تفسير سورة المائدة الايات من 58 حتي 64.
وَإِذَا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ
اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ
سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا
قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
=
المائدة - تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 57وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا
وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) }
وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين
والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة
المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي و أخروي، يتخذونها { هُزُوًا وَلَعِبًا }
يستهزئون (1) بها، { وَلَعِبًا } يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد،
وفكرهم البارد كما قال القائل: (2)
وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا ... وآفَتُهُ مِن
الْفَهم السَّقِيمِ ...
وقوله:
{ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَالْكُفَّارَ } "من" ههنا لبيان الجنس، كقوله: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ
مِنَ الأوْثَانِ } [الحج:30]، وقرأ بعضهم { وَالْكُفَّارَ } بالخفض عطفا، وقرأ
آخرون بالنصب على أنه معمول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } تقديره: ولا الكفار أولياء، أي: لا تتخذوا هؤلاء ولا
هؤلاء أولياء.
والمراد بالكفار ههنا المشركون، وكذا وقع في قراءة ابن
مسعود، فيها رواه ابن جرير: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} .
وقوله:
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي:
اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء { إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ } بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوًا ولعبًا، كما قال تعالى: { لا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
[آل عمران: 28].
وقوله [تعالى] (3) { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } أي: وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة
التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب { اتَّخَذُوهَا } أيضًا {
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } مَعَانِي عبادة
الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر وله
حُصَاص، أي: ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب
بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول: اذكر كذا،
اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري (4) كم صلَّى، فإذا وجد أحدكم
ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام". متفق عليه.
وقال الزهري: قد ذكر الله [تعالى] (5) التأذين في كتابه فقال: {
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ }
رواه ابن أبي حاتم.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، في قوله: { وَإِذَا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } قال: كان رجل من
النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: "أشهد أن محمدًا رسول الله"
قال: حُرّق الكاذب! فدخلت خادمة (6) ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام،
فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه
__________
(1) في أ: "مستهزئون".
(2) هو "أبو الطيب المتنبي" كما في حاشية طبعة
الشعب.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "لم يدر".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ: "فدخل خادمه".
بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد
والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدًا ألا
يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق
لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم" ثم ذكر ذلك لهم، فقال
الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، [والله] (1) ما اطلع على هذا أحد كان معنا،
فنقول أخبرك. (2)
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا ابن
جُرَيْج، أخبرنا عبد العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة؛ أن عبد الله بن مُحَيريز
أخبره -وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة-قال: قلت لأبي محذورة: يا عم، إني خارج إلى
الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك.
فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم خرجت في نفر، وكنا
(3) ببعض طريق حنين، مقفل (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن، فلقينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون (5) فصرخنا نحكيه
ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا
بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم الذي سمعتُ صوته قد
ارتفع؟" فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني. وقال (6)
"قم فأذّن بالصلاة". فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال: "قل الله أكبر، الله
أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول
الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، "
ثم قال لي: "ارجع فامدد من صوتك". ثم قال:
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد
أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على
الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله". ثم دعاني حين قضيت التأذين،
فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرّها على
وجهه، ثم بين ثدييه (7) ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة، ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله فيك وبارك عليك". فقلت: يا
رسول الله، مُرْني بالتأذين بمكة. فقال قد "أمرتك به". وذهب كل شيء كان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم. فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت
معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي
ممن أدرك أبا محذورة، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز.
هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، وأهل
السنن الأربعة من طريق (8) عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة (9) -واسمه: سَمُرَة بن
مِعْيرَ بن لوذان-أحد مؤذني رسول الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (2/413).
(3) في ر: "فكنا".
(4) في أ: "فقفل".
(5) في أ: "متكئون".
(6) في أ: "فقال".
(7) في أ: "يديه".
(8) في أ: "طرق".
(9) المسند (3/408) وصحيح مسلم برقم (379) وسنن أبي داود
(502) وسنن الترمذي برقم (191) وسنن النسائي (2/4) وسنن ابن ماجة برقم (708).
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ
قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ (63)
صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت
أيامه، رضي الله عنه وأرضاه.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا
إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ
وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ
فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ
قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) }
يقول تعالى: قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم (1)
هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب: { هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ } أي: هل لكم علينا
مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعًا (2) كما في
قوله: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ } [البروج:8] وكقوله: { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة:74] وفي الحديث المتفق عليه:
"ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله". (3)
وقوله: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوف على {
أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ } أي:
وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ
مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما
تظنونه بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة، فقوله: { مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ } أي: أبعده من رحمته
{ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } أي: غضبًا لا يرضي بعده أبدًا، {
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } كما تقدم بيانه في سوره البقرة.
وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [إن شاء الله تعالى] (4)
وقد قال سفيان الثوري: عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن المغيرة
بن عبد الله، عن المعرور بن سُوَيْد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله [تعالى] (5) ؟ فقال (6) إن الله
لم يهلك قومًا -أو قال: لم يمسخ قومًا-فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا (7) وإن القردة
والخنازير كانت قبل ذلك".
__________
(1) في ر: "دينهم".
(2) في د: "منقطع".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (1468) ورواه مسلم في
صحيحه برقم (983) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ر: "قال".
(7) في أ: "عاقبة".
وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما، عن
مُغِيرة بن عبد الله اليشكري، به. (1)
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن
محمد بن زيد، عن أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: "لا
إن الله لم يلعن قومًا (2) فيمسخهم (3) فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب
الله على اليهود فمسخهم، جعلهم (4) مثلهم".
ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات، به. (5)
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح
(6) حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن داود بن أبي هند، عن
عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحيات
مَسْخ الجن، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير". هذا حديث غريب جدا (7) .
وقوله:
{ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } وقرئ { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ }
على أنه فعل ماض، "والطاغوت" منصوب به، أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت. وقرئ:
{ وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ } بالإضافة على أن المعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت، أي:
خدامه وعبيده. وقرئ { وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ } على أنه جمع الجمع: عبد وعَبيد
وعُبُد، مثل ثمار وثُمُر. حكاها ابن جرير عن الأعمش. وحكي عن بُرَيْدةَ الأسلمي
أنه كان يقرؤها: "وعَابد الطاغوت"، وعن أبي، وابن مسعود: "وعبدوا"، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه
كان يقرؤها: { وَعُبِدَ الطَّاغُوتَ }
على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها.
والظاهر (8) أنه لا بعد في ذلك؛ لأن هذا من باب التعريض بهم، أي: وقد عبدت الطاغوت
فيكم، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك.
وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب
الطاعنين في ديننا، والذي (9) هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون [ما] (10) سواه،
كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم (11) جميع ما ذكر؟ ولهذا قال: { أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا } أي: مما تظنون بنا { وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2663).
(2) في ر، أ: "قوما قط".
(3) في ر، أ: "فمسخهم".
(4) في أ: "فجعلهم".
(5) مسند الطيالسي برقم (307) ومسند أحمد (1/395) وفي
إسناده محمد بن زيد الكندي وهو مجهول، وأبو الأعين العبدي ضعيف.
(6) في أ: "حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح".
(7) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1080)
"موارد" والطبراني في المعجم الكبير (11/341) والبزار في مسنده برقم (1232)
"كشف الأستار" وابن أبي حاتم في العلل (2/290) من طرق عن عبد العزيز بن
المختار به.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: "هذا
الحديث هو موقوف لا يرفعه إلا عبد العزيز بن المختار ولا بأس في حديثه".
ولم يتبين لي وجه غرابته عند الحافظ ابن كثير إلا أن
يكون قصد أن عبد العزيز بن المختار قد خالفه فيه معمر، فرواه عن أيوب عن عكرمة به
موقوفاً.
رواه الطبراني فى المعجم الكبير (11/341). فهذا بعيد وهو
محتمل، وقد صحح هذا الحديث الحافظ المقدسى في المختارة، كما في السلسلة الصحيحة
للشيخ ناصر الألباني (4/439).
(8) في أ: "والظاهر على".
(9) في ر: "الذي".
(10) زيادة من ر، أ.
(11) في أ: "فيكم".
وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف
الآخر مشاركة، كقوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [الفرقان: 24]
وقوله: { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ
دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ } وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم
يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر؛ ولهذا قال: { وَقَدْ
دَخَلُوا [بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] } (1) أي (2) عندك يا محمد { بِالْكُفْرِ } أي:
مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك
من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر؛ ولهذا قال: { وَهُمْ [قَدْ]
خَرَجُوا بِهِ } (3) فخصهم به دون غيرهم.
وقوله: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ
} أي: والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم (4) وإن أظهروا لخلقه خلاف
ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على
ذلك أتم الجزاء.
وقوله: { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي
الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } أي: يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم
والمحارم والاعتداء على الناس، وأكلهم أموالهم بالباطل { لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } أي: لبئس (5) العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم. (6)
قوله: { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ } يعني: هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك.
والربانيون وهم: العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار: وهم العلماء فقط.
{ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وقال علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس: يعني الربانيين، أنهم: بئس ما كانوا يصنعون. يعني: في تركهم
ذلك.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال لهؤلاء حين لم
يَنْهُوا، ولهؤلاء حين علموا. قال: وذلك الأركان. قال: "ويعملون"و
"ويصنعون" واحد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية،
حدثنا قَيْس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال: ما في
القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية: { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ } قال: كذا قرأ.
وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها: إنا
لا ننهى. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكره (7) يونس بن حبيب، حدثنا أبو
داود، حدثنا محمد بن مسلم عن أبي الوضاح، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني، قال: رأيته
(8) بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان (9) قبلكم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر، أ: "إلى".
(3) زيادة من ر ، أ ، وهو الصواب".
(4) في ر: "ضمائركم".
(5) في ر: "أي بئس".
(6) في ر،أ: "وبئس الاعتماد اعتمادهم".
(7) في أ: "يذكر".
(8) في ر، أ: "لقيته".
(9) في ر: إنما هلك من هلك".
بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما
تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات. فَمُروا
بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا، شَرِيك،
عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا،
إلا أصابهم الله منه بعذاب".
تفرد به أحمد من هذا الوجه. (1)
ورواه أبو داود، عن مَسَدَّد، عن أبي الأحوص، عن أبي
إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلا
يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا". (2)
وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد، عن وَكِيع، عن
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبَيد الله (3) بن جرير، عن أبيه، به. (4)
قال الحافظ المِزِّي: وهكذا رواه شعبة، عن إسحاق، به. (5)
__________
(1) المسند (4/363) ورواه الطبراني في المعجم الكبير
(2/331) من طريق يزيد بن هارون به.
(2) سنن أبي داود برقم (4339) ورواه الطبراني في المعجم
الكبير (2/332) من طريق مسدد، عن أبي الأحوص به.
(3) في أ: "عبد الله ".
(4) سنن ابن ماجة برقم (4009) .
(5) تحفة الأشراف (2/426) ورواه الطبراني في المعجم
الكبير (2/331) فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا محمد ابن جعفر،
حدثنا شعبة، فذكره.
