تفسير سورة المائدة من لمائدة من 37الي 41.
{{ يُرِيدُونَ
أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
==============
المائدة - تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا
مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا
مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) } .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت
بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها: {
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } قال سفيان الثوري، حدثنا أبي، عن طلحة، عن
عطاء، عن ابن عباس: أي القربة. وكذا قال مجاهد [وعطاء] (1) وأبو وائل، والحسن،
وقتادة، وعبد الله بن كثير، والسدي، وابن زيد.
وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
وقرأ ابن زيد: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ } [الإسراء:57] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين
فيه (2) وأنشد ابن جرير عليه قول الشاعر (3)
إذا غَفَل الواشُون عُدنَا لِوصْلنَا ... وعَاد
التَّصَافي بَيْنَنَا والوسَائلُ
...
والوسيلة:
هي التي يتوصل (4) بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة
أيضًا: علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقد ثبت في صحيح البخاري، من
طريق محمد بن المُنكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت
محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودا الذي وعدته، إلا حَلَّتْ له
الشفاعة يوم القيامة".
حديث آخر في صحيح مسلم: من حديث كعب عن علقمة، عن عبد الرحمن
بن جُبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عَليّ، فإنه من صلى عَليّ
صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة
__________
(1) زيادة من ر.
(2) في ر: "لا خلاف فيه بين المفسرين".
(3) البيت في تفسير الطبري (10/290).
(4) في د: "لوصلها".
في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن
أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حَلًّتْ عليه الشفاعة." (1)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا
سفيان، عن لَيْث، عن كعب، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا صليتم عَليّ فَسَلُوا لي الوسيلة". قيل: يا رسول الله، وما
الوسيلة؟ قال: "أعْلَى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رَجُلٌ واحد (2) وأرجو
أن أكون أنا هو".
ورواه الترمذي، عن بُنْدَار، عن أبي عاصم، عن سفيان -هو
الثوري-عن لَيْث بن أبي سُلَيم، عن كعب قال: حدثني أبو هريرة، به. ثم قال: غريب،
وكعب ليس بمعروف، لا نعرف أحدًا روى عنه غير ليث بن أبي سليم. (3)
طريق أخرى: عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال أبو بكر بن
مَرْدُويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا محمد بن نصر الترمذي، حدثنا عبد
الحميد بن صالح، حدثنا أبو شهاب، عن ليث، عن المعلى، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة
رفعه قال: "صلوا عليَّ صلاتكم، وسَلُوا الله لي الوسيلة". فسألوه
وأخبرهم: "أن الوسيلة درجة في الجنة، ليس ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن
أكونه". (4) (5)
حديث آخر:
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: أخبرنا أحمد بن علي
الأبار، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن ابن أبي ذئب
(6) عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا
-أو: شفيعًا-يوم
القيامة".
ثم قال الطبراني: "لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى
بن أعين". كذا قال، وقد رواه ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم،
حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن
عمرو بن عطاء، فذكر بإسناده نحوه. (7)
حديث آخر: روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غَزِيةَ،
عن موسى بن وَرْدان: أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقها درجة، فسَلُوا
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1384).
(2) في ر: "واحد في الجنة".
(3) المسند (2/265) وسنن الترمذي برقم (3612).
(4) في ر: "أكون"، وفي أ: "أن أكون هو".
(5) وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
ورواه البزار في مسنده برقم (252) "كشف
الأستار" من طريق آخر، فرواه من طريق داود بن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي
هريرة بنحوه، وقال الهيثمي: "دواد بن علية ضعيف".
(6) في هـ: "ابن أبي حبيب" وهو خطأ.
(7) المعجم الأوسط للطبراني برقم (639) "مجمع
البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (1/333):
"فيه الوليد بن عبد الملك الحراني قد ذكره ابن حبان
في الثقات، وقال: مستقيم الحديث إذا روي عن الثقات. قلت: وهذا من روايته عن موسى
بن أعين وهو ثقة".
الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه". (1)
حديث آخر: روى ابن مردويه أيضًا من طريقين، عن عبد
الحميد بن بحر: حدثنا شَريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فسلوا لي
الوسيلة". قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: "علي وفاطمة والحسن
والحسين".
هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه (2)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الحسن
الدَّشْتَكِيّ، حدثنا أبو زهير، حدثنا سعد (3) بن طَرِيف، عن علي بن الحسين
الأزْدِي -مولى سالم بن ثَوْبان-قال: سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة:
يا أيها الناس، إن في الجنة لؤلؤتين: إحداهما بيضاء، والأخرى صفراء، أما الصفراء
فإنها إلى بُطْنَان العرش، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل
بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وكأنها (4) من عرق واحد، واسمها
الوسيلة، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء فيها مثل ذلك، هي
لإبراهيم، عليه السلام، وأهل بيته.
وهذا أثر غريب أيضا (5)
وقوله:
{ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين
الخارجين عن الطريق المستقيم، التاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك بالذي أعده
للمجاهدين في سبيله يوم القيامة، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة
التي لا تَبِيد ولا تَحُول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة، الحسنة
مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها يَنْعَم لا ييأس، ويحيا لا يموت، لا تبلى
ثيابه، ولا يفنى شبابه.
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال
يوم القيامة، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: لو أن أحدهم جاء يوم
القيامة بملء الأرض ذهبًا، وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به (6)
وتيقن وصوله إليه (7) ما تُقُبل ذلك منه (8) بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا
مناص (9) ؛ ولهذا قال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: موجع { يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ } كما قال تعالى: { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ
غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } الآية [الحج:22]،
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (640، 641)
"مجمع البحرين" من طريق عمارة بن غزية به.
(2) ووجه غرابته أنه من رواية عبد الحميد بن بحر البصري،
قال ابن حبان: كان يسرق الحديث، والحارث هو الأعور كذبه الشعبي وضعفه جماعة.
(3) في ر: "سعيد".
(4) في أ: "وأكوابها".
(5) وفي إسناده سعد بن طريف الإسكافي، قال ابن معين: لا
يحل لأحد أن يروي عنه، وقال أحمد وأبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي والدارقطني: متروك
الحديث، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور. ميزان الاعتدال (2/122).
(6) في ر: "بهم".
(7) في ر: "إليهم".
(8) في ر: "ما يقبل ذلك منهم".
(9) في ر: "ولا مخلص لهم ولا مناص".
فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه،
ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعالي (1) جهنم، ضربتهم
الزبانية بالمقامع الحديد، فيردونهم (2) إلى أسفلها، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }
أي: دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها.
وقد قال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بالرجل من أهل النار، فيقول: يا ابن
آدم، كيف وجدت مَضْجَعك؟ فيقول: شَرَّ مضجع، فيقول: هل تفتدي بقُراب الأرض
ذهبًا؟" قال: "فيقول: نعم، يا رب! فيقول: كذبت! قد سألتك أقل من ذلك فلم
تفعل: فيؤمر به إلى النار".
رواه مسلم والنسائي (3) من طريق حماد بن سلمة (4) بنحوه.
وكذا رواه البخاري ومسلم (5) من طريق معاذ بن هشام الدَّسْتَوائي، عن أبيه، عن
قتادة، عن أنس، به. وكذا أخرجاه (6) من طريق أبي عمران الجَوْني، واسمه عبد الملك
بن حبيب، عن أنس بن مالك، به. ورواه مَطَر الورَّاق، عن أنس بن مالك، ورواه ابن
مردويه من طريقه، عنه.
ثم رواه (7) ابن مَردويه، من طريق المسعودي، عن يزيد بن
صُهَيب الفقير، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال] (8)
"يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة" قال: فقلت لجابر بن عبد الله: يقول
الله: { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنْهَا } قال: اتل أول الآية: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا
فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ } الآية، ألا إنهم
الذين كفروا.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر، عن
يزيد الفقير، عن جابر (9) وهذا أبسط سياقًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة (10)
الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مبارك بن فضالة، حدثني يزيد الفقير قال:
جلست إلى جابر بن عبد الله، وهو يحدث، فحدّث أن أُنَاسًا (11) يخرجون من النار
-قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك، فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس، ولكن أعجب منكم يا
أصحاب محمد! تزعمون أن الله يخرج ناسًا من النار، والله يقول: { يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ] } (12) فانتهرني أصحابه، وكان أحلمهم فقال: دعوا الرجل، إنما ذلك للكفار:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } حتى بلغ:
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قد جمعته قال: أليس الله
يقول: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ؟ [الإسراء:79]
__________
(1) في أ: "إلى أعلى".
(2) في هـ: "فيردوهم" وهو خطأ؛ لعدم وجود عامل
النصب أو الجزم في الفعل، والمثبت من أ.
(3) في د: "البخاري".
(4) صحيح مسلم برقم (2807) وسنن النسائي (6/36).
(5) صحيح البخاري برقم (6538) وصحيح مسلم برقم (2805).
(6) صحيح البخاري برقم (6557) وصحيح مسلم برقم (2805).
(7) في أ: "ثم روى".
(8) زيادة من أ، ر.
(9) المسند (3/355) وصحيح مسلم برقم (191).
(10) في ر: "ابن أبي شيبة"، وفي أ:
"الحسن بن محمد بن شيبة الواسطي".
(11) في ر: "ناسًا".
(12) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
فهو ذلك المقام، فإن الله [تعالى] (1) يحتبس أقوامًا
بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم. قال: فلم أعد
بعد ذلك إلى أن أكذب به.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا عمرو
بن حفص السَّدُوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا العباس بن الفضل، حدثنا سعيد بن
المُهَلَّب، حدثني طَلْق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيبًا بالشفاعة، حتى
لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت (2) عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله [تعالى] (3) فيها خلود أهل
النار، فقال: يا طلق، أتُرَاك أَقْرَأُ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله [صلى الله
عليه وسلم] (4) مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها، هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا
ذنوبًا فعذبوا، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه (5) إلى أذنيه، فقال (6) صُمَّتًا إن
لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرجون من النار بعدما
دخلوا". ونحن نقرأ كما قرأت.
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) }
يقول تعالى حاكمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة، وروى
الثوري عن جابر بن يزيد الجُعْفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي؛ أن ابن مسعود كان
يقرؤها: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما". وهذه قراءة شاذة، وإن كان
الحكم عند جميع العلماء موافقًا لها، لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر. وقد كان
القطع معمولا به في الجاهلية، فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أخَر، كما سنذكره إن
شاء الله تعالى، كما كانت القسامة والدية والقرَاض وغير ذلك من الأشياء التي ورد
الشرع بتقريرها على ما كانت عليه، وزيادات هي من تمام المصالح. ويقال: إن أول من
قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له: "دويك" مولى لبني
مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده.
وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق
السارق شيئًا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرًا؛ لعموم هذه الآية: {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصابًا ولا
حِرْزًا، بل أخذوا بمجرد السرقة.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن، عن
نَجْدَة الحَنَفِي قال: سألت ابن عباس عن قوله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أخاص أم عام؟
__________
(1) زيادة من د.
(2) في د: "وقرأت".
(3) زيادة من ر.
(4) زيادة من د، أ.
(5) في أ: "بيده".
(6) في ر: "ثم قال".
فقال: بل عام.
وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه
هؤلاء، ويحتمل غير ذلك، فالله أعلم.
وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع
يده". (1) وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة، وإن كان قد وقع بينهم
الخلاف في قدره، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حِدَةٍ، فعند الإمام مالك
بن أنس، رحمه الله: النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها
فما فوقها وجب القطع، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قطع في مِجَن ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجاه في الصحيحين. (2)
قال مالك، رحمه الله: وقطع عثمان، رضي الله عنه، في
أتْرُجَّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم، وهو أحب ما سمعت في ذلك. وهذا الأثر عن عثمان،
رضي الله عنه، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عَمْرة بنت عبد
الرحمن: أن سارقًا سرق في زمان عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تُقَوم، فَقُومَت
بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار، فقطع عثمان يده. (3)
قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع (4) يشتهر، ولم (5) ينكر، فمن مثله
يحكى الإجماع السُّكوتي، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافًا للحنفية. وعلى
اعتبار ثلاثة دراهم خلافًا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار
ربع دينار، والله أعلم.
وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أن الاعتبار في قطع يد
السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدًا. والحجة (6) في ذلك
ما أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم، من طريق الزهري، عن عَمْرة، عن عائشة، رضي الله
عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع يد السارق (7) في ربع
دينار فصاعدا". (8)
ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن
عَمْرة، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق
إلا في ربع دينار فصاعدا". (9)
قال أصحابنا: فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار
ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا: وحديث ثمن المجن، وأنه كان ثلاثة (10) دراهم، لا ينافي
هذا؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6799) وصحيح مسلم برقم (1687).
(2) صحيح البخاري برقم (6797) وصحيح مسلم برقم (1686).
(3) الموطأ (2/832).
(4) في ر: "الصنع".
(5) في أ: "فلم".
(6) في ر: "أو الحجة".
(7) في ر: "يقطع السارق".
(8) صحيح البخاري برقم (6789) وصحيح مسلم برقم (1684).
(9) صحيح مسلم (1684).
(10) في أ: "بثلاثة".
درهمًا، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذه الطريق.
ويروى هذا المذهبُ عن عُمَر بن الخطاب، وعثمان بن عفان،
وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم. وبه يقول عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد،
والأوزاعي، والشافعي، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه -في رواية عنه-وأبو ثور، وداود بن
علي الظاهري، رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه -في رواية
عنه-إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مَرَدٌ شرعي، فمن سرق واحدًا
منهما، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر، وبحديث عائشة، رضي الله عنهما، ووقع
في لفظ عند الإمام أحمد، عن عائشة [رضي الله عنها] (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" (2) وكان ربع
الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا. وفي لفظ للنسائي: لا تقطع
يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل (3) لعائشة: ما ثمن المجَن؟ قالت: ربع دينار. (4)
فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله
أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه: أبو يوسف، ومحمد،
وزُفَر، وكذا سفيان الثوري، رحمهم الله، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم
مضروبة غير مغشوشة. واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، كان ثمنه عشرة دراهم. وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن
نُمَير وعبد الأعلى (5) وعن (6) محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن
عباس قال: كان ثمن المجن على عهد النبي صلى اللهعليه وسلم عشرة دراهم. (7)
ثم قال: حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع يد السارق
في دون ثمن المِجَن". وكان ثمن المجن عشرة دراهم. (8)
قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن
عمر في ثمن المجن، فالاحتياط الأخذ بالأكثر؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وذهب بعض السلف إلى أنه تُقْطَعُ يدُ السارق في عشرة
دراهم، أو دينار، أو ما يبلغ قيمته واحدًا منهما، يحكى هذا عن علي، وابن مسعود،
وإبراهيم النَّخَِي، وأبي جعفر الباقر، رحمهم الله تعالى.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (6/80).
(3) في أ: "فقيل".
(4) سنن النسائي (8/80).
(5) في أ: "بن عبد الأعلى" وهو خطأ.
(6) في أ: "حدثنا".
(7) المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/191) من
طريق محمد بن إسحاق به.
(8) المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/190) من
طريق محمد بن إسحاق به، والحديث مضطرب، اختلف فيه على محمد بن إسحاق -كما ترى-
وروي من أوجه أخرى كثيرة
وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس، أي: في خمسة
دنانير، أو خمسين درهمًا. وينقل هذا عن سعيد بن جبير، رحمه الله.
وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي
هريرة: "يَسْرقُ البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" بأجوبة:
أحدها: أنه منسوخ بحديث عائشة. وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد
من بيان التاريخ.
والثاني: أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش
فيما حكاه البخاري وغيره عنه.
والثالث:
أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير
الذي تقطع فيه يده، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في
الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة
في الأشياء المهينة.
وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي، لما قدم بغداد،
اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في
ذلك شعرًا دل على جهله، وقلة عقله فقال:
يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ (1) ما بالها قُطعَتْ في
رُبْع دينار ...
تَناقض ما لنا إلا السكوت له ... وأن نَعُوذ بمَوْلانا
من النارِ (2)
ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه (3) الفقهاء فهرب
منهم. وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي، رحمه الله،
أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. ومنهم من قال: هذا من تمام
الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة
اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي
تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند
ذوي الألباب؛ ولهذا قال [تعالى] (4) { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: مجازاة على صنيعهما السِّيئ في أخذهما أموال
الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالا مِنَ اللَّهِ } أي:
تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي: في انتقامه { حِكِيمٌ } أي:
في أمره ونهيه وشرعه وقدره.
ثم قال تعالى: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي:
من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما (5) أموال الناس
فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد
بدلها. وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان،
عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال:
"ما إخَاله سرق"! فقال السارق: بلى يا رسول الله. قال: "اذهبوا به
__________
(1) في ر، أ: "فديت".
(2) رواهما الذهبي في سير أعلام النبلاء (18/30).
(3) في أ: "فطلبه".
(4) زيادة من ر، أ.
(5) في د: "وأما".
فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به". فقطع فأتي به،
فقال: "تب إلى الله". فقال: تبت إلى الله. فقال: "تاب الله
عليك". (1)
وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي بن المديني
وابن خُزَيْمة (2) رحمهما الله، روى (3) ابن ماجه من حديث ابن لَهِيعَة، عن يزيد
بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه؛ أن عَمْرو بن سَمُرة بن
حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت
جملا لبني فلان فطهرني! فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا
جملا لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول:
الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار. (4)
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا موسى بن داود،
حدثنا ابن لَهِيعَة، عن حُيَي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد
الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله،
سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا يدها
اليمنى". فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك"! قال: فأنزل الله عز وجل: {
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (5)
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا، فقال: حدثنا حسن،
حدثنا ابن لَهيعة، حدثني حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد
الله بن عمرو؛ أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها
الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، إن هذه المرأة سرقتنا! قال قومها: فنحن
نفديها، فقال رسول الله: "اقطعوا يدها" فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة
دينار. قال: "اقطعوا يدها". قال: فقطعت يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل
لي من توبة يا رسول الله؟ قال: "نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك
أمك". فأنزل الله في سورة المائدة: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (6)
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في
الصحيحين، من رواية الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أن قريشا أهمهم شأنُ المرأة
التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا:
ومن يَجْتَرِئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ فأتي بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن
زيد، فتلوّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حَدٍّ من
حدود الله، عز وجل؟" فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان
__________
(1) سنن الدارقطني (3/102) ورواه الحاكم في المستدرك
(4/381) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان به موصولا وقال: "هذا حديث صحيح
على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي.
(2) رواه الدارقطني في السنن (3/103) وأبو داود في
المراسيل برقم (244) وعبد الرزاق في المصنف برقم (13583) من طريق سفيان عن محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا.
(3) في أ "وقد روى".
(4) سنن ابن ماجة برقم (2588) وقال البوصيري في الزوائد
(2/317) : "هذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة".
(5) تفسير الطبري (10/299).
(6) المسند (2/177).
العَشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب، فأثنى
على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم
كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد، وإني
والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها". ثم أمر بتلك
المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة [رضي الله عنها] (1) فحَسنَتْ توبتها
بعد، وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا لفظ مسلم (2) وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة
مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. (3)
وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعًا على
ألسنة جاراتها (4) وتجحده، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.
رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي (5) -وهذا
لفظه-وفي لفظ له: أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله وترد ما تأخذ على القوم، ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قم يا بلال فخذ بيدها (6) فاقطعها"
(7)
وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب
"الأحكام"، ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: هو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه، الذي لا
مُعَقِّبَ لحكمه، وهو الفعال لما يريد { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ (8) وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (2648) وصحيح مسلم برقم (1688).
(3) صحيح مسلم برقم (1688).
(4) في ر: "جارتها".
(5) المسند (2/151) وسنن أبي داود برقم (4395) وسنن
النسائي (8/70).
(6) في أ: "فخذ يدها".
(7) سنن النسائي (8/71).
(8) في ر: "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وهو
خطأ.
المائدة - تفسير القرطبي
37- {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا
هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبدالله إنكم يا أصحاب
محمد تقولون إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنْهَا} فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصا والخاص عاما، إنما هذا في الكفار
خاصة؛ فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة. و {مُقِيمٌ} معناه دائم ثابت
لا يزول ولا يحول؛ قال الشاعر:
فإن لكم بيوم الشعب مني ... عذابا دائما لكم مقيما
38- {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ}
39- {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فيه سبع وعشرون مسألة:
الأولى-
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} الآية. لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض
والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي
بيانه أثناء الباب؛ وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس
الزنى على ما نبينه آخر الباب. وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في
الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أول سارق قطعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف،
ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبدالأسد من بن مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي
سرق العقد؛ وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبدالرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه. وظاهر الآية
العموم في كل سارق وليس كذلك؛ لقوله عليه السلام "لا تقطع يد السارق إلا في
ربع دينار فصاعدا" فبين انه إنما أراد بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بعض
السراق دون بعض؛ فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، أو فيما قيمته ربع دينار؛
وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن
عبدالعزيز والليث والشافعي وأبو ثور؛ وقال مالك: تقطع اليد في ربع دينار أو في
ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما.
والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر؛ فجعل مالك الذهب
والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور. وقال
أحمد وإسحاق: إن سرق ذهب فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع
دينار أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو ما صار إليه مال في القول الآخر؛ والحجة
للأول حديث ابن عمر أن رجلا سرق جحفة، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها
فقومت بثلاثة دراهم. والشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد
إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، وترك حديث ابن عمر لما
رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ فابن عمر يقول: ثلاثة دراهم؛ وابن عباس يقول: عشرة دراهم؛ وأنس يقول:
خمسة دراهم،
وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه
عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه، ورقعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته؛ قاله أبو
عمر وغيره. وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه؛ وهو قول
إسحاق؛ فقف على هذين الأصلين فهما عمدة الباب، وما أصح ما قيل فيه.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا
في عشرة دراهم كيلا، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا؛ ولا يقطع حتى خرج بالمتاع من
ملك الرجل؛ وحجتهم حديث ابن عباس؛ قال: قوم المجن الذي مع قطع فيه النبي صلى الله
عليه وسلم بعشرة دراهم. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن
يومئذ عشرة دراهم؛ أخرجهما الدارقطني وغيره. وفي المسألة قول رابع، وهو ما رواه
الدارقطني عن عمر قال: لا تقطع الخمس إلا في خمس؛ وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي
ليلى وابن شبرمة؛ وقال أنس بن مالك: قطع أبو بكر - رحمه الله - في مجن قيمته خمسة
دراهم. وقول خامس: وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا؛ روي عن أبي هريرة وأبى
سعيد الخدري. وقول سادس: وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه؛ قاله عثمان البتي.
وذكر الطبري أن عبدالله بن الزبير قطع في درهم. وقول سابع: وهو أن اليد تقطع في كل
ما له قيمة على ظاهر الآية؛ هذا قول الخوارج، وروي عن الحسن البصري، وهي إحدى
الروايات الثلاث عنه، والثانية كما روي عن عمر، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال:
تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد؟ فاتفق رأينا على درهمين. وهذه أقوال
متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك؛ فإن قيل: قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة
فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل
والكثير؛ فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض
الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام: "من بنى لله مسجدا ولو مثل
مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة"
.
وقيل:
إن ذلك مجاز من وجه آخر؛ وذلك أنه إذا رضى بسرقة القليل
سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث
كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي
دراهم. قلت: كحبال السفينة وشبه ذلك. والله أعلم.
الثانية- اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على
من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في
البيت. وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار
اتفاقا صحيحا. والحمد لله.
الثالثة-
الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل
شيء بحسب حاله على ما يأتي بيانه. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا
مقال فيه لأهل العلم، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكي عن الحسن وأهل الظاهر
أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين
المكي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في ثمر معلق ولا في
حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" قال أبو
عمر: هذا حديث يتصل معناه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، وعبدالله هذا
ثقة عند الجميع، وكان أحمد يثني عليه. وعن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ
خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة
مثليه والعقوبة" وفي رواية. "وجلدات نكال" بدل "والعقوبة"
. قال العلماء: ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع. قال أبو عمر: قول "غرامة مثليه" منسوخ لا
أعلم أحد من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب بن أبي بلتعة؛ خرج
مالك؛ ورواية عن أحمد بن حنبل. والذي عليه الناس في الغرم بالمثل؛
لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال:
كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ
الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت أتقطع من
أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؛ قال: "فهلا كان هذا قبل أن تأتيني
به"؟ . ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين، ثم
الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا، وبغيت الأطماع متعلقة بها،
والآمال محومة عليها؛ فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق، ويكفها الصون والحرز
عن أكثرهم، فإذا أحرزها مالك فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان
للإنسان؛ فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك
وجب الضمان والأدب.
الرابعة-
فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه، فلا
يخلو، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أولا إلا بتعاونهم، فإذا كان الأول
فاختلف فيه علماؤنا على قولين: أحدهما يقطع فيه، والثاني لا يقطع فيه؛ وبه قال أبو
حنيفة والشافعي؛ قالا: لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من
حصته نصاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار
فصاعدا" وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم. ووجه القطع في إحدى
الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل؛ قال ابن
العربي: وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء؛ لئلا
يتعاون على سفكها الأعداء، فكذلك في الأموال مثله؛ لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على
أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما. وإن كان الثاني وهو
مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء؛ ذكره ابن
العربي.
الخامسة-
فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر،
فإن كانا متعاونين قطعا. وإن انفرد كل منهما بفعله دون اتفاق بينهما، بأن يجيء آخر
فيخرج فلا قطع على واحد منهما. وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع
عليه خاصة؛ وقال الشافعي: لا قطع؛ لأن هذا نقب ولم يسرق، والآخر سرق من حرز مهتوك
الحرمة. وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع. ولا يشترط في الاشتراك
في النقب التحامل على آلة واحدة، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة.
السادسة- ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز
فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه القطع، ويعاقب الأول؛ وقال أشهب: يقطعان. وإن وضعه
خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ، وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت
أيديهما في النقب قطعا جميعا.
السابعة- والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الأكثر؛
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه؛ لأنه سرق من غير حرز ما معرضا للتلف لا مالك له؛ لأن
الميت لا يملك. ومنهم من ينكر السرقة؛ لأنه ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة بحيث
تتقى الأعين، ويتحفظ من الناس؛ وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر. وقال
الجمهور: هو سارق لأنه تدرع الليل لباسا وأتقى الأعين، وقصد وقتا لا ناظر فيه ولا
ما عليه، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد، وخلو البلد من جميعهم.
وأما قولهم: إن القبر غير حرز فباطل؛ لأن حرز كل شيء بحسب حال الممكنة فيه. وأما
قولهم: إن الميت لا ملك فباطل أيضا؛ لأنه لا يجوز ترك الميت عاريا فصارت هذه
الحاجة قاضية بأن القبر حرز. وقد نبه الله تعالى عليه بقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ
الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} ليسكن فيها حيا، ويدفن فيها ميتا. وأما
قولهم: إنه عرضة للتلف؛ فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والإخلاق بلباسه، إلا
أن أحد الأمرين أعجل من الثاني؛ وقد روى أبو داود عن أبي ذر قال: دعاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه
بالوصيف" ، يعني
القبر؛ قلت: الله ورسول أعلم قال: "عليك بالصبر"
قال حماد: فبهذا قال من قال تقطع يد السارق؛ لأنه دخل على الميت بيته. وأما
المسجد، فمن سرق حصره قطع؛ رواه عيسى عن ابن القاسم، وإن لم يكن للمسجد باب؛ ورآها
محرزة. وإن سرق الأبواب قطع أيضا؛ وروي عن ابن القاسم أيضا إن كانت سرقته للحصر
نهارا لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلا قطع؛ وذكر عن سحنون إن كانت حصره خيط
بعضها إلى بعض قطع، وإلا لم يقطع. قال أصبغ: يقطع سارق حصر المسجد وقناديله
وبلاطه، كما لو سرق بابه مستسرا أو خشبة من سقفه أو من جوائزه. وقال أشهب في كتاب
محمد: لا قطع في شيء من حصر المسجد وقناديله وبلاطه.
الثامنة- واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا؟
فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغرم مع القطع بحال؛ لأن الله سبحانه قال:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} ولم يذكر غرما. وقال الشافعي: يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو
معسرا، وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه؛ وهو قول أحمد وإسحاق. وأما علماؤنا مالك
وأصحابه فقالوا: إن كانت العين قائمة ردها، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم، وإن كان
معسرا لم يتبع دينا ولم يكن عليه شيء؛ وروى مالك مثل، ذلك عن الزهري؛ قال الشيخ أبو
إسحاق: وقد قيل إنه يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا؛ قال: وهو قول غير
واحد من علمائنا من أهل المدينة، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط
أحدهما الآخر كالدية والكفارة، ثم قال: وبهذا أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله
صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه" وأسنده
في كتابه. وقال بعضهم: إن الإتباع بالغرم عقوبة، والقطع عقوبة، ولا تجتمع عقوبتان؛
وعليه عول القاضي عبدالوهاب. والصحيح قول الشافعي ومن وافقه؛ قال الشافعي: يغرم
السارق ما سرق موسرا كان أو معسرا؛ قطع أو لم يقطع، وكذلك إذا قطع الطريق؛ قال:
ولا يسقط
الحد لله ما أتلف للعباد، وأما ما احتج به علماؤنا من
الحديث "إذا كان معسرا" فبه احتج الكوفيون وهو قول الطبري، ولا حجة فيه؛
رواه النسائي والدارقطني عن عبدالرحمن بن عوف. قال أبو عمر: هذا حديث ليس بالقوي
ولا تقوم به حجة، وقال ابن العربي: وهذا حديث باطل. وقال الطبري: القياس أن عليه
غرم ما استهلك. ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك. قال أبو عمر: ترك القياس
لضعيف الأثر غير جائز؛ لأن الضعيف لا يوجب حكما.
التاسعة- واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه؛
فقال علماؤنا: يقطع. وقال الشافعي: لا يقطع؛ لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز.
وقال علماؤنا: حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، ويد السارق كلا يد، كالغاصب
لو سرق منه المال المغصوب قطع، فإن قيل:
اجعلوا حرزه بلا حرز؛ قلنا: الحرز قائم والملك قائم ولم
يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز.
العاشرة- واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين
المسروقة؛ فقال الأكثر: يقطع. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه. وعموم القرآن يوجب
عليه القطع، وهو يرد قوله. وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشيء المسروق
بشراء أو هبة قبل القطع: فإنه لا يقطع، والله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه
شيء.
الحادية عشرة- قرأ الجمهور {وَالسَّارِقُ} بالرفع. قال سيبويه:
المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة. وقيل: الرفع فيهما على الابتداء والخبر
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معينا لوجب النصب؛
تقول: زيدا اضربه؛ بل هو كقولك: من سرق فاقطع يده. قال الزجاج: وهذا القول هو
المختار. وقرئ {وَالسَّارِقَ} بالنصب فيهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة؛ وهو
اختيار سيبويه؛ لأن الفعل بالأمر أولى؛ قال سيبويه رحمه الله تعالى: الوجه في كلام
العرب النصب؛ كما تقول: زيدا اضربه؛ ولكن
العامة أبت إلا الرفع؛ يعني عامة القراء وجلهم، فأنزل
سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين. وقرأ ابن مسعود {وَالسَّارِقُون
وَالسَّارِقُات فَاقْطَعُوا أَيْمَانِهِمْ} وهو يقوي قراءة الجماعة. والسرق
والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق سرقا بفتح الراء.
قاله الجوهري. وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق
السمع، وسارقه النظر. قال ابن عرفة: السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز
فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن تمنع
بما في يده فهو غاصب.
قلت: وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأسوأ السرقة
الذي يسرق صلاته" قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا
سجودها" خرجه الموطأ وغيره، فسماه سارقا وإن كان ليس سارقا من حيث هو موضع
الاشتقاق، فإنه ليس قيه مسارقة الأعين غالبا.
الثانية عشرة-
قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا} القطع معناه الإبانة
والإزالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق، وفي الموضع
المسروق منه، وفي صفته. فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف؛ وهي البلوغ والعقل،
وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا يقطع العبد إن سرق
من مال سيده، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال؛ لأن العبد وماله لسيده.
ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه أخذ لماله، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول
الخليفة: غلامكم سرق متاعكم. وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي" قال:
لم يرفعه غير فهد بن سليمان، والصواب أنه موقوف. وذكر ابن ماجة عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سرق
العبد فبيعوه ولو بنش} أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة
حدثنا أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة؛ قال ابن ماجة:
وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس؛ أن
عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه.
وقال: "مال الله سرق بعضه بعضا" وجبارة بن المغلس متروك؛ قاله أبو زرعة
الرازي. ولا قطع على صبي ولا مجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي إذا دخل
بأمان. وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف؛ وهي النصاب وقد مضى القول
فيه، وأن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه
كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك، وابن القاسم؛
وقيل: لا قطع عليه؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة؛ لأنه ليس بمال. وقال علماؤنا: هو
من أعظم المال؛ ولم يقطع السارق في المال لعينه. وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها
بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب
المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب. قال ابن القاسم:
ولا يقطع سارق الكلب؛ وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه
فيقطع سارقه. قال: ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم. وقال
ابن حبيب قال أصبغ: إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع؛ وأما إن سرقها بعد الذبح فلا
يقطع. وإن كان مما يجوز اتخاذ أصله وبيعه، فصنع منه ما لا يجوز استعمال كالطنبور
والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر؛ فإن كان يبقى منها بعد
فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع. وكذلك الحكم في
أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من
ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على
نجاسته نصابا قطع فيه. الوصف الثالث؛ ألا يكون للسارق في ملك، كمن سرق ما رهنه
أو ما استأجره، ولا شبهة ملك، على اختلاف بين علمائنا
وغيرهم في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال؛ لأن له فيه
نصيبا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم ير عليه
قطعا وقال: له فيه نصيب. وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال. وقيل: يجب عليه
القطع تعلقا بعموم لفظ آية السرقة. وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي
الكبير؛ لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه. لا يقطع فيه. وأما ما يعتبر في
الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق. وجملة القول فيه
أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه؛ فالدور
والمنازل والحوانيت جرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز
لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، وإن كان فبل السرقة ممن يجوز أن
يعطيه الإمام وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية؛ ألا ترى أن الإمام قد يجوز أن يصرف
جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس، أو يفرقه في بلد دون بلد
آخر ويمنع منه قوما دون فوم؛ ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه. وكذلك
المغانم لا تخلو: أن تتعين بالقسمة؛ فهو ما ذكرناه في بيت المال؛ وتتعين بنفس
التناول لمن شهد الواقعة؛ فيجب أن براعي قدر ما سرق، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم
يقطع.
الرابعة عشرة- وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية
الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله أم
لا؛ سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب
على مرابطها محرزة، كان معها أهلها أم لا؛ فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في
السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ؛ ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا
لدوابه فإنه حرز لها. والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة؛ فإن سرقت
السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربط في
موضع وأرساها فيه فربطها جرز؛
وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة، كالدابة
بباب المسجد معها حافظ؛ إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلا فيربطوها فهو حرز
لها كان صاحبها معها أم لا. ولا خف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن
فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته
إلى قاعة الدار شيئا وإن بها بيته ولا خرج بها من الدار.
ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا
وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار؛ لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء، إلا أن
تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع.
السادسة عشرة- ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما؛ لقوله
عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" ويقطع في سرقة مالهما؛ لأنه لا شبهة له
فيه. وقيل: لا يقطع؛ وهو قول ابن وهب وأشهب؛ لأن الابن ينبسط في مال أبيه في
العادة، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فأن لا يقطع ابنه في ماله أولى.
واختلفوا في الجد؛ فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع. وقال أشهب: يقطع. وقول مالك أصح انه
أب؛ قال مالك: أحب إلى ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم وإن لم تجب لهم نفقة.
قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات. قال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق
من جوع أصابه. وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة
والأخت وغيرهم؛ وهو قول الثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من
هؤلاء. وقال أبو ثور: يقع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد؛ إلا أن يجمعوا على سيئ
فيسلم للإجماع. والله أعلم.
السابعة عشرة- واختلفوا في سارق المصحف؛ فقال الشافعي
وأبو يوسف وأبو ثور: يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد؛ وبه قال ابن القاسم.
وقال النعمان: لا يقطع من سرق مصحفا.
قال ابن المنذر: يقطع سارق المصحف. واختلفوا في الطرار
يطر النفقة من الكم، فقالت طائفة: يقطع من طر من داخل الكم أو من خارج؛ وهو قول
مالك
والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب. قال أبو حنيفة ومحمد بن
الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت
مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع. وقال الحسن: يقطع. قال ابن المنذر:
يقطع على أي جهة طر.
الثامنة عشرة- واختلفوا في قطع اليد في السفر، وإقامة
الحدود في أرض الحرب؛ فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق
بين دار الحرب والإسلام. وقال الأوزاعي: يقيم من غزا على جيش - وإن لم يكن أمير
مصر من الأمصار - الحدود في عسكره غير القطع. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض
الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام
أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره. استدل الأوزاعي ومن قال بقوله بحديث
جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطأة في البحر، فأتي بسارق يقال له مصدر قد
سرق بختية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي
في الغزو" ولولا ذلك لقطعته. يسر هذا يقال ولد في زمن النبي صلى الله عليه.
وسلم، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه، وهو الذي ذبح طفلين لعبدالله بن
العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل
الله عمره ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى بن معين: كان بسر بن أرطأة رجل سوء.
استدل من قال بالقطع بالقطع بعموم القرآن؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وأولى ما
يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود: مخافة أن يلحق ذلك بالشرك. والله أعلم.
التاسعة عشرة- فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع. فقال الكافة:
تقطع من الرسغ والرجل من المفصل، ويحسم الساق إذا قطع. وقال بعضهم: يقطع إلى
المرفق. وقيل: إلى المنكب، لأن اسم اليد يتناول ذلك. وقال علي رضي الله عنه: تقطع
الرجل من شطر القدم ويترك له العقب؛ وبه قال أحمد وأبو ثور. قال ابن المنذر: وقد
روينا
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل فقال:
"أحسموها" وفي إسناده مقال؛ واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور
وغيرهما، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف.
الموفية عشرين- لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا، ثم
اختلفوا إن سرق ثانية؛ فقال مالك وأهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم: تقطع
رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق
خامسة يعزر ويحبس. وقال أبو مصعب من علمائنا: يقتل بعد الرابعة؛ واحتج بحديث خرجه
النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال:
"اقتلوه" فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: "اقتلوه" ،
قالوا: يا رسول إنما سرق، قال: "اقطعوا يده" ، قال: ثم سرق فقطعت رجع،
ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا الخامسة،
فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال:
"اقتلوه" ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه؛ منهم عبدالله بن الزبير
وكان يحب الإمارة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضرب حتى قتلوه.
وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال:
"اقتلوه" . قال جابر:
فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا
عليه الحجارة. رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال: هذا حديث منكر وأحد رواته
ليس بالقوي. ولا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا. قال ابن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل. وقيل: تقطع في الثانية
رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها، ثم إذا عاد عزر وحبس؛ وروي عن علي بن أبي طالب،
وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل. قال الزهري: لم يبلغنا في
السنة إلا قطع اليد والرجل. وقال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع:
ذكره ابن العربي وقال: أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه.
الحادية والعشرون- واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد
السارق اليمنى فتقطع يساره، فقال قتادة: قد أقيم عليه الحد ولا يزاد عليه؛ وبه قال
مالك: إذا أخطأ القاطع فقطع شمال، وبه قال أصحاب الرأي استحسانا. وقال أبو ثور:
على الحزاز الدية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع. قال ابن المنذر: ليس
يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين؛ إما أن يكون القاطع عمد ذلك فعليه القود، أو
يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع؛ وقطع يمين السارق يجب، ولا يجوز إزالة ما أوجب
الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ. وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم
شماله فتقطع؛ قال: تقطع يمينه أيضا. قال ابن المنذر: وهذا صحيح. وقالت طائفة: تقطع
يمينه إذا برئ؛ وذلك أنه هو أتلف يساره، ولا شيء على القاطع في قول أصحاب الرأي،
وقياس قول الشافعي. وتقطع يمينه إذا برئت. وقال قتادة والشعبي: لا شيء على القاطع
وحسبه ما قطع منه.
الثانية والعشرون- وتعلق يد السارق في عنقه، قال عبدالله
بن محيريز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو؟ فقال: جيء رسول
الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه؛ أخرجه
الترمذي - وقال: حديث حسن غريب - وأبو داود والنسائي.
الثالثة والعشرون- إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا؛
فقال مالك: يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ويقتل؛ لأنهما حقان لمستحقين فوجب
أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن
العربي.
الرابعة والعشرون- قوله تعالى: {أَيْدِيَهُمَا} لما قال
{أَيْدِيَهُمَا} ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان في ذلك - قال ابن العربي:
وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم - فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شيء
يوجد خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول: هشمت رؤوسهما وأشبعت بطونهما، و
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، ولهذا قال: {فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} ولم يقل يدهما. والمراد فاقطعوا يمينا من هذا ويمينا من هذا. ويجوز في اللغة؛
فاقطعوا يديهما وهو الأصل؛ وقد قال الشاعر فجمع بين اللغتين:
ومهمهمين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
وقيل:
فعل هذا لأنه لا يشكل. وقال سيبويه: إذا كان مفردا قد
يجمع إذا أردت به التثنية، وحكي عن العرب؛ وضعا رحالهما. ويريد به رحلي راحلتيهما؛
قال ابن العربي: وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك، بل تقطع
الأيدي والأرجل، فيعود قول {أيْدِيَهُمَا} إلى أربعة وهي جمع في الاثنين، وهما
تثنية فيأتي الكلام على فصاحته، ولو قال: فاقطعوا أيديهم لكان وجها؛ لأن السارق
والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة، وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى.
الخامسة والعشرون- قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}
مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا وكذا {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} يقال: نكلت به إذا
فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك الفعل {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} لا يغالب {حَكِيمٌ} فيما
يفعله؛ وقد تقدم.
السادسة والعشرون- قوله تعالى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} شرط وجوابه {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} {مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ} من بعد السرقة؛ فإن الله يتجاوز عنه. والقطع لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء
وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدوة على السارق. وقال بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي
قولا. وتعلقوا بقول الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وذلك استثناء من الوجوب، فوجب حمل جميع الحدود عليه. وقال
علماؤنا: هذا بعينه دليلنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال:
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وعطف عليه حد
السارق وقال فيه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ} فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما. قال ابن العربي:
ويا معشر
الشافعية سبحان الله! أين الدقائق الفقهية، والحكم
الشرعية، التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟! ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه،
المعتدي بسلاح، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه
بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا
على الإسلام؛ فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام، فما
الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم؟! أو كيف يجوز أن يقال: يقاس على المحارب وقد
فرقت بينهما الحكمة والحالة! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين. وإذا ثبت أن
الحد لا يسقط بالتوبة، فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له. {وَأَصْلَحَ} أي كما تاب
عن السرقة تاب عن كل ذنب. وقيل: {وَأَصْلَحَ} أي ترك المعصية بالكلية، فأما من ترك
السرقة بالزنى أو التهود بالتنصر فهذا ليس بتوبة، وتوبة الله على العبد أن يوفقه
للتوبة. وقيل: أن تقبل منه التوبة.
السابعة والعشرون- يقال: بدأ الله بالسارق في هذه الآية
قبل السرقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك؟ فالجواب أن يقال: لما كان حب المال
على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضع؛ هذا أحد
الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة {النور} من البداية بها على الزاني إن
شاء الله. ثم جعل الله قطع السرقة قطع اليد لتناول المال، ولم يجعل حد الزنى قطع
الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان: أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن
انزجر بها اعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر
بقطعه. الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر: وقطع الذكر
في الزنى باطن. الثالث: أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطال.
والله أعلم.
40- {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره؛ أي لا
قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول القائل: نحن أبناء الله
وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد. وقيل: أي له أن يحكم بما يريد؛
فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب. وقد تقدم نظائر هذه الآية والكلام
فيها فلا معنى لإعادتها والله الموفق. هذا ما يتعلق بآية السرقة من بعض أحكام
السرقة. والله أعلم.
41- {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
فيه ثمان مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا
يَحْزُنْكَ} الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال: قيل نزلت في بني قريظة والنضير؛ قتل
قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم، وإنما يعطونهم
الدية على ما يأتي بيانه، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية
بين القرظي والنضيري، فساءهم ذلك ولم يقبلوا. وقيل؛ إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين
أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح.
وقيل: إنها نزلت في زني اليهوديين وقصة الرجم؛ وهذا أصح الأقوال؛ رواه
الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. قال أبو
داود عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم "ائتوني بأعلم
رجلين منكم" فجاؤوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى " كيف تجدان أمر
هذين في التوراة"؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرور
في المكحلة رجما. قال: "فما يمنعكم أن ترجموهما" ، قالا: ذهب سلطاننا
فكرهنا القتل. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم
رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما.
وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبدالله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل
فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه،
وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه؛ فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور؛ فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في
كتابكم" ، فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن
النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في
فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"هو ذاك" . وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله
عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال: "هكذا تجدون حد الزاني في
كتابكم" قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة
على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم" قال: لا - ولولا أنك نشدتني بهذا
لم أخبرك - نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا
أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف
والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" فأمر به فرجم؛ فأنزل الله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقول: ائتوا محمدا، فإن
أمركم بالتحميم
والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز
وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} ، {لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في
الكفار كلها. هكذا في هذه الرواية "مر على النبي صلى الله عليه وسلم"،
وفي حديث ابن عمر: أتي بيهودي ويهودية فد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى جاء يهود، قل: "ما تجدون في التوراة على من زنى" الحديث. وفي
رواية؛ أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا.
وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال: أتى تفر من اليهود، فدعوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا
منا زنى بامرأة فاحكم بيننا. ولا تعارض في شيء من هذا كله، وهي كلها قصة واحدة،
وفد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة،
فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى
بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك؛ قال: فأتوا النبي صلى
الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه؛ فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في
رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم،
فقام على الباب، فقال: "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في
التوراة على من زنى إذا أحصن" ، فقالوا: يحمم وجهه ويجبه ويجلد، والتجبية أن
يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف به؛ قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه
النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة؛ فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في
التوراة الرجم. وساق الحديث إلى أن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني
أحكم بما في التوراة" فأمر به فرجما.
الثانية-
والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله
عليه وسلم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة. واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا،
وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان. فهذه مسائل
أربع. فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام؛ فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان
والغصب حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في
الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكا رأى الإعراض عنهم أولى، فإن
حكم حكم بينهم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة:
يحكم بينهم على كل حال، وهو قول الزهري وعمر بن عبدالعزيز والحكم، وروي عن ابن
عباس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: {َأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ} على ما يأتي بيانه بعد، احتج مالك بقوله تعالى: {فَإِنْ
جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وهي نص في التخيير. قال
ابن القاسم: إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير؛ لأن إنفاذ الحكم حق
للأساقفة والمخالف يقول: لا يلتفت إلى الأساقفة. قال ابن العربي: وهو الأصح؛ لأن
مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ، ولم يعتبر رضا الحاكم. فالكتابيون بذلك أولى.
وقال عيسى عن ابن القاسم: لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب. قال ابن العربي:
وهذا الذي قال عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره: أن الزانيين كانا من
أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم المرأة الزانية
بسرة، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا، فإن أفتاكم
بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه، وإن أفتاكم به فاحذروه؛ الحديث. قال ابن العربي:
وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا؛ وإن لم يكن عهد
وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم؛ فلا حجة لرواية عيسى في هذا؛ وعنهم
أخبر الله تعالى بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ
لَمْ يَأْتُوكَ} ولما حكموا النبي صلى الله عليهوسلمي نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم
الرجوع؛ فكل من حكم رجلا في الدين وهي:
الثالثة- فأصله هذه الآية. قال مالك: إذا حكم رجلا فحكمه
ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكونوا جورا بينا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه
صوابا. قال
ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب،
فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان؛ والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز
التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا
حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية، ومؤد إلى تهارج الناس
كتهارج الحمر، فلا بد من فاصل؛ فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج؛ وأذن في
التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة. وقال
الشافعي وغيره: التحكيم جائز وإنما هو فتوى. وقال بعض العلماء: إنما كان حكم النبي
صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم، لما حرفوه وأخفوه وتركوا
العمل به؛ ألا ترى أنه قال: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" وأن
ذلك كان حين قدم المدينة، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على
ذلك. وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل ذلك
على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. وقد يحتمل أن بكون حصول طريق العلم بذلك
الوحي، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا فولهما
مجردا؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بمشروعية الرجم، ومبدؤه ذلك
الوقت، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة، وبين أن ذلك حكم شريعته، وأن
التوراة حكم الله سبحانه؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا
هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وهو من
الأنبياء. وقد قال عنه أبو هريرة: "فإني أحكم بما في التوراة" والله
أعلم.
الرابعة- والجمهور على رد شهادة الذمي؛ لأنه ليس من
أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم
إذ لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة فإن قيل: فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين:
فالجواب؛ أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما
عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا
لا حاكما. وهذا على التأويل الأول، وعلى
ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بل الواقعة، إذ لم
يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك. والله أعلم.
الخامسة-
قوله تعالى: {لا يَحْزُنْكَ} قرأ نافع بضم الياء وكسر
الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل
بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه، ومحزون بني عليه.
قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. واحتزن وأحزن بمعنى.
والمعنى في الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لا يحزنك مسارعتهم إلى
الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم.
السادسة- قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِأَفْوَاهِهِمْ} وهم المنافقون {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان
كما نطقت به ألسنتهم {الَّذِينَ هَادُوا} يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام
الكلام، ثم ابتدأ فقال {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي هم سماعون، ومثله {طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ} .وقيل الابتداء من قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} ومن الذين هادوا
قوم سماعون للكذب، أي قابلون لكذب رؤسائه من تحريف التوراة. وقيل: أي يسمعون كلامك
يا محمد ليكذبوا عليك، فكان فيهم من يحضر النبي صلى اللهعليه وسلم ثم يكذب عليه
عند عامتهم، ويقبح صورته في أعينهم؛ وهو معنى قوله: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ
آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} وكان في المنافقين من يفعل هذا. قال الفراء ويجوز سماعين
وطوافين، كما قال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} وكما قال: {إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} . ثم قال: {فَاكِهِينَ} {آخِذِينَ} . وقال
سفيان بن عيينة: إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله: {سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} ولم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهم مع علمه
بهم؛ لأنه لم يكن حينئذ تقرر الأحكام ولا تمكن الإسلام. وسيأتي حكم الجاسوس في {الممتحنة} إن شاء
الله تعالى.
السابعة- قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ
بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه
التي أرادها الله عز وجل؛ وبين أحكامه؛ فقالوا:
شرعه ترك الرجم؛ وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين
تغييرا لحكم الله عز وجل. و {يُحَرِّفُونَ} في موضع الصفة لقوله {سَمَّاعُونَ} وليس بحال من
الضمير الذي في {يَأْتُوكَ} لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا، والتحريف إنما هو ممن
يشهد ويسمع فيحرف. والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، ولذلك كان حمل المعنى على {
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} فريق سماعون أشبه {يَقُولُونَ} في موضع الحال من المضمر
في {يُحَرِّفُونَ} {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم
بالجلى فأقبلوا وإلا فلا.
الثامنة-
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أي
ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}
أي فلن تنفعه {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ} بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر. ودلت الآية على أن الضلال
بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم؛ أي لم يرد الله أن يطهر
قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم {لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ} قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها
الرجم وقيل: خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل. والله أعلم.
المائدة - تفسير الطبري
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ
بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ (37) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريدون أن
يخرجوا من النار"، يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن يخرجوا من
النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها="لهم عذاب مقيم"ن يقول: لهم
عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر: (1)
فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي... عَذَابًا
دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا (2)
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 165.
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11906 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال،
حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس
رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، (1) وقد قال
الله جل وعز:"وما هم بخارجين منها"؟ فقال ابن عباس: ويحك، أقرأ ما
فوقها! هذه للكفّار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن سرقَ من رجل أو امرأة،
فاقطعوا، أيها الناس، يَدَه= ولذلك رفع"السارق والسارقة"، لأنهما غير
معيّنين. ولو أريد بذلك سارقٌ وسارقة بأعيانهما، لكان وجه الكلام النّصب.
* * *
وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك:(
والسارقون والسارقات ).
11907 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن
ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا= قال: وربما قال: في قراءة عبد الله=( والسارقون
والسارقات فاقطعوا أيمانهما ).
__________
(1) في المطبوعة: "يا أعمى البصر أعمى القلب ،
تزعم. . . ." كأن نافعًا يوجه الحديث إلى ابن عباس ، وهذا عجيب أن يكون من
نافع ، مع اجترائه وسلاطته! وكان في المخطوطة: "ما عمي البصار أعمى القلب ،
برعم" ، هكذا غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها ، على أنه إخبار لابن
عباس عمن يقول ذلك.
11908 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن
عون، عن إبراهيم: في قراءتنا:( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ).
* * *
=وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع
فيه، وأن"السارق والسارقة" مرفوعان بفعلهما على ما وصفت، للعلل التي
وصفت.
* * *
وقال تعالى ذكره:"فاقطعوا أيديهما"، والمعنى:
أيديهما اليمنى، كما:-
11909 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فاقطعوا أيديهما" اليمنى.
11910 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن
جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله:( والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ).
* * *
ثم اختلفوا في"السارق" الذي عناه الله عز ذكره.
فقال بعضهم: عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك
قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك،
بأنّ:-
11911- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ
قيمته ثلاثةُ دَرَاهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن
قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة
أنها قالت:
11912- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القطعُ في ربع
دِينارٍ فصاعدًا. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11911- رواه بغير إسناد. رواه مالك ، عن نافع
، عن عبد الله بن عمر في الموطأ: 831 ، ورواه البخاري من طريق مالك (الفتح 2: 93-
94) ، ورواه مسلم من طريقه أيضًا ، في صحيحه 11: 184 ، 185.
و"المجن": الترس ، لأنه يجن صاحبه ، أي يواريه.
(2) الأثر: 11912- ساقه هنا بغير إسناد أيضًا ، وقد مضى
ص: 266 ، تعليق رقم: 1.
وهذا الخبر رواه البخاري بأسانيده (الفتح 12: 89- 91) ،
ومسلم بأسانيده في صحيحه 11: 180- 183.
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارقَ عشرة دراهم فصاعدًا. وممن
قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو،
وابن عباس:
11913- أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ
قيمته عَشْرة دراهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا
في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا، إلا بحجة يجب
التسليم لها. (2) وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك
في خاصّ من السُرَّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما
رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما
قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم.
11914 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال،
حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله:"والسارق
والسارقة"، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 11913- خبر ابن عباس رواه الطحاوي في معاني
الآثار 2: 93. وكان في المخطوطة والمطبوعة أن هذا الخبر مروي أيضًا عن"عبد
الله بن عمر" ، ولم أجد الرواية بذلك عن"ابن عمر بل الرواية التي احتجوا
بها في كتب أصحاب أبي حنيفة هي ما قاله"عبد الله بن عمرو" ، رواها
عنه"عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده". رواه أحمد في المسند برقم: 6900 ،
وانظر تخريج أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 93 ، وأحكام
القرآن للجصاص 2: 417 ، فلذلك صححت ما قبل هذا الأثر"عبد الله بن عمرو"
، لا كما كان في المطبوعة والمخطوطة"ابن عمر".
(2) في المطبوعة: "وأنه ليس لأحد" ، وأثبت ما
في المخطوطة.
(3) الأثر: 11914-"عبد المؤمن بن خالد الحنفي
المروزي" ، قاضي مرو. قال أبو حاتم: "لا بأس به" ، وذكره ابن حبان
في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"نجدة بن نفيع الحنفي". روى عن ابن عباس.
مترجم في التهذيب.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من
قال:"الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو
قيمته"، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القطعُ في
ربع دينار فصاعدًا". وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي
اعتلّوا بها لأقوالهم، والبيانَ عن أولاها بالصواب، بشواهده، (1) في
كتابنا"كتاب السرقة"، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع.
* * *
وقوله:"جزاء بما كسبا نكالا من الله"، يقول:
مكافأةً لهما على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله (2) ="نكالا من
الله" يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. (3)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
11915 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا
نكالا من الله والله عزيز حكيم"، لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود،
(4) فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا
وهو فساد. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "والتلميح عن أولاها
بالصواب" ، والطبري لا يقول مثل هذا أبدًا. وفي المخطوطة: "والسارق عن
أولاها بالصواب" ، وهو تحريف قبيح من عجلة الناسخ ، صواب قراءته ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس
اللغة (جزى).
= وتفسير"كسب" فيما سلف 9: 196 ، تعليق: 1
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"النكال" فيما سلف 2: 176 ،
177/ 8: 580.
(4) "رثى له يرثى": رحمه ورق له.
(5) ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود ، بزعم الرثاء
لمن أصاب حدًا من حدود الله. وطالت ألسنة قوم من أهل الدخل ، فاجترأوا على الله
بافترائهم ، وزعموا أن الذي يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح ، وأن ما أمر
الله به هو الفساد!! فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار بسلطانهم ، وتضاءل فيه
أهل الإيمان بمعاصيهم.
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وكان عمر بن الخطاب يقول:"اشتدُّوا على السُّرَّاق،
فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا".
* * *
وقوله:"والله عزيز حكيم" يقول جل
ثناؤه:"والله عزيزٌ" في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل
معاصيه="حكيم"، في حكمه فيهم وقضائه عليهم. (1)
يقول:
فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على السرَّاق
وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم، فإني
بحكمتي قضيت ذلك عليهم، (2) وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَمَنْ تَابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"فمن تاب"، من
هؤلاء السراق، يقول: من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه، إلى ما يرضاه
من طاعته (3) ="من بعد ظلمه"،
و"ظلمه"، هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس (4) ="وأصلح"،
(5) يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله،
__________
(1) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 9: 378 ،
تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإني بحكمي
قضيت..." ، والأجود هنا ما أثبت.
(3) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس
اللغة.
(4) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس الغة.
(5) زدت قوله تعالى: "وأصلح" ، ليتم سياق أبي
جعفر ، كما جرى عليه في تفسيره ، ولم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة.
والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته. (1)
وكان مجاهد -فيما ذكر لنا- يقول: توبته في هذا الموضع،
الحدُّ الذي يقام عليه.
* * *
11916 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني
عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح"،
فتاب عليه، يقول: الحدُّ. (3)
11917 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا موسى بن داود قال،
حدثنا ابن لهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله
بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا
هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا يدها اليمنى. فقالت
المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك أمك!
قال: فأنزل الله جل وعز:"فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح فإن الله يتوب
عليه". (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 9: 340 ،
تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(2) وضعت هذه النقط ، لأني قدرت أن قول مجاهد قد سقط من
الناسخ ، أو من أبي جعفر نفسه. وذلك أن الخبر الآتي بعده عن ابن عباس ، لا عن
مجاهد.
(3) في المطبوعة: "يقول: فتاب عليه بالحد" ،
وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب.
يعني أن توبة الله عليه بعد الحد الذي يقام عليه لتوبته.
(4) الأثر: 11917-"موسى بن داود الضبي" ، ثقة
من شيوخ أحمد ، مضى برقم: 10190 = و"ابن لهيعة" ، مضى مرارًا.
و"حيي بن عبد الله بن شريح المعافري الحبلي
المصري". روى له الأربعة ، ثقة. تكلم فيه أحمد وقال: "عنده
مناكير". وقال البخاري: "فيه نظر". وقال ابن معين"ليس به
بأس" وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة". وذكره ابن
حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي" هو"عبد الله بن
يزيد المعافري" ، تابعي ثقة. مضى برقم: 6657 ، 9483.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 6657 ، من طريق حسن
بن موسى عن ابن لهيعة ، عن حيي ، مطولا مفصلا ، وخرجه أخي السيد أحمد هناك وقال:
"إسناده صحيح".
ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 152 ، ثم نقل رواية أحمد ،
ثم قال: "وهذه المرأة ، هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصححين ،
من رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة". ثم انظر فتح الباري (12: 76- 86) ،
وصحيح مسلم 11: 186- 188.
والمرأة التي سرقت هي: "فاطمة بنت الأسود بن عبد
الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" (ابن سعد 8: 192) ، وقد استوفى
الحافظ ابن حجر خبرها في شرح هذا الحديث في الفتح.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وقوله:"فإن الله يتوب عليه"، يقول: فإن الله
جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى، عما يكرَه ويسخط من معصيته. (1)
* * *
وقوله:"إن الله غفور رحيم" يقول: إن الله عز
ذكره ساترٌ على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه، بالعفو عن عقوبته عليها
يوم القيامة، وتركه فضيحتَه بها على رءوس الأشهاد="رحيم" به وبعباده
التائبين إليه من ذنوبهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: ألم يعلم هؤلاء= [يعني القائلين]:"لن تمسنا النار إلا أيامًا
معدودة"، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه (3) = أن الله مدبِّر ما في السموات وما في
الأرض، ومصرفه وخالقه، لا
__________
(1) في المطبوعة: "عما يكرهه...." وأثبت
الصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما
سلف من فهارس اللغة.
(3) كان في المطبوعة: "ألم يعلم هؤلاء
القائلون...الزاعمون" ، وفي المخطوطة: "ألم يعلم هؤلاء القائلين...
الزاعمين" ، فأثبت ما في المخطوطة ، وزدت"يعني" بين قوسين ، فإني
أرجح أنها سقطت من الناسخ.
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ
بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (41)
يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك
ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما في واحدة منهما،
فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف= أو
يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه، ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا
على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في
الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة
="والله على كل شيء قدير"، يقول: والله جل وعز على تعذيب من أرَاد
تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة
بالتوبة عليه وغير ذلك من الامور كلها= قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه،
والعباد عباده.
* * *
وخرج قوله:"ألم تعلم أن الله له ملك السموات
والأرض"، (1) خطابًا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق
بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حَوَاليها. وقد
بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ
قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، بقوله
لبني قريظة حين حاصرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما هو الذَّبح، فلا
تنزلوا على حكم سعد".
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من نظائرها ،
في فهارس اللغة.
(2) انظر ما سلف 2: 484- 488.
ذكر من قال ذلك:
11918 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا
آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال: نزلت في رجل من الأنصار= زعموا أنه أبو
لبابة= أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار، ما الأمر؟ وعلام ننزل؟ فأشار إليهم أنه
الذَّبح.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من
المسلمين يسألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حُكمه في قتِيلٍ قتله.
ذكر من قال ذلك:
11919 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن
زكريا، عن عامر:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، قال: كان رجل من
اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا ليِ محمدًا
صلى الله عليه وسلم، فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه، (1) وإن كان يأمرنا بالقتل
لم نأته. 11920 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن
زكريا، عن عامر، نحوه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإن كان يقضي بالدية" ، غير
ما في المخطوطة ، وهو ما أثبته. ويعني بقوله: "بعث بالدية" (بالبناء
للمجهول): أنه قد أوتي في رسالته وبعثته أن يحكم في مثل ذلك بالدية دون القصاص.
وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه
ارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
11921 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير،
عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث، عن سعيد بن المسيب:
أن أبا هريرة حدّثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة، (1) وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد
أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد =صلى الله عليه وسلم=
فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، (2) فإن عمل فيهما بعملكم من
التجبيه (3) = وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان
على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار = فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم
فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. (4) فأتوه فقالوا: يا محمد،
هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم
فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) "بيت المدراس"، هو البيت الذي كان اليهود
يدرسون فيه كتبهم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فولوه الحكم"
بالفاء ، وأثبت أجودهما من سيرة ابن هشام.
(3) في المطبوعة: "بعملكم من التحميم ، وهو
الجلد" ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وهي غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت ،
وهي كما أثبتها في سيرة ابن هشام.
(4) في سيرة ابن هشام: "وإن هو حكم فيهما بالرجم ،
فإنه نبي ، فاحذروه ...".
وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، (1)
فقال:"يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم!" فأخرجوا إليه عبد الله بن
صوريا الأعور= وقد روى بعض بني قريظة، (2)
أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب،
ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة (3) = فخلا به رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول
الله صلى الله عليه وسلم المسألةَ، (4) يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك
أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في
التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ،
ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب
مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. (5) ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله
جل وعز:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا
بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم". (6)
11922 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا هناد
قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد= عن
الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مرَّ النبي صلى الله عليه
وسلم بيهوديٍّ محمَّم مجلود، (7) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من علمائهم
__________
(1) في المطبوعة: "في بيت المدراس" ، كما في
سيرة ابن هشام ، وأثبت ما في المخطوطة ، فإنه صواب المعنى أيضا.
(2) في ابن هشام: "وقد حدثني بعض بني قريظة".
(3) قال ابن هشام في سيرته: من قوله: "وحدثني بعض
بني قريظة" ، إلى"أعلم من بقى بالتوراة" ، من قول ابن إسحق. وما
بعده ، من الحديث الذي قبله= فلذلك وضعت ذلك كله بين خطين.
(4) "ألظ به المسألة": ألح في سؤاله."لظ
بالشيء" و"ألظ به" ، لزمه وثابر عليه.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "في بني عثمان بن غالب
بن النجار" ، وهو خطأ صرف ، صوابه ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها. وليس
للنجار ولد يقال له"غالب"
، ولا لمالك
بن النجار ولد يقال له"عثمان".
(6) الأثر: 11921- سيرة ابن هشام 2: 213 ، 214 ، وهو
فيها تال للأثر السالف هنا رقم: 11616.
وهذا الخبر رواه أحمد مختصرا. ورواه أبو داود في سننه 4:
216-218 ، رقم: 4450 ، 4451 ، بغير هذا اللفظ
والبيهقي في السنن 8: 246 ، 247. انظر تفسير ابن كثير 3: 156 ، وسيأتي برقم: 11923
، 11924.
(7) في المطبوعة: "مر على النبي ..." ،
بزيادة"على" كما في الروايات الأخرى ، وأثبت ما كان في المخطوطة.
و"المحمم": المسود الوجه"حمم الرجل
تحميما": سخم وجهه بالحمم ، وهو الفحم.
فقال:
أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم؟ قال: نعم! قال: فأنشدك
بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم؟ قال: لا ولولا أنك
نشدتني بهذا لم أحدِّثك، ولكن الرجم، ولكن كثرُ الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا
الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا:"تعالوا نجتمع فنضع
شيئًا مكان الرجم، فيكون على الشريف والوضيع"، فوضعنا التحميم والجلد مكان
الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! (1) فأمر
به فرجم، فأنزل الله:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" الآية. (2)
11923 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند
سعيد رجل يوقِّره، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شَهِد الحديبية، وكان من أصحاب
أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم=
11924- ح، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث
قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني رجل من مزينة
__________
(1) في المطبوعة: "اللهم إني أنا أول ..." ،
وأثبت ما في المخطوطة ، وبمثله في الناسخ والمنسوخ: 130.
(2) الأثر: 11922- رواه أبو جعفر من ثلاث طرق ، عن
الأعمش. وسيرويه بعد برقم:
12034 ، 12036 من طريق
القاسم ، عن الحسين ، عن أبي معاوية ، ومن طريق هناد عن أبي معاوية.
و"عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي" ، مضى برقم:
2781 ، 2998 ، 8783 ، وكان في المطبوعة: "عبيدة بن عبيد" ، والصواب من
المخطوطة.
و"عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي" ، مضى
برقم: 8208.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 11: 209 ، 210 ، وأحمد في
مسنده 4: 286 ، والبيهقي في السنن 8: 246 ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ:
130 وأبو داود في سننه 4: 215 ، رقم: 4448 ، وقال ابن كثير في تفسيره ، بعد أن ساق
خبر أحمد: "انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه ،
من غير وجه عن الأعمش ، به".
وانظر تتمه هذا الأثر فيما سيأتي رقم: 11939 ، ورقم:
12022.
ممن يَتَّبع العلمَ ويعيه، حدَّث عن سعيد بن المسيب، أن
أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من اليهود،
وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، (1) فقال بعضهم لبعض: إن هذا
النبي قد بعث، وقد علمتم أنْ قد فُرِض عليكم الرجْم في التوراة فكتمتموه، واصطلحتم
بينكم على عقوبة دونه، فانطلقوا نسأل هذا النبي، (2) فإن أفتانا بما فرض علينا في
التوراة من الرجم، تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تُطَاع
وتصدَّق! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ
لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة: فلم يَرْجع إليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤمُّ مِدْراس اليهود، حتى أتاهم
فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس، فقال لهم: يا معشر اليهود، أنشُدكم بالله
الذي أنزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العُقوبة على من زنى وقد
أحصن؟ قالوا: إنا نجده يحمَّم ويُجْلَد! وسكت حَبْرهم في جانب البيت، فلما رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صَمته، ألظَّ يَنْشُدُه، فقال حبرهم: اللهم إذْ
نَشَدتنا فإنا نجد عليهم الرجم! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فماذا كان
أوّلُ ما ترخَّصتم به أمرَ الله"؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل
آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك رجمه، فقام دونه قومُه فقالوا: والله لا ترجمه
حتى ترجُم فلانًا ابن عم الملك! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقضي بما في التوراة! فأنزل الله في
ذلك:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى
قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". (3)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك المنافقون.
ذكر من قال ذلك:
11925 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله:"يا أيها الرسول لا يحزنك
الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال:
هم المنافقون.
11926 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"آمنا بأفواههم" قال يقول: هم
المنافقون="سماعون لقوم آخرين"، قال: هم أيضًا سماعون لليهود. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قد أشاروا في صاحب لهم" ،
وفي المخطوطة: "شاوروا" ، وهي ضعيفة هنا ، ورأيت أن أقرأها"تشاوروا".
(2) في المطبوعة: "فانطلقوا ، فنسأل" وفي
المخطوطة: "فسل" غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها.
(3) الأثران: 11923 ، 11924- خبر الزهري هذا ، رواه أبو
جعفر فيما سلف من طريق ابن إسحق عن الزهري برقم: 11921.
وستأتي روايته أيضا بغير هذا اللفظ ، برقم: 12008.
ورواه أبو داود في سننه 4: 4450 ، من طريق معمر عن
الزهري ، وبرقم: 4451 ، من طريق ابن إسحق ، عن الزهري.
ورواه أحمد في مسنده مختصرا ، برقم 7747 ، من طريق عبد
الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن رجل من مزينة ، وسيروي أبو جعفر هذا الخبر من
طريق عبد الرازق فيما يلي برقم: 12008 ، فقال أخي السيد أحمد في شرحه:
"إسناده منقطع ، لإبهام الرجل من مزينة الذي روى عن الزهري". ثم أشار في
تخريجه إلى رواية الطبري رقم: 11921 ، ولم يشر إلى هذين الخبرين رقم: 11923 ،
11924 ، ولا إلى الخبر الآتي رقم: 12008 ، ثم ساق رواية عبد الرزاق عن مصر بنصها.
ثم قال: "وهذا الرجل من مزينة ، المجهول ، وصفه الزهري ، في رواية أبي داود ،
من طريق يونس ابن يزيد الأيلي عن الزهري: أنه ممن يتبع العلم ويعيه" ، كما في
إسنادنا هذا رقم: 11924 ، وفاته ما في الإسناد رقم 11923: أنه رجل من
مزينة"كان أبوه شهد الحديبية". ومع كل ذلك ، فالرجل لا يزال مجهولا لم
يعرف.
فائدة: راجع ما سلف في أخبار الرجم من رقم: 11609- 11611.
(4) الأثر: 11926- حذف في المطبوعة من أول قوله:
"سماعون لقوم آخرين" ، إلى آخر الخبر ، وهو ثابت في المخطوطة كأنه
استنكر ذكره هنا ، مع أنه آت في تتمة الآية ، ولم يذكر فيها قول مجاهد هناك. وهذا
عبث لا معنى له.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، (1)
أن يقال: عني بقوله: (2) "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا
آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قومٌ من المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن
دخل في هذه الآية ابنُ صوريا= وجائز أن يكون أبو لبابة= وجائز أن يكون غيرُهما،
غير أن أثبت شيء روي في ذلك، ما ذكرناه من الرواية قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن
عازب، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك
كذلك، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال: عُنِي به عبد الله بن صوريَا.
وإذا صحّ ذلك، كان تأويل الآية: يا أيُّها الرسول لا
يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك، والتكذيبِ بأنك لي نبي، من الذين
قالوا:"صدَّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينًا، بوجودنا
صِفَتك في كتابنا". (3)
وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن
الزهري: (4) أن ابن صُوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والله يا
أبا القاسم، إنهم ليعلمون أنك نبى مُرسْل، ولكنهم يحسدونك". فذلك كان =على
هذا الخبر= من ابن صوريا إيمانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه، ولم يكن
مصدِّقًا لذلك بقلبه. فقال الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُطْلِعَه
على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول
مرسل. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأولى الأقوال" ،
حذف"هذه" ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك" ،
والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) قوله: "بوجودنا صفتك" ، أي: بأننا نجد
صفتك ...
(4) في الأثر رقم: 11921.
(5) انظر تفسير"حزن" فيما سلف 7: 234 ، 418=
وتفسير"سارع" فيما سلف 7: 130 ، 207
، 418 = وانظر تفسير"من أفواههم" فيما سلف 7: 145- 147=
وتفسير"يقولون بأفواههم" 7: 378 ، 379.
القول في تأويل قوله عز وجلّ : { وَمِنَ الَّذِينَ
هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: يا أيها الرسولُ لا يحزنك تسرُّع من تسرَّع من هؤلاء المنافقين= الذين
يظهارون بألسنتهم تصديقَك، وهم معتقدون تكذيبك= إلى الكفر بك، ولا تسرُّعُ اليهود
إلى جحود نبوّتك. (1) ثم وصف جل وعزّ صفتهم، (2)
ونعتهم له بنعوتهم الذَّميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره
مُعزّيًا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه، أنَّهم أهلُ
استحلال الحرامِ والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرُّشَى والسُّحْت، (3)
وأنهم أهل إفكٍ وكذبٍ على الله، وتحريف لكتابه. (4) ثم أعلمه أنه مُحِلٌّ بهم
خزيَه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة. فقال: هم"سماعون للكذب"،
يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول: هم يسمعون الكذب، و"سمعهم الكذب"،
سمعُهم قول أحبارهم: أنّ حكم الزاني المحصن في التوراة، التحميمُ
والجلد="سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، يقول: يسمعون لأهل الزاني الذين
أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم القوم الآخرون الذين لم
يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مصرِّين على أن يأتوه، كما قال
مجاهد:-
11927 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
عن ابن جريج، قال مجاهد:"سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، مع من أتوك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف 2: 143 ، 507/9:
391.
(2) في المطبوعة: "ثم وصف جل ذكره صفتهم" ،
غير ما في المخطوطة لغير طائل.
(3) يعني ما سيأتي في الآية: 42.
(4) في المطبوعة: "وتحريف كتابه" ، وفي
المخطوطة: "أهل الإفك ، وكذب على الله ، وتحريف كتابه" ، ورأيت السياق
يقتضي أن تكون"وتحريف لكتابه" ، فأثبتها.
واختلف أهل التأويل في"السماعين للكذب السماعين
لقوم آخرين". (1)
فقال بعضهم:"سماعون لقوم آخرين"، يهود فَدَك.
و"القوم الآخرون" الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهوُد
المدينة. (2)
ذكر من قال ذلك:
11928 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر في
قوله:"ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال: يهود
المدينة="لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه"، قال: يهود فدك،
يقولون ليهود المدينة:"إن أوتيتم هذا فخذوه".
* * *
وقال آخرون: المعنيّ بذلك قوم من اليهود، كان أهل المرأة
التي بَغَتْ، بعثوا بهم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها.
والباعثون بهم هم"القوم الآخرون"، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا
أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
11929 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون
لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون"، فإنّ بني إسرائيل أنزل الله عليهم: (3)
"إذا زنى منكم أحد فارجموه"، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم،
فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من
الضعفاء،
__________
(1) في المطبوعة: "في السماعون للكذب السماعون لقوم
آخرين" ، غير ما في المخطوطة بلا معنى ، بل بفساد.
(2) الظاهر أن في هذه الترجمة خطأ من أبي جعفر ، وكأن
صوابها: "فقال بعضهم:
"سماعون لقوم آخرين ، يهود المدينة. والقوم الآخرون
الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهود فدك". والخبر نفسه بعد ،
دال على صحة ما ذهبت إليه.
(3) في المطبوعة: "كان بنو إسرائيل ..." ،
وأثبت ما في المخطوطة.
فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا: لا ترجموه
حتى تأتُوا بصاحبكم فترجمونهما جميعًا! فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد
علينا، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم، وجعلوا مكانه أربعين جَلْدة بحبل مقيَّر،
ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه، (1) ويسوِّدون وجهه، ويطوفون به. فكانوا يفعلون
ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، فزنت امرأة من أشراف اليهود
يقال لها:"بسرة"، فبعث أبوها ناسًا من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه، فإنا نخاف أن يفضحنا ويُخْبرنا بما
صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذُوه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسألوه، فقال: الرجم! فأنزل الله عز وجل:"ومن الذين هادوا سمَّاعون لقوم
آخرين لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرَّفوا الرجم فجعلوه
جلدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ
من قال: إن"السماعين للكذب"، هم"السماعون لقوم آخرين". (2)
وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة،
والمسموعُ لهم من يَهُود فدك= ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم. غير أنه أيّ ذلك كان، فهو من
صفة قوٍم من يهود، سَمِعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي
محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قَبْل أن يأتوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك
__________
(1) في المطبوعة: "ويحممونه ويحملونه على
حمار" ، زاد"ويحممونه" ، ولا معنى لزيادتها ، فإنه سيأتي بعد ما هو
بمعناها ، وهو قوله: "ويسودون وجهه". وأثبت ما في المخطوطة ، وإن كان
فيها"ويحملوه على حمار".
(2) في المطبوعة: "إن السماعون..." ، وأثبت ما
في المخطوطة.
لهم، ليُعْلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه
لهم. فإن لم يكن من حكمه الرجم رَضُوا به حَكَمًا فيهم. وإن كان من حكمه الرّجم،
حذِروه وتركوا الرضَى به وبحكمه.
* * *
وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول.
11930 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال: لقوم آخرين لم
يأتوه من أهل الكتاب، (1) هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه،
يقولون لهم الكذب:"محمد كاذبٌ، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به". (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لم ياتوك" ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم
للمخطوطة التي نقلت عنها نسختنا. وفي مخطوطتنا هنا ما نصه:
"يتلوهُ إن شاء الله تعالى:
القولُ في تاويل قوله: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ من بَعْد
مَوَاضِعِهِ يَقُولُون إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُأْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
كثيرًا".
ثم يبدأ بعده:
"بِسمْ الله الرَّحمن الرحيمِ
رَبِّ يَسِّرْ"
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : { يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحرف هؤلاء السمَّاعون
للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعدُ من اليهود="الكلم" (1) .
وكان تحريفُهم ذلك، تغييرَهم حكم الله تعالى ذكره= الذي أنزله في التوراة في المحصَنات
والمحصَنين من الزناة بالرجم= إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره:"يحرّفون
الكلم"، يعني: هؤلاء اليهود، والمعنيُّ حكم الكَلِم، فاكتفى بذكر الخبر
من"تحريف الكلم" عن ذكر"الحكم"، لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك قوله:"من بعد مواضعه"،
والمعنى: من بعد وضْع الله ذلك مواضعه، فاكتفى بالخبر من ذكر"مواضعه"،
عن ذكر"وضع ذلك"، كما قال تعالى ذكره:( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [سورة البقرة: 177]، والمعنى: ولكن البِرَّ برُّ
من آمن بالله واليوم الآخر. (2)
* * *
وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه=
فتكون"بعد" وضعت موضع"عن"، كما يقال:"جئتك عن فراغي من
الشغل"، يريد: بعد فراغي من الشُّغل.
* * *
ويعني بقوله:"إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه
فاحذروا"، يقول هؤلاء الباغُون السمَّاعون للكذب: إن أفتاكم محمد بالجلد
والتحميم في صاحبنا="فخذوه"، يقول: فاقبلوه منه، وإن لم يفتكم بذلك
وأفتاكم بالرجم، فاحذروا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما
سلف 2: 248/8: 430- 432/10: 129
(2) انظر ما سلف 3: 336- 339.
ذكر من قال ذلك:
11931 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن
إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيب: أن أبا
هريرة حدثهم= في قصة ذكرها="ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سماعون لقوم
آخرين لم يأتوك"، قال: [أي الذين بعثوا منهم مَنْ] بعثوا وتخلفوا، (1)
وأمروهم بما أمرُوهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، فقال:"يحرِّفون الكلم من
بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، للتجبيه (2) ="وإن لم تؤتوه
فاحذروا"، أي الرجم. (3)
11932 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن أوتيتم هذا"، إن
وافقكم هذا فخذوه. يهودُ تقولُه للمنافقين.
11933 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،"إن أوتيتم هذا فخذوه"، إن وافقكم هذا
فخذوه، وإن لم يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين.
11934 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرفوا
الرجم فجعلوه جلدًا="يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا".
11935 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن
جابر:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، يهود
فدك، يقولون ليهود
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة: "للتحميم" ، وأثبت ما في
المخطوطة ، وانظر شرح ذلك فيما سلف في الأثر: 11921 ص: 303 ، تعليق: 3.
(3) الأثر: 11931- سيرة ابن هشام 2: 214 ، وهو تتمة
الأثر السالف رقم: 11921.
المدينة: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا
الرَّجم. (1)
11936 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن أوتيتم هذا
فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، هم اليهودُ، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم
في التوراة في الزّنا بالرجم، فنَفِسوا أن يرجموها، (2) وقالوا: انطلقوا إلى محمد،
فعسى أن يكون عنده رُخْصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتَوْه، فقالوا: يا أبا
القاسم، إنّ امرأة منّا زنت، فما تقول فيها؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
كيف حُكم الله في التوراة في الزاني؟ فقالوا: دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في
ذلك؟ فقال: ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنزلت على موسى! فقال لهم: بالذي نجاكم من آل فرعون،
وبالذي فَلَق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، إلا أخبرتموني ما حُكْم الله في
التوراة في الزاني؟! قالوا: حكمه الرَّجْم! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرجمت. (3)
11937 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن
أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني
قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم، إنما
يعطونهم الدية لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا
بالقَوَد لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم
المدينة على تَفِئَةِ قتيلهم هذا، (4) فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
__________
(1) الأثر: 11935- انظر الأثر السالف رقم: 11928.
(2) "نفس عليه الشيء" و"نفس به
عليه" (بكسر الفاء فيهما) : ضن به وبخل ، يعني أنهم رقوا لها وضنوا بها على
الرجم والموت.
(3) قوله: "فأمر بها رسول الله" ، إلى آخر الجملة
، ليس في المخطوطة. وكأنه زاده من نص الدر المنثور 2: 282.
(4) في المطبوعة: "على هيئة فعلهم هذا" ، ولا
معنى لها. وفي المخطوطة: "على نصه فصلهم هذا" ، غير منقوطة ، وهذا صواب
قراءتها. يقال: "أتيته على تفئة ذلك" ، أي: على حينه وزمانه. وانظر مثل
ذلك في الأثر رقم: 7941 ، ج 7: 253 ، تعليق: 1.
وأما "فعلهم هذا" ، كما في المطبوعة ،
و"فصلهم هذا" كما في المخطوطة ، فصواب قراءته"قتيلهم هذا" ،
كما هو واضح من السياق.
فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عَمْدٍ،
متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القَوَد، فإن قبل منكم
الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ!
11938 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، يقول: يحرّف هؤلاء الذين لم
يأتوك الكلم عن مواضعه، لا يضعونه على ما أنزله الله. قال: وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعضٍ.
11939 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن
حميد، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب:"يقولون إن أوتيتم
هذا فخذوه وإذ لم تؤتوه فاحذروا"، يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم
والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا }
قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه
محمدًا صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين
في هذه الآية. يقول له تعالى ذكره: لا يحزنك تسرُّعهم إلى جحود نبوَّتك، فإني قد
حَتَمْتُ عليهم أنهم
__________
(1) الأثر: 11939- هذا تتمة الأثر السالف رقم: 11922 ،
فانظر التعليق عليه هناك.
لا يتوبون من ضلالتهم، (1) ولا يرجعون عن كفرهم، للسابق
من غضبي عليهم. وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرُّعهم إلى ما جعلته سببًا
لهلاكهم واستحقاقِهم وعيدي.
* * *
ومعنى"الفتنة" في هذا الموضع: الضلالة عن قصد
السبيل. (2)
* * *
يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله، يا محمد، مَرْجعه
بضلالته عن سبيل الهدى، (3) فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة
والضلالة. (4) فلا تشعر نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق، كما:-
11940 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا".
*
* *
القول في تأويل قوله جل وعز : { أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: لا يحزُنك الذين يسارعون في الكفر من اليهودِ الذين وصفت لك صفتهم. وإن
مسارعتهم إلى ذلك، أنّ الله قد أراد فتنتهم، وطَبَع على قلوبهم، ولا يهتدون
أبدًا="أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم"، يقول: هؤلاء الذين لم
يرد الله أن يطهِّر من دنس
__________
(1) "حتم عليه": قضى عليه وأوجب الحكم.
(2) انظر تفسير" الفتنة" فيما سلف 9: 123 ،
تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "مرجعه
بضلالته" ، كأنه يعني: انصرافه بضلالته عن سبيل الهدى ، وأخشى أن يكون اللفظ
محرفًا.
(4) انظر تفسير"ملك" فيما سلف ص: 147 ، 187
(5) سقط بقية هذا الأثر من المخطوطة والمطبوعة ، فوضعت
النقط تنبيهًا على هذا الخرم.
الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم، بطهارة الإسلام
ونظافة الإيمان، (1) فيتوبوا، بل أراد بهم الخزي في الدنيا= وذلك الذلّ والهوان
(2) = وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى"الخزي"، روي القول عن
عكرمة.
11941 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
سفيان، عن علي بن الأقمر وغيره، عن عكرمة، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر
قلوبهم لهم في الدنيا خزي"، قال: مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"طهر" فيما سلف 3: 38-40 ، 393
، وفهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف ص: 276 تعليق:
3 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس
اللغة.
(4) الأثر: 11941-"علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث
الهمداني" ، أبو الوازع الكوفي. روى له الأئمة. ثقة حجة. مترجم في التهذيب.
و"سفيان" هو الثوري.
وكان في المطبوعة: "علي بن الأرقم" ، وهو خطأ
محض ، صوابه في المخطوطة.
المائدة - تفسير الدر المنثور
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ
أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ (37)
- قَوْله يعالى: إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مافي
الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة مَا تقبل
مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم
بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم
- أخرج مُسلم وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن
مرْدَوَيْه عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
يخرج من النَّار قوم فَيدْخلُونَ الْجنَّة
قَالَ يزِيد بن الْفَقِير: فَقلت لجَابِر بن عبد الله:
يَقُول الله {يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا}
قَالَ: اتل أول الْآيَة {إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض
جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} أَلا إِنَّهُم
الَّذين كفرُوا
وَأخرج البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد وَابْن
مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن طلق بن حبيب قَالَ: كنت من أَشد
النَّاس تَكْذِيبًا للشفاعة حَتَّى لقِيت جَابر بن عبد الله فَقَرَأت عَلَيْهِ كل
آيَة أقدر عَلَيْهَا يذكر الله فِيهَا خُلُود أهل النَّار
قَالَ: ياطلق أتراك أَقْرَأ لِكِتابِ الله وأَعْلَم لسنة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مني إِن الَّذين قَرَأت هم أَهلهَا هم
الْمُشْركُونَ وَلَكِن هَؤُلَاءِ قوم أَصَابُوا ذنوباً ثمَّ خَرجُوا مِنْهَا ثمَّ
أَهْوى بيدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: صمتا إِن لم أكن سَمِعت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يخرجُون من النَّار بَعْدَمَا دخلُوا وَنحن نَقْرَأ
كَمَا قَرَأت
وَأخرج ابْن جرير عَن عِكْرِمَة أَن نَافِع بن
الْأَزْرَق قَالَ لِابْنِ عَبَّاس {وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فَقَالَ ابْن
عَبَّاس: وَيحك
اقْرَأ مافوقها هَذِه للْكفَّار
وَأخرج عبد بن حميد عَن عِكْرِمَة قَالَ: إِن الله إِذا
فرغ من الْقَضَاء بَين خلقه أخرج كتابا من تَحت عَرْشه فِيهِ: رَحْمَتي سبقت
غَضَبي وَأَنا أرْحم الرَّاحِمِينَ
قَالَ:
فَيخرج من النَّار مثل أهل الْجنَّة أَو قَالَ مثلي أهل
الْجنَّة مَكْتُوب هَهُنَا مِنْهُم - وَأَشَارَ إِلَى نَحره - عُتَقَاء الله
تَعَالَى فَقَالَ رجل لعكرمة: يَا أَبَا عبد الله فَإِن الله يَقُول {يُرِيدُونَ
أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} قَالَ: وَيلك
أُولَئِكَ هم أَهلهَا الَّذين هم أَهلهَا
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن
أَشْعَث قَالَ: قلت: أَرَأَيْت قَول الله {يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا
هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فَقَالَ: إِنَّك وَالله لاتسقط على شَيْء إِن للنار
أَهلا لايخرجون مِنْهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن أبي مَالك قَالَ: ماكان فِيهِ
عَذَاب مُقيم يَعْنِي دَائِم لاينقطع
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
- قَوْله تَعَالَى: وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا
أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم
- أخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن نجدة
الْحَنَفِيّ قَالَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن قَوْله {وَالسَّارِق والسارقة
فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} أخاص أم عَام قَالَ: بل عَام
وَأخرج عبد بن حميد عَن نجدة بن نفيع قَالَ: سَأَلت ابْن
عَبَّاس عَن قَوْله {وَالسَّارِق والسارقة} الْآيَة
قَالَ: ماكان من الرِّجَال وَالنِّسَاء قطع
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ من
طرق عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ فَاقْطَعُوا أيمانهما
وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر
وَأَبُو الشَّيْخ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
أَنه قَالَ: فِي قراءتنا وَرُبمَا قَالَ: فِي قِرَاءَة
عبد الله والسارقون والسارقات فَاقْطَعُوا أَيْمَانهم
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي
قَوْله {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} قَالَ: لاترثوا لَهُم فِيهِ فَإِنَّهُ
أَمر الله الَّذِي أَمر بِهِ قَالَ: وَذكر لنا أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يَقُول:
اشتدوا على الْفُسَّاق واجعلوهم يدا يدا ورجلاً رجلا
وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَائِشَة أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لاتقطع يَد السَّارِق إلافي ربع دِينَار
فَصَاعِدا
وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف عَن ابْن جريج عَن
عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ إِن أول حد أقيم فِي الْإِسْلَام لرجل أَتَى بِهِ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سرق فَشَهِدُوا عَلَيْهِ فَأمر بِهِ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقطع فَلَمَّا حف الرجل نظر إِلَى وَجه رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّمَا سفى فِيهِ الرماد فَقَالُوا: يارسول الله
كَأَنَّهُ اشْتَدَّ عَلَيْك قطع هَذَا
قَالَ: ومايمنعني وَأَنْتُم أعون للشَّيْطَان على أخيكم
قَالُوا: فَأرْسلهُ
قَالَ: فَهَلا قبل أَن تَأْتُونِي بِهِ إِن الإِمَام
إِذا أَتَى بِحَدّ لم يسغْ لَهُ أَن يعطله
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
- قَوْله تَعَالَى: فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح
فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك
السَّمَوَات وَالْأَرْض يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء وَالله على كل شَيْء
قدير
- أخرج أَحْمد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن عبد
الله بن عمر أَن امْرَأَة سرقت على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقطعت يَدهَا الْيُمْنَى
فَقَالَت: هَل لي من تَوْبَة يارسول
الله قَالَ: نعم أَنْت الْيَوْم من خطيئتك كَيَوْم
وَلدتك أمك فَأنْزل الله فِي سُورَة الْمَائِدَة {فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح
فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد فِي
قَوْله {فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ} يَقُول:
الْحَد كَفَّارَته
وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
عَن ثَوْبَان قَالَ: أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل سرق شملة
فَقَالَ: ماأخاله سرق أَو سرقت قَالَ: نعم
قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوا يَده ثمَّ احسموها
ثمَّ ائْتُونِي بِهِ فَأتوهُ بِهِ فَقَالَ: تبت إِلَى الله فَقَالَ: إِنِّي أَتُوب
إِلَى الله
قَالَ: اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ
وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن ابْن الْمُنْكَدر أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطع رجلا ثمَّ أَمر بِهِ فحسم وَقَالَ: تب إِلَى
الله فَقَالَ أَتُوب إِلَى الله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن
السَّارِق إِذا قطعت يَده وَقعت فِي النَّار فَإِن عَاد تبعها وَإِن تَابَ
استشلاها يَقُول: استرجعها
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
- قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك
الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن
قُلُوبهم وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك يحرفُونَ
الْكَلم من بعد موَاضعه يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه
فاحذروا وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا أُولَئِكَ الَّذين
لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة
عَذَاب عَظِيم
- أخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن
عَبَّاس فِي قَوْله {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي
الْكفْر} قَالَ: هم الْيَهُود {من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن
قُلُوبهم} قَالَ: هم المُنَافِقُونَ
وَأخرج أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن جرير وَابْن
الْمُنْذر وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس
قَالَ إِن الله أنزل {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ}
الْمَائِدَة الْآيَة 44 الظَّالِمُونَ الْفَاسِقُونَ
أنزلهَا الله فِي طائفتين من الْيَهُود قهرت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى فِي
الْجَاهِلِيَّة حَتَّى ارتضوا واصطلحوا على أَن كل قَتِيل قتلته الغريزة من
الذليلة فديته خَمْسُونَ وسْقا وكل قَتِيل قتلته الذليلة من الغريزة فديته مائَة
وسق فَكَانُوا على ذَلِك حَتَّى قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمَدِينَة فَنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْمئِذٍ لم يظْهر عَلَيْهِم فَقَامَتْ الذليلة فَقَالَت: وَهل كَانَ هَذَا فِي
حيين قطّ دينهما وَاحِد ونسبهما وَاحِد وبلدهما وَاحِد ودية بَعضهم نصف دِيَة بعض
إِنَّمَا أعطيناكم هَذَا ضيماً مِنْكُم لنا وفرقاً مِنْكُم فاما إِذْ قدم مُحَمَّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلانعطيكم ذَلِك فَكَادَتْ الْحَرْب تهيج بَينهم ثمَّ
ارتضوا على أَن يجْعَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهم ففكرت
الغريزة فَقَالَت: وَالله مَا مُحَمَّد بمعطيكم مِنْهُم ضعف مَا يعطيهم مِنْكُم
وَلَقَد صدقُوا مَا أعطونا هَذَا الاضيما وقهراً لَهُم فدسوا إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاخبر الله رَسُوله بأمرهم كُله وماذا أَرَادوا فَأنْزل
الله {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} إِلَى
قَوْله {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} ثمَّ قَالَ:
فيهم - وَالله - أنزلت
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر
وَأَبُو الشَّيْخ عَن عَامر الشّعبِيّ فِي قَوْله {وَلَا يحزنك الَّذين
يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} قَالَ: رجل من الْيَهُود قتل رجلا من أهل دينه فَقَالُوا
لحلفائهم من الْمُسلمين: سلوا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كَانَ
يقْضِي بِالدِّيَةِ اختصمنا إِلَيْهِ وَإِن كَانَ يقْضِي بِالْقَتْلِ لم نأته
وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر
وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن أبي هُرَيْرَة أَن أَحْبَار الْيَهُود اجْتَمعُوا
فِي بَيت الْمِدْرَاس حِين قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة
وَقد زنى رجل بعد احصانه بِامْرَأَة من الْيَهُود وَقد أحصنت فَقَالُوا: ابْعَثُوا
هَذَا الرجل وَهَذِه الْمَرْأَة إِلَى مُحَمَّد فَاسْأَلُوهُ كَيفَ الحكم فيهمَا
وولوه الحكم فيهمَا فَإِن حكم بعملكم من التجبية وَالْجَلد بِحَبل من لِيف مَطْلِي
بقار ثمَّ يسود وُجُوههمَا ثمَّ يحْملَانِ على حِمَارَيْنِ وُجُوههمَا من قبل
أدبار الْحمار فَاتَّبعُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ ملك سيد الْقَوْم وَإِن حكم فيهمَا
بِالنَّفْيِ فَإِنَّهُ نَبِي فَاحْذَرُوهُ على مَا فِي أَيْدِيكُم أَن يسلبكم
فَأتوهُ فَقَالُوا: يامحمد
هَذَا رجل قد زنى بعد إحْصَانه بِامْرَأَة قد أحصنت
فاحكم فيهمَا فقد وليناك الحكم فيهمَا فَمشى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَتَّى أَتَى أَحْبَارهم فِي بَيت
الْمِدْرَاس فَقَالَ: يامعشر يهود أخرجُوا إِلَيّ علمائكم
فأخرجوا إِلَيْهِ عبد الله بن صوريا وياسر بن أَخطب ووهب بن يهودا فَقَالُوا:
هَؤُلَاءِ عُلَمَاؤُنَا
فَسَأَلَهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ
حصل أَمرهم إِلَى أَن قَالُوا لعبد الله بن صوريا: هَذَا أعلم من بَقِي
بِالتَّوْرَاةِ فَخَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وشدد
الْمَسْأَلَة وَقَالَ: ياابن صوريا أنْشدك الله وأذكرك أَيَّامه عِنْد بني
إِسْرَائِيل هَل تعلم أَن الله حكم فِيمَن زنى بعد إحْصَانه بِالرَّجمِ فِي
التَّوْرَاة فَقَالَ: اللَّهُمَّ نعم أما وَالله يَا أَبَا الْقَاسِم إِنَّهُم
ليعرفون أَنَّك مُرْسل وَلَكنهُمْ يحسدونك فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأمر بهما فَرُجِمَا عِنْد بَاب الْمَسْجِد ثمَّ كفر بعد ذَلِك ابْن صوريا
وَجحد نبوّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله {يَا أَيهَا
الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} الْآيَة
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَأحمد وَعبد بن حميد وَأَبُو
دَاوُد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ أول مرجوم رجمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْيَهُود
زنى رجل مِنْهُم وَامْرَأَة فَقَالَ بَعضهم لبَعض: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا
النَّبِي فَإِنَّهُ نَبِي بعث بتَخْفِيف فَإِن أَفتانا بِفُتْيَا دون الرَّجْم
قبلناها واحتججنا بهَا عِنْد الله وَقُلْنَا: فتيا نَبِي من أنبيائك
قَالَ: فَأتوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
جَالس فِي الْمَسْجِد وَأَصْحَابه فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم ماترى فِي رجل
وَامْرَأَة مِنْهُم زَنَيَا فَلم يكلمهُ كلمة حَتَّى أَتَى مِدْرَاسهمْ فَقَامَ
على الْبَاب فَقَالَ: أنْشدك الله الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى ماتجدون
فِي التَّوْرَاة على من زنى إِذا أحصن قَالُوا يحمم ويجبه ويجلد وَالتَّجْبِيَة
أَن يحمل الزانيان على حمَار ويقابل أقفيتهما وَيُطَاف بهما وَسكت شَاب فَلَمَّا
رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سكت ألظ النِّشْدَة فَقَالَ: اللَّهُمَّ
نَشَدتنَا فَإنَّا نجد فِي التَّوْرَاة الرَّجْم ثمَّ زنى رجل فِي أسرة من النَّاس
فَأَرَادَ رجمه فحال قومه دونه وَقَالُوا: وَالله مانرجم صاحبنا حَتَّى تَجِيء
بصاحبك فترجمه فَاصْطَلَحُوا بِهَذِهِ الْعقُوبَة بَينهم
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَإِنِّي أحكم
بِمَا فِي التَّوْرَاة فَأمر بهما فرجمها
قَالَ الزُّهْرِيّ: فَبَلغنَا أَن هَذِه الْآيَة نزلت
فيهم {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ
الَّذين أَسْلمُوا} الْمَائِدَة الْآيَة 44 فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْهُم
وَأخرج أَحْمد وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
والنحاس فِي ناسخه وَابْن جرير وَابْن
الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن
مرْدَوَيْه عَن الْبَراء بن عَازِب قَالَ: مر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَهُودِيّ محمم مجلود فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: أهكذا تَجِدُونَ حد الزَّانِي
فِي كتابكُمْ قَالُوا: نعم فَدَعَا رجلا من عُلَمَائهمْ فَقَالَ: أنْشدك بِاللَّه
الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى: أهكذا تَجِدُونَ حد الواني فِي كنابكم
قَالَ: اللَّهُمَّ لَا وَلَوْلَا أَنَّك نشدتني بِهَذَا لم أخْبرك نجد حد
الزَّانِي فِي كتَابنَا الرَّجْم وَلكنه كثر فِي أشرافنا فَكُنَّا إِذا أَخذنَا
الشريف تَرَكْنَاهُ وَإِذا أَخذنَا الضَّعِيف أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَد
فَقُلْنَا: تَعَالَوْا نجْعَل شَيْئا نقيمه على الشريف والوضيع فَاجْتَمَعْنَا على
التحميم وَالْجَلد فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي
أول من أَحْيَا أَمرك إِذْ أماتوه وَأمر بِهِ فرجم فَأنْزل الله {يَا أَيهَا
الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} إِلَى قَوْله {إِن
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} وَإِن أفتاكم بِالرَّجمِ {فاحذروا} إِلَى قَوْله {وَمن لم يحكم
بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} قَالَ فِي الْيَهُود {وَمن لم يحكم
بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} الْمَائِدَة الْآيَة 45 قَالَ: فِي
النَّصَارَى إِلَى قَوْله {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم
الْفَاسِقُونَ} الْمَائِدَة الْآيَة 47 قَالَ: فِي الْكفَّار كلهَا
وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عمر قَالَ: إِن
الْيَهُود جاؤوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرُوا لَهُ رجلا
مِنْهُم وَامْرَأَة زَنَيَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماتجدون
فِي التَّوْرَاة قَالُوا: نفصحهم ويجلدون
قَالَ عبد الله بن سَلام: كَذبْتُمْ ان فِيهَا آيَة
الرَّجْم فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فنشروها فَوضع أحدهم يَده على آيَة الرَّجْم
فَقَالَ ماقبلها وَمَا بعْدهَا فَقَالَ عبد الله بن سَلام: ارْفَعْ يدك فَرفع يَده
فَإِذا آيَة الرَّجْم
قَالُوا: صدق فَأمر بهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَرُجِمَا
وَأخرج ابْن جرير وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه
عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه
فاحذروا} قَالَ هم الْيَهُود زنت مِنْهُم امْرَأَة وَقد كَانَ حكم الله فِي
التَّوْرَاة فِي الزِّنَا الرَّجْم فنفسوا أَن يرجموها وَقَالُوا: انْطَلقُوا
إِلَى مُحَمَّد فَعَسَى أَن تكون عِنْده رخصَة فَإِن كَانَت عِنْده رخصَة فاقبلوها
فَأتوهُ فَقَالُوا: ياأبا الْقَاسِم إِن امْرَأَة منا زنت فَمَا تَقول فِيهَا
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَكيف حكم الله فِي التَّوْرَاة فِي
الزَّانِي قَالُوا: دَعْنَا مِمَّا فِي التَّوْرَاة وَلَكِن ماعندك فِي ذَلِك
فَقَالَ: ائْتُونِي
بأعلمكم بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أنزلت على مُوسَى
فَقَالَ لَهُم: بِالَّذِي نجاكم من آل فِرْعَوْن وَبِالَّذِي
فلق لكم الْبَحْر فانجاكم وَأغْرقَ آل فِرْعَوْن إِلَّا أخبرتموني ماحكم الله فِي
التَّوْرَاة فِي الزَّانِي قَالُوا: حكمه الرَّجْم فَأمر بهَا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمت
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن الْمُنْذر
وَأَبُو الشَّيْخ عَن جَابر بن عبد الله فِي قَوْله {وَمن الَّذين هادوا سماعون
للكذب} قَالَ: يهود الْمَدِينَة {سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك} قَالَ: يهود فدك
{يحرفُونَ الْكَلم} قَالَ: يهود فدك {يَقُولُونَ} ليهود الْمَدِينَة {إِن أُوتِيتُمْ هَذَا} الْجلد
{فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} الرَّجْم
وَأخرج الْحميدِي فِي مُسْنده وَأَبُو دَاوُد وَابْن
ماجة وَابْن الْمُنْذر وَابْن مرْدَوَيْه عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: زنى رجل من
أهل فدك فَكتب أهل فدك إِلَى نَاس من الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ اسألوا مُحَمَّدًا
عَن ذَلِك فَإِن أَمركُم بِالْجلدِ فَخُذُوهُ عَنهُ وَإِن أَمركُم بِالرَّجمِ
فَلَا تأخذوه عَنهُ فَسَأَلُوهُ عَن ذَلِك فَقَالَ: أرْسلُوا إليَّ أعلم رجلَيْنِ
مِنْكُم فجاؤوا بِرَجُل أَعور يُقَال لَهُ ابْن صوريا وَآخر فَقَالَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما أَلَيْسَ عندكما التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله قَالَا:
بلَى
قَالَ:
فانشدك بِالَّذِي فلق الْبَحْر لبني إِسْرَائِيل وظلل
عَلَيْكُم الْغَمَام ونجاكم من آل فِرْعَوْن وَأنزل التَّوْرَاة على مُوسَى وَأنزل
الْمَنّ والسلوى على بني إِسْرَائِيل ماتجدون فِي التَّوْرَاة فِي شَأْن الرَّجْم فَقَالَ
أَحدهمَا للْآخر: مانشدت بِمثلِهِ قطّ: قَالَا: نجد ترداد النّظر زنية والاعتناق
زنية والقبل زنية فَإِذا شهد أَرْبَعَة أَنهم رَأَوْهُ يبدىء وَيُعِيد كَمَا يدْخل
الْميل فِي المكحلة فقد وَجب الرَّجْم
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَهُوَ كَذَلِك
فَأمر بِهِ فرجم فَنزلت {فَإِن جاؤوك فاحكم بَينهم} إِلَى قَوْله {يحب المقسطين}
الْمَائِدَة الْآيَة 42
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ
عَن السّديّ فِي قَوْله {وَلَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} قَالَ: نزلت فِي رجل من
الْأَنْصَار زَعَمُوا أَنه أَبُو لباتة أشارت اليه بَنو قُرَيْظَة يَوْم الْحصار
ماالامر على ماننزل فَأَشَارَ إِلَيْهِم أَنه الذّبْح
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله {وَمن
الَّذين هادوا سماعون للكذب} قَالَ: هم أَبُو يسرة وَأَصْحَابه
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مقَاتل فِي قَوْله {سماعون
لقوم آخَرين} قَالَ: يهود خَيْبَر
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن
مُجَاهِد فِي قَوْله {سمَّاعون لقوم آخَرين} قَالَ: هم أَيْضا سماعون ليهود
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي
قَوْله {يحرِّفون الْكَلم عَن موَاضعه} (الْمَائِدَة الْآيَة 13) قَالَ: كَانَ
يَقُول بني إِسْرَائِيل: يابني أحباري فحرفوا ذَلِك فجعلوه يابني أبكاري فَذَلِك
قَوْله {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَكَانَ إِبْرَاهِيم يَقْرَأها (يحرفُونَ الْكَلم
من موَاضعه)
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي
قَوْله {يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه} الْآيَة
قَالَ:
ذكر لنا أَن هَذَا كَانَ فِي قَتِيل بني قُرَيْظَة
وَالنضير إِذْ قتل رجل من قُرَيْظَة قَتله النَّضِير وَكَانَت النَّضِير إِذا قتلت
من بني قُرَيْظَة لم يقيدوهم إِنَّمَا يعطونهم الدِّيَة لفضلهم عَلَيْهِم فِي
أنفسهم تعوذاً فَقدم نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَسَأَلَهُمْ
فأرادوا ان يرفعوا ذَلِك إِلَى نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليحكم بَينهم
فَقَالَ لَهُم رجل من الْمُنَافِقين: إِن قتيلكم هَذَا قَتِيل عمد وَإِنَّكُمْ
مَتى ترفعون أمره إِلَى مُحَمَّد أخْشَى عَلَيْكُم الْقود فَإِن قبل مِنْكُم
الدِّيَة فَخُذُوهُ وَإِلَّا فكونوا مِنْهُم على حذر
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي
قَوْله {يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} قَالَ: إِن وافقكم وَإِن لم
يوافقكم {فَاحْذَرُوهُ} يهود تَقول: لِلْمُنَافِقين
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن الْمُنْذر
وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله
{يحرفُونَ الْكَلم} يَعْنِي حُدُود الله فِي التَّوْرَاة
وَفِي قَوْله {يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا} قَالَ: يَقُولُونَ إِن
أَمركُم مُحَمَّد بِمَا أَنْتُم عَلَيْهِ فاقبلوه وَإِن خالفكم فَاحْذَرُوهُ
وَفِي قَوْله {وَمن يرد الله فتنته} قَالَ: ضلالته
{فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} يَقُول: لن تغني عَنهُ شَيْئا
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله {لَهُم
فِي الدُّنْيَا خزي} قَالَ: أما خزيهم فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذا قَامَ الْهدى
فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَقَتلهُمْ فَذَلِك الخزي
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن
عِكْرِمَة فِي قَوْله {لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} مَدِينَة تفتح بالروم فيسبون
وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن قَتَادَة فِي قَوْله {لَهُم
فِي الدُّنْيَا خزي} قَالَ: يُعْطون الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون
المائدة -
تفسير فتح القدير
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ
النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
ابْتَغُوا اطلبوا إِلَيْهِ لا إلى غيره، والْوَسِيلَةَ
فَعِيلَةٌ مِنْ تَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ: إِذَا تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِ.
قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ
يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ...
وَعَادَ التَّصَابِي «1» بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ
فَالْوَسِيلَةُ: الْقُرْبَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ
تُطْلَبَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ هَؤُلَاءِ الأئمة لا
__________
(1) . في تفسير القرطبي (6/ 159) : التّصافي.
خِلَافَ بَيْنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. وَالْوَسِيلَةُ
أَيْضًا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ مُخْتَصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ
حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ
وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ
وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، إِلَّا حَلَّتْ لَهُ
الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ
صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا
تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا
هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» وَفِي
الْبَابِ أَحَادِيثُ، وَعَطْفُ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ عَلَى يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يُفِيدُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ غَيْرُ
التَّقْوَى وَقِيلَ: هِيَ التَّقْوَى، لِأَنَّهَا مَلَاكُ الْأَمْرِ وَكُلُّ
الْخَيْرِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى هَذَا مُفَسِّرَةٌ
لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ الَّتِي هِيَ الْقُرْبَةُ
تَصْدُقَ عَلَى التَّقْوَى وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ الَّتِي
يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهَا إِلَى رَبِّهِمْ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مَنْ لَمْ
يَقْبَلْ دِينَهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَوْلُهُ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَسُوقٌ
لِزَجْرِ الْكُفَّارِ وَتَرْغِيبِ الْمُسْلِمِينَ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْوَالِهَا
وَمَنَافِعِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَكُونَ أَشَدَّ
تَهْوِيلًا، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ ضمير الجمع خلاف ذلك، وجَمِيعاً
تَأْكِيدٌ. وَقَوْلُهُ: وَمِثْلَهُ عَطْفٌ عَلَى مَا فِي الأرض، ومَعَهُ فِي مَحَلِّ
نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ لِيَفْتَدُوا بِهِ يجعلوه فِدْيَةً لِأَنْفُسِهِمْ،
وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ إِمَّا لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَذْكُورِ أَوْ
لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ: أي ليفتدوا بذلك، ومِنْ عَذابِ
يَوْمِ الْقِيامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ جَوَابُ لَوْ. قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ
النَّارِ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ حَالُهُمْ
فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ؟ فَقِيلَ: يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ. وَقُرِئَ: أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ أَخْرَجَ، وَيُضَعِّفُ
هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ
أَعْنِي قَوْلَهُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ
وَقِيلَ: إِنَّهَا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قَالَ: الْوَسِيلَةُ: الْقُرْبَةُ. وَأَخْرَجَ
الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ
حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قَالَ: تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ
وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ
فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» . قَالَ: يُرِيدُ الْفَقِيرَ، فَقَلْتُ لِجَابِرٍ
يَقُولُ اللَّهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ
مِنْها قَالَ: اتْلُ أَوَّلَ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أَلَا إِنَّهُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ نَافِعَ
بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ:
تَزْعُمُ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: وَيْحَكَ، اقْرَأْ مَا فَوْقَهَا، هَذِهِ لِلْكُفَّارِ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا: إِنَّهُ مِمَّا
لَفَّقَتْهُ الْمُجْبِرَةُ، وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ رَجُلٍ لَا يُفَرِّقُ
بَيْنَ أَصَحِّ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ أَكْذَبِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَعَرَّضُ لِلْكَلَامِ عَلَى مَا لَا
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
يَعْرِفُهُ وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ؟ وَقَدْ تَوَاتَرَتِ
الْأَحَادِيثُ تَوَاتُرًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ بِعِلْمِ
الرِّوَايَةِ بِأَنَّ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَمَنْ
أَنْكَرَ هَذَا فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمُنَاظَرَةِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا هُوَ
مِنْ ضروريات الشريعة، اللهم غفرا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما
جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ
تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ مَنْ يَأْخُذُ
الْمَالَ جِهَارًا وَهُوَ الْمُحَارِبُ، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ يَأْخُذُ
الْمَالَ خُفْيَةً وَهُوَ السَّارِقُ، وَذَكَرَ السَّارِقَةَ مَعَ السَّارِقِ
لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ عَلَى
الرِّجَالِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي
خَبَرِ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ أَمْ هُوَ فَاقْطَعُوا؟
فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ تَقْدِيرُهُ:
فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ أَوْ فِيمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ: أَيْ حُكْمُهُمَا. وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ
إِلَى الثَّانِي، وَدُخُولُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى
الشَّرْطِ، إِذِ الْمَعْنَى: الَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ، وَقُرِئَ
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ اقْطَعُوا، وَرَجَّحَ
هَذِهِ الْقِرَاءَةَ سِيبَوَيْهِ، قَالَ: الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
النَّصْبُ كَمَا تَقُولُ زَيْدًا اضْرِبْهُ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ أَبَتْ إِلَّا
الرَّفْعَ، يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ، وَالسَّرِقَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ اسْمُ
الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَالْمَصْدَرُ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ مِنَ الْأَعْيُنِ، وَمِنْهُ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ، وَسَارَقَهُ النَّظَرَ. قَوْلُهُ: فَاقْطَعُوا الْقَطْعُ
مَعْنَاهُ الْإِبَانَةُ وَالْإِزَالَةُ، وَجَمَعَ الْأَيْدِي لِكَرَاهَةِ
الْجَمْعِ بَيْنَ تِثْنِيَّتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ
أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ الرُّسْغُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْطَعُ مِنَ الْمِرْفَقِ. وَقَالَ
الْخَوَارِجُ: مِنَ الْمَنْكِبِ.
وَالسَّرِقَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رُبْعَ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ حِرْزٍ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اعْتِبَارِ الرُّبُعِ الدِّينَارِ
الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّقْدِيرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا
جَمَعَ الثِّيَابَ فِي الْبَيْتِ قُطِعَ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي بَحْثِ
السَّرِقَةِ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَشُرَّاحُ الْحَدِيثِ بِمَا لَا يَأْتِي
التَّطْوِيلُ بِهِ هَاهُنَا بِكَثِيرِ فَائِدَةٍ. قَوْلُهُ: جَزاءً بِما كَسَبا
مَفْعُولٌ لَهُ: أَيْ فَاقْطَعُوا لِلْجَزَاءِ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ
مَحْذُوفٍ: أَيْ: فَجَاوَزَهُمَا جَزَاءً، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَمَا
مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ كَسْبِهِمَا، أَوْ مَوْصُولَةٌ: أَيْ جَزَاءً
بِالَّذِي كَسَبَاهُ مِنَ السَّرِقَةِ. وَقَوْلُهُ: نَكالًا بَدَلٌ مِنْ جَزَاءً
وَقِيلَ:
هُوَ عِلَّةٌ لِلْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ عِلَّةٌ
لِلْقَطْعِ، يُقَالُ: نَكَّلْتُ بِهِ: إِذَا فَعَلْتَ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ
يُنَكَّلَ بِهِ عن ذلك الفعل.
قَوْلِهِ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
السياق يفيد أن المراد بالظلم هنا السرقة أي فمن تاب من بعد سرقته وأصلح أمره
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَشْمَلُ
السَّارِقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ
لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ عَلَى
أَنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ
بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا
مُجَرَّدَ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ،
وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى التَّائِبِ. وَقَدْ كَانَ
فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ يَأْتِي إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَنْ وَجَبَ
عَلَيْهِ حَدٌّ
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ
قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
تَائِبًا عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ طَالِبًا
لِتَطْهِيرِهِ بالحدّ فيحدّه النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّارِقِ بَعْدَ
قَطْعِهِ: «تُبْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَسْرِقُ الْمَتَاعَ، لَمَّا قَالَتْ
للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ قَطْعِهَا:
هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ
مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَى الْأَئِمَّةِ وَجَبَتْ
وَامْتَنَعَ إِسْقَاطُهَا.
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ مَعَ تَقْرِيرِ
الْعَلَمِ وَهُوَ كَالْعُنْوَانِ لِقَوْلِهِ: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشاءُ أَيْ مَنْ كان له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
هَذَا التَّعْذِيبِ الْمَوْكُولِ إِلَى الْمَشِيئَةِ وَالْمَغْفِرَةِ
الْمَوْكُولَةِ إِلَيْهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ
عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ قَالَ: لَا
تَرْثُوا لَهُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. قَالَ:
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: اشْتَدُّوا عَلَى
الْفُسَّاقِ وَاجْعَلُوهُمْ يَدًا يَدًا وَرِجْلًا رِجْلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ
بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يَقُولُ: الْحَدُّ
كَفَّارَتُهُ. وَالْأَحَادِيثُ فِي قَدْرِ نَصَابِ السَّرِقَةِ وَفِي سَائِرِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِتَفَاصِيلِ هَذَا الْحَدِّ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فَلَا
نُطِيلُ بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق