ج6وج7.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ
وفي " المسند " (1) و" صحيح ابن حبان " (2) عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أحبَّ دُنياه أضرَّ بآخرته ، ومن أحبَّ آخرتَه ، أضرَّ بدُنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ) .
وفي " المسند " (3) و" سنن ابن ماجه " (4) عن زيد بن ثابت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كانت الدُّنيا همه ، فرَّق الله عليه أمره ، وجعل فقرَه بين عينيه ، ولم
يأته من الدُّنيا إلا ما كُتب له ، ومن كانت الآخرة نيَّتَه ، جمعَ الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ ) . وخرَّجه الترمذي (5) من حديث أنس
مرفوعاً بمعناه .
ومن كلام جندب بن عبد الله الصَّحابي : حبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ (6) ، وروي مرفوعاً ، ورُوي عن الحسن مرسلاً (7) .
قال الحسن : من أحبَّ الدُّنيا وسرَّته ، خرج حبُّ الآخرة من قلبه (8) .
وقال عونُ بن عبد الله : الدُّنيا والآخرةُ في القلب ككفَّتي الميزان بِقَدْرِ ما ترجحُ إحداهُما تخِفُّ الأخرى (9) .
__________
(1) مسند أحمد 4/412 ، وفي إسناده انقطاع .
(2) الإحسان ( 709 ) .
(3) مسند أحمد 5/183 ، وهو حديث صحيح .
(4) السنن ( 4105 ) .
(5) في " جامعه " ( 2465 ) .
وأخرجه : ابن عدي في " الكامل " 3/572 – 573 ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/307 - 308 ، والبغوي ( 4142 ) من حديث يزيد بن أبان الرقاشي ، عن أنس ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي .
(6) انظر : المقاصد الحسنة : 182 ، وكشف الخفاء 1/413 عقيب ( 1099 ) .
(7) أخرجه : البيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10501 ) ، والسخاوي في " المقاصد الحسنة " : 182 ، والعجلوني في " كشف الخفاء " 1/412 – 413 ( 1099 ) عن الحسن ، مرسلاً .
(8) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/79 و10/22 من قول سفيان الثوري .
(9) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/251 .
وقال وهب : إنَّما الدُّنيا والآخرة كرجلٍ له امرأتانِ : إنْ أرضى إحداهما أسخط الأخرى (1) .
وبكلِّ حالٍ ، فالزُّهد في الدُّنيا شعارُ أنبياءِ الله وأوليائه وأحبَّائه ، قال عمرو بن العاص : ما أبعدَ هديكُم مِنْ هدي نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - ، إنّه كان أزهدَ النَّاس في الدُّنيا ، وأنتم أرغبُ الناس فيها ، خرَّجه الإمام أحمد (2) .
وقال ابن مسعود لأصحابه : أنتم أكثرُ صوماً وصلاةً وجهاداً من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهُمْ كانوا خيراً منكم ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : كانوا أزهدَ منكم في الدُّنيا ، وأرغب منكم في الآخرة (3) .
وقال أبو الدَّرداء : لَئِنْ حَلفتُمْ لِي على رجلٍ أنَّه أزهدُكم ، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيرُكم (4) . ويروى عن الحسن ، قال : قالوا : يا رسول الله ، من خيرُنا ؟ قال :
( أزهدُكم في الدُّنيا ، وأرغبُكم في الآخرة ) (5) والكلام في هذا الباب يطولُ جداً . وفيما أشرنا إليه كفاية إنْ شاء الله تعالى .
الوصية الثانية : الزهدُ فيما في أيدي الناس، وأنَّه موجبٌ لمحبَّة الناس. وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى رجلاً ، فقالَ: ( ايأَسْ ممَّا في أيدي النَّاس تكُن غنياً ) خرَّجه الطبراني (6) وغيره.
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " ذم الدنيا " ( 7 ) .
(2) أخرجه : الحاكم 4/315 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 10519 ) و( 10699 ) .
(3) أخرجه : الحاكم 4/315 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/136 .
(4) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 550 ) .
(5) أخرجه : البيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10521 ) ، وهو ضعيف لإرساله ، والسند إلى الحسن منقطع .
(6) في " الأوسط " ( 5778 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، فيه إبراهيم بن زياد العجلي متروك .
ويروى من حديث سهل بن سعد مرفوعاً : ( شرف المؤمن قيامُه بالليل ، وعزُّه استغناؤُه عن الناسِ ) (1) .
وقال الحسن : لا تزالُ كريماً على الناس ، أو لا يزالُ الناسُ يكرمُونَك ما لم تَعاطَ ما في أيديهم ، فإذا فعلتَ ذلك ، استخفُّوا بكَ ، وكرهوا حديثك ، وأبغضوك (2) .
وقال أيوب السَّختياني : لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان : العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس ، والتجاوزُ عمّا يكون منهم (3) .
وكان عمر يقول في خطبته على المنبر : إنَّ الطمع فقر ، وإنَّ اليأس غنى ، وإنَّ الإنسانَ إذا أَيِسَ من الشيء استغنى عنه (4) .
وروي أنَّ عبد الله بن سلام لقيَ كعب الأحبار عند عمر ، فقال : يا كعب ، مَنْ أربابُ العلم ؟ قال : الذين يعملون به ، قال : فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد إذ حفظوه وعقلوه ؟ قال : يُذهبه الطمعُ ، وشرَهُ النفس ، وتطلبُ الحاجات إلى النَّاس ، قال : صدقت (5) .
وقد تكاثرت الأحاديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم ، فمن سألَ النّاس ما بأيديهم ، كرهوه وأبغضوه ؛ لأنَّ المال محبوبٌ لنفوس بني آدم ، فمن طلب منهم ما يحبُّونه ، كرهوه لذلك .
__________
(1) أخرجه : الحاكم 4/325 ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/253 ، والقضاعي في " مسند
الشهاب " ( 151 ) و( 746 ) من حديث سهل بن سعد ، به ، وإسناده ضعيف لضعف زافر ابن سليمان .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/20 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/5 بنحوه .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/50 .
(5) أخرجه : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/6 بنحوه مُختصراً .
وأما من كان يرى المِنَّة للسائل عليه ، ويرى أنَّه لو خرج له عن مُلكِه كُلِّه ، لم يفِ له ببذل سؤاله له وذِلَّته له ، أو كان يقول لأهله : ثِيابُكم على غيركم أحسن منها عليكم ، ودوابُّكم تحتَ غيركم أحسن منها تحتكم ، فهذا نادرٌ جداً من طباع بني آدم ، وقد انطوى بساطُ ذلك من أزمانٍ متطاولةٍ .
وأما من زهد فيما في أيدي الناس ، وعفَّ عنهم ، فإنَّهم يحبُّونه ويُكرمونه لذلك ويسود به عليهم ، كما قال أعرابيٌّ لأهل البصرة : من سيِّدُ أهل هذه القرية ؟ قالوا : الحسن ، قال : بما سادهم ؟ قالوا : احتاجَ الناسُ إلى علمه ، واستغنى هو عن دنياهم (1) ، وما أحسن قول بعض السَّلف في وصف الدُّنيا وأهلها :
وما هِيَ إلاَّ جِيفةٌ مستحيلةٌ
عليها كلابٌ هَمُّهُنَّ اجتذابُها
فإنْ تَجْتَنبها كنتَ سِلْماً لأهلها
وإنْ تجتذبها نازعتك كِلابُها
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/147 - 148 بنحوه مُختصراً .
الحديث الثاني والثلاثون
عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ) حديثٌ حَسَنٌ ، رَواهُ ابنُ ماجه والدَّارقطنيُّ وغيرهما مُسنداً ، ورواهُ مالكٌ في
" الموطإ " عَن عَمْرو بن يحيى ، عَنْ أَبيهِ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرسلاً ، فأَسقط أبا سعِيدٍ ، وله طُرُقٌ يَقْوى بَعضُها بِبَعْضٍ .
حديث أبي سعيد لم يخرجه ابنُ ماجه ، إنَّما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة ، حدثنا الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضررَ ولا ضرار ، من ضارَّ ضرَّه الله ، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه ) (1) وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ، وقال البيهقي : تفرَّد به عثمان عن الدراوردي ، وخرَّجه مالك في " الموطإ "(2) عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، مرسلاً .
قال ابن عبد البر (3) : لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث ، قال : ولا يُسند من وجهٍ صحيحٍ ، ثم خرَّجه من رواية عبدِ الملك بن معاذ النصيبي ، عن الدراوردي موصولاً ، والدراوردي كان الإمام أحمد يُضعف ما حدَّث به من حفظه ، ولا يعبأ به ، ولا شكَّ في تقديم قول مالكٍ على قوله . وقال خالد بن سعدٍ الأندلسي الحافظ : لم يصحَّ حديث : ( لا ضرر ولا ضرار ) مسنداً .
__________
(1) أخرجه : الدارقطني 3/77 و4/228 ، والحاكم 2/57 ، والبيهقي 6/69 وفي " المعرفة " ، له ( 3764 ) .
وأخرجه : ابن عبد البر في " التمهيد " 20/159 .
(2) " الموطأ " ( 2171 ) برواية الليثي .
وأخرجه : الشافعي ( 1493 ) بتحقيقي ، والبيهقي 6/70 عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، مرسلاً .
لكن لم ترد عبارة : ( عن أبيه ) في " الأم " 8/639 .
(3) انظر : التمهيد 20/158 .
وأما ابن ماجه ، فخرَّجه من رواية فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادةَ بن الصامت : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أنَّ لا ضَرر ولا ضِرار (1) ، وهذا من جملة صحيفة تُروى بهذا الإسناد ، وهي منقطعةٌ مأخوذة من كتابٍ ، قاله ابنُ المديني وأبو زرعة وغيرهما ، وإسحاق بن يحيى قيل : هو ابن طلحة ، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة ، قاله أبو زرعة وابنُ أبي حاتم (2) والدارقطني في موضع (3) ، وقيل : إنَّه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة ، ولم يسمع أيضاً من عبادة ، قاله الدارقطني أيضاً (4) . وذكره ابن عدي في كتابه
" الضعفاء " ، وقال : عامة أحاديثه غير محفوظة (5) ، وقيل : إنَّ موسى بن عقبة لم يسمع منه ، وإنَّما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه ، وأبو عياش لا يُعرف .
وخرَّجه ابن ماجه (6) أيضاً من وجه آخر من رواية جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضَرر ولا ضِرار ) ، وجابر الجعفي ضعَّفه الأكثرون ، وخرَّجه الدارقطني (7) من رواية إبراهيم بن إسماعيل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، وإبراهيم ضعفه جماعة، وروايات داود، عن عكرمة مناكير .
__________
(1) أخرجه : ابن ماجه ( 2213 ) و( 2340 ) و( 2483 ) و( 2488 ) و( 2643 ) من حديث عبادة بن الصامت ، به .
وأخرجه : عبد الله بن أحمد في " زوائده " 5/326 – 327 .
(2) انظر : الجرح والتعديل 2/168 .
(3) انظر : سنن الدارقطني 4/202 .
(4) انظر : سنن الدارقطني 3/176 .
(5) انظر : الكامل 1/552 .
(6) في " سننه " ( 2341 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2337 ) و( 2339 ) من طرق عن عكرمة ، عن ابن عباس ، به .
(7) في " سننه " 4/228 .
وخرَّج الدَّارقطني (1) من حديث الواقدي ، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت ، عن أبي الرجال ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضَرر ولا ضِرار ) والواقدي متروك ، وشيخه مختلف في تضعيفه . وخرَّجه الطبراني (2) من وجهين ضعيفين أيضاً عن القاسم ، عن عائشة .
وخرَّج الطبراني (3) أيضاً من رواية محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمِّه واسع بن حبان ، عن جابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضَررَ ولا ضِرَارَ في الإسلام ) وهذا إسناد مقارب وهو غريبٌ ، لكن خرَّجه أبو داود في " المراسيل " (4) من رواية عبد الرحمان بن مَغراء ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع مرسلاً ، وهو أصحُّ .
وخرَّج الدارقطني (5) من رواية أبي بكر بن عياش ، قال : أراه عن ابن عطاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضررَ ولا ضرورَة ، ولا يمنعنّ أحدُكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ) ، وهذا الإسناد فيه شكٌّ ، وابن عطاء : هو يعقوب ، وهو ضعيفٌ .
وروى كثير بنُ عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) قال ابنُ عبد البرِّ (6) : إسناده غير صحيح .
__________
(1) في " سننه " 4/227 .
(2) في " الأوسط " ( 270 ) و( 1037 ) عن القاسم ، عن عائشة ، به .
(3) في " الأوسط " ( 5193 ) .
(4) المراسيل : 207 .
(5) في " سننه " 4/228 .
(6) انظر : التمهيد 20/157 .
قلت : كثير هذا يصحح حديثَه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه : هو أصحُّ حديثٍ في الباب ، وحسن حديثَه إبراهيمُ بن المنذر الحِزامي ، وقال : هو خير مِنْ مراسيل ابن المسيب ، وكذلك حسَّنه ابنُ أبي عاصم ، وترك حديثه آخرون، منهم : الإمام أحمد وغيره ، فهذا ما حضرنا مِن ذكر طُرُقِ أحاديث هذا الباب .
وقد ذكر الشيخُ - رحمه الله - أنَّ بعضَ طرقه تُقوَّى ببعضٍ ، وهو كما قال ، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني : إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعفٌ قويت (1) .
وقال الشافعي (2) في المرسل : إنَّه إذا أُسند من وجهٍ آخر ، أو أرسله من يأخذ العلمَ عن غير من يأخذ عنه المرسلُ الأوَّل ، فإنَّه يُقبل .
وقال الجُوزجاني : إذا كان الحديثُ المسندُ من رجلٍ غير مقنع - يعني : لا يقنع برواياته - وشدَّ أركانه المراسيلُ بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار ، استعمل ، واكتُفي به ، وهذا إذا لم يُعارض بالمسند الذي هو أقوى منه .
وقد استدلَّ الإمام أحمد بهذا الحديث ، وقال : قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرر ولا
ضرار ) (3) .
وقال أبو عمرو بن الصلاح : هذا الحديثُ أسنده الدارقطنيُّ من وجوه ، ومجموعها يُقوِّي الحديثَ ويُحسنه ، وقد تقبَّله جماهيرُ أهلِ العلم ، واحتجُّوا به ، وقولُ أبي داود : إنَّه من الأحاديث التي يدورُ الفقه عليها يُشعِرُ بكونه غيرَ ضعيفٍ ، والله أعلم .
__________
(1) انظر : السنن الكبرى للبيهقي 6/65 .
(2) انظر : الرسالة ( 1266 ) و( 1267 ) .
(3) انظر : مسند الإمام أحمد 5/326 .
وفي المعنى أيضاً حديثُ أبي صِرْمَة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من ضارَّ ضارَّ الله به ، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه ) . خرَّجه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب (1) .
وخرَّج الترمذي (2) بإسناد فيه ضعف عن أبي بكرٍ الصديق ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ملعونٌ من ضارَّ مؤمناً أو مكر به ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضَررَ ولا ضرارَ ) . هذه الرواية الصحيحة ، ضِرار بغير
همزة (3) ، ورُوي ( إضرار ) بالهمزة (4) ، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدراقطني ، بل وفي بعض نسخ " الموطأ " ، وقد أثبت بعضُهم هذه الرواية وقال : يقال : ضَرَّ وأضر بمعنى ، وأنكرها آخرون ، وقالوا : لا صحَّة لها .
واختلفوا : هل بين اللفظتين - أعني : الضَّرر والضرار - فرقٌ أم لا ؟ فمنهم من قال : هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهورُ أنَّ بينهما فرقاً ، ثم قيل : إنَّ الضَّرر هو الاسم ، والضِّرار : الفعل ، فالمعنى أنَّ الضَّرر نفسَه منتفٍ في الشَّرع ، وإدخال الضَّرر بغير حقٍّ كذلك .
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 3635 ) ، وابن ماجه ( 2342 ) ، والترمذي ( 1940 ) عن أبي حرمة ، به .
ولعل الترمذي حسّنه لمال له من شواهد ، وإلاّ فإنَّ في سنده لؤلؤة مولاة الأنصار لم يرو عنها غير محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري .
(2) في " جامعه " ( 1941 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 96 ) ، وابن أبي حاتم في " العلل " 2/287 ، وابن عدي في " الكامل " 7/140 و141 ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/49 و4/164 .
والترمذي ضعفه بقوله : ( غريب ) ، وإنما ضعفه لضعف أبي سلمة الكندي وشيخه فرقد السبخي .
(3) ضِرار : بدون همزة بمعنى : أي لا يدخِلُ الضرر على الذي ضرَّهُ ولكن يعفو عنه . انظر :
لسان العرب 8/44 .
(4) إضرار : بمثل معنى أن يتزوج الرجلُ على ضَرَّةٍ . انظر : الصحاح 2/721 .
وقيل : الضَّرر : أنْ يُدخِلَ على غيرِه ضرراً بما ينتفع هو به ، والضِّرار : أن يُدخل على غيره ضرراً بما لا منفعةَ له به (1) ، كمن منع ما لا يضرُّه ويتضرَّرُ به الممنوع ، ورجَّح هذا القول طائفةٌ ، منهم ابنُ عبد البرِّ ، وابنُ الصلاح .
وقيل : الضَّرر : أنْ يضرّ بمن لا يضره ، والضِّرار : أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به على وجهٍ غيرِ جائزٍ .
وبكلِّ حال فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما نفى الضرر والضِّرار بغير حق .
فأما إدخالُ الضرر على أحدٍ بحق ، إمَّا لكونه تعدَّى حدودَ الله ، فيعاقَبُ بقدر جريمته ، أو كونه ظلمَ غيره ، فيطلب المظلومُ مقابلتَه بالعدلِ ، فهذا غير مرادٍ قطعاً ، وإنما المرادُ : إلحاقُ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ ، وهذا على نوعين :
أحدهما : أنْ لا يكونَ في ذلك غرضٌ سوى الضَّررِ بذلك الغير ، فهذا لا ريبَ في قُبحه وتحريمه(2) ، وقد ورد في القرآن النَّهيُ عن المضارَّة في مواضع : منها في الوصية ، قال الله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار } (3) ، وفي حديث أبي هريرة المرفوع : ( إنَّ العبدَ ليعملُ بطاعةِ اللهِ ستِّين سنةً ، ثم يحضُرُه الموتُ ، فيضارّ في الوصيّة ، فيدخل النار ) ، ثم تلا : { تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ } إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا } (4) ، وقد
خرَّجه الترمذي (5)
__________
(1) انظر : النهاية 3/81 – 82 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) النساء : 12 .
(4) النساء : 13 – 14 .
(5) في " جامعه " ( 2117 ) ، وقال : ( حسن غريب ) ، وفي إسناد الحديث شهر بن حوشب ضعيف عند التفرد ، وقد تفرد .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 16455 ) ، وإسحاق بن راهويه ( 147 ) ، وأحمد 2/278 ، وأبو داود ( 2867 ) ، وابن ماجه ( 2704 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 3026 ) ، والبيهقي 6/271 من حديث أبي هريرة ، به مرفوعاً .
وغيره بمعناه .
وقال ابنُ عباس : الإضرار في الوصية من الكبائر (1) ، ثم تلا هذه الآية .
والإضرار في الوصيَّةِ تارةً يكون بأنْ يَخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فرضِهِ الذي فرضَهُ الله له ، فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله قد أعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، فلا وصيةَ لوارث ) (2) .
وتارة بأن يُوصي لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث ، فتنقص حقوقُ الورثةِ ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الثُّلث والثُّلث كثير ) (3) .
ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث ، لم ينفذ ما وصَّى به إلاَّ بإجازة الورثةِ ، وسواءٌ قصدَ المضارَّةَ أو لم يقصد ، وأما إن قصدَ المضارَّة بالوصيّة لأجنبيٍّ بالثلث ، فإنَّه يأثم بقصده المضارَّة ، وهل تُردُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ ذلك بإقراره أم لا ؟ حكى ابنُ عطية روايةً عن مالكٍ أنَّها تُردُّ ، وقيل : إنَّه قياسُ مذهب أحمد .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 16456 ) ، وسعيد بن منصور ( 343 ) و( 344 ) ، وابن أبي شيبة ( 30933 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 6980 ) موقوفاً ، وهو الصحيح إليه .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 6981 ) ، والبيهقي 6/271 مرفوعاً ، وهو ضعيف .
(2) أخرجه : ابن ماجه ( 2714 ) ، والدارقطني 4/70 ، والبيهقي 6/264 من حديث أنس بن مالك ، به مرفوعاً ، وإسناده صحيح .
(3) أخرجه : الحميدي ( 521 ) ، وأحمد 1/230 و233 ، والبخاري 4/3 ( 2743 ) ، ومسلم 5/72 ( 1629 ) ( 10 ) ، وابن ماجه ( 2711 ) ، والنسائي 6/244 وفي
" الكبرى " ، له ( 6461 ) ، والطبراني ( 10719 ) ، والبيهقي 6/269 من حديث ابن عباس .
ومنها : في الرجعة في النِّكاح ، قال تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ } (1) ، وقال : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً } (2) فدلَّ ذلك على أنَّ من كان قصدُه بالرجعة المضارَّة ، فإنَّه آثمٌ بذلك ، وهذا كما كانوا في أوَّل الإسلام قبل حصر الطَّلاق في ثلاث يطلِّقُ الرَّجلُ امرأتَه ، ثم يتركُها حتّى تقارب انقضاءَ عدَّتها ، ثم يُراجعها ، ثم يطلِّقُها ، ويفعل ذلك أبداً بغير نهاية ، فيدعُ المرأةَ لا مُطلَّقةً ولا ممسكةً ، فأبطل الله ذلك ، وحصر الطَّلاق في ثلاث مرات .
وذهب مالكٌ إلى أنَّ من راجع امرأته قبل انقضاء عدَّتها ، ثم طلَّقها من غير مسيسٍ أنّه إن قصدَ بذلك مضارَّتها بتطويل العدَّةِ ، لم تستأنف العدّة ، وبنت على ما مضى منها ، وإن لم يقصد بذلك ، استأنفت عدَّةً جديدةً ، وقيل : تبني مطلقاً ، وهو قول عطاء وقتادة ، والشّافعي في القديم ، وأحمد في رواية ، وقيل : تستأنف مطلقاً ، وهو قول الأكثرين ، منهم أبو قلابة والزُّهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي - في الجديد - وأحمد في رواية وإسحاق وأبو عُبيد وغيرهم .
__________
(1) البقرة : 231 .
(2) البقرة : 228 .
ومنها في الإيلاء ، فإنَّ الله جعل مدَّة المؤلي أربعةَ أشهرٍ إذا حلف الرجل على امتناع وطءِ زوجته ، فإنَّه يُضْرَبُ له مدَّة أربعة أشهر ، فإن فاء ورجع إلى الوطءِ ، كان ذلك توبته ، وإن أصرَّ على الامتناع لم يُمكن من ذلك ، وفيه قولان للسَّلف والخلف : أحدهما : أنَّها تَطلُقُ عليه بمضيِّ هذه المدة ، والثاني : أنَّه يوقف ، فإن فاء ، وإلاَّ أُمِرَ بالطَّلاق ، ولو ترك الوطءَ لقصدِ الإضرار بغيرِ يمينٍ مدَّة أربعة أشهر ، فقال كثيرٌ من أصحابنا : حكمُه حكمُ المُؤلي في ذلك ، وقالوا : هو ظاهرُ كلام أحمد .
وكذا قال جماعةٌ منهم : إذا ترك الوطءَ أربعةَ أشهرٍ لغير عذرٍ ، ثم طلبت الفُرقة ، فُرِّق بينهما بناءً على أنَّ الوطءَ عندنا في هذه المدَّة واجبٌ ، واختلفوا : هل يُعتَبر لذلك قصدُ الإضرار أم لا يعتبر ؟ ومذهبُ مالك وأصحابه إذا ترك الوطءَ من غير عُذر ، فإنّه يُفسَخُ نكاحُه ، مع اختلافهم في تقدير المدَّة .
ولو أطال السَّفَر مِن غيرِ عذرٍ ، وطلبت امرأتُه قُدومَه ، فأبي ، فقال مالكٌ وأحمد وإسحاق : يفرِّقُ الحاكم بينهما ، وقدَّره أحمد بستة أشهر ، وإسحاق بمضيِّ سنتين .
ومنها : في الرضاع ، قال تعالى : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } (1) ، قال مجاهد (2) في قوله : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } قال : لا يَمنع أمه أن تُرضِعَه ليحزُنَها ، وقال عطاء وقتادة والزُّهري وسفيان والسُّدِّي وغيرهم : إذا رضِيَتْ ما يرضى به غيرُها ، فهي أحقُّ به ، وهذا هو المنصوصُ عن أحمد ، ولو كانت الأُمُّ في حبال الزَّوج . وقيل : إن كانت في حبال الزَّوج ، فله منعُها مِنْ إرضاعه ، إلاَّ أن لا يُمكن ارتضاعُه من غيرها ، وهو قولُ الشَّافعيِّ ، وبعض أصحابنا ، لكن إنَّما يجوزُ ذلك إذا كان قصدُ الزَّوج به توفيرَ الزوجة للاستمتاع ، لا مجرد إدخال الضَّرر عليها .
وقوله : { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } (3) ، يدخلُ فيه أنَّ المطلَّقة إذا طَلبت
إرضاع ولدها بأجرة مثلها ، لَزِم الأبَ إجابتها إلى ذلك ، وسواءٌ وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ . هذا منصوصُ الإمام أحمد ، فإن طلبت زيادةً على أجرةِ مثلها زيادةً كثيرةً ، ووجدَ الأب من يُرضعُه بأجرةِ المثل ، لم يلزمِ الأبَ إجابتُها إلى ما طلبت ، لأنَّها تقصد المضارَّة ، وقد نصَّ عليه الإمام أحمد .
ومنها في البيع قد ورد النهيُ عن بيع المضطرِّ ، خرَّجه أبو داود (4)
__________
(1) البقرة : 233 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 3929 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 2/430
( 2277 ) .
(3) البقرة : 233 .
(4) في " سننه " ( 3382 ) .
وأخرجه : أحمد 1/116 ، والبيهقي 6/17 من طريق أبي عامر المزني ، عن شيخ من بني تميم ، قال : خطب علي … ، وإسناده ضعيف لضعف أبي عامر المزني - وهو صالح بن رستم - ، ولجهالة الشيخ من بني تميم .
من حديث عليِّ بن أبي طالب أنّه خطب الناسَ ، فقال : سيأتي على الناس زمانٌ عَضُوضٌ(1) يعضُّ الموسرُ على ما في يديه ، ولم يؤمرْ بذلك ، قال الله تعالى : { ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ } (2) ويُبايع المضطرُّون ، وقد نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطرِّ . وخرَّجه الإسماعيلي ، وزاد فيه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن كان عندكَ خيرٌ تعودُ به على أخيك ، وإلاَّ فلا تزيدنَّه هلاكاً إلى هلاكه ) وخرَّجه أبو يعلي الموصلي (3) بمعناه من حديث حُذيفة مرفوعاً أيضاً .
وقال عبد الله بن معقِل : بيعُ الضَّرورة ربا .
وقال حرب : سئل أحمد عن بيع المضطر ، فكرهه ، فقيل له : كيف هُو ؟ قال : يجيئك وهو محتاج ، فتبيعه ما يُساوي عشرة بعشرين ، وقال أبو طالب : قيل لأحمد : إنَّ ربح بالعشرة خمسة ؟ فكره ذلك ، وإنْ كان المشتري مسترسلاً لا يحسن أنْ يُماكس ، فباعه بغبنٍ كثيرٍ ، لم يجز أيضاً . قال أحمد : الخِلابة : الخداع ، وهو أنْ يَغْبِنه فيما لا يتغابَن الناسُ في مثله ؛ يبيعه ما يُساوي درهماً بخمسة ، ومذهب مالكٍ وأحمد أنّه يثبت له خيارُ الفسخ بذلك .
ولو كان محتاجاً إلى نقدٍ ، فلم يجد من يُقرضه ، فاشترى سلعةً بثمن إلى أجل في ذمَّته ، ومقصودُه بيعُ تلك السلعة ، ليأخذ ثمنها ، فهذا فيه قولانِ للسَّلف ، ورخص أحمدُ فيه في رواية ، وقال في رواية : أخشى أنْ يكون مضطَرّاً ؛ فإن باعَ السِّلعة مِن بائعها له ، فأكثرُ السَّلف على تحريمِ ذلك ، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم .
__________
(1) الزمان العضوض : هو الزمان الشديد الذي يكون فيه الناس في فاقةٍ وحاجةٍ .
(2) البقرة : 237 .
(3) لم أجده في المطبوع من " مسند أبي يعلى " وجاء في " مسنده " ( 7083 ) من حديث عمران بن حذيفة ، عن ميمونة لكنَّ المعنى ليس قريباً .
ومن أنواع الضرر في البيوع : التَّفريقُ بين الوالدةِ وولدها في البيع ، فإنْ كان صغيراً ، حَرُمَ بالاتفاق ، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( من فرَّق بين والدةٍ وولدِها ، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة ) (1) ، فإنْ رضيت الأُمُّ بذلك ، ففي جوازه اختلافٌ ، ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جداً ، وإنَّما ذكرنا هذا على وجه المثال .
والنوع الثاني : أنْ يكون له غرضٌ آخرُ صحيحٌ ، مثل أنْ يتصرَّف في ملكه بما فيه مصلحةٌ له ، فيتعدَّى ذلك إلى ضرر غيرِه ، أو يمنع غيرَه من الانتفاع بملكه توفيراً له ، فيتضرَّر الممنوعُ بذلك .
فأما الأوَّل وهو التصرُّف في ملكه بما يتعدَّى ضررُه إلى غيره فإن كان على غير الوجه المعتادِ ، مثل أنْ يؤجِّجَ في أرضه ناراً في يومٍ عاصفٍ ، فيحترق ما يليه ، فإنَّه متعدٍّ بذلك ، وعليه الضَّمان ، وإنْ كان على الوجه المعتاد ، ففيه للعلماء قولان مشهوران :
أحدهما : لا يمنع من ذلك ، وهو قولُ الشَّافعي وأبي حنيفة وغيرهما .
والثاني : المنع ، وهو قولُ أحمد ، ووافقه مالكٌ في بعض الصُّور ؛ فمن صُوَر ذَلِكَ : أن يفتح كُوَّةً في بنائه العالي مشرفةً على جاره ، أو يبني بناءً عالياً يُشرف على جاره ولا يسترُه ، فإنَّه يُلزم بستره ، نصَّ عليهِ أحمد ، ووافقه طائفةٌ من أصحاب الشافعي ، قالَ الروياني منهم في كتاب " الحلية " : يجتهد الحاكم في ذلك ، ويمنع إذا ظهر له التعنُّتُ ، وقصد الفساد ، قال : وكذلك القولُ في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/412 و414 ، والدارمي 2/227 – 228 ، والترمذي ( 1283 )
و( 1566 ) ، والطبراني ( 4080 ) ، والدارقطني 3/67 ، والحاكم 2/55 ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " ( 456 ) عن أبي أيوب ، به ، قال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وفي الباب عن علي ، به
تنبيه : أخرجه البيهقي 9/126 منقطعاً .
وقد خرَّج الخرائطي(1) وابنُ عدي(2) بإسنادٍ ضعيف(3) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعاً حديثاً طويلاً في حقِّ الجار ، وفيه : ( ولا يستطيل عليهِ بالبناء فيحجبَ عنه الرِّيح إلاَّ بإذنه ) .
ومنها أن يحفرَ بئراً بالقرب من بئر جاره ، فيذهب ماؤها ، فإنَّها تُطَمُّ في ظاهر مذهب مالك وأحمد ، وخرّج أبو داود في " المراسيل " (4) من حديث أبي قلابة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تَضارُّوا في الحفر ، وذلك أن يحفرَ الرَّجلُ إلى جنبِ الرَّجل ليذهبَ بمائِه ) .
ومنها أنْ يحدث في ملكه ما يضرُّ بملك جاره من هزٍّ أو دقٍّ ونحوهما ، فإنَّه يُمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد ، وهو أحدُ الوجوه للشافعية .
وكذا إذا كان يضرُّ بالسُّكَّان ، كما له رائحةٌ خبيثة ونحو ذلك .
ومنها أنْ يكونَ له ملكٌ في أرض غيره ، ويتضرَّرُ صاحبُ الأرض بدخوله
إلى أرضه ، فإنَّه يُجبرُ على إزالته ليندفعَ به ضررُ الدخول ، وخرّج أبو داود في
" سننه " (5)
__________
(1) أخرجه : الخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 59 .
(2) في " الكامل " 6/292 .
وأخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " ( 639 ) و( 2357 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " 7/83 – 84 .
(3) وقد قال عنه أبو حاتم : ( خطأ ) ، والحديث ساقه ابن عدي ضمن منكرات عثمان بن عطاء الخراساني الضعيف .
(4) أخرجه : أبو داود في " المراسيل " : 207 .
(5) 3636 ) .
وأخرجه : البيهقي 6/157 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّ أبا جعفر محمد بن علي الباقر لم يسمع من سمرة .
من حديث أبي جعفر محمد بن علي أنَّه حدَّث سَمُرة بن جندبٍ أنَّه كانت له عَضُدٌ من نخلٍ في حائطِ رجلٍ من الأنصار ، ومع الرجل أهلُه ، وكان سمرة يدخل إلى نخله ، فيتأذَّى به ويشقُّ عليه ، فطلب إليه أنْ يُناقله ، فأبى ، فأتى النَّبيَّ
- صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فطلب إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أنْ يُناقِلَه ، فأبى ، قال : ( فهَبْه له ولك كذا وكذا ) أمراً رغَّبه فيه ، فأبى ، فقال : ( أنت مُضارٌّ ) ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري : ( اذهب فاقلع نخله ) ، وقد روي عن أبي جعفر مرسلاً . قال أحمد في رواية حنبل بعد أنْ ذُكِرَ له هذا الحديثُ : كلُّ ما كان على هذه الجهة ، وفيه ضرر يمنع من ذلك ، فإن أجاب وإلا أجبره السُّلطان ، ولا يضرُّ بأخيه في ذلك ، فيه مِرفَقٌ له .
وخرَّج أبو بكر الخلاّل من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سَلِيط بن قيس ، عن أبيه : أنَّ رجلاً من الأنصار كانت له في حائطه نخلةٌ لرجلٍ آخر ، فكان صاحبُ النَّخلة لا يَريمُها غدوةً وعشيةً ، فشقَّ ذلك على صاحب الحائطِ ، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصاحب النخلة : ( خذ منه نخلةً ممَّا يلي الحائطَ مكان نخلتك ) ، قال : لا والله ، قال : ( فخذ منِّي ثنتين ) قال : لا والله ، قال : ( فهبها لي ) ، قال : لا والله ، قال : فردد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى ، فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُعطيه نخلة مكان نخلته (1) .
__________
(1) ذكره ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 4/264 ( 1227 ) ، وابن عبد البر في
" الاستيعاب " 2/206 .
ورواه ابن منده كما في " الإصابة " 2/382 ( 3421 ) ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن محمد بن عقيل عند التفرد .
وخرّج أبو داود في "المراسيل" (1) من رواية ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حَبّان ، عن عمِّه واسع بن حبّان ، قال : كان لأبي لُبابَة عَذْقٌ في حائط رجلٍ ، فكلَّمه ، فقال : إنَّك تطأُ حائطي إلى عَذْقِكَ ، فأنا أُعطيكَ مثلَه في حائطك ، وأخرجه عنِّي ، فأبى عليه ، فكلَّم النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فقال : ( يا أبا لُبابة ، خذ مثل عَذقك ، فحُزْها إلى مالك ، واكفُفْ عن صاحبك ما يكره ) ، فقال : ما أنا بفاعل ، فقال : ( اذهب ، فأخرج له مثلَ عَذْقِه إلى حائطه ، ثم اضرب فوقَ ذلك بجدارٍ ، فإنه لا ضررَ في الإسلام ولا ضِرار ) .
ففي هذا الحديث والذي قبلَه إجبارُه على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضررٌ في تركه ، وهذا مثلُ إيجاب الشُّفعة لدفع ضررِ الشَّريك الطَّارئ .
ويُستدلُّ بذلك أيضاً على وجوب العمارة على الشَّريك الممتنع مِنَ العمارة ، وعلى إيجاب البيع إذا تعذَّرَت القسمة ، وقد ورد من حديث محمد بن أبي بكر ، عن أبيه مرفوعاً : ( لا تَعْضِية في الميراث إلا ما احتمل القسم ) (2) وأبو بكر : هو
ابن عمرو بن حزم ، قاله الإمام أحمد ، فالحديث حينئذ مرسل ، والتعضية : هي القسمة . ومتى تعذَّرَتِ القسمةُ ، لكون المقسوم يتضرَّرُ بقسمته ، وطلب أحدُ الشَّريكين البيعَ ، أجبر الآخر ، وقسم الثَّمنُ ، نصَّ عليه أحمدُ وأبو عبيد وغيرهما مِنَ الأئمة .
__________
(1) المراسيل ( 407 ) ، وهو مع إرساله فيه محمد بن إسحاق مدلس ، وقد عنعن .
(2) أخرجه : الدارقطني 4/219 ، والبيهقي 10/133 مرفوعاً بسند ضعيف ، وظاهر كلام ابن رجب أنَّ فيه الإرسال حسب ، والواقع أنَّ في سند الحديث عنعنة ابن جريج ، وهو يدلس تدليساً قبيحاً كما ذكر الدارقطني .
وأما الثاني - وهو منع الجار من الانتفاع بملكه ، والارتفاق به - فإن كان ذلك يضرُّ بمن انتفعَ بملكه ، فله المنعُ ، كمن له جدارٌ واهٍ لا يحتمل أنْ يُطرَحَ عليه خشَبٌ ، وأمَّا إنْ لم يضرَّ به ، فهل يجب عليه التَّمكين ، ويحرم عليه الامتناع أم لا ؟ فمن قال في القسم الأول : لا يمنع المالك مِنَ التَّصرُّف في ملكه ، وإن أضرَّ بجاره ، قال هنا : للجار المنع منَ التصرُّف في ملكه بغير إذنه ، ومن قال هناك بالمنع ، فاختلفوا هاهنا على قولين : أحدهما : المنع هاهنا وهو قول مالك . والثاني : أنَّه لا يجوزُ المنع ، وهو مذهبُ أحمد في طرح الخشب على جدار جاره ، ووافقه الشافعيّ في القديم وإسحاق وأبو ثور ، وداود ، وابنُ المنذر ، وعبدُ الملك بن حبيب المالكي ، وحكاه مالكٌ عن بعض قُضاة المدينة .
وفي الصحيحين (1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يمنعنَّ أحدُكُم جارَه أنْ يَغرِزَ خشبة (2) على جِداره ) قال أبو هريرة : مالي أراكم عنها مُعرِضين ،
والله لأَرمِينَّ بها بَيْنَ أكتافِكُم (3).
__________
(1) صحيح البخاري 3/173 ( 2463 ) ، وصحيح مسلم 5/57 ( 1609 ) ( 136 ) .
(2) هذه اللفظة في كثير من كتب التخريج : ( خشبةً ) بالإفراد ، وفي بعضها : ( خشبه ) بالجمع ، وانظر شرح صحيح مسلم 6/124 .
(3) أي : لأشيعن هذه المقالة فيكم ، فلا يمكن لكم أن تعرضوا عن العمل يومها ، أو الضمير للخشبة ، والمعنى : إن رضيتم بهذا الحكم ، وإلاّ لأجعلن الخشبة بين رقابكم كارهين ، والمراد المبالغة في إجراء الحكم فيهم إن ثقل عليهم .
وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يُجري ماء جاره في أرضه ، وقال : لتمرنّ به ولو على بطنِكَ (1) .
وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد ، ومذهبُ أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جارِه إذا أجراه في قناة في باطن أرضه ، نقله عنه حربٌ الكرمانيُّ .
ومما يُنهى عن منعه للضَّرر منعُ الماء والكلأ ، وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تمنعوا فضلَ الماء لتمنعوا به الكلأ ) .
وفي " سنن أبي داود " (3)
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2173 ) برواية الليثي ، والشافعي في " المسند " ( 1495 ) بتحقيقي ، والبيهقي 6/157 وفي " المعرفة " ، له ( 3769 ) ، ولفظة : ( عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ؛ أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له في العُريض ، فأراد أن يُمرَّ به في أرض محمد بن سلمة ، فأبى محمدٌ ، فقال له الضحاك : لم تمنعني وهو لك منفعةٌ ، تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك ؟ فأبى محمدٌ ، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب ، فدعا عمرُ بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يُخلي سبيله . فقال محمدٌ : لا . فقال عمر : لم تمنع أخاك ما ينفعه ، وهو لك نافعُ ، تسقي به أولاً وآخراً ، وهو لا يضرك ؟ فقال محمدٌ : لا والله . فقال عمرُ : واللهِ ليمرُّن به ولو على بطنك فأمره عمرُ أن يمرُّ به . ففعل الضحاك ) .
(2) صحيح البخاري 3/144 ( 2353 ) ، وصحيح مسلم 5/34 ( 1566 ) ( 36 ) .
(3) برقم ( 3476 ) عن بهيسة ، عن أبيها ، به .
وفي إسناده مجاهيل ، سيار وأبوه مقبولان ، وبهيسة وأبوها مجهولان .
وأخرجه : أحمد 3/480 ، والدارمي 2/269 – 270 ، والروياني ( 1525 ) .
أنَّ رجلاً قال : يا نبيَّ الله ، ما الشَّيء الذي لا
يحلُّ منعه ؟ قال : ( الماء ) ، قال : يا نبيَّ الله ، ما الشيء الذي لا يحلّ منعه ؟
قال : ( الملح ) قال : ما الشيء الذي لا يحلّ منعه ، قال : ( أن تفعل الخيرَ خيرٌ
لك ) .
وفيه أيضاً (1) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( النَّاس شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلأ ) .
وذهب أكثر العلماء إلى أنَّه لا يُمنَعُ فضلُ الماء الجاري والنَّابعِ مطلقاً ، سواء قيل : إنَّ الماء ملك لمالك أرضه أم لا ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم ، والمنصوص عن أحمد وجوبُ بذلِه مجاناً بغيرِ عِوَضٍ للشُّربِ ، وسقي البهائم ، وسقي الزروع ، ومذهب أبي حنيفة والشافعي : لا يجب بذلُه للزُّروع .
واختلفوا : هل يجبُ بذلُه مطلقاً ، أو إذا كان بقرب الكلأ ، وكان منعه مُفضِياً إلى منع الكلأ ؟ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي ، وفي كلام أحمد ما يدلُّ على اختصاصِ المنع بالقُرب من الكلأ ، وأما مالكٌ ، فلا يجبُ عندَه بذلُ فضلِ الماء المملوك بملك منبعِه ومجراه إلا للمضطرّ كالمُحاز في الأوعية ، وإنما يجب عندَه بذلُ فضل الماء الذي لا يملك .
وعند الشافعي (2) : حكم الكلأ كذلك يجوزُ منعُ فضله إلاَّ في أرض الموات . ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد أنّه لا يمنعُ فضل الكلأ مطلقاً ، ومنهم من قال : لا يمنع أحدٌ الماء والكلأ إلاّ أهلَ الثغور خاصَّة ، وهو قولُ الأوزاعي ، لأنَّ أهلَ الثُّغور إذا ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدِرُوا أن يتحوَّلوا من مكانهم من وراء بَيضَةِ الإسلام وأهله .
__________
(1) برقم ( 3476 ) عن بهيسة ، عن أبيها ، به .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2472 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11105 ) ، وابن عدي في
" الكامل " 5/348 – 349 عن ابن عباس ، به ، وسنده ضعيف لضعف عبد الله بن خراش .
(2) انظر : الأم 5/81 .
وأما النَّهي عن منع النار ، فحملَه طائفةٌ من الفُقهاء على النَّهي عن الاقتباس منها دُونَ أعيانِ الجمر ، ومنهم من حمله على منع الحجارة المُورِيَة للنَّارِ ، وهو بعيدٌ ، ولو حمل على منع الاستضاءة بالنَّار ، وبذل ما فضل عن حاجة صاحبها لمن يستدفئ بها ، أو يُنضجُ عليها طعاماً ونحوه ، لم يبعد .
وأما الملح ، فلعلَّه يُحمل على منع أخذِهِ مِنَ المعادن المُباحَة ، فإنَّ الملحَ منَ المعادن الظَّاهرة ، لا يُملَكُ بالإحياء ، ولا بالإقطاع ، نصّ عليه أحمد ، وفي " سنن أبي دواد " (1) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقطع رجلاً الملحَ ، فقيل له : يا رسول الله إنّه بمنْزلة الماء العدِّ ، فانتزعه منه .
ومما يدخل في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرَرَ ) أنّ الله لم يكلِّف عبادَه فعلَ ما يَضُرُّهم البتَّة ، فإنَّ ما يأمرهم به هو عينُ صلاحِ دينهم ودنياهم ، وما نهاهم عنه هو عينُ فساد دينهم ودنياهم ، لكنَّه لم يأمر عبادَه بشيءٍ هو ضارٌّ لهم في أبدانهم أيضاً ، ولهذا أسقط الطَّهارة بالماء عَنِ المريض ، وقال : { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } (2) ، وأسقط الصيام عن المريض والمسافر ، وقال : { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (3) ، وأسقط اجتناب محظورات الإحرام ، كالحلق ونحوه عمن كان مريضاً ، أو به أذى من رأسه ، وأمرَ بالفدية . وفي " المسند " (4)
__________
(1) برقم ( 3064 ) من حديث أبيض بن حمال ، وهو حديث ضعيف .
وأخرجه : الدارمي ( 2611 ) ، وابن ماجه ( 2475 ) ، والترمذي ( 1380 ) ، وابن حبان
( 4499 ) ، والدارقطني 4/221 .
(2) المائدة : 6 .
(3) البقرة : 185 .
(4) مسند الإمام أحمد 1/236 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 569 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 287 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 78 ) ، والطبراني ( 11571 ) و( 11572 ) عن ابن عباس ، به ، وهو صحيح بشواهده .
عن ابن عباس ، قال : قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله ؟ قال : ( الحنيفيَّةُ السَّمحةُ ) . ومن حديث عائشة (1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنِّي أرسلتُ بحنيفيَّةٍ سَمحَةٍ ) .
ومن هذا المعنى ما في " الصحيحين " (2) عن أنسٍ : أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : رأى رجلاً يمشي ، قيل : إنّه نذرَ أن يحجَّ ماشياً ، فقال : ( إنَّ الله لغنيٌّ عن مشيه ، فليركب ) ، وفي رواية : ( إن الله لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسَه ) .
وفي " السنن " (3) عن عُقبة بن عامر أنَّ أختَه نذرت أنْ تمشي إلى البيت ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله لا يَصنَعُ بشقاءِ أختك شيئاً فلتَرْكَبْ ) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 6/116 و233 وفي سنده عبد الرحمان بن أبي الزناد ، وهو ضعيف ؛ لكن للحديث شواهد يتقوى بها .
(2) صحيح البخاري 3/25 ( 1865 ) و8/177 ( 6701 ) ، وصحيح مسلم 5/79
( 1642 ) ( 9 ) .
(3) أخرجه : أبو داود ( 3293 ) ، وابن ماجه ( 2134 ) ، والترمذي ( 1544 ) ، والنسائي 7/20 وفي " الكبرى " ، له ( 4757 ) عن عقبة بن عامر ، به .
وأخرجه: أبو داود ( 3304 ) ، وابن خزيمة ( 3045 ) عن ابن عباس ، عن عقبة بن عامر ، به.
وأصل الحديث في الصحيحين ( البخاري 3/25 ( 1866 ) ، ومسلم 5/78 ( 1644 ) ) ، ولفظه عن عقبة بن عامر أنَّه قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله ، وأمرتني أن استفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( لتمشِ ولتركب ) .
وقد اختلفَ العلماءُ في حكم من نذَر أن يحجَّ ماشياً ، فمنهم من قال : لا يلزمُه المشيُ ، وله الرُّكوبُ بكلِّ حالٍ ، وهو رواية عن أحمد والأوزاعيِّ . وقال أحمد : يصومُ ثلاثة أيَّام ، وقال الأوزاعي : عليه كفَّارةُ يمين ، والمشهور أنَّه يلزمُه ذلك إن أطاقه ، فإن عجز عنه ، فقيل : يركبُ عند العجز ، ولاشيءَ عليه ، وهو أحدُ قولي الشَّافعيِّ (1) .
وقيل : بل عليه - مع ذلك - كفارةُ يمين ، وهو قول الثَّوري وأحمد في رواية .
وقيل : بل عليه دمٌ ، قاله طائفةٌ مِنَ السَّلف ، منهم عطاءٌ ومُجاهدٌ والحسنُ واللَّيثُ وأحمدُ في رواية .
وقيل : يتصدَّقُ بكراء ما ركبَ ، وروي عن الأوزاعيِّ ، وحكاه عن عطاء ، وروي عن عطاء : يتصدَّقُ بقدر نفقته عند البيت .
وقالت طائفة من الصَّحابة وغيرهم : لا يُجزئُه الرُّكوبُ ، بل يَحُجُّ من قابِلٍ ، فيمشي ما رَكِبَ ، ويركبُ ما مشى ، وزاد بعضُهم : وعليه هديٌ ، وهو قول مالكٍ إذا كان ما ركبه كثيراً .
وممَّا يدخل في عمومه أيضاً أنَّ من عليه دينٌ لا يُطالَبُ به مع إعساره ، بل يُنظَرُ إلى حال إيساره ، قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (2) ، وعلى هذا جمهورُ العلماء خلافاً لشريح في قوله : إنَّ الآية مختصَّةٌ بديون الرِّبا في الجاهلية (3) ، والجمهورُ أخذُوا باللَّفظ العام ، ولا يُكلَّفُ المدينُ أن يقضيَ مما عليه في خروجه من ملكه ضررٌ ، كثيابه ومسكنه المحتاج إليه ، وخادمه كذلك ، ولا ما يحتاجُ إلى التجارة به لِنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد .
__________
(1) انظر : الأم 3/661 .
(2) البقرة : 280 .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 15309 ) وسعيد بن منصور في " سننه " ( 453 ) تحقيق سعد الحميد ، والطبري في " تفسيره " ( 4916 ) ، وطبعة التركي 5/58 .
الحديث الثالث والثلاثون
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْواهُم ، لادَّعى رِجالٌ أموالَ قَومٍ ودِماءهُم ولكن البَيِّنَةُ على المُدَّعي واليَمينُ على مَنْ أَنْكر ) . حديثٌ حسنٌ ، رواهُ البَيهقيُّ وغيرُهُ هكذا ، وبَعضُهُ في
" الصحيحين " .
أصلُ هذا الحديث خرَّجاه في " الصحيحين " (1) من حديث ابن جريج ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو يُعطى النَّاسُ بدعواهم ، لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ، ولكن اليمين على المدَّعى عليه ) .
وخرَّجاه (2) أيضاً من رواية نافع بنِ عمر الجمحي ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضى أنَّ اليمين على المدَّعى عليه .
واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابنُ الصَّلاح قبله في الأحاديث الكليات ، وقال : رواه البيهقي (3) بإسناد حسن .
__________
(1) صحيح البخاري 6/43 ( 4552 ) ، وصحيح مسلم 5/128 ( 1711 ) ( 1 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 15193 ) ، وابن ماجه ( 2321 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 5994 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3/191 ، وابن حبان ( 5082 )
و( 5083 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1124 ) و( 1125 ) وفي " الأوسط " ، له
( 7971 ) .
(2) البخاري 3/187 ( 2514 ) و233 ( 2668 ) ، ومسلم 5/128 ( 1711 ) ( 2 ) .
(3) في " سننه " 10/252 ، وانظر : المهذب في اختصار السنن الكبير 4/2097 ( 8840 ) .
وخرَّجه الإسماعيلي في " صحيحه " (1) من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا ابنُ جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ، ولكنَّ البيِّنةَ على الطَّالب ، واليمين على المطلوب ) .
وروى الشَّافعي (2) : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( البينة على المُدَّعي ) قال
الشافعي (3) : وأحسبه - ولا أُثبته - أنَّه قال : ( واليمين على المُدَّعى عليه ) .
وروى محمد بن عمر بن لُبابة الفقيه الأندلسيُّ ، عن عثمان بن أيوب الأندلسيِّ - ووصفه بالفضل - ، عن غازي بن قيس ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر هذا الحديث ، وقال : ( لكن البينة على منِ ادَّعى ، واليمين على من أنكر ) وغازي بن قيس الأندلسي كبيرٌ صالح ، سمع من مالكٍ وابن جريج وطبقتِهما ، وسقط من هذا الإسناد ابنُ جريج ، والله أعلم .
__________
(1) أخرجه : البيهقي 10/252 من طريق الإسماعيلي .
(2) في " مسنده " ( 1693 ) بتحقيقي ، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في " المعرفة "
( 5978 ) ، والبغوي ( 2501 ) .
(3) جملة: ( قال الشافعي ) لم ترد في " المسند " ، وهي في الأم 7/93 ، وطبعة الوفاء 10/285.
وقد استدلَّ الإمام أحمد وأبو عبيد بأنّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم - قال : ( البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر ) ، وهذا يدلُّ على أنَّ اللفظ عندهما صحيحٌ محتجٌّ به ، وفي المعنى أحاديث كثيرة ، ففي " الصحيحين " (1) عن الأشعث بن قيس ، قال : كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ ، فاختصمنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( شاهداك أو يمينه ) ، قلت : إذاً يحلِفُ ولا يُبالي ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمينٍ يستحقُّ بها مالاً هو فيها فاجرٌ ، لَقِي الله وهو عليه غضبان ) ، فأنزل الله تصديقَ ذلك ، ثم اقترأ هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } (2) وفي رواية لمسلم بعد قوله : ( إذاً يحلفُ ) قال : ( ليس لك إلاّ ذلك ) . وخرَّجه أيضاً مسلم (3) بمعناه من حديث وائلِ بنِ حجر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) صحيح البخاري 3/45 ( 2357 ) و159 ( 2417 ) و232 ( 2667 ) و234
( 2677 ) و6/42 ( 4550 ) و8/167 ( 6660 ) و171 ( 6677 ) و9/90
( 7184 ) ، وصحيح مسلم 1/86 ( 138 ) ( 220 ) .
(2) آل عمران : 77 .
(3) في " صحيحه " 1/86 ( 139 ) ( 223 ) و87 ( 139 ) ( 224 ) .
وخرَّج الترمذي (1) من حديث العَرْزَمي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جَدِّهِ ، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال في خطبته : ( البيِّنةُ على المدَّعي ، واليمينُ على المُدَّعى عليه ) ، وقال : في إسناده مقال ، والعَرْزَميُّ يضعف في الحديث من قبل حفظه . وخرَّج الدارقطني (2) من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف - ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر ، إلاَّ في القسامة ) . ورواه الحفاظ (3) عن ابن جريج ، عن عمرو مرسلاً .
وخرَّجه أيضاً (4) من رواية مجاهد عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خطبته يومَ الفتح : ( المُدَّعى عليه أولى باليمين إلا أن تقومَ بيِّنة ) ، وخرَّجه الطبراني، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده كلام . وخرَّج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة .
وروى حجاج الصَّوَّافُ ، عن حميد بن هلال ، عن زيد بن ثابت ، قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أيُّما رَجُلٍ طلبَ عندَ رجل طلبة ، فإنَّ المطلوب هو أولى باليمين ) (5) . خرَّجه أبو عبيد والبيهقي ، وإسناده ثقات ، إلا أنَّ حميدَ بنَ هلال ما أظنُّه لقيَ زيدَ بن ثابتٍ ، وخرَّجه الدارقطني ، وزاد فيه ( بغير شهداء ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 1341 ) .
(2) في " سننه " 3/111 و4/218 .
(3) وممن خالفه من الحفاظ عبد الرزاق وحجاج ؛ لذا قال الدارقطني عقب الحديث : ( خالفه عبد الرزاق وحجاج روياه عن ابن جريج ، عن عمرو مرسلاً ) .
(4) سنن الدارقطني 4/218 .
(5) أخرجه : الدارقطني 4/219 ، والبيهقي 10/253 .
وخرّج النسائي (1) من حديث ابن عباس ، قال : جاء خصمان إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،
فادّعى أحدُهما على الآخر حقاً ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمدَّعي : ( أقم بيِّنَتَك ) ، فقال :
يا رسول الله ، ما لي بينة ، فقال للآخر : ( احلِف بالله الذي لا إله إلا هو : ما له عَلَيكَ أو عِندَكَ شيء ) .
وقد رُوي عن عمر أنَّه كتب إلى أبي موسى : أن البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر (2) . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبيِّ بنِ كعب ولم
ينكراه (3) .
وقال قتادة : فصلُ الخطاب الذي أوتيه داود - عليه السلام - : هو أنَّ البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر (4) .
قال ابنُ المنذر (5) : أجمع أهلُ العلم على أن البيِّنَةَ على المدعي ، واليمين على
المدعى عليه ، قال : ومعنى قوله : ( البيِّنة على المدَّعِي ) يعني : يستحقُّ بها ما ادَّعى ، لأنَّها واجبةٌ عليه يؤخذ بها ، ومعنى قوله : ( اليمين على المدَّعى عليه ) أي : يبرأُ بها ، لأنَّها واجبةٌ عليه ، يؤخَذُ بها على كلِّ حالٍ . انتهى .
__________
(1) في " الكبرى " ( 6006 ) و( 6007 ) ، وإسناده ضعيف لاختلاط عطاء بن السائب ، وقال الذهبي في " الميزان " 3/72 : ( ومن مناكير عطاء مما رواه عنه روح بن القاسم ، وأبو الأحوص ، وأبو حمزة السكري وغيرهم … ) ثم ساق هذا الحديث .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/340 ، والدارقطني 4/206 – 207 ، والبيهقي 10/150 و253 .
(3) أخرجه : وكيع في " أخبار القضاة " 1/108 ، والبيهقي 10/136 .
(4) أخرجه : عبد الرزاق في " تفسيره " ( 2584 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 22911 ) ، وطبعة التركي 20/51 ، والبيهقي 10/253 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 17/101 .
وانظر : تفسير القرطبي 15/162 ، وعمدة التفسير لابن كثير 3/146 ، والدر المنثور للسيوطي 5/564 .
(5) في " الإجماع " : 75 .
وقد اختلف الفقهاءُ من أصحابنا والشَّافعية في تفسير المدَّعي والمدَّعى عليه .
فمنهم من قال : المدَّعي : هو الذي يُخلَّى وسكوته من الخصمين ، والمدَّعى عليه : من لا يُخلى وسكوته منهما .
ومنهم من قال : المدَّعِي : من يطلبُ أمراً خفيّاً على خلاف الأصل أو الظاهر ، والمدَّعى عليها بخلافه (1) .
وبَنَوا على ذلك مسألةً ، وهي : إذا أسلمَ الزَّوجانِ الكافران قبلَ الدُّخول ، ثم اختلفا ، فقال الزوج : أسلمنا معاً ، فنكاحُنا باقٍ ، وقالت الزوجةُ : بل سبَق أحدُنا إلى الإسلام ، فالنِّكاح مُنفسخٌ ، فإن قلنا : المدعي من يُخلى وسكوته ، فالمرأةُ هي المدَّعي ، فيكون القولُ قولَ الزوج ، لأنه مدَّعى عليه ؛ إذ لا يخلَّى وسكوته ، وإن قلنا : المدعي من يدعي أمراً خفياً ، فالمدعي هنا هو الزوج ، إذ التقارن في الإسلام خلاف الظاهر ، فالقولُ قولُ المرأة ؛ لأن الظَّاهر معها .
وأما الأمينُ إذا ادعى التَّلف ، كالمودَع إذا ادَّعى تلفَ الوديعة ، فقد قيل : إنَّه
مدَّعٍ ؛ لأنَّ الأصلَ يُخالِفُ ما ادَّعاه ، وإنَّما لم يحتج إلى بينةٍ ، لأنَّ المودعَ ائتمنه ، والائتمان يقتضي قَبُولَ قوله .
__________
(1) انظر : فتح الباري 5/348 .
وقيل : إنَّ المدعي الذي يحتاج إلى بيّنة هو المدعي ، ليُعطى بدعواه مالَ قوم أو دماءهم ، كما ذكر ذلك في الحديث ، فأمَّا الأمينُ ، فلا يدعي ليُعطى شيئاً ، وقيل : بل هو مدَّعى عليه ؛ لأنَّه إذا سكت ، لم يترك ، بل لابدَّ له من ردِّ الجواب ، والمودع مدَّعٍ ؛ لأنَّه إذا سكت ترك ؛ ولو ادَّعى الأمينُ ردَّ الأمانة إلى من ائتمنه ؛ فالأكثرون على أنَّ قوله مقبولٌ أيضاً كدعوى التَّلف. وقال الأوزاعي : لا يُقبل قوله ، لأنَّه مدَّعٍ . وقال مالكٌ وأحمدُ في رواية : إنْ ثبت قبضُه للأمانة ببيِّنةٍ ، لم يقبل قولُه في الرَّدِّ بدون البينة ، ووَجَّهَ بعضُ أصحابنا ذلك بأنَّ الإشهادَ على دفع الحقوق الثابتة بالبيِّنةِ واجبٌ ، فيكونُ تركُه تفريطاً ، فيجب به الضَّمانُ ، وكذلك قال طائفةٌ منهم في دفع مال اليتيم إليه : لابدَّ له من بيِّنةٍ ؛ لأنَّ الله تعالى أمر بالإشهاد عليه فيكون واجباً .