المائدة - تفسير القرطبي
58- {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}
فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى-
قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى
الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا؛ وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا
وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك
صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وقيل: إنهم كانوا إذا
أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون؛ تجهيلا،
وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها. وقيل: إنهم كانوا يرون المنادي إلي بمنزلة
اللاعب الهازئ بفعلها، جهلا منهم بمنزلتها؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} والنداء
الدعاء برفع الصوت، وفد يضم مثل الدعاء والرغاء. وناداه مناداة ونداء أي صاح به.
وتنادوا أي نادى
بعضهم بعضا. وتنادوا أي جلسوا في النادي، وناداه جالسه
في النادي. وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية، أما أنه ذكر في
الجمعة على الاختصاص.
الثانية- قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة،
وإنما كانوا ينادون "الصلاة جامعة" فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم
وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي "الصلاة جامعة" للأمر يعرض.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبدالله بن زيد، وعمر
بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع
الأذان ليلة الإسراء في السماء، وأما رؤيا عبدالله بن زيد الخزرجي الأنصاري وعمر
بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة؛ وأن عبدالله بن زيد أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم بذلك ليلا طرقه به، وأن عمر رضي الله عنه قال: إذا أصبحت أخبرت النبي صلى
الله عليه وسلم؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة أذان الناس
اليوم. وزاد بلال في الصبح "الصلاة خير من النوم" فأقرها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وليست فيما أري الأنصاري؛ ذكره ابن سعد عن ابن عمر. وذكر الدارقطني رحمه الله
أن الصديق رضي الله عنه أري الأذان، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا قبل أن يخبره الأنصاري؛ ذكره في كتاب "المدبج"
له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق وحديث أبي بكر عنه.
الثالثة- واختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة؛ فأما
مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، وقد
نص على ذلك مالك في موطئه. واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين: أحدهما: سنة
مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى. وقال بعضهم: هو
فرض على الكفاية. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي، وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل
مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة؛ قال أبو عمر: ولا أعلم اختلافا في وجوب الأذان
جملة على أهل المصر؛ لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار
الكفر؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا بعث سرية قال لهم: "إذ سمعتم الأذان فأمسكوا وكفوا
وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا - أو قال
- فشنوا الغارة" . وفي صحيح مسلم قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع الأذان أمسك وإلا أغار
الحديث وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية.
قال الطبري: الأذان سنة وليس بواجب. وذكر عن أشهب عن مالك: إن ترك الأذان مسافر
عمدا فعليه إعادة الصلاة. وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة؛
قالوا: وأما ساكن المصر فيستحب له أن يؤذن ويقيم؛ فإن استجزأ بأذان الناس
وإقامتهم أجزأه. وقال الثوري: تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر، وإن شئت أذنت
وأقمت. وقال أحمد بن حنبل: يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث. وقال داود:
الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
لمالك بن الحويرث ولصاحبه: "إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما
أكبركما" خرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له: " إذا سافرتما فأذنا
وأقيما وليؤمكما أكبركما" . قال ابن المنذر: فالأذان والإقامة واجبان على كل
جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان وأمره على الوجوب.
قال أبو عمر: واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور
والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته؛ وكذلك لو ترك
الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة. واحتج الشافعي في أن الأذان غير واجب
وليس فرضا من فروض الصلاة بسقوط الأذان للواحد عند الجمع بعرفه والمزدلفة، وتحصيل
مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء.
الرابعة- واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان
مثنى والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول؛ وذلك محفوظ من روايات
الثقات في حديث أبي محذورة،
وفي حديث عبدالله بن زيد؛ قال: وهي زيادة يجب قبولها.
وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره. قال
أصحابه: وكذلك هو الآن عندهم؛ وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في
أذان أبي محذورة، وفي أذان عبدالله بن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل
سعد القرظي إلى زمانهم. واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان؛ وذلك رجوع
المؤذن إذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله
مرتين" رجع فمد من صوته جهده. ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا
قوله: "قد قامت الصلاة" فإن مالكا يقولها مرة، والشافعي مرتين؛ واكثر
العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري
والحسن بن حي: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان
والإقامة "الله أكبر" أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان؛ وحجتهم في
ذلك حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن
عبدالله بن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيت في
المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما
قعدة، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى؛ رواه الأعمش وغيره عن
عمر بن مرة عن ابن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق. قال أبو
إسحاق السبيعي: كان أصحاب علي وعبدالله يشفعون الأذان والإقامة؛ فهذا أذان
الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا، كما يتوارث الحجازيون؛
فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين. ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة،
وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة، ثم حي على الصلاة مرة، ثم حي على الفلاح مرة،
ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله - الأذان كله - مرتين مرتين إلى
آخره. قال أبو عمر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير
الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوه على
الإباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء
قال: الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعا، ومن شاء رجع في
أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا قوله: "قد
قامت الصلاة" فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال!!.
الخامسة- واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح - وهو قول المؤذن:
الصلاة خير من النوم - فقال مالك والثوري والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح - بعد
قوله: حي على الفلاح مرتين - الصلاة خير من النوم مرتين؛ وهو قول الشافعي بالعراق،
وقال بمصر: لا يقول ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الأذان إن
شاء، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الأذان؛ وعليه الناس في صلاته الفجر. قال أبو عمر
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي محذورة أنه أمره أن يقول في أذان
الصبح: "الصلاة خير من النوم" . وروي عنه أيضا ذلك من حديث عبدالله بن زيد.
وروي عن أنس أنه قال: من السنة أن يقال في الفجر "الصلاة خير من النوم".
وروي عن ابن عمر أنه كان يقوله؛ وأما قول مالك في "الموطأ" أنه بلغه أن
المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال: الصلاة خير من
النوم؛ فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يحتج
بها وتعلم صحتها؛ وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له "إسماعيل"
فأعرفه؛ ذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له
"إسماعيل" قال: جاء المؤذن يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال: "الصلاة خير
من النوم" فأعجب به عمر وقال للمؤذن: "أقرها في أذانك". قال أبو
عمر: والمعنى فيه عندي أنه قال له: نداء الصبح موضع القول بها لا هاهنا، كأنه كره
أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعد. قال أبو عمر: وإنما
حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه؛ لأن التثويب في صلاة الصبح
أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل شيئا سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم
وأمر به مؤذنيه، بالمدينة بلالا، وبمكة أبا محذورة؛ فهو
محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه
وسلم؛ مشهور عند العلماء. روى وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه
أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت "حي على الفلاح" فقل: الصلاة خير من النوم؛
فإنه أذان بلال؛ ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر، ولا سمعه بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها.
السادسة- وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن
للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك
والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" . وقال أبو
حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها لقول رسول الله
صلى الله علي وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما
وليؤمكما أكبركما" وقياسا على سائر الصلوات. وقالت طائفة من أهل الحديث: إذا
كان للمسجد مؤذنان أذن أحدهما قيل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر.
السابعة- واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره؛ فذهب مالك
وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أنه لا بأس بذلك؛ لحديث محمد بن عبدالله بن زيد عن أبيه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال؛
ثم أمر عبدالله بن زيد فأقام. وقال الثوري والليث والشافعي: من أذن فهو يقيم؛
لحديث عبدالرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن زباد بن الحرث الصدائي قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذنت، ثم قام إلى
الصلاة فجاء بلال ليقيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء
أذن ومن أذن فهو يقيم" . قال أبو عمر:
عبدالرحمن بن زياد هو الإفريقي، وأكثرهم يضعفونه، وليس
يروي هذا الحديث غيره؛ والأول أحسن إسنادا إن شاء الله تعالى. وإن صح حديث الإفريقي
فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه؛ فالقول به أولى لأنه نص في موضع الخلاف،
وهو متأخر عن قصة عبدالله بن زيد مع بلال، والآخر؛ فالآخر من أمر رسول الله أولى
أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة؛ فإن
أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله.
الثامنة- وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه، ولا يطرب به
كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد
الإطراب؛ فيرجعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا
بما به يصول. روى الدارقطني من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن" . ويستقبل في أذانه
القبلة عند جماعة العلماء، ويلوي رأسه يمينا وشمالا في "حي على الصلاة حي على
الفلاح" عند كثير من أهل العلم. قال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد
أن يسمع الناس؛ وبه قال إسحاق، والأفضل أن يكون متطهرا.
التاسعة-
ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه
جاز؛ لحديث أبي سعيد؛ وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر، ثم
قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول
الله قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا
بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله
أكبر قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من
قلبه دخل الجنة" . وفيه عن سعد بن أبي وقاص عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال
حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ما تقدم من ذنبه" .
العاشرة- وأما فضل الأذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا
آثار صحاح؛ منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له صراط حتى لا يسمع التأذين" الحديث.
وحسبك أنه شعار الإسلام، وعلم على الإيمان كما تقدم. وأما المؤذن فروى مسلم عن
معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤذنون أطول الناس
أعناقا يوم القيامة" وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم. والله أعلم.
والعرب تكني بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم؛ كما قال قائلهم:
طوال أنضية الأعناق واللمم
وفي "الموطأ" عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم
القيامة" وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار" وفيه عن ابن عمر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة
وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة" . قال أبو
حاتم: هذا الإسناد. منكر والحديث صحيح. وعن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما
عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه
أجرا" حديث ثابت.
الحادية عشرة- واختلفوا في أخذ الأجرة على الأذان؛ فكره
ذلك القاسم بن عبدالرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به. وقال
الأوزاعي: دلك مكروه،
ولا بأس بأخذ الرزق عدى ذلك من بيت المال. وقال الشافعي:
لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم قال بن المنذر: لا
يجوز أخذ الأجرة على الأذان. وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر؛
أخرجه النسائي وابن ماجة وغيرهما قال: خرجت في نفر فكند ببعض الطريق فأذن مؤذن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعنا
صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون فصرخنا نحكيه نهزأ به؛ فسمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فقال: "أيكم الذي سمعت صوته قد
ارتدع" فأشار إليّ القوم كلهم وصدقوا فأرسل كل وحبسني وقال لي: "قم
فأذن" فقمت ولا شيء أكره إلي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامما
يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، فألقى علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: "قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر
الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول
الله أشهد أن محمدا رسول الله" ، ثم قال لي: "ارفع فمد صوتك أشهد أن لا
إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي
على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا
الله" ، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، قد وضع يده
على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "بارك الله لك وبارك عليك" ، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين
بمكة، قال: "قد أمرتك" فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقدمت على عتاب بن
أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ لفظ ابن ماجة.
الثانية عشرة- قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَعْقِلُونَ} أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح. روي أن رجلا من
النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: "أشهد أن محمدا رسول الله"
قال: حرق الكاذب؛ فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته
وأحرقت ذلك الكافر معه؛ فكانت عبرة للخلق "والبلاء موكد بالمنطق" وقد
كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا، فلا يؤخروا بعد ذلك؛ ذكره
ابن العربي.
59- {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}
60- {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ
مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً
وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ
تَنْقِمُونَ مِنَّا} قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر
بن أخطب ورافع بن أبي رافع - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من
الرسل عليهم السلام؛ فقال: "نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم
وإسماعيل إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} " فلما ذكر عيسى عليه السلام
جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا
دينا شرا من دينكم؛ فنزلت هده الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم
الأذان؛ فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دين من فرق بين
أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل.
ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها. و
{تَنْقِمُونَ} معناه تسخطون، وقيل: تكرهون
وقيل: تنكرون، والمعنى متقارب؛ يقال: نقم من كذا ينقم
ونقم ينقم، والأول أكثر قال عبدالله بن قيس الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي التنزيل {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} ويقال: نقمت على
الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه؛ يقال: ما نقمت عليه الإحسان. قال الكسائي:
نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضا ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه،
والاسم منه النقمة، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكنت القاف
ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نقمة والجمع نقم؛ مثل نعمة ونعم، {إِلاَّ أَنْ
آمَنَّا بِاللَّهِ} في موضع نصب بـ {تَنْقِمُونَ} و {تَنْقِمُونَ} بمعنى تعيبون، أي هل
تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق. {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ} أي في ترككم الإيمان، وخروجكم عن امتثال أمر الله فقيل هو مثل قول
القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر. وقيل: أي لأن أكثركم فاسقون تنقمون
منا ذلك.
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذَلِكَ} أي بشر من نقمكم علينا. وقيل: بشر ما تريدون لنا من المكروه؛ وهذا جواب
قولهم: ما نعرف دينا شرا من دينكم. {مَثُوبَةً} نصب على البيان وأصلها مفعولة
فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك؛
ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر؛ كما قال الشاعر:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري
وقيل:
مَفْعُلة كقولك مكرمة ومعقلة. {لَعَنَهُ اللَّهُ} {من}
في موضع رفع؛ كما قال: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} والتقدير: هو لعن من لعنه
الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله،
ويجوز أن تكون في موضع خفض على
البدل من شر والتقدير: هل أنبئكم بمن لعنه الله؛ والمراد
اليهود. وقد تقدم القول في الطاغوت، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، والموصول محذوف
عند الفراء. وقال البصريون: لا يجوز حذف الموصول؛ والمعنى من لعنه الله وعبد
الطاغوت.
وقرأ ابن وثاب النخعي {وَأُنَبِّئُكُمْ} بالتخفيف. وقرأ
حمزة: {عَبُدَ الطَّاغُوت} بضم الباء وكسر التاء؛ جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء
للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر، وأصله الصفة؛ ومنه قول النابغة:
من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل
الفرد
بضم الراء ونصبه بـ {جَعَلَ}؛ أي جعل منم عبدا للطاغوت،
وأضاف عبدالى الطاغوت فخفضه. وجعل بمعنى خلق، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة
الطاغوت. وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء؛ وجعلوه فعلا ماضيا، وعطفوه على فعل ماضي
وهو غضب ولعن؛ والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت، أو منصوبا بـ {جَعَلَ}؛ أي جعل
منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ {مِنْ} دون
معناها. وقرأ أُبي وابن مسعود {وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ} على المعنى. ابن عباس:
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال: رهن ورهن، وسقف وسقف،
ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال:
مثال ومثل، ويجوز أن يكون جمع عبد كرغيف ورعف، ويجوز أن
يكون جمع عادل كبازل وبزل؛ والمعنى: وخدم الطاغوت. وعند ابن عباس أيضا {وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ} جعله جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغايب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت
للمبالغة، جمع عابد أيضا؛ كعامل وعمال، وضارب وضراب.
وذكر محبوب أن البصريين قرؤوا: {وَعَبَادَ الطَّاغُوتَ} جمع عابد أيضا، كقائم
وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي {وَعُبِدَت الطَّاغُوتَ} على
المفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة: {وَعَابَِدُ
الطَّاغُوتِ} على التوحيد، وهو يؤدي عن جماعة. وقرأ ابن مسعود أيضا {وَعُبَدَ
الطَّاغُوتِ} وعنه أيضا وأبي {وَعُبِدَت الطَّاغُوتَ} على تأنيث الجماعة؛ كما قال تعالى: {قَالَتِ
الأَعْرَابُ} وقرأ عبيد بن عمير: {وأَعْبُدَ الطَّاغُوتَ} مثل كلب وأكلب. فهذه
اثنا عشر وجها.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} لأن مكانهم
النار؛ وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم. وقال الزجاج: أولئك شر مكانا على قولكم.
النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من
مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر. وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من
الذين نقموا عليكم. وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله.
ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم
افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود ... إن اليهود إخوة القرود
61- {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ
دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ}
62- {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي
الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
63- {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا}
الآية. هذه صفة المنافقين، المعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه، بل دخلوا
كافرين وخرجوا كافرين. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي من نفاقهم.
وقيل: المراد اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار
إذا دخلتم المدينة، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم، يدل عليه ما قبله من ذكرهم
وما يأتي. قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} يعني من اليهود. {يُسَارِعُونَ
فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي يسابقون في المعاصي والظلم {وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قوله تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَاْلأَحْبَار} {لَوْلا} بمعنى فلا. {يَنْهَاهُمُ} يزجرهم. {الرَّبَّانِيُّونَ} علماء
النصارى. {وَاْلأَحْبَار} علماء اليهود قال الحسن. وقيل الكل في اليهود؛ لأن هذه
الآيات فيهم. ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ} كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ} ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر؛ فالآية توبيخ
للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مضى في هذا المعنى في
{البقرة} {وآل عمران}. وروى سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال:
بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال: يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى
إليه: "أن به فابدأ فإنه لم يتعمر وجهد في ساعة قط". وفي صحيح الترمذي:
"إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من
عنده" وسيأتي. والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة؛ يقال: سيف صنيع إذا
جود عمله.
64- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ} قال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء، لعنه الله، وأصحابه، وكان
لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك لهم؛ فقالوا: إن الله
بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء؛ فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم
هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله
مقبوضة عن عذابنا. وقيل: إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال
وسمعوا {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان
يستعين بهم في الديات قالوا: إن إله محمد فقير، وربما قالوا: بخيل؛ وهذا معنى
قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فهذا على التمثيل كقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ويقال للبخيل: جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكز
الأصابع، ومغلول اليد؛ قال الشاعر:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات
مفتوح
فاستبدلت بعده جعدا أنامله ... كأنما وجهه بالخل منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى: {وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً} هذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة؛ تقول العرب: كم يد لي
عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة؛ قال الله عز وجل:
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} ، أي ذا القوة وتكون يد الملك
والقدرة؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ} . وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا
أَنْعَاماً} أي مما عملنا نحن. وقال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ} أي الذي له عقدة النكاح. وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومن قوله عليه
السلام: "يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم" . وتدون لإضافة
الفعل إلى المخبر عند تشريفا له وتكريما؛ قال الله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلا يجوز أن يحمل على
الجارحة؛ لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوة والملك
والنعمة والصلة، لأن الاشتراك يقع حينئذ. بين وليه آدم
وعدوه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه؛ لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن
تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور، لا
من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة؛ ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجد
أنه كتب التوراة بيده، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة
بمقتضاها.
قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا
قَالُوا} حذفت الضمة من الياء لثقلها؛ أي غلت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء
عليهم، وكذا {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} والمقصود تعليمنا كما قال: {لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} ؛ علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء
على أبي لهب بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وقيل: المراد أنهم أبخل الخلق؛
فلا ترى يهوديا غير لئيم. وفي الكلام علي هذا القول إضمار الواو؛ أي قالوا: يد
الله مغلولة وغلت أيديهم. واللعن بالإبعاد، وقد تقدم
قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ابتداء وخبر؛ أي
بل نعمته مبسوطة؛ فاليد بمعنى النعمة قال بعضهم: هذا غلط؛ لقوله: {بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ} فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان؟
وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد؛ فيكون مثل قوله عليه
السلام: "مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين" . فأحد الجنسين نعمة
الدنيا، والثاني نعمة في الآخرة. قيل:
نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة؛ كما قال:
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وروى ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: "النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك، والباطنة
ما ستر عليك من سيئ عملك" وقيل: نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما
ومنهما. وقيل: إن النعمة للمبالغة؛ تقول العرب: "لبيك وسعديك" وليس يريد
الاقتصار على مرتين؛ وقد يقول القائل: ما لي بهذا الأمر يد أو قوة. قال السدي؛
معنى قوله {يَدَاهُ} قوتاه بالثواب
والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود: إن يده مقبوضة عن
عذابهم. وفى صحيح مسلم عن أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يمين الله ملأى لا يغيضها سخَّاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق
السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى
القبض يرفع ويخفض" . السخاء الشيء الكثير. ونظير ينقص؛ ونظير هذا الحديث قوله جل
ذكره: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود {بَلْ
يَدَاهُ بُسوطَتَانِ} حكاه الأخفش، وقال يقال: يد بسطة، أي منطلقة منبسطة. {يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ} أي يرزق كما يريد. ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة؛ أي قدرته
شاملة، فإن شاء وسع وإن شاء قتر.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} لام قسم. {مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي بالذي أنزل إليك. {طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي
إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} قال مجاهد:
أي بين اليهود والنصارى؛ لأنه قال قبل هذا {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} وقيل: أي ألقينا بين طوائف
اليهود، كما قال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} فهم متباغضون
متفقين؛ فهم أبغض خلق الله إلى الناس. {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ} يريد اليهود. و {كُلَّمَا} ظرف أي كلما جمعوا وأعدوا شتت
الله جمعهم. وقيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله
عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فأرسل عليم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس،
ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين؛ فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما
أوقدوا نارا أي أهادوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم
{أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار. قال قتادة: أذلهم
الله عز وجل؛ فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي
المجوس، ثم قال عز وجل: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً} أي يسعون في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد، والله أعلم. وقيل:
المراد بالنار هنا نار الغضب، أي كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا
بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يعفوا؛ وذلك بما
جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
المائدة - تفسير الطبري
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم، أيها
المؤمنون بالصلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى
والمشركين، ولعبوا من ذلك="ذلك بأنهم قوم لا يعقلون"، يعني تعالى ذكره
بقوله:"ذلك"، فعلهم الذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى
الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا
إلى الصلاة، وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عَقَلوا ما لمن فعل
ذلك منهم عند الله من العقاب، ما فعلوه.
* * *
وقد ذكر عن السدي في تأويله ما:-
12218 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا
ولعبًا"، كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي:"أشهد أن
محمدًا رسول الله"، قال:"حُرِّق الكاذب"! فدخلت خادمه ذات ليلة من
الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه
وسلم: قل، يا محمد، لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا
أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزئون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم
نداءنا ذلك هزوًا ولعبًا (1) ="إلا أن آمنا بالله"، يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من
عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا="وأن
أكثركم فاسقون"، يقول: وإلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته،
تكذبون عليه. (2)
* * *
والعرب تقول:"نقَمتُ عليك كذا أنقِم"= وبه
قرأه القرأة من أهل الحجاز والعراق وغيرهم= و"نقِمت أنقِم"، لغتان (3) =
ولا نعلم قارئًا قرأ بهما (4) بمعنى وجدت وكرهت، (5) ومنه قول عبد الله بن قيس
الرقيات: (6)
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلا... أَنَّهُمْ
يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا (7)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أو تجدون علينا حتى تستهزئوا
بديننا إذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة" ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فحذف وغير
وبدل ، وأساء غاية الإساءة.
(2) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: 393 تعليق:
3 ، والمراجع هناك.
(3) اللغة الأولى"نقم"
(بفتحتين)"ينقم" (بكسر القاف) = واللغة الثانية"نقم" (بفتح
فكسر)"ينقم" (بكسر القاف أيضا).
(4) في المطبوعة: "قرأ بها" بالإفراد ،
والصواب ما في المخطوطة ، ويعني"نقمت" ، أنقم. من اللغة الثانية.
(5) "وجدت" من قولهم: "وجد عليه يجد
وجدًا وموجدة": غضب.
(6) مختلف في اسمه يقال: "عبد الله" ويقال:
"عبيد الله" بالتصغير ، وهو الأكثر.
(7) ديوانه: 70 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 170 ،
واللسان (نقم) ، من قصيدته التي قالها لعبد الملك بن مروان ، في خبر طويل ذكره أبو
الفرج في الأغاني 5: 76- 80 ، وبعد البيت:
وأنَّهُمْ مَعْدِنَ المُلُوكِ، فَلا ... تَصْلُحُ إلا عَلَيْهِمُ العَرَبُ
إِن الفَنِيق الَّذِي أَبُوهُ أَبُو ... العَاصِي،
عَلَيْهِ الوَقَارُ والحُجُبُ
خَلِيفَةُ اللهِ فَوْقَ مِنْبَرِه ... جَفَّتْ بِذَاكَ
الأقْلامُ والكُتُبُ
يَعْتَدِلُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرِقِهِ ... عَلَى
جَبِينٍ كأَنّهُ الذَّهَبُ
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من اليهود.
ذكر من قال ذلك:
12219 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير
قال، حدثنا محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني
سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ
من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، (1) وزيد، وخالد،
وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أومن بالله وما أنزل
إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى
وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. (2) فلما ذكر
عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به! (3) فأنزل الله فيهم:"قل يا أهل
الكتاب هل تنقمون منا إلا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم
فاسقون". (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "عازي" ، وصوابه من المراجع
الآتي ذكرها.
(2) هذا تضمين آية سورة البقرة: 136.
(3) في المخطوطة: "لا نؤمن آمن به" ،
أسقط"بمن".
(4) الأثر: 12219- سيرة ابن هشام 2: 216 ، ومضى بالإسنادين
رقم 2101 ، 2102 .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا
وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
= عطفًا بها على"أن" التي في قوله:"إلا
أن آمنا بالله"، (1) لأن معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيمانَنا بالله
وفسقكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ
عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار="هل أنبئكم"، يا معشر أهل الكتاب، بشر من
ثواب ما تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنزل إلينا من كتاب الله، وما أنزل من
قبلنا من كتبه؟ (2)
* * *
[و"مثوبة"، تقديرها مفعولة"]، غير أن عين الفعل لما سقطت نقلت حركتها
إلى"الفاء"، (3) وهي"الثاء" من"مثوبة"، فخرجت
مخرج"مَقُولة"، و"مَحُورة"، و"مَضُوفة"، (4)
كما قال الشاعر: (5)
__________
(1) يعني قوله: "وأن أكثركم فاسقون" ، فتح
الألف من"وأن" ، عطفًا بها على"أن" التي في قوله: "إلا
أن آمنا بالله".
(2) انظر تفسير"مثوبة" فيما سلف 2: 458 ، 459.
(3) كان في المطبوعة: "غير أن العين لما سكنت نقلت
حركتها إلى الفاء..." ، سقط صدر الكلام ، فغير ما كان في المخطوطة ، فأثبت ما
أثبته بين القوسين ، استظهارًا من إشتقاق الكلمة. والذي كان في المخطوطة:
"غير أن الفعل لما سقط نقلت حركتها إلى الفاء" ، سقط أيضًا صدر الكلام
الذي أثبته بين القوسين ، وسقط أيضًا"عين" من قوله: "عين
الفعل". وأخشى أن يكون سقط من الكلام غير هذا. انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة
1: 170 ، وذلك قراءة من قرأ"مثوبة" (بفتح فسكون ففتح).
(4) في المطبوعة: "محوزة" بالحاء والزاي وفي
المخطوطة: "محوره ومصرفه" غير منقوطة. والصواب ما أثبت. ويأتي في بعض
الكتب كالقرطبي 6: 243"مجوزة" بالجيم والزاي ، وكل ذلك خطأ ، صوابه ما أثبت.
و"المحورة" من"المحاورة" ، مثل" المشورة"
و"المشاورة" يقال: "ما جاءتني عنه محورة" ، أي: ما رجع إليّ عنه خبر. وحكى ثعلب: "اقض محورتك" ،
أي الأمر الذي أنت فيه. ويقال فيها أيضًا: "محورة" (بفتح الميم وسكون
الحاء) ومنه قول الشاعر: لِحَاجَةِ ذي بَثٍّ ومَحْوَرةٍ لَهُ، ... كَفَى رَجْعُهَا مِنْ
قِصَّةِ المُتَكَلِّمِ
(5) هو أبو جندب الهذلي.
وَكنْتُ إذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفةٍ... أُشَمِّر
حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقُ مِئْزَرِي (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12220 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله"،
يقول: ثوابًا عند الله.
12221 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله"
قال:"المثوبة"، الثواب،"مثوبة الخير"، و"مثوبة
الشر"، وقرأ:( خَيْرٌ ثَوَابًا ) [سورة الكهف: 44]. (2)
* * *
__________
(1) أشعار الهذليين 3: 92 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1:
170 ، واللسان (ضيف) (نصف) وغيرها كثير ، وبعده: وَلَكِنَّنيِ جَمْرُ الغَضَا من
وَرَائِهِ ... يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إذَا لَمْ أُخَفَّرِ
أَبَى النَّاسُ إلا الشَّرَّ مِنِّي، فَدَعْهُمُ ...
وَإيّايَ مَا جَاءُوا إلَيَّ بِمُنْكَرِ
إذَا مَعْشَرٌ يَوْمًا بَغَوْنِي بَغَيْتُهُمُ ...
بِمُسْقِطَةِ الأحْبَالِ فَقْمَاءَ قِنْطِرِ
و"المضوفة" و"المضيفة"
و"المضافة": الأمر يشفق منه الرجل. وبها جميعًا روى البيت."ضاف
الرجل وأضاف": خاف. و"نصف الإزار ساقه": إذا بلغ نصفها. يريد بذلك
اجتهاده في الدفاع عمن استجار به. وقوله: "ولكني جمر الغضا..." ، يقول:
أتحرق في نصرته تحرقًا كأنه لهب باق من جمر الغضا. وقوله: "يخفرني
سيفي...". يقول: سيفي خفيري إذا لم أجد لي خفيرًا ينصرني. وقوله: "مسقطة
الأحبال": يريد: أعمد إليهم بداهية تسقط الحبالي من الرعب. و"فقماء".
وصف للداهية المنكرة ، يذكر بشاعة منظرها يقال: "امرأة فقماء": وهي التي
تدخل أسنانها العليا إلى الفم ، فلا تقع على الثنايا السفلى ، وهي مع ذلك مائلة
الحنك. و"قنطر" هي الداهية ، وجاء بها هنا وصفًا ، وكأن معناها عندئذ
أنها داهية تطبق عليه إطباقًا ، كالقنطرة التي يعبر عليها تطبق على الماء. ولم
يذكر أصحاب اللغة هذا الاشتقاق ، وإنما هو اجتهاد مني في طلب المعنى.
وكان صدر البيت الشاهد في المخطوطة: "وكنت إذا جاي
دعالم" ، ولم يتم البيت ، وأتمته المطبوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "شر ثوابا" ، وليس
في كتاب الله آية فيها"شر ثوابا" ، فأثبت آية الكهف التي استظهرت أن
يكون قرأها ابن زيد في هذا الموضع. ونقل السيوطي في الدر المنثور 2: 295 ، وكتب:
"وقرئ: بشر ثوابًا" ، ولم أجد هذه
القراءة الشاذة ، فلذلك استظهرت ما أثبت. هذا ، وقد سقط من الترقيم رقم: 12222
سهوا.
وأما"مَنْ" في قوله:"من لعنه الله"،
فإنه في موضع خفض، ردًّا على قوله:"بشرّ من ذلك". فكأن تأويل الكلام، إذ كان ذلك
كذلك: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله، بمن لعنه الله.
ولو قيل: هو في موضع رفع، لكان صوابًا، على الاستئناف،
بمعنى: ذلك من لعنه الله= أو: وهو من لعنه الله.
ولو قيل: هو في موضع نصب، لم يكن فاسدًا، بمعنى: قل هل
أنبئكم من لعنه الله (1) = فيجعل"أنبئكم" عاملا في"من"،
واقعًا عليه. (2)
* * *
وأما معنى قوله:"من لعنه الله"، فإنه يعني: من
أبعده الله وأسْحَقه من رحمته (3)
="وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير"،
يقول: وغضب عليه، وجعل منهم المُسوخَ القردة والخنازير، غضبًا منه عليهم وسخطًا،
فعجَّل لهم الخزي والنكال في الدنيا. (4)
* * *
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 314.
(2) في المطبوعة: "فيجعل"أنبئكم" على ما
في"من" واقعًا عليه" ، وفي المخطوطة: "فيجعل"أنبئكم" علامًا
فيمن واقعًا عليه" ، وكلاهما فاسد ، وصواب قراءة ما أثبت ، ولكن أخطأ الناسخ
كعادته في كتابته أحيانًا. و"الوقوع" التعدي ، كما سلف مرارًا ، انظر
فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(3) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 9: 213 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"غضب الله" فيما سلف 1: 188 ،
189/2: 138 ، 345/7: 116/9: 57.
وأما سبب مَسْخ الله من مَسخ منهم قردة، فقد ذكرنا بعضه
فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا. (1)
* * *
وأما سبب مسخ الله من مَسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما:-
12223 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن
ابن إسحاق، عن عُمرَ بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، قال: حدِّثت أن
المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من
قرى بني إسرائيل، وكان فيها مَلِك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة،
إلا أنّ تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله، (2) حتى إذا اجتمع
إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله،
وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت، وخرج إليها ذلك الملك في الناس،
فقتل أصحابها جميعًا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمَّع الناس
إليها، حتى إذا رضيت منهم، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعًا
وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها،
أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعًا، وانفلتت من بينهم، فرجعت وقد أيست،
وهي تقول: سبحان الله، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ، لقد أظهره بَعْدُ! قال: فباتت محزونة،
وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت
حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعزَّ دينه وأمر دينه! قال: فما كان
مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ تلك المرأة. (3)
__________
(1) انظر ما سلف 2: 167- 172/8: 447 ، 448/ وما سيأتي في
التفسير 9: 63- 70 (بولاق).
(2) في المخطوطة: "تدعوا الله"
بحذف"إلى" ، والصواب ما في المطبوعة ، بدليل ما سيأتي بعد . وأما قوله:
"واستجمعوا على الهلكة" فإنه يعني: قد أشرفت جمعاتهم على الهلاك بكفرهم.
(3) الأثر: 12223-"عمر بن كثير بن أفلح ، مولى أبي
أيوب الأنصاري" ، روى عن كعب بن مالك ، وابن عمر ، وسفينة ، وغيرهم. وذكره
ابن حبان في الثقات ، في أتباع التابعين. وقال ابن سعد: "كان ثقة ، له
أحاديث". وقال ابن أبي حاتم: "روى عنه محمد بن بشر العبدي ، وحماد بن
خالد الخياط ، وأبو عون الزيادي" ، غير أن أبا عون قال: "عمرو بن كثير
بن أفلح" ، وهو وهم منه". وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عمرو بن
كثير" ، فتابعت ابن أبي حاتم. وهو مترجم في التهذيب"عمر" ، وابن
أبي حاتم 3/1/130.
12224 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجعل منهم القردة
والخنازير"، قال: مسخت من يهود.
12225 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه، سنذكره في موضعه
إن شاء الله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين:(
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )، بمعنى: وجعل منهم
القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، بمعنى:"عابد"، فجعل"عبد"، فعلا ماضيًا من صلة المضمر،
ونصب"الطاغوتَ"، بوقوع"عبَدَ" عليه.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين:( وَعَبُدَ الطَّاغُوتَ )
بفتح"العين" من"عبد" وضم بائها، وخفض"الطاغوت"
بإضافة"عَبُد" إليه. وعنوا بذلك: وخدَمَ الطاغوت.
12226 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا
عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني حمزة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ:(
وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ ) يقول: خدم= قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرأها.
__________
(1) لم أعرف مكانه فيما سيأتي من التفسير ، فإذا عثرت
عليه أثبته إن شاء الله. ولعل منه ما سيأتي في الآثار رقم: 12301- 12304. وانظر رقم:
7110.
12227 - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن
الأعمش: أنه كان يقرأها كذلك.
* * *
وكان الفَرَّاء يقول: إن تكن فيه لغة
مثل"حَذِرٍ" و"حَذُر"، و"عجِلٍ"، و"وعَجُلٍ"، فهو وجه، والله أعلم= وإلا فإن أراد قول
الشاعر: (1)
أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ... أَمَةٌ وَإنَّ
أَبَاكُمُ عَبُدُ (2)
فإن هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة
القوافي، وأما في القراءة فلا. (3)
* * *
وقرأ ذلك آخرون:( وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ ) ذكر ذلك عن
الأعمش.
* * *
وكأنَّ من قرأ ذلك كذلك، أراد جمع الجمع
من"العبد"، كأنه جمع"العبد""عبيدًا"، ثم
جمع"العبيد""عُبُدًا"، مثل:"ثِمَار وُثُمر". (4)
* * *
وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرأه: (5) ( وَعُبِدَ
الطَّاغُوتُ ).
12228 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الرحمن قال: كان أبو جعفر النحويّ يقرأها:( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ )، كما
يقول:"ضُرِب عبدُ الله".
* * *
__________
(1) هو أوس بن حجر.
(2) ديوانه ، القصيدة: 5 ، البيت: 4 ، ومعاني القرآن
للفراء 1: 314 ، 315 ، واللسان (عبد) ، وقد مضى منها بيت فيما سلف ص: 275 ، وقبل
البيت: أَبَنِي لُبَيْنِيَ لَسْتُ مُعْترِفًا ... لِيَكُونَ أَلأَمَ مِنْكُمُ
أَحَدُ
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 314 ، 315.
(4) كان الأجود أن يقول: "كأنه جمع العبد عبادًا ،
ثم جمع العباد عبدًا ، مثل ثمار وثمر" ، وهو ظاهر مقالة الفراء في معاني
القرآن 1: 314.
(5) في المطبوعة: "أنه يقرؤه"
بحذف"كان" ، وأثبت ما في المخطوطة.
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى
ذكره، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام، فكان فيما ذمَّهم به عبادُتهم الطاغوت. وأما
الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس
ما ختمها به، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة. (1)
* * *
وذكر أن بُريدة الأسلمي كان يقرأه:( وعابد الطاغوت ). (2)
12229 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا
عبد الرحمن قال، حدثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرأه كذلك.
* * *
ولو قرئ ذلك:( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )، بالكسر، كان له
مخرج في العربية صحيح، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من
القرأة بخلافها. ووجه جوازها في العربية، أن يكون مرادًا بها"وعَبَدَة
الطاغوت"، ثم حذفت"الهاء" للإضافة، كما قال الراجز: (3)
قَامَ وُلاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا (4)
يريد: قام وُلاتها، فحذف"التاء"
من"ولاتها" للإضافة. (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قراءة القرأة، فبأحد الوجهين اللذين
بدأت بذكرهما،
__________
(1) في المطبوعة: "من الصحة" ، والصواب ما في
المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "وعابد الشيطان" ، وهو خطأ
لا شك فيه ، صححته المطبوعة ، وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه: 34.
(3) لم أعرف الراجز.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 314 ، وقوله:
"صرخد" جعلها الخمر الصرخدية نفسها. وأما أصحاب اللغة ، فيقولون:
"صرخد" ، موضع بالشأم ، من عمل حوران ، تنسب إليه الخمر الجيدة.
(5) انظر ما سلف جميعه في معاني القرآن للفراء 1: 314 ،
315.
وهو:( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )، بنصب"الطاغوت"
وإعمال"عبد" فيه، وتوجيه"عبد" إلى أنه فعل ماض
من"العبادة".
والآخر:(وعبد الطاغوت)، على مثال"فَعُلٍ"،
وخفض"الطاغوت" بإضافة"عَبُدٍ" إليه.
فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من
الأوجه التي هي أصح مخرجًا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة، قراءة
من قرأ ذلك( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد
الطاغوت، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود:( وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )، بمعنى: والذين عبدوا الطاغوت= ففي ذلك دليل
واضحٌ على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومَن عبد الطاغوت، وأن النصب
بـ"الطاغوت" أولى، على ما وصفت في القراءة، لإعمال"عبد" فيه،
إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها.
على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"مَنْ" و"الذي"
المضمرين مع"مِنْ" و"في" إذا كفت"مِنْ"
أو"في" منهما ويستقبحونه، حتى كان بعضهم يُحيل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي
يحيل ذلك يقرأه:( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز.
وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح. فالواجب على قولهم
أن تكون القراءة بذلك قبيحة. وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام، قد اختاروا القراءة
بها، وإعمال و"جعل" في"مَنْ"، وهي محذوفة مع"مِن".
ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة
عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضًا
فيهم لا يتناكرونه، (1) فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره. فلذلك لم نستجز القراءة
بخلاف إحدى القراءتين
__________
(1) في المطبوعة: "فهم لا يتناكرونه" ، وأثبت
ما في المخطوطة.
اللتين ذكرنا أنهم لم يعدُوهما.
* * *
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل
أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة
والخنازير، ومن عبد الطاغوت.
* * *
وقد بينا معنى"الطاغوت" فيما مضى بشواهده من
الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما قوله:"أولئك شر مكانًا وأضلُّ عن سواء
السبيل"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره، وهم الذين وصفَ صفتهم
فقال:"من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد
الطاغوت"، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم="شر
مكانًا"، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نَقَمتم عليهم، يا معشر
اليهود، إيمانَهم بالله، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب، وبما أنزل إلى من
قبلهم من الأنبياء="وأضل عن سواء السبيل"، يقول تعالى ذكره: وأنتم مع
ذلك، أيها اليهود، أشد أخذًا على غير الطريق القويم، وأجورُ عن سبيل الرشد والقصد
منهم. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا من لَحْنِ الكلام. (3) وذلك أن الله
تعالى ذكره إنما
__________
(1) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 5: 416-
419/8: 461-465 ، 507- 513 ، 546.
(2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس
اللغة.
= وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف 10: 124 ،
تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(3) "اللحن" هنا بمعنى التعريض والإيماء ،
عدولا عن تصريح القول. قال ابن بري:
"للحن ستة معان: الخطأ في الإعراب ، واللغة ،
والغناء ، والفطنة ، والتعريض ، والمعنى".
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ (61)
قصد بهذا الخبر إخبارَ اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات
قبل هذه، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، حتى
مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطابًا منه لهم بذلك، تعريضًا بالجميل من الخطاب،
ولَحَن لهم بما عَرَفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، (1) وعلَّم نبيه صلى الله
عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له: قل لهم، يا محمد، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه
الذين تستهزئون منهم، شرٌّ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقولَ ذلك لهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا
آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءكم، أيها المؤمنون،
هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم:"آمنا": أي صدّقنا بما جاء به
نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم،
قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم، وهم يبدون
كذبًا التصديق لكم بألسنتهم="وقد خرجوا به"، يقول: وقد خرجوا بالكفر من
عندكم كما دخلوا به عليكم، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن
ذلك من فعلهم يخفى على الله، جهلا منهم بالله="والله أعلم بما كانوا
يكتمون"، يقول: والله أعلم بما كانوا- عند قولهم لكم بألسنتهم:"آمنا
بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء
__________
(1) أي: عرض لهم بأحسن التعريض والإيماء.
به"- يكتمون منهم، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم.
(1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12230 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا" الآية، أناسٌ من اليهود،
كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء
به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله
صلى الله عليه وسلم.
12231 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد
خرجوا به"، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارًا،
وخرجوا كفارًا.
12232 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني
عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد
دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسرُّ
قلوبهم الكفر، فقال:"دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به".
12233 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد
خرجوا به"=( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي
أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) في المطبوعة: "مما يضمرونه" ، والصواب من المخطوطة"بما".
وسياق هذه الجملة بعد إسقاط الجمل المعترضة المفسرة: والله أعلم بما كانوا...
يكتمون منهم... بأنفسهم" أي: أعلم منهم بأنفسهم. وقوله: "بما يضمرون من
الكفر" ، متعلق بقوله: "والله أعلم بما كانوا يكتمون" تفسيرًا
لقوله: "بما كانوا يكتمون".
وانظر تفسير"الكتمان" فيما سلف 2: 228 ، 229.
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ )، [سورة آل عمران: 72]. فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب
وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.
12234 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا
به"، أي: إنه من عندهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم:"وترى" يا محمد ="كثيرًا"، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني
إسرائيل="يسارعون في الإثم والعدوان"، يقول: يعجلون بمواقعة الإثم. (1)
* * *
وقيل: إن"الإثم" في هذا الموضع، معنيّ به
الكفر. (2)
12235 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم
والعدوان"، قال:"الإثم"، الكفر.
12236 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان"،
وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم. (3)
__________
(1) انظر تفسير"المسارعة" فيما سلف 10: 404 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف 9: 196 ، 197
، ثم سائر فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة: "في أحكام اليهود" ، والصواب
من المخطوطة.
12237 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"يسارعون في الإثم والعدوان"، قال: هؤلاء اليهود="لبئس
ما كانوا يعملون"=( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ )، إلى قوله:(
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )، قال:"يصنعون" و"يعملون"
واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا.
قال: وذلك الإدهان. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي، وإن كان
قولا غير مدفوع جوازُ صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام: أن يكون القوم
موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله، لا يتحاشون من شيء منها، لا من كفر ولا
من غيره. لأن الله تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في
الإثم والعدوان، من غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم.
* * *
وأما"العدوان"، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه
الله لهم في كل ما حدَّه لهم. (2)
* * *
وتأويل ذلك: أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات
بما وصفهم به تعالى ذكره، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره، ويتعدَّون
حدودَه التي حدَّ لهم فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم، في أكلهم"السحت"= وذلك
الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم. (3)
* * *
يقول الله تعالى ذكره:"لبئس ما كانوا يعملون"،
يقول: أقسم لَبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون، في مسارعتهم في الإثم
والعدوان، وأكلهم السحت.
* * *
__________
(1) قوله: "وذلك الإدهان"حذفت من المطبوعة ،
وهي في المخطوطة سيئة الكتابة هكذا: "قال: وذلك الإركان" ، وصواب قراءته
ما أثبت. و"الإدهان": اللين والمصانعة ، في الدين وفي كل شيء ، وفي
التنزيل: "ودوا لو تدهن فيدهنون".
(2) انظر تفسير"العدوان" فيما سلف 9: 362 ،
تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"السحت" فيما سلف 10: 317- 324.
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
(63)
القول في تأويل قوله : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين
يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل، (1)
ربانيوهم= وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم (2) = وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم (3)
="عن قولهم الإثم" يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون
فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون:"هذا من حكم الله، وهذا
من كتبه". يقول الله:( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) [سورة البقرة: 79].
* * *
وأما قوله:"وأكلهم السحت"، فإنه يعني به
الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به.
* * *
وقد بينا معنى"الربانيين"
و"الأحبار" ومعنى"السحت"، بشواهد ذلك فيما مضى، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
="لبئس ما كانوا يصنعون"، وهذا قسم من الله
أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار،
في تركهم نهيَ الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت، عما كانوا يفعلون
من ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"لولا" بمعنى: "هلا"
، فيما سلف 2: 552 ، 553.
(2) انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف 5: 540-
544/10: 341- 343
(3) انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف 6: 543 ،
544/10: 341- 343
(4) انظر التعليقات السالفة قريبًا.
وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا
للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها.
12238 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود
قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله:"لولا ينهاهم الربانيون
والأحبار عن قولهم الإثم" قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا
ننهى. (1)
12239 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا
قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية
أشدَّ توبيخًا من هذه الآية:( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم
وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ) قال: كذا قرأ. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12240 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع
قال، حدثنا أبي= عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار
عن قولهم الإثم وأكلهم السحت" [قال:"الربانيون والأحبار"، فقهاؤهم
وقراؤهم وعلماؤهم. قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية!]. (3)
__________
(1) الأثر:
12238-"عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني"
، أبو عبد الرحمن الخريبي. كان ثقة عابدًا ، وكان عسرًا في الرواية. مترجم في
التهذيب.
(2) الأثر: 12239-"ابن عطية" هو: "الحسن
بن عطية بن نجيح القرشي" ، أبو علي البزار مضى برقم: 1939 ، 4962 ، 7535 ،
8961 ، 8962. وهو الذي يروي عنه أبو كريب ويقول: "ابن عطية" ، وكان في
المطبوعة والمخطوطة: "أبو عطية". وهو خطأ.
و"قيس" ، هو"قيس بن الربيع الأسدي"
، مضى برقم: 159 ، 4842 ، 5413 ، 6892 ، 7535.
و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي" ، مضى
برقم: 3789.
و"خالد بن دينار التميمي السعدي" مضى برقم: 44
، ولم يدرك ابن عباس.
(3) الأثر: 12240- كان في المطبوعة"... وأكلهم
السحت لبئس ما كانوا يصنعون"
، أتم الآية
، وليس للخبر تتمة. أما المخطوطة ، فليس فيها تتمة الآية ولا تتمة الخبر ، والذي
أثبته من الدر المنثور 1: 296 قال: "وأخرج عبد بن حميد من طريق سلمة بن
نبيط..." ، وساق الأثر كما أثبته.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64)
12241 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لولا ينهاهم
الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"،
يعني: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة
اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه
نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه
عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم= واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها
كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من
اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من
علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر
عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم.
* * *
يقول تعالى ذكره:"وقالت اليهود"، من بني
إسرائيل="يد الله مغلولة"، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن
الاتساع عليهم، كما قال تعالى
ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم:( وَلا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) [سورة
الإسراء: 29].
* * *
وإنما وصف تعالى ذكره"اليد" بذلك، والمعنى
العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في
وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك
من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ... وَكَفٌّ إذَا
مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ (1)
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة
إلى"اليد". ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن
يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال:"وقالت
اليهود يد الله مغلولة"، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا
فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف،
تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله! (2)
__________
(1) ديوانه: 150 ، وغيره. من قصيدته الغالية التي رفعت
المحلق وطارت بذكره في الآفاق ، يقول له: لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ
كَثِيرَةٌ ... إلَى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُ
تُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِا ... وَبَاتَ
عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحَلَّقُ
رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَا ...
بِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا نَتَفَرَّقُ
تَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ ...
كَمَا زَانَ مَتْنَ الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُ
يَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ
إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
هذه رواية مخطوطة ديوانه التي صورتها حديثًا ، ورواية
هذه المخطوطة تخالف الرواية المطبوعة في أشياء كثيرة ، ولا سيما في ترتيب أبيات
الشعر.
(2) في المطبوعة: "عما قال أعداء الله" ،
وأثبت ما في المخطوطة ، وقوله: "أعداء الله" منصوب على الذم.
فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم:"غلت
أيديهم"، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط
بالعطيات="ولعنوا بما قالوا"، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا
من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك (1)
="بل يداه مبسوطتان"، يقول: بل يداه مبسوطتان
بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين (2)
="ينفق كيف يشاء"، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه. (3)
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12242 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وقالت اليهود
يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، قال: ليس يعنون بذلك أن يد
الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا
كبيًرا.
12243 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يد الله مغلولة"،
قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله = يا بني إسرائيل، (4) حتى
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 10: 437 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"البسط" فيما سلف 5: 288 ، 290
، 313.
(3) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف 7: 134 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك ، ثم سائر فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة ، حذف ما وضعته بين الخطين ، وكان في
المخطوطة: "لقد تجهدنا الله ، أي تجهدنا الله يا بني إسرائيل" ، ورجحت
أن صوابها كما أثبتها. ولم يذكر في كتب اللغة"تجهد" (مشددة الهاء)
بمعنى: ألح عليه في السؤال حتى أفنى ما عنده ، وكأنه من أجل ذلك فسره بقوله (كما
قرأته): "أي جهدنا الله" من قولهم"جهد الرجل" (ثلاثيا): إذا
ألح عليه في السؤال. هذا ما رأيته ، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر الأثر التالي.
جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!
12244 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يد الله مغلولة"، قال: اليهود تقوله:
(1) لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، (2) حتى إن يده إلى
نحره="بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء".
12245 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" إلى"والله
لا يحب المفسدين"، أما قوله:"يد الله مغلولة"، قالوا: الله بخيل
غير جواد! قال الله:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".
12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا
بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، قالوا: إن الله وضع يده على
صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا.
* * *
= وأما قوله:"ينفق كيف يشاء"، يقول: يرزق كيف
يشاء.
12247 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة:"وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية،
نزلت في فنْحاص اليهوديّ.
12248 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو
تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله:"يد الله مغلولة"،
يقولون: إنه
__________
(1) في المطبوعة: "اليهود تقول" ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) انظر التعليق السالف ص: 452 ، رقم: 4.
بخيل ليس بجواد! قال الله:"غلت أيديهم"، أمسكت
أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف
يشاء". وقال:( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) [سورة
الإسراء: 29]، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله:"بل
يداه مبسوطتان". (1) فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه. وقال: ذلك
بمعنى:"يد الله على خلقه"، وذلك نعمه عليهم. وقال: إن العرب
تقول:"لك عندي يد"، يعنون بذلك: نعمةٌ.
* * *
وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة. وقالوا: ذلك نظير قول
الله تعالى ذكره:( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
أُولِي الأيْدِي ) [سورة ص: 45].
* * *
وقال آخرون منهم: بل"يده"، ملكه. وقال: معنى
قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، ملكه وخزائنه.
قالوا:
وذلك كقول العرب للمملوك:"هو ملك يمينه"،
و"فلان بيده عُقدة نكاح فلانة"، أي يملك ذلك،
وكقول الله تعالى ذكره:( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً )، [سورة
المجادلة: 12].
* * *
وقال آخرون منهم: بل"يد الله" صفة من صفاته،
هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما
خصّه به من خلقه إياه بيده. (2)
__________
(1) هذه أول مرة يذكر فيها أبو جعفر أصحاب الكلام ويسميهم"أهل
الجدل".
(2) في المطبوعة: "عن خصوصية آدم" ،
وأعاد"خصوصية" بالنسب في جميع ما سيأتي ، وهو عبث من المصحح ، وأثبت ما
في المخطوطة.
قالوا:
ولو كان [معنى"اليد"، النعمة، أو القوة، أو
الملك، ما كان لخصوصِه] آدم بذلك وجه مفهوم، (1) إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته،
ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك.
قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه
بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من
سائر الخلق.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال:
معنى"اليد" من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع.
قالوا:
وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن:"يد
الله" في قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، هي نعمته،
لقيل:"بل يده مبسوطة"، ولم يقل:"بل يداه"، لأن نعمة الله لا
تحصى كثرة. (2) وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) [سورة إبراهيم: 34\ وسورة النحل: 18]
قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين.
قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة،
فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع
جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره:( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ )
[سورة العصر: 1، 2] وكقوله( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ )، [سورة الحجر: 26]
وقوله:( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) [سورة الفرقان: 55]، قال:
فلم يُرَدْ بـ"الإنسان" و"الكافر" في هذه الأماكن إنسان
بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد
أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب:
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام ،
استظهرتها من سياق هذه الحجج ما استطعت ، وإسقاطها مفسد للكلام.
(2) في المطبوعة: "لا تحصى بكثرة" ، وأثبت ما
في المخطوطة.
"ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، وكذلك قوله:(
وَكَانَ الْكَافِرُ ) معناه: وكان الذين كفروا.
قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا
يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. (1)
قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال:"ما أكثر
الدرهمين في أيدي الناس"، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم.
قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا
عن اثنين بأعيانهما.
قالوا: وغيرُ محال:"ما أكثر الدرهم في أيدي
الناس"، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم"، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.
قالوا:
ففي قول الله تعالى:"بل يداه مبسوطتان"، مع
إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن
اثنين يؤدّيان عن الجميع= ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى"اليد"، في
هذا الموضع، النعمة= وصحةِ قول من قال: إن"يد الله"، هي له صفة.
قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا
مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا
علماؤهم وأحبارهم،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا يؤدي إلا عن
اثنين" ، وهو لا يستقيم بالفاء ، إنما يستقيم بالواو كما أثبته.
احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن
يقول:"ما جاءنا من بشير ولا نذير"=:"ليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل
إليك من ربك طغيانًا وكفرًا". يعني بـ"الطغيان": الغلو في إنكار ما
قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في
ذلك="وكفرًا"، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة
الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا:"يد الله
مغلولة". وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ
وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي
بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم
إياه.
* * *
وقد بينت معنى"الطغيان" فيما مضى بشواهده، بما
أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12249 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، حملهم
حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف 1: 308 ،
309/5: 419.
القول في تأويل قوله : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وألقينا
بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، بين اليهود و النصارى، كما:-
12250 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة"، اليهود والنصارى.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"وألقينا بينهم العداوة
والبغضاء"، جعلت"الهاء والميم" في قوله:"بينهم"، كناية
عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟
قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله:( لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )، [سورة
المائدة: 51]، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن
انتهى إلى قوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، ثم قصد بقوله:"ألقينا بينهم"، الخبرَ عن الفريقين.
* * *
القول في تأويل قوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء
فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم
وخُبْثِ نياتهم، (1) كالذي:-
__________
(1) انظر تفسير"أوقد" فيما سلف 1: 320 ،
380/6: 222.
12251 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ
الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ ) [سورة الإسراء: 4- 6]، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم
عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد.
فغَبَرُوا زمانًا، (1) ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم
كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم
بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ
الثاني= قال: و"الفساد"، المعصية= ثم
قال،( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلى قوله:( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) [سورة
الإسراء: 7، 8] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره
وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. (2) ومات عزير، وكانت أحداثٌ،
ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا:"يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا
بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، وقالوا في عزير:"إن الله
اتخذه ولدًا"، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما
نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن
يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، (3) فقال:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله
ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين"، فبعث الله عليهم المجوس
الثالثةَ أربابًا، (4) فلم يزالوا كذلك والمجوس
__________
(1) في المطبوعة: "فغيروا" بالياء ، وهو
خطأ."غبروا زمانا": لبثوا زمانًا.
(2) في المطبوعة: "ونسوا" ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يظهروا" ،
والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "المجوس الثلاثة أربابًا" ،
والصواب ما في المخطوطة ، ويعني وعد الآخرة ، وهي المرة الثالثة.
على رقابهم، وهم يقولون:"يا ليتنا أدركنا هذا النبي
الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون"!
فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم= واسمه"محمد"، واسمه في
الإنجيل"أحمد"= فلما جاءهم وعرفوا، (1) كفروا به، قال:( فَلَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الْكَافِرِينَ ) [سورة البقرة:
89]، وقال:(
فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ )، بسورة البقرة: 90]. (2)
12252 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"،
هم اليهود.
12253 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا"،
أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود
ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس
أبغضِ خلقه إليه.
12254 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها
الله"، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم،
(3) وقذف في قلوبهم الرعب.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلما جاءهم ما عرفوا..."
كنص آية البقرة: 89 ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب أيضًا ، لا يريد الآية ، بل
أراد معناها.
(2) الأثر: 12251- هذا الأثر ، لم يذكره أبو جعفر في
تفسير آيات"سورة الإسراء:
4- 8" في تفسيره 15: 17- 35 (بولاق). وهذا أحد
الأدلة على اختصار التفسير.
(3) "الحد": البأس والنفاذ. و"حد
الظهيرة": شدة توقدها.
وقال مجاهد بما:-
12255 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها
الله"، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ
فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود
والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك
سعيُهم فيها بالفساد=
"والله لا يحب المفسدين"، يقول: والله لا يحب
من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف:
287 ، 416/ ثم 10: 257 تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
= وتفسير"السعي" فيما سلف 4: 238 ، وفي سائر
فهارس اللغة.
المائدة - تفسير الدر المنثور
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
- قَوْله تَعَالَى: وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة
اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ
- أخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل من طَرِيق
الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} أَمر
الله
قَالَ: كَانَ مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا نَادَى بِالصَّلَاةِ فَقَامَ الْمُسلمُونَ إِلَى الصَّلَاة قَالَت
الْيَهُود: قد قَامُوا لَا قَامُوا فَإِذا رَأَوْهُمْ ركعا وَسجدا استهزأوا بهم
وَضَحِكُوا مِنْهُم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ
عَن السّديّ فِي قَوْله {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا
وَلَعِبًا} قَالَ: كَانَ رجل من النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذا سمع
الْمُنَادِي يُنَادي: أشهد أَن مُحَمَّد رَسُول الله
قَالَ:
أحرق الله الْكَاذِب فَدخل خادمه ذَات لَيْلَة من
اللَّيَالِي بِنَار وَهُوَ قَائِم وَأَهله نيام فَسَقَطت شرارة فاحرقت الْبَيْت
وَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهله
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن شهَاب
الزُّهْرِيّ قَالَ: قد ذكر الله الْأَذَان فِي كِتَابه فَقَالَ {وَإِذا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة}
وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف عَن عبيد بن
عُمَيْر قَالَ ائتمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه كَيفَ
يجْعَلُونَ شَيْئا إِذا أَرَادوا جمع الصَّلَاة اجْتَمعُوا لَهَا بِهِ فائتمروا
بالناقوس فَبينا عمر بن الْخطاب يُرِيد أَن يَشْتَرِي خشبتين للناقوس إِذْ رأى فِي
الْمَنَام ان لاتجعلوا الناقوس بل أذنوا بِالصَّلَاةِ فَذهب عمر إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليخبره بِالَّذِي رأى وَقد جَاءَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْوَحْي بذلك فَمَا رَاع عمر إِلَّا بِلَال يُؤذن فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد سَبَقَك بذلك الْوَحْي حِين أخبرهُ بذلك عمر
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
- قَوْله تَعَالَى: قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ
منا إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن
أَكْثَرَكُم فَاسِقُونَ
- أخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر
وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: أَتَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفر من يهود فيهم أَبُو يَاسر بن أَخطب وَنَافِع بن أبي
نَافِع وغازي بن عَمْرو وَزيد بن خَالِد وازار بن أبي أزار وأسقع فَسَأَلُوهُ
عَمَّن يُؤمن بِهِ من الرُّسُل قَالَ: أُؤْمِن بِاللَّه {وَمَا أنزل إِلَيْنَا
وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرِّق بَين
أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} فَلَمَّا ذكر عِيسَى جَحَدُوا نبوّته
وَقَالُوا: لانؤمن بِعِيسَى فَأنْزل الله {قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا
إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} إِلَى قَوْله {فَاسِقُونَ}
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا
وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
- قَوْله تَعَالَى: قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة
عِنْد الله من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد
الطاغوت أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل
- أخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد قَالَ: المثوبة
الثَّوَاب مثوبة الْخَيْر ومثوبة الشَّرّ وقرىء بشر
ثَوابًا
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ فِي قَوْله {مثوبة
عِنْد الله} يَقُول: ثَوابًا عِنْد الله
قَوْله تَعَالَى: {وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو
الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير} قَالَ: مسخت
من يهود
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن أبي مَالك
أَنه قيل: أَكَانَت القردة والخنازير قبل أَن يمسخوا
قَالَ: نعم وَكَانُوا مِمَّا خلق من الْأُمَم
وَأخرج مُسلم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود قَالَ
سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن القردة والخنازير أَهِي مِمَّا
مسخ الله فَقَالَ: إِن الله لم يهْلك قوما أَو يمسخ قوما فَيجْعَل لَهُم نَسْلًا
ولاعاقبة وَإِن القردة والخنازير قبل ذَلِك
وَأخرج الطَّيَالِسِيّ وَأحمد وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو
الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود قَالَ سَأَلنَا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن القردة والخنازير أَهِي من نسل من الْيَهُود فَقَالَ: لَا
إِن الله لم يعلن قوما قطّ فمسخم فَكَانَ لَهُم نسل وَلَكِن هَذَا خلق فَلَمَّا
غضب الله على الْيَهُود فمسخهم جعلهم مثلهم
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَيَّات مسخ الْجِنّ كَمَا مسخت القردة
والخنازير
وَأخرج ابْن جرير عَن عَمْرو بن كثير عَن أَفْلح مولى
أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ: حدثت ان المسخ فِي بني إِسْرَائِيل من
الْخَنَازِير كَانَ أَن امْرَأَة كَانَت من بني إِسْرَائِيل كَانَت فِي قَرْيَة من
قرى بني إِسْرَائِيل وَكَانَ فِيهَا ملك بني إِسْرَائِيل وَكَانُوا قد استجمعوا
على الهلكة إِلَّا أَن تِلْكَ الْمَرْأَة كَانَت على بَقِيَّة من الْإِسْلَام
متمسكة فَجعلت تَدْعُو إِلَى الله حَتَّى إِذا اجْتمع إِلَيْهَا نَاس فبايعوها على
أمرهَا قَالَت لَهُم: أَنه لابد لكم من أَن تجاهدوا عَن دين الله وَأَن تنادوا
قومكم بذلك فاخرجوا فَإِنِّي خَارِجَة فَخرجت وَخرج إِلَيْهَا ذَلِك الْملك فِي
النَّاس فَقتل أَصْحَابهَا جَمِيعًا وانفلتت من بَينهم ودعت إِلَى الله حَتَّى
تجمع النَّاس إِلَيْهَا إِذا رضيت مِنْهُم أَمرتهم بِالْخرُوجِ فَخَرجُوا وَخرجت
مَعَهم
فأصيبوا جَمِيعًا وانفلتت مِنْهُم ثمَّ دعت إِلَى الله
حَتَّى إِذا اجْتمع اليها رجال واستجابوا لَهَا أَمرتهم بِالْخرُوجِ فَخَرجُوا
وَخرجت مَعَهم فأصيبوا جَمِيعًا وانفلتت مِنْهُم ثمَّ دعت إِلَى الله حَتَّى إِذا
اجْتمع اليها رجال واستجابوا لَهَا أَمرتهم بِالْخرُوجِ فَخَرجُوا وَخرجت مَعَهم
فأصيبوا جَمِيعًا وانفلتت من بَينهم فَرَجَعت وَقد أَيِست وَهِي تَقول: سُبْحَانَ
الله
لَو كَانَ لهَذَا الدّين ولي وناصر لقد أظهره بعد فباتت
محزونة وَأصْبح أهل الْقرْيَة يسعون فِي نَوَاحِيهَا خنازير مسخهم الله فِي ليلتهم
تِلْكَ فَقَالَت حِين أَصبَحت وَرَأَتْ مَا رَأَتْ: الْيَوْم أعلم أَن الله قد أعز
دينه وَأمر دينه قَالَ: فَمَا كَانَ مسخ الْخَنَازِير فِي بني إِسْرَائِيل إِلَّا
على يَدي تِلْكَ الْمَرْأَة
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي ذمّ الملاهي من طَرِيق
عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: سَيكون
فِي أمتِي خسف ورجف وقردة وَخَنَازِير
وَالله أعلم
أخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم
وَأَبُو الشَّيْخ عَن زُهَيْر قَالَ: قلت لِابْنِ أبي ليلى: كَيفَ كَانَ طَلْحَة
يقْرَأ الْحَرْف {وَعبد الطاغوت} فسره ابْن أبي ليلى وخففه
وَأخرج عبد بن حميد عَن عَطاء بن السَّائِب قَالَ: كَانَ
أَبُو عبد الرَّحْمَن يقْرَأ (وَعبد الطاغوت) بِنصب الْعين وَالْبَاء
كَمَا يَقُول ضرب الله
وَأخرج ابْن جرير عَن أبي جَعْفَر النَّحْوِيّ
أَنه كَانَ يَقْرَأها (وَعبد الطاغوت) كَمَا يَقُول: ضرب
الله
وَأخرج ابْن جرير عَن بُرَيْدَة
أَنه كَانَ يقْرؤهَا (وعابد الطاغوت)
وَأخرج ابْن جرير من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي حَمَّاد
قَالَ: حَدثنِي الْأَعْمَش وَعَن يحيى بن وثاب أَنه قَرَأَ (وَعبد الطاغوت)
يَقُول: خدم قَالَ عبد الرَّحْمَن: وَكَانَ حَمْزَة رَحمَه الله يقْرؤهَا كَذَلِك
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ (61)
- قَوْله تَعَالَى: وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا وَقد
دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون
- أخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن
أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وَإِذا جاؤوكم قَالُوا آمنا} الْآيَة
قَالَ اناس من الْيَهُود وَكَانُوا يدْخلُونَ على
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيخبرونه أَنهم
مُؤمنُونَ راضون بِالَّذِي جَاءَ بِهِ وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر فَكَانُوا
يدْخلُونَ وَيخرجُونَ بِهِ من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس
فِي قَوْله {وَإِذا جاؤوكم قَالُوا آمنا وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا
بِهِ} فَإِنَّهُم دخلُوا وهم يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ وتسر قُلُوبهم الْكفْر
فَقَالَ {دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ}
وَأخرج ابْن جرير عَن السّديّ فِي الْآيَة قَالَ: هَؤُلَاءِ نَاس
من الْمُنَافِقين كَانُوا يهوداً يَقُول: دخلُوا كفَّارًا وَخَرجُوا كفَّارًا
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
- قَوْله تَعَالَى: وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي
الْإِثْم والعدوان وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ لَوْلَا ينهاهم
الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا بصنعون
- أخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي
قَوْله {وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان} قَالَ:
هَؤُلَاءِ الْيَهُود {لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ لَوْلَا ينهاهم الربانيون} إِلَى
قَوْله {لبئس مَا كَانُوا يصنعون} ويعملون وَاحِد
قَالَ: هَؤُلَاءِ لم ينهوا كَمَا قَالَ لهَؤُلَاء حِين
عمِلُوا
وَأخرج عبد بن حميد عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وَترى
كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان وأكلهم السُّحت} قَالَ: كَانَ
هَذَا فِي أَحْكَام الْيَهُود بَين أَيْدِيكُم
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن
عَبَّاس فِي قَوْله {لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار} وهم الْفُقَهَاء
وَالْعُلَمَاء
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله
{لَوْلَا ينهاهم} الْعلمَاء والأحبار
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس
فِي قَوْله {لبئس مَا كَانُوا يصنعون} قَالَ: حَيْثُ لم ينهوهم عَن قَوْلهم
الْإِثْم وأكلهم السُّحت
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم أَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه
قَالَ فِي خطبَته: أَيهَا النَّاس إِنَّمَا هلك من هلك قبلكُمْ بركوبهم الْمعاصِي
وَلم ينههم الربانيون والأحبار فَلَمَّا تَمَادَوْا فِي
الْمعاصِي وَلم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم
الْعُقُوبَات فَمروا بِالْمَعْرُوفِ وانهوا عَن الْمُنكر فَإِن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لايقطع رزقا ولايقرب أَََجَلًا
وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس
قَالَ: مَا فِي الْقُرْآن آيَة أَشد توبيخاً من هَذِه الْآيَة لَوْلَا ينهاهم
الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْعدوان وأكلهم السُّحت لبئس ماكانوا يعْملُونَ
هَكَذَا قَرَأَ
وَأخرج ابْن الْمُبَارك فِي الزّهْد وَعبد بن حميد
وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن الضَّحَّاك ابْن مُزَاحم قَالَ: مافي الْقُرْآن
آيَة أخوف عِنْدِي من هَذِه الْآيَة {لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن
قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يصنعون} أَسَاءَ الثَّنَاء على
الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا
وَأخرج عبد بن حميد من طَرِيق سَلمَة بن نبيط عَن
الضَّحَّاك {لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت} قَالَ {الربانيون
والأحبار} فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم قَالَ: ثمَّ يَقُول الضَّحَّاك: وَمَا أخوفني
من هَذِه الْآيَة
وَأخرج أَبُو دَاوُد وَابْن ماجة عَن جرير
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مامن
قوم يكون بَين أظهرهم من يعْمل من الْمعاصِي هم أعز مِنْهُ وَأَمْنَع من يُغيرُوا
إِلَّا أَصَابَهُم الله مِنْهُ بِعَذَاب
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64)
- قَوْله تَعَالَى: وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة
غلت أَيْديهم ولعنوا بِمَا قَالُوا بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء
وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغياناً وَكفرا وألقينا بَينهم
الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها
الله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين
- أخرج ابْن إِسْحَق وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير
وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس
قَالَ رجل من الْيَهُود يُقَال لَهُ النباش بن قيس: إِن
رَبك بخيل لاينفق
فَأنْزل الله {وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة غلت أَيْديهم
ولعنوا بِمَا قَالُوا بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء}
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس {وَقَالَت
الْيَهُود يَد الله مغلولة} نزلت فِي فنحَاص رَأس يهود قينقاع
وَأخرج ابْن جرير عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله {وَقَالَت
الْيَهُود يَد الله مغلولة} الْآيَة
قَالَ: نزلت فِي فنحَاص الْيَهُودِيّ
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس
{وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة} قَالَ: أَي بخيلة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس
فِي قَوْله {وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة} قَالَ: لايعنون بذلك أَن يَد
الله موثوقة وَلَكِن يَقُولُونَ: إِنَّه بخيل أمسك مَا عِنْده تَعَالَى عَمَّا
الله يَقُولُونَ علوا كَبِيرا
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك فِي
قَوْله {مغلولة} يَقُولُونَ: إِنَّه بخيل لَيْسَ بجواد
وَفِي قَوْله {غلت أَيْديهم} قَالَ: أَمْسَكت عَن
النَّفَقَة وَالْخَيْر
وَأخرج الديلمي فِي مُسْند الفردوس عَن أنس مَرْفُوعا
أَن يحيى بن زَكَرِيَّا سَأَلَ ربه فَقَالَ: يارب اجْعَلنِي مِمَّن لايقع النَّاس
فِيهِ
فَأوحى الله: يَا يحيى هَذَا شَيْء لم أستخلصه لنَفْسي
كَيفَ أَفعلهُ بك اقْرَأ فِي الْمُحكم تَجِد فِيهِ {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر
ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} التَّوْبَة الْآيَة 30
وَقَالُوا {يَد الله مغلولة} وَقَالُوا وَقَالُوا
وَأخرج أَبُو نعيم فِي الْحِلْية عَن جَعْفَر بن
مُحَمَّد قَالَ: إِذا بلغك عَن أَخِيك شَيْء يسوءك فَلَا تغتم فَإِنَّهُ إِن كَانَ
كَمَا يَقُول كَانَت عُقُوبَة أجلت وَإِن كَانَت على غير مَا يَقُول كَانَت
حَسَنَة لم تعملها
قَالَ: وَقَالَ مُوسَى: يارب أَسَالَك أَن لَا يذكرنِي
أحد إِلَّا بِخَير
قَالَ مافعلت ذَلِك لنَفْسي
وَأخرج أَبُو نعيم عَن وهب قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رب
أَسَالَك أَن لَا يذكرنِي أحد إِلَّا بِخَير
قَالَ مَا فعلت ذَلِك لنَفْسي
وَأخرج أَبُو نعيم عَن وهب قَالَ: قَالَ مُوسَى: يارب
احْبِسْ عني كَلَام النَّاس
فَقَالَ الله عزوجل لَو فعلت هَذَا بِأحد لفعلته بِي
قَوْله تَعَالَى {بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ
يَشَاء}
أخرج أَبُو عبيد فِي فضائله وَعبد بن حميد وَابْن أبي
دَاوُد وَابْن الْأَنْبَارِي مَعًا فِي الْمَصَاحِف وَابْن المنذرعن ابْن مَسْعُود
قَرَأَ {بل يَدَاهُ مبسوطتان}
وَأخرج أَحْمد وَعبد بن حميد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم
وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن يَمِين الله
ملأى لَا يغيضها نَفَقَة سخاء اللَّيْل وَالنَّهَار أَرَأَيْتُم مَا أنْفق مُنْذُ
خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِنَّهُ لم يغض مَا فِي يَمِينه
قَالَ: وعرشه على المَاء وَفِي يَده الْأُخْرَى الْقَبْض
يرفع ويخفض
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن
قَتَادَة {وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغياناً وَكفرا} قَالَ:
حملهمْ حسد مُحَمَّد وَالْعرب على أَن تركُوا الْقُرْآن وَكَفرُوا بِمُحَمد وَدينه
وهم يجدونه عِنْدهم مَكْتُوبًا
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن الرّبيع قَالَ: قَالَت الْعلمَاء
فِيمَا حفظو وَعَلمُوا: أَنه لَيْسَ على الأَرْض قوم حكمُوا بِغَيْر مَا أنزل الله
إِلَّا ألْقى الله بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء وَقَالَ: ذَلِك فِي الْيَهُود
حَيْثُ حكمُوا بِغَيْر ماانزل الله {وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة}
قَالَ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى
وَفِي قَوْله {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله}
قَالَ: حَرْب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ {كلما
أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} قَالَ: كلما اجْمَعُوا أَمرهم على شَيْء فرّقه
الله وأطفأ حَدهمْ ونارهم وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم
وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها
الله} قَالَ: أُولَئِكَ أَعدَاء الله الْيَهُود كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها
الله فَلَنْ تلقى الْيَهُود بِبَلَد إِلَّا وَجَدتهمْ من أذلّ أَهله لقد جَاءَ
الْإِسْلَام حِين جَاءَ وهم تَحت أَيدي الْمَجُوس وهم أبْغض خلق الله تعمية
وتصغيراً باعمالهم أَعمال السوء
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَفِي قَوْله عَن الْحسن {كلما
أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} قَالَ: كلما اجْتمعت السفلة على قتل الْعَرَب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق