ويقع في بعض ألفاظه اضطراب، فلا يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه، الذي لم تختلف ألفاظه، بل قد صدقه غيره من الحديث الصحيح، فقد تلخص الجواب أن ما عارض الحديث المتفق عليه: إما أن يكون موافقًا له في الحقيقة، وإما أن يكون/ غير محفوظ، فلا معارضة، ولا ريب أن ألفاظه لم تضبط، كما تقدم ذكر الاختلاف فيها، وأقربها اللفظ الذي فيه تقدم التصوير على تقدير الأجل والعمل، و الشقاوة والسعادة، وغاية ما يقال فيه: إنه يقتضي أنه قد يخلق في الأربعين الثانية قبل دخوله في الأربعين الثالثة، وهذا لا يخالف الحديث الصحيح، ولا نعلم أنه باطل، بل قد ذكر النساء: أن الجنين يخلق بعد الأربعين، وأن الذكر يخلق قبل الأنثى.
وهذا يقدم على قول من قال من الفقهاء: إن الجنين لا يخلق في أقل من واحد وثمانين يومًا، فإن هذا إنما بنوه على أن التخليق إنما يكون إذا صار مضغة، ولا يكون مضغة إلا بعد الثمانين، والتخليق ممكن قبل ذلك، وقد أخبر به من أخبر من النساء، ونفس العلقة يمكن تخليقها، واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
/ وقالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ـ رَحمهُ اللَّهُ ـ ردًا لقول من قال: كل مولود على ما سبق له في علم اللّه أنه سائر إليه: معلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم اللّه لها، وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقًا على الفطرة.
وأيضًا، فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: (فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانه) معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، فلا فرق بين التهويد والتنصير. ثم قال: فتمثيله صلى الله عليه وسلم بالبهيمة التي ولدت جَمَعاء، ثم جدعت: يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه.
ثم يقال: وقولكم: خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان والكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، فهذا قول فاسد جدًا.
/ فحينـئذ، لا فـرق بالنسبة إلى الفطـرة بين المعـرفة والإنكار، والتهويد والتنصير، والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه، فلما ذكر أن أبويه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول سبب مفصل غير حكم الكفر.
ثم قال: ففي الجملة كل ما كان قابلًا للمدح والذم على السواء، لا يستحق مدحًا ولا ذمًا، واللّه تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجَدْع الأنف، ومعلوم أن كمالها محمود، ونقصها مذموم، فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟ واللّه أعلم.
/ سُئِلَ عَن قَوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ما معناه؟ أراد فطرة الخلق أم فطرة الإسلام؟ وفي قوله: (الشقي من شقي في بطن أمه) الحديث. هل ذلك خاص أو عام. وفي البهائم والوحوش هل يحييها اللّه يوم القيامة أم لا؟
فأجــاب: الحمد للّه؛ أما قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه): فالصواب أنها فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172] وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة.
فإن حقيقة الإسلام أن يستسلم للّه، لا لغيره، وهو معنى لا إله إلا اللّه، وقد ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟): بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللّه: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت /عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا)؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ في المشهور عنه: إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه؛ لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة. وقد روى عنه، وعن ابن المبارك، وعنهما: أنهم قالوا: يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة. وهذا القول لا ينافى الأول، فإن الطفل يولد سليما، وقد علم اللّه أنه سيكفر، فلابد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب، كما تولد البهيمة جمعاء، وقد علم اللّه أنها ستجدع.
وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر: (طبع يوم طبع كافرًا، ولو ترك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا) يعني: طبعه اللّه في أم الكتاب، أي: كتبه وأثبته كافرًا، أي أنه إن عاش كفر بالفعل.
ولهذا لما سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال: (اللّه أعلم بما كانوا عاملين) أي: اللّه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة فإن اللّه يمتحنهم ويبعث إليهم رسولًا في عَرْصَة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار) فهنالك يظهر فيهم ما علمه اللّه سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم.
/ وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين، وعليه تتنزل جميع الأحاديث .
ومثل الفطرة مع الحق، مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس، مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضًا كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًا.
ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن اللّه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق، الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلمًا.
وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع، هي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها.
وأما الحديث المذكور، فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، / ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال:اكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح).
وهذا عام في كل نفس منفوسة، قد علم اللّه ـ سبحانه بعلمه الذي هو صفة له ـ الشقي من عباده والسعيد، وكتب ـ سبحانه ـ ذلك في اللوح المحفوظ، ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود، ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، إلى كتب أخرى يكتبها اللّه ليس هذا موضعها، ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر.
وأما البهائم فجميعها يحشرها اللّه ـ سبحانه ـ كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]، وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [الشورى:29] وحرف [إذا] إنما يكون لما يأتي لا محالة.
والأحاديث في ذلك مشهورة، فإن اللّه ـ عز وجل ـ يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها: كوني ترابًا، فتصير ترابًا. فيقول الكافر حينئذ: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. ومن قال: إنها لا تحيا فهو مخطئ في ذلك أقبح خطأ، بل هو ضال أو كافر، واللّه أعلم.
/ وقال أيضًا ـ رحمه اللّه: (كل مولود يولد على الفطرة)، فإنه ـ سبحانه ـ فطر القلوب على أن ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه، وتنتهي إليه إلا اللّه، وإلا فكل ما أحبه المحب يجد من نفسه أن قلبه يطلب سواه، ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه، ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من أجناسه؛ ولهذا قال: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
/ قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ:
فَصــل
ذكر اللّه الحفظة الموكلين ببني آدم، الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم، في مواضع من كتابه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ}، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [الأنعام:60، 61]، وقال تعالى:
{سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} [الرعد:10، 11]، وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9ـ12] .
وقال تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:1ـ4].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16ـ18]، وقال تعالى: /{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13، 14].
وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28ـ29] ،وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ . وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52، 53]، وقال تعالى...[بياض].
/ سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ:
هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما، أم كل يوم ينزل اللّه إليه ملكين غير أولئك ؟ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؟ وقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، فما معنى الآية؟
فأجَــابَ: الحمد للّه، الملائكة أصناف، منهم من هو موكل بالعبد دائمًا، ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر.
وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلًا، فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار، وأعمال النهار قبل أعمال الليل، تعرض الأعمال على اللّه في كل يوم اثنين وخميس، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وأما أنه كل يوم تبدل عليه الملكان، فهذا لم يبلغنا فيه شيء، واللّه أعلم.
/ سُئلَ عَنْ قَوْله صلى الله عليه وسلم: (إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة) الحديث. فإذا كان الهمّ سرًا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه؟
فَأَجَــابَ: الحمد للّه، قد روى عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال: إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة.
والتحقيق أن اللّه قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء، كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان.
فإذا كان بعض البشر قد يجعل اللّه له من الكشف ما يعلم به أحيانًا ما في قلب الإنسان ـ فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه اللّه ذلك .
وقد قيل في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أن المراد به: الملائكة، واللّه قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد اللّه بن مسعود:(إن للملك لمّةً، وللشيطان لمةً، فَلمّة الملك تصديق بالحق ووعد / بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر). وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال:(ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن). قالوا: وإياك يا رسول اللّه؟ قال: (وأنا، إلا أن اللّه قد أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير).
فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان، علم بها الشيطان.
والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك، علم بها الملك أيضًا ،بطريق الأولى، وإذا علم بها هذا الملك، أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم.
/ سُئِلَ عَنْ عَرْضِ الأدْيَانَ عَنْدَ الْمَوْتِ: هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم لا ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتفتنون في قبوركم) ما المراد بالفتنة ؟ وإذا ارتد العبد ـ والعياذ باللّه ـ هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم لا ؟ أفتونا مأجورين.
فأجَــابَ: الحمد للّه رب العالمين، أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرًا عامًا لكل أحد، ولا هوـ أيضًا ـ منتفيًا عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام. وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا.
منها: ما في الحديث الصحيح: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة.
/ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الأعمال بخواتيمها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
ولهذا روى: [أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا، فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدًا].
وحكاية عبد اللّه بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول:لا، بعد، لا، بعد، مشهورة.
ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك؛ لما روى أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك زادًا أو راحلة تبلغه إلى بيت اللّه الحرام ولم يحج، فَلْيَمُتْ إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا).
قال اللّه تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، قال عكرمة لما نزلت هذه الآية: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. قالت اليهود والنصارى: نحن مسلمون. فقال اللّه لهم: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فقالوا: لا نحجه. فقال الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
/ وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم [محمد]؟ فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيى، ويقول: هو محمد رسول اللّه، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا به واتبعناه. فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي يفتن بها المؤمن ـ فيقولان له كما قالا أولا .