وقد اختلف الفقهاءُ في هذا الباب على قولين :
أحدهما : أنَّ البيِّنَة على المدَّعِي أبداً . واليمين على المدَّعى عليه أبداً ، وهو قولُ أبي حنيفة ، ووافقه طائفةٌ مِنَ الفُقهاء والمحدِّثين كالبخاري ، وطرَّدوا ذلك في كلِّ دعوى ، حتى في القسامة ، وقالوا : لا يحلِفُ إلاَّ المدَّعى عليه ، ورأَوْا أنْ لا يُقضى بشاهد ويمين ؛ لأنَّ اليمينَ لا تكونُ على المدَّعي ، ورأوا أنَّ اليمينَ لا تُرد على المدعي ؛ لأنَّها لا تكونُ إلاَّ في جانب المُنكِر المدعى عليه . واستدلُّوا في مسألة القسامةِ بما رَوى سعيدُ بن عبيد ، حدثنا بُشيرُ بن يسارٍ الأنصاريُّ ، عن سهل بن أبي حثمة: أنَّه أخبرَه أنَّ نفراً منهمُ انطلقوا إلى خيبر، فتفرَّقوا فيها ، فوجدوا أحدَهم قتيلاً ، فذكر الحديثَ ، وفيه : فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( تأتوني بالبيِّنةِ على من قتله ) ، قالوا : ما لنا بيِّنةٌ ، قال : ( فيحلفون ) ، قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُطَلَّ دمُهُ ، فوداه مئةً من إبل الصدقة . خرَّجه البخاري (1) ، وخرَّجه مسلم (2) مختصراً ولم يتمَّه ، ولكن هذه الرواية تُعارِض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة فذكر قصة القتيلِ ، وقال فيه : فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقتل عبد الله بن سهل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يُقسِمُ خمسون منكم على رجلٍ منهم ، فيدفع برُمته ) ، وهذه هي الرواية المشهورة الثابتة المخرَّجة بلفظها بكمالها في " الصحيحين " (3)
__________
(1) في " صحيحه " 9/11 ( 6898 ) .
(2) في " صحيحه " 5/100 ( 1669 ) ( 5 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 4523 ) ، والنسائي 8/12 ، والطبراني في " الكبير " ( 5629 ) ، والبيهقي 8/120 .
(3) البخاري 3/243 ( 2702 ) و4/123 ( 3173 ) و8/41 ( 6142 ) و( 6143 ) ، ومسلم 5/98 ( 1669 ) ( 1 ) و( 2 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 4520 ) ، والترمذي ( 1422 ) ، والنسائي 8/8 - 9 ، والطبراني في
" الكبير " ( 4428 ) و( 5627 ) ، والبيهقي 8/118 - 119 .
. وقد ذكر الأئمَّة الحُفَّاظُ أنّ رواية يحيى بن سعيدٍ أصحُّ من رواية سعيد بن عُبيدٍ الطَّائي ، فإنَّه أجلُّ وأعلم وأحفظ ، وهو من أهل المدينة ، وهو أعلمُ بحديثهم من الكوفيِّين .
وقد ذَكَر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيي بن سعيد في هذا الحديث ، فنفض يده ، وقال : ذاك ليس بشيءٍ ، رواه على ما يقول الكوفيون ، وقال : أذْهَبُ إلى حديث المدنيين يحيى بن سعيد . وقال النَّسائيُّ : لا نعلم أحداً تابعَ سعيد بن عُبيدٍ على روايته عن بشير بن يسار ، وقال مسلم في كتاب " التمييز " (1) : لم يحفظه سعيدُ بنُ عُبيدٍ على وجهه ؛ لأنَّ جميع الأخبار فيها سؤال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهم قسامة خمسين يميناً ، وليس في شيء من أخبارهم أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألهم البيِّنَةَ ، وترك سعيد القسامة ، وتواطُؤُ الأخبارِ بخلافه يقضي عليه بالغلط ، وقد خالفه يحيى بن سعيد .
وقال ابن عبد البرّ (2) في رواية سعيد بن عبيد : هذه روايةُ أهل العراق عن بُشير بن يسار ، وروايةُ أهل المدينة عنه أثبتُ ، وهم به أقعدُ ، ونقلُهم أصحُّ عند أهل العلم .
قلت : وسعيد بن عُبيد اختصر قصَّة القسامة ، وهي محفوظةٌ في الحديث ، وقد خرَّج النَّسائيُّ (3)
__________
(1) : 64 .
(2) في " التمهيد " 23/209 .
(3) في " المجتبى " 8/12 وفي " الكبرى " ، له ( 6922 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 27809 ) ، وابن ماجه ( 2678 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 4586 ) ، وهو حديث حسن ؛ فإنَّ رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من شرط الحسن .
من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طلب من ولي القتيل شاهِدين على من قتله ، فقال : ومن أين أُصيبُ شاهدين ؟ قال : ( فتحلِفُ خمسين قسامةً ) ، قال : كيف أحلِفُ على ما لم أعلم ؟ قال :
( فتستحلفُ منهم خمسين قسامة ) فهذا الحديث يَجمَعُ به بين روايتي سعيد بن
عُبيد ، ويحيى بن سعيد ، ويكونُ كلٌّ منهما تركَ بعض القصَّة ، فترك سعيدٌ ذِكرَ قسامة المدَّعين ، وترك يحيى ذكر البيِّنة قبل طلب القسامة ، والله أعلم .
وأما مسألة الشَّاهد مع اليمين ، فاستدلَّ من أنكر الحكم بالشَّاهد واليمين بحديث : ( شَاهِداك أو يمينه ) (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس لك إلاَّ ذلك ) (2) ، وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة ، وقال : تفرَّد بها منصورٌ عن أبي وائل ، وخالفه سائرُ الرُّواة ، وقالوا : إنَّه سأله : ( ألك بيِّنَةٌ أم لا ؟ ) والبيِّنَةُ لا تقف على الشَّاهدين فقط . بل تعمُّ سائر ما يُبيِّنُ الحقَّ .
وقال غيرُه : يحتمل أنْ يريدَ بشاهديه كلَّ نوعين يشهدان للمدَّعي بصحَّة دعواه يتبيَّن بهما الحقّ، فيدخُلُ في ذلك شهادةُ الرجلين، وشهادةُ الرَّجُل مع المرأتين ، وشهادةُ الواحد مع اليمين ، وقد أقام الله سبحانه أيمانَ المدَّعي مقامَ الشُّهود في
اللعان .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
وقوله في تمام الحديث : ( ليس لك إلاّ ذلك ) : لم يُرِد به النَّفيَ العامَّ ، بل النَّفي الخاصَّ ، وهو الذي أراده المدَّعي ، وهو أنْ يكونَ القولُ قولَه بغير بيِّنةٍ ، فمنعه من ذلك ، وأبى ذلك عليه ، وكذلك قولُه في الحديث الآخر : ( ولكن اليمين على المدَّعى عليه ) إنَّما أريد بها اليمينُ المجردة عن الشهادة ، وأوَّلُ الحديث يدلُّ على
ذلك ، وهو قوله : ( لو يُعطى النَّاسُ بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ رجال وأموالهم ) فدلَّ على أن قولَه : ( اليمين على المُدَّعَى عليه ) إنَّما هي اليمينُ القاطعة للمنازَعَةِ مع عدم البينة ، وأما اليمينُ المثبتة للحقِّ ، مع وجود الشهادة ، فهذا نوعٌ آخر ، وقد ثبت بسنَّةٍ أخرى .
وأمَّا ردُّ اليمين على المدَّعي ، فالمشهورُ عن أحمد موافقةُ أبي حنيفة (1) ، وأنَّها لا تُرَدُّ ، واستدلَّ أحمدُ بحديثِ : ( اليمين على المدَّعى عليه ) ، وقال في رواية أبي طالب عنه : ما هو ببعيدٍ أن يقال له : تحلف وتستحقُّ ، واختار ذلك طائفةٌ مِنْ متأخِّري الأصحاب ، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي عُبيد ، ورُوي عن طائفة مِنَ الصَّحابة ، وقد ورد فيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الدارقطني (2) وفي إسناده نظر (3) .
قال أبو عبيد : ليس هذا إزالةً لليمين عن موضعها ، فإنَّ الإزالة أنْ لا يقضي باليمين على المطلوب ، فأمَّا إذا قُضِيَ بها عليه ، فرضي بيمين صاحبه ، كان هو الحاكم على نفسه بذلك ، لأنَّه لو شاء ، لحلف وبريء ، وبطلَت عنه الدَّعوى .
__________
(1) فتح الباري 5/347 .
(2) في " سننه " 4/213 من طريق محمد بن مسروق ، عن إسحاق بن الفرات ، عن الليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق .
وأخرجه : الحاكم 4/100 ، وتمام في " فوائده " ( 933 ) ، والبيهقي 10/184 عن ابن
عمر .
(3) وهو أنَّ في إسناده محمد بن مسروق ، وهو مجهول لا يعرف .
والقول الثاني في المسألة : أنَّه يُرجَّحُ جانبُ أقوى المتداعيين ، وتجعل اليمينُ في جانبه ، هذا مذهب مالكٍ ، وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنَّه مذهبُ أحمد ، وعلى هذا تتوجَّهُ المسائلُ التي تقدَّم ذكرُها مِن الحكم بالقسامة والشَّاهِد واليمين ، فإنَّ جانبَ المدعي في القسامة لمَّا قوي باللوث جُعِلَتْ اليمينُ في جانبه ، وحُكِمَ له بها ، وكذلك المدَّعي إذا أقام شاهداً ، فإنه قوي جانبه ، فحلف معه ، وقُضي له .
وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله : ( البينة على المدعي ) طريقان :
أحدهما : أنَّ هذا خُصَّ من هذا العموم بدليل .
والثاني : أنَّ قوله : ( البينة على المدعي ) ليس بعامٍّ ؛ لأنَّ المرادَ : على المدعي المعهود ، وهو من لا حُجَّةَ له سوى الدَّعوى كما في قوله : ( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى رجالٌ دماءَ قومٍ وأموالهم ) ، فأمَّا المدَّعي الذي معه حجةٌ تقوِّي دعواه ، فليس داخلاً في هذا الحديث .
وطريق ثالث وهو أنَّ البينة : كُلُّ ما بيَّن صحَّة دعوى المدَّعي ، وشهِدَ بصدقِه ، فاللوثُ مع القسامة بيِّنةٌ ، والشَّاهد مع اليمين بيِّنةٌ .
وطريق رابع سلكه بعضُهم ، وهو الطَّعنُ في صحَّةِ هذه اللفظة ، أعني قولَه :
( البينة على المدَّعي ) ، وقالوا : إنَّما الثَّابتُ هو قوله : ( اليمينُ على المدَّعى عليه ) . وقوله : ( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم ) ، يدلُ على أنَّ مدَّعي الدَّمِ والمالِ لابدَّ له مِنْ بيِّنةٍ تدلُّ على ما ادَّعاه ، ويدخل في عموم ذلك أنّ مَنِ ادَّعى على رجلٍ أنَّه قتل موروثَه ، وليس معه إلاّ قولُ المقتولِ عند موته : جرحني فلان ، أنَّه لا يُكتفى بذلك ، ولا يكونُ بمجرَّده لوثاً ، وهذا قولُ الجمهور ، خلافاً للمالكيَّة ، وأنَّهم جعلوه لوثاً يقسم معه الأولياءُ ، ويستحقُّون الدَّم .
ويدخل في عمومه أيضاً من قذف زوجته ولاعَنَها ، فإنَّه لا يُباحُ دمُها بمجرَّدِ
لعانها ، وهو قولُ الأكثرين خلافاً للشافعي ، واختار قولَه الجوزجانيُّ ، لظاهر قوله - عز وجل - : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ } (1) ، والأوَّلون منهم من حمل العذابَ على الحبس ، وقالوا : إنْ لم تلاعِن ، حُبِست حتى تُقرَّ أو تُلاعِن ، وفيه نظر .
ولو ادَّعت امرأةٌ على رجل أنَّه استكرهها على الزِّنى ، فالجمهورُ أنَّه لا يثبتُ بدعواها عليه شيء . وقال أشهب من المالكية : لها الصداقُ بيمينها ، وقال غيرُه منهم : لها الصَّداقُ بغيرِ يمين ، هذا كلُّه إذا كانت ذاتَ قدر ، وادَّعت ذلك على متَّهم تليقُ به الدَّعوى ، وإنْ كان المرميُّ بذلك مِنَ أهل الصَّلاح ، ففي حدِّها للقذف عن مالك روايتان .
وقد كان شُريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرَّد القرائن الدَّالَّةِ على صدق أحد المتداعيين ، وقضى شُريحٌ في أولاد هرَّةٍ تداعاها امرأتان ، كلٌّ منهما تقولُ هي ولد هِرَّتي ، قال شريحُ : ألقِها مع هذه ، فإن هي قرَّت ودرَّت واسبطرَّتْ فهي لها ، وإن هي فرت وهرَّت وازبأرت ، فليس لها (2) . قال ابن قتيبة : قوله : اسبطرّت ، يريد : امتدَّت للإرضاع (3) ، وإزبأرت : اقشعرَّت وتنفَّشت . وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشَّافعية ، ورجح قولَه ابنُ عقيل مِنْ أصحابنا .
__________
(1) النور : 8 .
(2) انظر : سير أعلام النبلاء 4/105 .
(3) النهاية 2/335 .
وقد رُوي عن الشافعي وأحمد استحسان قولِ القافة في سرقة الأموال ، والأخذ بذلك ، ونقل ابنُ منصور عن أحمد : إذا قال صاحبُ الزَّرع : أفسدت غنمُك زرعي باللَّيل ، يُنظَرُ في الأثر ، فإنْ لم يكن أثرُ غنمِه في الزَّرع ، لابدَّ لصاحب الزَّرع من أنْ يجيء بالبيِّنَةِ . قال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد ؛ لأنَّه مدَّع ، وهذا يدلُّ على اتِّفاقهما على الاكتفاء برؤية أثرِ الغنم ، وأنَّ البيِّنَةَ إنَّما تُطلب عندَ عدم الأثر .
وقوله : ( واليمين على المُدَّعى عليه ) يدلُّ على أنَّ كلَّ مَنِ ادَّعى عليه دعوى ، فأنكر ، فإنَّ عليه اليمينَ ، وهذا قولُ أكثرِ الفقهاء ، وقال مالك : إنَّما تجبُ اليمينُ على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوعُ مخالطة ، خوفاً من أن يتبذَّل السُّفهاءُ الرؤساء بطلب أيمانهم .
وعنده : لو ادَّعى على رجلٍ أنَّه غصبه ، أو سرقَ منه ، ولم يكن المدَّعى عليه متَّهماً بذلك ، لم يُستَحلَف المدَّعى عليه ، وحكي أيضاً عن القاسم بن محمد ، وحميد بن عبد الرحمان ، وحكاه بعضُهم عن فقهاءِ المدينة السَّبعَةِ ، فإن كان من أهل الفضل ، وممَّن لا يُشارُ إليه بذلك ، أُدِّبَ المدعي عندَ مالكٍ ، ويُستدلُّ بقوله :
( اليمينُ على المدَّعى عليه ) على أنَّ المدَّعي لا يمينَ عليه ، وإنَّما عليه البيِّنَة ، وهو قول الأكثرين .
وروي عن عليٍّ أنَّه أحلَفَ المدَّعي مع بيِّنته أنَّ شهودَه شهِدُوا بحقٍ ، وفعله أيضاً شُريح ، وعبدُ الله بن عتبة وابن مسعود وابن أبي ليلى ، وسوَّار العنبري
وعُبيد الله بن الحسن ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، وروي عن النَّخعي أيضاً . وقال إسحاق : إذا استرابَ الحاكمُ ، وجب ذلك .
وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة ، فقال أحمد : قد فعله عليٌ ، فقال له : أيستقيمُ هذا ؟ فقال : قد فعله عليٌّ ، فأثبت القاضي هذا روايةً عن أحمد ، لكنه حملَها على الدَّعوى على الغائب والصَّبيِّ ، وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ عليّاً إنَّما حلَّف المدَّعي مع بيِّنته على الحاضر معه ، وهؤلاء يقولون : هذه اليمينُ لتقوية الدَّعوى إذا ضَعُفَتْ باسترابة الشُّهود كاليمين مع الشَّاهد الواحد (1) . وكان بعضُ المتقدمين يُحلِّفُ الشُّهود إذا استرابهم(2) أيضاً ، ومنهم سوَّارٌ العنبريُّ قاضي البصرة ، وجوَّز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دونَ القضاة . وقد قال ابنُ عباس في المرأة الشَّاهدة على الرَّضاع : إنَّها تُستحلَفُ ، وأخذ به الإمام أحمد .
__________
(1) انظر : السنن الكبرى للبيهقي 10/184 .
(2) من قوله : ( الشهود كاليمين … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
وقد دلَّ القرآن على استحلاف الشهودِ عند الارتياب بشهادتهم في الوصيَّة
في السفر في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } إلى قوله :
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ } (1) ، وهذه الآية لم يُنسخ العملُ بها عندَ جمهور السَّلف ، وقد عملَ بها أبو موسى ، وابن مسعود ، وأفتى بها عليٌّ ، وابن عباس ، وهو مذهبُ شريح والنَّخعيّ وابن أبي ليلى ، وسفيان والأوزاعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم ، قالوا : تُقبل شهادة الكفَّار في وصيَّة المسلمين في السَّفر ، ويُستحلَفان مع شهادتهما . وهل يمينهما من باب تكميل الشهادة ، فلا يُحكم بشهادتهما بدون يمين ، أم من باب الاستظهار عند الريبة ؟ وهذا محتمل ، وأصحابنا جعلوها شرطاً ، وهو ظاهرُ ما روي عن أبي موسى وغيره .
وقد ذهب طائفة من السَّلف إلى أنَّ اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب الاستظهار ، فإن رأى الحاكمُ الاكتفاءَ بالشَّاهد الواحدِ ، لبُروزِ عدالته ، وظُهور صِدْقِه ، اكتفى بشهادته بدون يمين الطالب .
وقوله : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } (2) يدلُّ على أنَّه إذا ظهر خللٌ في شهادة الكفّار ، حلف أولياء الميت على خيانتهما وكذبهما ، واستحقُّوا ما حلَفُوا عليه ، وهذا قولُ مجاهدٍ وغيره من السَّلف .
__________
(1) المائدة : 106 .
(2) المائدة : 107 .
ووجه ذلك أنَّ اليمين في جانبِ أقوى المتداعيين ، وقد قَوِيَتْ هاهنا دعوى الورثةِ بظهور كذب الشُّهود الكفَّار ، فتردُّ اليمينُ على المدَّعين ، ويحلفون مع
اللوث ، ويستحقُّون ما ادَّعوهُ ، كما يحلفُ الأولياءُ في القسامة مع اللوث ، ويستحقون بذلك الدِّيَةَ والدَّم أيضاً عندَ مالكٍ وأحمد وغيرهما .
وقضى ابنُ مسعود في رجل مسلم حضره الموت ، فأوصى إلى رجلين مسلمين
معه ، وسلَّمهما ما معه مِنَ المال ، وأشهدَ على وصيَّته كفّاراً ، ثم قدم الوصيّان ، فدفعا بعض المال إلى الورثة ، وكتما بعضَه ، ثمَّ قدم الكفّارُ ، فشهدوا عليهم بما كتموه منَ المال ، فدعا الوصيَّينِ المسلِمَين ، فاستحلفهما : ما دفع إليهما أكثرَ ممَّا دفعاه ، ثم دعا الكفَّارَ ، فشهدُوا وحلفوا على شهادتهم ، ثم أمر أولياءَ الميت أن يحلِفوا أنَّ ما شهدت به اليهودُ والنَّصارى حقٌّ ، فحلَفُوا ، فقضى على الوصِيَّين بما حلفوا عليه (1) ، وكان ذلك في خلافة عثمان ، وتأوَّل ابنُ مسعود الآية على ذلك ، فكأنَّه قابلَ بين يمين الأوصياء والشُّهود الكفار فأسقطهما ، وبقي مع الورثة شهادة الكفَّار ، فحلفُوا معها ، واستحقُّوا ، لأنَّ جانبَهم ترجَّح بشهادة الكفَّار لهم ، فجعل اليمينَ مع أقوى المتداعيين ، وقضى بها .
واختلف الفقهاء : هل يُستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد أو لا يستحلف إلاَّ فيما يقضي فيه بالنُّكول كرواية عن أحمد ؟ أو لا يستحلف إلا فيما يصحّ بذله كما هوَ المشهور عن أحمد ؟ أو لا يستحلف إلاَّ في كلِّ دعوى لا تحتاجُ إلى شاهدين كما حُكي عن مالك ؟
__________
(1) أخرجه : الحاكم كما في " إتحاف المهرة " 10/273 ( 12744 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 3605 ) ، والحاكم 2/314 ، والبيهقي 10/165 عن أبي موسى الأشعري ، بنحوه .
وأما حقوقُ الله - عز وجل - ، فمن العلماءِ من قالَ : لا يُستحلفُ فيها بحالٍ ، وهو
قولُ أصحابنا وغيرهم ، ونصَّ عليهِ أحمدُ في الزَّكاة ، وبه قالَ طاووسٌ ، والثوريُّ
والحسن بن صالحٍ وغيرهم ، وقال أبو حنيفة ومالكٌ واللَّيثُ والشافعيُّ : إذا اتُّهمَ ،
فإنَّه يُستحلَفُ ، وكذا حُكي عن الشَّافعي فيمن تزوَّجَ مَنْ لا تحلُّ لهُ ، ثمَّ ادعى
الجهلَ : أنَّه يُحلَّفُ على دعواه ، وكذا قالَ إسحاق في طلاق السَّكران : يحلف أنَّه
ما كان يعقل ، وفي طلاق النَّاسي : يحلف على نسيانه ، وكذا قال القاسمُ بن محمَّد وسالم بن عبد الله في رجل قال لامرأته : أنت طالقٌ : يحلفُ أنَّه ما أرادَ به الثَّلاثَ ، وتردُّ إليه .
وخرَّج الطبراني (1) من رواية أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان أُناسٌ مِنَ الأعراب يأتونَ بلحمٍ ، فكان في أنفسنا منه شيءٌ ، فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( اجْهَدُوا أيمانَهم أنَّهم ذبحوها ، ثمَّ اذكُروا اسمَ اللهِ
وكلُوا ) وأبو هارون ضعيف جداً .
وأما المؤتمن في حُقوق الآدميِّينَ حيث قُبِلَ قولُه ، فهل عليه يمين أم لا ؟ فيه ثلاثةُ أقوال للعلماء :
أحدها : لا يمينَ عليه ؛ لأنَّه صدَّقه بائتمانِه ، ولا يمين مع التَّصديقِ ، وبالقياسِ على الحاكم ، وهذا قولُ الحارث العُكلي .
والثاني : عليه اليمينُ ، لأنَّه منكر ، فيدخل في عموم قوله : ( واليمين على من أنكر ) ، وهو قولُ شريحٍ وأبي حنيفة والشَّافعيّ ومالكٍ في رواية ، وأكثر أصحابنا .
والثالث : لا يمين عليه إلاّ أنْ يُتَّهَمَ وهو نصُّ أحمد ، وقول مالك في رواية لما تقدم مِنَ ائتمانه .
__________
(1) في " الأوسط " ( 2367 ) ، وأبو هارون العبدي متروك الحديث ؛ فإسناد الحديث ضعيف جداً ، وانظر : مجمع الزوائد 4/36 لتعلم خطئه ؛ إذ قال : ( رجاله ثقات ) ، ومثل هذا في المجمع كثير .
وأمَّا إذا قامت قرينةٌ تُنافي حالَ الائتمان ، فقد اختلَّ معنى الائتمان .
وقوله : ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) إنَّما أُريد به إذا
ادَّعى على رجلٍ ما يدَّعيه لنفسه ، وينكر أنَّه لمن ادَّعاه عليه ، ولهذا قال في أوَّل
الحديث : ( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادّعى رجالٌ دماء قومٍ وأموالهم ) ، فأما من ادّعى ما ليس له مدَّعٍ لنفسه ، منكر لدعواه ، فهذا أسهلُ مِنَ الأوَّلِ ، ولابدَّ للمدَّعي هنا من بيِّنةٍ ، ولكن يُكتفى مِنَ البيِّنةِ هنا بما لا يُكتفى بها في الدَّعوى على المدَّعي لنفسه المنكر .
ويشهد لذلك مسائل :
منها : اللقطة إذا جاء من وصفها ، فإنَّها تُدفَعُ إليه بغير بيِّنَةٍ بالاتفاق ، لكن منهم من يقول : يجوزُ الدَّفْعُ إذا غلب على الظَّنِّ صِدقُهُ ، ولا يجبُ ، كقول الشافعي وأبي حنيفة ، ومنهم من يقول : يجب دفعُها بذكرِ الوصف المطابق ، كقول مالك وأحمد .
ومنها : الغنيمة إذا جاء من يدَّعي منها شيئاً ، وأنَّه كان له ، واستولى عليه
الكفّار ، وأقام على ذلك ما يُبيِّنُ أنَّه له اكتُفي به ، وسُئِلَ عن ذلك أحمد وقيل له : فيريد على ذلك بينة ؟ قالَ : لابدَّ مِنْ بيانٍ يدلُّ على أنَّه لهُ ، وإنْ علم ذَلِكَ ، دفعه إليه الأمير . وروى الخلال بإسناده عن الرُّكين بن الربيع ، عن أبيه قالَ : جشر لأخي فرس بعين التمر ، فرآه في مربط سعدٍ ، فقالَ : فرسي ، فقالَ سعد : ألك
بينة ؟ قال : لا ، ولكن أَدْعُوه ، فَيُحَمْمِمُ ، فدعاه فحمحم ، فأعطاه إيّاه (1) ، وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدوِّ ، ثم ظهر عليه المسلمون ، ويحتمل أنَّه عرف أنه ضالٌّ، فوضع بين الدواب الضالة ، فيكون كاللقطة .
__________
(1) أخرجه : ابن الجعد في " مسنده " : 338 ( 2324 ) ، وطبعة الفلاح 2/866 ( 2415 ) .
ومنها الغصوب إذا علم ظلم الولاة ، وطلب ردَّها من بيت المال ، قال أبو الزناد : كان عمرُ بنُ عبد العزيز يردُّ المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة ، كان يكتفي باليسير ، إذا عرف وجه مَظْلمةِ الرَّجُلِ ردَّها عليه ، ولم يكلِّفْهُ تحقيقَ البيِّنةِ ، لما يعرف مِنْ غشم الوُلاة قبله على الناس ، ولقد انفد بيت مال العراق في ردِّ المظالم حتى حُمِلَ إليها مِنَ الشَّامِ ، وذكر أصحابُنا أنَّ الأموالَ المغصوبةَ مع قُطَّاعِ الطَّريق واللصوص يُكتفى مِن مدَّعيها بالصِّفَة كاللقطة ، ذكره القاضي في خلافه ، وأنَّه ظاهرُ كلام أحمد .
الحديث الرابع والثلاثون
عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ قال : سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ : ( مَنْ رَأَى مِنكُم مُنْكَراً فَليُغيِّرهُ بيدِهِ ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فبِلسَانِهِ ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ ) . رواهُ مُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجه مسلمٌ (1) من رواية قيس بن مسلم ، عن طارق بنِ شهاب ، عن أبي سعيد ، ومن رواية إسماعيل بن رجاءٍ (2) ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، وعنده في حديث طارق قال : أوَّلُ مَنْ بدأ بالخطبة يومَ العيد قبلَ الصَّلاة مروانُ ، فقام إليه رجلٌ ، فقال : الصَّلاةُ قبل الخطبة ، فقال : قد تُرِكَ ما هُنالك ، فقال أبو سعيد : أمَّا هذا ، فقد قضى ما عليه ، ثمَّ روى هذا الحديث .
وقد روي معناه من وجوه أُخَر ، فخرَّج مسلم (3)
__________
(1) في " صحيحه " 1/49 ( 49 ) ( 78 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 5649 ) ، وأحمد 3/10 و49 و54 و92 ، وأبو داود ( 1140 )
و( 4340 ) ، وابن ماجه ( 1275 ) و( 4013 ) ، والترمذي ( 2172 ) ، والنسائي 8/111 و112 وفي " الكبرى " ، له ( 11739 ) و( 11740 ) ، وأبو يعلى ( 1203 ) ، وابن حبان ( 306 ) ، وابن منده في " الإيمان " ، له ( 180 ) و( 181 ) و( 182 ) ، والبيهقي 3/296 – 297 و6/94 – 95 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7559 ) .
(2) صحيح مسلم 1/49 ( 49 ) ( 79 ) .
وأخرجه : أحمد 3/20 ، وعبد بن حميد ( 906 ) ، وأبو داود ( 1140 ) و( 4340 ) ، وابن ماجه ( 1275 ) و( 4013 ) ، وأبو يعلى ( 1009 ) ، وابن حبان ( 307 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 179 ) و( 180 ) ، والبيهقي 3/296 - 297 و7/265 - 266 و10/90 وفي " الآداب " ، له ( 181 ) .
(3) في " صحيحه " 1/49 ( 50 ) ( 80 ) . =
= ... وأخرجه : أحمد 1/458 و461 ، والطبراني في "الكبير" ( 9784 ) ، وابن منده في "الإيمان" ( 183 ) و( 184 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 177 ) ، والبيهقي 10/90 وفي " شعب الإيمان " ( 7560 ) وفي " الاعتقاد " ، له : 245 .
من حديث ابن مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما من نبيٍّ بعثه الله في أمَّةٍ قبلي ، إلاَّ كان له مِنْ أمَّته حواريُّونَ وأصحابٌ يأخذونَ بسُنَّته ، ويقتدونَ بأمرِه ، ثمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون مالا يؤمرون ، فمن جاهدَهم بيده ، فهو مؤمنٌ ، ومَنْ جاهَدهم بلسانه ، فهو مؤمنٌ ، ومَنْ جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمنٌ ، ليس وراء ذلك مِنَ الإيمان حبَّةُ خردلٍ ) .
وروى سالمٌ المراديُّ ، عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن عمر بن الخطَّاب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( سَيُصيبُ أُمَّتي في آخر الزَّمان بلاءٌ شديدٌ من سُلطانهم ، لا ينجو منه إلا رجُلٌ عرف دين الله بلسانه ويده وقلبِه ، فذلك الّذي سبقت له السَّوابق ، ورجلٌ عرف دينَ الله فصدَّق به ، وللأوَّلِ عليه سابقةٌ ، ورجلٌ عرف دينَ الله ، فسكت ، فإنْ رأى مَنْ يعملُ بخيرٍ ، أحبَّه عليه ، وإنْ رأى من يعمل بباطل ، أبغضَه عليه ، فذلك الذي ينجو على إبطائه ) وهذا غريبٌ ، وإسناده منقطع (1) .
__________
(1) جابر بن زيد لم يدرك عمر بن الخطاب فهو منقطع ، وانظر : تهذيب الكمال 5/342
( 4814 ) ، وللحديث علة أخرى ، وهي ضعف سالم المرادي .
وخرَّج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جداً (1) - عن مولى لعمرَ ، عن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تُوشِكُ هذه الأمة أن تَهلِكَ إلاّ ثلاثةَ نفر : رجل أنكرَ بيده وبلسانه وبقلبه ، فإنْ جبُن بيده ، فبلسانه وقلبه ، فإنْ
جبُن بلسانه وبيده فبقلبه ) .
وخرَّج أيضاً من رواية الأوزاعي ، عن عُمير بن هانئ ، عن عليٍّ سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( سيكون بعدي فتنٌ لا يستطيع المؤمن فيها أن يغيِّر بيدٍ ولا بلسانٍ ) ، قلتُ : يا رسولَ الله ، وكيف ذاك ؟ قالَ : ( يُنكرونه بقلوبهم ) ، قلتُ : يا رسول الله ، وهل يَنقُصُ ذَلِكَ إيمانَهم شيئاً ؟ قال : ( لا ، إلا كما يَنقُصُ القَطْرُ من الصَّفا ) ، وهذا الإسناد منقطع (2) . وخرَّج الطبراني (3) معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ ضعيفٍ .
__________
(1) لم أقف عليه وأبو هارون العبدي اسمه ( عمارة بن جوين ) متروك ، قال عنه أحمد بن حنبل : ( ليس بشيء ) ، وقال البخاري : ( تركه يحيى القطان ) ، وقال أبو زرعة : ( ضعيف الحديث ) ، وقال عنه ابن حجر : ( متروك ومنهم من كذّبه ) ، انظر : الجرح والتعديل 6/476 ( 2005 ) ، وتهذيب الكمال 5/323 ( 4767 ) ، والتقريب ( 4840 ) .
(2) عمير بن هانئ لم يسمع من علي بن أبي طالب ، انظر : تهذيب الكمال 5/497 ( 5160 ) .
(3) في " الأوسط " ( 6153 ) وفي " مسند الشاميين " ( 670 ) .
في سنده : طلحة بن زيد . سئل عنه أحمد بن حنبل فقال : ( ليس بذاك قد حدث بأحاديث مناكير ) ، وعن عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه كان يضع الحديث ، وقال البخاري وغير واحد : ( منكر الحديث ) ، وقال عنه ابن حجر : ( متروك ) . انظر : تهذيب الكمال 3/504 ( 2955 ) ، والتقريب ( 3020 ) .
فدلَّت هذه الأحاديثُ كلُّها على وُجُوبِ إنكارِ المنكر بحسب القُدرة عليه ، وأنَّ إنكارَه بالقلب لابدَّ منه ، فمن لم يُنْكِرْ قلبُه المنكرَ ، دلَّ على ذَهابِ الإيمانِ مِنْ قلبِه .
وقد رُوي عن أبي جُحيفة ، قال : قال عليٌّ : إنَّ أول ما تُغلبونَ عليه مِنَ الجِهادِ : الجهادُ بأيديكم ، ثم الجهادُ بألسنتكم ، ثم الجهادُ بقلوبكم ، فمن لم يعرف قَلبهُ المعروفَ ، ويُنكرُ قلبهُ المنكرَ ، نُكِسَ فجُعِل أعلاه أسفلَه (1) .
وسمع ابن مسعود رجلاً يقول : هَلَكَ مَنْ لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فقال ابنُ مسعود : هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر (2) ، يشير إلى أنَّ معرفة
المعروفِ والمنكرِ بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد ، فمن لم يعرفه هَلَكَ .
وأمَّا الإنكارُ باللسان واليد ، فإنَّما يجبُ بحسب الطاقةِ ، وقال ابنُ مسعود : يوشك مَنْ عاش منكم أن يري منكراً لا يستطيعُ له غيرَ أن يعلمَ اللهُ من قلبه أنَّه له كارهٌ (3) . وفي " سنن أبي داود " (4)
__________
(1) أخرجه : نعيم بن حماد في " الفتن " ( 135 ) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " ( 37578 ) .
(2) أخرجه : نعيم بن حماد في " الفتن " ( 405 ) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " ( 37581 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8564 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/135 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 37305 ) و( 37582 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7589 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 23/284 .
(4) سنن أبي داود ( 4345 ) ، وهو حديث قويٌّ .
وأخرجه : الطبراني في "الكبير" 15/139 ( 345 ) ، وانظر : مشكاة المصابيح ( 5144 ) .
عن العُرس بن عَميرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( إذا عُمِلَت الخطيئةُ في الأرض ، كان من شَهدَها ، فكرهها كمن غاب عنها ، ومَنْ غابَ عنها ، فرَضِيها ، كان كمن شهدها ) ، فمن شَهِدَ الخطيئةَ ، فكرهها بقلبه ، كان كمن لم يشهدها إذا عَجَز عن إنكارها بلسانه ويده ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها ؛ لأنَّ الرِّضا بالخطايا من أقبح المحرَّمات ، ويفوت به إنكارُ الخطيئة بالقلب ، وهو فرضٌ على كلِّ مسلم ، لا يسقطُ عن أحدٍ في حالٍ من الأحوال .
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من حضر معصيةً فكرهها ، فكأنَّه غاب عنها ، ومن غاب عنها ، فأحبها ، فكأنَّه
حضرها ) (1) وهذا مثلُ الذي قبله .
فتبيَّن بهذا أنَّ الإنكارَ بالقلب فرضٌ على كلِّ مسلمٍ في كلِّ حالٍ ، وأمَّا الإنكارُ باليدِ واللِّسانِ فبحسب القُدرة ، كما في حديث أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أنْ
يغيِّروا ، فلا يغيِّروا ، إلا يُوشِكُ أنْ يعمَّهم الله بعقابٍ ) خرّجه أبو داود بهذا
اللفظ (2)
__________
(1) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 9/83 ، والبيهقي 7/266 ، وهو ضعيف لضعف يحيى بن أبي سليمان ، وقد ساقه ابن عدي في ضمن منكراته ، وقال البيهقي : ( تفرد به يحيى بن أبي سليمان ، وليس بالقوي ) ، وقال العراقي في " تخاريج الإحياء " 3/1353 ( 2034 )
: ( وفيه يحيى بن أبي سليمان قال البخاري : منكر الحديث ) .
(2) في " سننه " ( 4338 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 3 ) ، وسعيد بن منصور ( 840 ) ، وأحمد 1/2 و5 و7 و9 ، وعبد ابن حميد ( 1 ) ، وابن ماجه ( 4005 ) ، والترمذي ( 2168 ) و( 3057 ) ، والبزار
( 65 ) و( 66 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11157 ) وفي " التفسير " ، له ( 177 ) ، وأبو يعلى ( 128 ) و( 130 ) ، وابن حبان ( 305 ) ، والطبراني في " الأوسط "
( 2532 ) ، وأبو عمرو الداني في " الفتن " ( 335 ) و( 337 ) ، والبيهقي 10/91 وفي
" شعب الإيمان " ، له ( 7550 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " 1/145 ( 58 ) ، وهو حديث صحيح .
، وقال : قال شعبةُ فيه : ( ما من قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أكثرُ ممن يعمله ) .
وخرَّج أيضاً (1) من حديث جرير : سَمِعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما مِنْ رجلٍ يكونُ في قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ، يقدِرونَ أنْ يُغيِّروا عليه ، فلا يُغيِّرون ، إلا أصابهُم الله بعقابٍ قبلَ أنْ يموتُوا ) .
وخرَّجه الإمام أحمد (2) ، ولفظه : ( ما من قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أعزُّ وأكثر ممَّن يعملُه ، فلم يغيِّروهُ ، إلاَّ عمهُم اللهُ بعقاب ) .
وخرَّج أيضاً (3) من حديث عديّ بن عَميرة ، قال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الله لا يعذِّبُ العامَّةَ بعمل الخاصَّة حتَّى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادرون على أنْ يُنكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك ، عذَّبَ الله الخاصة والعامَّة ) .
وخرَّج أيضاً هو (4) وابنُ ماجه (5) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الله ليسألُ العبدَ يومَ القيامة ، حتَّى يقول : ما منعكَ إذا رأيتَ المنكر أن تُنكِرَه ، فإذا لَقَّنَ الله عبداً حجَّته ، قال : يا ربِّ ، رجوتُك ، وفَرقْتُ النَّاسَ ) .
__________
(1) في " سننه " ( 4339 ) .
وأخرجه : سعيد بن منصور ( 841 ) ، وابن حبان ( 302 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 2382 ) و( 2384 ) ، وهو حديث قويُّ الإسناد .
(2) في " مسنده " 4/364 و366 ، وإسناده لا بأس به .
(3) في " مسنده " 4/192 من حديث سيف بن أبي سليمان ، قال : سمعت عدي بن عدي الكندي ، يقول : حدثني مولىً لنا أنَّه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله يقول …، وهذا إسناد ضعيف لجهالة المولى .
(4) في " مسنده " 3/27 و29 و77 .
(5) في " سننه " ( 4017 ) ، وإسناده لا بأس به .
فأما ما خرجه الترمذيُّ (1) ، وابنُ ماجه (2) من حديث أبي سعيد أيضاً ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خطبته : ( ألا لا يَمنعَنَّ رجلاً هيبةُ النَّاس أنْ يقول بحقٍّ إذا
علمه ) ، وبكى أبو سعيد ، وقال : قد واللهِ رأينا أشياءَ فهِبنا . وخرَّجه الإمام
أحمد (3) ، وزاد فيه : ( فإنَّه لا يُقرِّب من أجلٍ ، ولا يُباعِدُ من رزقٍ أنْ يُقال بحقٍّ أو يُذَكِّرَ بعظيمٍ ) .
وكذلك خرَّج الإمامُ أحمد (4) وابن ماجه (5) من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَحقِرْ أحدُكم نفسَه ) ، قالوا : يا رسولَ الله ، كيف يحقرُ أحدُنا نفسه ؟ قالَ : ( يرى أمرَ لله عليه فيه مقالٌ ، ثمَّ لا يقول فيه ، فيقولُ الله له يوم القيامة : ما منعك أنْ تقولَ فيَّ كذا وكذا ؟ فيقول : خشيةُ النَّاسِ ، فيقول الله : إيَّايَ كنتَ أحقَّ أنْ تخشى ) .
فهذان الحديثان محمولان على أنْ يكون المانعُ له من الإنكار مجرَّدَ الهيبة ، دُونَ الخوفِ المسقط للإنكار .
قال سعيدُ بنُ جبير : قلتُ لابن عباس : آمرُ السُّلطانَ بالمعروفِ وأنهاه عن المنكر ؟ قال : إنْ خِفتَ أن يقتُلَك ، فلا ، ثم عُدْتُ ، فقال لي مثلَ ذلك ، ثم عدتُ ، فقال لي مثلَ ذلك ، وقال : إنْ كنتَ لابدَّ فاعلاً ، ففيما بينَك وبينه (6) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2191 ) .
(2) في " سننه " ( 4007 ) .
(3) في " مسنده " 3/50 ، وزيادته زيادة ضعيفة لضعف أحد رواتها ولانقطاعها .
(4) في " مسنده " 3/30 و47 و73 و91 .
(5) في " سننه " ( 4008 ) ، وهو ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّه يرويه أبو البختري سعيد بن فيروز ، عن أبي سعيد ولم يسمع منه .
(6) أخرجه : سعيد بن منصور في " سننه " ( 846 ) ، وابن أبي شيبة ( 38307 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7591 ) ، وابن عبد البر 23/282 .
وقال طاووس : أتى رجلٌ ابنَ عبَّاسٍ ، فقال : ألا أقومُ إلى هذا السُّلطان فآمره وأنهاهُ ؟ قالَ : لا تكن لهُ فتنةً ، قالَ : أفرأيت إنْ أمرني بمعصيةِ اللهِ ؟ قال : ذلك الَّذي تريد ، فكنْ حينئذٍ رجلاً (1) . وقد ذكرنا حديثَ ابن مسعود الذي فيه :
( يخلف من بعدهم خُلوفٌ ، فمن جاهدَهم بيدِه ، فهو مؤمنٌ ) (2) … الحديث ، وهذا يدلُّ على جهاد الأمراءِ باليد . وقد استنكر الإمامُ أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود (3) ، وقال : هو خلافُ الأحاديث التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بالصَّبر على جَوْرِ الأئمة . وقد يجاب عن ذلك : بأنَّ التَّغييرَ باليدِ لا يستلزمُ القتالَ . وقد نصَّ على ذلك أحمدُ أيضاً في رواية صالحٍ ، فقال : التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح ، وحينئذٍ فجهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات ، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم ، ونحو ذلك ، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من باب قتالهم، ولا مِنَ الخروج عليهم الذي ورد النَّهيُ عنه، فإنَّ هذا أكثرُ ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده.
وأما الخروج عليهم بالسَّيف ، فيخشى منه الفتنُ التي تؤدِّي إلى سفك دماءِ المسلمين . نعم ، إنْ خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهلَه أو جيرانه ، لم ينبغِ له التعرُّض لهم حينئذ ، لما فيه مِنْ تعدِّي الأذى إلى غيره ، كذلك قال الفضيلُ بنُ عياض وغيره ، ومع هذا ، فمتى خافَ منهم على نفسه السَّيف ، أو السَّوط ، أو الحبس ، أو القيد ، أو النَّفيَ ، أو أخذ المال ، أو نحوَ ذلك مِنَ الأذى ، سقط أمرُهم ونهيُهم ، وقد نصَّ الأئمَّةُ على ذلك ، منهم : مالكٌ وأحمدُ وإسحاق وغيرهم .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7593 ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : شرح صحيح مسلم 1/240 .
قال أحمد : لا يتعرَّضُ للسُّلطان ، فإنَّ سيفَه مسلولٌ .
وقال ابنُ شُبرمَة : الأمرُ بالمعروف ، والنَّهيُ عن المنكر كالجهاد ، يجبُ على الواحد أن يُصابِرَ فيه الاثنين ، ويَحْرُم عليه الفرارُ منهما ، ولا يجبُ عليهم مصابرةُ أكثرَ من ذلك .
فإن خافَ السَّبَّ ، أو سَماعَ الكلامِ السَّيء ، لم يسقط عنه الإنكار بذلك نصَّ عليه الإمام أحمد ، وإن احتمل الأذى ، وقوِيَ عليه ، فهو أفضلٌ ، نصَّ عليه أحمد أيضاً ، وقيل له : أليس قد جاء عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه ) أن يعرّضها مِنَ البلاء لما لا طاقة له به ، قال : ليس هذا من ذلك . ويدلُّ على ما قاله ما خرَّجه أبو داود (1) وابن ماجه (2) والترمذيُّ (3) من حديث أبي سعيد
عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الجهاد كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ ) .
وخرَّج ابنُ ماجه (4) معناه من حديث أبي أُمامة .
وفي " مسند البزار " (5) بإسنادٍ فيه جهالة ، عن أبي عُبيدة بن الجراح ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، أيُّ الشُّهداءِ أكرم على الله ؟ قال : ( رجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ ، فأمره بمعروفٍ ، ونهاه عن المنكر فقتله ) . وقد رُوي معناه من وجوه أُخر كلُّها فيها ضعفٌ (6) .
__________
(1) في " سننه " ( 4344 ) .
(2) في " سننه " ( 4011 ) .
(3) في " الجامع الكبير " ( 2174 ) ، وقال : ( حسن غريب ) .
(4) في " سننه " ( 4012 ) ، وفي إسناده مقال .
(5) البحر الزخار ( 1285 ) .
قال البزار عقبه : ( ولم أسمع أحداً سمى أبا الحسن ) ، وهذا منه إعلال لأحد رواة الإسناد . وانظر : ميزان الاعتدال 4/514 ، ومجمع الزوائد 7/272 .
(6) انظر : مستدرك الحاكم 3/195 .
وأما حديثُ : ( لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه ) (1) ، فإنَّما يدلُّ على أنَّه إذا عَلِمَ أنَّه لا يُطيق الأذى ، ولا يصبرُ عليه ، فإنّه لا يتعرَّض حينئذٍ للآمر ، وهذا حقٌّ ، وإنَّما الكلامُ فيمن عَلِمَ من نفسه الصَّبر ، كذلك قاله الأئمَّةُ ، كسفيانَ وأحمد ، والفضيل بن عياض وغيرهم .
وقد رُوي عن أحمد ما يدلُّ على الاكتفاء بالإنكارِ بالقلب ، قال في رواية أبي داود : نحن نرجو إنْ أنكَرَ بقلبه ، فقد سَلِم ، وإنْ أنكر بيده ، فهو أفضل ، وهذا محمولٌ على أنَّه يخاف كما صرَّح بذلك في رواية غيرِ واحدٍ . وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنَّه لا يقبلُ منه ، وصحح القولَ بوجوبه ، وهو قولُ أكثرِ العلماء . وقد قيل لبعض السَّلف في هذا ، فقال : يكون لك معذرةٌ ، وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السَّبت أنَّهم قالوا لمن قال لهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (2) ، وقد ورد ما يستدلُّ به على سقوط الأمر والنهي عندَ عدم القَبول والانتفاع به ، ففي " سنن أبي داود " (3) وابن ماجه (4) والترمذي (5) عن أبي ثعلبة الخشني أنَّه قيل له : كيف تقولُ في هذه الآية : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } (6) ، فقال : أما والله لقد سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( بل ائتمِروا بالمعروف ، وانتهُوا عن المنكرِ ، حتى إذا رأيتَ شُحّاً مُطاعاً ، وهوىً مُتَّبعاً ، ودُنيا مُؤْثَرةً ، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه ، فعليك
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) الأعراف : 164 .
(3) 4341 ) .
(4) 4014 ) .
(5) في " جامعه " ( 3058 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناد الحديث عمرو بن جارية ، وهو مجهول الحال .
(6) المائدة : 105 .
بنفسك ، ودع عنك أمر العوامِّ ) .
وفي " سنن أبي داود " (1) عن عبد الله بن عمرو ، قال : بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ ذكر الفتنة ، فقال : ( إذا رأيتُمُ الناس مَرَجَتْ عهودُهم ، وخفَّت أماناتُهم ، وكانوا هكذا ) وشبك بين أصابعه ، فقمتُ إليه ، فقلت : كيف أفعلُ عندَ ذلك ، جعلني الله فداك ؟ قال : ( الزم بيتَك ، واملِكْ عليك
لسانك ، وخُذْ بما تَعرِفْ ، ودع ما تُنكرُ ، وعليك بأمر خاصَّةِ نفسك ، ودع عنك أمرَ العامَّة ) .
وكذلك رُوي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ، قالوا : لم يأت تأويلُها بعدُ ، إنَّما تأويلها في آخر الزمان (2) .
وعن ابن مسعود ، قال : إذا اختلفتِ القلوبُ والأهواءُ ، وأُلبِستُم شِيَعاً ، وذاقَ بعضُكم بأسَ بعضٍ ، فيأمرُ الإنسانُ حينئذٍ نفسَه ، حينئذ تأويل هذه الآية (3) .
وعن ابن عمرَ ، قال : هذه الآية لأقوامٍ يجيئون من بعدنا ، إنْ قالوا لم يُقْبَلْ منهم (4) .
وقال جبير بنُ نُفيرٍ عن جماعة من الصَّحابة ، قالوا : إذا رأيتَ شحّاً مُطاعاً وهوىً متَّبعاً ، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه ، فعليك بنفسِكَ ، لا يضرُّك من ضلَّ إذا اهتديتَ (5) .
__________
(1) 4342 ) و( 4343 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(2) أخرجه : سعيد بن منصور ( 849 ) ، والطبري ( 10015 ) وطبعة التركي 9/44 ، والطبراني في " الكبير " ( 9072 ) عن عبد الله بن مسعود .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 10020 ) ، وطبعة التركي 9/44 ، وابن أبي حاتم في
" التفسير " ( 6922 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7552 ) .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 10016 ) ، وطبعة التركي 9/44 .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 10019 ) وطبعة التركي 9/46 مطولاً .
وعن مكحول ، قال : لم يأتِ تأويلها بعدُ ، إذا هاب الواعظ ، وأنكر الموعوظ ، فعليك حينئذٍ بنفسك لا يضرُّك من ضلَّ إذا اهتديت (1) .
وعن الحسن : أنَّه كان إذا تلا هذه الآية ، قال : يا لها مِنْ ثقةٍ ما أوثقها ! ومن سَعةٍ ما أوسَعها ! (2)
وهذا كلُّه قد يُحمل على أنَّ من عجز عن الأمر بالمعروف ، أو خاف الضَّرر ، سقط عنه ، وكلامُ ابن عمر يدلُّ على أنَّ من عَلِمَ أنَّه لا يُقبل منه ، لم يجب عليه ، كما حُكي روايةً عن أحمد (3) ، وكذا قال الأوزاعيُّ: مُرْ من ترى(4) أنْ يقبلَ منك .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يُنكر بقلبه : ( وذلك أضعفُ الإيمان ) يدلُّ على أنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ من خصال الإيمان ، ويدلُّ على أنَّ من قدرَ على خَصلةٍ من خصال الإيمان وفعلها ، كان أفضلَ مِمَّن تركها عجزاً عنها ، ويدلُّ على ذلك أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ النساء : ( أمَّا نُقصانُ دينها ، فإنَّها تمكثُ الأيَّام واللَّيالي لا تصلِّي ) (5) يُشير إلى أيَّامِ الحيض ، مع أنَّها ممنوعةٌ من الصَّلاةِ حينئذ ، وقد جعل ذلك نقصاً في دينها ، فدلَّ على أنَّ من قدَرَ على واجبٍ وفعله ، فهو أفضلُ ممَّن عجز عنه وتركه ، وإنْ كان معذوراً في تركه ، والله أعلم .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " التفسير " ( 9623 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/179 .
(2) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/600 وعزاه لعبد بن حميد .
(3) أخرجه : الخلال في " السنة " ( 115 ) .
(4) عبارة : ( من ترى ) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : أحمد 2/66 ، ومسلم 1/60 ( 79 ) ( 132 ) ، وأبو داود ( 4679 ) ، وابن ماجه ( 4003 ) ، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 2727 ) ، من حديث عبد الله بن عمر ، وصحَّ أيضاً من حديث غيره من الصحابة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ رأى منكم منكراً ) يدلُّ على أنَّ الإنكارَ متعلِّقٌ بالرُّؤية ، فلو كان مستوراً فلم يره ، ولكن علم به ، فالمنصوصُ عن أحمد في أكثر الروايات أنَّه لا يعرِضُ له ، وأنه لا يفتِّش على ما استراب به (1) ، وعنه رواية أخرى أنَّه يكشف المغطَّى إذا تحقَّقه ، ولو سَمِعَ صوتَ غناءٍ محرَّمٍ أو آلات الملاهي ، وعلم المكانَ التي هي فيه ، فإنَّه يُنكرها ، لأنه قد تحقَّق المنكر ، وعلم موضعَه ، فهو كما رآه ، نصَّ عليه أحمد ، وقال : إذا لم يعلم مكانَه ، فلا شيءَ عليه .
وأما تسوُّرُ الجدران على من علم اجتماعَهم على منكرٍ ، فقد أنكره الأئمَّةُ مثلُ سفيان الثَّوري وغيره ، وهو داخلٌ في التجسُّس المنهيِّ عنه ، وقد قيل لابن مسعود : إنَّ فلاناً تقطر لحيتُه خمراً ، فقال : نهانا الله عَنِ التَّجسُّس (2) .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " الأحكام السلطانية " : إنْ كان في المُنكر الذي غلب على ظنِّه الاستسرارُ به بإخبار ثقةٍ عنه انتهاكُ حرمة يفوتُ استدراكُها كالزنى والقتل ، جاز التجسسُ والإقدام على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم ، وإنْ كان دُونَ ذلك في الرُّتبة ، لم يجز التَّجَسُّسُ عليه ، ولا الكشفُ عنه .
والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمَعاً عليه، فأمَّا المختَلَفُ فيه، فمن
أصحابنا من قال : لا يجب إنكارُه على من فعله مجتهداً فيه ، أو مقلِّداً لمجتهدٍ تقليداً سائغاً .
__________
(1) انظر : الورع لأحمد : 167 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 18945 ) ، وابن أبي شيبة ( 26568 ) ، وأبو داود ( 4890 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9741 ) ، والبيهقي في " السنن الكبرى " 8/334 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 9661 ) .
واستثنى القاضي في ( الأحكام السلطانية ) ما ضَعُفَ فيه الخلافُ وكان ذريعةً إلى محظورٍ متَّفقٍ عليه ، كربا النقد الخلاف فيه ضعيفٌ ، وهو ذريعةٌ إلى ربا النَّساء المتَّفق على تحريمه ، وكنكاح المتعة ، فإنَّه ذريعةٌ إلى الزِّنى . وذكر عن أبي إسحاق بن شاقلا أنَّه ذكرَ أنَّ المتعة هي الزنى صراحاً .
وعن ابن بطة أنّه قال : لا يفسخ نكاحٌ حكم به قاضٍ إذا كان قد تأوَّل
فيه تأويلاً ، إلاَّ أنْ يكون قضى لرجلٍ بعقدِ متعة ، أو طلق ثلاثاً في لفظٍ
واحدٍ ، وحكم بالمراجعة من غيرِ زوجٍ ، فحكمُهُ مردودٌ ، وعلى فاعله العقوبةُ والنَّكالُ .
والمنصوصُ عن أحمد : الإنكارُ على اللاّعب بالشطرنج ، وتأوَّله القاضي على من لعب بها بغير اجتهادٍ ، أو تقليدٍ سائغٍ ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ المنصوصَ عنه أنَّه يُحَدُّ شاربُ النَّبيذِ المختلفِ فيه ، وإقامةُ الحدّ أبلغُ مراتبِ الإنكارِ ، مع أنَّه لا يفسق بذلك عنده ، فدلَّ على أنَّه ينكَرُ كلُّ مختلفٍ فيه ضَعفُ الخلافُ فيه ، لدلالة السُّنَّة على تحريمه ، ولا يخرجُ فاعلُه المتأوّل مِنَ العدالة بذلك ، والله أعلم . وكذلك نصَّ أحمدُ على الإنكار على من لا يتم صلاتَه ولا يُقيم صلبه من الرُّكوعِ والسُّجود (1) ، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك .
__________
(1) انظر : شرح السنة 3/98 .
واعلم أنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكرِ تارةً يحمِلُ عليه رجاءُ ثوابه ، وتارةً خوفُ العقابِ في تركه ، وتارةً الغضب لله على انتهاك محارمه ، وتارةً النصيحةُ للمؤمنين ، والرَّحمةُ لهم ، ورجاء إنقاذهم ممَّا أوقعوا أنفسهم فيه من التعرُّض لغضب الله وعقوبته في الدُّنيا والآخرة ، وتارةً يحملُ عليه إجلالُ الله وإعظامُه ومحبَّتُه ، وأنَّه أهلٌ أنْ يُطاعَ فلا يُعصى ، ويُذكَرَ فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر ، وأنْ يُفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال ، كما قال بعضُ السَّلف : وددت أنَّ الخلقَ كلَّهم أطاعوا الله ، وإنَّ لحمي قُرِض بالمقاريض (1) . وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمهما الله - يقول لأبيه : وددتُ أنِّي غلت بيَ وبكَ القدورُ في الله - عز وجل - (2) .
ومن لَحَظَ هذا المقامَ والذي قبله ، هان عليه كلُّ ما يلقى من الأذى في الله تعالى ، وربما دعا لمن آذاه ، كما قال ذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا ضربه قومُه فجعل يمسَحُ الدَّمَ
عن وجهه ، ويقول : ( ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون ) (3) .
وبكلِّ حالٍ يتعين الرفقُ في الإنكار ، قال سفيان الثوري : لا يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكرِ إلاّ من كان فيه خصالٌ ثلاثٌ : رفيقٌ بما يأمرُ ، رفيقٌ بما ينهى ، عدلٌ بما يأمر ، عدلٌ بما ينهى ، عالمٌ بما يأمر ، عالم بما ينهى (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 10/150 عن زهير بن نعيم .
(2) أخرجه : محمد بن نصر المروزي في " السنة " : 31 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/281 و354 .
(3) أخرجه : أحمد 1/380 و427 و432 و441 و453 و456 ، والبخاري 4/213 – 214 ( 3477 ) و9/20 ( 6929 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 757 ) ، ومسلم 5/179
( 1792 ) ( 105 ) ، وابن ماجه ( 4025 ) ، وأبو يعلى ( 5205 ) من حديث ابن مسعود .
(4) انظر : الورع للإمام أحمد : 166 .
وقال أحمد : النّاسُ محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غِلظةٍ إلا رجل معلن بالفسق ، فلا حُرمَةَ له ، قال : وكان أصحابُ ابن مسعود إذا مرُّوا بقومٍ يرون منهم ما يكرهونَ ، يقولون : مهلاً رحمكم الله ، مهلاً رحمكم الله .
وقال أحمد : يأمر بالرِّفقِ والخضوع ، فإن أسمعوه ما يكره ، لا يغضب ، فيكون يريدُ ينتصرُ لنفسه .
الحديث الخامس والثلاثون
عَنْ أَبي هُريرةَ - رضي الله عنه - ، قالَ : قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تَحَاسَدُوا ، ولا تَنَاجَشوا ، ولا تَبَاغَضُوا ، ولا تَدَابَرُوا ، ولا يَبِعْ بَعضُكُمْ على بَيعِ بَعضٍ ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْواناً ، المُسلِمُ أَخُو المُسلم ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ ، ولا يَكذِبُهُ ، ولا يَحقِرُهُ ، التَّقوى هاهُنا ) ، - ويُشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ - ( بِحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسلِمَ ، كُلُّ المُسلمِ على المُسلِمِ حرامٌ : دَمُهُ ومَالُهُ وعِرضُهُ ) . رواه مسلم .
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1) من رواية أبي سعيدٍ مولى عبد الله بن عامر بن كُرَيز عن أبي هريرة ، وأبو سعيد هذا لا يعرَفُ اسمُه ، وقد روى عنه غيرُ واحدٍ ، وذكره ابن حبان في " ثقاته " (2) ، وقال ابن المديني : هو مجهول .
وروى هذا الحديث سفيان الثوري ، فقال فيه : عن سعيد بن يسار ، عن أبي هُريرة ، ووهم في قوله : ( سعيد بن يسار ) ، إنَّما هو : أبو سعيد مولى ابنِ كُريز ، قاله أحمد ويحيى والدَّارقطني (3) ، وقد رُوِي بعضُه من وجه آخر (4) .
__________
(1) صحيح مسلم 8/10 ( 2564 ) ( 32 ) و( 33 ) .
وأخرجه : أحمد 2/277 و311 و360 ، وعبد بن حميد ( 1442 ) ، وابن ماجه ( 3933 )
و( 4213 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 11151 ) .
(2) الثقات 5/586 .
(3) انظر : العلل للدارقطني 11/222 ( 2242 ) .
(4) أخرجه : هناد بن السري في " الزهد " ( 1390 ) من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، به .
وخرَّجه الترمذي (1) من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( المسلم أخو المسلم ، لا يخونُه ولا يكذِبُه ولا يَخذُلُه ، كلُّ المسلمِ على المسلم حرامٌ : عِرْضُه وماله ودمُه ، التقوى هاهنا ، بحسب امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاهُ المسلم ) .
وخرَّج أبو داود (2) من قوله : ( كلُّ المسلم ) إلى آخره .
وخرَّجاه في " الصحيحين " (3) من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تحاسَدُوا ولا تناجَشُوا ، ولا تباغَضُوا ولا تَدابَروا ، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً ) .
وخرَّجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة (4) .
وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث واثلةَ بنِ الأسقعِ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
( كُلُّ المسلم على المسلم حرامٌ : دمه ، وعرضه ، وماله ، المسلم أخو المسلمِ ، لا يظلمُه ولا يَخذُلُه ، والتَّقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسبُ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاهُ المسلم ) .
وخرَّج أبو داود آخره فقط (6) .
__________
(1) في " جامعه " ( 1927 ) .
(2) في " سننه " ( 4882 ) .
(3) صحيح البخاري 8/23 ( 6066 ) ، وصحيح مسلم 8/9 ( 2563 ) ( 28 ) .
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2640 ) برواية الليثي ، وابن المبارك في " الجهاد " ( 37 ) ، وأحمد 2/465 و517 ، وابن حبان ( 5687 ) .
(4) أخرجه : البخاري 8/23 ( 6064 ) عن همام ، ومسلم 8/9 ( 2563 ) ( 29 ) عن العلاء ، عن أبيه .
(5) في " مسنده " 3/491 .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 183 ) ، وابن عدي في " الكامل " 9/87 .
(6) كما في " تحفة الأشراف " 8/322 ( 11746 ) ، وذكر المزي في استدراكاته أنَّها في رواية أبي الحسن بن العبد .
وفي " الصحيحين " (1) من حديث ابن عمرَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المسلم أخو المسلم ، لا يَظلِمُهُ ولا يُسلِمه ) . وخرَّجه الإمامُ أحمد (2) ، ولفظه : ( المسلم أخو المسلم ، لا يظلِمُه ولا يخذُله ولا يحقِرُه ، وبحسب المرئ مِنَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تباغَضُوا ، ولا تحاسَدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عِبادَ الله إخواناً ) .
ويُروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعاً (4) وموقوفاً (5) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تحاسدوا ) يعني : لا يحسُدْ بعضُكم بعضاً ، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر ، وهو أنَّ الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ منْ جنسهِ في شيءٍ من الفضائل .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/168 ( 2442 ) و9/28 ( 6951 ) ، ومسلم 7/18 ( 2580 )
( 58 ) .
(2) في " مسنده " 2/91
وأخرجه : أبو داود ( 4893 ) ، والترمذي ( 1426 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 7291 )، وابن حبان ( 533 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13137 ) .
(3) صحيح البخاري 8/23 ( 6065 ) و8/25 ( 6076 ) ، وصحيح مسلم 8/8 ( 2559 )
( 23 ) و8/9 ( 2559 ) ( 24 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 1183 ) ، وأحمد 3/110 و209 و225 و277 و283 ، والترمذي
( 1935 ) ، وأبو داود ( 4910 ) .
(4) أخرجه : الحميدي ( 7 ) .
(5) أخرجه : أحمد 1/3 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 724 ) ، وابن ماجه ( 3849 ) ، وأبو يعلى ( 121 ) .
ثم ينقسم الناس بعدَ هذا إلى أقسام ، فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل ، ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه ، ومنهم من
يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه ، وهو شرُّهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه ، وهو كان ذنبَ إبليس حيث حسدَ آدم - عليه السلام - لمَّا رآه قد فاق على الملائكة بأنْ خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكتَه ، وعلَّمه أسماء كلِّ شيءٍ ، وأسكنه في جواره ، فما زال يسعى في إخراجه من الجنَّة حتَّى أخرج منها ، ويروى عن ابن عمرَ أنَّ إبليسَ قال لنوح : اثنتان بهما أُهلك بني آدم : الحسد ، وبالحسد لُعِنتُ وجُعلتُ شيطاناً رجيماً ، والحرص وبالحرص أُبيح آدمُ الجنةَ كلَّها ، فأصبتُ حاجتي منه بالحرص . خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا .
وقد وصف الله اليهودَ بالحسد في مواضع من كتابه القرآن ، كقوله تعالى :
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ } (1) ، وقوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ } (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) والترمذي (4)
__________
(1) البقرة : 109 .
(2) النساء : 54 .
(3) في " مسنده " 1/167 .
(4) في " جامعه " ( 2510 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 193 ) ، وأبو يعلى ( 669 ) ، والبيهقي 10/232 وفي " شعب
الإيمان "، له ( 8747 ) ، وهو حديث ضعيف وإسناده معلول ، وقد أشار الترمذي إلى علته .
من حديث الزُّبير بن العوَّام ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( دبَّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم : الحسدُ والبغضاءُ ، والبغضاءُ هي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقةُ الشعر ، والذي نفس محمد بيده لا تُؤمنوا حتى تحابُّوا ، أولا
أُنبئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحابَبْتُم ؟ أفشوا السَّلام بينكم ) .
وخرَّج أبو داود (1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إيَّاكم والحسد ، فإنَّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحطب ، أو قال : العُشبَ ) .
وخرَّج الحاكم (2) وغيرُه من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( سيُصيبُ أُمَّتي داءُ الأمم ) ، قالوا : يا نبيَّ الله ، وما داءُ الأمم ؟ قال : ( الأشرُ والبَطَرُ ، والتَّكاثرُ والتَّنافسُ في الدُّنيا ، والتَّباغُض ، والتَّحاسدُ حتى يكونَ البغيُ ثمَّ الهرجُ ) .
وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره ، لم يعمل بمقتضى حسده ، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ . وقد رُوي عن الحسن أنَّه لا يأثمُ بذلك (3) ، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة ، وهذا على نوعين :
أحدهما : أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه ، فيكون مغلوباً على ذَلِكَ ، فلا يأثمُ به .
__________
(1) في " سننه " ( 4903 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 1430 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6608 ) ، وهو حديث ضعيف قال فيه البخاري في " تاريخه " 1/72 : ( لا يصح ) .
(2) في " المستدرك " 4/168 .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 9016 ) من طريق أبي هانئ ، عن أبي سعيد الغفاري ، عن أبي هريرة ، وقال : ( لم يرو هذا الحديث عن أبي سعيد إلاّ أبو هانئ ) ، قلت : وهو في عداد المجهولين فالحديث ضعيف .
(3) انظر : تحفة الأحوذي 6/55 .
والثاني : من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً ، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه ، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية ، وفي العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء ، وربما يُذكر في موضعٍ آخر إنْ شاء الله تعالى ، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود ، ولو بالقول ، فيأثم بذلك .
وقسم آخر إذا حسد لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود ، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ، ويتمنَّى أنْ يكونَ مثله ، فإن كانتِ الفضائلُ دنيويَّةً ، فلا خيرَ في ذلك ، كما قال الَّذينَ يُريدُونَ الحياةَ الدُّنيا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ } (1) ، وإنْ كانت فضائلَ دينيَّةً ، فهو حسن ، وقد تمنَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشَّهادة في سبيل الله - عز وجل - . وفي " الصحيحين " (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا حسدَ إلاَّ في اثنتين : رجلٌ آتاه اللهُ
مالاً ، فهو يُنفقه آناء الليل وآناء النَّهار ، ورجلٌ آتاهُ اللهُ القرآن ، فهو يقومُ به آناء اللَّيل وآناءَ النَّهار ) ، وهذا هو الغبطة ، وسماه حسداً من باب الاستعارة .
وقسم آخر إذا وجدَ من نفسه الحسدَ سعى في إزالته ، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداءِ الإحسان إليه ، والدُّعاء له ، ونشر فضائله ، وفي إزالة ما وَجَدَ له في نفسه مِنَ الحسدِ حتّى يبدلَه بمحبَّة أنْ يكونَ أخوه المسلمُ خيراً منه وأفضلَ ، وهذا مِنْ أعلى درجات الإيمان ، وصاحبه هو المؤمنُ الكاملُ الذي يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ
لنفسه ، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (3) .
__________
(1) القصص : 79 .
(2) صحيح البخاري 9/189 ( 7529 ) ، وصحيح مسلم 2/201 ( 815 ) ( 266 ) .
(3) سبق تخريجه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تناجَشوا ) : فسَّره كثيرٌ من العلماء بالنَّجْشِ (1) في البيع ، وهو : أن يزيدَ في السِّلعة من لا يُريدُ شِراءها (2) ، إمَّا لنفع البائع بزيادةِ الثَّمن له ، أو بإضرارِ المشتري بتكثير الثمن عليه ، وفي " الصحيحين " (3) عن ابنِ عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نهى عن النَّجش .
وقال ابن أبي أوفى : النَّاجش : آكلُ ربا خائنٌ ، ذكره البخاري (4) .
قال ابنُ عبد البرِّ : أجمعوا أنَّ فاعلَه عاصٍ لله - عز وجل - إذا كان بالنَّهي عالماً (5) .
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقب ( 2142 ) : ( بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة ) .
(2) انظر : لسان العرب ( نجش ) .
(3) صحيح البخاري 3/91 ( 2142 ) و9/31 ( 6963 ) ، وصحيح مسلم 5/5 ( 1516 ) ( 13 ) .
(4) في " صحيحه " 3/91 معلقاً .
(5) انظر : التمهيد 13/348 .
واختلفوا في البيع ، فمنهم من قال : إنَّه فاسدٌ ، وهو روايةٌ عن أحمد (1) ، اختارها طائفةٌ من أصحابه ، ومنهم من قال : إنْ كان الناجشُ هو البائعَ ، أو من واطأه البائع على النَّجش فسد ؛ لأنَّ النَّهيَ هُنا يعودُ إلى العاقدِ نفسِه ، وإنْ لم يكن كذلك ، لم يفسُد ، لأنَّه يعودُ إلى أجنبيٍّ . وكذا حُكِي عَنِ الشَّافعيِّ أنَّه علَّل صحة البيع بأنَّ البائعَ غيرُ النَّاجش (2) ، وأكثرُ الفقهاء على أنَّ البيعَ صحيحٌ مطلقاً وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد في رواية عنه ، إلاَّ أنَّ مالكاً وأحمد أثبتا للمشتري الخيارَ إذا لم يعلم بالحال (3) ، وغُبِنَ غَبناً فاحشاً يخرج عن العادة ، وقدَّره مالكٌ وبعضُ أصحاب أحمد بثلث الثَّمنِ ، فإن اختارَ المشتري حينئذٍ الفسخَ ، فله ذلك ، وإن أراد الإمساكَ ، فإنَّه يحطُّ ما غُبِنَ به من الثَّمن ، ذكره أصحابنا .
__________
(1) انظر : المغني 4/148 .
(2) انظر : تحفة الأحوذي 4/442 ( ط . دار الكتب العلمية ) .
(3) انظر : التمهيد 18/193 ، وحاشية الدسوقي 18/193 .
ويحتمل أن يُفسَّرَ التَّناجُشُ المنهيُ عنه في هذا الحديث بما هو أعمُّ من ذلك ، فإنَّ أصلَ النَّجش في اللُّغة : إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادعةِ ، ومنه سُمِّي النَّاجِشُ في البيع ناجشاً ، ويسمّى الصَّائدُ في اللغة ناجشاً (1) ، لأنَّه يُثير الصَّيد بحيلته عليه ، وخِداعِه له ، وحينئذٍ ، فيكونُ المعنى : لا تتخادَعوا ، ولا يُعامِلْ بعضُكُم بعضاً بالمكرِ والاحتيال . وإنَّما يُرادُ بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم : إمَّا بطريقِ الأصالة ، وإما اجتلاب نفعه بذلك ، ويلزم منه وصولُ الضَّرر إليه ، ودخولُه عليه ، وقد قال الله - عز وجل - : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } (2) . وفي حديث ابن مسعودٍ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ غَشَّنا فليس منَّا ، والمكرُ والخِداعُ في النار ) (3) . وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديث أبي بكر الصدِّيق المرفوع : ( ملعونٌ من ضارَّ مسلماً أو مكرَ به ) خرَّجه الترمذيُّ (4) .
فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميعُ أنواع المعاملات بالغشِّ
ونحوه ، كتدليس العيوب ، وكِتمانها ، وغشِّ المبيع الجيد بالرديء ، وغَبْنِ المسترسل الذي لا يَعرِفُ المماكسة ، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفَّار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم ، وما أحسنَ قول أبي العتاهية :
لَيس دُنيا إلاَّ بدينٍ ولَيْـ
ـسَ الدِّين إلاَّ مَكارمُ الأخْلاقِ
إنَّما المَكْرُ والخَديعَةُ في النَّارِ
__________
(1) انظر : " لسان العرب " ( نجش ) .
(2) فاطر : 43 .
(3) أخرجه : ابن حبان ( 567 ) و( 5559 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10234 ) وفي
" الصغير " ، له ( 725 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/189 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 253 ) و( 254 ) و( 354 ) ، وكل طرق الحديث لا تخلو من مقال .
(4) في " جامعه " ( 1941 ) وقد سبق تخريجه .
هُمَا مِنْ خِصالِ أهْلِ النِّفاقِ
وإنَّما يجوزُ المكرُ بمن يجوزُ إدخالُ الأذى عليه ، وهم الكفَّارُ المحاربون ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الحربُ خدعةٌ ) (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تَباغضوا ) : نهى المسلمين عَنِ التَّباغض بينهم في غير الله ، بل على أهواءِ النُّفوسِ ، فإنَّ المسلمينَ جعلهمُ الله إخوةً ، والإخوةُ يتحابُّونَ بينهم ، ولا يتباغضون ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي نفسي بيده ، لا تدخُلُوا الجنَّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا ، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلمتموه تحاببتم ؟ أفشوا السَّلام بينكم ) خرَّجه مسلم (2) . وقد ذكرنا فيما تقدَّم أحاديثَ في النَّهي عن التَّباغُض والتَّحاسد .
وقد حرَّم الله على المؤمنين ما يُوقع بينهم العداوة والبغضاء ، كما قال :
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (3) .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 1698 ) ، والحميدي ( 1237 ) ، وأحمد 3/308 ، والبخاري 4/77 ( 3029 ) ، ومسلم 5/143 ( 1739 ) ( 17 ) و5/143 ( 1740 ) ( 18 ) ، وأبو داود ( 2636 ) ، والترمذي ( 1675 ) ، وابن الجارود في " المنتقى " ( 1051 ) ، وأبو يعلى ( 1826 ) و( 1968 ) و( 2121 ) .
(2) في " صحيحه " 1/53 ( 54 ) ( 93 ) و( 94 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 25742 ) ، وأحمد 2/391 و442 و477 و495 و512 ، وأبو داود ( 5193 ) ، وابن ماجه ( 68 ) و( 3692 ) ، والترمذي ( 2688 ) ، وأبو عوانة 1/38 – 39 ، وابن حبان ( 236 ) ، والبيهقي 10/232 من حديث أبي هريرة ، به .
(3) المائدة : 91 .
وامتنَّ على عباده بالتَّأليف بين قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } (1)، وقال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (2) .
ولهذا المعنى حرم المشي بالنَّميمة ، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء ، ورُخِّصَ في الكذب في الإصلاح بين النَّاس ، ورغَّب الله في الإصلاح بينهم ، كما قال تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً } (3) ، وقال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (4) ، وقال : { فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } (5) .
وخرَّج الإمام أحمد (6) وأبو داود (7) والترمذيُّ (8) من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أخبركم بأفضلَ مِنْ درجة الصلاة والصيام والصَّدقة ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( صلاحُ ذاتِ البينِ ؛ فإنَّ فسادَ ذات البين هي الحالِقةُ ) .
__________
(1) آل عمران : 103 .
(2) الأنفال : 62 – 63 .
(3) النساء : 114 .
(4) الحجرات : 9 .
(5) الأنفال : 1 .
(6) في " مسنده " 6/444 .
(7) في " سننه " ( 4919 ) .
(8) في " جامعه " ( 2509 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 391 ) ، وابن حبان ( 5092 ) ، والبيهقي في
" الآداب " ( 117 ) ، والبغوي ( 3538 ) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) وغيرُه من حديث أسماءَ بنتِ يزيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أُنبِّئُكم بشرارِكم ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( المشَّاؤون بالنَّميمة ، المفرِّقُون بينَ الأحبَّةِ ، الباغون للبُرءاءِ العَنَت ) .
وأمَّا البغض في الله ، فهو من أوثق عرى الإيمان ، وليس داخلاً في النَّهي ، ولو ظهر لرجل من أخيه شرٌّ ، فأبغضه عليه ، وكان الرَّجُل معذوراً فيه في نفس الأمر ، أثيب المبغضُ له ، وإن عُذِرَ أخوه ، كما قال عمر : إنَّا كُنَّا نعرفكُم إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرنا ، وإذ ينْزل الوحيُ ، وإذ يُنبِّئُنا الله مِنْ أخبارِكُم ألا وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِ انطُلِقَ به ، وانقطعَ الوحيُ ، فإنَّما نَعْرفكم بما نَخْبُركم ، ألا مَنْ أظهرَ منكم لنا خيراً ظننَّا به خيراً ، وأحببناه عليه ، ومَنْ أظهر منكم شرّاً ، ظننا به شراً ، وأبغضناه عليه ، سرائرُكم بينكم وبينَ ربِّكم - عز وجل - ) (2) .
وقال الربيع بن خُثَيْم : لو رأيت رجلاً يُظهر خيراً ، ويُسرُّ شرّاً ، أحببتَه عليه ، آجرَك الله على حبِّك الخيرَ ، ولو رأيت رجلاً يُظهر شرّاً ، ويسرُّ خيراً أبغضته عليه ، آجرَك الله على بُغضك الشرَّ .
__________
(1) في " مسنده " 6/459 ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
(2) أخرجه : أحمد 1/41 ، وهناد بن السري ( 876 ) ، والحاكم 4/439 ، والبيهقي 9/42 ، وفي إسناده مقال .
ولمَّا كثُرَ اختلافُ النَّاس في مسائل الدِّين ، وكثرَ تفرُّقُهم ، كثُر بسببِ ذلك تباغُضهم وتلاعُنهم ، وكلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّه يُبغض لله ، وقد يكونُ في نفس الأمر معذوراً ، وقد لا يكون معذوراً ، بل يكون متَّبِعاً لهواه ، مقصِّراً في البحث عن معرفة ما يُبغِضُ عليه ، فإنَّ كثيراً من البُغض كذلك إنَّما يقعُ لمخالفة متبوع يظنُّ أنَّه لا يقولُ إلاَّ الحقَّ ، وهذا الظَّنُّ خطأٌ قطعاً ، وإنْ أُريد أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ فيما خُولِفَ فيه ، فهذا الظنُّ قد يُخطئ ويُصيبُ ، وقد يكون الحامل على الميلِ مجرَّد الهوى ، أو الإلفُ ، أو العادة ، وكلُّ هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغضُ لله ، فالواجبُ على المؤمن أن ينصحَ نفسَه ، ويتحرَّزَ في هذا غاية التحرُّزِ ، وما أشكل
منه ، فلا يُدخِلُ نفسَه فيه خشيةَ أن يقعَ فيما نُهِيَ عنه مِنَ البُغض المُحرَّمِ .
وهاهنا أمرٌ خفيٌّ ينبغي التَّفطُّن له ، وهو أنَّ كثيراً من أئمَّةِ الدِّينِ قد يقولُ قولاً مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه ، مأجوراً على اجتهاده فيه ، موضوعاً عنه خطؤه فيهِ ، ولا يكونُ المنتصِرُ لمقالته تلك بمنْزلته في هذه الدَّرجة ؛ لأنَّه قد لا ينتصِرُ لهذا القولِ إلاَّ لكونِ متبوعه قد قاله ، بحيث أنَّه لو قاله غيرُه من أئمَّة الدِّينِ ، لما قبِلَهُ ولا انتصر له ، ولا والى من وافقه ، ولا عادى من خالفه ، وهو مع هذا يظن أنَّه إنَّما انتصر للحقِّ بمنْزلة متبوعه ، وليس كذلك ، فإنَّ متبوعه إنَّما كان قصدُه الانتصارَ للحقِّ ، وإنْ أخطأ في اجتهاده ، وأمَّا هذا التَّابعُ ، فقد شابَ انتصارَه لما يظنُّه الحقَّ إرادة علوِّ متبوعه ، وظهور كلمته ، وأنْ لا يُنسَبَ إلى الخطأ ، وهذه دسيسةٌ تَقْدَحُ في قصد الانتصار للحقِّ ، فافهم هذا ، فإنَّه فَهْمٌ عظيم ، والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراطٍ مستقيم .
وقوله : ( ولا تدابروا ) قال أبو عبيد : التَّدابر : المصارمة والهجران ، مأخوذ من أن يُولِّي الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَه (1) ، ويُعرِض عنه بوجهه ، وهو التَّقاطع .
وخرَّج مسلم (2) من حديث أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تحاسدُوا ، ولا تَبَاغَضُوا ، ولا تَقَاطعُوا ، وكونوا عِبادَ الله إخواناً كما أمركُم الله ) . وخرَّجه (3) أيضاً بمعناه من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي أيوب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يهجرَ أخاه فوق ثلاثٍ ، يلتقيان ، فيصدُّ هذا ، ويصدُّ هذا ، وخيرُهما الَّذي يَبدأ بالسَّلام ) .
وخرَّج أبو داود (5) من حديث أبي خراش السُّلميِّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( مَنْ هَجر أخاه سنةً ، فهو كسفكِ دمه ) .
__________
(1) انظر : لسان العرب ( دبر ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) صحيح البخاري 8/26 ( 6077 ) و8/65 ( 6237 ) ، وصحيح مسلم 8/9 ( 2560 )
( 25 ) .
(5) في " سننه " ( 4915 ) ، وقد أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/500 ، أحمد في
" المسند " 4/220 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 404 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6631 ) ، وهو حديث صحيح .
وكلُّ هذا في التَّقاطع للأمورِ الدُّنيويَّة ، فأمَّا لأجلِ الدِّين ، فتجوزُ الزِّيادةُ على الثلاثِ (1) ، نصَّ عليه الإمام أحمدُ ، واستدلَّ بقصَّةِ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفوا ، وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهجرانهم لمَّا خاف منهمُ النِّفاق ، وأباح هِجران أهلِ البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء ، وذكر الخطابي أنَّ هِجران الوالدِ لولده ، والزَّوج لزوجته ، وما كان في معنى ذلك تأديباً تجوزُ الزِّيادة فيه على الثَّلاث ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هجر نساءه شهراً (2) .
واختلفوا : هل ينقطع الهِجران بالسَّلام ؟ فقالت طائفةٌ : يَنقطِعُ بذلك ، ورُوي عن الحسن ومالكٍ في رواية ابن وهبٍ (3) ، وقاله طائفةٌ من أصحابنا ، وخرَّج أبو داود (4)
__________
(1) انظر : التمهيد 6/127 .
(2) انظر : معالم السنن 4/114 .
(3) انظر : تحفة الأحوذي 6/51 ( ط . دار الكتب العلمية ) .
(4) في " سننه " ( 4912 ) .
وأخرجه : البيهقي 10/63 ، وفي إسناده مقال .
من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يحلُّ لمؤمنٍ أنْ يهجُرَ مؤمناً فوق ثلاثٍ ، فإن مرَّت به ثلاثٌ ، فليلقَهُ ، فليسلِّم عليهِ ، فإن ردَّ عليهِ السَّلامَ ، فقد اشتركا في الأجر ، وإن لم يردَّ عليهِ ، فقد باءَ بالإثم ، وخرج المُسلِّمُ من الهجرة ) . ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخرُ من الرَّدِّ عليهِ ، فأمَّا معَ الرَّدِّ إذا كانَ بينهما قبل الهجرةِ مودَّةٌ ، ولم يعودا إليها ، ففيه نظر . وقد قالَ أحمد في رواية الأثرم ، وسئل عن السَّلام : يقطعُ الهِجران ؟ فقال : قد يُسلم عليه وقد صَدَّ عنه (1) ، ثم
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يلتقيان فيصدُّ هذا ، ويصدُّ هذا ) ، فإذا كان قد عوَّده أنْ يُكلِّمه أو يُصافحه . وكذلك رُوي عن مالكٍ أنَّه لا تنقطعُ الهجرة بدونِ العود إلى المودَّة (2) .
وفرَّق بعضُهم بين الأقارب والأجانب ، فقال في الأجانب : تزول
الهجرةُ بينهم بمجرَّد السَّلام ، بخلافِ الأقارب ، وإنَّما قال هذا لوجوب صلة
الرَّحِمِ .
__________
(1) انظر : التمهيد 6/127 – 128 .
(2) انظر : التمهيد 6/128 .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض ) قد تكاثرَ النَّهي عَنْ ذلك ، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يبيع الرجلُ على بيع أخيه ، ولا يخطُبُ على خِطبةِ أخيه ) . وفي رواية لمسلم (2) : ( لا يَسُمِ المسلمُ على سومِ المسلم ، ولا يَخطُبُ على خِطبته ) . وخرَّجاه (3) من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَبِعِ الرَّجُلُ على بيع أخيه ، ولا يخطُبْ على خِطبة أخيه ، إلاَّ أنْ يأذن له ) . ولفظه لمسلم .
وخرَّج مسلم (4) من حديث عقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمنُ أخو المؤمنِ ، فلا يَحِلُّ للمؤمن أن يبتاعَ على بيع أخيه ، ولا يخطبَ على خِطبةِ أخيه ، حتَّى يَذَرَ ) .
وهذا يدلُّ على أنَّ هذا حقُّ للمسلم على المسلم ، فلا يُساويه الكافر في ذلك ، بل يجوزُ للمسلم أن يبتاعَ على بيع الكافر ، ويَخطُبَ على خِطبته ، وهو قولُ الأوزاعيِّ (5) وأحمدَ ، كما لا يثبتُ للكافر على المسلم حقُّ الشُّفعة عنده ، وكثيرٌ من الفُقهاء ذهبوا إلى أنَّ النَّهي عامٌّ في حقِّ المسلم والكافر .
واختلفوا : هلِ النَّهيُ للتَّحريم ، أو للتَّنزيه ، فمِنْ أصحابنا من قال : هو للتَّنزيه دونَ التَّحريم ، والصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماء : أنَّه للتَّحريمِ .
__________
(1) صحيح البخاري 3/90 – 91 ( 2140 ) ، وصحيح مسلم 4/138 ( 1413 ) ( 51 ) .
(2) 4/138 ( 1413 ) ( 51 ) .
(3) أخرجه : البخاري 3/90 ( 2139 ) ، ومسلم 4/138 ( 1412 ) ( 49 ) .
(4) في " صحيحه " 4/139 ( 1414 ) .
(5) انظر : التمهيد 13/319 .
واختلفوا : هل يصحُّ البيع على بيعِ أخيه ، أوِ النِّكاحُ على خِطبته ؟ فقال أبو حنيفة والشافعي (1) وأكثر أصحابنا : يَصِحُّ ، وقال مالك في النِّكاح : إنَّه إن لم يدخل بها ، فُرِّقَ بينهما ، وإنْ دخل بها لم يُفرَّقْ (2) . وقال أبو بكر مِنْ أصحابنا في البيع والنِّكاحِ : إنَّه باطلٌ بكلِّ حالٍ ، وحكاه عن أحمد .
ومعنى البيع على بيع أخيه : أنْ يكونَ قد باع منه شيئاً ، فيبذُل للمشتري سلعتَه ليشتريها ، ويفسخ بيعَ الأوَّلِ . وهل يختصُّ ذلك بما إذا كان البذلُ في مدَّة الخيار ، بحيث يتمكَّن المشتري مِنَ الفسخِ فيه ، أم هو عامٌّ في مدَّةِ الخيار وبعدَها ؟ فيه اختلاف بين العلماء ، قد حكاه الإمامُ أحمد في رواية حرب ، ومال إلى القول بأنَّه عامٌّ في الحالينِ ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا . ومنهم من خصَّه بما إذا كان ذلك في مدَّة الخيار ، وهو ظاهرُ كلامِ أحمد في رواية ابن مشيش ، ومنصوصُ الشَّافعي (3) ، والأوَّلُ أظهرُ ، لأنَّ المشتري وإنْ لم يتمكَّنْ من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار فإنَّه إذا رغب في ردِّ السِّلعة الأُولى على بائعها ، فإنَّه يتسبَّب في ردِّها عليه بأنواع من الطُّرق المقتضية لضَرره ، ولو بالإلحاح عليه في المسألة ، وما أدَّى إلى ضررِ المسلم ، كان محرَّماً ، والله أعلم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وكونوا عباد الله إخواناً ) : هذا ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كالتَّعليل لِما تقدَّم ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم إذا تركُوا التَّحاسُدَ ، والتَّناجُشَ ، والتَّباغُضَ(4) ،
والتدابرَ ، وبيعَ بعضِهم على بيعِ بعضٍ ، كانوا إخواناً .
__________
(1) " التمهيد " 13/23 .
(2) انظر : التمهيد 13/23 .
(3) انظر : التمهيد 14/30 .
(4) سقطت من ( ص ) .
وفيه أمرٌ باكتساب ما يصيرُ المسلمون به إخواناً على الإطلاق ، وذلك يدخلُ فيه أداءُ حقوقِ المسلم على المسلم مِنْ رَدِّ السلامِ ، وتشميت العاطس ، وعيادة المريض ، وتشييع الجنازة ، وإجابةِ الدَّعوة ، والابتداء بالسَّلام عندَ اللِّقاء ، والنُّصح بالغيب .
وفي " الترمذي " (1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تَهادَوا ، فإنَّ الهديةَ تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدر ) . وخرَّجه غيرُه (2) ، ولفظه : ( تهادوا تحابُّوا ) .
وفي " مسند البزار " (3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تهادوا ، فإنَّ الهدية تَسُلُّ السَّخيمة ) .
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز - يرفعُ الحديثَ - قال : ( تصافحوا ، فإنَّه يُذهِبُ الشَّحناء ، وتهادَوْا ) (4) .
وقال الحسن : المصافحةُ تزيد في الودِّ (5) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2130 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2333 ) ، وأحمد 2/405 ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 656 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف أحد رجال إسناده ، وهو أبو معشر المدني .
(2) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 594 ) ، وأبو يعلى ( 6148 ) ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " ( 657 ) ، وهو حديث حسن .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 1937 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 1549 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 658 ) ، وهو ضعيف لضعف أحد رجال إسناده ، وهو عائذ بن شريح .
(4) أخرجه : ابن وهب في " الجامع للحديث " ( 246 ) .
(5) أخرجه : أبو محمد الأنصاري في " طبقات المحدثين بأصبهان " 3/507 ، والخطيب في
" تأريخ بغداد " 6/358 .
وقال مجاهد (1) : بلغني أنه إذا تراءى المتحابّان ، فضحك أحدُهما إلى الآخر ،
وتصافحا ، تحاتت خطاياهما كما يتحاتُّ الورقُ من الشجر ، فقيل له : إنَّ هذا ليسيرٌ مِنَ العمل ، قال : تقولُ يسيرٌ والله يقولُ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( المسلمُ أخو المسلم ، لا يظلِمُه ، ولا يَخذُلُه ، ولا يَكذِبُه ، ولا يَحقِرُه ) . هذا مأخوذ من قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } (3) ، فإذا كان المؤمنون إخوةً ، أُمروا فيما بينهم بما يُوجب تآلُفَ القلوب واجتماعَها ، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوب واختلافَها ، وهذا من ذلك .
وأيضاً ، فإنَّ الأخ مِنْ شأنه أنْ يوصِلَ إلى أخيه النَّفع ، ويكفَّ عنه الضَّرر ، ومن أعظم الضرِّ الذي يجبُ كفُّه عَنِ الأَخِ المسلم الظُّلم ، وهذا لا يختصُّ بالمسلم ، بل هو محرَّمٌ في حقِّ كلِّ أحَدٍ ، وقد سبق الكلام على الظُّلم مستوفى عندَ ذكر حديث أبي ذرِّ الإلهي : ( يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّماً ، فلا تظالموا ) (4) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35449 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 12624 ) ، وطبعة التركي 11/257 ، وابن أبي حاتم في " التفسير " ( 9132 ) .
(2) الأنفال : 63 .
(3) الحجرات : 10 .
(4) سبق تخريجه .
ومِنْ ذلك : خِذلانُ المسلم لأخيه ، فإنَّ المؤمن مأمورٌ أنْ يَنصُرَ أخاه ،
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) ، قال : يا رسولَ الله ، أنصُرُهُ مَظلوماً ، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال : ( تمنعه عنِ الظُّلم ، فذلك نصرُك
إيَّاه ) . خرَّجه البخاري (1) بمعناه من حديث أنس ، وخرَّجه مسلم (2) بمعناه من حديث جابر .
وخرَّج أبو داود (3) من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابرِ بن عبد الله ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِن امرئٍ مسلمٍ يخذُلُ امرأً مسلماً في موضع تُنتَهكُ فيه حرمتُه ، ويُنتقصُ فيه من عِرضه ، إلاّ خذله الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتَه ، وما مِن امرئٍ ينصرُ مسلماً في موضع يُنتقصُ فيه من عِرضِه ، ويُنتهكُ فيه من حرمته ، إلاّ نصره الله في موضع يحبُّ فيه نصرَتَه ) .
وخرّج الإمام أحمد (4) من حديث أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ أُذِلَّ عنده مؤمنٌ ، فلم ينصُرْه وهو يقدِرُ على أن ينصُرَه ، أذلَّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) .
وخرَّج البزار (5) من حديث عِمران بن حُصين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ نَصرَ أخاه بالغيب وهو يستطيعُ نصرَه ، نَصَرَهُ الله في الدُّنيا والآخرة ) .
__________
(1) في " صحيحه " 3/168 ( 2444 ) .
(2) في " صحيحه " 8/19 ( 2584 ) ( 62 ) .
(3) في " سننه " ( 4884 ) .
وأخرجه : أحمد 4/30 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 1/374 ، ويعقوب بن سفيان في
" المعرفة " 1/300 ، وفي إسناده مقال .
(4) في " مسنده " 3/487 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) كما في " كشف الأستار " ( 3315 ) و( 3316 ) ، وهو معلول بالوقف والموقوف هو الصحيح كما ذكر البيهقي 8/168 .
ومن ذلك : كذِبُ المسلم لأخيه ، فلا يَحِلُّ له أن يُحدِّثه فيكذبه ، بل لا يُحدِّثه إلاَّ صدقاً ، وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن النَّوَّاس بن سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كَبُرَت خِيانةً أن تُحدِّثَ أخاكَ حديثاً هو لك مصدِّقٌ وأنت به
كاذب ) .
ومن ذلك : احتقارُ المسلم لأخيه المسلم ، وهو ناشئٌ عن الكِبْرِ ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس ) خرَّجه مسلم (2) من حديث ابن مسعود ، وخرَّجه الإمام أحمد (3) ، وفي رواية له : ( الكبرُ سَفَهُ الحقِّ ، وازدراءُ الناس ) ، وفي رواية : ( وغمص الناس ) (4) ، وفي رواية زيادة : ( فلا يَراهم
شيئاً ) وغمص النَّاس : الطَّعنُ عليهم وازدراؤهم (5) ، وقال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ } (6) ، فالمتكبر ينظرُ إلى نفسه بعين الكمال ، وإلى غيره بعين النَّقصِ ، فيحتقرهم ويزدريهم ، ولا يراهم أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقهم ، ولا أن يقبلَ مِنْ أحد منهم الحقَّ إذا أورده عليه .
__________
(1) المسند 4/183 ، وهو ضعيف .
(2) في " صحيحه " 1/65 ( 91 ) ( 147 ) .
(3) في " مسنده " 1/399 .
(4) في " مسنده " 1/427 .
وأخرجه : أبو يعلى ( 5291 ) ، والحاكم 4/182 .
(5) انظر : لسان العرب ( غمص ) .
(6) الحجرات : 11 .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( التَّقوى هاهنا ) يشير إلى صدره ثلاثَ مرَّاتٍ : فيه إشارةٌ إلى أنَّ كرم الخَلْق عند الله بالتَّقوى ، فربَّ من يحقِرُه الناس لضعفه ، وقلَّةِ حظِّه من الدُّنيا ، وهو أعظمُ قدراً عند الله تعالى ممَّن له قدرٌ في الدُّنيا ، فإنَّ الناسَ إنّما يتفاوتُون بحسب التَّقوى ، كما قال الله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } (1) ، وسئل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أكرمُ الناسِ ؟ قال : ( أتقاهُم لله - عز وجل - ) (2) . وفي حديث آخر : ( الكرمُ التَّقوى ) (3) ، والتَّقوى أصلُها في القلب ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } (4) . وقد سبق ذكر هذا المعنى في الكلام على حديث أبي ذرٍّ الإلهي عند قوله : ( لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكُم وجنَّكُم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحد منكم ، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً ) (5) .
__________
(1) الحجرات : 13 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 31919 ) ، وأحمد 2/431 ، والدارمي ( 229 ) ، والبخاري 4/170 ( 3353 ) و4/216 ( 3490 ) ، ومسلم 7/103 ( 2378 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 11249 ) وفي " التفسير " ، له ( 269 ) عن أبي هريرة .
(3) أخرجه : أحمد 5/10 ، وابن ماجه ( 4219 ) ، والترمذي ( 3271 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 6912 ) و( 6913 ) ، والحاكم 2/163 و4/325 من طريق سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، به مرفوعاً ، وقال الترمذي : ( حديث صحيح غريب ) ؛ لكن سلام بن أبي مطيع في روايته عن قتادة ضعف ، ثمَّ إنَّ الحسن لم يسمع كل ما رواه عن سمرة .
(4) الحج : 32 .
(5) سبق تخريجه ، ويعني بـ ( الإلهي ) : القدسي .
وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب ، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلا الله - عز وجل - ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله لا ينظرُ إلى صُورِكُم وأموالِكم ، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم ) (1) وحينئذ ، فقد يكونُ كثيرٌ ممَّن له صورةٌ حسنةٌ ، أو مالٌ ، أو جاهٌ ، أو رياسةٌ في الدنيا ، قلبه خراباً من التقوى ، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءاً مِنَ التَّقوى ، فيكون أكرمَ عند الله تعالى ، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً ، كما في " الصحيحين " (2) عن حارثةَ بن وهبٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أُخبِرُكم بأهل الجنَّةِ : كلُّ ضعيف متضعَّفٍ ، لو أقسم على الله لأبرَّهُ ، ألا أخبركم بأهل النَّارِ : كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستكبِرٍ ) .
وفي " المسند " (3) عن أنس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أمَّا أهلُ الجنَّة ، فكلُّ ضعيفٍ متضعَّفٍ ، أشعث ، ذي طِمرين ، لو أقسمَ على الله لأبرَّه ؛ وأمَّا أهلُ النَّارِ ، فكلُّ جَعْظَريٍّ جَوَّاظ جمَّاعٍ ، منَّاعٍ ، ذي تَبَع ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/285 و539 ، ومسلم 8/11 ( 2564 ) ( 34 ) ، وابن ماجه ( 4143 ) ، وابن حبان ( 394 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/98 ، والبغوي ( 4150 ) من حديث أبي هريرة .
(2) صحيح البخاري 6/198 ( 4918 )، وصحيح مسلم 8/154 ( 2853 ) (46) و(47) .
(3) 3/145 ، وفي سنده عبد الله بن لهيعة ضعيف ، ويغني عنه الحديث السابق .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تحاجَّت الجنَّةُ والنَّارُ ، فقالتِ النَّارُ : أُوثِرْتُ بالمتكبِّرينَ والمتجبِّرين ، وقالتِ الجنَّةُ : لا يدخُلُني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم ، فقال الله للجنَّةِ : أنت رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي ، وقال للنار : أنت عذابي ، أعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي ) .
وخرَّجه الإمام أحمد (2) من حديث أبي سعيدٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( افتخرت الجنَّةُ والنَّارُ ، فقالت النار : يا ربِّ ، يدخُلُني الجبابرة والمتكبِّرون والملوكُ
والأشرافُ ، وقالت الجنَّةُ : يا ربِّ يدخُلُني الضُّعفاء والفقراءُ والمساكين ) وذكر الحديث .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن سهل بن سعد ، قال : مرَّ رجلٌ على
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لرجل عنده جالس : ( ما رأيك في هذا ؟ ) فقالَ رجلٌ منْ أشراف الناس : هذا والله حريٌّ إنْ خطَب أنْ يُنكح ، وإنْ شفع أنْ يشفَّعَ ، وإن
قالَ أن يُسمَعَ لقوله ، قالَ : فسكت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ مرَّ رجلٌ آخر ، فقالَ لهُ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما رأيك في هذا ؟ ) قال : يا رسول الله ، هذا رجلٌ مِن
فقراء المسلمين ، هذا حريٌّ إنْ خطب أنْ لا يُنكحَ ، وإن شفع أن لا يشفَّع ،
وإنْ قال أنْ لا يُسمع لقوله ، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا خيرٌ من ملءِ الأرض مثل
هذا ) .
__________
(1) صحيح البخاري 6/173 ( 4850 ) ، وصحيح مسلم 8/151 ( 2846 ) ( 36 ) .
(2) في " مسنده " 3/13 و78 ، وإسناده لا بأس به .
(3) 7/9 ( 5091 ) و8/118 - 119 ( 6447 ) .
وقال محمد بنُ كعب القُرَظيُّ في قوله تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } (1) ، قال : تَخفِضُ رجالاً كانوا في الدُّنيا
مرتفعين ، وترْفَعُ رجالاً كانوا في الدُّنيا مخفوضين .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( بحسب امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يحقِرَ أخاه المسلم ) يعني : يكفيه مِنَ الشرِّ احتقارُ أخيه المسلم ، فإنَّه إنَّما يحتقرُ أخاه المسلم لتكبُّره عليه ، والكِبْرُ من أعظمِ خِصالِ الشَّرِّ ، وفي " صحيح مسلم " (2) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( لا يدخلُ الجنَّة من في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْرٍ ) .
وفيه أيضاً (3) عنه أنَّه قال : ( العزُّ إزاره والكبر (4) ردائه ، فمن نازعني عذَّبتُه ) فمنازعته الله تعالى صفاته التي لا تليقُ بالمخلوق ، كفى بها شراً .
وفي " صحيح ابن حبان " (5) عن فَضالة بنِ عُبيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( ثلاثة لا يُسأل عنهم : رجلٌ يُنازعُ الله إزاره ، ورجلٌ يُنازع الله رداءه ، فإنَّ رداءه الكبرياء ، وإزاره العزُّ ، ورجلٌ في شكٍّ من أمر الله تعالى والقُنوطِ من رحمة الله ) .
__________
(1) الواقعة : 1 - 3 .
(2) سبق تخريجه .
(3) 8/35 ( 2620 ) .
(4) في " صحيح مسلم " : ( والكبرياء ) .
(5) 4559 ) ، وهو حديث صحيح .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من قال : هلكَ الناسُ ، فهو أهلكهم(2) ) قال مالك : إذا قال ذلك تحزُّناً لما يرى في الناس ، يعني في دينهم فلا أرى به بأساً ، وإذا قال ذلك عُجباً بنفسه ، وتصاغُراً للناس ، فهو المكروهُ الذي نُهي عنه . ذكره أبو داود في " سننه " (3) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ : دمهُ ومالُه وعِرضه ) هذا ممَّا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب به في المجامع العظيمةِ ، فإنَّه خطب به في حَجَّة الوداع يومَ النَّحر ، ويومَ عرفةَ ، ويوم الثاني من أيَّام التَّشريق ، وقال : ( إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا )(4) وفي رواية للبخاري (5) وغيره : ( وأبشاركم ) .
وفي رواية : فأعادها مراراً ، ثم رفع رأسه ، فقالَ : ( اللَّهُمَّ هل بلَّغتُ ؟ اللهمَّ هل بلَّغت ؟ ) .
وفي رواية : ثم قال : ( ألا ليبلغِ الشاهدُ منكمُ الغائبَ ) (6) .
__________
(1) 8/36 ( 2623 ) .
(2) جاء في " صحيح مسلم " عقب الحديث : ( قال أبو إسحاق : لا أدري ، أهلَكَهم بالنصب أو أهلكُهم بالرفع ) ، وقال النووي في شرحه 8/347 : ( روي ( أهلكهم ) وعلى وجهين مشهورين : رفع الكاف وفتحها ، والرفع أشهر ، ويؤيده أنَّه جاء في رواية رويناها في " حلية الأولياء " في ترجمة سفيان الثوري ( فهو من أهلكهم ) ، قال الحميدي في " الجمع بين الصحيحين " : الرفع أشهر ، ومعناها أشدهم هلاكاً ، وأما رواية الفتح فمعناها هو جعلهم هالكين ، لا أنَّهم هلكوا في الحقيقة ) .
(3) عقيب ( 4983 ) .
(4) أخرجه : أحمد 1/230 ، والبخاري 2/215 – 216 ( 1739 ) وفي " خلق أفعال العباد " ، له ( 39 ) و( 50 ) عن ابن عباس .
(5) في " صحيحه " 9/63 ( 7078 ) .
(6) أخرجه : البخاري 1/26 ( 67 ) .
وفي رواية للبخاري (1) : ( فإنَّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها ) .
وفي رواية (2) : ( دماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكُم حرامٌ ، مثلُ هذا اليوم ، وهذا البلد إلى يوم القيامة ، حتّى دفعةٌ يدفعُها مسلمٌ مسلماً يريدُ بها سوءاً حرام ) .
وفي رواية (3) قال : ( المؤمنُ حرامٌ على المؤمن ، كحرمة هذا اليوم لحمُه عليه حرامٌ أنْ يأكُلَه ويغتابه بالغيب ، وعِرضُه عليه حرامٌ أنْ يخرِقَه ، ووجهُه عليه حرام أنْ يَلطِمَه ، ودمُه عليه حرام أنْ يسفِكَه ، وحرامٌ عليه أنْ يدفعه دفعةً تُعنته ) .
وفي " سنن أبي داود " (4) عن بعضِ الصَّحابة أنَّهم كانوا يسيرونَ مَعَ النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - ، فنام رجلٌ منهم ، فانطلق بعضُهم إلى حبلٍ معه ، فأخذها ففزِعَ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحلُّ لمسلم أنْ يروِّع مسلماً ) .
وخرَّج أحمد (5) وأبو داود (6) والترمذي (7)
__________
(1) في " صحيحه " 2/216 ( 1742 ) و8/18 ( 6043 ) و8/98 ( 6785 ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 3444 ) و( 3462 ) وفي " مسند الشاميين " ، له
( 1667 ) ، وفي إسناده مقال ، وانظر : مجمع الزوائد 3/272 .
(4) 5004 ) .
وأخرجه : أحمد 5/362، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 878 ) ، والبيهقي 10/249 ، وهو حديث صحيح .
(5) في " مسنده " 4/221 .
(6) في " سننه " ( 5003 ) .
(7) في " جامعه " ( 2160 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 437 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 241 ) ، والطحاوي في
" شرح المعاني " 4/243 وفي " شرح المشكل " ، له ( 1624 ) ، والطبراني في " الكبير "
22/( 630 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
عن السَّائب بن يزيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يأخذ أحدُكم عصا أخيه لاعباً جادّاً ، فمن أخذَ عصا أخيه ، فليردَّها إليه ) . قال أبو عبيد : يعني أن يأخذ شيئاً لا يريد سرقتَه ، إنَّما يريدُ إدخالَ الغيظِ عليه ، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة ، جادٌ في إدخال الأذى والروع عليه (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن ابنِ مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا كنتم
ثلاثة ، فلا يتناجى(3) اثنان دُونَ الثَّالث ، فإنَّ ذلك يُحزِنُهُ ) ولفظه لمسلم .
وخرَّج الطبراني (4) من حديث ابنِ عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يتناجى اثنان دُونَ الثَّالث ، فإنَّ ذلك يُؤذي المؤمنَ ، واللهُ يكره أذى المؤمن ) .
وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث ثوبان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تؤذوا عبادَ الله ، ولا تعيِّرُوهم ، ولا تطلبُوا عوراتهم ، فإنَّ من طلبَ عورةَ أخيه المسلمِ ، طلب اللهُ عورَته حتى يفضحَهُ في بيته ) .
__________
(1) انظر : غريب الحديث 3/67 .
(2) صحيح البخاري 8/80 ( 6290 ) ، وصحيح مسلم 7/12 ( 2184 ) ( 37 ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقيب ( 6288 ) : ( كذا للأكثر مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء وتسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وهو بلفظ الخبر ومعناه النهي . وفي بعض النسخ بجيم فقط بلفظ النهي ) .
(4) في " الأوسط " ( 2007 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 2444 ) ، والحديث أعله البخاري بالإرسال في " تاريخه الكبير " 2/290 ( 2557 ) .
(5) في " مسنده " 5/279 ، وإسناده لا بأس به .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنِ الغيبة ، فقال : ( ذكرُك أخاكَ بما يكرهُ ) ، قال : أرأيت إنْ كان فيه ما أقولُ ؟ فقال : ( إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبته ، وإنْ لم يكن فيه ما تقولُ ، فقد بهتَّه ) .
فتضمَّنت هذه النُّصوص كلُّها أنَّ المسلمَ لا يحِلُّ إيصالُ الأذى إليه بوجهٍ مِنَ الوجوهِ من قولٍ أو فعلٍ بغير حقٍّ ، وقد قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } (2) .
وإنَّما جعلَ اللهُ المؤمنين إخوةً ليتعاطفوا ويتراحموا ، وفي " الصحيحين " (3) عن النعمان بن بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم ، مَثَلُ الجسدِ ، إذا اشتكي منه عضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهر ) .
وفي رواية لمسلم (4) : ( المؤمنون كرجلٍ واحدٍ ، إنِ اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
وفي رواية له أيضاً (5) : ( المسلمون كرجلٍ واحد إنِ اشتكى عينُه ، اشتكى كلُّه ، وإنِ اشتكى رأسُه ، اشتكى كلُّه ) .
وفيهما (6) عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمن للمؤمن كالبُنيان ، يشدُّ بعضُه بعضاً ) .
__________
(1) 8/21 ( 2589 ) ( 70 ) .
(2) الأحزاب : 58 .
(3) صحيح البخاري 8/11 ( 6011 ) ، وصحيح مسلم 8/20 ( 2586 ) ( 66 ) .
(4) في " صحيحه " 8/20 ( 2586 ) ( 67 ) .
(5) 8/20 ( 2586 ) ( 67 ) .
(6) صحيح البخاري 1/129 ( 481 ) و3/169 ( 2446 ) و8/14 ( 6026 ) ، وصحيح مسلم 8/20 ( 2585 ) ( 65 ) .
وخرَّج أبو داود (1) من حديث أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمن مرآةُ المؤمنِ ، المؤمنُ أخو المؤمنِ ، يكفُّ عنه ضيعتَه ، ويحوطُه من ورائِه ) . وخرَّجه الترمذي (2) ، ولفظه : ( إنَّ أحدَكُم مرآةُ أخيه ، فإنْ رأى به أذى ، فليُمطه عنه ) .
قال رجل لعمر بن عبد العزيز : اجعل كبيرَ المسلمين عندَك أباً ، وصغيرهم ابناً ، وأوسَطَهم أخاً ، فأيُّ أولئك تُحبُّ أنْ تُسيء إليه (3) ؟ ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي : ليكن حظُّ المؤمن منك ثلاثة : إنْ لم تنفعه ، فلا تضرَّه ، وإنْ لم تُفرحه ، فلا تَغُمَّه ، وإنْ لم تمدحه فلا تَذُمَّه .
__________
(1) في " سننه " ( 4918 ) ، وإسناده لا بأس به .
(2) في "جامعه" ( 1929 ) ، وضعف الحديث بقوله عقبه : ( ويحيى بن عبيد الله ضعفه شعبة ) .
(3) أخرجه : الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 8/429 .
الحديث السادس والثلاثون
عَنْ أبي هُريرة - رضي الله عنه - ، عَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا ، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ ، يَسَّرَ الله عَليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً ، سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرة ، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْد ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخيهِ ، ومَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلتَمِسُ فِيه عِلماً ، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَريقاً إلى الجَنَّةِ ، وما جَلَسَ قَومٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ الله ، يَتْلُونَ كِتابَ الله ، ويَتَدارَسُونَه بَينَهُم ، إلاَّ نَزَلَتْ عليهِمُ السَّكينَةُ ، وغَشِيتْهُمُ الرَّحمَةُ ، وحَفَّتْهُم المَلائكَةُ ، وذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ ، ومَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ ، لم يُسرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) رواهُ مسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1)
__________
(1) في " صحيحه " بهذا اللفظ 8/71 ( 2699 ) ( 38 ) .
وأخرجه : أحمد 2/252 و325 و406 ، وأبو داود ( 4946 ) ، وابن ماجه ( 225 ) ، والترمذي ( 1425 ) و( 2945 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7272 ) و( 7288 )
و( 7289 ) .
من رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، واعترض عليه غيرُ واحدٍ مِنَ الحفَّاظ في تخريجه ، منهم أبو الفضل الهروي والدارقطني(1) ، فإنَّ أسباط بن محمَّد رواه عن الأعمَش (2) ؛ قال : حُدِّثْتُ عن أبي صالح ، فتبيَّن أنَّ الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه به عنه ، ورجَّح التّرمذي (3) وغيره هذه الرواية ، وزاد بعضُ أصحاب الأعمش في متن
الحديث : ( ومن أقال مسلماً أقال الله عثرتَه يومَ القيامة ) (4) .
وخرجا في " الصحيحين " (5) من حديث ابن عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( المسلمُ أخو المسلم ، لا يظلِمُه ، ولا يُسْلِمُه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرَّجَ عن مسلم ، فرَّج الله عنه كُربةً مِنْ كُرَب يومِ القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) .
__________
(1) لم يتكلم عليه في "التتبع" ، وإنما تكلم عليه في كتابه "العلل" 10/181 – 188 ( 1966 ) .
(2) أخرجه : أبو داود ( 4946 ) ، والترمذي ( 1425م ) ، ( 1930 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 7290 ) .
(3) في " جامعه " عقب الحديث ( 1425 ) ، وقال : ( حديث أسباط أصح ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/252 ، وأبو داود ( 3460 ) ، وابن ماجه ( 2199 ) ، وابن حبان
( 5030 ) عن أبي صالح عن الأعمش ، به .
(5) صحيح البخاري 3/168 ( 2442 ) و9/28 ( 6951 ) ، وصحيح مسلم 8/18
( 2580 ) ( 58 ) .
وأخرجه : أحمد 2/91 ، وأبو داود ( 4893 ) ، والترمذي ( 1426 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 7291 ) ، وابن حبان ( 533 ) .
وخرَّج الطبراني (1) من حديث كعب بن عُجرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً مِنْ كُرَبِهِ ، نفَّس اللهُ عنهُ كُربةً من كُرَب يوم القيامة ، ومن ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عورتَه ، ومن فرَّج عن مؤمن كُربةً ، فرَّج الله عنه كُربته ) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث مسلمة بن مُخلَّدٍ(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( من ستر مسلماً في الدنيا ، ستره الله في الدُّنيا والآخرة ، ومن نجَّى مَكروباً ، فكَّ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في
حاجته ) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدُّنيا ، نفَّس الله عنه كُربة من كرب يوم القيامة ) هذا يرجعُ إلى أنَّ الجزاءَ من جنس العمل ، وقد تكاثرت النُّصوصُ بهذا المعنى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّما يرحم الله من عِباده الرُّحماء ) (4) ، وقوله : ( إنَّ الله يعذِّب الَّذين يُعذِّبونَ النَّاس في الدُّنيا ) (5) .
__________
(1) في " الكبير " 19/( 350 ) وفي " الأوسط " ، له ( 5649 ) ، وإسناده ضعيف . وانظر : مجمع الزوائد 8/193 .
(2) في " مسنده " 4/104 ، وفي إسناده مقال ؛ لكن قال الذهبي في " السير " 6/335 : ( هذا حديث جيد الإسناد ) ، ولعله قال ذلك لما له من الشواهد .
(3) مَسْلَمة بن مُخَلَّد ، بتشديد اللام ، الأنصاري الزرقي ، صحابيٌّ صغير سكن مصر ، ووليها مرةً ، مات سنة اثنتين وستين . التقريب ( 6666 ) .
(4) أخرجه : أحمد 5/204 و205 ، والبخاري 2/100 ( 1284 ) و7/151 ( 5655 ) و8/166 ( 6657 ) و9/141 ( 7377 ) و164 ( 7448 ) ، ومسلم 3/39 ( 923 )
( 11 ) ، وأبو داود ( 3125 ) ، وابن ماجه ( 1588 ) من حديث أسامة بن زيد .
(5) أخرجه : مسلم 8/32 ( 2613 ) ( 119 ) ، وأبو داود ( 3045 ) من حديث هشام بن حكيم بن حزام .
والكُربة : هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكَرب ، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها ، مأخوذٌ مِنْ تنفيس الخناق ، كأنه يُرخى له الخناق حتَّى يأخذ نفساً ، والتفريجُ أعظمُ منْ ذلك ، وهو أنْ يُزيلَ عنه الكُربةَ ، فتنفرج عنه كربتُه ، ويزول همُّه وغمُّه ، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ ، وجزاءُ التَّفريجِ التَّفريجُ ، كما في حديث ابن عمر ، وقد جُمعُ بينهما في حديثِ كعبِ بن عُجرة .
وخرَّج الترمذي (1) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : ( أيما مُؤْمِنٍ أطعمَ مؤمناً على جُوعٍ ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ ، سقاه الله يومَ القيامة من الرَّحيق المختوم (2) ، وأيما مؤمنٍ كسا مؤمناً على عُري ، كساه الله من خضر الجنة ) . وخرَّجه الإمام أحمد (3) بالشكّ في رفعه ، وقيل : إنَّ الصحيح وقفه (4) .
وروى ابن أبي الدنيا (5) بإسناده عن ابن مسعود قال : ( يُحشر الناسُ يوم القيامة أعرى ما كانوا قطُّ ، وأجوعَ ما كانوا قطُّ ، وأظمأَ ما كانوا قطُّ ، وأنصبَ ما كانوا قط ، فمن كسا للهِ - عز وجل - ، كساه الله ، ومن أطعم لله - عز وجل - ، أطعمه الله ، ومن سقى لله - عز وجل - ، سقاه الله ، ومن عفى لله - عز وجل - ، أعفاه الله ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2449 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 1682 ) ، وأبو يعلى ( 1111 ) .
(2) الرحيق : من أسماء الخمر ، يريد خمر الجنة ، والمختوم : المصون الذي يبتذل لأجل ختامه . النهاية 2/208 .
(3) في " مسنده " 3/13 .
(4) قال الترمذي عقب الحديث ( 2449 ) : ( هذا حديث غريب وقد روي عن عطية ، عن أبي سعيد موقوفاً وهو أصح عندنا وأشبه ) .
وقال أبو حاتم كما في " العلل " لابنه ( 2007 ) : ( الصحيح موقوف الحفاظ لا يرفعونه ) .
(5) في " اصطناع المعروف " ( 83 ) ، ورواه أيضاً في " قضاء الحوائج " ( 30 ) .
وخرَّج البيهقي (1) من حديث أنس مرفوعاً : ( أنَّ رجلاً من أهل الجنَّةِ يُشرف يومَ القيامة على أهلِ النَّارِ ، فيُناديه رجلٌ من أهلِ النّار ، يا فلان ، هل تعرفني ؟ فيقول : لا والله ما أعرِفُك ، من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررتَ بي في دار الدُّنيا ، فاستسقيتني شَربةً من ماءٍ ، فسقيتُك ، قال : قد عرفتُ ، قال : فاشفع لي بها عند ربِّك ، قال : فيسأل الله - عز وجل - ، ويقول : شفِّعني فيه ، فيأمر به ، فيُخرجه من النار ) .
وقوله : ( كُربة من كُرَبِ يوم القيامة ) ، ولم يقل : ( من كُرب الدُّنيا والآخرة ) كما قيل في التَّيسير والسَّتر ، وقد قيل في مناسبة ذلك : إنَّ الكُرَبَ هي الشَّدائدُ العظيمة ، وليس كلّ أحد يحصُلُ له ذلك في الدُّنيا ، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر ، فإنَّ أحداً لا يكادُ يخلو في الدُّنيا من ذلك ، ولو بتعسُّر بعض الحاجات المهمَّة . وقيل : لأنَّ كُرَبَ الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلا شيءٍ ، فادَّخر الله جزاءَ تنفيسِ الكُرَبِ عندَه ، لينفِّسَ به كُرَب الآخرة ، ويدلُّ على ذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يجمع الله الأوَّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ ، فيسمَعُهُم الدَّاعي ، وينفُذُهُم البصر ، وتدنو الشَّمسُ منهم ، فيبلُغُ النَّاسُ من الغمِّ والكرب ما لا يُطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناسُ بعضُهم لبعض : ألا ترونَ ما قد بلغكُم ؟ ألا تنظرون من يشفعُ لكم إلى ربِّكم ؟ ) ، وذكر حديثَ الشفاعة ، خرّجاه (2) بمعناه من حديث أبي هريرة .
__________
(1) في "شعب الإيمان" ( 7687 ) ، وطبعة الرشد ( 7283 ) بنحو هذا اللفظ ، أما بهذا اللفظ ؛ فأخرجه : أبو يعلى في " مسنده " ( 3490 ) ، وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب "
( 1401 ) ، وهو حديث ضعيف .
(2) البخاري في " صحيحه " 4/163 ( 3340 ) و172 ( 3361 ) و6/105 ( 4712 ) ، ومسلم في " صحيحه " 1/127 ( 194 ) ( 327 ) .
وخرَّجا (1) من حديث عائشة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تُحشرون حُفاةً عُراةً غُرْلاً ) ، قالت : فقلتُ : يا رسول الله ، الرِّجال والنِّساءُ ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ ؟ قال : ( الأمرُ أشدُّ من أن يُهِمَّهم ذلك ) .
وخرَّجا (2) من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (3) ، قال : ( يقومُ أحدُهم في الرَّشح إلى أنصاف أذنيه ) .
وخرَّجا (4) من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يَعْرَقُ النَّاسُ يومَ
القيامةِ حتّى يذهب عرَقُهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويُلجِمُهُم حتّى يبلغَ آذانهم ) ولفظه للبخاري ، ولفظ مسلم : ( إنَّ العرق ليذهبُ في الأرض سبعين باعاً ، وإنّه ليبلغ إلى أفواهِ النّاس ، أو إلى آذانهم ) .
وخرَّج مسلم (5) من حديث المقداد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تدنُو الشَّمسُ مِنَ العباد حتَّى تكون قدرَ ميلٍ أو ميلين ، فتصهرُهم الشَّمسُ ، فيكونون في العَرَقِ كقدر أعمالهم ، فمنهم مَنْ يأخذُه إلى عَقِبَيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ ، ومنهم من يُلجمه إلجاماً ) .
__________
(1) البخاري في " صحيحه " 8/136 ( 6527 ) ، ومسلم في " صحيحه " 8/156 ( 2859 ) ( 56 ) .
(2) البخاري في " صحيحه " 6/207 ( 4938 ) و8/138 ( 6531 ) ، ومسلم في " صحيحه " 8/157 ( 2862 ) ( 60 ) .
(3) المطففين : 6 .
(4) صحيح البخاري 8/138 ( 6532 ) ، وصحيح مسلم 8/158 ( 2863 ) ( 61 ) .
(5) في " صحيحه " 8/158 ( 2864 ) ( 62 ) .
وقال ابن مسعود : الأرضُ كلُّها يومَ القيامةِ نارٌ ، والجنَّةُ من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، فيعرَقُ الرَّجلُ حتَّى يرشَح عرقُه في الأرض قدرَ قامةٍ ، ثمَّ يرتفعُ حتّى يبلغَ أنفه ، وما مسَّه الحسابُ ، قال : فمم ذاك يا أبا عبد الرحمان ؟ قال : ممَّا يرى النَّاس يُصنَعُ بهم (1) .
وقال أبو موسى : الشَّمسُ فوق رؤوسِ النَّاس يومَ القيامة ، فأعمالهم تُظِلُّهم أو تضحِيهم (2) .
وفي " المسند " (3) من حديث عُقبة بن عامرٍ مرفوعاً : ( كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتّى يُفصَلَ بينَ الناسَ ) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن يسَّر على مُعسِرٍ ، يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة ) . هذا أيضاً يدلُّ على أنَّ الإعسار قد يحصُل في الآخرة ، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنّه يومٌ عسير وأنّه على الكافرين غيرُ يسير ، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم ، وقال :
{ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً } (4) .
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين : إمّا بإنظاره إلى الميسرة ، وذلك واجبٌ ، كما قال تعالى : { وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (5)، وتارةً بالوضع عنه إن كان غريماً ، وإلاّ فبإعطائه ما يزولُ به إعسارُه ، وكلاهما له فضل عظيم .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15840 ) ، وطبعة التركي 13/733 .
(2) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 331 ) موقوفاً .
وذكره الدارقطني في " العلل " 7/248 س ( 1325 ) مرفوعاً ، وقال : ( يرويه الأعمش ، عن أبي ظبيان واختلف عنه فرفعه عبيد بن يعيش ، عن أسباط ، عن الأعمش ، وقفَهُ أبو معاوية وأصحاب الأعمش ، عن الأعمش ، وهو الصواب ) .
(3) أحمد 4/147 – 148 ، وهو حديث صحيح .
(4) الفرقان : 26 .
(5) البقرة : 280 .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هُريرة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كان تاجرٌ يُداينُ النَّاسَ ، فإذا رأى معسراً ، قال لصبيانه : تجاوزوا عنه ، لعلَّ الله أنْ يتجاوزَ عنّا ، فتجاوز الله عنه ) .
وفيهما عن (2) حُذيفة وأبي مسعود الأنصاري سمعا النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مات رجل فقيل له (3) ، فقال : كنتُ أبايعُ النَّاس ، فأتجاوزُ عَن المُوسِر ، وأُخَفِّفُ عنِ المُعسِرِ ) وفي رواية ، قال : كنتُ أُنظِرُ المعسِرَ ، وأتجوَّزُ في السِّكَّة ، أو قال : في النَّقد ، فغُفِرَ له ) . وخرَّجه مسلم (4) من حديث أبي مسعود عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وفي حديثه : ( فقال الله : نحنُ أحقُّ بذلك منه ، تجاوزوا عنه ) .
وخرَّج أيضاً (5) من حديث أبي قتادةَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من سرَّه أن يُنجيَه الله مِنْ كُرَب يومِ القيامة ، فلينفس عن مُعسرٍ ، أو يضعْ عنه ) .
وخرَّج أيضاً (6) من حديث أبي اليَسَر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أنظر معسراً ، أو وضع عنه ، أظلَّه الله في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه ) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/75 ( 2078 ) و4/214 ( 3480 ) ، وصحيح مسلم 5/33
( 1562 ) ( 31 ) .
(2) صحيح البخاري 3/153 ( 2391 )، وصحيح مسلم 5/32 ( 1560 ) ( 27 ) و( 28 ).
(3) بعد هذه الكلمة في نسخة محمد عبد الرزاق ونسخة عصام الدين ونسخة البقاعي : ( بم غفر الله لك ؟ ) وفي صحيح مسلم : ( ما كنت تعمل ؟ قال : فإما ذكر وإما ذُكّرَ ) .
(4) في " صحيحه " 5/33 ( 1561 ) ( 30 ) .
(5) في " صحيحه " 5/33 ( 1563 ) ( 32 ) و34 ( 1563 ) ( 32 ) .
(6) في " صحيحه " 8/231 ( 3006 ) ( 74 ) .
وفي " المسند " (1) عن ابنِ عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أراد أنْ تُستجاب دعوته ، وتُكشفَ كُربَتُه ، فليفرِّجْ عن مُعسِرٍ ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن سَتَرَ مُسلماً ، ستره الله في الدُّنيا والآخرة ) . هذا مما تَكاثرتِ النُّصوص بمعناه. وخرَّج ابن ماجه (2) من حديث ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ستر عورةَ أخيه المسلم ، ستر الله عورته يومَ القيامة ، ومن كشفَ عورة أخيه المسلم ، كشف الله عورته حتّى يفضحه بها في بيته ) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث عقبة بن عامر سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يقول :
( من ستر مؤمناً في الدنيا على عورةٍ ، ستره الله - عز وجل - يوم القيامة ) .
وقد رويَ عن بعض السَّلف أنَّه قال : أدركتُ قوماً لم يكن لهم عيوبٌ ، فذكروا عيوبَ الناس ، فذكر الناسُ لهم عيوباً ، وأدركتُ أقواماً كانت لهم عيوبٌ ،
فكفُّوا عن عُيوب الناس ، فنُسِيَت عيوبهم (4) ، أو كما قال .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 2/23 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ولضعف أحد رواته .
(2) في " سننه " ( 2546 ) ، وفي إسناده ضعف لكن تقدمت له الشواهد .
(3) في " مسنده " 4/153 و159 ، وفي إسناده مقال .
(4) أخرجه : الجرجاني في " تأريخ جرجان " 1/251 ترجمة ( 406 ) عن أحمد بن الحسن بن هارون . انظر : الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي ( 4830 ) .
وشاهد هذا حديث أبي بَرْزَةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه قال : ( يا معشرَ من آمن
بلسانه ، ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه ، لا تغتابوا المسلمينَ ، ولا تتبعُوا عوراتهم ، فإنَّه منِ اتَّبَع عوراتهم ، تتبَّع الله عورته ، ومن تتبَّع الله عورته ، يفضحه في بيته ) خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود (1) ، وخرَّج الترمذي (2) معناه من حديث ابن عمر .
واعلم أنَّ النَّاس على ضربين :
__________
(1) أحمد 4/420 و424 ، وأبو داود ( 4880 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(2) في " جامعه " ( 2032 ) .
أحدهما : من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوةٌ ، أو زلَّةٌ ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها ، ولا هتكُها ، ولا التَّحدُّث بها ، لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمة ، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوصُ ، وفي ذلك قد قال الله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } (1) . والمراد : إشاعةُ الفَاحِشَةِ على المؤمن المستتر فيما وقع منه ، أو اتُّهِمَ به وهو بريء منه ، كما في قصَّة الإفك . قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرُ بالمعروف : اجتهد أن تستُرَ العُصَاةَ ، فإنَّ ظهورَ معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً ، وأقرَّ بحدٍّ ، ولم يفسِّرْهُ ، لم يُستفسر ، بل يُؤمَر بأنْ يرجع ويستُر نفسه ، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية (2)، وكما لم يُستفسر الذي قال : ( أصبتُ حدّاً ، فأقمه عليَّ ) (3) . ومثلُ هذا لو أخذَ بجريمته ، ولم يبلغِ الإمامَ ، فإنَّه يُشفع له حتّى لا يبلغ الإمام . وفي مثله جاء الحديثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ) . خرَّجه أبو داود والنَّسائي مِن حديث عائشة (4) .
__________
(1) النور : 19 .
(2) أخرجه : مسلم 5/119 ( 1695 ) ( 22 ) و120 ( 1695 ) ( 23 ) .
(3) هو ماعز بن مالك ، وهذا الحديث أخرجه : مسلم في " صحيحه " 5/118 ( 6194 )
( 20 ) من حديث أبي سعيد الخدري .
(4) أخرجه : أبو داود ( 4375 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7294 ) – ( 7298 ) .
وأخرجه: أحمد 6/181 ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 465 ) ، وابن حبان ( 1520 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/43 ، والبيهقي 8/334 من حديث عائشة ، وهو حديث يتقوى بما له من طرق وشواهد .
والثاني : من كان مشتهراً بالمعاصي ، معلناً بها لا يُبالي بما ارتكبَ منها ، ولا بما قيل له فهذا هو الفاجرُ المُعلِنُ ، وليس له غيبة ، كما نصَّ على ذلك الحسنُ البصريُّ (1) وغيره ، ومثلُ هذا لا بأس بالبحث عن أمره ، لِتُقامَ عليه الحدودُ . صرَّح بذلك بعضُ أصحابنا ، واستدلَّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( واغدُ يا أُنيس على امرأةِ هذا ، فإنِ اعترفت ، فارجُمها ) (2) . ومثلُ هذا لا يُشفَعُ له إذا أُخِذَ ، ولو لم يبلغِ السُّلطان ، بل يُترك حتّى يُقامَ عليه الحدُّ لينكفَّ شرُّه ، ويرتدعَ به أمثالُه . قال
مالك : من لم يُعْرَفْ منه أذى للناس ، وإنَّما كانت منه زلَّةٌ ، فلا بأس أنْ يُشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ أو فسادٍ ، فلا أحبُّ أنْ يشفعَ له أحدٌ ، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحدُّ ، حكاه ابن المنذر وغيره (3) .
وكره الإمام أحمد رفعَ الفسَّاق إلى السلطان بكلِّ حالٍ ، وإنَّما كرهه ؛ لأنَّهم غالباً لا يُقيمون الحدودَ على وجهها ، ولهذا قال : إنْ علمتَ أنَّه يقيمُ عليه الحدَّ فارفعه ، ثم ذكر أنَّهم ضربوا رجلاً ، فمات : يعني لم يكن قتلُه جائزاً .
ولو تاب أحدٌ مِنَ الضَّرب الأوَّل ، كان الأفضلُ له أن يتوبَ فيما بينه وبين الله تعالى ، ويستر على نفسه .
__________
(1) ذكر رجل عند الحسن فنال منه فقيل له : يا أبا سعيد ما نراك إلا اغتبت الرجل ، فقال : أي لكع هل عبت من شيء فيكون غيبة . أيما رجل أعلن بالمعاصي ولم يكتمها كان ذكركم إياه حسنة لكم ، وأيما رجل عمل بالمعاصي فكتمها الناس كان ذكركم إياه غيبته .
أخرجه : الإسماعيلي في " معجم شيوخه " ( 263 ) ، والسمهمي في " تأريخ جرجان " 1/115 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9668 ) عن يونس ، عن الحسن .
(2) أخرجه : البخاري 3/134 ( 2314 ) و( 2315 ) ، ومسلم 5/121 ( 1697 )
و( 1698 ) ( 25 ) .
(3) انظر : المغني لابن قدامة 10/288 .
وأما الضربُ الثاني ، فقيل : إنَّه كذلك ، وقيل : بل الأولى له أنْ يأتيَ الإمامَ ، ويقرَّ على نفسه بما يُوجِبُ الحدَّ حتى يطهِّرَه .
قوله : ( والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه ) وفي حديث ابن عمر : ( ومن كان في حاجةِ أخيه ، كان الله في حاجته ) . وقد سبق في
شرح الحديث الخامس والعشرين والسادس والعشرين فضلُ قضاءِ الحوائجِ والسَّعي فيها . وخرَّج الطبراني (1) من حديث عمر مرفوعاً : ( أفضلُ الأعمال إدخالُ السُّرور على المؤمن : كسوت عورته ، أو أشبعت جَوْعَتُه ، أو قضيت له
حاجة ) .
وبعث الحسنُ البصريُّ قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم : مرُّوا بثابت البناني ، فخذوه معكم ، فأتوا ثابتاً ، فقال : أنا معتكف ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه ، فقال : قولوا له : يا أعمش أما تعلم أنَّ مشيك في حاجةِ أخيك المسلم خير لك مِنْ حجة بعد حَجَّةٍ ؟ فرجعوا إلى ثابتٍ ، فترك اعتكافه ، وذهب
معهم (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث ابنةٍ لخبَّاب بن الأرت (4) ، قالت : خرج خبَّاب في سريَّةٍ ، فكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدُنا حتى يحلُب عنْزةً لنا في جَفْنَةٍ لنا ، فتمتلئ حتّى تفيضَ ، فلمَّا قدم خبَّابٌ حلبَها ، فعادَ حِلابها إلى ما كان .
وكان أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - يحلبُ للحيِّ أغنامهم ، فلمَّا استخلف ، قالت جاريةٌ منهم : الآن لا يحلُبُها ، فقال أبو بكر : بلى وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلتُ فيه عن شيءٍ كنتُ أفعلُه ، أو كما قال (5) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 5081 ) ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 3/133 .
(2) انظر : فيض القدير للمناوي ( 8961 ) .
(3) في " مسنده " 5/111 و6/372 ، وإسناده ضعيف .
(4) هي زينب بنت خباب بن الأرت التميمية . الإصابة ( 11223 ) .
(5) انظر : الطبقات لابن سعد 3/138 – 139 ، وصفة الصفوة لابن الجوزي 1/107 .
وإنَّما كانوا يقومون بالحِلاب ؛ لأنَّ العربَ كانت لا تَحلُبُ النِّساءُ منهم ، وكانوا يستقبحون ذلك ، فكان الرجالُ إذا غابوا ، احتاج النساءُ إلى من يحْلُبُ لهنَّ . وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لقوم(1) : ( لا تسقوني حَلَبَ امرأةٍ ) (2) .
وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل ، ورآه طلحةُ بالليل يدخلُ بيتَ امرأةٍ ، فدخلَ إليها طلحةُ نهاراً ، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ ، فسألها : ما يصنعُ هذا الرَّجلُ عندك ؟ قالت : هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يُصلِحُني ، ويخرج عنِّي الأذى ، فقال طلحة : ثكلتك أمُّكَ طلحةُ ، عثراتِ عمر تتبع ؟ (3)
وكان أبو وائل يطوفُ على نساء الحيِّ وعجائزهم كلَّ يوم ، فيشتري لهنَّ حوائجهنّ وما يُصلِحُهُنَّ .
وقال مجاهد : صحبتُ ابنَ عمر في السفر لأخدمه ، فكان يخدُمُني (4) .
وكان كثيرٌ من الصَّالِحين يشترطُ على أصحابه في السفر أنْ يخدُمَهم . وصحب رجلٌ قوماً في الجهاد ، فاشترط عليهم أنْ يخدُمَهم ، فكان إذا أرادَ أحدٌ منهم أنْ يغسل رأسه أو ثوبه ، قال : هذا من شرطي ، فيفعله ، فمات فجرَّدوهُ للغسل ، فرأَوا على يده مكتوباً : من أهل الجنَّة ، فنظروا ، فإذا هي كتابةٌ بين الجلد واللحم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 6/115 عن ابن أبي شيخ المحاربي مرفوعاً .
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2903 ) ، وهو حديث ضعيف لا يصح .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/47 – 48 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/285 – 286 .
وفي " الصحيحين " (1) عن أنس ، قال : كنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السَّفر ،
فمنَّا الصّائم، ومنا المفطرُ ، قال : فنَزلنا منْزلاً في يومٍ حارٍّ ، أكثرنا ظلاًّ صاحبُ الكساءِ ، ومنَّا من يتَّقي الشَّمسَ بيده، قال : فسقط الصُّوَّام ، وقام المفطرون ، وضربُوا الأبنية ، وسَقوا الرِّكابَ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ذهب المفطرونَ اليومَ بالأجرِ ) .
ويُروى عن رجلٍ من أسلم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بطعامٍ في بعض أسفاره ، فأكل منه وأكل أصحابُهُ ، وقبض الأسلميُّ يده ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مالك ؟ ) فقال : إنِّي صائمٌ ، قال : ( فما حملَك على ذلك ؟ ) قال : معي ابناي يرحلان لي ويخدُماني ، فقال : ( مازال لهُمُ الفضلُ عليك بعدُ ) (2) .
وفي " مراسيل أبي داود " (3) عن أبي قِلابة أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِموا يُثنونَ على صاحبٍ لهم خيراً ، قالوا : ما رأينا مثلَ فلانٍ قطُّ ، ما كان في مسيرٍ إلاَّ كان في قراءةٍ ، ولا نزلنا منْزلاً إلاَّ كان في صلاةٍ ، قال : ( فمن كان يكفيه ضيعته (4) ؟ ) حتى ذكر : ( ومن كان يعلِف جمله أو دابَّته ؟ ) قالوا : نحن ، قال : ( فكلُّكم خيرٌ منه ) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/42 ( 2890 ) ، وصحيح مسلم 3/143 ( 1119 ) ( 100 ) و144 ( 1119 ) ( 101 ) .
(2) لم أقف عليه .
(3) المراسيل ( 306 ) ، وكذا رواه سعيد بن منصور في " سننه " ( 2919 ) ، وإسناده ضعيف لإرساله .
(4) أي : حاجته .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيهِ علماً ، سهَّل الله لهُ به طريقاً إلى
الجنَّة ) ، وقد روى هذا المعنى أيضاً أبو الدرداء عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وسلوكُ الطَّريقِ لالتماس العلم يدخُلُ فيه سلوكُ الطَّريق الحقيقيِّ ، وهو المشيُ بالأقدام إلى مجالسِ العلماء ، ويدخلُ فيه سلوكُ الطُّرُق المعنويَّة المؤدِّية إلى حُصولِ العلمِ ، مثل حفظه ، ودارسته ، ومذاكرته ، ومطالعته ، وكتابته ، والتفهُّم له ، ونحو ذلك مِنَ الطُّرق المعنوية التي يُتوصَّل بها إلى العلم .
وقوله : ( سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة ) ، قد يُراد بذلك أنَّ الله يسهِّلُ له العلمَ الذي طلبَه ، وسلك طريقه ، وييسِّرُه عليه ، فإنَّ العلمَ طريق موصلٌ إلى الجنَّة ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (2) . وقال بعض السَّلف (3) : هل من طالبِ علمٍ فيعانَ عليه ؟
وقد يُراد أيضاً : أنَّ الله يُيسِّرُ لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله الانتفاعَ به والعملَ بمقتضاه ، فيكون سبباً لهدايته ولدخولِ الجنَّة بذلك .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/196 ، وأبو داود ( 3641 ) و( 3642 ) ، وابن ماجه ( 223 ) ، والترمذي ( 2682 ) ، وابن حبان ( 88 ) ، وقال الترمذي : ( لا نعرف هذا الحديث إلاّ من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة ، وليس هو عندي بمتصل ) .
(2) القمر : 17 .
(3) هو مطر الوراق .
أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 25357 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/76 .
وقد يُيَسِّرُ الله لطالبِ العلم علوماً أُخَرَ ينتفع بها ، وتكونُ موصلة إلى الجنَّة ، كما قيل : من عَمِلَ بما عَلِمَ ، أورثه الله علم ما لم يعلم (1) ، وكما قيل : ثوابُ الحسنة الحسنة بعدَها (2) ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تعالى : { وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً } (3) ، وقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (4) .
وقد يدخل في ذلك أيضاً تسهيلُ طريق الجنَّة الحِسيِّ يومَ القيامة - وهو الصِّراط - وما قبله وما بعدَه من الأهوال ، فييسر ذلك على طالب العلم للانتفاع
به ، فإنَّ العلم يدلُّ على الله مِنْ أقرب الطرق إليه ، فمن سلك طريقَه ، ولم يُعرِّجْ عنه ، وصل إلى الله تعالى وإلى الجنَّةِ مِنْ أقرب الطُّرق وأسهلها فسَهُلَت عليه الطُّرُق الموصلةُ إلى الجنَّة كلها في الدنيا والآخرة ، فلا طريقَ إلى معرفة الله ، وإلى الوصول إلى رضوانه ، والفوزِ بقربه ، ومجاورته في الآخرة إلاَّ بالعلم النَّافع الذي بعثَ الله به رُسُلَه ، وأنزل به كتبه ، فهو الدَّليل عليه ، وبه يُهتَدَى في ظُلماتِ الجهل
والشُّبَهِ والشُّكوك ، ولهذا سمّى الله كتابه نوراً ؛ لأنّه يُهتَدَى به في الظُّلمات . قال
الله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } (5).
__________
(1) انظر : فيض القدير للمناوي 4/510 – 511 ، وكشف الخفاء للعجلوني 2/347 .
(2) انظر : تفسير ابن كثير ( ط . دار ابن حزم ) : 412 و1669 و2002 .
(3) مريم : 76 .
(4) محمد : 17 .
(5) المائدة : 15 – 16 .
ومثل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَلَةَ العلم الذي جاء به بالنُّجوم التي يُهتدى بها في الظُّلمات ، ففي " المسند " (1) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ مثلَ العُلَماءِ في الأرض كمثلِ النُّجوم في السَّماء ، يُهتدى بها في ظُلُمات البرِّ والبحرِ ، فإذا انطمست النُّجوم ، أوشك أن تَضِلَّ الهُداة ) .
وما دام العلمُ باقياً في الأرض ، فالنَّاس في هُدى ، وبقاءُ العلم بقاءُ
حَمَلَتِهِ ، فإذا ذهب حملتُه ومَنْ يقومُ به ، وقع الناسُ في الضَّلال ، كما في
" الصحيحين " (2) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله لا
يقبِضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعُه مِنْ صُدورِ الناسِ ، ولكن يقبضُه بقبض العُلماء ، فإذا لم يَبقَ(3) عالِمٌ ، اتَّخذ الناسُ رؤساءَ جُهّالاً ، فسئِلوا ، فأفتَوا بِغيرِ عِلمٍ ، فضلُّوا
وأضلُّوا ) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3/157 .
وأخرجه : الرامهرمزي في " الأمثال " ( 51 ) ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/70 ، وهو حديث ضعيف مسلسل بالضعفاء ، وانظر : مجمع الزوائد 1/121 .
(2) صحيح البخاري 1/36 ( 100 ) و9/123 ( 7307 ) ، وصحيح مسلم 8/60 ( 2673 ) ( 13 ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقيب ( 100 ) : ( هو بفتح الياء والقاف ، وللأصيلي بضم أوله وكسر القاف ، وعالماً منصوب أي : لم يبق الله عالماً . وفي رواية مسلم : حتى إذا لم يترك عالماً ) .
وذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً رفع العلم ، فقيل له : كيف يذهبُ العلم وقد
قرأنا القرآن ، وأقرأناه نساءنا وأبناءنا ؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هذه التَّوراة والإنجيلُ
عندَ اليهود والنَّصارى ، فماذا تُغني عنهم ؟ ) فسئل عبادةُ بن الصَّامت عن
هذا الحديث ، فقال : لو شئت لأخبرتُك بأوَّلِ علمٍ يرفع مِنَ الناس
: الخشوع (1) ، وإنَّما قال عُبادة هذا ، لأنَّ العلم قسمان :
أحدهما : ما كان ثمرتُه في قلبِ الإنسان ، وهو العلمُ بالله تعالى ، وأسمائه ،
وصفاته ، وأفعاله المقتضي لخشيتِهِ ، ومهابتِه ، وإجلالِه ، والخضوع له ، ولمحبَّتِه ،
ورجائهِ ، ودعائه ، والتوكُّل عليه ، ونحو ذلك ، فهذا هو العلمُ النافع ، كما قال ابنُ مسعود : إنَّ أقواماً يقرءون القرآن لا يُجاوُزِ تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب ، فرسخ فيه ، نفع (2) .
وقال الحسنُ : العلم علمان : علمٌ على اللسان ، فذاك حُجَّة الله على ابن آدم ، وعلم في القلب ، فذاك العلم النافع (3) .
__________
(1) أخرجه : الدارمي ( 294 ) ، والترمذي ( 2653 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
( 304 ) ، والحاكم 1/99 عن أبي الدرداء ، به .
وأخرجه : أحمد 6/26 – 27 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 42 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 5909 ) عن عوف بن مالك .
وأخرجه : أحمد 4/160 و218 و219 ، وابن ماجه ( 4048 ) ، والحاكم 1/100 عن زياد بن لبيد الأنصاري .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7183 ) عن شداد بن أوس .
وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/380 ، ومسلم 2/204 ( 822 ) ( 375 ) ، وابن خزيمة ( 538 ) ، والبيهقي 3/9 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34361 ) ، والحسين المروزي في زياداته على " الزهد " لابن المبارك ( 1161 ) ، وأبو الشيخ في " طبقات المحدثين بأصبهان " 4/101 ( 566 ) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 1/190 – 191 .
والقسم الثاني : العلمُ الذي على اللِّسَانِ ، وهو حجَّةُ الله كما في الحديث :
( القرآن حجة لك أو عليك ) (1) ، فأوَّلُ ما يُرفعُ مِنَ العلم ، العلمُ النَّافع ، وهو العلم الباطنُ الذي يُخالِطُ القلوبَ ويُصلحها ، ويبقى علمُ اللِّسان حجَّةً ، فيتهاونُ الناسُ به ، ولا يعملون بمقتضاه ، لا حملتُه ولا غيرهم ، ثم يذهبُ هذا العلم بذهاب حَمَلتِه ، فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف ، وليس ثَمَّ من يعلمُ معانيه ، ولا حدوده ، ولا أحكامه ، ثمَّ يسرى به في آخر الزمان ، فلا يبقى في المصاحف ولا في القُلوب منه شيءٌ بالكلِّيَّةِ ، وبعد ذلك تقومُ السَّاعة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقومُ السَّاعة إلاَّ على شرارِ الناس ) (2) ، وقال : ( لا تقومُ الساعةُ (3) وفي الأرض أحدٌ يقول : الله
الله ) (4) .
__________
(1) سبق تخريجه في الحديث الثالث والعشرين .
(2) أخرجه : أحمد 1/394 و435 ، ومسلم 8/208 ( 2949 ) ( 131 ) ، وأبو يعلى
( 5248 ) ، وابن حبان ( 6850 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10097 ) ، والبغوي
( 4286 ) من حديث عبد الله بن مسعود .
(3) عبارة : ( لا تقوم الساعة ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 3/162 و259 ، وعبد بن حميد ( 1247 ) ، ومسلم 1/91 ( 148 )
( 234 ) ، وابن حبان ( 6849 ) ، والحاكم 4/495 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 524 ) من حديث أنس .
وأخرجه : الحاكم 4/494 عن ابن مسعود .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله ، يتلونَ كتابَ الله ، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهمُ السَّكينةُ ، وغشيتهُم الرَّحمة ، وحفَّتهم الملائكةُ ، وذكرهمُ اللهُ فيمن عنده ) (1) . هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته . وهذا إن حُمِل على تعلم القرآن وتعليمه ، فلا خلاف في استحبابه ، وفي " صحيح البخاري " (2) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه ) . قال أبو عبد الرحمان السلمي : فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ، وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجَّاجَ بن يوسف .
وإن حمل على ما هو أعمُّ مِنْ ذلك ، دخل فيه الاجتماعُ في المساجد على دراسة القرآن مطلقاً ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ مَنْ يقرأ القرآن ليستمع قراءته ، كما أمر ابن مسعود أنْ يقرأ عليه ، وقال : ( إنِّي أُحِبُّ أن أسمعَهُ مِنْ غيري ) (3) وكان عمرُ يأمرُ من يقرأُ عليه وعلى أصحابه وهم يسمعون ، فتارةً يأمرُ أبا موسى ، وتارةً يأمرُ عُقبةَ بن عامر .
وسئل ابن عباس : أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ذكرُ الله ، وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتعاطَوْنَ فيه كتابَ الله فيما بينهم ويتدارسونه ، إلاَّ أظلَّتهم الملائكة بأجنحتها ، وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك حتَّى يُفيضوا في حديثٍ غيره (4) . ورُوي مرفوعاً والموقوف أصحُّ .
__________
(1) سبق تخريجه في بداية الحديث .
(2) 6/236 ( 5027 ) و( 5028 ) .
(3) أخرجه : البخاري 6/241 ( 5050 ) ، ومسلم 2/195 ( 800 ) ( 247 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 30308 ) و( 34777 ) ، والدارمي ( 356 ) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 671 ) و( 2030 ) موقوفاً .
وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال : كانوا إذا صلَّوُا الغداة ، قعدوا حِلَقاً حِلَقاً ، يقرؤون القرآنَ ، ويتعلَّمونَ الفرائضَ والسُّنَنَ ، ويذكرون الله - عز وجل - (1) .
وروى عطية عن أبي سعيد الخدري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ قومٍ صلَّوا صلاةَ الغداةِ ، ثم قعدُوا في مُصلاَّهم ، يتعاطَونَ كتابَ الله ، ويتدارسونه ، إلاَّ وكَّلَ الله بهم ملائكةً يستغفرُون لهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره ) (2) وهذا يدلُّ
على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن ، ولكن عطية فيه
ضعف (3) .
وقد روى حربٌ الكرمانيُّ بإسناده عن الأوزاعيِّ أنَّه سُئِلَ عن الدِّراسة بعدَ صلاة الصُّبح ، فقال : أخبرني حسَّانُ بن عطيَّة أنَّ أوَّلَ من أحدَثها في مسجد دمشقَ هشامُ بن إسماعيل المخزوميُّ في خلافة عبد الملك بن مروان ، فأخذ النّاسُ بذلك .
وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز ، وإبراهيم بنِ سليمان : أنَّهما كانا يدرسان القرآن بعد صلاة الصبح ببيروت والأوزاعي في المسجد لا يُغّيِّرُ عليهم .
__________
(1) أخرجه : أبو يعلى ( 4088 ) ، وهو ضعيف لضعف يزيد بن أبان الرقاشي .
(2) انظر : الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي ( 6117 ) .
(3) هو عطية العوني ، قال عنه أحمد بن حنبل والثوري وهشيم ويحيى بن معين والنسائي : ضعيف الحديث . انظر : الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/503 ( 11375 ) ، والضعفاء للعقيلي 3/359 ( 1392 ) ، والكامل لابن عدي 7/84 ( 1535 ) ، وميزان الاعتدال للذهبي 3/79 ( 5667 ) .
وذكر حربٌ أنَّه رأى أهلَ دمشق ، وأهلَ حمص ، وأهلَ مكة ، وأهل البصرة يجتمعون على القراءة بعدَ صلاة الصُّبح ، لكن أهل الشام يقرءون القرآن كُلهم جملةً مِنْ سورةٍ واحدةٍ بأصواتٍ عالية ، وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون ، فيقرأ أحدُهم عشرَ آياتٍ ، والنَّاسُ يُنصِتون ، ثمَّ يقرأُ آخرُ عشراً ، حتَّى يفرغوا . قال حرب : وكلُّ ذلك حسنٌ جميلٌ .
وقد أنكر ذلك مالكٌ على أهل الشام . قال زيدُ بنُ عبيدٍ الدِّمشقيُّ : قال لي مالكُ بنُ أنسٍ : بلغني أنَّكم تجلِسونَ حِلَقاً تقرؤون ، فأخبرتُه بما كان يفعلُ أصحابنا ، فقال مالك : عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرِفُ هذا ، قال : فقلت : هذا طريف ؟ قال : وطريفٌ رجل يقرأ ويجتمعُ الناس حوله ، فقال : هذا عن غير رأينا .
قال أبو مصعب وإسحاق بن محمد الفروي : سمعنا مالكَ بن أنسٍ يقول : الاجتماعُ بكرة بعدَ صلاة الفجر لقراءة القرآن بدعةٌ ، ما كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا العلماء بعدَهم على هذا ، كانوا إذا صلَّوا يَخْلو كلٌّ بنفسه ، ويقرأ ، ويذكرُ الله - عز وجل - ، ثم ينصرفون من غير أن يُكلِّم بعضهم بعضاً ، اشتغالاً بذكرِ الله ، فهذه كلُّها محدثة .
وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول : لم تكن القراءةُ في المسجد من أمرِ النَّاسِ القديم ، وأوَّلُ من أحدثَ ذلك في المسجد الحجاجُ بن يوسف ، قال مالك : وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف . وقد روى هذا كلَّه أبو بكر النَّيسابوري في كتاب " مناقب مالك رحمه الله " .
واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجُملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذِّكر ، والقرآن أفضلُ أنواع الذكر ، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ لله ملائكةً يطوفونَ في الطُّرق ، يلتمِسُون أهلَ الذِّكر ، فإذا وجدُوا قوماً يذكرون الله - عز وجل - ، تنادوا : هلمُّوا إلى حاجتكم ، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السَّماء الدُّنيا ، فيسألهُم ربُّهم - وهو أعلمُ بهم - : ما يقول عبادي ؟ قال : يقولون : يسبِّحُونَك ، ويكبِّرونك ، ويحمَدُونك ، ويمجِّدونَك ، فيقول : هل رأوني ؟ فيقولون : لا والله ما رأوْكَ ، فيقول : كيف لو رأوني ؟ فيقولون : لو رأوك ، كانوا أشدَّ لك عبادة ، وأشدَّ لكَ تمجيداً وتحميداً ، وأكثر لك تسبيحاً ، فيقول : فما يسألوني ؟ قالوا : يسألونك الجنَّة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا ربِّ ، ما رأوها ، فيقول : كيف لو أنَّهم رأوها ؟ فيقولون : لو أنَّهم رأوها ، كانوا أشدَّ عليه حرصاً وأشدَّ لها طلباً ، وأشدّ فيها رغبةً ، قال : فممَّ يتعوَّذونَ ؟ فيقولون : من النَّار ، قال : يقول : فهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا ربِّ ما رأوها ، فيقول : كيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو أنَّهم رأوها ، كانوا أشدَّ منها فراراً ، وأشدّ لها مخافةً ، فيقول الله تعالى : أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم ، فيقول ملك من الملائكة : فيهم فلانٌ ليس منهم ، إنَّما جاء
لحاجته ، قال : هُمُ الجلساءُ لا يشقى بهم جليسهم ) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/107 ( 6408 ) ، وصحيح مسلم 8/68 ( 2689 ) ( 25 ) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن مُعاوية : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقةٍ من
أصحابه ، فقال : ( ما يُجلسكُم ) ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله - عز وجل - ، ونحمَدُه لما هدانا للإسلام ، ومنَّ علينا به ، فقال : ( آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذلك ؟ ) قالوا : آللهِ ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : ( أما أنِّي لم أستحلِفْكُم لتهمةٍ لكم ، إنَّه أتاني جبريل ، فأخبرني أنَّ الله تعالى يُباهي بكم الملائكة ) .
وخرَّج الحاكم (2) من حديث معاوية ، قال : كنتُ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً ، فدخل
المسجدَ ، فإذا هو بقومٍ في المسجد قعود ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أقعدكم ؟ ) فقالوا : صلَّينا الصَّلاةَ المكتوبةَ ، ثم قعدنا نتذاكرُ كتاب الله - عز وجل - وسنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكرُه ) .
وفي المعنى أحاديث أُخَرُ متعددة (3) .
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ جزاءَ الذين يجلسونَ في بيت الله يتدارسون كتابَ الله أربعة
أشياء :
__________
(1) 8/72 ( 2701 ) ( 40 ) .
(2) في " المستدرك " 1/94 .
(3) قال علي - رضي الله عنه - : ( تذاكروا الحديث فإنكم إن لا تفعلوه يندرس ) . وقال عبد الله بن مسعود : ( تذاكروا الحديث فإن ذكر الحديث حياته ) . أخرجهما الحاكم في " المستدرك " 1/95 .
أحدها : تَنْزل السكينة عليهم ، وفي " الصحيحين " (1) عن البراء بن عازب ، قال : كان رجلٌ يقرأ سورةَ الكهف وعنده فرسٌ ، فتغشَّته سحابةٌ ، فجعلت تدورُ وتدنُو ، وجعل فرسه يَنفِرُ منها ، فلمَّا أصبح ، أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فقال : ( تلك السَّكينة تنَزَّلت للقرآن ) .
وفيهما أيضاً (2) عن أبي سعيدٍ أنَّ أُسيدَ بنَ حُضيرٍ بينما هو ليلةً يقرأ في
مِربَدِه(3) ، إذ جالت فرسُه ، فقرأ ، ثم جالت أخرى ، فقرأ ، ثم جالت أيضاً ، فقال أُسيدٌ : فخشيتُ أنْ تطأ يحيى - يعني ابنَه - قال : فقمتُ إليها ، فإذا مثلُ الظُّلَّةِ فوق رأسي فيها أمثالُ السُّرُجِ عرجت في الجوِّ حتَّى ما أراها ، قال : فغدا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( تلك الملائكةُ كانت تستَمعُ لك ، ولو قرأت ، لأصبحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم ) واللفظ لمسلم فيهما .
__________
(1) صحيح البخاري 4/245 ( 3614 ) و6/170 ( 4839 ) و232 ( 5011 ) ، وصحيح مسلم 2/193 ( 795 ) ( 240 ) و( 241 ) و194 ( 795 ) ( 241 ) .
(2) البخاري 6/234 ( 5018 ) معلقاً ، ومسلم 2/194 ( 796 ) ( 242 ) .
(3) المربد : الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم ، وبه سمي مربد المدينة والبصرة ، وهو بكسر الميم وفتح الباء ، والمربد أيضاً : الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف . النهاية 2/182 .
وروى ابن المبارك (1) ، عن يحيى بن أيوبَ ، عن عُبيد الله بنِ زَحْرٍ ، عن سعد ابن مسعود أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في مجلسٍ ، فرفعَ بصرَه إلى السَّماء ، ثمَّ طأطأ بصرَه ، ثمَّ رفعه ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : ( إن هؤلاء القوم كانوا يذكُرون الله تعالى - يعني : أهلَ مجلسٍ أمامَه – فنزلت عليهمُ السَّكينةُ تحملها الملائكةُ كالقُبَّةِ ، فلمَّا دنت منهم تكلَّم رجلٌ منهم بباطلٍ ، فرُفِعَت عنهم ) وهذا مرسل(2) .
والثاني : غِشيانُ الرَّحمة ، قال الله تعالى : { إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (3) .
وخرَّج الحاكم (4) من حديث سلمان أنَّه كان في عِصابةٍ يذكرون الله تعالى ،
فمرَّ بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( ما كنتم تقولون ؟ فإنِّي رأيتُ الرَّحمةَ تنزِلُ عليكم ، فأردت أن أشارِكَكُم فيها ) .
وخرَّج البزارُ (5)
__________
(1) في " الزهد " ( 943 ) .
(2) وهو مع إرساله ففيه عبيد الله بن زحر، وفيه ضعف .
(3) الأعراف : 56 .
(4) في " المستدرك " 1/122 ، وفي إسناده ضعف .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/242 .
(5) كما في " كشف الأستار " ( 3062 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/268 ، وهو حديث ضعيف لضعف زائدة بن أبي الرقاد وزياد بن عبد الله النميري .
من حديث أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ لله سيَّارةً مِنَ الملائكة ، يطلبون حِلَق الذِّكر ، فإذا أتوا عليهم حَفُّوا بهم ، ثم بعثوا رائدَهم إلى السماء إلى ربِّ العزّة تبارك وتعالى فيقولون : ربَّنا أتينا على عبادٍ من عبادِكَ يُعظِّمون آلاءك ، ويتلونَ كتابَك ، ويصلُّون على نبيِّك ، ويسألونَك لآخرتهم ودنياهم ، فيقول تبارك وتعالى : غشوهم برحمتي ، فيقولون : ربَّنا ، إنَّ فيهم فلاناً الخطّاء ، إنَّما اعتنقهُمُ اعتناقاً ، فيقول تعالى : غشوهم برحمتي ، فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم .
والثالث : أنَّ الملائكة تحفُّ بهم ، وهذا مذكورٌ في هذه الأحاديث التي ذكرناها ، وفي حديث أبي هريرة المتقدّم : ( فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء
الدنيا ) . وفي رواية للإمام أحمد (1) : ( علا بعضُهم على بعض حتَّى يبلغوا
العرش ) .
وقال خالدُ بنُ معدان(2) ، يرفعُ الحديث : ( إنَّ لله ملائكةً في الهواء ، يَسيحون بين السماءِ والأرض ، يلتمسون الذِّكرَ ، فإذا سمعوا قوماً يذكرون الله
تعالى ، قالوا : رويداً زادكم الله ، فينشرون أجنحتَهم حولَهم حتَّى يصعَدَ كلامُهم إلى العرش ) . خرَّجه الخلال في كتاب " السنة " .
الرابع : أنَّ الله يذكرُهم فيمن عنده ، وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يقولُ الله - عز وجل - : أنا عند ظنِّ عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرُني ، فإنْ ذكرني في نفسِه ، ذكرتُه في نفسي ، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم ) .
__________
(1) في " مسنده " 2/358 .
(2) وخالد بن معدان تابعيٌّ ، فالحديث ضعيف لإرساله .
(3) صحيح البخاري 9/147 ( 7405 ) ، وصحيح مسلم 8/62 ( 2675 ) ( 2 ) .
وهذه الخصال الأربعُ لكلِّ مجتمعين على ذكر الله تعالى ، كما في " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة وأبي سعيد ، كلاهما عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ لأهلِ ذكرِ الله تعالى أربعاً : تنزلُ عليهمُ السَّكينةُ ، وتغشاهمُ الرَّحمةُ ، وتحفُّ بهم الملائكةُ ، ويذكرُهُم الرَّبُّ فيمن عنده ) . وقد قال الله تعالى : { فَاذْكُرُوْنِي أَذْكُرْكُمْ } (2) وذكر الله لعبده : هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته ومباهاتهم به وتنويهه بذكره . قال الربيعُ بنُ أنس : إنَّ الله ذاكرٌ مَنْ ذكرهُ ، وزائدٌ مَنْ شكره ، ومعذِّبٌ من كفره (3) ، وقال - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ } (4) ، وصلاةُ الله على عبده : هي ثناؤه عليه بين ملائكته ، وتنويههُ بذكره ، كذا قال أبو العالية ، ذكره البخاري في " صحيحه " (5) .
وقال رجلٌ لأبي أمامة : رأيتُ في المنام كأنَّ الملائكة تُصلِّي عليك ، كلَّما دخلتَ ، وكلما خرجتَ ، وكلَّما قمتَ ، وكلَّما جلستَ ، فقال أبو أمامة : وأنتم لو شئتم ، صلَّت عليكمُ الملائكةُ ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ } خرَّجه
الحاكم (6) .
__________
(1) 8/72 ( 2700 ) ( 39 ) .
(2) البقرة : 152 .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " 2/37 .
(4) الأحزاب : 41 – 43 .
(5) 6/151 معلقاً .
(6) في " المستدرك " 2/418 .
وانظر : تهذيب الكمال للمزي 3/451 ( 2858 ) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن بطَّأ به عملُه ، لم يُسرِعْ به نسبه ) : معناه أنَّ العمل هو الذي يبلُغ بالعبدِ درجاتِ الآخرة ، كما قال تعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا
عَمِلُوا } (1) ، فمن أبطأ به عمله أنْ يبلُغَ به المنازلَ العالية عند الله تعالى ، لم يُسرِعْ به نسبه ، فيبلغه تلكَ الدَّرجاتِ ، فإنَّ الله تعالى رتَّبَ الجزاءَ على الأعمال ، لا على الأنساب ، كما قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ } (2) ، وقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال ، كما قال : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } (3) الآيتين ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (4) .
__________
(1) الأنعام : 132 .
(2) المؤمنون : 101 .
(3) آل عمران : 133 – 134 .
(4) المؤمنون : 57 – 61 .
قال ابن مسعود : يأمر الله بالصراط ، فيضرب على جهنَّم ، فيمرُّ النَّاسُ على قدر أعمالهم زُمَراً زُمراً ، أوائلُهم كلمح البرقِ ، ثمَّ كمرِّ الرِّيحِ ، ثمَّ كمرِّ الطَّير ، ثمَّ كمرِّ البهائمِ ، حتَّى يمرَّ الرَّجُلُ سعياً ، وحتّى يمرَّ الرَّجلُ مشياً ، حتَّى يمرَّ آخرُهم يتلبَّط على بطنِه ، فيقول : يا ربِّ ، لم بطَّأتَ بي ؟ فيقول : إنِّي لم أبطِّئ بك ، إنَّما بطَّأ بكَ عملُك (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُنزِلَ عليه : { وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ } (3) : ( يا معشر قريش ، اشترُوا أنفسَكم من اللهِ ، لا أُغني عنكم من اللهِ شيئاً ، يا بني عبد المطلب ، لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب ، لا أُغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمّة رسول الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد ، سليني ما شئتِ ، لا أغني عنك من الله شيئاً ) . وفي رواية خارج " الصحيحين " : ( إنَّ أوليائي منكمُ المتَّقون لا يأتي الناسُ بالأعمال ، وتأتُوني بالدُّنيا تحملونها على رقابكم ، فتقولون : يا محمَّدُ ، فأقول : قد بلَّغتُ ) (4) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 37637 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 282 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 17063 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9761 ) ، والحاكم
4/598 - 560 .
(2) صحيح البخاري 4/7 ( 2753 ) و224 ( 3527 ) و6/140 ( 4771 ) ، وصحيح مسلم 1/133 ( 204 ) ( 348 ) .
(3) الشعراء : 214 .
(4) أخرجه : عبد بن حميد كما في " الدر المنثور " 5/180 عن الحسن .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 20379 ) عن قتادة .
وخرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أوليائي المتقونَ يومَ القيامة ، وإنْ كان نسبٌ أقربَ مِنْ نسبٍ ، يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون : يا محمدُ ، يا محمدُ ، فأقول هكذا
وهكذا ) وأعرض في كلا عِطفَيهِ (1) .
وخرَّج البزارُ (2) من حديث رفاعة بنِ رافع : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرَ
: ( اجمع لي قومك يعني : قريشاً ، فجمعهم ، فقال : ( إنَّ أوليائي منكم
المتَّقون ، فإن كنتُم أولئك ، فذاك ، وإلاَّ ، فانظروا ، لا يأتي الناسُ بالأعمال
يومَ القيامة وتأتون بالأثقالِ ، فيُعْرَضَ عنكم ) . وخرَّجه الحاكم (3) مختصراً
وصححه .
وفي " المسند " (4) عن معاذ بن جبل : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثه إلى اليمن ، خرج معه يُوصيه ، ثمّ التفت ، فأقبل بوجهه إلى المدينة ، فقال : ( إنَّ أولى الناس بي المتَّقونَ مَنْ كانُوا ، وحيث كانوا ) . وخرَّجه الطبراني ، وزاد فيه : ( إنَّ أهلَ بيتي هؤلاء يرونَ أنَّهم أولى الناس بي ، وليس كذلك ، إنَّ أوليائي منكم المتَّقونَ ، من كانوا وحيث كانوا ) .
__________
(1) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 897 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 213 )
و( 1012 ) ، وإسناده لا بأس به .
(2) في " مسنده " ( 3725 ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 75 ) ، وفي إسناده مقال .
(3) في " المستدرك " 4/73 وتصحيحه إياه من تساهله .
(4) أحمد 5/235 .
وأخرجه : ابن حبان ( 647 ) ، والطبراني في "الكبير" 20/( 241 ) ، وهو حديث
صحيح .
ويشهد لهذا كلِّه ما في " الصحيحين " (1) عن عمرو بن العاص ، أنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء ، وإنّما وليِّيَ الله وصالح المؤمنين ) يشير إلى أنَّ ولايته لا تُنال بالنَّسب ، وإنْ قَرُبَ ، وإنَّما تُنالُ بالإيمان والعمل الصالح ، فمن كان أكملَ إيماناً وعملاً ، فهو أعظمُ ولاية له ، سواءٌ كانَ له منه نسبٌ قريب ، أو لم يكن ، وفي هذا المعنى يقولُ بعضهم :
لَعَمْرُكَ ما الإنسانُ إلاَّ بِدينِهِ
فَلا تَتْرُكِ التَّقوى اتَّكالاً على النسب
لَقد رَفَعَ الإسلامُ سَلمَانَ فَارِسٍ
وقَد وَضَعَ الشِّركُ الشقيَّ أبَا لَهب (2)
__________
(1) صحيح البخاري 8/7 ( 5990 ) ، وصحيح مسلم 1/136 ( 215 ) ( 266 ) .
(2) هي من البحر الطويل .
قالها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إلا إنه قال : ( الشريف ) بدلاً من ( الشقي ) .
وقالها الصاحب بن عباد ، إلا أنه قال : ( اعتماداً ) بدلاً من ( اتكالاً ) ، وقال
: ( الشريف ) بدلاً من ( الشقي ) .
الحديث السابع والثلاثون
عَنِ ابنِ عَبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عَنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَروي عَنْ رَبِّهِ تَباركَ وتَعَالى قَالَ : ( إنَّ الله - عز وجل - كَتَبَ الحَسَناتِ والسيِّئاتِ ، ثمَّ بَيَّنَ ذلك ، فَمَنْ هَمَّ
بِحَسَنةٍ ، فَلَمْ يَعْمَلْها ، كَتَبها الله عِنْدَهُ حَسنَةً كَامِلةً ، وإن هَمَّ بِها فَعَمِلَها ، كَتَبَها الله عَنْدَهُ عَشْرَ حَسناتٍ إلى سبع مئة ضِعْفٍ إلى أضعاف كَثيرةٍ ، وإنْ هَمَّ بسيِّئة ، فلمْ يَعْمَلها ، كَتَبَها عِنْدَهُ حَسنةً كَامِلةً ، وإنْ هَمَّ بِهَا ، فعَمِلَها كَتَبَها الله سيِّئة واحِدَةً ) . رَواهُ البُخارِيُّ ومُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجاه (1) من رواية الجعد أبي عثمان : حدَّثنا أبو رجاءٍ العُطاردي ، عن ابنِ عبَّاس . وفي رواية لمسلم (2) زيادةٌ في آخر الحديث ، وهي :
( أو محاها الله ، ولا يَهلِكُ على الله إلاَّ هالكٌ ) .
وفي هذا المعنى أحاديثُ متعددة ، فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يقولُ الله : إذا أراد عبدي أنْ يعملَ سيِّئة ، فلا تكتُبوها عليه حتَّى يعملها ، فإنْ عملَها ، فاكتبوها بمثلِها ، وإنْ تركها مِنْ أجلي ، فاكتبوها له حسنةً ، وإذا أراد أنْ يعملَ حسنةً ، فلم يعمَلْها ، فاكتبوها له حسنةً ، فإن عملَها ، فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ ) وهذا لفظ البخاري (3) ، وفي رواية لمسلم (4)
__________
(1) صحيح البخاري 8/128 ( 6491 ) ، وصحيح مسلم 1/83 ( 131 ) ( 207 ) .
وأخرجه : أحمد 1/279 ، وعبد بن حميد ( 716 ) .
(2) صحيح مسلم 1/83 ( 131 ) ( 208 ) .
(3) صحيح البخاري 9/177 ( 7501 ) .
(4) صحيح مسلم 1/81 ( 129 ) ( 205 ) .
وأخرج : البخاري 1/17 ( 42 ) المقطع الأخير من الحديث .
وأخرجه : ابن حبان ( 228 ) و( 379 ) - ( 384 ) .
: ( قال الله - عز وجل - : إذا تحدَّثَ عبدي بأنْ يعملَ حسنةً ، فأنا أكتُبها له حسنةً ما لم يعمل ، فإذا عملَها ، فأنا أكتُبها بعشرِ أمثالها ، وإذا تحدَّث بأنْ يعملَ سيِّئة ، فأنا أغفِرُها له ما لم يعملْهَا ، فإذا عملها ، فأنا أكتُبها له بمثلها ) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قالتِ الملائكةُ : ربِّ ذاك عبدُك يريدُ أنْ يعملَ سيِّئة - وهو أبصرُ به - قال : ارقبوه ، فإنْ عملَها ، فاكتبوها له بمثلها ، وإنْ تركها ، فاكتبوها له حسنةً ، إنَّما تركها من جرَّايَ ) . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أحسنَ أحدُكم إسلامه ، فكلُّ حسنةٍ يعملها تُكتبُ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف ، وكلُّ سيِّئة يعملُها تُكتَبُ بمثلها حتَّى يلقى الله ) .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَف : الحسنةُ عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف ، قال الله - عز وجل - : إلاَّ الصِّيام ، فإنَّه لي ، وأنا أجزي به ، يدعُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه مِنْ أجلي ) ، وفي رواية بعد قوله : ( إلى سبع مئة ضعف ) : ( إلى ما يشاء الله ) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يقولُ الله : مَنْ عمل حسنةً، فله عشرُ أمثالها أو أَزِيدُ ، ومن عمل سيِّئة ، فجزاؤها مِثلُها أو أغفرُ ) .
__________
(1) صحيح البخاري 2/34 ( 1904 ) و9/175 ( 7492 ) ، وصحيح مسلم 3/157 – 158 ( 1151 ) ( 161 ) – ( 164 ) .
(2) صحيح مسلم 8/67 ( 2687 ) ( 22 ) .
وأخرجه : أحمد 5/153 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 56 ) ، وابن ماجه
( 3821 ) .
وفيه أيضاً (1) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من همَّ بحسنةٍ ، فلم يعْمَلها ، كُتِبَت له حسنةً ، فإنْ عَمِلَها ، كتبت له عشراً ، ومن هَمَّ بسيِّئة ، فلم يعملها لم يُكتب عليه شيءٌ ، فإنْ عَمِلَها ، كُتِبَت عليه سيِّئة واحدةً ) .
وفي " المسند " (2) عن خُرَيْمِ بن فاتكٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من همَّ
بحسنة ، فلم يعملها ، فعلم الله أنَّه قد أشعرها قلبه ، وحَرَصَ عليها ، كُتِبَت له حسنة ، ومن همَّ بسيِّئة لم تُكتب عليه ، ومن عَمِلَها كتبت له واحدة ، ولم تُضاعَف عليه ، ومن عَمِلَ حسنة كانت له بعشر أمثالها ، ومن أنفقَ نفقة في سبيلِ الله ، كانت له بسبع مئة ضعف ) . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة .
فتضمنت هذه النُّصوص كتابةَ الحسنات ، والسيِّئات ، والهمّ بالحسنةِ والسيِّئة ، فهذه أربعة أنواع :
النوع الأول : عملُ الحسنات ، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرةٍ ، فمُضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازمٌ لكلِّ الحسنات ، وقد دلَّ عليه قوله تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (3) .
وأما زيادةُ المضاعفةِ على العشر لمن شاء الله أن يُضاعف له ، فدلَّ عليه قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (4) ، فدلَّت هذه الآيةُ على أنّ النَّفقة في سبيل الله تُضاعف بسبع مئة ضعف .
__________
(1) صحيح مسلم 1/99 و100 و101 ( 162 ) ( 259 ) مطولاً .
(2) أخرجه : أحمد 4/345 – 346 ، وإسناده لا بأس به .
(3) الأنعام : 160 .
(4) البقرة : 261 .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي مسعود ، قال : جاء رجلٌ بناقةٍ مخطومةٍ ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال : ( لك بها يوم القيامة سبع مئة
ناقة ) .
وفي " المسند " (2) بإسنادٍ فيه نظر عن أبي عُبيدة بن الجرّاح ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فبسبع مئةٍ ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، أو عادَ مريضاً ، أو مازَ أذى ، فالحسنةُ بعشرِ أمثالها ) .
وخرَّج أبو داود (3) من حديث سهل بنِ معاذٍ عن أبيه ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الصَّلاة ، والصِّيام ، والذِّكرَ يُضاعف على النَّفقة في سبيل الله بسبع مئة
ضعف ) .
وروى ابنُ أبي حاتم (4) بإسناده عن الحسن ، عن عمران بنِ حُصين عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أرسل نفقةً في سبيلِ الله ، وأقام في بيته ، فله بكلِّ درهم سبع مئة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، فلهُ بكلِّ درهم سبع مئة ألف درهم ) ثم تلا هذه الآية : { واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ } (5) .
__________
(1) 6/41 ( 1892 ) ( 132 ) .
(2) مسند الإمام أحمد 1/195 – 196 ، والنظر الذي أشار إليه المصنف أنَّ في إسناده بشار بن أبي سيف ، وهو مقبول عند المتابعة ولم يتابع .
(3) في " سننه " ( 2498 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف زبان بن فائد .
(4) في " تفسيره " 2/515 ( 2730 ) وقال ابن كثير في " تفسيره " 1/326 ، : ( حديث غريب ) .
(5) البقرة : 261 .
وخرَّج ابن حبان في " صحيحه " (1) من حديث عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر ، قال : لمَّا نزلتْ هذه الآية : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } (2) ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ربِّ زد أمتي ) ، فأنزل الله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً
كَثِيرَةً } (3) ، فقال : ( ربِّ زدْ أمَّتي ) ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (4) .
وخرَّج الإمامُ أحمد (5) من حديث عليِّ بن زيد بن جُدعان ، عن أبي عُثمان النَّهديِّ ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله ليُضاعِفُ الحسنةَ ألفي ألفِ حسنةٍ ) ثم تلا أبو هريرة : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } (6) . وقال : ( إذا قال الله أجراً عظيماً ، فمن يقدر قدره ؟ ) وروي عن أبي هريرة موقوفاً (7) .
وخرَّج الترمذي (8) من حديث ابن عمر مرفوعاً : ( من دخل السُّوقَ ، فقال : لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، له الملك ، وله الحمدُ ، يُحيي ويُميتُ ، وهو حيٌّ لا يموت ، بيدِه الخيرُ ، وهو علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ، كتب اللهُ له ألفَ ألفِ حسنةٍ ، ومحا عنه ألفَ ألفِ سيِّئة ، ورفع له ألفَ ألفِ درجةٍ ) .
__________
(1) 4648 ) .
(2) البقرة : 261 .
(3) البقرة : 245 .
(4) الزمر : 10 .
(5) في " مسنده " 2/296 و521 – 522 ، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف .
(6) النساء : 40 .
(7) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/955 ( 5337 ) موقوفاً .
(8) 3428 ) و( 3429 ) ، وهو حديث ضعيف ، وقال الترمذي : ( غريب ) .
ومن حديث تميم الداري (1) مرفوعاً : ( من قال : أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له ، إلهاً واحداً أحداً صمداً ، لم يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولداً ، ولم يكن له كفواً أحد عشرَ مرات ، كتبَ الله له أربعين ألفَ ألف حسنةٍ ) ، وفي كلا الإسنادين ضعف .
وخرّج الطبراني (2) بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ عمر مرفوعاً : ( من قال : سبحان الله ، كتب الله مئة ألف حسنة ، وأربعة وعشرين ألف حسنة ) .
وقوله في حديث أبي هريرة : ( إلاَّ الصيام ، فإنّه لي ، وأنا أجزي به ) (3) يدلُّ على أنَّ الصِّيام لا يَعلمُ قدر مضاعفة ثوابه إلا الله - عز وجل - لأنّه أفضلُ أنواع الصَّبر ، و { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (4) ، وقد رُويَ هذا المعنى عن طائفةٍ مِنَ السَّلف ، منهم كعبٌ (5)
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/103 ، والترمذي ( 3473 ) ، والطبراني ( 1278 ) ، وابن عدي في
" الكامل " 3/505 عن تميم الداري ، مرفوعاً ، به ، وقال الترمذي : ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، والخليل بن مرة ليس بالقوي عند أصحاب الحديث ، قال محمد بن إسماعيل : هو منكر الحديث ) .
(2) أخرجه : الطبراني ( 13597 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1694 ) عن ابن عمر ، مرفوعاً ، به .
وانظر : مجمع الزوائد 10/87 .
(3) سبق تخريجه .
(4)