Translate

الخميس، 15 يونيو 2023

ج4وج5وكتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

 

ج4وج5وكتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

قلتُ : وقد وقع مثلُ هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ، ووقع مثلُه في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر ، قال : يُرجى لمن قامها أنْ يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها . فإنْ كان مرادهم أنَّ مَنْ أتى بفرائض الإسلام وهو مُصرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائرُ قطعاً ، فهذا باطلٌ قطعاً ، يُعْلَمُ بالضرورة من الدِّين بطلانه ، وقد سبق قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ أساءَ في الإسلام أُخِذَ بالأوَّلِ والآخر )(1) يعني : بعمله في الجاهلية والإسلام ، وهذا أظهرُ من أنْ يحتاجَ إلى بيانٍ ، وإنْ أرادَ هذا القائلُ أنَّ من ترك الإصرارَ على الكبائرِ ، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندمٍ على ما سلف منه ، كُفِّرَت ذنوبه كلُّها بذلك ، واستدلَّ بظاهر قوله
: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً } (2) . وقال : السيئات(3) تشملُ الكبائرَ والصغائر ، فكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نيَّةٍ ، فكذلك الكبائرُ ، وقد يستدلُّ لذلك
بأنَّ الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وبتكفير السَّيِّئات ، وهذا مذكورٌ في غير موضع من القرآن ، وقد صار هذا من المتَّقين ، فإنَّه فعل الفرائضَ ، واجتنبَ
الكبائرَ ، واجتنابُ الكبائر
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 19686 ) ، والحميدي ( 108 ) ، وأحمد 1/379 و380 و409 و429 و431 و434 و462 ، والدارمي 1/2 ، والبخاري 9/17 ( 6921 ) ، ومسلم 1/76 ( 120 ) ( 189 ) ( 190 ) ، وابن ماجه ( 4242 ) ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " 1/211 ، وابن حبان ( 396 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/125 ، والبيهقي 9/123 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 23 ) ، والبغوي ( 28 ) من حديث
عبد الله بن مسعود .
(2) النساء : 31 .
(3) عبارة : ( وقال : السيئات ) سقطت من ( ص ) .

لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ ، فهذا القولُ يمكن أنْ يُقال في الجملة .
والصَّحيح قول الجمهور : إنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة ؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد ، وقد قال - عز وجل - : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (1) . وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم(2) ، ومنهم من فسَّرها بالعزم على أنْ لا يعود(3) ، وقد روي ذلك مرفوعاً من وجه فيه ضعفٌ(4) ، لكن لا يعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا ، وكذلك التابعون ومَنْ بعدهم ، كعمر بن عبد العزيز ، والحسن وغيرهما .
__________
(1) الحجرات : 11 .
(2) انظر : زيادات نعيم بن حماد على كتاب " الزهد لعبد الله بن المبارك " ( 168 )
و( 169 ) ، وتفسير القرطبي 18/198 .
(3) منهم : عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - .
انظر : تفسير الطبري ( 26697 ) و( 26698 ) و( 26699 ) .
(4) روي الحديث عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً : ( التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه ) .
... أخرجه : أحمد 1/446 ، وفي إسناده علي بن عاصم ، وهو ضعيف . انظر : التاريخ الكبير 6/118 ( 2435 ) ، وإبراهيم الهجري ضعيف أيضاً .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7036 ) ، وفي إسناده بكر بن خنيس . قال
ابن معين : ( ليس بشيء ) ، وقال أبو زرعة : ( ذاهب الحديث ) . انظر : تهذيب
الكمال 1/371 ( 731 ) ، وتهذيب التهذيب 1/440 ، وكذا في إسناده إبراهيم الهجري الضعيف .

وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب ، وتكفير السيئات للمتقين ، كقوله تعالى : { إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ } (1) ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } (2) ، وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } (3)، فإنَّه لم يُبين في هذه الآيات خصال التقوى ، ولا العمل الصالح ، ومن جملة ذلك : التوبة النصوح ، فمَنْ لم يتب ، فهو ظالم ، غيرُ متّقٍ .
وقد بين في سورة آل عمران خصالَ التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنَّة ، فذكر منها الاستغفار ، وعدم الإصرار ، فلم يضمن تكفيرَ السيئات ومغفرة الذنوب إلاَّ لمن كان على هذه الصفة ، و الله أعلم .
ومما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها ، أو العقوبة عليها حديثُ عُبَادةَ بنِ الصامت ، قال : كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( بايعوني على أنْ لا تُشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولاتزنوا ) ، وقرأ عليهم الآية ( فمن وفى منكم ، فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعُوقِبَ به ، فهو كفَّارَةٌ له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له ) خرَّجاه في " الصحيحين " (4)
__________
(1) الأنفال : 29 .
(2) التغابن : 9 .
(3) الطلاق : 5 .
(4) صحيح البخاري 1/11 ( 18 ) و5/70 ( 3892 ) و6/187 ( 4894 ) و8/198
( 6784 ) و9/99 ( 7213 ) و9/169 ( 7468 ) ، وصحيح مسلم 5/126 ( 1709 ) ( 41 ) .

وأخرجه : الحميدي ( 387 ) ، وأحمد 5/314 و320 ، والترمذي ( 1439 ) والنسائي 7/148 و161-162 و8/108 ، والحاكم 2/318 ، والدارقطني 3/214-215 ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/126 ، والبيهقي 8/328 ، والبغوي ( 29 ) .

، وفي روايةٍ لمسلم : ( من أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته ) (1) . وهذا يدلُّ على أنَّ الحدود كفارات . قال الشافعيُّ : لم أسمع في هذا البابِ - أنَّ الحد يكونُ كفَّارةً لأهله - شيئاً أحسنَ مِنْ حديث عُبادةَ ابن الصامت(2) .
وقوله : ( فعوقب به ) يعمُّ العقوبات الشرعية ، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة ، كالتعزيزات ، ويشمل العقوبات القدرية ، كالمصائب والأسقام والآلام ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( لا يصيبُ المسلمَ نصبٌ ولا وَصَبٌ(3) ولا
هَمٌّ ولا حزن حتَّى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه )(4) . ورُوي عن
عليٍّ أنَّ الحدَّ كفَّارةٌ لمن أقيم عليه(5) ، وذكر ابنُ جرير الطبري في هذه المسألة اختلافاً بين الناس ، ورجَّحَ أنَّ إقامة الحدِّ بمجرَّده كفارة ، ووهَّن القول بخلاف ذلك جداً(6) .
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/126 ( 1709 ) ( 43 ) .
(2) ذكره الترمذي في " الجامع الكبير " عقب ( 1439 ) .
(3) عبارة : ( ولا وصب ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/335 ، والبخاري 7/148 ( 5642 ) ، وفي " الأدب المفرد " ، له
( 492 ) ، وابن حبان ( 2905 ) ، والبيهقي 3/373 ، والبغوي ( 1421 ) من طرق عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما ، به .
(5) أخرجه : البيهقي في " السنن الكبرى " 8/329 ، عن علي ، موقوفاً .
وأخرجه مرفوعاً : أحمد 1/99 و159 ، والترمذي ( 2626 ) ، وابن ماجه ( 2604 ) ، والحاكم 1/7 و2/445 و4/262 ، والدارقطني 3/215 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 503 ) ، والبيهقي 8/328 ، والبغوي ( 4182 ) من طرق عن أبي جحيفة ، عن علي ، به مرفوعاً ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) وذكر الدارقطني في " علله " 3/128-129
س ( 316 ) ثم قال : ( رفعه صحيح ) .
(6) ذكره : الطبري في " تفسيره " عقب ( 9296 ) .

قلت : وقد رُوي عن سعيد بن المسيب وصفوانَ بنِ سليم أنَّ إقامة الحدِّ ليس بكفَّارة ، ولابدَّ معه من التَّوبة ، ورجَّحه طائفة من المتأخِّرين ، منهم : البغويُّ(1) ، وأبو عبد الله بن تيمية في " تفسيريهما " ، وهو قولُ ابنِ حزم الظاهري(2) ، والأوّل قولُ مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد .
وأما حديث أبي هريرة المرفوع : ( لا أدري : الحدودُ طهارةٌ لأهلها أم لا ؟ ) فقد خرَّجه الحاكم وغيره(3) ، وأعلَّه البخاري ، وقال : لا يثبت ، وإنَّما هوَ من مراسيل الزهريِّ ، وهي ضعيفةٌ ، وغلط عبد الرزاق فوصله ، قالَ : وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحدود كفارة(4) .
ومما يستدلُّ به من قال : الحدّ ليس بكفارة قولُه تعالى في المحاربين : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } (5) وظاهره أنَّه تجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة . ويُجابُ عنه بأنَّه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة(6) ، ولا يلزم اجتماعهما ، وأما استثناء ( من تاب ) فإنَّما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة ، فإنَّ عقوبة الآخرة تسقط بالتوبةِ قبل القُدرة وبعدها .
__________
(1) انظر : تفسير البغوي 2/50 .
(2) انظر : المحلى 13/9 .
(3) أخرجه : الحاكم 1/36 و2/14 و450 ، والبيهقي 8/329 من حديث أبي هريرة ، به .
(4) انظر : التاريخ الكبير 1/154 ( 455 ) ، وتفصيل ذلك في كتابي " الجامع في العلل " .
(5) المائدة : 33-34 .
(6) في ( ص ) : ( في الدنيا وفي الآخرة ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن أصابَ شيئاً مِنْ ذلك ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له )(1) صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت
جتحتَ مشيئتِهِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها ، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض ، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة(2) على أنَّ من تابَ إلى الله ، تاب الله عليه ، وغفر له ، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلاً تحت المشيئة .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سقطت من ( ص ) .

وأيضاً ، فيدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفِّرُها الأعمالُ : إنَّ الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَّارةً واجبةً ، وإنَّما جعلَ الكفارةَ للصغائر ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِرِ ، ووطءِ المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمامُ أحمد وغيرُه(1) ، وكفارة من ترك شيئاً من واجبات الحج ، أو ارتكاب بعضَ محظوراته ، وهي أربعةُ أجناس : هديٌ ، وعِتقٌ ، وصدقةٌ ، وصيامٌ ، ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ(2) ، ولا في اليمين الغموس أيضاً عند أكثرهم ، وإنَّما يؤمرُ القاتلُ بعتق رقبة استحباباً ، كما في حديث واثلة بن الأسقع : أنَّهم جاؤوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صاحبٍ لهم قد أوجب ، فقال : ( اعتِقُوا عنه رقبةً يعتقه الله بها مِن النار ) (3) . ومعنى أوجب : عَمِلَ عملاً يجب له به النارُ ، ويقال : إنَّه كان قتل قتيلاً . وفي
" صحيح مسلم "(4) عن ابنِ عمر : أنَّه ضربَ عبداً له ، فأعتقه وقال : ليس لي فيه مِنَ الأجر مثل هذا - وأخذ عوداً من الأرض - إني سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مَنْ لَطَمَ مملوكَه ، أو ضربه ، فإنَّ كفَّارتَه أنْ يَعتِقَهُ ) .
__________
(1) انظر : المغني لابن قدامة 1/384 ، والواضح 1/156 .
(2) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/843 ، والمغني والشرح الكبير 10/38
( 7054 ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/490-491 و4/107 ، وأبو داود ( 3964 ) ، وابن حبان ( 4307 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 218 ) و( 219 ) و( 220 ) و( 221 ) و( 222 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 37 ) - ( 42 ) ، والحاكم 2/212 ، والبيهقي 8/132-133 ، والبغوي ( 2417 ) ، وإسناده ضعيف لجهالة الغريف الديلمي .
(4) أخرجه : مسلم 5/89 ( 1657 ) ( 29 ) ( 30 ) .

فإنْ قيل : فالمجامِعُ في رمضان يُؤمَرُ بالكفَّارةِ ، والفطرُ في رمضان مِنَ الكبائرِ ، قيل : ليست الكفارة للفطر ، ولهذا لا يجب عندَ الأكثرين على كلِّ مفطر في رمضان عمداً ، وإنَّما هي لِهَتْكِ حُرمةِ نهار(1) رمضان بالجماع ، ولهذا لو كان مفطراً فطراً لا يجوزُ له في نهار رمضان ، ثمَّ جامع ، للزمته الكفارةُ عند الإمام أحمد لما ذكرنا(2) .
وممَّا يدلُّ على أنَّ تكفيرَ الواجبات مختصٌّ بالصَّغائر ما خرَّجه البخاري عن حُذيفة ، قال : بَيْنا نحن جلوسٌ عند عمرَ ، إذ قال : أيُّكم يحفظُ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ قال : قلتُ : ( فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه يُكَفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر ) قال : ليس عن هذا أسألك . وخرَّجه مسلم بمعناه ، وظاهر هذا السياق يقتضي رفعَه ، وفي رواية للبخاري أنَّ حذيفة قال : سمعتُه يقول : ( فتنة الرجل ) فذكره ، وهذا كالصريح في رفعه ، وفي روايةٍ لمسلم أنَّ هذا من كلام عمر(3) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الفتاوى لابن تيمية 25/139 – 140 ، والمفصل في أحكام المرأة 2/59 – 60 .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20752 ) ، والطيالسي ( 408 ) ، والحميدي ( 447 ) ، وأحمد 5/401-402 و450 ، والبخاري 1/140 ( 525 ) و2/141 ( 1435 ) و3/31-32 ( 1895 ) و4/238 ( 3586 ) و9/68 ( 7096 )، ومسلم 1/88 ( 144 ) ( 231 )، وابن ماجه ( 3955 )، والترمذي ( 2258 )، وابن حبان ( 5966 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/270-271 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 3/386 ، والبغوي ( 4218 ) .

وأما قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له : أصبتُ حدَّاً ، فأقمه عليَّ ، فتركه حتى
صلى ، ثم قال له : ( إنَّ الله غفر لك حَدَّك )(1) ، فليس صريحاً في أنَّ المراد به شيءٌ مِنَ الكبائر ؛ لأنَّ حدود الله محارمه كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه } (2) وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } (3) ، وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } الآية إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (4) .
وفي حديث النواس بن سمعان(5) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم الذي على جنبتيه سُوران ، قال : ( والسورانِ حُدودُ الله ) . وقد سبق ذكره بتمامه .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) الطلاق : 1 .
(3) البقرة : 229 .
(4) النساء : 13-14 .
(5) في ( ص ) : ( العرباض بن سارية ) ولعله سبق قلم من الناسخ .

فكلُّ من أصاب شيئاً من محارم الله، فقد أصابَ حدودَه ، وركبها ، وتعدَّاها . وعلى تقدير أنْ يكونَ الحدُّ الذي أصابه كبيرةً ، فهذا الرجل جاء نادماً تائباً ، وأسلم نفسه إلى إقامةِ الحدِّ عليه ، والنَّدمُ توبة ، والتوبةُ تُكفِّرُ الكبائرَ بغير تردُّدٍ ، وقد رُوي ما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر تكفرُ ببعض الأعمال الصالحة ، فخرَّجَ الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديث ابن عمر : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، إني أصبتُ ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ قالَ : ( هل لك مِنْ أمٍّ ؟ ) قالَ : لا ، قالَ : ( فهل لك من خالةٍ ؟ ) قال : نعم ، قال : ( فبِرَّها ) ، وخرَّجه ابن حبان في
" صحيحه " والحاكم ، وقال : على شرط الشيخين(1) ، لكن خرَّجه الترمذي من وجهٍ آخر مرسلاً ، وذكر أنَّ المرسلَ أصحُّ من الموصول(2) ، وكذا قال عليُّ بنُ
المديني والدارقطني (3) .
وروي عن عمرَ أنَّ رجلاً قال له : قتلتُ نفساً ، قال : أمُّك حية ؟ قال : لا ، قال : فأبوك ؟ قال : نعم ، قال : فبِرَّه وأحسن إليه ، ثم قال عمر : لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها ، وأحسن إليها ، رجوتُ أنْ لا تطعَمه النارُ أبداً . وعن ابن عباس معناه أيضاً(4) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/14 ، والترمذي ( 1904 م1 ) ، وابن حبان ( 435 ) ، والحاكم 4/155 .
(2) أخرجه : الترمذي ( 1904 م2 ) ، وقال : ( وهذا أصحُّ من حديث أبي معاوية ) .
(3) بيان ذلك كله في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه .
(4) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 4 ) .

وكذلك المرأة التي عَمِلَت بالسحر بدُومَة الجندلِ ، وقدمت المدينةَ تسألُ عن
توبتها ، فوجدت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد توفي ، فقال لها أصحابُه : لو كان أبواك حَيَّيْنِ أو أحدهما كانا يكفيانك . خرَّجه الحاكم وقال : فيه إجماعُ الصحابة حِدْثَان وفاةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ برَّ الأبوين يكفيانها(1) . وقال مكحول والإمام أحمد : بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر . وروي عن بعض السَّلف في حمل الجنائز أنَّه يَحطُّ الكبائر ، وروي مرفوعاً من وجوهٍ لا تَصِحُّ .
وقد صحَّ من رواية أبي بُردة أنَّ أبا موسى لما حضرته الوفاةُ قال : يا بَنِيَّ ، اذكروا صاحبَ الرَّغيف : كان رجلٌ يتعبَّدُ في صومعةٍ أُراه سبعينَ سنة ، فشبَّه الشيطانُ في عينه امرأةً ، فكان معها سبعةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ ، ثم كُشِفَ عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً، ثمَّ ذكر أنَّه باتَ بين مساكين ، فتُصُدِّقَ عليهم برغيف رغيف ، فأعطوه رغيفاً ، ففقده صاحبُه الذي كان يُعطاه ، فلمَّا علم بذلك ، أعطاه الرغيفَ وأصبح ميتاً ، فوُزِنَتِ السَّبعونَ سنة بالسَّبع ليال ، فرجحت الليالي ، ووُزِنَ الرَّغيفُ بالسَّبع اللَّيال ، فرجح الرغيف(2) .
وروى ابنُ المبارك بإسناده في كتاب " البر والصلة " عن ابن مسعود ،
قال : عبَدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنةً ، ثم أصابَ فاحشةً ، فأحبطَ الله عملَه ، ثم
أصابته زَمَانةٌ وأُقْعِدَ ، فرأى رجلاً يتصدَّقُ على مساكين ، فجاء إليه ، فأخذ
منه رغيفاً ، فتصدَّقَ به على مسكينٍ ، فغفرَ الله له ، وردَّ عليه عملَ سبعين
سنة .
__________
(1) أخرجه : الحاكم 4/155-156 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/263 .

وهذه كلُّها لا دِلالةَ فيها على تكفير الكبائر بمجرَّد العمل ؛ لأنَّ كلَّ من ذكر فيها كان نادماً تائباً من ذنبه ، وإنَّما كان سؤاله عن عملٍ صالح يتقرَّب به إلى الله بعد التوبة حتّى يمحوَ به أثَرَ الذنب بالكلية ، فإنَّ الله(1) شرط في قبول التوبة ومغفرةِ الذنوب بها العملَ الصالح ، كقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } (2) ، وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } (3) ، وقوله : { فَأَمَّا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } (4) ، وفي هذا
متعلَّقٌ لمن يقول : إنَّ التائب بعد التوبة في المشيئة ، وكان هذا حال كثير مِنَ
الخائفين مِنَ السَّلف . وقال بعضهم لرجلٍ : هل أذنبت ذنباً ؟ قال : نعم ، قال : فعلمتَ أنَّ الله كتبه عليك ؟ قال : نعم ، قال : فاعمل حتّى تعلمَ أنَّ الله قد محاه . ومنه قولُ ابن مسعود : إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه في أصل جبل يخاف أنْ يقع
عليه ، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبَه كذُبابٍ طار على أنفه ، فقال به هكذا . خرَّجه البخاري(5) .
__________
(1) عبارة : ( فإن الله ) لم ترد في ( ص ) .
(2) مريم : 60 .
(3) طه : 82 .
(4) القصص : 67 .
(5) أخرجه : البخاري 8/83-84 ( 6308 ) . =
= ... وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 68 ) و( 69 ) ، وأحمد 1/383 ، والترمذي
( 2497 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/129 ، والبيهقي في 10/188-189 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7104 ) .

وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم ، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك ، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف ، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة .
قال الحسن: أدركتُ أقواماً لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمِنَ لِعظم الذنب في نفسه(1). وقال ابنُ عون : لا تَثِقْ بكثرة العمل ، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا ، ولا تأمن ذنوبك ، فإنَّك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا ، إنَّ عملك مُغَيَّبٌ عنك
كله .
والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة - أعني : مسألة تكفير
الكبائر بالأعمال - أنَّه إنْ أُريدَ أنَّ الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ ،
وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصَّغائر باجتناب الكبائر ، فهذا باطلٌ .
وإنْ أريدَ أنَّه قد يُوازن يومَ القيامة بين الكبائر وبينَ بعض الأعمال ، فتُمحى
الكبيرة بما يُقابلها من العمل ، ويَسقُطُ العمل ، فلا يبقى له ثوابٌ ، فهذا قد
يقع .
وقد تقدَّم عن ابنِ عمرَ أنَّه لمَّا أعتق مملوكَه الذي ضربه ، قال : ليس لي فيه مِنَ الأجر شيءٌ ، حيث كان كفارةً لذنبه ، ولم يكن ذنبُه مِنَ الكبائر ، فكيف بما كان من الأعمال مكفراً للكبائر ؟
__________
(1) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 160 ) .

وسبق أيضاً قولُ مَنْ قالَ مِنَ السَّلف : إنَّ السيئة تمحى ، ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل ، فإذا كانَ هذا في الصغائر ، فكيف بالكبائر ؟ فإنَّ بعضَ الكبائر قد يُحبِطُ بعضَ الأعمال المنافية لها ، كما يُبطل المنُّ والأذى الصدقةَ ، وتُبطلُ المعاملة بالرِّبا الجهادَ كما قالت عائشة(1) . وقال حذيفةُ : قذفُ المحصنة يَهْدِمُ عملَ مئة سنة ، وروي عنه مرفوعاً خرَّجه البزار(2) ، وكما يبطل ترك صلاة العصر العمل(3) ، فلا يستنكر أنْ يبطل ثواب العمل الذي يكفر الكبائر .
__________
(1) أخرجه : الدارقطني 3/46 ، والبيهقي 5/330 ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن امرأته أنَّها دخلت على عائشة رضي الله عنها ، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى ، فقالت أم ولد زيد بن أرقم : يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم نسيئة ، وإني ابتعته بستمئة درهم نقداً ، فقالت لها عائشة : بئسما اشتريت ، وبئسما شَريتِ ، إنَّ جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إلا أنْ يتوب . اللفظ للدارقطني .
(2) المسند ( 2929 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 3023 ) ، وهو ضعيف مرفوعاً قال البزار : ( هذا الحديث لا نعلم أحداً أسنده إلاّ ليث ولا عن ليث إلاّ موسى بن أعين ، وقد رواه جماعة عن أبي
إسحاق ، عن صلة ، عن حذيفة موقوفاً ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/361 ، والبخاري 1/145 ( 553 ) و( 594 ) ، وابن ماجه ( 694 ) ، وابن حبان ( 1463 ) و( 1470 ) ، والبيهقي 1/444 ، والبغوي ( 369 ) من طرق عن بريدة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ) .

وقد خرَّج البزار في "مسنده" والحاكم من حديث ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُؤتَي بحسناتِ العبد وسيِّئاتِه يَوْمَ القيامة، فَيُقص أو يُقضى بعضُها من بعض، فإنْ بقيت له حسنةٌ ، وُسِّعَ له بها في الجنة )(1) .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 3456 ) كما في " كشف الأستار " ، وهو في " مسنده " ( 5272 ) ، والحاكم 4/252 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 661 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 12832 ) ، والبيهقي في
"شعب الإيمان" ( 6515 ) ، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/217 : ( إسناده جيد ) .

وخرَّج ابنُ أبي حاتم من حديث ابن لَهيعة ، قال : حدَّثني عطاءُ بنُ دينار ، عن سعيد بن جُبير في قولِ الله - عز وجل - : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } (1) ، قال : كان المسلمون يرون أنَّهم لا يُؤجرون على الشَّيءِ القليلِ إذا أعطوه ، فيجيءُ المسكينُ ، فيستقلُّون أنْ يُعطوه تمرةً وكِسرة وجَوزةً ونحو ذلك ، فيردُّونه ، ويقولون : ما هذا بشيء ، إنَّما نُؤجر على ما نُعطي ونحن نحبُّه ، وكان آخرون يرون أنَّهم لا يُلامون على الذَّنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنَّما وعد الله النار على الكبائر ، فرغَّبهم الله في القليل من الخير أنْ يعملوه ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكثُرَ ، وحذَّرهم اليسيرَ من الشرِّ ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكْثُرَ ، فنَزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، يعني : وزن أصغر النمل { خَيْراً يَرَه } يعني : في كتابه ، ويَسُرُّهُ ذلك قال : يُكتب لكلِّ برٍّ وفاجر بكلِّ سيئةٍ سيئة واحدة ، وبكلِّ حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يومُ القيامة ، ضاعف الله حسناتِ المؤمن أيضاً بكلِّ واحدةٍ عشراً ، فيمحو عنه بكلِّ حسنةٍ عشرَ سيئات ، فمن زادت حسناتُه على سيئاتِه مِثقالَ ذرَّةٍ ، دخل الجنة(2) .
__________
(1) الزلزلة : 7 .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 19440 ) .

وظاهرُ هذا أنَّه تقع المقاصةُ بين الحسناتِ والسيئات ، ثم تسقط الحسناتُ المقابلة للسيئات ، ويُنظر إلى ما يَفضُلُ منها بعدَ المقاصة ، وهذا يُوافق قولَ مَنْ قال بأنَّ من رَجَحَتْ حسناتُه على سيئاته بحسنة واحدةٍ أُثيب بتلك الحسنة خاصة ، وسَقَطَ باقي حسناته في مقابلة سيئاته ، خلافاً لمن قال : يُثاب بالجميع ، وتسقُط سيئاتُه كأنَّها لم تكن ، وهذا في الكبائر ، أمَّا الصغائر ، فإنَّه قد تُمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أدُلُّكُم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفعُ به الدرجات : إسباغُ الوضوء على المكاره ، وكثرَةُ الخُطا إلى المساجد ، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصلاة )(1) فأثبت لهذه الأعمال تكفيرَ الخطايا ورَفْعَ الدَّرجات، وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ قَالَ : لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير(2) مئة مرَّةٍ ، كتبَ الله له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئة ، وكانت له عَدْلَ عشر رقاب )(3) ، فهذا يدلُّ على أنَّ الذكر يمحو السيئات ، ويبقى ثوابُه لِعامله مضاعفاً .
__________
(1) أخرجه : مالك ( 445 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الرزاق ( 1993 ) ، وأحمد 2/235 و277 و301 و303 و438 ، ومسلم 1/150 ( 251 ) ، والترمذي ( 51 ) ، والنسائي1/89 ، وابن خزيمة ( 5 ) ، وابن حبان ( 1038 ) ، والبيهقي 1/82 ، والبغوي
( 149 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) عبارة : ( له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ) سقطت من
( ج ) .
(3) أخرجه : مالك ( 560 ) برواية يحيى الليثي ، وأحمد 2/302 و360 و375 ، والبخاري 4/153 ( 3293 ) ، و8/106 ( 6403 ) ، ومسلم 8/68 ( 2691 ) ( 28 ) ، وابن ماجه ( 3798 ) ، والترمذي ( 3468 ) ، وابن حبان ( 849 ) ، والبغوي ( 1272 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

وكذلك سيئاتُ التائب توبةً نصوحاً تُكفَّر عنه ، وتبقى له حسناتُه ، كما قال الله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } (1) .
وقال تعالى : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } (2) ، فلمَّا وصف هؤلاء بالتَّقوى والإحسّانَ ، دلَّ على أنَّهم ليسوا بمصرِّين على الذُّنوب ، بل هم تائبون
منها .
__________
(1) الأحقاف : 15-16 .
(2) الزمر : 33-35 .

وقوله : { لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا } يدخل فيه الكبائر ؛ لأنَّها أسوأ الأعمال ، وقال : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } (1)
فرتَّب على التقوى المتضمنة لفعلِ الواجبات وتركِ المحرَّمات تكفيرَ السيئات وتعظيمَ الأجر ، وأخبرَ الله عَنِ المؤمنين المتفكِّرين في خلق السماوات والأرض أنَّهم قالوا
: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } (2) ، فأخبر أنَّه استجاب لهم ذلك ، وأنَّه كفَّر عنهم سيئاتهم ، وأدخلهم الجنات .
وقوله : { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } فخصَّ الله الذنوبَ بالمغفرة ، والسيئاتِ بالتَّكفير. فقد يقال : السيئات تخصُّ الصغائرَ ، والذنوبُ يرادُ بها الكبائر ، فالسيئاتُ تكفر ؛ لأنَّ الله جعل لها كفاراتٍ في الدنيا شرعية وقدرية ، والذنوب تحتاجُ إلى مغفرة تقي صاحبَها مِنْ شرِّها والمغفرة والتكفير متقاربان ، فإنَّ المغفرة قد قيل : إنَّها ستْرُ الذُّنوب ، وقيل : وقاية شرِّ الذنب مع ستره ، ولهذا يسمَّى(3) ما ستر الرأسَ ووقاه في الحرب مِغْفَراً ، ولا يُسمَّى كلُّ ساترٍ للرأس مغفراً ، وقد أخبر الله عَنِ الملائكة أنَّهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ووقايةِ السيئات والتكفير مِنْ هذا الجنس ؛ لأنَّ أصل الكفر السترُ والتغطيةُ أيضاً .
وقد فرَّق بعضُ المتأخرين بينهما بأنَّ التكفير محوُ أثر الذَّنب ، حتَّى كأنَّه لم يكن، والمغفرة تتضمن - مع ذلك - إفضالَ اللهِ على العبد وإكرامه ، وفي هذا نظر .
__________
(1) الطلاق : 5 .
(2) آل عمران : 193 .
(3) سقطت من ( ص ) .

وقد يُفسر بأنَّ مَغفرةَ الذنوبِ بالأعمَال الصالحة تَقلِبُها حسناتٍ ، وتكفيرها بالمكفرات تمحوها فقط ، وفيه أيضاً نظر ، فإنَّه قد صحَّ أنَّ الذنوبَ المعاقَب عليها
بدخول النار تُبَدَّلُ حسناتٍ فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارةً لها أولى .
ويحتمل معنيين آخرين :
أحدهما : أنَّ المغفرة لا تحصلُ إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة ؛ لأنَّها وقاية شرّ الذنب بالكلية ، والتكفير قد يقع بعد العقوبة ، فإنَّ المصائبَ الدنيوية كلَّها مكفراتٌ للخطايا ، وهي عقوبات ، وكذلك العفوُ يقع مع العقوبة وبدونها ، وكذلك
الرَّحمة .
والثاني : أنَّ الكفاراتِ من الأعمال ما جعلها الله لمحو الذنوب المكفرةِ بها ، ويكون ذلك هو ثوابَها ، ليس لها ثوابٌ غيرُه ، والغالبُ عليها أنْ تكون من جنس مخالفة هوى النفوسِ ، وتَجَشُّم المشقة فيه ، كاجتنابِ الكبائر الذي جعله الله كفارةً للصغائر .
وأما الأعمال التي تُغفر بها الذنوبُ ، فهي ما عدا ذلك ، ويجتمع فيها المغفرةُ والثوابُ عليها ، كالذكر الذي يُكتب به الحسنات ، ويُمحى به السيئات ، وعلى هذا الوجه فَيُفرَّقُ بين الكفارات من الأعمال وغيرها ، وأما تكفيرُ الذنوب ومغفرتها إذا أُضيف ذلك إلى الله ، فلا فرق بينهما ، وعلى الوجه الأوَّل يكونُ بينهما فرق أيضاً .
ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران :
أحدهما : قولُ ابن عمر لمَّا أعتق العبد الذي ضربه : ليس لي في عتقه مِنْ الأجر شيء ، واستدلَّ بأنَّه كفارة .

والثاني : أنَّ المصائب الدنيوية كُلَّها مكفراتٌ للذنوب ، وقد قال كثير مِنَ الصحابة وغيرهم مِنَ السَّلف : إنَّه لا ثواب فيها مع التكفير ، وإنْ كان بعضهم قد خالف في ذلك ، ولا يقال : فقد فسر الكفارات في حديث المنامِ بإسباغ الوضوء في المكروهات ، ونقلِ الأقدامِ إلى الصلوات(1) ، وقال : مَنْ فعل ذلك عاش بخير ، وماتَ بخير ، وكان من خطيئته كيومَ ولدته أمه .
وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفعُ الدرجات ، ويحصل عليها الثوابُ ، لأنَّا نقول : قد يجتمع في العمل الواحد شيئانِ يُرفعُ بأحدهما الدرجات ، ويُكفر بالآخر السيئات ، فالوضوء نفسه يُثاب عليه ، لكن إسباغَه في شدَّة البردِ من جنس الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا ، فيكون كفارةً في هذه الحال ، وأما في غير هذه الحالة ، فتغفر به الخطايا ، كما تغفر بالذكر وغيره ، وكذلك المشي إلى الجماعات هو قُربةٌ وطاعةٌ ، ويُثاب عليه ، ولكن ما يحصل للنفس به مِنَ المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة ، وكذلك حبسُ النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها، إما لكسب الدنيا أو للتنَزُّه، هو مِنْ هذه الجهة مؤلم للنفس ، فيكونُ كفارةً(2) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/243 ، والترمذي ( 3235 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 216 )
و( 290 ) ، والحاكم 1/521 من حديث معاذ بن جبل مرفوعاً ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) أخرجه : مالك ( 445 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الرزاق ( 1993 ) ، وأحمد 2/235 و277 و301 ، ومسلم 1/150 ( 251 ) ( 41 ) ، والترمذي ( 51 ) ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ) .

وقد جاء في الحديث أنَّ إحدى خطوتي الماشي إلى المسجد ترفعُ له درجةً ، والأخرى تحطُّ عنه خطيئة(1) . وهذا يُقوِّي ما ذكرناه ، وأنَّ ما حصل به التكفيرُ غيرُ
ما حصل به رفعُ الدَّرجات ، والله أعلم .
وعلى هذا ، فيجتمع في العمل الواحد تكفيرُ السيِّئات ، ورفعُ الدرجات من
جهتين ، ويُوصَفُ في كلِّ حال بكلا الوصفين ، فلا تنافيَ بين تسميته كفارةً وبين الإخبار عنه بمضاعفة الثواب به ، أو وصفه برفع الدرجات ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -
: ( الصلواتُ الخمسُ ، والجمعةُ إلى الجمعةِ ، ورمضانُ إلى رمضانَ مُكَفِّراتٌ لما بينهن ما اجتُنِبت الكبائرُ ) (2) ، فإنَّ في حبس النفس على المواظبة على الفرائضِ من مخالفة هواها وكَفِّهَا عما تميلُ إليه ما يُوجبُ ذلك تكفير الصغائر .
__________
(1) أخرجه: الطيالسي ( 2412 ) و( 2414 ) ، وأحمد 2/252، والبخاري 1/129 ( 477 ) و1/166 ( 647 ) و3/86 ( 2119 ) ، ومسلم 2/128 ( 649 ) ( 272 ) ، وأبو داود ( 559 ) ، وابن ماجه ( 281 ) و( 774 ) والترمذي ( 603 ) ، وابن حبان ( 2043 ) ، والبيهقي 3/61 ، والبغوي ( 471 ) من حديث أبي هريرة مرفوعاً .
(2) سبق تخريجه .

وكذلك الشهادةُ في سبيل الله تكفِّرُ الذُّنوب بما يحصُل بها من الألم ، وترفعُ الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن ، فتبيَّن بهذا أنَّ بعضَ الأعمال يجتمع فيها ما يُوجِبُ رفع الدرجات وتكفير السيئات من جهتين ، ولا يكونُ بينهما منافاة ، وهذا ثابت في الذُّنوب الصَّغائر بلا ريب ، وأمَّا الكبائر ، فقد تُكَفَّر بالشَّهادة مع حصولِ الأجر للشَّهيد ، لكن الشهيد ذو الخطايا في رابع درجة من درجات الشهداء ، كذا رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث فضالة بن عُبيد خرَّجه الإمام أحمد والترمذي(1) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/22 و23 ، والترمذي ( 1644 ) ، وقال : ( هذا حديث حسن غريب ) عن فضالة بن عبيد ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ، وفيه : ( … ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك من الدرجة الرابعة ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 45 ) و( 133 ) ، وعبد بن حميد ( 27 ) ، والبزار ( 246 ) ، وأبو يعلى ( 252 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 363 ) عن فضالة بن عبيد ، عن عمر بن الخطاب ، به .

وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها ، فقد دلَّ عليه الأحاديثُ الصحيحة في الذِّكر ، وقد قيل : إنَّ تلك السيئات تُكتب حسنات أيضاً ، كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكرُه(1) ، وذكرنا أيضاً عن بعض السَّلف أنَّه يُمحى بإزاء السيئة الواحدة ضعفٌ واحد من أضعاف ثواب الحسنة ، وتبقى له تسع حسنات(2) . والظاهر أنَّ هذا مختصٌّ بالصغائر ، وأمَّا في الآخرة ، فيُوازَنُ بين الحسنات والسيئات ، ويقُصُّ بعضُها من بعضٍ ، فمن رجحت حسناتُه على سيئاته ، فقد نجا ، ودخل الجنَّة ، وسواء في هذا الصغائر والكبائر ، وهكذا من كانت له حسنات وعليه مظالم ، فاستوفى المظلومون حقوقَهم من حسناته ، وبقي له حسنةٌ ، دخل بها الجنة . قال ابن مسعود : إنْ كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرَّةٍ ، ضاعفها الله لهُ حتَّى يدخل الجنة ، وإنْ كان شقياً قال الملك : ربِّ فَنِيَتْ حسناتُه ، وبقي له طالبون كثير ، قال : خُذوا من سيئاتهم ، فأضعِفوها إلى سيئاته ، ثم صُكُّوا له صكاً إلى النار . خرَّجه ابن أبي حاتم وغيرُه(3) .
والمرادُ أنَّ تفضيلَ مثقالِ ذرَّةٍ مِنَ الحسنات إنَّما هو بفضل الله - عز وجل - ، لمضاعفته لحسنات المؤمن وبركته فيها ، وهكذا حالُ مَنْ كانت له حسناتٌ وسيئاتٌ ، وأرادَ الله رحمته ، فضل له من حسناته ما يُدخِلُه به الجنةَ ، وكُلُّه من فضل الله ورحمته ، فإنَّه لا يدخل أحدٌ الجنَّةَ إلاَّ بفضل الله ورحمته(4) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) هو ابن مسعود - رضي الله عنه - . انظر : المصنف لابن أبي شيبة ( 3453 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/955 ( 5335 ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/503 و509 من حديث أبي هريرة : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يدخل أحد منكم بعمله الجنة ) قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) .

وخرَّج أبو نعيم بإسنادٍ ضعيفٍ عن عليٍّ مرفوعاً : ( أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل : قُل لأهل طاعتي من أُمتك : لا يَتَّكلوا على أعمالهم ، فإنِّي لا أُقَاصُّ عبداً الحساب يومَ القيامة أشاءُ أنْ أُعَذِّبه إلاَّ عذبتُه ، وقل لأهل معصيتي من أمتك : لا يُلقوا بأيديهم ، فإني أغفرُ الذَّنب العظيمَ ولا أُبالي )(1) ، ومصداقُ هذا قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : ( مَنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ ) ، وفي رواية
: ( هلك ) (2) ، والله أعلم .
المسألة الثانية : أنَّ الصغائر هل تجبُ التَّوبةُ منها كالكبائر أم لا ؟ لأنَّها تقع مكفرةً باجتناب الكبائر(3) ، لقوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } (4) . هذا ممَّا اختلف الناسُ فيه .
فمنهم من أوجب التوبة منها ، وهو قولُ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/195 ، وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر ضعفه أحمد وأبو زرعة . انظر : تهذيب الكمال 4/334-335 ( 3672 ) ، وميزان الاعتدال 2/530 .
(2) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1318 ) و( 1319 ) ، وأحمد 6/47 و91 و108 و127 و206 ، والبخاري 1/37 ( 103 ) و6/207-208 ( 4939 ) و8/139
( 6536 ) و( 6537 ) ، ومسلم 8/163 ( 2876 ) ( 79 ) و( 80 ) ، وأبو داود
( 3093 ) ، والترمذي ( 3337 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11595 ) ، وابن حبان
( 7369 ) و( 7370 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8595 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 338 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 269 ) ، والبغوي ( 4319 ) وفي
" التفسير " ، له 5/228-229 من طرق عن عائشة رضي الله عنها ، به .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( منها ) .
(4) النساء : 31 .

وقد أمرَ الله بالتوبةِ عَقيبَ ذكر الصغائرِ والكبائرِ ، فقال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } إلى قوله
: { وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1) .
وأمر بالتوبة من الصَّغائر بخصوصها في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2) .
ومن النَّاس من لم يُوجب التوبة منها ، وحكي عن طائفةٍ من المعتزلة ، ومن المتأخرين من قال : يجبُ أحد أمرين ، إمَّا التوبةُ منها ، أو الإتيانُ ببعض المكفِّرات للذُّنوب من الحسنات .
وحكى ابنُ عطية في " تفسيره "(3) في تكفير الصَّغائر بامتثالِ الفرائض واجتناب الكبائر قولين :
أحدهما - وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث - : أنَّه يُقطع بتكفيرها بذلك قطعاً ، لظاهر الآية والحديث .
والثاني - وحكاه عن الأصوليين - : أنَّه لا يُقطع بذلك ، بل يُحمل على غلبة الظنِّ وقوَّة الرجاء ، وهو في مشيئة الله - عز وجل - ، إذ لو قطع بتكفيرها لكانتِ الصَّغائرُ في حكم المباح الذي لا تَبِعَةَ فيه ، وذلك نقضٌ لِعُرى الشريعة .
__________
(1) النور : 30-31 .
(2) الحجرات : 11 .
(3) تفسير ابن عطية 4/33 .

قلت : قد يقال : لا يُقطع بتكفيرها ؛ لأنَّ أحاديث التَّكفير المطلقة بالأعمال جاءت مقيَّدة بتحسين العمل ، كما ورد ذلك في الوضوء والصَّلاة ، وحينئذٍ فلا يتحقَّق وجودُ حسن العملِ الذي يوجب التَّكفير ، وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابنُ عطية ينبني الاختلافُ في وجوب التوبة من الصغائر .
وقد خرَّج ابنُ جرير من رواية الحسن : أنَّ قوماً أتوا عمر ، فقالوا : نرى أشياءَ من كتاب الله لا يُعْمَلُ بها ، فقال لرجلٍ منهم : أقرأتَ القرآن كُلَّه ؟ قال : نعم ، قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ قال : اللهمَّ لا ، قال : فهل أحصيتَه في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثَرِك ؟ ثم تتبَّعهم حتَّى أتى على آخرهم ، ثم قال : ثكِلَت عمرَ أمُّه ، أتكلفونه أنْ يُقيمَ على النَّاس كتاب الله ؟ قد علم ربُّنا أنَّه سيكون لنا سيئات(1) ، قال : وتلا : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } (2) .
وبإسناده عن أنس بن مالك : أنَّه قال : لم أرَ مثلَ الذي بلغنا عن ربِّنا تعالى ، ثم لم نَخْرُجْ له عن كلِّ أهلٍ ومالٍ ، ثم سكت ، ثم قال : والله لقد كلَّفنا ربنا أهونَ من ذلك ، لقد تجاوزَ لنا عمَّا دونَ الكبائر ، فمالنا ولها ، ثم تلا : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } وخرَّجه البزار في " مسنده " مرفوعاً ، والموقوف أصحُّ(3) .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7313 ) .
(2) النساء : 31 .
(3) الرواية الموقوفة أخرجها : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2200 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 7314 ) ، وطبعة التركي 6/659 ، ولم أقف على الرواية المرفوعة لفظاً .

وقد وصف الله المحسنينَ باجتناب الكبائر قال تعالى : { وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ
الْمَغْفِرَةِ } (1) .
وفي تفسير اللمم قولان للسَّلف :
أحدهما : أنَّه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة(2) ، وعن ابن عباس : هو ما دُونَ الحدِّ من وعيد الآخرة بالنار وحدِّ الدُّنيا(3) .
والثاني : أنَّه الإلمامُ بشيء من الفواحش والكبائر مرَّةً واحدةً، ثم يتوبُ منه(4)، وروي عن ابن عباس وأبي هريرة ، وروي عنه مرفوعاً بالشَّكِّ في رفعه ، قال : اللمة من الزنى ثم يتوب فلا يعود ، واللمة من شرب الخمر ، ثم يتوب فلا يعود ، واللمة من السرقة ، ثم يتوب فلا يعود(5) .
__________
(1) النجم : 31-32 .
(2) أخرجه : أحمد 2/276 ، والبخاري 8/67 ( 6243 ) و8/156 ( 6612 ) ، ومسلم 8/51 ( 2657 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 2152 ) ، وابن حبان ( 4420 ) ، والبيهقي 7/89 و10/186 ، والبغوي ( 75 ) من طرق عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان المنطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه ) . اللفظ للبخاري ، قال النووي في " شرح صحيح مسلم " 8/51
( 2657 ) : ( … إن اجتناب الكبائر يسقط الصغائر وهي اللمم وفسره ابن عباس بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوهما وهو كما قال : هذا هو الصحيح في تفسير اللمم ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 25218 ) .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 25208 ) و( 25211 ) و( 25213 ) ، والحاكم 2/469 .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 25209 ) .

ومن فسَّر الآية بهذا قال : لابدَّ أنْ يتوبَ منه بخلاف مَنْ فسَّره بالمقدِّمات ، فإنَّه لم يشترط توبة .
والظاهرُ أنَّ القولين صحيحان ، وأنَّ كليهما مرادٌ من الآية ، وحينئذٍ فالمحسنُ : هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادراً ثم يتوبُ منها ، ومن إذا أتى بصغيرةٍ كانت مغمورةً في حسناته المكفرة لها ، ولابدَّ أنْ لا يكون مُصِراً عليها ، كما قال تعالى : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (1) . وروي عن ابن عباس أنَّه قال : لا صَغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرةَ مع الاستغفار ، وروي مرفوعاً من وجوهٍ ضعيفةٍ(2) .
وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها ، فلا بُدَّ للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ، وقال الله - عز وجل - : { وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } (3) .
__________
(1) آل عمران : 135 .
(2) أخرجه : القضاعي في " مسند الشهاب " ( 853 ) .
(3) الشورى : 36-40 .

فهذه الآيات تضمَّنت وصفَ المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم مِنَ الإيمان والتوكلِ ، وإقام الصَّلاةِ ، والإنفاق مما رزقهمُ الله ، والاستجابة لله في جميع طاعاته ، ومع هذا فهم مجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش ، فهذا هو تحقيقُ التقوى ، ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عندَ الغضبِ ، وندبهم إلى العفو والإصلاح . وأمَّا قوله
: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } فليس منافياً للعفو ، فإنَّ الانتصارَ يكون بإظهار القُدرة على الانتقام ، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك ، فيكون أتمَّ وأكملَ . قال النَّخعيُّ في هذه الآية : كانوا يكرهون أن يُستذلُّوا ، فإذا قَدَرُوا عَفَوا(1) . وقال مجاهد : كانوا يكرهون للمؤمن أنْ يذلَّ نفسه ، فيجترئ عليه الفُسَّاق(2) ، فالمؤمن إذا بُغِي عليه ، يُظهر القدرة على الانتقام ، ثم يعفو بعد ذلك ، وقد جرى مثلُ هذا لكثيرٍ من السَّلف ، منهم : قتادة وغيرُه(3) .
فهذه الآياتُ تتضمن جميعَ ما ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لمعاذ ، فإنَّها تضمنت أصولَ خصالِ التَّقوى بفعل الواجبات ، والانتهاء عن كبائر المحرَّمات ومعاملة الخلق بالإحسان والعفو ، ولازِمُ هذا أنَّهم إنْ وقع منهم شيءٌ من الإثم من غير الكبائر والفواحش ، يكونُ مغموراً بخصالِ التَّقوى المقتضية لتكفيرها ومحوها .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 18486 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 23740 ) .
(2) أخرجه : عبد بن حميد كما في " الدر المنثور " 5/708 من قول إبراهيم النخعي .
(3) انظر : حلية الأولياء لأبي نعيم 2/340 .

وأما الآياتُ التي في سورة آل عمران ، فوَصَفَ فيها المتقين بالإحسّان إلى الخلق، وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس، وعدمِ الإصرار على ذلك ، وهذا هو الأكمل ، وهو إحداثُ التوبة ، والاستغفار عَقِيبَ كلِّ ذنب مِنَ الذُّنوب صغيراً كان أو كبيراً ، كما رُوي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصَّى بذلك معاذاً، وقد ذكرناه فيما سبق .
وإنَّما بسطنا القولَ في هذا ؛ لأنَّ حاجةَ الخلق إليه شديدة ، وكلُّ أحد يحتاجُ إلى معرفة هذا ، ثم إلى العمل بمقتضاه ، والله الموفقُ والمعينُ .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتبع السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحها ) ظاهرُه أنَّ السيِّئات تُمحى بالحسنات ، وقد تقدَّم ذكرُ الآثار التي فيها أنَّ السيِّئة تمحى من صُحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها . قال عطيَّة العَوفي(1) : بلغني أنَّه من بكى على خطيئة مُحيت عنه ، وكُتِبت له حسنة(2) . وعن عبد الله بن عمرو ، قال : من ذكر خطيئةً عَمِلَها ، فوَجِلَ قلبُه منها ، فاستغفر الله - عز وجل - لم يحبسها شيءٌ حتى يمحوها عنه الرَّحمان . وقال بِشْرُ بنُ الحارث : بلغني عن الفضيل بن عياض قال : بكاءُ النَّهار يمحو ذنوب العلانية ، وبكاءُ اللَّيل يمحو ذنوبَ السرِّ . وقد ذكرنا قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ )(3) الحديث .
__________
(1) هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي ، الجدلي الكوفي توفي سنة ( 111 ه‍ ) .
انظر : تهذيب الكمال 5/184 ( 4545 ) ، وسير أعلام النبلاء 5/325 .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الرقة والبكاء " ( 23 ) و( 24 ) .
(3) سبق تخريجه .

وقالت طائفة : لا تُمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبةٍ ولا غيرها ، بل لابُدَّ أنْ يُوقف عليها صاحبُها ويقرأها يوم القيامة ، واستدلوا بقولِهِ تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } (1) ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر ؛ لأنَّه إنَّما ذكر فيها حال المجرمين ، وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة ، فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم ، أو المغمورة ذنوبهم بحسناتهم . وأظهرُ من هذا الاستدلالُ بقولِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (2) ، وقد ذكر بعضُ المفسرين أنَّ هذا القول هوَ الصحيحُ عندَ المحققين ، وقد روي هذا القولُ عن الحسن البصري ، وبلال بن سعد الدمشقي ، قالَ الحسن : في العبدُ يذنب ، ثُمَّ يتوبُ ويستغفِرُ : يُغفر لهُ ، ولكن لا يُمحاه من كتابه دونَ أنْ يَقِفَه عليهِ ، ثُمَّ يسأله عنه ، ثم بكى الحسن بكاءً شديداً ، وقال : لو لم نَبكِ إلاَّ للحياء من ذلك المقام ، لكان ينبغي لنا أن نبكي .
وقال بلالُ بن سعد : إنَّ الله يغفرُ الذنوبَ ، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يُوقِفَهُ عليها يومَ القيامة وإنْ تاب(3) .
__________
(1) الكهف : 49 .
(2) الزلزلة : 7-8 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/226 .

وقال أبو هريرة : يُدني الله العبدَ يومَ القيامة ، فيضع عليه كَنَفَهُ ، فيسترُه مِنَ الخلائق كُلِّها ، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر ، فيقول : اقرأ يا ابنَ آدم كتابَك ، فيقرأ ، فيمر بالحسنة ، فيبيضُّ لها وجهُهُ ، ويُسرُّ بها قَلبُه ، فيقولُ الله : أتعرِفُ يا عبدي ؟ فيقول : نعم ، فيقول : إنِّي قبلتها منك ، فيسجد ، فيقول : ارفع رأسَك وعُد في كِتابك ، فيمر بالسيِّئة ، فيسودُّ لها وجهه ، ويَوْجَلُ منها قلبُه ، وترتعدُ منها فرائصُهُ ، ويأخذه من الحياء من ربِّه ما لا يعلمُه غيرُه ، فيقول : أتعرف يا عبدي ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول : إنِّي قد غفرتُها لك ، فيسجدُ ، فلا يرى منه الخلائقُ إلاَّ السُّجود حتى ينادي بعضهم بعضاً : طوبى لهذا العبد الذي لم يَعصِ الله قطُّ ، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبينَ ربِّه ممَّا قد وَقَفَهُ عليه(1) .
وقال أبو عثمان النَّهديُّ ، عن سلمان : يُعطى الرجل صحيفته يوم القيامة ، فيقرأ أعلاها ، فإذا سيئاته ، فإذا كادَ يسوء ظنه ، نظر في أسفلها ، فإذا حسناته ، ثم نظر في أعلاها فإذا هي قد بُدِّلت حسنات(2) . ورُوي عن أبي عثمان ، عن ابن مسعود ، وعن أبي عثمان من قوله وهو أصحُّ .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " 1/172 من طريق أبي عمران الجوني ، عن أبي هريرة ، به .
(2) انظر : تفسير ابن كثير 3/328 .

وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال : يدخل أهلُ الجنة الجنة على أربعة أصناف : المتقين ، ثم الشاكرين ، ثم الخائفين ، ثم أصحاب اليمين . قيل : لم سُمُّوا أصحابَ اليمين ؟ قال : لأنَّهم عملوا الحسنات والسيئات ، فأعطوا كتبهم بأيمانهم ، فقرؤوا سيئاتهم حرفاً حرفاً قالوا : يا ربَّنا هذه سيِّئاتنا فأين حسناتُنا ؟ فعندَ ذلك محا الله السيِّئات ، وجعلها حسنات ، فعند ذلك قالوا : { هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ } (1) فهم أكثرُ أهل الجنة(2) . وأهلُ هذا القول قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون محو كتابتها من الصحف ، والله أعلم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وخالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسن ) هذا من خصال التقوى ، ولا تَتِمُّ التقوى إلا به ، وإنَّما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه ، فإنَّ كثيراً من النَّاس يظنُّ أنَّ التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده ، فنصَّ له على الأمر بإحسان العشرة للناس ، فإنَّه كان قد بعثه إلى اليمن معلماً لهم ومفقهاً وقاضياً ، ومَنْ كان كذلك ، فإنَّه يحتاج إلى مخالقَةِ النَّاسِ بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيرُه ممن لا حاجةَ للنَّاس به ولا يُخالطهم ، وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيامِ بحقوق الله ، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكُلِّيَّة أو التقصير فيها ، والجمعُ بَيْنَ القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً لا يَقوى عليه إلاَّ الكُمَّلُ مِنَ الأنبياءِ
والصديقين .
وقال الحارث المحاسبي : ثلاثةُ أشياء عزيزة أو معدومة : حسنُ الوجه مع الصِّيانة ، وحسن الخلق مع الدِّيانة ، وحُسنُ الإخاء مع الأمانة(3) .
__________
(1) الحاقة : 19 .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم ، وابن المبارك في " الزهد " ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والخطيب كما في " الدر المنثور " 6/410 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/75 .

وقال بعضُ السَّلف : جلس داود - عليه السلام - خالياً ، فقال الله - عز وجل - : مالي أراك خالياً ؟ قال : هجرتُ الناسَ فيك يا ربَّ العالمين ، قال : يا داود ألا أدلُّك على ما تستبقي به وجوه الناس(1) ، وتبلغ فيه رضاي ؟ خالق النَّاسَ بأخلاقهم ، واحتجز الإيمانَ بيني وبينك(2) .
وقد عدَّ الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى ، بل بدأ بذلك في قوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (3) .
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسناده عن سعيد المقبري قال : بلغنا أنَّ رجلاً جاء إلى
عيسى بنِ مريمَ - عليه السلام - فقال : يا معلِّمَ الخير ، كيف أكون تقياً للهِ - عز وجل - كما ينبغي
له ؟ قالَ : بيسيرٍ من الأمر : تُحِبُّ الله بقلبك كُلِّه ، وتعمل بكدحك وقوَّتك ما استطعت ، وترحمُ ابن جنسك كما ترحم نفسَك ، قالَ : من ابنُ جنسي يا معلِّم الخير ؟ قال : ولَدُ آدم كلهم ، وما لا تُحب أنْ يؤتى إليك ، فلا تأته لأحدٍ وأنت تقيٌّ للهِ - عز وجل - كما ينبغي له(4) .
وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق من أحسن خصال الإيمانِ ، كما خرَّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )(5)
__________
(1) عبارة : ( به وجوه الناس ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " 1/52 .
(3) آل عمران : 133-134 .
(4) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " 1/59 .
(5) أخرجه : أحمد 2/250 و472 ، وأبو داود ( 4682 ) .

وأخرجه : الترمذي ( 1162 ) ، وابن حبان ( 454 ) ، والحاكم 1/3 ، وأبو نعيم في
" الحلية " 9/248 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1291 ) ، والبغوي ( 2341 )
و( 3495 ) قال الترمذي : ( حسن صحيح ) .

، وخرَّجه محمد بن نصر المروزي ، وزاد فيه : ( وإنَّ المرءَ
ليَكُونُ مؤمناً وإنَّ في خُلُقه شيئاً فيَنقُصُ ذلك من إيمانه )(1) .
وخرَّج أحمد ، وأبو داود ، والنَّسائي ، وابنُ ماجه ، من حديث أسامة بن شريك قال : قالوا : يا رسولَ الله ، ما أفضلُ ما أُعطي المرءُ المسلمُ ؟ قال : ( الخُلق الحَسَنُ )(2) .
وأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صاحبَ الخلق الحسن يَبلُغُ بِخلقِه درجةَ الصَّائم القائم لئلا يشتغِلَ المريدُ للتقوى عن حسن الخلق بالصَّوم والصلاة ، ويَظُنُّ أنَّ ذلك يقطعه عن فضلهما ، فخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ المؤمن ليُدرِكَ بحُسْنِ خُلُقه درجاتِ الصَّائم القائم )(3)
__________
(1) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 454 ) و( 455 ) ، وهذه الزيادة ضعيفة لضعف ابن لهيعة وعيسى بن سيلان .
(2) جزء من حديث طويل ، أخرجه : أحمد 4/278 ، وابن ماجه ( 3436 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 5875 ) و( 5881 ) و( 7554 ) و( 7557 ) ولم أجده عند أبي داود .
وأخرجه : وكيع في " الزهد " ( 423 ) ، والحميدي ( 824 ) ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 291 ) وابن حبان ( 478 ) و( 486 ) و( 6061 ) ، وابن خزيمة ( 2774 )
و( 2955 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 463 ) و( 464 ) و( 466 ) و( 469 ) و( 471 ) و( 475 ) و( 479 ) و( 480 ) و( 481 ) و( 484 ) ، وفي " الصغير " ، له ( 559 ) ، والحاكم 4/198-199 و4/399-400 ، والبيهقي 5/146 و9/343 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 1528 ) و( 1529 ) و( 6661 ) ، والبغوي ( 3226 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " ( 1383 ) و( 1384 ) و( 1385 ) و( 1387 ) و( 1388 ) ، وهو حديث صحيح .
(3) أخرجه : أحمد 6/90 و133 و187 ، وأبو داود ( 4798 ) .

وأخرجه: ابن حبان ( 480 ) ، والحاكم 1/60 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7997 ) ، والبغوي ( 3500 ) و( 3501 ) ، وهو قويٌّ بشواهده .

.
وأخبر أنَّ حسن الخُلق أثقلُ ما يُوضَعُ في الميزان ، وإنَّ صاحبَه أحبُّ الناسِ إلى الله وأقربهم من النبيين مجلساً ، فخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ شيءٍ يوضَعُ في الميزان أثقل من حسن الخلق ، وإنَّ صاحبَ حسن الخلق(1) ليَبلُغُ به درجةَ صاحبِ الصَّوم
والصلاة )(2) .
وخرَّج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عبدِ الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألا أخبركم بأحبِّكُم إلى الله وأقربِكُم منِّي مجلساً يومَ القيامة؟ ) قالوا : بلى ، قال : ( أحسَنُكُم خُلُقاً )(3) . وقد سبق حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أكثرُ ما يُدخِلُ الجنَّة تقوى الله وحُسنُ الخلق )(4) .
__________
(1) عبارة : ( وإن صاحب حسن الخلق ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 6/442 و446 و448 ، وأبو داود ( 4799 ) ، والترمذي ( 2002 )
و( 2003 ) عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، به .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20157 ) ، والطيالسي ( 978 ) ، والحميدي ( 394 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 270 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 1975 ) ، وابن حبان ( 481 ) و( 5693 ) و( 5695 ) ، والقضاعي في "مسند الشهاب" ( 214 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8003 ) و( 8004 ) و( 8005 ) ، وقال الترمذي
: ( حسن صحيح ) .
(3) أخرجه : ابن حبان ( 485 ) .
وأخرجه : أحمد 2/185 و218 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 272 ) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، به . وهي من نوع الحسن .
(4) سبق تخريجه .

وخرَّج أبو داود من حديث أبي أمامة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنُ خُلُقُه ) ، وخرَّجه الترمذي وابنُ ماجه بمعناه من حديث أنس(1) .
وقد رُوِيَ عَن السَّلف تفسيرُ حُسنِ الخُلق ، فعن الحسن قال : حُسنُ الخلق : الكرمُ والبذلة والاحتمالُ .
وعن الشعبي قال : حسن الخلق : البذلة والعطية والبِشرُ الحسن ، وكان الشعبي كذلك .
وعن ابن المبارك قال : هو بسطُ الوجه ، وبذلُ المعروف ، وكفُّ الأذى(2) .
وسئل سلامُ بن أبي مطيع عن حسن الخلق ، فأنشد :
تراهُ إذا ما جئته متهلِّلاً
ولَوْ لَم يَكُنْ في كَفِّه غيرُ رُوحِهِ
هُو البَحرُ مِنْ أيِّ النَّواحِي أتيتَهُ

كأنَّك تُعطيه الذي أنت سائِلُه
لَجَادَ بِها فَليَتَّق الله سائِلُه
فَلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُه

وقال الإمامُ أحمد : حُسنُ الخلق أنْ لا تَغضَبَ ولا تحْتدَّ ، وعنه أنَّه قال : حُسنُ الخلق أنْ تحتملَ ما يكونُ من الناس .
وقال إسحاق بن راهويه : هو بسطُ الوجهِ ، وأنْ لا تغضب ، ونحو ذلك قال محمد بن نصر .
وقال بعضُ أهل العلم : حُسنُ الخلق : كظمُ الغيظِ لله ، وإظهار
الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر ، والعفوُ عن الزَّالين إلا تأديباً أو إقامة حدٍّ وكفُّ الأذى عن كلّ مسلم أو معاهَدٍ إلا تغييرَ منكر أو أخذاً بمظلمةٍ لمظلومٍ من غير تعدٍّ(3) .
وفي "مسند الإمام أحمد" (4)
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 4632 ) عن أبي أمامة ، به .
وأخرجه : ابن ماجه ( 51 ) ، والترمذي ( 1993 ) من طريق سلمة بن وردان الليثي ، عن أنس بن مالك ، به ، وقال الترمذي : ( حسن ) .
(2) أخرجه : الترمذي ( 2005 ) عن أحمد بن عبدة الضبي ، عن ابن وهب ، عن عبد الله بن المبارك ، به .
وانظر : تفسير القرطبي 18/228 .
(3) ذكره المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " 2/863 ونسبهُ لعبد الله بن المبارك .
(4) أخرجه : أحمد 3/438 .

وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 20/( 413 ) و( 414 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة وزبان بن فائد .

من حديث معاذ بنِ أنس الجُهَني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الفضائلِ أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك ، وتُعطي من حَرمك ، وتصفحَ عمَّن شَتَمكَ (1) ) .
وخرَّج الحاكم من حديث عُقبة بن عامر الجهني ، قال : قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عقبةُ ، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ ، وتُعطِي مَنْ حَرَمَك ، وتَعْفُو عَمَّن ظَلَمك )(2) .
وخرَّج الطبراني من حديث عليٍّ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألا أدلُّك على أكرم أخلاقِ أهلِ الدُّنيا والآخرة ؟ أنْ تَصِلَ من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتَعفو عمَّن ظلمك )(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( ظلمك ) .
(2) أخرجه : الحاكم 4/161-162 .
وأخرجه : أحمد 4/148 و158 ، وهو حديث قويٌّ بطرقه .
(3) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 5567 ) من طرق عن علي ، به .

الحديث التاسع عشر

عَنْ عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ : كُنتُ خَلفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال :
( يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكُ كَلماتٍ : احفَظِ الله يَحْفَظْكَ ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سَأَلْت فاسألِ الله ، وإذا استَعنْتَ فاستَعِنْ باللهِ ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ ) .
رواه الترمذيُّ ، وقال : حديثٌ حسنَ صَحيحٌ .
وفي رواية غير التِّرمذي : ( احفظ الله تجده أمامَك ، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ ، واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ ، وما أصابَكَ لم يَكُن
ليُخطِئَكَ ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وأنَّ معَ العُسْرِ
يُسراً ) .
هذا الحديث خرَّجه الترمذيُّ(1) من رواية حَنَشٍ الصنعاني ، عن ابنِ عباس ، وخرَّجه الإمامُ أحمد(2)
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 2516 ) .
(2) في " مسنده " 1/293 .

وأخرجه : أبو يعلى ( 2556 ) ، والطبراني في " الكبير " 12/( 12988 ) ، وابن السني في
" عمل اليوم والليلة " ( 426 ) .

من حديث حنش أيضاً مع إسنادَيْن آخرين منقطعين(1) ولم يُميز لفظ بعضها من بعض ، ولفظ حديثه : ( يا غلام أو يا غليم ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ ينفعُك الله بهنَّ ؟ ) فقلتُ : بلى ، فقالَ : ( احفظِ الله يحفَظْكَ ، احفظ الله تجدهُ أمامك ، تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ ، وإذا سألتَ ، فاسألِ الله ، وإذا استعنتَ ، فاستعن بالله ، قد جفَّ القلمُ بما هوَ كائن ، فلو أنَّ الخلق كُلَّهم جميعاً أرادوا أنْ ينفعوك بشيءٍ لم يقضه الله ، لم يَقدِرُوا عليهِ ، وإنْ أرادوا أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا
عليه ، واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، وأنَّ النصر مع الصبر ، وأنَّ الفرجَ مع الكربِ ، وأنَّ مع العسر يسراً ) .
وهذا اللفظُ أتمُّ من اللفظ الذي ذكره الشيخ - رحمه الله - ، وعزاه إلى غير التِّرمذي ، واللفظُ الذي ذكره الشيخ رواه عبدُ بنُ حُميد في " مسنده " بإسناد ضعيفٍ عن عطاء(2) ، عن ابن عباس ، وكذلك عزاه ابنُ الصلاح في " الأحاديث الكلية " التي هي أصلُ أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بنِ حُميد وغيره .
__________
(1) في " مسنده " 1/307 .
(2) أخرجه : عبد بن حميد ( 636 ) .

وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طُرقٍ كثيرة من روايةٍ جماعةٍ منهم(1) : ابنه عليٍّ ، ومولاه عكرمة(2) ، وعطاء بن أبي رباح(3) ، وعمرو بن دينار ، وعُبيد الله بن عبد الله(4) ، وعمر مولى غفرة ، وابن أبي مليكة(5) وغيرهم(6) .
وأصحُّ الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي(7) ، كذا قاله ابنُ منده وغيرُه . وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى ابن عباس بهذه الوصية من حديث عليِّ بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري(8) ، وسهل بن سعد(9)
__________
(1) عبارة : ( جماعة منهم ) سقطت من ( ج ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11560 ) .
(3) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 3/53 ، والطبراني في " الكبير " ( 11416 ) وفي " الأوسط " ، له ( 5417 ) ، والآجري في " الشريعة " : 198 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/314 .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 3/398 ، والطبراني في " الكبير " ( 11243 )
و( 11416 ) ، والحاكم 3/542 ، والبيهقي في " الآداب " ( 933 ) ، والضياء المقدسي في
" المختارة " 11/117-118 ( 109 ) و( 110 ) .
(6) أخرجه : الحاكم 3/541-542 من طريق عبد الملك بن عمير .
(7) في " الجامع الكبير " ( 2516 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 12988 ) و( 12989 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 425 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 174 ) من طريق حنش أيضاً .
(8) أخرجه : أبو يعلى ( 1099 ) ، والآجري في " الشريعة " : 199 ، وابن عدي في
" الكامل " 9/77 ، والخطيب في " تاريخه " 14/124 .
(9) أورده الدارقطني في " الأفراد " – كما في الأطراف - ( 2140 ) وقال عقبه : ( تفرد به زهرة بن عمرو التيمي ) .

ولم يذكره البخاري ولا ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل . انظر : التاريخ الكبير 3/366 ، والجرح والتعديل 3/544 ( 5078 ) ولم أعثر على ترجمة له في غير هذين الكتابين .

، وعبد الله بن جعفر(1) ، وفي أسانيدها كلها ضعف .
وذكر العقيلي أنَّ أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضُها أصلحُ من بعض(2) ، وبكلِّ حال ، فطريق حنشٍ التي خرجها الترمذي حسنة جيدة .
وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء(3) : تدبرتُ هذا الحديثَ ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث ، وقِلَّةِ التفهم لمعناه .
قلت : وقد أفردت لشرحه جزءاً كبيراً ونحن نذكر هاهنا مقاصِدَهُ على وجه الاختصار إنْ شاء الله تعالى(4) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( احفظِ الله ) يعني : احفظ حدودَه ، وحقوقَه ، وأوامرَه ،
ونواهيَه ، وحفظُ ذلك : هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتنابِ ، وعندَ حدوده ، فلا يتجاوزُ ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه ، وقال - عز وجل - : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } (5) . وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامرِ الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها .
ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها ، فقال : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } (6) ومدح المحافظين عليها بقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (7) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 315 ) .
(2) انظر : الضعفاء الكبير 3/54 .
(3) في ( ص ) : ( أبو الفرج ) .
(4) وهو كتاب مطبوع اسمه " نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس " .
(5) ق : 32-33 .
(6) البقرة : 238 .
(7) المعارج : 34 .

وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ حافظ عليها ، كان له عندَ الله عهدٌ أنْ يُدخِلَه الجنَّة )(1) وفي حديثٍ آخرَ : ( من حافظ عليهنَّ ، كُنَّ له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة )(2) .
وكذلك الطهارة ، فإنَّها مفتاحُ الصلاة ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن )(3) .
وممَّا يُؤمر بحفظه الأيمانُ ، قال الله - عز وجل - : { واحْفَظوا أَيْمَانَكُم } (4) ، فإنَّ الأيمان يقع الناس فيها كثيراً ، ويُهْمِل كثيرٌ منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 4575 ) ، والحميدي ( 388 ) ، وأحمد 5/315 و317 ، والدارمي ( 1585 ) ، وأبو داود ( 1420 ) ، والنسائي 1/230 وفي " الكبرى " ، له
( 314 ) ، وابن حبان ( 1731 ) و( 2417 ) ، والبيهقي 1/361 والبغوي ( 977 ) من حديث عبادة بن الصامت ، وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه : أحمد 2/169 ، وعبد بن حميد ( 353 ) ، والدارمي ( 2721 ) ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 3180 ) و( 3181 ) ، وابن حبان ( 1467 ) ، والطبراني في
" الأوسط " ( 1788 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو حديث قويٌّ .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 6807 ) من طريق قتادة بن ربعي ، به .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 996 ) ، وابن أبي شيبة ( 35 ) ، وأحمد 5/276 و280 و282 والدارمي ( 656 ) ، وابن ماجه ( 277 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 167 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1444 ) ، والحاكم 1/130 ، والبيهقي 1/457 ، والخطيب في
" تاريخه " 1/293 ، وفي إسناده انقطاع . =
= وأخرجه : ابن ماجه ( 278 ) من طريق عبد الله بن عمرو ، به .
وأخرجه : الطبراني في " مسند الشاميين " ( 217 ) عمن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به .
(4) المائدة : 89 .

ومن ذلك حفظُ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع : ( الاستحياءُ من الله حَقَّ الحياء أنْ تَحْفَظَ الرأس وما وَعَى ، وتحفظ البطنَ وما حوى ) خرَّجه الإمام أحمد والترمذي(1) .
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات ، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عَنِ الإصرار على محرم . قال الله - عز وجل - :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } (2) ، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (3) .
ويتضمن أيضاً حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب .
ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله - عز وجل - : اللسانُ والفرجُ ، وفي حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ حَفِظَ ما بَينَ لَحييه ، وما بَينَ رِجليهِ ، دَخَلَ الجنة ) خرَّجه الحاكم(4) .
وخرَّج الإمام أحمد(5)
__________
(1) في " مسنده " 1/387 ، والترمذي ( 2458 ) ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي ضعيف .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34320 ) ، والحاكم 4/323 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 7730 ) و( 10561 ) ، والبغوي ( 4033 ) .
(2) البقرة : 235 .
(3) الإسراء : 36 .
(4) في " المستدرك " 4/357 .
وأخرجه : الترمذي ( 2409 ) وفي " العلل " ، له ( 614 ) ، وابن حبان ( 5703 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(5) في " مسنده " 4/398 .

وأخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 7/54 ، وعبد الله بن أحمد في " زوائده على الزهد " : 264 ، وأبو يعلى ( 7275 ) ، والحاكم 4/358 ، وتمام في فوائده كما في "الروض البسام" ( 1116 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 545 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 5755 ) ، وهو حديث قويٌّ بشواهده .

من حديث أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ حَفِظ ما بينَ فَقْمَيهِ وفرجه ، دخل الجنة ) .
وأمر الله - عز وجل - بحفظ الفروج ، ومدحَ الحافظين لها ، فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } (1) ، وقال : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (2) ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } (3) .
وقال أبو إدريس الخولاني : أوَّلُ ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض : حفظُ فرجه ، وقال : لا تضعه إلا في حلال .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحفظك ) يعني : أنَّ من حفظَ حدود الله ، وراعى حقوقَه ، حفظه الله ، فإنَّ الجزاء من جنس العمل ، كما قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ } (4) ، وقال : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (5) ، وقال : { إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ } (6) .
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان :
أحدهما : حفظه له في مصالح دنياه ، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ، قال الله - عز وجل - : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ } (7) . قال ابن عباس : هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله ، فإذا جاء القدر خَلُّوْا عنه(8) .
__________
(1) النور : 30 .
(2) الأحزاب : 35 .
(3) المؤمنون : 1-6 .
(4) البقرة : 40 .
(5) البقرة : 152 .
(6) محمد : 7 .
(7) الرعد : 11 .
(8) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15345 ) .

وقال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ مع كلِّ رجلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدرْ فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينَه ، وإنَّ الأجل جُنَّةٌ حصينة(1) .
وقال مجاهد : ما مِنْ عبدٍ إلاَّ له مَلَكٌ يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامِّ ، فما من شيء يأتيه إلا قال : وراءك ، إلا شيئاً أذن الله فيه فيصيبه(2) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي من حديث ابن عمر ، قال : لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هؤلاء الدَّعوات حين يُمسي وحين يُصبح : ( اللهمّ إني أسألُكَ العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إنِّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهمَّ استُر عورتي، وآمن روعتي ، واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذُ بعظمتك أنْ أُغتَالَ من تحتي )(3) .
ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته ، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته ، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15371 ) .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15352 ) .
(3) أخرجه : أحمد 25/25 ، وأبو داود ( 5074 ) ، والنسائي 8/382 ، وفي " الكبرى " ، له
( 10401 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 566 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 29278 ) ، وعبد بن حميد ( 837 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 698 ) و( 1200 ) ، وابن ماجه ( 3871 ) ، وابن حبان ( 961 ) ، والطبراني في " الكبير" ( 13296 ) ، والحاكم 1/517 ، وهو حديث صحيح .

كان بعض العلماء قد جاوز المئة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله ، فوثب يوماً وثبةً شديدةً ، فعُوتِبَ في ذلك ، فقال : هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر ، فحفظها الله علينا في الكبر(1) . وعكس هذا أنَّ بعض السَّلف رأى شيخاً يسأل الناسَ ، فقال : إنَّ هذا ضيَّع الله في صغره ، فضيَّعه الله في كبره .
وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى : { وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحاً } (2) : أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما(3) . قال سعيد بن المسيب لابنه : لأزيدنَّ في صلاتي مِنْ أجلِك ، رجاءَ أنْ أُحْفَظَ فيكَ ، ثم تلا هذه الآية { وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحاً } (4) ، وقال عمرُ بن عبد العزيز : ما من مؤمن(5) يموتُ إلاَّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه .
وقال ابن المنكدرِ : إنَّ الله ليحفظُ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويرات التي حوله فما يزالونَ في حفظ من الله وستر(6) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 17/668 .
(2) الكهف : 82 .
(3) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 332 ) ، والحميدي ( 372 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 17543 ) ، والحاكم 2/369 .
(4) ذكره : البغوي في " تفسيره " 3/211 .
(5) في ( ص ) : ( عبد ) .
(6) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 330 ) ، والحميدي ( 373 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/148 .

ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله ، فإنَّ الله يحفظه في تلك الحال ، وفي " مسند الإمام أحمد " عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كانت امرأةٌ في بيتٍ ، فخرجت في سريَّةٍ من المسلمين ، وتركت ثنتي عشرة عنزاً وصيصيتها كانت تنسج بها ، قال : ففقدت عنزاً لها وصيصيتها ، فقالت : يا ربِّ ، إنَّك قد ضَمِنْتَ لمن خرج في سبيلك أنْ تحفظَ عليه ، وإنِّي قد فَقَدتُ عنزاً من غنمي وصيصيتي ، وإني أَنْشُدُكَ عنزي وصيصيتي ) . قال : وجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شدَّة مناشدتها ربَّها تبارك وتعالى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( فأصبحت عنزها ومثلها ، وصيصيتها ومثلها )(1) .
والصيصية : هي الصِّنارة التي يُغزل بها ويُنسج(2) .
فمن حفظ الله حَفِظَهُ الله من كُلِّ أذى . قال بعضُ السَّلف : من اتقى الله ، فقد حَفِظَ نفسه ، ومن ضيَّع تقواه ، فقد ضيَّع نفسه ، والله الغنىُّ عنه .
ومن عجيب حفظِ الله لمن حفظه أنْ يجعلَ الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى ، كما جرى لِسَفِينةَ مولى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث كُسِرَ به المركبُ ، وخرج إلى جزيرة ، فرأى الأسدَ ، فجعل يمشي معه حتَّى دلَّه على الطريق ، فلمَّا أوقفه عليها ، جعل يُهَمْهِمُ كأنَّه يُوَدِّعُهُ ، ثم رجع عنه(3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/67 ، هذا الحديث مما تفرد به الإمام أحمد ، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/277 : ( رجاله رجال الصحيح ) .
(2) انظر : العين : 538 ( صيص ) .
(3) أخرجه : البزار كما في "كشف الأستار" ( 2733 ) وهو في "مسنده" ( 3838 )، والطبراني في " الكبير " ( 6432 ) ، والحاكم 3/606 ، وانظر : مجمع الزوائد 9/366-367 .

ورؤي إبراهيمُ بن أدهم نائماً في بستان وعنده حَيَّةٌ في فمها طاقةُ نَرجِس ، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ(1) .
وعكسُ هذا أنَّ من ضيع الله ، ضيَّعهُ الله ، فضاع بين خلقه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم ، كما قال بعض السَّلف : إني لأعصي
الله ، فأعرِفُ ذلك في خُلُقِ خادمي ودابَّتي(2) .
النوع الثاني من الحفظ ، وهو أشرف النوعين : حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه ، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة ، ومن الشهوات المحرَّمة ، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته ، فيتوفَّاه على الإيمان ، قال بعض السلَّف : إذا حضر الرجل الموت يقال للملك : شمَّ رأسه ، قال : أجد في رأسه القرآن ، قال : شمَّ قلبه ، قال : أجد في قلبه الصيام ، قال : شمَّ قدميه ، قال : أجد في قدميه القيام ، قال : حَفظَ نفسَه ، فحفظه الله .
وفي " الصحيحين " عن البراء بن عازب(3)
__________
(1) سرد هذه القصة عبد الله بن فرج العابد . انظر : حلية الأولياء 8/109 ، وصفة الصفوة 2/105 .
(2) قال هذا الكلام : الفضيل بن عياض . انظر : حلية الأولياء 8/109 .
(3) الذي وجدناه في الصحيحين عن أبي هريرة .
أخرجه : البخاري 9/145 ( 7393 ) ، ومسلم 8/79 ( 2714 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 19830 ) ، وأحمد 2/246 ، وابن ماجه ( 3874 ) ، والترمذي
( 3401 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 791 ) ، وابن حبان ( 5535 ) .
ورواية البراء بن عازب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة . ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل : اللهم إني أسلمت وجهي إليك . وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك . لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك . آمنت بكتابك الذي أنزلت . وبنبيك الذي أرسلت . واجعلهن من آخر كلامك . فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة ) .

أخرجه : الطيالسي ( 708 ) ، وأحمد 4/290 ، والبخاري 1/71 ( 247 ) و8/84
( 6311 ) ، ومسلم 8/77 ( 2710 ) ( 57 ) و( 58 ) ، وأبو داود ( 5046 )
و( 5048 ) ، والترمذي في " الدعوات " ( 3574 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "
( 780 ) و( 782 ) و(785) .

، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه أمره أنْ يقولَ عندَ منامه : إنْ قبضتَ نفسي فارحمها ، وإنْ أرسلتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين .
وفي حديث عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علمه أنْ يقول : اللَّهُمَّ احفظني بالإسلام قائماً ، واحفظني بالإسلام قاعداً ، واحفظني بالإسلام راقداً ، ولا تُطِعْ فيَّ عدواً ولا حاسداً . خرَّجه ابن حبان في " صحيحه " (1) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يودِّع من أراد سفراً ، فيقول : ( استودعُ الله دينكَ وأمانتَكَ وخواتِيمَ عملك ) ، وكان يقول : ( إنَّ الله إذا استُودعَ شيئاً حَفِظَهُ ) . خرَّجه النَّسائي وغيره(2) .
وفي الجملة ، فالله - عز وجل - يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدود دينَه ، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها ، وقد يكونُ كارهاً له ، كما قال في حقِّ يوسُف - عليه السلام - : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } (3) .
قال ابن عباس في قوله تعالى : { أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } (4) ، قال : يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار(5) .
__________
(1) الإحسان ( 934 ) ، وفي إسناده ضعف .
(2) في " الكبرى " ( 10343 ) و( 10356 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 506 )
و( 513 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2826 ) ، وأحمد 2/7 ، وعبد بن حميد ( 834 ) ، وأبو يعلى
( 3883 ) و( 5624 ) ، وابن حبان ( 2693 ) و( 2710 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 13384 ) و( 13571 ) ، والبيهقي 9/173 ، والبغوي ( 2011 ) ، وهو حديث صحيح .
(3) يوسف : 24 .
(4) الأنفال : 24 .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 12336 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 5/160
( 8954 ) و( 8955 ) ، والحاكم 2/328 .

وقال الحسن - وذكر أهل المعاصي - : هانوا عليه ، فعَصَوْه ، ولو عزُّوا عليه لعصمهم(1) .
وقال ابنُ مسعود : إنَّ العبد ليهمُّ بالأمرِ من التجارة والإمارة حتى يُيسر له ، فينظر الله إليه فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإني إنْ يسرته له أدخلتُه النار ، فيصرفه الله عنه ، فيظلُّ يتطيَّرُ يقول : سبقني فلان ، دهاني فلان ، وما هو إلا فضل الله - عز وجل - .
وخرَّجه الطبراني من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يقول الله - عز وجل - : إنَّ من عبادي من لا يُصلحُ إيمانَهُ إلاَّ الفقر ، وإنْ بسطت عليه أفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانَه إلا الغنى ، ولو أفقرتُه ، لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلاَّ الصِّحَّة ، ولو أسقمته ، لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححتُه ، لأفسده ذلك ، وإنَّ مِنْ عبادي من يطلب باباً من العبادة ، فأكُفُّه عنه ، لكيلا يدخله العُجْبُ ، إني أُدبِّر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني عليمٌ خبير )(2) .
__________
(1) لم أعثر على كلام الحسن وما وجدته عن أبي سليمان الداراني بلفظ : ( هانوا عليه فتركهم وعصوا ، ولو كرموا عليه منعهم عنها ) . انظر : حلية الأولياء 9/261 ، وشعب الإيمان 5/447 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " 10/270 ، وأبو نعيم في "الحلية" 8/319 ، وهو حديث ضعيف .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( احفظ الله تجده تجاهك ) ، وفي رواية : ( أمامك ) معناه : أنَّ مَنْ حَفِظَ حُدودَ الله ، وراعى حقوقه ، وجد الله معه في كُلِّ أحواله حيث توجَّه يَحُوطُهُ وينصرهُ ويحفَظه ويوفِّقُه ويُسدده فـ { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (1) قال قتادة : من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه ، فمعه الفئة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل(2) .
كتبَ بعضُ السَّلف إلى أخٍ له : أمَّا بعد ، فإنْ كان الله معك فمن تخاف ؟ وإنْ كان عليك فمن ترجو ؟
وهذه المعيةُ الخاصة هي المذكورةُ في قوله تعالى لموسى وهارون : { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (3) ، وقول موسى : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } (4) . وفي قول
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وهما في الغار : ( ما ظَنُّكَ باثنين الله ثالثهما ؟ لا تحزن إنَّ الله
معنا )(5) .
__________
(1) النحل : 128 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/340 .
(3) طه : 46 .
(4) الشعراء : 62 .
(5) أخرجه: أحمد 1/4، وعبد بن حميد ( 2 ) ، والبخاري 5/4 ( 3653 ) و5/83 ( 3922 ) و6/83 ( 4663 ) ، ومسلم 7/108 ( 2381 ) ، والترمذي ( 3096 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 16729 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 408 ) ، وابن حبان
( 6278 ) و( 6869 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/480 من حديث أنس ، عن أبي بكر الصديق ، به .

فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ ، والحفظ والإعانة بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (1) ، وقوله : { وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } (2) ، فإنَّ هذه
المعية تقتضي علمَه واطِّلاعه ومراقبته لأعمالهم ، فهي مقتضيةٌ لتخويف العباد منه ،
والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطَتَه ونصرَه ، فمن حفظ الله ، وراعى حقوقه ، وجده أمامَه وتُجاهه على كُلِّ حالٍ ، فاستأنس به ، واستغنى به عن خلقه ،
كما في حديث : ( أفضلُ الإيمان أنْ يعلمَ العبدُ أنَّ الله معه حيث كان )(3) وقد
سبق .
ورُويَ عن بُنان الحمَّال : أنَّه دخل البريَّةَ وحدَه على طريق تبوك ، فاستوحش ، فهتف به هاتف : لِمَ تستوحش ؟ أليس حبيبُك معك ؟(4)
وقيل لبعضهم : ألا تستوحشُ وحدَك ؟ فقال : كيف أستوحش ، وهو يقول :
( أنا جليسُ مَنْ ذكرني ) (5)
__________
(1) المجادلة : 7 .
(2) النساء : 108 .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 741 ) وفي " الأسماء والصفات " ، له : 430 .
(4) سرد هذه الرواية أبو علي الروذباري . انظر : حلية الأولياء 10/324 ، وصفة الصفوة 2/271 .
(5) لم أعثر عليه وما وجدته عن نبي الله موسى عليه السلام بلفظ : ( قال موسى : يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك ، قال : يا موسى أنا جليس من ذكرني ) .

أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34287 ) .

، وقيل لآخر : نراكَ وحدكَ ؟ فقال : من يكن الله معه ، كيف يكونُ وحده ؟ ، وقيل لآخر : أما مَعَكَ مؤنسٌ ؟ قال : بلى ، قيل له : أين هو ؟ قال : أمامي(1) ، وخلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي ، وفوقي . وكان الشبلي
ينشد :
إذا نَحْنُ أدلَجْنَا وأنت أمامَنا

كَفَى لِمَطايَانا بذِكرك هاديا(2)

قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تعرَّف إلى الله في الرَّخاء ، يعرفكَ في الشِّدَّةِ ) يعني : أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله ، وحَفِظَ حدودَه ، وراعى حقوقه في حال رخائه ، فقد تعرَّف بذلك إلى الله ، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة ، فعرفه ربَّه في الشدَّة ، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء ، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه ، ومحبته له، وإجابته لدعائه .
فمعرفة العبد لربه نوعان :
أحدُهما : المعرفةُ العامة ، وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان ، وهذه عامةٌ للمؤمنين .
والثاني : معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية ، والانقطاع إليه ، والأُنس به ، والطمأنينة بذكره ، والحياء منه ، والهيبة له ، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون ، كما قال بعضهم : مساكينُ أهلُ الدُّنيا ، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها ، قيل له : وما هو ؟ قال : معرفةُ الله - عز وجل - .
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ : أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي ، وليس معرفتُه الإقرار به ، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه(3) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ج ) : ( ومعي ) .
(2) قائل هذا البيت هو عمرو بن شاس الأسدي ، له صحبة شهد الحديبية ، وكان ذا قدر وشرف ومنزلة في قومه . انظر : الإصابة 4/205-206 ( 6488 ) .
(3) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/196 بلفظ : ما أغبط أحداً إلا من عرف مولاه ، وأشتهي أن لا أموت حتى أعرفه معرفة العارفين الذين يستحبونه ، لا معرفة التصديق .

ومعرفة الله أيضاً لعبده نوعان :
معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده ، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه ، كما قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } (1) ، وقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } (2) .
والثاني : معرفة خاصة : وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه ، وإجابةَ دعائه ، وإنجاءه من الشدائد ، وهي المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكى عن ربِّه : ( ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِل حتَّى أُحِبَّه ، فإذا أحببتُه ، كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يُبصرُ به ، ويدَه التي يبطِشُ بها ، ورجلَه التي يمشي بها ، فلئن سألني ، لأُعطِيَنَّهُ ، ولئن استعاذني لأعيذنَّه ) ، وفي رواية : ( ولئن دعاني لأجيبنّه )(3) .
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد ، فقال له حبيب :
يا أبا سعيد ، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء ؟ ادخل البيتَ ، فدخل ، ودخل الشُّرَطُ على أثره ، فلم يرَوْهُ ، فذُكِرَ ذلك للحجاج ، فقال : بل كان في البيت ، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه .
واجتمع الفضيلُ بنُ عياض بشعوانة العابدة ، فسألها الدُّعاءَ ، فقالت : يا فضيلُ ، وما بينَك وبينَه ، ما إنْ دعوته أجابك ، فغُشِيَ على الفضيل(4) .
وقيل لمعروف : ما الذي هيَّجك(5) إلى الانقطاع والعبادة - وذكر له الموت والبرزخ والجنَّة والنار – ؟ فقال معروف : إنَّ ملكاً هذا كله بيده إنْ كانت بينك وبينه معرفةٌ كفاك جميع هذا .
__________
(1) ق : 16 .
(2) النجم : 32 .
(3) سيأتي تخريجه إن شاء الله ، وهو الحديث الثامن والثلاثون .
(4) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/34 .
(5) في ( ص ) : ( حملك ) .

وفي الجملة : فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه ، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته .
وخرَّج الترمذيُّ من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سرَّه أنْ يستجيب الله له عندَ الشَّدائد ، فليُكثرِ الدُّعاءَ في الرَّخاء )(1) .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم(2) وغيرهُ من رواية يزيد الرقاشي ، عن أنس يرفعه : أنَّ يونس - عليه السلام - لمَّا دعا في بطن الحوت ، قالت الملائكة : يا ربِّ ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة ، فقال الله - عز وجل - : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : ومَنْ هوَ ؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة ؟ قال : نعم ، قالوا : يا ربِّ ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى ، قال :
فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء .
وقال الضحاك بن قيس : اذكروا الله في الرَّخاء ، يذكركُم في الشِّدَّة ، وإنَّ يونس - عليه السلام - كان يذكُرُ الله تعالى ، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت ، قال الله - عز وجل - : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (3) ، وإنَّ فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله ، فلما أدركه الغرق ، قال : آمنت ، فقال الله تعالى : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } (4) (5) .
__________
(1) في " جامعه " ( 3382 ) ، وقال : ( غريب ) أي ضعيف .
وأخرجه : أبو يعلى ( 6396 ) و( 6397 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 44 ) ، وابن عدي في " الكامل " 7/58 ، والحاكم 1/544 .
(2) في " التفسير " 10/3228 ( 18281 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 2711 ) .
(3) الصافات : 143-144 .
(4) يونس : 91 .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34794 ) .

وقال سلمان الفارسي : إذا كان الرجلُ دَعَّاءً في السرَّاء ، فنزلت به ضرَّاءُ ، فدعا الله تعالى ، قالت الملائكة : صوتٌ معروف فشفعوا له ، وإذا كان ليس بدَعَّاءٍ في السَّرَّاء ، فنَزلت به ضرَّاءُ ، فدعا الله تعالى قالت الملائكة : صوتٌ ليس بمعروف ، فلا يشفعون له(1) .
وقال رجل لأبي الدرداء : أوصني ، فقال : اذكر الله في السرَّاء يذكرك الله - عز وجل - في الضَّرَّاء(2) .
وعنه أنَّه قال : ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أنْ يستجيب لك في يوم
ضرَّائك(3) .
وأعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة ، قال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (4) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " 1/313 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/209 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 1/278 .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20267 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 718 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " 1/135 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/225 ، والبيهقي في " شعب
الإيمان " ( 1141 ) .
(4) الحشر : 18-19 .

فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه ، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده ، ذكره الله عندَ هذه الشدائد ، فكان معه فيها ، ولَطَفَ به ، وأعانه ، وتولاَّه ، وثبته على التوحيد ، فلقيه وهو عنه راضٍ ، ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه ، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه ، نسيه الله في هذه الشدائد ، بمعنى أنَّه أعرض عنه ، وأهمله ، فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ له ، أحسن الظنَّ بربه ، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ ، فأحبَّ لقاءَ الله ، وأحبَّ الله لقاءه ، والفاجرُ بعكس ذلك ، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه ، ويَنْدَمُ المفرطُ ، ويقول : { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللهِ } (1) .
قال أبو عبد الرحمان السُّلمي قبلَ موته : كيف لا أرجو ربي وقد صُمْتُ له ثمانين رمضان(2) .
وقال أبو بكر بنُ عيّاش لابنه عندَ موته : أترى الله يُضيِّعُ لأبيك أربعين سنة يَختِمُ القرآن كُلَّ ليلةٍ ؟(3)
وختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مسجَّى للموت ، ثم قال : بحُبِّي لك ، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع ؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم ، كنتُ أرجوكَ لا إله إلاَّ الله ، ثم قضى(4) .
__________
(1) الزمر : 56 .
(2) أخرجه : يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " 2/590 ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/192 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/28 ، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/271 .
(3) أخرجه : ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/81 ، وذكره الخطيب في " تاريخه " 16/554 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 8/503 .
(4) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/217 ، والخطيب في " تاريخه " 7/489 ، والمزي في " تهذيب الكمال " 1/160 ، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 10/337 .

ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عديٍّ ، رفع يديه ، وقال : اللهمَّ إنِّي إليك لمشتاقٌ(1) .
وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته : سيدي لهذه الساعة خبَّأتك ، ولهذا اليوم اقتنيتُك ، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك(2) .
وقال قتادة في قول الله - عز وجل - : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } (3) قال : من الكرب عندَ الموت(4) .
وقال عليُّ بن أبي طلحَة ، عن ابن عباس في هذه الآية : يُنجيه من كُلِّ كَربٍ في الدنيا والآخرة(5) .
وقال زيدُ بن أسلم في قوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } (6) الآية . قال : يُبشر بذلك عند موته ، وفي قبره ، ويوم يُبعث ، فإنَّه لفي الجنة ، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه .
وقال ثابت البناني في هذه الآية : بلغنا أنَّ المؤمنَ حيث يبعثه الله من قبره ، يتلقاه مَلَكاه اللَّذانِ كانا معه في الدنيا ، فيقولان له : لا تخف ولا تحزن ، فيؤمِّنُ الله خوفَه ، ويُقِرُّ الله عينَه ، فما مِنْ عظيمة تَغشى الناس يومَ القيامة إلاَّ هي للمؤمن قرَّةُ عينٍ لما
هداه الله ، ولما كان يعملُ في الدُّنيا(7) .
__________
(1) أورده الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 10/443 .
(2) هو عبد الصمد بن عمر بن إسحاق ، كان من أهل الزهد والصلاح ، نقل كلامه هذا ابن عقيل ، عن بعض من حضر وفاته . انظر : صفة الصفوة 2/291 .
(3) الطلاق : 2 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26573 ) .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26565 ) .
(6) فصلت : 30 .
(7) انظر : تفسير ابن كثير 1/100 .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت ، فاستعن بالله ) هذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (1) ، فإنَّ السؤال لله هو دعاؤُه والرغبةُ إليه ، والدُّعاء هو العبادة ، كذا روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث النعمان بن بشير ، وتلا قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (2) خرَّجه الإمامُ أحمد ، وأبو داود(3) ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه(4) .
وخرَّج الترمذي(5) من حديث أنس بن مالك ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الدُّعاءُ مُخُّ
العبادة ) ، فتضمن هذا الكلام أنْ يُسأل الله - عز وجل - ، ولا يُسأل غيره ، وأنْ يُستعان بالله دونَ غيره .
وأما السؤال ، فقد أمر الله بمسألته ، فقال : { وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ } (6) . وفي
" الترمذي " (7)
__________
(1) الفاتحة : 5 .
(2) غافر : 60 .
(3) أبو داود ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه: أحمد 4/267 و271 و276 و277، وأبو داود ( 1479 )، والترمذي ( 2969 ) و( 2347 ) ، والنسائي في " التفسير " ( 484 ) ، وابن ماجه ( 3828 ) .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1299 ) ، والطيالسي ( 801 ) ، والبخاري في
" الأدب المفرد " ( 714 ) ، وابن حبان ( 890 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 3901 ) وفي
" الصغير " ، له ( 1041 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1 ) و( 4 ) ، والحاكم 1/491 ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(5) في " الجامع الكبير " ( 3371 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، قال الترمذي
: ( غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة ) .
(6) النساء : 32 .
(7) في " الجامع الكبير " ( 3571 ) . =

= ... وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " القناعة " 1/106 ، والطبراني في " الكبير " ( 10088 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1283 ) ، وهو حديث ضعيف .

عن ابن مسعود مرفوعاً : ( سَلُوا الله مِنْ فَضلِه ، فإنَّ الله يُحِبُّ أنْ
يُسأل ) .
وفيه أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً : ( من لا يسألِ الله يغْضَبْ عليه )(1) .
وفي حديثٍ آخرَ : ( ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجَتَه كلَّها حتَّى يسأله شِسْعَ نعلِه إذا انقطع )(2) .
وفي النَّهي عن مسألة المخلوقين أحاديثُ كثيرة صحيحة ، وقد بايع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه على أنْ لا يسألوا النَّاسَ شيئاً، منهم : أبو بكر الصدِّيق ، وأبو ذر ، وثوبان ، وكان أحدهم يسقط سوطُه أو خِطام ناقته ، فلا يسأل أحداً أنْ يُناوله إياه(3)
__________
(1) الجامع الكبير ( 3373 ) .
وأخرجه : أحمد 2/442 و447 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 658 ) ، وابن ماجه ( 3827 ) ، وأبو يعلى ( 6655 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2452 ) وفي " الدعاء " ، له ( 23 ) ، والحاكم 1/491 ، وهو حديث ضعيف .
(2) أخرجه : البزار في " البحر الزخار " ( 3475 ) ، وأبو يعلى ( 3403 ) ، وابن حبان
( 866 ) و( 894 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 25 ) ، وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " 2/289 ، وهو حديث قويٌّ .
(3) ومن هذه الأحاديث ما خرجه مسلم 3/96 ( 1043 ) عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً ، فقال : ( ألا تبايعون رسول الله ؟ ) وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : ( ألا تبايعون رسول الله ؟ ) فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : ( ألا تبايعون رسول الله ؟ ) قال : فبسطنا أيدينا ، وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك ؟ قال : ( على أنْ تعبدوا الله ولا تشركون به شيئاً ، والصلوات الخمس . وتطيعوا ( وأسر كلمة خفية ) ، ولا تسألوا الناس شيئاً ) . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم . فما يسأل أحداً يناوله إياه .

أخرجه أيضاً : ابن زنجويه في "الأموال" ( 2065 ) ، وأحمد 6/27 ، وأبو داود ( 1642 ) ، وابن ماجه ( 2867 ) ، والبزار في " البحر الزخار " ( 2764 ) ، والنسائي 1/229 ، وابن حبان ( 3385 ) ، والطبراني في "الكبير" 17/( 67 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 335 ) و( 1929 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3519 ) .

.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود : أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إنَّ بني فُلان أغاروا عليّ فذهبوا بابني وإبلي ، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إن آل محمَّدٍ كذا وكذا أهل بيت(1) ، مالهم مدٌّ من طعامٍ أو صاع ، فاسأل الله - عز وجل - ) فرجع إلى امرأته ، فقالت : ما قالَ لك ؟ فأخبرها، فقالت : نِعْمَ ما ردَّ عليك ، فما لبث أنْ ردَّ الله عليه ابنَه وإبله أوفرَ ما كانت ، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فصعد المنبر فحَمِدَ الله وأثنى عليه ، وأمر الناس بمسألة الله - عز وجل - والرغبة إليه ، وقرأ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (2) (3) .
وقد ثبت في "الصحيحين" (4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ الله - عز وجل - يقولُ : ( هل من دَاعٍ ، فأستجيبَ له ؟ هل من سائل فأُعْطِيَه ؟ هل من مُستغفرٍ فأغْفِرَ له ؟ ) .
وخرَّج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله تعالى : من ذا الذي دعاني فلم أُجبه ؟ وسألني فلم أُعطه ؟ واستغفرني فلم أغفر له ؟ وأنا أرحمُ الراحمين )(5) .
__________
(1) عبارة : ( أهل بيت ) لم ترد في ( ص ) .
(2) الطلاق : 2-3 .
(3) أخرجه : الحاكم 1/543 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/106 من رواية أبي عبيدة ، عن أبيه عبد الله بن مسعود ولم يسمع منه .
(4) صحيح البخاري 9/175 ( 7494 ) و8/88 ( 6321 ) و2/66 ( 1145 ) ، وصحيح مسلم 2/175 ( 758 ) ( 168 ) .
(5) لم أجده وقد أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 10/187 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 1087 ) من قول يزيد بن هارون عن بعض الكتب السابقة .

واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين ؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا
الضَّرر ، ونيل المطلوب ، وجلبِ المنافع ، ودرء المضارِّ ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه ؛ لأنَّه حقيقة العبادة ، وكان الإمامُ أحمد يدعو ويقول : اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك(1) ، ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه . كما قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } (2) ، وقال : { مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } (3) .
والله سبحانه يحبّ أنْ يُسأل ويُرْغَبَ إليه في الحوائج ، ويُلَحَّ في سؤاله ودُعائه ، ويَغْضَبُ على من لا يسأله ، ويستدعي مِنْ عباده سؤاله ، وهو قادر على إعطاء خلقه كُلِّهم سُؤْلَهم من غير أنْ يَنْقُصَ من ملكه شيء ، والمخلوق بخلاف ذلك كله : يكره أنْ يُسأل ، ويُحبُّ أنْ لا يُسألَ ، لعجزه وفقره وحاجته . ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك : ويحك ، تأتي من يُغلِقُ عنك بابَه ، ويُظهِرُ لك فقرَه ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتحُ لك بابه بنصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ، ويقول : ادعني أستجب لك ؟!(4)
وقال طاووس لعطاء : إياك أنْ تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة ، أمرك أنْ تسأله ، ووعدك أنْ يُجيبك(5) .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/211 .
(2) يونس : 107 .
(3) فاطر : 2 .
(4) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/176 .
(5) ذكره أبو نعيم في " الحلية " 4/11 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/172 .

وأما الاستعانة بالله - عز وجل - دونَ غيره من الخلق ؛ فلأنَّ العبدَ عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه ، ودفع مضارّه ، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله - عز وجل - ، فمن أعانه الله ، فهو المُعانُ ، ومن خذله فهو المخذولُ ، وهذا تحقيقُ معنى قول : ( لا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله ) ، فإنَّ المعنى : لا تَحوُّلَ للعبد مِنْ حال إلى حال ، ولا قُوَّة له على ذلك إلا بالله ، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ ، وهي كنز من كنوز الجنة ، فالعبدُ محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات ، وترك المحظورات ، والصبر على المقدورات كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله - عز وجل -، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه . وفي الحديث الصحيح عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( احرصْ على ما ينفعُكَ واستعن بالله ولا تعجزْ )(1) .
ومن ترك الاستعانة بالله ، واستعان بغيرِه ، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولاً . كتب الحسنُ إلى عُمَرَ بنِ العزيز : لا تستعِنْ بغيرِ الله ، فيكِلَكَ الله إليه . ومن كلام بعضِ السَّلف : يا ربِّ عَجبت لمن يعرفُك كيف يرجو غيرك ، عجبتُ لمن يعرفك كيف يستعينُ بغيرك .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1114 ) ، وأحمد 2/366 و370 ، ومسلم 8/56 ( 2668 ) ، ويعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " 3/6 ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 356 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 621 ) و( 622 ) و( 624 ) ، وأبو يعلى ( 6346 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 259 ) و( 262 ) ، وابن حبان ( 5721 )
و( 5722 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 349 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/296 ، والبيهقي 10/89 ، والخطيب في " تاريخه " 12/223 من حديث أبي هريرة .

قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ ) وفي روايةٍ أخرى : ( رُفِعت الأقلام ، وجفَّت الصحف ) هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها ، والفراغ منها من أمدٍ بعيد ، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته ، ورفعت الأقلامُ عنه ، وطال عهده ، فقد رُفعت عنه الأقلام ، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها ، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها ، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها .
وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى ، قال الله تعالى :
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ } (1) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائق قبل أنْ يخلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألفَ سنة ) .
وفيه(3) أيضاً عن جابر : أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله ، فيمَ العمل اليوم ؟ أفيما جفَّت به الأقلامُ ، وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل ؟ قال : ( لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ) ، قال: ففيم العملُ ؟ قال: ( اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خلق له ).
__________
(1) الحديد : 22 .
(2) الصحيح 8/50 ( 2653 ) .
وأخرجه : أحمد 2/169 ، وعبد بن حميد ( 343 ) ، والترمذي ( 2156 ) ، وابن حبان
( 6138 ) ، وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " 1/327 ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " 374-375 .
(3) صحيح مسلم 8/47 ( 2648 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1737 ) ، وابن الجعد في " مسنده " ( 2721 ) و( 2722 ) ، وابن حبان ( 337 ) و( 3924 ) ، والآجري في " الشريعة " : 174 ، والبغوي ( 74 ) .

وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث عبادة بن الصامت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ أوَّل ما خلق الله القلم ، ثم قال : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة )(1) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جداً يطول ذكرها .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فلو أنَّ الخلق جميعاً أرادوا أنْ ينفعوك بشيء لم يقضِهِ الله ، لم يقدِرُوا عليه ، وإنْ أرادوا أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه ) .
هذه رواية الإمام أحمد ، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضاً(2) ، والمراد : إنَّ ما يُصيب العبدَ في دنياه مما يضرُّه أو ينفعه ، فكلُّه مقدَّرٌ عليه ، ولا يصيبُ العبدَ إلا ما كُتِبَ له من ذلك في الكتاب السابق ، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً .
وقد دلَّ القرآنُ على مثل هذا في قوله - عز وجل - : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ
لَنَا } (3) ، وقوله : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } (4) ، وقوله : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } (5) .
وخرَّج الإمام أحمد(6)
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/317 ، وأبو داود ( 4700 ) ، والترمذي ( 2155 ) و( 3319 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 577 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 104 ) و( 107 ) ، والشاشي ( 1192 ) ، والآجري في " الشريعة " : 211 ، والطبراني في " مسند الشاميين "
( 1608 ) و( 1949 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 357 ) و( 1097 ) .
(2) تقدم تخريجهما .
(3) التوبة : 51 .
(4) الحديد : 22 .
(5) آل عمران : 154 .
(6) في " مسنده " 6/441 .

وأخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 246 ) ، والبزار ( 33 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 2214 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 890 ) و( 891 ) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/197 : ( رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات ) .

من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ لكلِّ شيء حقيقةً ، وما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى يعلمَ أنَّ ما أصابه لم يكُنْ ليخطئَهُ ، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبَه ) .
وخرّج أبو داود(1) وابنُ ماجه(2) من حديث زيد بن ثابت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معنى
ذلك أيضاً .
__________
(1) في " سننه " ( 4699 ) .
(2) في " سننه " ( 77 ) .
وأخرجه : أحمد 5/182 و185 ، وعبد بن حميد ( 247 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 245 ) ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في " السنة " ( 843 ) ، وابن حبان ( 727 ) ، والآجري في " الشريعة " : 187 ، والطبراني في " الكبير " ( 4940 ) ، والبيهقي 10/204 ، وهو صحيح .

واعلم أنَّ مدارَ جميع هذه الوصية على هذا الأصل ، وما ذُكِر قبلَه وبعدَه ، فهو متفرِّعٌ عليه ، وراجعٌ إليه ، فإنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ ، ونفعٍ وضرٍّ ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة ، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ ، المعطي المانع ، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه
- عز وجل - ، وإفرادَه بالطاعة ، وحفظَ حدوده ، فإنَّ المعبود إنَّما يقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذمَّ الله من يعبدُ من لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئاً ، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُعطي ولا يمنعُ غيرُ الله ، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق
جميعاً ، وأنْ يتّقي سخطه ، ولو كان فيه سخطُ الخلق جميعاً ، وإفراده بالاستعانة به ، والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرَّخاء ، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد ، ونسيانه في الرخاء ، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه ، قال الله - عز وجل - : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (1) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( واعلم أنَّ في الصَّبر على ما تكره خيراً كثيراً ) يعني : أنَّ ما أصاب العبدَ مِنَ المصائب المؤلمةِ المكتوبة عليه إذا صبر عليها ، كان له في الصبر خيرٌ كثير .
__________
(1) الزمر : 38 .

وفي رواية عمر مولى غُفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام ، وهي : ( فإنِ استطعتَ أنْ تعمل لله بالرِّضا في اليقين فافعل ، وإنْ لم تستطع ، فإنَّ في الصَّبر على ما تكره خيراً كثيراً ) .
وفي روايةٍ أخرى من روايةِ عليِّ بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ؛ لكن إسنادها ضعيف ، زيادة أخرى بعد هذا ، وهي : قلتُ : يا رسول الله ، كيف أصنع باليقين ؟ قال : ( أنْ تعلم أنَّ ما أصابَك لم يكن ليخطئك ، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، فإذا أنتَ أحكمتَ باب اليقين ) . ومعنى هذا أنَّ حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يُعين العبد على أنْ ترضى نفسُه بما أصابه ، فمن استطاع أنْ يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل ، فإنْ لم يستطع الرِّضا ، فإنَّ في الصَّبر على(1) المكروه خيراً كثيراً .
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب :
إحداهما : أنْ يرضى بذلك ، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جداً ، قال الله - عز وجل - : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } (2) . قال علقمة : هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ ، فيعلم أنَّها من عند الله ، فيسلِّمُ لها ويرضى .
وخرَّج الترمذي من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) (3)
__________
(1) عبارة : ( الصبر على ) سقطت من ( ص ) .
(2) التغابن : 11 .
(3) في " الجامع الكبير " ( 2396 ) .

وأخرجه : ابن ماجه ( 4031 ) ، وابن عدي في " الكامل " 4/396 ، والبغوي ( 1435 ) والضياء المقدسي في " المختارة " ( 2350 ) و( 2351 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده سعد بن سنان ، ويقال : سنان بن سعد وفيه ضعف .

، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( أسأَلكَ الرِّضا بعد القضاء ) (1) .
وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه بمعنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له : إنْ أصابته سرَّاء شكر ، كان خيراً له ، وإنْ أصابته
ضرَّاء صبر ، كان خيراً له ، وليس ذلك إلا للمؤمن )(2) .
وجاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله أنْ يُوصيه وصيَّةً جامعةً موجَزةً ، فقال : ( لا تتَّهم الله في قضائه )(3) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 2946 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 128 ) و( 378 ) ، والبزار في " البحر الزخار " ( 1392 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 625 ) ، والحاكم 1/524-525 ، وابن منده في " الرد على الجهمية " ( 86 ) واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 845 ) من حديث عمار بن ياسر مطولاً ، وهو صحيح .
(2) أخرجه : أحمد 4/332 و333 ، والدارمي ( 2780 ) ، ومسلم 8/226 ( 2999 ) ، وابن حبان ( 2896 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 7316 ) وفي " الأوسط " ، له ( 7390 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/154 ، والبيهقي 3/375 وفي " الشعب " ، له ( 9949 ) من حديث صهيب بن سنان .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة كما في " إتحاف الخيرة " ( 1 ) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 60 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 163 ) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد " ( 25 ) ، وهو حديث ضعيف .

قال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أنْ يُرضى به ، وقال ابن مسعود : إنَّ الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوحَ والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشكِّ والسخط(1) ، فالرَّاضي لا يتمنّى غيرَ ما هو عليه من شدَّةٍ ورخاء ، كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرهما(2) . وقال عمر بن عبد العزيز : أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر .
فمن وصل إلى هذه الدرجة ، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ وسرورٍ ، قال الله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } (3) قال بعض السَّلف : الحياة الطيبة : هي الرضا والقناعة(4) . وقال عبد الواحد بن زيد : الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين(5) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 10514 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/130 و4/121 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1116 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 208 ) ، مرفوعاً ، وإسناده تالف لا يصح .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " ( 32 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 209 ) ، موقوفاً .
(2) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 207 ) عن أبي سعيد الخدري ، به . وزاد في أوله
( إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله ) .
(3) النحل : 97 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 16526 ) عن علي ، به .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 16527 ) عن الحسن البصري ، به .
وأخرجه : الحاكم 2/356 عن ابن عباس ، به .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/156 .

وأهل الرضا تارةً يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء ، وأنَّه غير متَّهم في قضائه ، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاء ، فيُنسيهم ألم المقتضي به ، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه ، فيستغرقون في مشاهدة ذلك ، حتى لا يشعرون بالألم ، وهذا يصلُ إليه خواصُّ أهل المعرفة والمحبَّةِ ، حتى ربَّما تلذَّذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم ، كما قال بعضهم : أوجدهم في عذابه عُذوبة .
وسئل بعضُ التابعينَ عن حاله في مرضه ، فقال : أحبُّه إليه أحبُّه إليَّ(1) . وسُئلَ السريّ : هل يجد المحبُّ ألم البلاء ؟ فقالَ : لا . وقال بعضهم :
عذابُه فيكَ عَذْبُ
وأَنْتَ عِندي كرُوحي
حسْبي مِنَ الحُبِّ أنِّي

وبُعْدُهُ فيكَ قُرْبُ
بل أَنْتَ مِنها أَحَبُّ
لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ

والدرجة الثانية : أنْ يصبرَ على البلاء ، وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء ، فالرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه مستحب ، والصبرُ واجبٌ على المؤمن حتمٌ ، وفي الصَّبر خيرٌ كثيرٌ ، فإنَّ الله أمرَ به ، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر . قال الله - عز وجل - : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (2) ، وقال : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ } (3) . قال الحسن : الرِّضا عزيزٌ ، ولكن الصبر معولُ المؤمن(4) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 18/( 193 ) من قول عمران بن الحصين .
(2) الزمر : 10 .
(3) البقرة : 155-157 .
(4) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 393 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " 1/293 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/342 عن عمر بن عبد العزيز ، بلفظ : الرضا قليل ولكن الصبر معول المسلم . ولم أقف على قول الحسن .

والفرق بين الرضا والصبر : أنَّ الصَّبر(1) : كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم ، وتمنِّي زوال ذلك ، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا : انشراح الصدر وسعته بالقضاء ، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم ، وإنْ وجدَ الإحساسُ
بالألم ، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرِّضا ، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( واعلم أنَّ النَّصر مع الصَّبر ) هذا موافق لقول الله - عز وجل - : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ } (2) ، وقوله تعالى : { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (3) . وقال عمرُ لأشياخ من بني عبس : بم قاتلتُمُ الناس ؟ قالوا : بالصبر ، لم نلق قوماً إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا . وقال بعض السَّلف : كلنا يكره الموت وألم الجراح ، ولكن نتفاضل بالصَّبر . وقال البطَّال(4) :
الشجاعةُ صبرُ ساعة .
__________
(1) عبارة : ( أن الصبر ) لم ترد في ( ص ) .
(2) البقرة : 249 .
(3) الأنفال : 66 ، وهذه الآية لم ترد في ( ص ) .
(4) هو أبو محمد عبد الله بن البطال ، ذكره الذهبي ضمن الذين توفوا في سنة ثلاث عشرة ومئة ، وقال عنه : أوطأ الروم خوفاً وذُلاً . ولكن كُذِبَ عليه أشياء مستحيلة في سيرته الموضوعة .
انظر : سير أعلام النبلاء 5/268 ، وتاريخ الإسلام ( 101-120 ه‍ ) : 307 .

وهذا في جهاد العدوِّ الظاهر ، وهو جهادُ الكفار ، وكذلك جهاد العدوِّ الباطن ، وهو جهاد النَّفس والهَوى ، فإنَّ جهادَهُما من أعظم الجهاد ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :
( المجاهدُ مَنْ جاهد نفسه في الله )(1) .
وقال عبد الله بنُ عمر لمن سأله عن الجهاد : ابدأ بنفسك فجاهدها ، وابدأ بنفسك فاغزُها(2) .
وقال بقيةُ بن الوليد : أخبرنا إبراهيمُ بن أدهم ، قال : حدثنا الثقة ، عن عليِّ بن أبي طالب ، قال : أوَّلَ ما تُنكرون من جهادكم جهادكم أنفسكم .
وقال إبراهيم بن أبي عبلة(3) لقوم جاءوا من الغزو : قد جئتُم من الجهاد الأصغر ، فما فعلتم في الجهاد الأكبر ؟ قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهادُ القلب(4) . ويُروى هذا مرفوعاً من حديث جابر بإسناد ضعيف ، ولفظه : ( قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : ( مجاهدةُ العبدِ لهواه )(5)
__________
(1) أخرجه : عبد الله بن المبارك ( 175 ) ، وأحمد 6/20 و22 ، والترمذي ( 1621 ) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد " ( 14 ) ، والنسائي كما في " تحفة الأشراف " ( 11038 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2316 ) ، وابن حبان ( 4624 ) و( 4706 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 797 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 184 ) والبيهقي في " الزهد " ( 370 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 2277 ) ، والبيهقي في " الزهد " ( 368 ) .
(3) في ( ص ) : ( علية ) .
(4) ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/325 .
(5) أخرجه : البيهقي في " الزهد " ( 374 ) وقال عقبه : ( وهذا ضعيف ) .

وليث بن أبي سليم ، قال عنه يحيى بن معين : ليس حديثه بذاك ، وعن أبي حاتم ، وأبي زرعة : ليث لا يشتغل به ، هو مضطرب الحديث ، وعن أبي زرعة قال : ليث بن أبي سليم لين الحديث ، وعن أحمد بن حنبل مضطرب الحديث ، وعنه أيضاً قال : ما رأيت يحيى بن سعيد =
= ... أسوأ رأياً في أحد منه في ليث ، وعن يحيى بن سعيد القطان : أنه كان لا يحدث عن ليث بن أبي سليم .
انظر : الجرح والتعديل 7/242 ( 1014 ) ، وتهذيب الكمال 6/190 ( 5606 ) .
وأخرجه : الخطيب في " تاريخه " 15/685 ، وهو ضعيف أيضاً فيه يحيى بن العلاء . قال عنه أحمد بن حنبل : كذاب يضع الحديث ، وعن عباس الدوري ، عن يحيى بن معين : ( ليس
بثقة ) ، وعن أبي حاتم الرازي، قال : ( رأيت سلمة ضعف يحيى بن العلاء ، وكان سمع منه ).
انظر : الجرح والتعديل 9/221 ( 744 ) ، وتهذيب الكمال 8/75 ( 7490 ) .

.
ويُروى من حديث سعد بن سنان ، عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ليس عدوُّك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة ، وإذا قتلته كان لك نوراً ، أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك )(1) .
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه : إنَّ أوَّل ما أحذِّرُكَ نفسك التي بين جنبيك .
فهذا الجهاد يحتاجُ أيضاً إلى صبر ، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه ، وحصل له النصر والظفر ، وملَكَ نفسه ، فصار عزيزاً ملكاً ، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك، غُلِب وقُهر وأُسر ، وصار عبداً ذليلاً أسيراً في يدي شيطانه وهواه(2) ، كما قيل :
إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامه

بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ

قال ابن المبارك : من صبر ، فما أقلَّ ما يصبر ، ومن جزع ، فما أقل ما يتمتع .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ النصر مع الصبر ) يشمل النصرَ في الجهادين : جهادُ العدوِّ الظاهر ، وجهادُ العدوِّ الباطن ، فمن صبرَ فيهما ، نُصِرَ وظفر بعدوِّه ، ومن لم يصبر فيهما وجَزِعَ ، قُهِرَ وصار أسيراً لعدوّه ، أو قتيلاً له .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنَّ الفرج مع الكرب ) وهذا يشهد له قوله - عز وجل - : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } (3) وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
( ضَحكَ ربنا من قُنوط عباده وقُربِ غيرِهِ ) خرَّجه الإمام أحمد ، وخرَّجه ابنُه عبدُ الله(4)
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 3445 ) من حديث أبي مالك الأشعري ، مرفوعاً ، وهو حديث ضعيف .
وأخرجه : البيهقي في " الزهد " ( 343 ) من حديث ابن عباس ، وهو ضعيف أيضاً .
ولم أقف على طريق سعد بن سنان ، عن أنس بن مالك .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) الشورى : 28 .
(4) في " مسنده " 4/11 و12 ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 452 ) و( 453 ) .

وأخرجه: الطيالسي ( 1092 ) ، وابن ماجه ( 181 )، والطبراني في "الكبير" 19/( 469 ) ، والآجري في " الشريعة " : 279-280 ، وهو حديث ضعيف .

في حديث طويل ، وفيه : ( علم الله يوم الغيث أنَّه ليشرف عليكم أزِلينَ قَنِطينَ ، فيظلُّ يضحك قد علم أنَّ غيرَكُم إلى قُرب )(1) ، والمعنى : أنَّه سبحانه يعجب من قنوط عباده عندَ احتباس القطر عنهم وقنوطهم ويأسهم من الرحمة ، وقد اقترب وقتُ فرجه ورحمته
لعباده ، بإنزالِ الغيث عليهم ، وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون . وقال تعالى : { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } (2) ، وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا } (3) ، وقال تعالى : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } (4) ، وقال حاكياً عن يعقوب أنَّه قال لبنيه : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ } (5) ، ثم قصَّ قصة اجتماعهم عَقيبَ ذلك .
وكم قصَّ سبحانه من قصص تفريجِ كُرُباتِ أنبيائه عند تناهي الكَرْب كإنجاء نوح ومَنْ معه في الفلك ، وإنجاء إبراهيم من النار ، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه ، وإنجاء موسى وقومه من اليمِّ ، وإغراق عدوِّهم ، وقصة أيوب ويونس ، وقصص محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه ، وإنجائه منهم ، كقصته في الغار ، ويوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، وغير ذلك .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 524 ) و( 636 ) ، وعبد الله بن أحمد في " زوائده على المسند " 4/13-14 وفي " السنة " ، له ( 1120 ) ، والطبراني في " الكبير "
19/( 477 ) ، والحاكم 4/560 ، وهو حديث ضعيف .
(2) الروم : 48-49 .
(3) يوسف : 110 .
(4) البقرة : 214 .
(5) يوسف : 87 .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنَّ مَعَ العسر يسراً ) هو منتزع من قوله تعالى : { سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } (1) ، وقوله - عز وجل - : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً } (2) .
وخرَّج البزار في " مسنده " (3) ، وابن أبي حاتم - واللفظ له - من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو جاء العُسْرُ ، فدخل هذا الجُحر ، لجاء اليسر حتّى يدخل عليه فيخرجه (4) ) ، فأنزل الله - عز وجل - { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } .
وروى ابنُ جرير(5) وغيره من حديث الحسن مرسلاً (6) نحوه ، وفي حديثه : فقال
النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لن يَغْلِبَ عُسرٌ يُسرين ) .
__________
(1) الطلاق : 7 .
(2) الشرح : 5-6 .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 2288 ) .
وأخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 10/3446 ( 19395 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 1548 ) ، والحاكم 2/255 ، والبيهقي في " شعب
الإيمان " ( 10012 ) ، وطبعة الرشد ( 9539 ) وهو حديث ضعيف .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " تفسيره " ( 29069 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق في " التفسير " ( 3643 ) ، والحاكم 2/528 .
(6) والمرسل أحد أقسام الضعيف .

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال : لو أنَّ العسر دخل في جُحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ، ثُمَّ قال : قال الله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } (1) . وبإسناده أنَّ أبا عبيدة حُصِرَ فكتب إليه عمرُ يقول : مهما ينْزل بامرئٍ شدَّةٌ يجعل الله بعدها فرجاً ، وإنَّه لن يَغلِبَ عسرٌ يُسرين(2) ، وإنَّه يقول :
{ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (3) .
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر : أنَّ الكربَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى ، وحصل للعبد الإياسُ من كَشفه من جهة المخلوقين ، وتعلق قلبُه بالله وحده ، وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على الله ، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلَبُ بها الحوائجُ ، فإنَّ الله يكفي من توكَّل عليه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (4) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 9977 ) من حديث ابن مسعود ، وهو ضعيف .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " برواية الليثي ( 1288 ) ، وابن أبي شيبة ( 33840 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 10010 ) .
(3) آل عمران : 200 .
(4) الطلاق : 3 .

وروى آدمُ بن أبي إياس في " تفسيره " بإسناده عن محمد بن إسحاق قال : جاء مالكٌ الأشجعي إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أُسِرَ ابني عوفٌ ، فقال له : أرسل إليه أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمُرُكَ أنْ تُكثِرَ من قول: لا حول ولا قوَّةَ إلا بالله ، فأتاه الرسول فأخبره ، فأكبَّ عوفٌ يقول : لا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله ، وكانوا قد شدُّوه بالقِدِّ فسقط القِدُّ عنه ، فخرج فإذا هو بناقةٍ لهم فركبها ، فأقبل فإذا هو بسَرحِ القوم الذين كانوا شدُّوه ، فصاح بهم ، فاتبع آخرُها أوَّلها ، فلم يفاجأ أبويه إلاّ وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه (1) : عوفٌ وربِّ الكعبة ، فقالت أمه : واسوأتاه(2) ، وعوف كئيب يألم ما فيه مِنَ القدِّ ، فاستبقَ الأبُ والخادمُ إليه ، فإذا عوفٌ قد ملأ الفناء إبلاً ، فقصَّ على أبيه أمرَه وأمرَ الإبل ، فأتى أبوهُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره بخبرِ عوفٍ وخبرِ الإبل ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اصنع بها ما أحببتَ ، وما كنت صانعاً بإبلك )(3) ، ونزل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (4) الآية .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من ( ص ) : ( واشوقاه ) .
(3) ذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " ( 2446 ) .
(4) الطلاق : 2-3 .

قال الفضيل : والله لو يئستَ مِنَ الخلق حتَّى لا تريد منهم شيئاً ، لأعطاك مولاك كُلَّ ما تُريد . وذكر إبراهيمُ بن أدهم عن بعضهم قال : ما سأل السائلون مسألةً هي ألحلفُ مِنْ أنْ يقولَ العبدُ : ما شاء الله ، قال : يعني بذلك التَّفويض إلى الله - عز وجل - . وقال سعيدُ بن سالم القداح : بلغني أنَّ موسى - عليه السلام - كانت له إلى الله حاجةٌ ، فطلبها ، فأبطأت عليه ، فقال : ما شاء الله ، فإذا حاجتُه بَيْنَ يديه ، فعجب ، فأوحى الله إليه : أما علمتَ أنَّ قولَك : ما شاء الله أنجحُ ما طُلِبَتْ به الحوائج .
وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا استبطأ الفرج ، وأيس منه بعدَ كثرة دعائه وتضرُّعه ، ولم يظهر عليه أثرُ الإجابة يرجع إلى نفسه باللائمة ، وقال لها : إنَّما أُتيتُ من قِبَلِكَ ، ولو كان فيك خيرٌ لأُجِبْتُ ، وهذا اللومُ أحبُّ إلى الله من كثيرٍ من الطَّاعاتِ ، فإنَّه يُوجبُ انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنَّه أهلٌ لما نزل به من البلاء ، وأنَّه ليس بأهلٍ لإجابة الدعاء ، فلذلك تُسرِعُ إليه حينئذٍ إجابةُ الدعاء وتفريجُ الكرب ، فإنَّه تعالى عندَ المنكسرةِ قلوبهم من أجله .
قال وهب : تعبَّدَ رجل زماناً ، ثم بدت له إلى الله حاجةٌ ، فصام سبعين سبتاً ، يأكلُ في كُلِّ سبتٍ إحدى عشرة تمرة ، ثم سأل الله حاجته فلم يُعطَها ، فرجع إلى نفسه فقال : منك أُتيتُ ، لو كان فيك خيرٌ ، أعطيت حاجتك ، فنَزل إليه عند ذلك مَلَكٌ ، فقال : يا ابنَ آدم ساعتُك هذه خيرٌ من عبادتك التي مضت ، وقد قضى الله حاجتك . خرَّجه ابن أبي الدنيا .
ولبعضِ المتقدمينَ في هذا المعنى شعرٌ(1) :
عسى ما ترى أنْ لا يَدومَ وأنْ تَرَى
عَسى فَرَجٌ يأتِي به الله إنَّه
إذا لاح عسرٌ فارجُ يُسراً فإنَّه

لهُ فَرجاً مِمَّا أَلحَّ به الدَّهرُ
لَهُ كُلَّ يَومٍ في خَليقتِهِ أَمْرُ
قَضَى الله أنَّ العُسرَ يَتبَعُهُ اليُسرُ
__________
(1) سقطت من ( ج ) .

الحديث العشرون

عَنْ أبي مَسعودٍ البَدريِّ - رضي الله عنه - ، قال : قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولى : إذا لَم تَستَحْيِ ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ ) رَواهُ
البُخاريُّ .
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حِراش ، عن أبي مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(1) ، وأظنُّ أنَّ مسلماً لم يخرِّجه ؛ لأنَّه قد رواه قوم ، فقالوا : عن رِبعي ، عن حذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2) فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأنَّ القولَ قولُ من قال : عن أبي مسعود ، منهم : البخاري ، وأبو زرعة الرازي(3) ، والدارقطني (4) وغيرهم ، ويدلُّ على صحة ذلك أنَّه قد رُويَ من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه(5) .
وخرَّجه الطبراني من حديث أبي الطفيل ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيضاً(6) .
__________
(1) في صحيحه 4/215 ( 3483 ) و( 3484 ) و8/35 ( 6120 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 597 ) و( 1316 ) .
(2) أخرجه : أحمد 5/383 و405 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 2028 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/371 ، والخطيب في " تاريخه " 12/135 من طرق عن حذيفة ، به .
(3) ذكره ابن أبي حاتم في " العلل " 3/161 ( 2538 ) .
(4) علل الدارقطني 6/180-181 س ( 1053 ) .
(5) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20149 ) .
(6) في " الأوسط " ( 9400 ) .

فقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ ممّا أدرك الناسُ من كلام النبوَّةِ الأولى ) يشيرُ إلى أنَّ هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرنٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ النبوات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام ، وأنَّه اشتهر بَيْنَ الناسِ حتى وصل إلى أوَّل هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : ( لم يدركِ الناسُ مِنْ كلام النبوَّةِ الأولى إلاَّ هذا ) . خرَّجها حميدُ بن زنجويه وغيره .
وقوله : ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت ) في معناه قولان :
أحدهما : أنَّه ليس بمعنى الأمر : أنْ يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذمِّ والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :
أحدهما : أنَّه أمرٌ بمعنى التهديد والوعيد ، والمعني : إذا لم يكن لك حياء ، فاعمل ما شئت ، فإنَّ الله يُجازيك عليه ، كقوله : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (1) ، وقوله : { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } (2) وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( من باع الخمر ، فَليُشَقِّص الخنازير )(3) ، يعني : ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها ، وأمثلته متعدِّدة وهذا اختيارُ جماعة ، منهم : أبو العباس ثعلب .
__________
(1) فصلت : 40 .
(2) الزمر : 15 .
(3) أخرجه : الحميدي ( 760 ) ، وأحمد 4/253 ، والدارمي ( 2102 ) ، وأبو داود
( 3489 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 884 ) وفي " الأوسط " ، له ( 8532 ) ، والبيهقي 6/12 ، وإسناده ضعيف لجهالة حال عمر بن بيان التغلبي .
قوله : ( فليشقص الخنازير ) معناه : فليقطع الخنازير قطعاً ويعضيها إعضاءاً كما يفعل بالشاة إذا بيع لحمها، المعنى: من استحل بيع الخمر ، فلْيستحل بيع الخنازير ، فإنَّهما في التحريم سواء ، وهذا لفظ معناه النهي ، تقديره : من باع الخمر فليكن للخنازير قصاباً . انظر : لسان العرب 7/163 .

والطريق الثاني : أنَّه أمرٌ ، ومعناه : الخبر ، والمعنى : أنَّ من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياءٌ ، انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حدِّ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كَذَب عليَّ متعمداً(1) ، فليتبوَّأ مقعده من النارِ )(2) ، فإنَّ لفظه لفظُ الأمر ، ومعناه الخبر ، وإنَّ من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيارُ أبي عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - ، وابنِ قتيبة ، ومحمدِ بن نصر المروزي وغيرهم ، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدلُّ على مثل هذا القول .
وروى ابنُ لهيعة ، عن أبي قَبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا أبغض الله عبداً ، نزَعَ مِنْهُ الحَياءَ ، فإذا نزع منه الحياءَ لم تلقه إلا بغيضاً متبغِّضاً ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة نزع منه الرَّحمة ، فإذا نزع منه الرَّحمةَ نزع منه رِبْقَةَ الإسلام ، فإذا نزع منه رِبقةَ الإسلام ، لم تلقه إلا شيطاناً
مريداً )(3) . خرَّجه حميدُ بنُ زنجويه ، وخرَّجه ابنُ ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعاً أيضاً(4) .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 2420 ) ، وأحمد 2/410 و469 و519 ، والدارمي ( 559 ) ، والبخاري 1/38 ( 110 ) و8/54 ( 6197 ) ، ومسلم 1/7 ( 2 ) ( 3 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وهو حديث متواتر انظر تخريج بعض طرقه في تعليقي على " شرح التبصرة والتذكرة " 1/148-149 .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7724 ) ، وطبعة الرشد ( 8328 ) ، وابن لهيعة ضعيف .
(4) في " سننه " ( 4054 ) .
في إسناده سعيد بن سنان ، قال النسائي في " الضعفاء والمتروكين " ( 268 ) : ( متروك الحديث ) .

وعن سلمانَ الفارسي قال : إنَّ الله إذا أرادَ بعبدٍ هلاكاً ، نزَعَ منه الحياءَ ، فإذا نزعَ منه الحياءَ ، لم تلقه إلاَّ مقيتاً مُمقَّتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً، نزع منه الأمانةَ ، فلم تلقه إلا خائناً مخوَّناً ، فإذا كان خائناً مخوناً ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظاً
غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً ، نزع رِبْقَ الإيمان من عنقه ، فإذا نزع رِبْقَ الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطاناً لعيناً ملعناً(1) .
وعن ابن عباس قال : الحياءُ والإيمانُ في قَرَنٍ ، فإذا نُزِعَ الحياءُ ، تبعه الآخر . خرّجه كله حميدُ بنُ زنجويه في كتاب " الأدب " .
وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحياءَ مِنَ الإيمان كما في " الصحيحين " (2) عن ابن عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على رجلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء يقولُ : إنَّك لتستحيي ، كأنَّه يقول : قد أضرَّ بك ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دَعْهُ ، فإنَّ الحياءَ مِنَ الإيمانِ ) (3).
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هُريرة قال : ( الحياءُ شُعبةٌ من الإيمان ) .
وفي " الصحيحين " (5) عن عمران بن حصين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحياءُ لا يأتي إلاَّ بخيرٍ ) ، وفي روايةٍ لمسلم قال : ( الحياء خيرٌ كلُّه ) ، أو قال : ( الحياءُ كلُّه خير ) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/204 .
(2) صحيح البخاري 8/35 ( 6118 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 36 ) ( 59 ) .
(3) بعد هذا في ( ص ) : ( ولفظه للبخاري ) .
(4) صحيح البخاري 1/9 ( 9 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 35 ) ( 57 ) و( 58 ) .
(5) صحيح البخاري 8/35 ( 6117 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 37 ) ( 60 ) .

وخرَّج الإمام أحمد(1) والنسائي(2) من حديث الأشج العصري قال : قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ فيك لخُلُقَيْن يُحبُّهما الله ) قلت : ما هما ؟ قال : ( الحِلْمُ والحياء ) قلت : أقديماً كان أو حديثاً ؟ قال : ( بل قديماً ) ، قلت : الحمد لله الذي جعلني على خُلُقين يحبهما الله .
وقال إسماعيل بن أبي خالد : دخل عيينة بنُ حِصنٍ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجلٌ فاستسقى ، فأُتِيَ بماءٍ فشرب ، فستره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ما هذا ؟ قال : ( الحياء خلَّةٌ أوتوها ومُنِعْتُموها )(3) .
واعلم أنَّ الحياء نوعان :
أحدهما : ما كان خَلْقاً وجِبِلَّةً غيرَ مكتسب ، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يَمْنَحُها الله العبدَ ويَجبِلُه عليها ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الحياء لا يأتي إلاَّ بخير ) ، فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءةِ الأخلاق ، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو مِنْ خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال : من استحيى اختفى ، ومن اختفى اتقى ، ومن اتقى وُقي .
وقال الجَرَّاح بنُ عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة ، ثم أدركني الورع(4) . وعن بعضهم قال : رأيتُ المعاصي نذالةً ، فتركتها مُروءةً ، فاستحالت دِيانة(5) .
__________
(1) في " مسنده " 4/205 ، وهو حديث صحيح .
(2) في " الكبرى " ( 7746 ) و( 8306 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 25347 ) .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 5/190 .
(5) هذه العبارة من كلام ابن سمعون . انظر : تاريخ بغداد 1/275 ، وصفة الصفوة 2/472 .

والثاني : ما كان مكتسباً من معرفة اللهِ ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصالِ
الإيمان ، بل هو مِنْ أعلى درجات الإحسّان ، وقد تقدَّم أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لِرجل :
( استحي مِنَ اللهِ كما تستحي رجلاً مِنْ صالحِ عشيرتِكَ )(1) .
وفي حديث ابن مسعود : ( الاستحياءُ مِنَ الله أنْ تحفَظَ الرَّأسَ وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأنْ تذكر الموتَ والبِلَى ، ومن أراد الآخرة تركَ زينةَ الدُّنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيى مِنَ الله ) خرَّجه الإمامُ أحمد والترمذي مرفوعاً(2) .
وقد يتولَّدُ من الله الحياءُ من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سُلِبَ العبدُ الحياءَ المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنَّه لا إيمانَ له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحياء حياءانِ : طَرَفٌ من الإيمان ، والآخر عجز ) ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال بُشَير بن كعب العدوي لِعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أنَّ منه سكينةً ووقاراً لله ، ومنه ضعف ، فغضب عِمران وقال : أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه ؟(3)
والأمر كما قاله عِمران - رضي الله عنه - ، فإنَّ الحياءَ الممدوح في كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما يُريد به الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل ، وتركِ القبيح ، فأمَّا الضعف والعجزُ الذي يوجب التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنَّما هو ضعفٌ وخَوَرٌ ، وعجزٌ ومهانة ، والله أعلم .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه عند الحديث الثاني عشر .
(3) تقدم تخريجه عند حديث عمران .

والقول الثاني في معنى قوله : ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت )(1) : أنّه أمر بفعل ما يشاء على ظاهرِ لفظه ، وأنَّ المعنى : إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله ، لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنعْ منه حينئذٍ ما شئتَ ، وهذا قولُ جماعةٍ من الأئمة ، منهم : أبو إسحاق المروزي الشافعي ، وحُكي مثله عن الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبلُ ، وكذلك رواه عنه الخلال في كتاب
" الأدب " ، ومن هذا قولُ بعض السَّلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أنْ لا تعملَ في السرِّ شيئاً تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الإثم ما حاكَ في صدرك ، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس )(2) في موضعه من هذا الكتاب إنْ شاء الله تعالى .
وروى عبد الرازق في " كتابه " (3) ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن رجلٍ من مزينة قال : قيلَ : يا رسولَ الله ، ما أفضلُ ما أوتي الرجلُ المسلم ؟ قال
: ( الخلق الحسن ) ، قال : فما شرُّ ما أُوتي المسلم ؟ قال : ( إذا كرهتَ أنْ يُرى عليكَ شيءٌ في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوتَ ) .
وفي " صحيح ابن حبان " (4) عن أسامةَ بنِ شريك قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كرهَ الله منكَ شيئاً ، فلا تفعله إذا خلوتَ ) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) سيأتي تخريجه عند الحديث السابع والعشرين .
(3) " الجامع لمعمر " ( 20151 ) .
(4) الإحسان ( 403 ) ، وإسناده ضعيف لضعف مؤمل بن إسماعيل .

وخرَّج الطبرانيُّ(1) من حديثِ أبي مالكٍ الأشعري قال : قلت : يا رسول اللهِ ما تمامُ البرِّ ؟ قال : ( أنْ تعملَ في السرِّ عملَ العلانية ) . وخرَّجه أيضاً من حديث أبي عامر السكوني(2) ، قال : قلت : يا رسولَ الله ، فذكره .
وروى عبد الغني بنُ سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدّث " بإسناده
عن حرملةَ بنِ عبد الله ، قال : أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لأزداد مِنَ العلمِ ، فقمتُ بين
يديه ، فقلت : يا رسولَ اللهِ ، ما تأمُرني أنْ أعملَ به ؟ قال : ( ائتِ المعروفَ ، واجتنبِ المنكرَ، وانظر الذي سمعته أُذُنُكَ مِنَ الخير يقولُه القومُ لك إذا قمتَ
من عندهم فأتِه ، وانظرِ الذي تكره أنْ يقولَه القومُ لك إذا قمتَ مِنْ عندهم ، فاجتنبه ) قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئاً : إتيانُ المعروف ، واجتنابُ المنكر(3) .
وخرَّجه ابن سعد في " طبقاته " (4) بمعناه .
وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولاً آخر حكاه عن جرير قال : معناه أنْ يُريدَ الرجلُ أنْ يعملَ الخيرَ ، فيدعهُ حياءً من الناس كأنَّه يخاف الرِّياء ، يقول : فلا يمنعك الحياءُ مِنَ المُضيِّ لما أردت ، كما جاء في الحديث : ( إذا جاءك
الشيطانُ وأنت تُصلِّي ، فقال : إنَّك تُرائي ، فزدها طولاً )(5) ثم قال أبو عُبيد : وهذا الحديث ليس يجيء سياقُه ولا لفظُه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .
__________
(1) في " الكبير " ( 3420 ) ، وهو ضعيف لضعف ابن لهيعة وعبد الرحمان الإفريقي ، وانظر : مجمع الزوائد 10/290 .
(2) في " الكبير " 22/( 800 ) ، وهو ضعيف أيضاً وعلته علة سابقه .
(3) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 222 ) ، وهو حديث ضعيف .
(4) الطبقات 1/320 ، وهو ضعيف كذلك .
(5) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 35 ) ، وابن أبي شيبة ( 8357 ) وطبعة الرشد
( 8434 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/132 من قول الحارث بن قيس .

قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظُ الحديث : إذا استحييتَ مما لا يُستحيى منه فافعل ما شئتَ ، ولا يخفى بُعْدُ هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .

الحديث الحادي والعشرون

عَنْ سُفيانَ بن عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - ، قالَ : قُلتُ : يا رَسولَ اللهِ ، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عَنْهُ أحداً غَيرَكَ ، قال : ( قُلْ : آمَنْتُ باللهِ ، ثمَّ استقِمْ ) رواهُ
مُسلم .
هذا الحديث خرَّجه مسلم(1) من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان وسفيان : هو ابنُ عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة ، وكان عاملاً لعمرَ بنِ الخطَّاب على الطائف .
وقد رُوي عن سفيان بن عبد الله من وجوهٍ أخَرَ بزيادات ، فخرَّجه الإمام أحمد ، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري ، عن محمد بن عبد الرحمان بن ماعز(2) ، وعند الترمذي : عبد الرحمان بن ماعز ، عن سفيان بن عبد الله قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، حَدِّثني بأمرٍ أعتصمُ به ، قال : ( قل : ربي الله ، ثم استقم ) ، قلتُ : يا رسول اللهِ ، ما أخوفُ ما تخاف عليَّ ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال
: ( هذا ) ، وقال الترمذي : حسن صحيح(3) .
__________
(1) في " صحيحه " 1/47 ( 38 ) ( 62 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 679 ) ، وأحمد 3/413 ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 21 ) وفي " الآحاد والمثاني " ، له ( 1584 ) ، والبغوي ( 16 ) من طرق عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان بن عبد الله ، به .
(2) أخرجه : أحمد 3/413 ، وابن ماجه ( 3972 ) .
(3) أخرجه : الترمذي ( 2410 ) ، وقال : ( هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي ) .

وخرَّجه الإمام أحمد ، والنَّسائي(1) من رواية عبدِ الله بن سفيان الثقفي ، عن أبيه: أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله ، مُرني بأمرٍ في الإسلام لا أسألُ عنه أحداً بعدَك ،
قال : ( قل : آمنتُ بالله ، ثم استقم ) . قلت : فما أتَّقي ؟ فأومأ إلى
لسانه(2) .
قول سفيان بن عبد الله للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدَك ) طلب منه أنْ يُعلمه كلاماً جامعاً لأمر الإسلام كافياً حتّى لا يحتاجَ بعدَه إلى
غيره ، فقالَ لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قل : آمنتُ باللهِ ، ثُمَّ استقم ) ، وفي الرواية الأخرى : ( قل : ربي الله ، ثُمَّ استقم ) . هذا منتزع من قوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } (3) ، وقوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (4) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( وابن ماجه ) .
(2) أخرجه : أحمد 3/413 و4/384 ، والنسائي في " الكبرى " ( 11489 ) و( 11490 ) وفي " التفسير " ، له ( 509 ) ( 510 ) .
(3) فصلت : 30 .
(4) الأحقاف : 13-14 .

وخرَّج النَّسائي في " تفسيره "(1) من رواية سهيل بن أبي حزم : حدثنا ثابت ، عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } ، فقال
: ( قد قالها الناسُ ، ثم كفروا ، فمن مات عليها فهو مِن أهل الاستقامة ) . وخرَّجه الترمذي(2)، ولفظه : فقال : ( قد قالها الناس ، ثم كفر أكثرُهم ، فمن مات
عليها ، فهو مِمَّنِ استقامَ ) ، وقال : حسن غريب ، وسهيل تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ
حفظه(3) .
وقال أبو بكر الصديق في تفسير { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال: لم يشركُوا بالله شيئاً. وعنه قال : لم يلتفتوا إلى إله غيره . وعنه قال : ثم استقاموا على أنَّ الله رَبُّهم(4) .
وعن ابن عباس بإسنادٍ ضعيفٍ قال : هذه أرخصُ آيةٍ في كتاب الله { قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } على شهادة أنْ لا إله إلا الله(5)
__________
(1) التفسير ( 490 ) وفي " الكبرى " ، له ( 11470 ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 3250 ) وقال : ( حديث غريب … ) ، وفي بعض النسخ
: ( حسن غريب ) .
(3) قال عنه أحمد بن حنبل : ( روى عن تائب أحاديث منكرة ) ، وقال أبو حاتم : ( ليس بالقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به … ) .
انظر : الضعفاء 2/154 ، والجرح والتعديل 4/230 ( 6183 ) ، والكامل 4/526 ، وتهذيب الكمال 3/330 ( 2611 ) .
(4) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 326 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 23551 )
و( 23552 ) .
(5) ذكره : السيوطي في " الدر المنثور " 5/682 وعزاه للبيهقي في " الأسماء والصفات " وضعفه بسبب حفص بن عمر العدني . انظر : الضعفاء والمتروكون ( 133 ) .

وقول مجاهد والأسود بن هلال والسدي وعكرمة ذكره الطبري في " تفسيره " ( 23553 )
و( 23555 ) و( 23556 ) و( 23557 ) ، والقرطبي في " تفسيره " 15/358 ، والسيوطي في " الدر المنثور " 5/682 .

. وروي نحوه عن أنس ، ومجاهد ، والأسود بن هلال ، وزيد بن أسلم ، والسُّدِّيِّ ، وعكرمة ، وغيرهم .
ورُوي عن عمر بن الخطاب أنَّه قرأ هذه الآية على المنبر { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } فقال : لم يَروغوا رَوَغَانَ الثَّعلب(1) .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال : استقاموا على أداءِ فرائضه(2) .
وعن أبي العالية ، قال : ثمَّ أخلصوا له الدينَ والعملَ(3) .
وعن قتادة قال : استقاموا على طاعة الله ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة(4) .
ولعل من قال : إنَّ المرادَ الاستقامة على التوحيد إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النار ، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله ، فإنَّ الإله هو الذي يُطاعُ ، فلا يُعصى خشيةً وإجلالاً ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلاً ودعاءً ، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التوحيد ؛ لأنَّها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان ، قال الله - عز وجل - : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } (5) قالَ الحسن وغيره : هوَ الذي لا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه(6) ، فهذا يُنافي الاستقامة على التوحيد .
__________
(1) ذكره : ابن المبارك في " الزهد " ( 325 ) ، وأحمد بن حنبل في " الزهد " ( 601 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 23558 ) ، والقرطبي في " تفسيره " 15/358 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 23560 ) .
(3) ذكره : ابن كثير في " تفسيره " 7/165 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 23559 ) .
(5) الجاثية : 23 .
(6) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 24134 ) .

وأما على رواية من روى : ( قُلْ : آمنْتُ بالله ) فالمعنى أظهر ؛ لأنَّ الإيمانَ يدخل فيه الأعمالُ الصالحة عند السَّلف ومن تابعهم من أهلِ الحديث(1) ، وقال الله

- عز وجل -: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (2).
فأمره أنْ يستقيمَ هوَ ومن تاب معه ، وأنْ لا يُجاوزوا ما أُمِروا به ، وهو الطغيانُ ، وأخبر أنَّه بصيرٌ بأعمالهم ، مطَّلعٌ عليها ، وقال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } (3) . قال قتادة : أُمِرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - أنْ يستقيمَ على أمر الله . وقال الثوري : على القرآن(4) ، وعن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية شَمَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما رؤي ضاحكاً . خرَّجه ابن أبي حاتم(5) .
__________
(1) قال ابن تيمية - رحمه الله - : ( وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر ، منهم : مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي ، والطبري ، ومن سلك سبيلهم ، فقالوا : الإيمان قول وعمل ، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالجوارح ، مع الإخلاص بالنية الصادقة … ) .
انظر : الفتاوى لابن تيمية 7/206 .
(2) هود : 112 .
(3) الشورى : 15 .
(4) ذكره : القرطبي في " تفسيره " 16/13 .
(5) ذكره : السيوطي في " الدر المنثور " 3/636 ، ونسبه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ .

وذكر القُشَيْريُّ وغيره عن بعضهم : أنَّه رأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، فقال له : يا رسولَ الله قلتَ : ( شَيَّبَتني هُودٌ وأخواتُها ) ، فما شيَّبك منها ؟ قال : ( قوله
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } )(1) .
وقال - عز وجل - : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } (2) .
وقد أمرَ الله تعالى بإقامةِ الدِّين عموماً كما قال : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (3) ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضعٍ من كتابه ،
كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين .
والاستقامة : هي سلوكُ الصِّراط المستقيم ، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً ، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها ، الظاهرة والباطنة ، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك ، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 2439 ) ، وهو من كلام أبي علي السري ، وأصل الحديث : ( شيبتني هود وأخواتها ) تكلمت عليه بتوسع في كتابي " الجامع في العلل " ، وهو من أوائل أحاديث الكتاب ، يسر الله إتمامه وطبعه .
(2) فصلت : 6 .
(3) الشورى : 13 .

وفي قوله - عز وجل - { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها ، فيُجبَرُ ذلك بالاستغفار المقتضي للتَّوبة والرُّجوع إلى الاستقامة ، فهو كقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : ( اتَّقِ الله حيثُما كُنت ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تَمحُها ) (1) . وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الناس لن يُطيقوا الاستقامة حق الاستقامة ، كما خرَّجه الإمام أحمد ، وابن ماجه من حديث ثوبانَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( استَقيموا ولن تُحْصوا ، واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكُم الصَّلاةُ ، ولا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمنٌ ) ، وفي روايةٍ للإمام أحمد : ( سَدِّدوا وقاربوا ، ولا يحافظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن )(2) .
وفي "الصحيحين"(3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سددوا وقاربوا ).
__________
(1) سبق تخريجه وهو الحديث الثامن عشر من هذا الكتاب .
(2) أخرجه : أحمد 5/277 و280 و282 ، وابن ماجه ( 277 ) .
وأخرجه أيضاً : مالك ( 72 ) برواية الليثي ، والطيالسي ( 996 ) ، وابن أبي شيبة ( 35 ) ، وابن أبي عمر العدني في " الإيمان " ( 22 ) و( 23 ) ، والدارمي ( 655 ) ، وابن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 168 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1444 ) وفي
" الأوسط " ، له ( 7019 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 217 ) و( 1335 ) ، والحاكم 1/130 ، والبيهقي 1/82 و457 ، والخطيب في " تاريخه " 1/293 ، وابن عبد البر في
"التمهيد" 24/318-319 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 155 ) ، وهو حديث صحيح .
(3) صحيح البخاري 7/157 ( 563 ) و8/122 ( 6463 ) ، وصحيح مسلم 8/139
( 2816 ) ( 71 ) .

فالسَّدادُ : هو حقيقةُ الاستقامة ، وهو الإصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمال
والمقاصد ، كالذي يرمي إلى غرض ، فيُصيبه ، وقد أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليَّاً أنْ يسألَ الله - عز وجل - السَّداد والهدى ، وقال له : ( اذكر بالسَّدادِ تسديدَكَ السَّهْمَ ، وبالهدى هدايَتك الطَّريق ) (1) .
والمقاربة : أنْ يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرض إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسَه ، ولكن بشرط أنْ يكونَ مصمِّماً على قصد السَّداد وإصابة الغرض ، فتكون مقاربتُه عن غير
عمدٍ ، ويدلُّ عليه قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحكم بن حزن الكُلَفي : ( أيُّها النَّاس ، إنَّكم لن تعملوا – أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمرتُكم ، ولكن سدِّدوا وأبشروا )(2) والمعني : اقصِدُوا التَّسديدَ والإصابةَ والاستقامةَ ، فإنَّهم لو سدَّدُوا في العمل كلِّه ، لكانوا قد فعلوا ما أُمِرُوا به كُلِّه .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 161 ) ، والحميدي ( 52 ) ، وأحمد 1/88 و134 و138 و154 ، ومسلم 8/83 ( 2725 ) ( 78 ) ، وأبو داود ( 4225 ) ، والنسائي 8/177 و219-220 ، وابن حبان ( 998 ) من طرق عن أبي بردة ، عن علي ، به .
(2) أخرجه : أحمد 4/212 ، وأبو داود ( 1096 ) ، وأبو يعلى ( 6826 ) ، وابن قانع في
" معجم الصحابة " 1/207 ، والطبراني في " الكبير " ( 3165 ) ، والبيهقي 3/206 وفي
" دلائل النبوة " ، له 5/354 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 25/140 ، والمزي في
" تهذيب الكمال " 2/240 ( 1409 ) ، وهو حديث حسن .

فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد ، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه قولَه : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } (1) بأنَّهم لم يلتفتوا إلى
غيره ، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله ، وعلى خشيته ، وإجلاله ، ومهابته ، ومحبته ، وإرادته ، ورجائه ، ودعائه ، والتوكُّلِ عليه ، والإعراض عما سواه ، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته ، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء ، وهي جنودهُ ، فإذا استقامَ الملك ، استقامت جنودُه ورعاياه ، وكذلك فسَّر قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } (2) بإخلاص القصد لله وإرادته وحدَه لا شريكَ له .
وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه ، ولهذا لما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة ، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظ لسانه ، وفي
" مسند الإمام أحمد " (3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبُه ، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه ) . وفي " الترمذي " (4) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً وموقوفاً : ( إذا أصبح ابن آدم ، فإنَّ الأعضاءَ كلها تكفر اللِّسان ، فتقول : اتق الله فينا ، فإنَّما نحنُ بك ، فإنِ استقمتَ استقمنا ، وإنِ اعوجَجْتَ اعوججنا ) .
__________
(1) الأحقاف : 13 .
(2) الروم : 30 .
(3) المسند 3/198 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة .
(4) الجامع الكبير ( 2407 ) و( 2407 م1 ) وقال عن الحديث الموقوف : ( وهذا أصح من حديث محمد بن موسى ) أي : الحديث المرفوع .

الحديث الثاني والعشرون

عَنْ جَابِر بنِ عبدِ الله - رضي الله عنهما - : أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : أرأيتَ إذا صَلَّيتُ المَكتُوبَاتِ ، وصُمْتُ رَمَضانَ ، وأَحْلَلْتُ الحَلالَ ، وحَرَّمْتُ الحَرامَ ، ولم أزِدْ على ذلك شيئاً ، أأدخُلِ الجنَّةَ ؟ قالَ : ( نَعَمْ ) . رواهُ مسلم .
هذا الحديثُ خرَّجه مسلم(1) من رواية أبي الزبير ، عن جابر ، وزاد في آخره : قالَ : والله لا أزيدُ على ذَلِكَ شيئاً . وخرَّجه أيضاً(2) من رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، وأبي سفيان ، عن جابر قالَ : قالَ النعمان بنُ قوقل : يا رسولَ الله ، أرأيت إذا صليتُ المكتوبةَ ، وحرمتُ الحرامَ ، وأحللتُ الحلالَ ولم أزِدْ على ذَلِكَ شيئاً أَأَدخُلُ الجَنَّةَ ؟ قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( نعم ) .
وقد فسَّر بعضُهم تحليلَ الحلالِ باعتقادِ حلِّه ، وتحريمَ الحرامِ باعتقاد حُرمته مع اجتنابه(3) ، ويُحتمل أنْ يراد بتحليل الحلال إتيانُه ، ويكون الحلالُ هاهنا عبارةً عمَّا ليسَ بحرامٍ ، فيدخل فيه الواجبُ والمستحبُّ والمباحُ ، ويكونُ المعنى أنَّه يفعل ما ليس بمحرَّم عليه ، ولا يتعدَّى ما أُبيحَ له إلى غيره ، ويجتنب المحرَّمات . وقد روي عن طائفةٍ من السَّلفِ ، منهم : ابنُ مسعود وابن عباس في قوله - عز وجل - : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } (4) ، قالوا : يُحلُّون حلاله ويحرِّمون حرامَه ، ولا يُحرِّفونه عن مواضِعه(5)
__________
(1) في " صحيحه " 1/33 ( 15 ) ( 18 ) .
(2) في " صحيحه "1/33 ( 15 ) ( 17 ) .
(3) منهم : الشيخ أبو عمرو بن الصلاح . انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 1/159 .
(4) البقرة : 121 .
(5) أخرجه : عبد الرزاق في " تفسيره " ( 113 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 1565 ) عن ابن مسعود ، به . =

= ... وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 1563 ) ، وابن أبي حاتم في " التفسير " 1/218
( 1157 ) ، والحاكم 2/266 عن ابن عباس ، به .

.
والمرادُ بالتحليل والتحريم : فعلُ الحلال واجتنابُ الحرام كما ذُكر في هذا الحديث. وقد قال الله تعالى في حقِّ الكفار الذين كانوا يُغيرون تحريمَ الشُّهور الحُرُم : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ } (1) ، والمراد : أنَّهم كانوا يُقاتلون في الشهر الحرام عاماً ، فيُحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاماً ، فيحرِّمونَهُ بذلك(2) .
وقال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً } (3) وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً، وبعضهم حرَّم ذلك عن نفسه ، إمَّا بيمينٍ حَلَفَ بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كُلُّه لا يوجبُ تحريمه في نفس الأمر ، وبعضُهم امتنع منه من غير يمينٍ ولا تحريمٍ ، فسمَّى الجميع تحريماً(4) ، حيث قصد الامتناعَ منه إضراراً بالنفس ، وكفاً لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلانٌ لا يحلِّلُ ولا يحرِّمُ ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقفُ عندَ ما أُبيح له ، وإنْ كان يعتقدُ تحريمَ الحرام ، فيجعلون من فَعَلَ الحرامَ ولا يتحاشى منه مُحلِّلاً له ، وإنْ كان لا يعتقد حلّه .
__________
(1) التوبة : 37 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 12981 ) عن ابن عباس ، به .
(3) المائدة : 87-88 .
(4) انظر في ذلك : تفسير الطبري ( 9635 ) و( 9636 ) ، وتفسير ابن أبي حاتم ( 6687 )
و( 6689 ) .

وبكلِّ حالٍ ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ من قام بالواجبات ، وانتهى عن
المحرَّمات ، دخلَ الجنة ، وقد تواترتِ الأحاديثُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى ، أو ما هو قريبٌ منه ، كما خرَّجهُ النَّسائي ، وابنُ حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس ، ويصومُ رمضان ، ويُخرجُ الزَّكاة ، ويجتنبُ الكبائر السَّبعَ ، إلاَّ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنة ، يدخُلُ من أيِّها شاء ) ، ثم تلا : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (1)(2).
وخرَّج الإمام أحمد(3) والنسائي(4) من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ عَبدَ الله ، لا يُشركُ به ، وأقامَ الصَّلاةَ ، وآتى الزَّكاة ، وصامَ رمضان ، واجتنبَ الكبائرَ ، فله الجنةُ ، أو دخل الجنة ) .
__________
(1) النساء : 31 .
(2) أخرجه : النسائي في " المجتبى " 5/8 ، وابن حبان ( 1748 ) ، والحاكم 1/316 و262 .
وأخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 4/266 ، والطبري في " تفسيره " ( 7287 ) ، وابن خزيمة ( 315 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 477 ) ، والبيهقي 10/187 ، وإسناده ضعيف لجهالة صهيب مولى العتواري فقد تفرد بالرواية عنه نعيم المجمر .
(3) المسند 5/413 .
(4) في " المجتبى " 7/88 ، وهو حديث قويٌّ .

وفي " المسند " (1) عن ابنِ عباس : أنَّ ضِمَامَ بنَ ثعلبةَ وفَدَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر له الصَّلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلمَّا فرغ ، قال : أشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، وسأؤدِّي هذه الفرائض ، وأجتنبُ ما نهيتني عنه ، لا أزيدُ ولا أنقُصُ ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ صدقَ دخلَ الجنَّة ) . وخرَّجه الطبراني(2) مِنْ وجهٍ آخرَ ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أَرَبَ لي فيها ، يعني : الفواحش ، ثم قال : لأعملنَّ بها ، ومن أطاعني ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لئن صدقَ ، ليدخلنَّ الجنَّة ) .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن أبي أيوب : أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أخبرني بعمل يُدخلني الجنَّة ، قال : ( تعبدُ الله لا تُشركُ به شيئاً ، وتقيمُ الصَّلاة ، وتُؤْتِي الزكاةَ ، وتَصِلُ الرَّحم ) . وخرّجه مسلم(4) إلاَّ أنَّ عنده أنَّه قال : أخبرني بعملٍ يُدنيني من الجنَّةِ ويُباعدُني من النَّارِ . وعنده في رواية : فلما أدبرَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ تمسَّك بما أُمِرَ به ، دخلَ الجنَّة ) .
__________
(1) المسند 1/250 و264 و265 ، وهو حديث قويٌّ .
(2) في " الكبير " ( 8151 ) و( 8152 ) ، وفي إسناده مقال .
(3) الصحيح 2/130 ( 1396 ) و8/5-6 ( 5982 ) و8/6 ( 5983 ) .
(4) في " صحيحه " 1/31-32 ( 13 ) ( 14 ) .

وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة : أنَّ أعرابياً قال : يا رسول الله ، دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه دخلتُ الجنَّة ، قال : ( تعبدُ الله لا تُشركُ به شيئاً ، وتقيمُ الصَّلاةَ المكتوبة ، وتؤدِّي الزكاةَ المفروضة ، وتصومُ رمضانَ ) ، قال : والذي بعثك بالحقِّ ، لا أزيدُ على هذا شيئاً أبداً ولا أَنْقُصُ منه ، فلمَّا ولَّى ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَن سرَّه أنْ ينظرَ إلى رجلٍ من أهلِ الجنَّة ، فلينظر إلى هذا ) .
وفي " الصحيحين " (2) عن طلحة بنِ عُبَيد الله : أنَّ أعرابياً جاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثائرَ الرأس ، فقال : يا رسولَ الله ، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصَّلاةِ ؟ فقالَ : ( الصلوات الخمس ، إلا أنْ تَطوَّع شيئاً ) ، فقالَ : أخبرني بما فرض الله عليَّ منَ الصِّيامِ ؟ فقال : ( شهر رمضان ، إلا أنْ تطوَّع شيئاً ) فقال : أخبرني بما فرض الله عليَّ منَ الزَّكاة ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك(3) بالحقِّ ، لا أتطوَّعُ شيئاً ولا أنقصُ ممَّا فرضَ الله عليَّ شيئاً ، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفلحَ إنْ صدق ، أو دخل الجنَّة إنْ صدق ) ولفظه للبخاري .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن أنس : أنَّ أعرابياً سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره بمعناه ، وزاد فيه : ( حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ) فقال : والذي بعثك بالحقِّ لا أزيد عليهن ولا أنقُصُ منهن ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لئنْ صدَقَ ليَدْخُلَنَّ الجنَّة ) .
__________
(1) صحيح البخاري 2/130-131 ( 1397 ) ، وصحيح مسلم 1/33 ( 14 ) ( 15 ) .
(2) صحيح البخاري 1/18 ( 46 ) ، وصحيح مسلم 1/31 ( 11 ) ( 9 ) .
(3) في ( ص ) : ( بعثك ) .
(4) الصحيح 1/31 ( 12 ) ( 10 ) و1/31 ( 12 ) ( 12 ) .

ومراد الأعرابي أنَّه لا يزيدُ على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحجِّ البيت شيئاً من التطوُّع ، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعٍ الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديثُ لم يذكر فيها اجتناب المحرَّمات ؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة .
وخرَّج الترمذي(1) من حديث أبي أُمامة قال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ في حجَّةِ الوداع يقول : ( أيُّها النَّاس ، اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكم ، وصُوموا شهركم ، وأدُّوا زكاةَ أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنَّة ربكم ) وقال : حسن صحيح ، وخرَّجه الإمام أحمد(2) ، وعنده : ( اعبدوا ربكم ) بدل قوله
: ( اتقوا الله ) . وخرَّجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر ، ولفظ حديثه : ( صلُّوا خمسَكم ، وصوموا شهرَكم ، وحُجُّوا بيتكم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، طيِّبةً بها أنفسكم ، تدخلوا جنَّة ربِّكم )(3) .
وخرَّج الإمام أحمد(4) بإسناده عن ابنِ المنتفق ، قال : أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألُك عنهما : ما يُنجيني من النار ، وما يُدخلني الجنَّة ؟ قالَ : ( لئن كنتَ أوجزتَ في المسألة لقد أعظمتَ وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئاً وأقم الصَّلاة المكتوبةَ ، وأدِّ الزَّكاةَ المفروضةَ ، وصُمْ رمضان، وما تُحِبُّ أنْ يفعله بكَ النَّاسُ، فافعله بهم ، وما تكره أنْ يأتي إليك الناس ، فذرِ الناس منه ) .
__________
(1) الجامع الكبير ( 616 ) .
(2) في " مسنده " 5/251 .
(3) أخرجه : أحمد 5/262 .
(4) في " مسنده " 3/472 و6/383 ، وإسناده ضعيف .

وفي روايةٍ له أيضاً قال : ( اتَّقِ الله ، لا تشركْ به شيئاً ، وتُقيم الصَّلاة ، وتُؤتِي الزَّكاة ، وتحجّ البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تَزِدْ على ذلك ) وقيل : إنَّ هذا الصحابي هو وافد بني المنتفق ، واسمه لقيط(1) .
فهذه الأعمال أسبابٌ مقتضية لدخول الجنَّة ، وقد يكونُ ارتكابُ المحرَّمات موانع ، ويدلُّ على هذا ما خرَّجه الإمام أحمد(2) من حديث عمرو بن مرَّة الجهني ، قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، شهدتُ أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّك رسولُ الله ، وصلَّيتُ الخمس ، وأدَّيتُ زكاةَ مالي ، وصُمْتُ شهرَ رمضانَ ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من مات على هذا ، كان مع النبيِّين والصدِّيقينَ والشهداءِ(3) يومَ القيامة هكذا - ونَصَبَ أصبعيه - ما لم يَعُقَّ والديه ) .
__________
(1) ذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث ونسبه إلى عبد الله بن المنتفق اليشكري وكذا قال أبو نعيم الأصبهاني . انظر : معرفة الصحابة 3/246 ( 1769 ) ، والاستيعاب 3/998 ، والإصابة 3/296 ( 4980 ) .
(2) كما في " إتحاف المهرة " 12/526 ( 16033 ) ، وأطراف المسند 5/154 ( 6843 ) حيث إن هذا الحديث سقط من مطبوع المسند للإمام أحمد . قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/147 : ( رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحد إسنادي الطبراني رجال الصحيح ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( والصالحين ) .

وقد ورد ترتُّب(1) دخولِ الجنة على فعلِ بعض هذه الأعمال كالصَّلاةِ ، ففي الحديث المشهور : ( من صلَّى الصلواتِ لوقتِها ، كان له عندَ الله عهدٌ أنْ يُدخِلَهُ الجنّة ) . وفي الحديث الصحيح : ( من صَلَّى البَرْدَينِ دخل الجنة ) ، وهذا كلُّه من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله(2) إلاَّ باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه؛ ويدلُّ على هذا ما خرَّجه الإمام أحمد(3) عن بشير بنِ الخَصاصِيةِ ، قالَ : أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لأبايِعَه ، فشرط عليَّ شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله ، وأنْ أُقيمَ الصَّلاةَ ، وأنْ أُوتي الزكاة ، وأنْ أحجَّ حجة الإسلام ، وأنْ أصومَ رمضان ، وأنْ أُجاهِد في سبيل الله ، فقلتُ : يا رسول الله أما اثنتان فوالله ما أُطيقُهُما : الجهاد والصَّدقةُ ، فقبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ ، ثمَّ حَرَّكَها ، وقال : ( فلا جهادَ ولا صدقةَ ؟ فبِمَ تدخلُ الجنَّة إذاً ؟ ) قلتُ : يا رسول الله أنا أُبايعُك ، فبايعتُه عليهنَّ كُلَّهنَّ . ففي هذا الحديث أنَّه لا يكفي في دخول الجنَّة هذه الخصالُ بدون الزكاة والجهاد .
__________
(1) في ( ص ) : ( ترتيب ) .
(2) في ( ص ) : ( عليه ) .
(3) في " مسنده " 5/224 ، وإسناده ضعيف لجهالة أبي المثنى العبدي مؤثر بن عَفاذة فقد تفرد بالرواية عنه جبلة بن سحيم .

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ ارتكاب بعضِ الكبائر يمنع دخولَ الجنَّة ، كقوله: ( لا يدخل الجَنَّةَ قاطع )(1)، وقوله : ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كِبْر )(2)، وقوله: ( لا تدخلوا الجنة حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤْمِنوا حتَّى تحابُّوا )(3) والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنَّة بالدَّينِ حتى يُقضى ، وفي الصَّحيح
: ( أنَّ المؤمنين إذا جازوا الصِّراطَ ، حُبِسُوا على قنطرة يقتصُّ منهم مظالمُ كانت بينهم في الدنيا ) (4) .
وقال بعض السَّلف : إنَّ الرجل ليُحبَسُ على باب الجنَّةِ مئة عام بالذنب كان يعملُه في الدنيا(5) . فهذه كُلُّها موانع .
ومن هنا يظهرُ معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنَّة على مجرَّد التوحيد ، ففي " الصحيحين " (6) عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ عبدٍ قال : لا إله إلاَّ الله ، ثمَّ مات على ذلك إلاَّ دخل الجنَّة ) ، قلت : وإنْ زنى وإنْ سرق ؟! قالَ : ( وإنْ زنى وإنْ سرق ) ، قالها ثلاثاً ، ثم قال في الرابعة : ( على رغم أنف أبي ذرٍّ ) ، فخرج أبو ذرٍّ ، وهو يقول : وإنْ رغم أنفُ أبي ذرٍّ .
__________
(1) أخرجه : البخاري 8/6 ( 5984 ) ، ومسلم 8/7 ( 2556 ) ( 18 ) من حديث جبير بن مطعم .
(2) أخرجه : أحمد 1/412 و416 ، ومسلم 1/65 ( 91 ) ( 148 ) ، وأبو داود ( 4091 ) من حديث عبد الله بن مسعود .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 25742 ) ، وأحمد 2/391 ، ومسلم 1/53 ( 54 ) ( 94 ) من حديث أبي هريرة .
(4) أخرجه : البخاري 3/167 ( 2440 ) و8/138 ( 6535 ) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35416 ) من قول أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي .
(6) صحيح البخاري 7/192-193 ( 5827 ) ، وصحيح مسلم 1/66 ( 94 ) ( 154 ) .

وفيهما(1) عن عُبادة بنِ الصامت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ شهد أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ له ، وأنَّ محمداً عبده ورسولُه ، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، وأنَّ الجنَّةَ حقٌّ ، والنَّارَ حقٌّ ، أدخله الله الجنَّة على ما كان من عملٍ ) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة ، أو أبي سعيد - بالشَّكِّ - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله ، لا يلقى الله بهما عَبْدٌ
غيرَ شاك ، فيُحْجَبُ عن الجنَّة ) .
وفيه(3) عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له يوماً : ( مَنْ لَقِيتَ يشهد أنْ لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُه ، فبشِّره بالجنَّة ) وفي المعنى أحاديث كثيرة جداً .
وفي " الصحيحين " (4) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً لمعاذ : ( ما مِنْ عبدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله إلاَّ حرَّمه الله على النار ) .
وفيهما(5) عن عِتبان بن مالك ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله قد حرَّم على النَّارِ مَنْ قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بها وجه اللهِ ) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/201 ( 3435 ) ، وصحيح مسلم 1/42 ( 28 ) ( 46 ) .
(2) الصحيح 1/41 ( 27 ) ( 45 ) .
(3) الصحيح 1/43 ( 31 ) ( 52 ) .
(4) صحيح البخاري 1/44 ( 128 ) ، وصحيح مسلم 1/44 ( 32 ) ( 53 ) .
(5) صحيح البخاري 1/115-116 ( 425 ) ، وصحيح مسلم 1/44 ( 33 ) ( 54 ) .

فقال طائفةٌ من العلماء : إنَّ كلمة التوحيد سببٌ مقتضٍ لدخول الجنَّة وللنجاة مِنَ النَّارِ ، لكن له شروطٌ ، وهي الإتيانُ بالفرائضِ ، وموانعُ وهي إتيانُ الكبائر . قال الحسن للفرزدق : إنَّ لـ ( لا إله إلا الله ) شروطاً ، فإيَّاكَ وقذفَ المحصنة(1) . ورُوي عنه أنَّه قال : هذا العمودُ ، فأين الطُّنُبُ(2) ، يعني : أنَّ كلمةَ التوحيد عمودُ الفسطاط ، ولكن لا يثبتُ الفسطاطُ بدون أطنابه ، وهي فعلُ الواجبات ، وتركُ المحرَّمات .
وقيل للحسن : إنَّ ناساً يقولون : من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنَّة ، فقال : من قال : لا إله إلا الله ، فأدَّى حقَّها وفرضها ، دخلَ الجنَّةَ(3) .
وقيل لوهب بنِ مُنبِّه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة ؟ قال : بلى ؛ ولكن ما من مفتاحٍ إلا وله أسنان ، فإنْ جئتَ بمفتاحٍ له أسنانٌ فتح لك ، وإلاَّ لم يفتح لك(4).
ويشبه هذا ما رُوِيَ عن ابنِ عمر : أنَّه سُئِلَ عن لا إله إلا الله : هل يضرُّ معها عملٌ ، كما لا ينفع مع تركها عملٌ ؟ فقالَ ابن عمر : عش ولا تغتر(5) .
__________
(1) ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/584 .
(2) الطنب : جمعها أطناب وطنبة ، قال ابن سيده : الطنب حبل طويل يشد به البيت والسرادق بين الأرض والطرائق ، وقيل : ( هو الوتد ) . انظر : لسان العرب 8/205 ( طنب ) .
(3) انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 1/200 .
(4) أخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 1/98 ( 261 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/66 .
(5) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20553 ) ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 923 ) ، وابن الجعد في " مسنده " ( 3381 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/311 .

وقالت طائفةٌ – منهم : الضحاكُ والزهري - : كانَ هذا قبلَ الفرائض والحدود(1) ، فمِنْ هؤلاء مَنْ أَشار إلى أنَّها نُسِخَتْ ، ومنهم من قالَ : بل ضُمَّ إليها شروطٌ زيدت عليها ، وزيادة الشرط هل هي نسخ أم لا ؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين ، وفي هذا كلِّه نظرٌ ، فإنَّ كثيراً مِنْ هذه الأحاديث متأخر بعدَ الفرائض والحدود .
وقال الثوري : نسختها الفرائضُ والحدودُ ، فيحتمل أنْ يكونَ مرادُه ما أراده هؤلاء ، ويحتمل أنْ يكون مرادُه أنَّ وجوبَ الفرائض والحدود تبين بها أنَّ عقوبات الدنيا لا تسقُطُ بمجرَّدِ الشهادتين ، فكذلك عقوباتُ الآخرة ، ومثل هذا البيان
وإزالة الإيهام كان السَّلفُ يُسَمُّونه نسخاً ، وليس هو بنسخ في الاصطلاح
المشهور .
وقالت طائفة : هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأنْ يقولها بصدقٍ وإخلاصٍ ، وإخلاصُها وصدقُها يمنع الإصرارَ معها على معصية(2) .
وجاء من مراسيل الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال : لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنَّة ) قيل : وما إخلاصها ؟ قال : ( أنْ تحجُزَكَ عمَّا حرَّم الله )(3) . وروي ذلك مسنداً من وجوه أخرَ ضعيفة(4)
__________
(1) انظر في ذلك : الزهد لعبد الله بن المبارك ( 921 ) ، وشرح صحيح مسلم للنووي 1/200 .
(2) انظر : شرح صحيح مسلم 1/200 و201 .
(3) لم نقف عليه في مظانه . وذكره الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 3/16 ، والقرطبي في " تفسيره " 10/60 .
وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرقم مرفوعاً مسنداً .
أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 5074 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/254 .
(4) في إسناده الهيثم بن جماز . سئل عنه أحمد بن حنبل فقال : ( كان منكر الحديث ترك
حديثه ) ، وعن يحيى بن معين قال : ( كان قاصاً بالبصرة ضعيف ) ، وعن أبي حاتم الرازي قال : ( ضعيف الحديث منكر الحديث ) ، وعن أبي زرعة قال : ( ضعيف ) .

انظر : الجرح والتعديل 9/102 ( 330 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 1257 ) ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمان بن غزوان . قال عنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/18 : ( وضاع ) .

.
ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا فإنَّ تحقق القلب بمعنى ( لا إله إلا الله ) وصدقه فيها ، وإخلاصه بها يقتضي أنْ يرسخَ فيه تألُّهُ الله وحده ، إجلالاً ، وهيبةً ، ومخافةً ، ومحبَّةً ، ورجاءً ، وتعظيماً ، وتوكُّلاً ، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقين ، ومتى كان كذلك ، لم يبقَ فيه محبَّةٌ، ولا إرادةٌ ، ولا طلبٌ لغير ما يُريدُهُ الله ويحبُّه ويطلبه ، وينتفي بذلك مِنَ القلب جميعُ أهواءِ النُّفوس وإراداتها ، ووسواس الشيطان ، فمن أحب شيئاً وأطاعه ، وأحبَّ عليه وأبغض عليه ، فهو إلههُ ، فمن كان لا يحبُّ ولا يبغضُ إلا لله ، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له ، فالله إلههُ حقاً ، ومن أحبَّ لهواه ، وأبغض له ، ووالى عليه ، وعادى عليه ، فإلهه هواه ، كما قال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } (1) قالَ الحسن : هوَ الذي لا يهوى شيئاً إلا ركبه(2) . وقال قتادة : هوَ الذي كلما هَوِيَ شيئاً ركبه ، وكلما اشتهى شيئاً أتاه ، لا يَحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى(3) . ويُروى من حديث أبي أمامة مرفوعاً ( ما تحتَ ظلِّ السماء إلهٌ يُعبد أعظم عندَ الله من هوى متَّبع )(4) .
__________
(1) الجاثية : 23 .
(2) ذكره القرطبي في " تفسيره " 13/31 .
(3) أخرجه : عبد الرزاق في " التفسير " ( 2831 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 24134 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 3 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7502 ) ، وابن عدي في " الكامل " 3/126 ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/118 ، وابن الجوزي في
" الموضوعات " ( 1616 ) وهو حديث موضوع ، وإسناده مسلسل بالمتروكين .

وكذلك مَنْ أطاعَ الشيطان في معصية الله ، فقد عبده ، كما قال الله - عز وجل -
: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (1) .
فتبيَّن بهذا أنَّه لا يصحُّ تحقيقُ معنى قولِ : لا إله إلا الله ، إلاَّ لمن لم يكن في قلبه إصرارٌ على محبة ما يكرهه الله ، ولا على إرادة ما لا يُريده الله ، ومتى كان في القلب شيءٌ مِنْ ذلك ، كان ذلك نقصاً في التوحيد ، وهو مِنْ نوع الشِّرك الخفيِّ . ولهذا قال مجاهدٌ في قوله تعالى : { أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } (2) قال : لا تحبُّوا غيري .
وفي " صحيح الحاكم " (3) عن عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الشِّركُ أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصَّفا في الليلة الظَّلماء ، وأدناه أنْ تُحِبَّ على شيءٍ مِنَ الجَوْرِ ، وتُبغِضَ على شيءٍ مِنَ العدل ، وهل الدِّينُ إلا الحبّ والبغض ؟ قال الله - عز وجل - : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } (4) . وهذا نصٌّ في أنَّ محبةَ ما يكرهه الله ، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيّ .
__________
(1) يس : 60 .
(2) الأنعام : 151 .
(3) المستدرك 2/191 .
وأخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 3399 ) ، أبو نعيم في "حلية الأولياء" 9/253 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/339 ، وإسناده ضعيف فيه عبد الأعلى بن أعين قال أبو زرعة الرازي : ( هذا حديث منكر وعبد الأعلى منكر الحديث ضعيف ) كما في " تفسير ابن أبي حاتم " .
(4) آل عمران : 31 .

وخرَّج ابن أبي الدُّنيا من حديث أنس مرفوعاً : ( لا تزالُ لا إله إلا الله
تمنعُ العبادَ مِنْ سخط الله ، ما لم يُؤْثِروا دُنياهم على صَفقةِ دينهم ، فإذا آثرُوا
صفقةَ دُنياهم على دينهم ، ثم قالوا : لا إله إلا الله رُدَّتْ عليهم ، وقال الله :
كذبتم )(1) .
فتبيَّن بهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من شهد أنْ لا إله إلا الله صادقاً من قلبه حرَّمه الله على النار ) ، وأنَّ من دخل النارَ من أهل هذه الكلمة ، فَلِقِلَّةِ صدقه في قولها ، فإنَّ هذه الكلمة إذا صدقت ، طهَّرت من القلب كلَّ ما سوى الله ، فمن صدق في قوله : لا إله إلا الله ، لم يُحبَّ سواه ، ولم يَرْجُ إلاَّ إيَّاه ، ولم يخشَ أحداً إلاَّ الله ، ولم يتوكَّل إلاَّ على الله ، ولم تبقَ له بقيَّةٌ من آثار نفسه وهواه ، ومتى بقي في القلب أثرٌ لسوى الله ، فمن قلَّة الصدق في قولها .
نارُ جهنَّم تنطفىء بنور إيمان الموحدين ، كما في الحديث المشهور : ( تقول النار للمؤمن : جُزْ يا مؤمنُ ، فقد أطفأ نورُك لهبي )(2) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3)
__________
(1) أخرجه : أبو يعلى ( 4034 ) ، وإسناده ضعيف جداً لضعف حسين بن علي بن الأسود وعمر بن حمزة العمري .
وأخرجه : العقيلي 2/297 من حديث أبي هريرة ، وسنده ضعيف لضعف عبد الله بن محمد ابن عجلان .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 668 ) ، وابن عدي في " الكامل " 8/131 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/329 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 375 ) ، وهو حديث ضعيف .
(3) المسند 3/328 .

وأخرجه : الحارث في " مسنده " كما في " بغية الباحث " ( 1127 ) ، وعبد بن حميد
( 1106 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 370 ) ، وهو حديث ضعيف .

عن جابرٍ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يبقى برٌّ
ولا فاجر إلاّ دخلها ، فتكونُ على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم ،
حتى أنَّ للنار ضجيجاً من بردهم ) .
فهذا ميراثٌ وَرِثَه المؤمنون من حال إبراهيم - عليه السلام - ، فنارُ المحبة في قلوب المؤمنين تخافُ منها نارُ جهنم . قال الجنيد : قالت النار : يا ربِّ ، لو لم أُطِعك ، هل كنت تُعذِّبني بشيءٍ هو أشدُّ مني ؟ قالَ : نعم ، كنتُ أسلط عليك نارِي الكبرى ، قالت : وهل نارٌ أعظم مني وأشدُّ ؟ قال : نعم ، نار محبتي أسكنتُها قلوبَ أوليائي المؤمنين . وفي هذا يقول بعضهم :
ففي فؤادِ المُحِبِّ نارُ هوى

أحرُّ نارِ الجحيم أبردُهَا

ويشهد لهذا المعنى حديثُ معاذ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ كان آخِرَ كلامِهِ لا إله إلا الله ، دخل الجنَّة )(1) ، فإنَّ المحتضرَ لا يكادُ يقولُها إلاَّ بإخلاصٍ ، وتوبةٍ ، وندمٍ على ما مضى ، وعزم على أنْ لا يعودَ إلى مثله ، ورجح هذا القولَ الخطابيُّ في مصنَّفٍ له مفرد في التوحيد ، وهو حسن .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/233 ، أبو داود ( 3116 ) ، وابن منده ( 113 ) ، والحاكم 1/351 و500 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9234 ) وفي " الاعتقاد " ، له : 37 ، وهو حديث صحيح .

الحديث الثالث والعشرون

عَنْ أبي مالِكٍ الأشْعَريِّ - رضي الله عنه - قالَ : قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ ، والحَمْدُ للهِ تَملأُ المِيزانَ ، وسُبحَانَ اللهِ ، والحَمْدُ للهِ ، تَملآنِ أو تَملأُ ما بَيْنَ السَّماواتِ والأرْضِ ، والصَّلاةُ نورٌ ، والصَّدقَةُ بُرهَانٌ ، والصَّبْرُ ضِياءٌ ، والقُرآنُ حُجَّةٌ لك أو عَلَيكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو ، فَبائعٌ نَفْسَهُ ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها ) . رواه مسلم .
هذا الحديث خرَّجه مسلم(1) من رواية يحيى بن أبي كثير : أنَّ زيدَ بن سلام حدثه : أنَّ أبا سلام حدثه عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الطُّهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ) ، فذكر الحديثَ . وفي أكثر نسخ
" صحيح مسلم " : ( والصبرُ ضياء ) وفي بعضها : ( والصيامُ ضياء ) (2) .
وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيدِ بن سلاَّم ، فأنكره يحيى بنُ معين ، وأثبته الإمامُ أحمدُ ، وفي هذه الرواية التصريحُ بسماعه منه(3) .
__________
(1) الصحيح 1/140 ( 223 ) ( 1 ) .
وأخرجه ابن أبي شيبة ( 37) ، وأحمد 5/342 و343 و344 ، والدارمي ( 159 ) ، والترمذي ( 3517 ) ، والنسائي في" الكبرى " ( 9996 ) ، وفي "عمل اليوم والليلة " ، له
( 168 ) ، وأبو عوانة 1/189 ، والطبراني في " الكبير " ( 3423 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 435 ) و( 436 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 211 ) ، واللالكائي في
" شرح أصول الاعتقاد" ( 1619 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 534 ) ، والبيهقي 1/42 وفي " الاعتقاد " ، له : 176 ، والبغوي ( 148 ) .
(2) انظر : المفهم 1/477 .
(3) انظر : تهذيب الكمال 3/80 ( 2095 ) .

وخرَّج هذا الحديث النسائيُّ(1) ، وابنُ ماجه(2) من رواية معاوية بن سلام ،
عن أخيه زيدِ بن سلاَّم ، عن جدِّه أبي سلام ، عن عبد الرحمان بن غنم ، عن أبي مالك ، فزاد في إسناده عبد الرحمان بن غنم ، ورجَّحَ هذه الرواية بعضُ الحفاظ ، وقال : معاوية بن سلام أعلمُ بحديثِ أخيه زيدٍ من يحيى بن أبي كثيرٍ(3) ، ويقوِّي ذلك أنَّه قد روي عن عبد الرحمان بن غنم ، عن أبي مالك من وجهٍ آخر ، وحينئذٍ فتكونُ روايةُ مسلمٍ منقطعةً(4) .
وفي حديث معاويةَ بعضُ المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير ، فإنَّ لفظ حديثه عند ابن ماجه : ( إسباغُ الوضوء شطرُ الإيمان ، والحمد لله مِلء الميزان ، والتسبيحُ والتَّكبيرُ مِلء السماء والأرض ، والصلاة نورٌ ، والزكاة برهانٌ ، والصبر ضياءٌ ، والقرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك ، كلُّ النَّاسِ يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها ، أو
موبقها )(5) .
__________
(1) في " المجتبى " 5/5 وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 169 ) .
(2) في " سننه " ( 280 ) .
(3) انظر : علل الجارودي 1/45 .
(4) قال الإمام النووي في " شرح صحيح مسلم " 2/86 في تعليقه على إسناد مسلم لهذا الحديث : ( هذا الإسناد مما تكلم فيه الدارقطني وغيره ، فقال : سقط فيه رجل بين أبي سلام وأبي مالك ، والساقط عبد الرحمان بن غنم ، قال : والدليل على سقوطه : أن معاوية بن سلام رواه عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ، عن عبد الرحمان بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري ، وهكذا أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ويمكن أنْ يجاب لمسلم عن هذا بأنَّ الظاهر من حال مسلم أنَّه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك فيكون أبو سلام سمعه من أبي مالك وسمعه أيضاً من عبد الرحمان بن غنم ، عن أبي مالك فرواه مرة عنه ، ومرة عن عبد الرحمان ) ، وانظر : التتبع : 19-20 ( 34 ) مع التعليق عليه .
(5) سبق تخريجه .

وخرَّج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرَّجه مسلم ، ولفظ حديثه :
( الوضوءُ شطرُ الإيمانِ ) ، وباقي حديثه مِثلُ سياقِ مسلمٍ(1) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ(2) والترمذي(3) من حديث رجلٍ من بني سليم ، قال : عدَّهُنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في يدي أو في يده : ( التسبيحُ نصفُ الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصومُ نصفُ الصبر ، والطهورُ نصفُ الإيمان ) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الطهور شطرُ الإيمان ) فسر بعضهم الطهورَ هاهنا بتركِ الذُّنوب، كما في قوله تعالى : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون } (4) ، وقوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } (5) ، وقوله : { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } (6) .
وقال : الإيمانُ نوعان : فعلٌ وترك ، فنصفُه : فعلُ المأموراتِ ، ونصفُه : ترك المحظورات ، وهو تطهيرُ النفس بترك المعاصي ، وهذا القولُ محتمل لولا أنَّ رواية :
( الوضوء شطرُ الإيمان ) تردُّه ، وكذلك رواية : ( إسباغ الوضوء ) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) في " مسنده " 4/260 و5/363 و365 و370 و372 .
(3) في " جامعه " ( 3519 ) .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20582 ) ، وأبو عمر العدني في " الإيمان " ( 58 ) ، والدارمي ( 660 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 432 ) و( 433 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1734 ) ، وأبو الشيخ في " طبقات المحدّثين " ( 785 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (631 ) و( 3575 ) ، وقال الترمذي : ( حديث حسن ) على أنَّ في إسناده
مقالاً ؛ فإنَّ جُري النهدي مقبول حيث يتابع ولم يتابع .
(4) الأعراف : 82 .
(5) المدثر : 4 .
(6) البقرة : 222 .

وأيضاً ، ففيه نظرٌ من جهة المعنى ، فإنَّ كثيراً من الأعمال تُطَهِّرُ النفس مِنَ الذُّنوبِ السابقة ، كالصلاة ، فكيف لا تدخل في اسم الطُّهور ، ومتى دخلت الأعمالُ ، أو بعضُها ، في اسم الطُّهور ، لم يتحقَّقْ كونُ تركِ الذنوبِ شَطْرَ الإيمان .
والصحيح الذي عليه الأكثرون : أنَّ المراد بالطهور هاهنا : التَّطهُّر بالماء من الأحداث ، وكذلك بدأ مسلمٌ بتخريجه في أبواب الوضوء (1) ، وكذلك خرَّجه النَّسائي وابن ماجه(2) وغيرهما ، وعلى هذا ، فاختلف الناسُ في معنى كون الطهور بالماء شطرَ الإيمان.
فمنهم من قال : المرادُ بالشطر : الجزءُ ، لا أنَّه النصفُ بعينه ، فيكونُ الطهور جزءاً مِنَ الإيمان ، وهذا فيه ضعف؛ لأنَّ الشطر إنَّما يُعْرَفُ استعمالُه لغة في النِّصف؛ ولأنَّ في حديث الرجلِ من بني سُليم : ( الطهورُ نصف الإيمان ) كما سبق .
ومنهم من قال : المعنى أنَّه يُضاعَفُ ثوابُ الوضوء إلى نصف ثوابِ الإيمان ، لكن من غير تضعيف ، وفي هذا نظرٌ ، وبُعدٌ .
ومنهم من قال : الإيمانُ يكفِّرُ الكبائرَ كلَّها ، والوضوء يكفِّر الصَّغائِرَ ، فهو شطرُ الإيمان بهذا الاعتبار ، وهذا يردُّه حديث : ( من أساءَ في الإسلام أُخِذَ بما عمل في الجاهلية ) وقد سبق ذكره .
ومنهم من قال : الوضوء يُكفِّرُ الذنوبَ مع الإيمان ، فصار نصفَ الإيمانِ ، وهذا ضعيف(3) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : المفهم ( 166 ) ، وشرح صحيح مسلم للنووي 2/86 ، وفيض القدير ( 5343 ) .

ومنهم من قال : المرادُ بالإيمان هاهنا : الصلاة ، كما في قوله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (1)، والمراد : صلاتُكم إلى بيتِ المقدس ، فإذا كان المرادُ بالإيمان الصلاةَ ، فالصلاةُ لا تُقبل إلا بطهور ، فصار الطُّهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار ، حكى هذا التفسير محمدُ بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة "(2) عن إسحاق بن راهويه ، عن يحيى بنِ آدم ، وأنَّه قال في معنى قولهم : لا أدري نصفُ العلم : إنَّ العلم إنَّما هو : أدري ولا أدري ، فأحدهما نصفُ الآخر(3) .
__________
(1) البقرة : 143 .
(2) تعظيم قدر الصلاة ( 439 ) .
(3) تعظيم قدر الصلاة ( 442 ) .

قلت : كُلُّ شيءٍ كان تحته نوعان : فأحدُهما نصفٌ له ، وسواءٌ كان عددُ النوعين على السواء ، أو أحدهما أزيد من الآخر ، ويدلُّ على هذا حديثُ
: ( قسمتُ الصلاةَ بيني وبَينَ عبدي نصفين )(1) والمرادُ : قراءة الصلاة ، ولهذا فسّرها بالفاتحة ، والمرادُ أنَّها مقسومة لِلعبادة والمسألة ، فالعبادةُ حقُّ الربِّ والمسألةُ حقُّ العبد ، وليس المرادُ قسمة كلماتها على السواء (2) . وقد ذكر هذا الخطابيُّ ، واستشهد بقول العرب : نصف السنة سفر ، ونصفها حَضَر ، قال : وليس على تساوي الزمانين فيهما ، لكن على انقسام الزمانين لهما ، وإنْ تفاوتت مدتاهما(3) ، وبقول شريح - وقيل له : كيف أصبحت ؟ - قال : أصبحت ونصفُ الناس عليَّ غضبان(4) ، يريد أنَّ الناسَ بين محكومٍ له ومحكومٍ عليه ، فالمحكومُ عليه غضبان ، والمحكوم له راضٍ عنه ، فهما حزبان مختلفان . ويقول الشاعر :
إذا مِتُّ كان الناسُ نصفينِ : شامتٌ بموتي ومُثْنٍ بالذي كنتُ أفعلُ
ومراده أنَّهم ينقسمون قسمين .
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 224 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الرزاق ( 2767 )
و( 2768 ) ، والحميدي ( 973 ) ، وأحمد 2/241 و285 و460 ، والبخاري في " القراءة خلف الإمام " ( 52 ) و( 54 ) و( 55 ) و( 64 ) و( 67 ) وفي " خلق أفعال العباد " ، له 1/48 ، ومسلم 2/8 ( 395 ) ( 38 ) ، وأبو داود ( 821 ) ، وابن ماجه ( 3784 ) ، والترمذي ( 2953 ) ، والنسائي 2 / 136 وفي " الكبرى " ، له ( 981 ) و( 8012 )
و( 8013 ) و( 10982 ) وفي " التفسير " ، له ( 2 ) وفي " فضائل الصحابة "، له ( 38 )، وابن خزيمة ( 502 ) من حديث أبي هريرة به ، الروايات مطولة ومختصرة .
(2) انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 289 – 290 .
(3) انظر : معالم السنن 1/176 .
(4) لم أقف عليه في مظانه وذكره صاحب عون المعبود 3/28 ( ط دار الكتب العلمية ) .

قلت : ومِنْ هذا المعنى : حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض : ( إنَّها نصف العلم ) خرَّجه ابن ماجه(1) ، فإنَّ أحكامَ المكلفين نوعان : نوع يتعلق بالحياة ، ونوع يتعلَّقُ بما بعدَ الموتِ، وهذا هو الفرائضُ. وقال ابنُ مسعود : الفرائضُ ثلث العلم(2) . ووجه ذلك الحديث الذي خرَّجه أبو داود(3) وابنُ ماجه(4) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( العلم ثلاثة، وما سوى ذلك ، فهو فضلٌ : آية محكمة، أو سنّةٌ قائمةٌ ، أو فريضة عادلة ) .
__________
(1) في " سننه " ( 2719 ) .
وأخرجه: الطبراني في "الأوسط" ( 5293 ) ، والحاكم 4/332 ، والبيهقي 6/208 –209 ، وإسناده ضعيف لضعف حفص بن عمر بن أبي العطاف .
(2) لم أقف عليه .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 21013 ) من قول قتادة .
(3) في " سننه " ( 2885 ) .
(4) في " سننه " ( 54 ) .
وأخرجه : الدارقطني ( 4015 ) ، والحاكم 4/332 ، والبيهقي 6/208 ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الرحمان بن زياد الإفريقي وعبد الرحمان بن رافع التنوخي .

وروي عن مجاهد أنَّه قال : المضمضةُ والاستنشاقُ نصفُ الوضوء ، ولعلَّه أراد أنَّ الوضوء قسمان : أحدهما مذكور في القرآن ، والثاني مأخوذٌ من السُّنَّةِ ، وهو المضمضة والاستنشاق ، أو أراد أنَّ المضمضةَ والاستنشاقَ يُطَهِّرُ باطنَ الجسدِ ، وغسلَ سائرِ الأعضاء يُطهر ظاهره ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، ومنه قولُ ابن مسعود : الصبرُ نصفُ الإيمان ، واليقينُ الإيمان كله(1) . وجاء من رواية يزيد الرقاشي ، عن أنسٍ مرفوعاً : ( الإيمانُ نصفان : نصفٌ في الصَّبر ، ونصفٌ في الشُّكر )(2) ، فلمَّا كان الإيمانُ يشمل فعلَ الواجباتِ ، وتركَ المحرَّمات ، ولا يُنالُ ذلك كلُّه إلاَّ بالصَّبر ، كان الصبرُ نصفَ الإيمان ، فهكذا يقالُ في الوضوء : إنَّه نصف الصلاة .
وأيضاً فالصلاةُ تُكفر الذنوبَ والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطرَ الصلاة بهذا الاعتبار أيضاً ، كما في " صحيح مسلم "(3) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ مُسلمٍ يتطهر فيُتِمُّ الطهورَ الذي كُتِبَ عليه ، فيُصلي هذه الصلوات الخمْسَ إلاَّ كانت كفَّارةً لما بينَهنَّ ) . وفي روايةٍ له(4) : ( من أتمَّ الوُضوء كما أمره الله ، فالصلواتُ المكتوبات كفاراتٌ لما بينهن ) .
__________
(1) أخرجه : عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 817 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8544 ) ، والحاكم 2 / 446 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 48 ) .
(2) أخرجه : الخرائطي في "فضيلة الشكر" ( 18 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 159 )، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9715 ) ، وطبعة الرشد ( 9265 ) .
(3) الصحيح 1/142 ( 231 ) ( 10 ) .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 2726 ) .
(4) في " صحيحه " 1/142 ( 231 ) ( 11 ) .

وأيضاً فالصلاةُ مفتاحُ الجنَّة ، والوضوء مفتاح الصَّلاة ، كما خرَّجه الإمامُ أحمد(1) والترمذي(2) من حديث جابرٍ مرفوعاً ، وكلٌّ من الصلاة والوضوء مُوجِبٌ لفتح أبواب الجنَّة كما في " صحيح مسلم " (3) عن عُقبة بن عامر سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما من مسلمٍ يتوضأ ، فيُحسنُ وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنَّة ) ، وعن عقبة ، عن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْكُم مِن أحَدٍ يتوضأ فيُبْلغُ أو يُسبغُ الوضوء ، ثم يقولُ : أشهدُ أنْ لا إله إلا الله ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسوله ، إلا فُتحتْ له أبوابُ الجنَّةِ الثمانية يدخل من أيِّها شاء )(4) .
__________
(1) في " مسنده " 3/340 .
(2) في " جامعه " ( 4 ) . =
= ... وأخرجه : الطيالسي ( 2712 ) ، والعقيلي في " الضعفاء " 2/137، والطبراني في "الأوسط" ( 4364 ) وفي "الصغير" ، له ( 596 ) ، وابن عدي في " الكامل " 4/241 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 2711 ) و( 2712 ) ، والخطيب في " الموضح " 1/352 ، وهو حديث ضعيف لضعف سليمان بن قرم وأبي يحيى القتات .
(3) الصحيح 1/144 ( 234 ) .
(4) أخرجه : الترمذي ( 55 ) ، والنسائي 1/95 وفي " الكبرى " ، له ( 141 ) والبيهقي 1/78.
وأخرج الروايتين معاً : عبد الرزاق ( 142 ) ، وابن أبي شيبة ( 21 ) ، وأحمد 4/145 و153 ، ومسلم 1/144 ( 234 ) ( 17 ) ، وأبو داود ( 169 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 84 ) ، وأبو يعلى ( 72 ) ، وابن خزيمة ( 222 ) و( 223 ) ، وابن حبان
( 1050 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 917 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج "
( 554 ) ، والبيهقي 1/78 .

وفي " الصحيحين " (1) عن عُبَادة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من قال : أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ، وأنَّ عيسى عبدُ الله، وابنُ أمتِهِ ، وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ ، وروحٌ منه ، وأنَّ الجنَّةَ حقٌّ ، وأنَّ النار حقٌّ ، أدخله الله مِنْ أيِّ أبوابِ الجنةِ الثمانيةِ شاءَ ) .
فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجباً لفتح أبواب الجنَّة ، صار الوضوءُ نصفَ الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار .
وأيضاً فالوضوء من خِصال الإيمان الخفيَّة التي لا يُحافِظُ عليها إلاَّ مُؤمنٌ ، كما في حديث ثوبان وغيره ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُحافِظُ على الوضوء إلا مؤمن )(2) . والغسل من الجنابة قد ورد أنَّه أداء الأمانة ، كما خرَّجه العقيلي(3) من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خمسٌ من جاءَ بهنَّ مع إيمانٍ دخل الجنَّةَ : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزَّكاةَ من ماله طيِّبَ النَّفسِ بها - قال : وكان يقول : - وايمُ اللهِ ، لا يفعل ذلك إلا مؤمنٌ ، وصام رمضانَ ، وحجَّ البيتَ من استطاع إليه سبيلاً ، وأدَّى الأمانة ) قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداءُ الأمانة ؟ قال : الغسلُ من الجنابة ، فإنَّ الله لم يأتمنِ ابنَ آدم على شيءٍ من دينه غيرها .
وخرَّج ابنُ ماجه(4)
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) في " الضعفاء " 3/123 .
وأخرجه : أبو داود ( 429 ) ، والطبراني في " الصغير " ( 759 ) .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 2750 ) ، موقوفاً .
(4) في " سننه " ( 598 ) .

وأخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 511 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3989 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 732 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 2748 ) ، وإسناده ضعيف لانقطاعه كما نص عليه أبو حاتم .

من حديث أبي أيوبَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصلواتُ الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداءُ الأمانة كفَّارةٌ لما بينهنَّ ) ، قيل : وما أداء الأمانة ؟ قالَ : ( الغسل من الجنابة ، فإنَّ تحتَ كُلِّ شعرة جنابة ) ، وحديث أبي الدرداء الذي قبلَه(1) جعل فيه الوضوءَ من أجزاءِ الصلاة .
وجاء في حديثٍ آخر خرَّجه البزار(2) من رواية شبابة بن سوار : حدثنا المُغيرة ابن مسلم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعاً : ( الصلاةُ ثلاثةُ أثلاث : الطهور ثُلُثٌ ، والركوع ثُلُثٌ ، والسجودُ ثُلُثٌ ، فمن أدَّاها بحقِّها ، قُبِلَتْ منه ، وقُبِلَ منه سائرُ عمله ، ومن رُدَّتْ عليه صلاتُه ، رُدَّ عليه سائر عمله ) وقال : تفرَّد به المغيرةُ ، والمحفوظُ عن أبي صالح ، عن كعب من قوله .
فعلى هذا التقسيم الوضوءُ ثُلُثُ الصلاة ، إلا أنْ يجعل الركوع
والسجود كالشيء الواحد ، لتقاربهما في الصورة ، فيكونُ الوضوءُ نصفَ الصلاة أيضاً .
ويحتمل أنْ يُقال : إنَّ خصالَ الإيمان من الأعمال والأقوال كُلّها تُطَهِّرُ القلبَ وتُزكيه ، وأما الطهارةُ بالماء ، فهي تختصُّ بتطهير الجسدِ وتنظيفه ، فصارت خصالُ الإيمان قسمين : أحدُهما يُطهِّرُ الظاهر ، والآخر يُطهِّرُ الباطن ، فهما نصفان بهذا
الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كُلِّه .
__________
(1) عبارة : ( الذي قبله ) سقطت من ( ص ) .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 349 ) .
وأخرجه : الصيداوي في " معجم الشيوخ " : 323 ، وهذا الحديث أعله البزار بالوقف فقال : ( لا نعلمه مرفوعاً إلاَّ عن المغيرة ، ولم يتابع عليه ، وإنَّما نحفظه عن أبي صالح عن كعب
قوله ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والحمدُ لله تملأ الميزانَ ، وسبحان اللهِ والحمد لله تملآن أو تملأُ ما بَيْنَ السماوات والأرض ) فهذا شكٌّ مِن الراوي في لفظه ، وفي رواية النَّسائي وابن ماجه : ( والتسبيح والتكبير مِلءُ السماء والأرض ) . وفي حديث الرجل من بني سُليم : ( التسبيحُ نصفُ الميزانِ ، والحمد لله تملؤُه ، والتكبيرُ يملأ ما بَيْنَ السماء والأرض )(1) .
وخرَّج الترمذي(2) من حديث الإفريقي ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله ابن عمرٍو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( التسبيحُ نصفُ الميزان ، والحمدُ لله تملؤه ، ولا إله إلاَّ الله ليس لها دونَ اللهِ حجابٌ حتَّى تصلَ إليه ) ، وقال : ليس إسناده بالقوي(3) .
قلت : اختلف في إسناده على الإفريقي ، فروي عنه ، عن أبي علقمة ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه زيادة : ( والله أكبر ملء السماوات والأرض )(4) .
روى جعفر الفريابي في كتاب " الذكر " وغيره من حديث عليٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحمد لله ملء الميزان ، وسبحان الله نصف الميزان ، ولا إله إلا الله والله أكبر ملء السماوات والأرض وما بينهن ) .
وخرَّج الفريابي أيضاً من حديث معاذ بن جبل ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلمتان إحداهما مَنْ قالها لم يكن لها ناهية دونَ العرش ، والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض : لا إله إلا الله والله أكبر )(5) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) في " جامعه " ( 3518 ) .
(3) فيه عبد الرحمان بن زياد بن أنعم الإفريقي ضعيف ، انظر : الجرح والتعديل 5/290
( 1111 ) .
(4) أخرجه : إسحاق بن راهويه ( 340 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 20/ ( 334 ) .

فقد تضمنت هذه الأحاديثُ فضلَ هذه الكلمات الأربع التي هي أفضلُ الكلام ، وهي : سبحانَ الله ، والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
فأما الحمدُ لله ، فاتفقت الأحاديثُ كلُّها على أنَّه يملأ الميزانَ ، وقد قيل : إنَّه ضربُ مثل ، وأنَّ المعنى : لو كان الحمدُ جسماً لملأ الميزان ، وقيل : بل الله - عز وجل - يُمثِّلُ أعمالَ بني آدم وأقوالهم صُوَراً تُرى يومَ القيامة وتوزَنُ ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يأتي القرآنُ يومَ القيامة تقْدُمُه البقرةُ وآلُ عمران كأنَّهما غمامتان أو غَيَايتانِ(1) أو فِرقان(2) من طيرٍ صَوَّاف )(3) .
وقال : ( كلمتانِ حبيبتان إلى الرحمان ، ثقيلتان في الميزان ، خفيفتان على اللسان : سبحان الله وبحمده ، سبحانَ الله العظيمِ )(4) .
__________
(1) كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها . انظر : النهاية 3/403 .
(2) أي : قطعتان . انظر : النهاية 3/440 .
(3) أخرجه : أحمد 4/183 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 8/39 ( 2512 ) ، ومسلم 2/197 ( 805 ) ( 253 ) ، والترمذي ( 2883 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين "
( 1418 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 1826 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 2373 ) من حديث النواس بن سمعان ، به .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29413 ) و( 35026 ) ، وأحمد 2/232 ، والبخاري 8/107
( 6406 ) و8/173( 6682 ) و9/198 ( 7563 )، ومسلم 8/70 ( 2694 ) ( 31 ) ، وابن ماجه ( 3806 ) ، والترمذي ( 3467 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "
( 830 ) . من طرق عن ابن فضيل ، عن عمارة بن قعقاع ، عن أبي هريرة ، به .

وقال : ( أثقلُ ما يُوضَع في الميزانِ الخُلُق الحسنُ )(1) ، وكذلك المؤمن يأتيه عملُه الصالحُ في قبره في أحسنِ صُورَةٍ ، والكافرُ يأتيه عملُه في أقبح صورةٍ ، ورُوي أنَّ الصلاة والزكاة والصيام وأعمال البرِّ(2) تكونُ حَوْل الميت في قبره تُدافعُ عنه ، وأنَّ القرآن يصعَد فيشفعُ له(3) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20157 ) ، والطيالسي ( 978 ) ، والحميدي ( 393 )
و( 394 ) ، وأحمد 6/442 و446 و448 و451 ، وعبد بن حميد ( 204 ) و( 214 ) والبخاري في " الأدب المفرد " ( 270 ) و( 464 ) ، وأبو داود ( 4799 ) ، والترمذي
( 2002 ) و( 2003 ) من حديث أبي الدرداء ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) في ( ص ) : ( والزكاة والأعمال ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 6703 ) ، وابن أبي شيبة ( 12062 ) ، وهناد بن السري في
" الزهد " ( 338 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 15709 ) ، وابن حبان ( 3113 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2651 ) ، والحاكم 1/379 – 380 و380 – 381 ، والبيهقي في " الاعتقاد " : 220 – 221 وفي " إثبات عذاب القبر " ، له ( 67 ) ، من حديث أبي هريرة ، به .

وأما سبحان الله ، ففي رواية مسلم : ( سبحان الله والحمد لله تملأ - أو تملآن - ما بَينَ السماء والأرض )(1) ، فشكَّ الراوي في الذي يملأ ما بين السماءِ والأرض : هل هو الكلمتان أو إحداهما ؟ وفي رواية النَّسائي وابنِ ماجه : ( التسبيحُ والتَّكبيرُ ملءُ السَّماءِ والأرض ) ، وهذه الروايةُ أشبه ، وهل المرادُ أنَّهما معاً يملآن ما بينَ السماء والأرض ، أو أنَّ كلاً منهما يملأُ ذلك ؟ هذا محتمل(2) . وفي حديث أبي هريرة والرجلِ الآخر أنَّ التكبير وحدَه يملأُ ما بينَ السَّماءِ والأرض .
__________
(1) قال النووي : ( وأما معناه فيحتمل أن يقال لقدر ثوابهما جسماً لملأ ما بين السماوات والأرض وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى ، بقوله : ( سبحان الله ) والتفويض والافتقار إلى الله بقوله : ( الحمد لله ) ، والله أعلم ) . شرح النووي لصحيح مسلم 2/87 .
(2) قال السندي : ( بالإفراد ، أي : كل منهما أو مجموعهما ، وفي بعض النُّسخ يملأن بالتثنية ، والظاهر أنَّ هذا يكون عند الوزن ) . حاشية السندي في سنن النسائي 5/6 .

وبكلِّ حال فالتسبيح دونَ التحميد في الفضل كما جاء صريحاً في حديث عليٍّ وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، والرجل من بني سُليمٍ : أنّ التسبيح نصفُ الميزان، والحمد لله تملؤه ، وسببُ ذلك أنَّ التحميدَ إثباتُ المحامد كلِّها لله ، فدخل في ذلك إثباتُ صفاتِ الكمال ونعوتِ الجلال كلِّها ، والتسبيحُ هو تنزيه اللهِ عن النقائص والعيوب والآفات(1) ، والإثباتُ أكملُ من السلب ، ولهذا لم يرد التسبيحُ مجرَّداً ، لكن مقروناً بما يدلُّ على إثبات الكمال ، فتارةً يُقرَنُ بالحمد ، كقولِ : سبحان الله وبحمده ، وسبحان الله والحمد لله ، وتارة باسمٍ من الأسماء الدَّالَّةِ على العظمة والجلال ، كقوله : سبحان الله العظيم ، فإنْ كان حديثُ أبي مالكٍ يدلُّ على أنَّ الذي يملأُ ما بَيْنَ السَّماء والأرض هو مجموعُ التسبيح والتكبير ، فالأمرُ ظاهر ، وإنْ كان المراد أنَّ كلاً منهما يملأُ ذلك ، فإنَّ الميزان أوسعُ مما بينَ السَّماء والأرض ، فما يملأ الميزانَ هو أكبر ممَّا يملأ ما بينَ السَّماء والأرض ، ويدلُّ عليه أنَّه صحَّ عن سلمانَ - رضي الله عنه - أنَّه قال : يُوضعُ الميزانُ يوم القيامة ، فلو وُزِنَ فيه السماواتُ والأرضُ لوسعت ، فتقولُ الملائكة : يا ربِّ لمن تزن هذا ؟ فيقول الله تعالى : لمن شئتُ من خلقي ، فتقول الملائكة : سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك . وخرَّجه الحاكم مرفوعاً وصححه(2) ، ولكن الموقوف(3) هو المشهور .
وأمَّا التكبيرُ ، ففي حديث أبي هريرة والرجل من بني سُليمٍ : أنَّه وحده يملأ ما بين السماوات والأرض ، وفي حديث عليٍّ أنَّ التكبير مع التهليل يملأ السماوات والأرض وما بينهن .
__________
(1) قال السندي : ( التسبيح هو التنزيه عن جميع ما لا يليق بجنابه الأقدس ) . حاشية السندي 3/78 .
(2) في " المستدرك " 4/586 .
(3) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1357 ) .

وأما التهليلُ وحده ، فإنَّه يصلُ إلى اللهِ من غيرِ حجابٍ بينه وبينه . وخرَّج التِّرمذي(1) من حديث أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال : ( ما قالَ عبدٌ لا إله إلا الله
مخلصاً ، إلاَّ فُتِحَتْ له أبوابُ السَّماء ، حتَّى تُفضيَ إلى العرش ما اجتُنِبَتِ
الكبائر ) .
وقال أبو أمامة : ما من عبدٍ يُهلِّل تهليلةً ، فيُنهْنِهُها (2) شيءٌ دونَ العرشِ ، وورد أنَّه لا يعدِلُها شيء في الميزان في حديث البطاقة المشهور ، وقد خرَّجه أحمد(3) والترمذي(4) والنَّسائي ، وفي آخره عندَ الإمامِ أحمد : ( ولا يثقل شيءٌ بسم الله الرحمن الرحيم ) . وفي " المسند "(5) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( إنَّ نوحاً - عليه السلام - لمَّا حضرته الوفاةُ ، قال لابنه : آمرك بـ ( لا إله إلا الله ) ، فإنَّ السماوات السبعَ والأرضين السبع لو وضعت في كفةٍ ، ووضعت لا إله إلا الله في كفَّةٍ ، رجحت بهنَّ لا إله إلا الله ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 3590 ) .
وأخرجه : النسائي في " الكبرى " ( 10669 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 833 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(2) أي : منعها وكفها عن الوصول إليه . لسان العرب 14/312 ( نهنه ) .
(3) في " مسنده " 2/213 و221 .
(4) في " جامعه " ( 2639 ) .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " زوائده على الزهد " ( 371 ) ، وعبد بن حميد ( 339 ) وابن ماجه ( 4300 ) ، وابن حبان ( 225 ) ، وأبو القاسم الكناني في "جزء بطاقة" ( 2 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 4725 ) ، والحاكم 1/6 و529 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 283 ) ، والبغوي ( 4321 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(5) مسند الإمام أحمد 2/169 و225 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 548 ) ، وهو حديث صحيح .

وفيه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ موسى - عليه السلام - قال: يا ربِّ علمني شيئاً أذكُرُكَ به وأدعوك به ، قال : يا موسى ، قل : لا إله إلا الله ، قال : كلُّ عبادِكَ يقولُ هذا ، إنَّما أُريدُ شيئاً تخصُّني به ، قال : يا موسى ، لو أنَّ السماوات السبعَ وعامرهن غيري ، والأرضين السبع في كفَّة ولا إله إلا الله في
كفَّةٍ مالت بِهِنَّ لا إله إلا الله )(1) .
وقد اختلف في أيِّ الكلمتين أفضلُ ؟ أكلمةُ الحمدِ أم كلمةُ التَّهليلِ ؟ وقد حكى هذا الاختلافَ ابنُ عبد البرِّ(2) وغيره . وقال النَّخعي : كانوا يرون أنَّ
الحمدَ أكثرُ الكلام تضعيفاً(3) ، وقال الثوري : ليس يُضاعف من الكلام مثل الحمد لله(4) .
والحمدُ يتضمَّنُ إثباتَ جميع أنواع الكمال لله ، فيدخل فيه التوحيد . وفي
" مسند الإمام أحمد " (5)
__________
(1) لم أقف على رواية عبد الله بن عمرو ، وما وجدته في المصادر يروى عن أبي سعيد الخدري .
أخرجه : النسائي في" الكبرى " ( 10670 ) و( 10980 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له
( 834 ) و( 1141 ) ، وأبو يعلى ( 393 ) ، وابن حبان ( 6218 ) ، والطبراني في
" الدعاء " ( 1480 ) ، والحاكم 1/528 ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " : 128 ، وهو حديث ضعيف ؛ فإنَّه من رواية دراج ، عن أبي الهيثم ، وهي سلسلة ضعيفة .
(2) في " التمهيد " 6/42 – 44 .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4393 ) .
(4) ذكره أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/16 .
(5) المسند 2/302 و310 و3/35 و38 .

وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 29827 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 3074 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10676 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 840 ) ، والحاكم 1/512 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 6/47 .

عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله اصطفى من الكلام أربعاً : سبحان الله ، والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، فمن قال : سبحان الله ، كُتِبَتْ له عشرون حسنة ، أو حُطَّتْ عنه عشرون سيئة ، ومن قال : الله أكبر مثل ذلك ، ومن قال : لا إله إلا الله مثل ذلك ، ومن قال : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين من قبل نفسه ، كتبت له ثلاثونَ حسنة ، أو حطَّتْ عنه
ثلاثون سيئة ) . وقد روي هذا عن كعبٍ من قوله(1)، وقيل : إنَّه أصحُّ من المرفوع.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( والصلاةُ نورٌ ، والصدقةُ برهانٌ ، والصبرُ ضياءٌ ) ، وفي بعض نسخ " صحيح مسلم " : ( والصيام ضياءٌ ) ، فهذه الأنواع الثلاثةُ من الأعمال أنوارٌ كلُّها ، لكن منها ما يختصُّ بنوعٍ من أنواع النُّور ، فالصَّلاةُ نورٌ مطلق ، ويُروى بإسنادين فيهما نظر عن أنسٍ ، عِنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الصلاةُ نورُ
المؤمنِ )(2)
__________
(1) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 326 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10679) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 843 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3740 ) .
(2) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 176 ) ، وأبو يعلى ( 3655 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 144 ) .

وفيه عيسى بن ميسرة قال عنه ابن حجر : ( متروك ) . انظر : التقريب ( 5317 ) ، وكذلك فيه أبو خالد الأحمر ، قال عنه ابن حجر : ( صدوق يخطئ ) . انظر : التقريب
( 2547 ) .

، فهي للمؤمنين في الدُّنيا نورٌ في قلوبهم وبصائرهم ، تُشرِق بها
قلوبُهم ، وتستنير بصائرُهم ولهذا كانت قرَّة عين المتقين ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( جعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة ) خرّجه أحمد(1) والنَّسائي(2).
وفي روايةٍ : ( الجائع يشبع ، والظمآنُ يروى ، وأنا لا أشبع من حُبِّ الصلاة )(3) . وفي " المسند " (4) عن ابن عباسٍ ، قال : قال جبريلُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ الله قد حبَّبَ إليكَ الصَّلاةَ ، فخُذْ منها ما شئتَ . وخرَّج أبو داود(5)
__________
(1) في " مسنده " 3/128 و199 و285 .
(2) في " المجتبى " 7/61 وفي " الكبرى " ، له ( 8887 ) و( 8888 ) .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 1/304 ،والعقيلي في " الضعفاء " 2/160 ، وابن أبي عاصم في " الزهد " ( 235 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 322 ) و(323 ) ، وأبو يعلى ( 3482 ) و( 3530 ) ، والطبراني في" الأوسط " ( 5772 ) وفي " الصغير " ، له ( 728 ) ، وابن عدي في " الكامل " 4/313 ، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي " : 98 و229 ، والبيهقي 7/78 ، والخطيب في " تاريخه " 12/371 ، والضياء المقدسي في
" المختارة " 4/367 ( 1533 ) و4/428 ( 1680 ) و 5/112 ( 1736 ) و5/113
( 1737 ) . من حديث أنس بن مالك ، وهو حديث حسن .
(3) لم أقف عليه في مظانه ، وذكره الديلمي في " مسند الفردوس " 2/119 ( 2622 ) .
(4) مسند الإمام أحمد 1/245 و255 و269 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 666 ) ، والطبراني في" الكبير " ( 12929 ) ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ويوسف بن مهران .
(5) في " سننه " ( 4985 ) و( 4986 ) .

وأخرجه : أحمد 5/364 ، والطبراني في " الكبير " ( 6214 ) ، والخطيب في " تاريخه " 10/444 – 445 ، وطبعة دار الغرب 12/204 ، وقد حصل فيه اختلاف شديد فصله الخطيب ، والدارقطني في " العلل " 4/120 –122 س ( 461 ) .

من حديث رجلٍ من خزاعةَ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يا بلالُ ، أقمِ الصَّلاةَ وأرِحْنا بها ) .
قال مالك بن دينار : قرأتُ في التوراة : يا ابن آدم ، لا تَعْجزْ أنْ تقومَ بين يديَّ في صلاتِك باكياً ، فأنا الذي اقتربتُ بقلبك وبالغيب رأيت نوري ، يعني : ما يفتح للمصلي في الصلاة من الرِّقة والبكاء(1) .
وخرَّج الطبراني(2) من حديث عُبادة بنِ الصامت مرفوعاً : ( إذا حافظ العَبْدُ على صلاته ، فأقام وضوءها ، وركوعها ، وسجودها ، والقراءة فيها ، قالت له : حَفِظكَ الله كما حَفِظتني ، وصُعِدَ بها إلى السَّماء ، ولها نورٌ حتَّى تنتهي إلى الله - عز وجل -، فتشفع لصاحبها ) .
وهي نورٌ للمؤمنين في قبورهم ، ولاسيَّما صلاة الليل ، كما قال أبو الدرداء : ( صلُّوا ركعتين في ظُلَم اللَّيلِ لِظلمة القبور ) (3) .
وكانت رابعةُ قد فَتَرَتْ عن وِرْدها باللَّيلِ مُدَّةً ، فأتاها آتٍ في منامها
فأنشدها :
صلاتُك نورٌ والعبادُ رُقُودُ

ونومُكِ ضِدٌّ للصَّلاةِ عنيدُ

وهي في الآخرة نورٌ للمؤمنين في ظلمات القيامة ، وعلى الصراط ، فإنَّ الأنوارَ تُقسم لهم على حسب أعمالهم . وفي " المسند " و" صحيح ابن حبان " عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه ذكر الصلاة ، فقال : ( من حافظ عليها كانت له نوراً وبُرهاناً ونجاةً يَوْمَ القيامة ، ومَنْ لم يُحافِظْ عليها لم يكن له نور ولا نجاة ولا بُرهانٌ )(4) .
وخرَّج الطبراني(5)
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/359 .
(2) في " مسند الشاميين " ( 427 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 585 ) ، والبزار في " مسنده " ( 2691 ) و( 2708 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3140 ) ، وطبعة الرشد ( 2871 ) ، وهو حديث ضعيف .
(3) انظر : أخبار مكة للفاكهي 3/134 .
(4) سبق تخريجه .
(5) في " الأوسط " ( 6641 ) و( 6656 ) .

وفيه بقية بن الوليد وقد عنعنه ، قال عنه ابن عيينة : ( لا تسمعوا من بقية ما كان في السنة ، واسمعوا منه ما كان في الثواب وغيره ) ، وسئل عنه ابن معين فقال : ( إذا حدَّث عن الثقات مثل صفوان ابن عمرو وغيرهم فأما إذا حدث عن أولئك المجهولين فلا . وإذا كنى ولم يسم اسم الرجل فليس يساوي شيء ) . وقال عنه الهيثمي : ( مدلس ) ، وقال عنه ابن حجر
: ( صدوق كثير التدليس عن الضعفاء ) .
انظر : الجرح والتعديل 2/359 ( 1728 ) ، ومجمع الزوائد 2/39 ، والتقريب ( 734 ) .

بإسنادٍ فيه نظرٌ من حديث ابن عباس وأبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ( من صلَّى الصلوات الخمسَ في جماعة ، جاز على الصِّراط كالبرقِ اللاَّمع في أوَّلِ زُمرةٍ من السابقين ، وجاء يومَ القيامة ووجهُه كالقمر ليلَةَ البدرِ ) .
وأمَّا الصدقة ، فهي برهان ، والبرهان : هو الشُّعاعُ الذي يلي
وجهَ الشَّمس ، ومنه حديثُ أبي موسى : أنَّ روحَ المؤمن تخرُج مِنْ جسده
لها برهان كبرهانِ الشَّمس(1) ، ومنه سُمِّيَت الحُجَّةُ القاطعةُ برهاناً ؛ لوضوح
دلالتها على ما دلَّت عليه ، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان ،
وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه ، كما في حديث
عبد الله بن معاوية الغاضِري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من فعلهن فقد طَعِمَ
طَعْمَ الإيمان : مَنْ عَبَدَ الله وحدَه ، وأنَّه لا إله إلا الله ، وأدَّى زكاةَ ماله طيِّبَةً
بها نفسُه رافِدةً عليه في كُلِّ عامٍ ) ، وذكر الحديثَ ، خرَّجه أبو
داود(2) .
وقد ذكرنا قريباً حديث أبي الدرداء فيمن أدى زكاة ماله طيبة بها
نفسه ، قال : وكان يقول : لا يفعلُ ذلك إلا مؤمن(3) . وسبب هذا أنَّ المالَ
تحبُّه النُّفوسُ ، وتبخَلُ به ، فإذا سمحت بإخراجه لله - عز وجل - دلَّ ذلك على صحَّة
إيمانها بالله ووعده ووعيده ، ولهذا منعت العربُ الزكاة بعدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،
وقاتلهم الصدِّيقُ - رضي الله عنه - على منعها ، والصلاةُ أيضاً برهانٌ على صحة
الإسلام .
وقد خرَّج الإمامُ أحمد(4)
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) في " سننه " ( 1582 ) .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 1062 ) ، والطبراني في " الصغير "
( 546 ) ، والبيهقي 4/109 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 3297 ) ، وهو حديث صحيح .
(3) سبق تخريجه .
(4) في " مسنده " 3/321 و399 .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20719 ) ، وعبد بن حميد ( 1138 ) ، والبزار كما في
" كشف الأستار " ( 1609 ) ، وأبو يعلى ( 1999 ) ، وابن حبان ( 1723 )
و( 4514 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 212 ) و( 298 ) ، وفي " الأوسط "
( 2751 ) ، والحاكم في " المستدرك " 4/480 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5761 ) .
تنبيه : لفظ رواية أبي يعلى : ( الصلاة قربان ) .

والترمذي(1) من حديث كعب بن عُجره ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصلاة برهان ) .
وقد ذكرنا في شرح حديث : ( أُمرتُ أنْ أقاتلَ الناس حتَّى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله ، ويقيمُوا الصلاة ويؤتوا الزَّكاة )(2) أنَّ الصلاةَ هي الفارقةُ بين الكفرِ والإسلام ، وهي أيضاً أوَّل ما يُحاسَبُ به المرءُ يومَ القيامةِ ، فإنْ تمَّت صلاتُه ، فقد أفلح وأنجح ، وقد سبق حديث عبد الله بن عمرو فيمن حافظ عليها أنَّها تكونُ له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة(3) .
وأمَّا الصبرُ ، فإنَّه ضياء ، والضياءُ : هو النُّورُ الذي يحصلُ فيه نوعُ حرارةٍ وإحراقٍ كضياء الشمس بخلاف القمر ، فإنَّه نورٌ محضٌ ، فيه إشراقٌ بغير إحراقٍ ، قال الله - عز وجل - : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } (4)ومِن هُنا وصف الله شريعةَ موسى بأنَّها ضياءٌ ، كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } (5)وإنْ كان قد ذكر أنَّ في التوراة نوراً كما قال : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } (6)، ولكن الغالب على شريعتهم الضياءُ لما فيها مِنَ الآصار والأغلال والأثقال .
__________
(1) في " جامعه " ( 614 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) يونس : 5 .
(5) الأنبياء : 48 .
(6) المائدة : 44 .

ووصف شريعةَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّها نورٌ لما فيها من الحَنيفيَّةِ السمحة ، قال تعالى :
{ قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } (1) وقال : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) .
ولما كان الصبر شاقَّاً على النفوس ، يحتاجُ إلى مجاهدةِ النفس وحبسِها ، وكفِّها عمَّا تهواهُ ، كان ضياءً ، فإنَّ معنى الصَّبر في اللغة : الحبسُ ، ومنه قَتْلُ الصبر : وهو أنْ يُحبَسَ الرَّجلُ حتى يقتل(3) .
__________
(1) المائدة : 15 .
(2) الأعراف : 157 .
(3) انظر : لسان العرب 7/276 ( صبر ) .

والصبر المحمود أنواع : منه صبرٌ على طاعةِ الله - عز وجل - ، ومنه صبرٌ عن معاصي الله - عز وجل - ، ومنه صبرٌ على أقدار الله - عز وجل - ، والصبرُ على الطاعات وعنِ المحرَّماتِ أفضلُ من الصَّبرِ على الأقدار المؤلمة ، صرّح بذلك السَّلفُ ، منهم : سعيدُ بنُ جبير ، وميمون بن مهران(1) ، وغيرهما . وقد روي بإسناد ضعيفٍ من حديث عليٍّ مرفوعاً : ( إنَّ الصَّبرَ على المصيبة يُكتب به للعبد ثلاث مئة درجة ، وإنَّ الصَّبر على الطاعة يكتب له به ست مئة درجة ، وإنَّ الصبر عن المعاصي يُكتب له به تسع مئة
درجة )(2)، وقد خرَّجه ابنُ أبي الدنيا وابن جرير الطبري .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/131 عن ميمون بن مهران ، به .
(2) أخرجه : ابن الجوزي في "الموضوعات" 3/183 –184، وطبعة أضواء السلف ( 1678 ) . وفيه عبد الله بن زياد بن سمعان . قال عنه مالك : ( كذاب ) ، وقال عنه أحمد بن حنبل
: ( هو متروك الحديث كان إبراهيم ابن سعد يرميه بالكذب ) ، وعن يحيى بن معين قال
: ( ابن السمعان ضعيف الحديث ليس بشيء )، وعن أحمد بن صالح قال : ( أظن ابن السمعان كان يضع للناس ، يعني : الحديث ) ، وقال عنه ابن حجر : ( متروك اتهمه بالكذب أبو داود وغيره ) ؛ لذا قال ابن الجوزي : ( هذا حديث موضوع ) .
انظر : الجرح والتعديل 5/71 – 72 ( 279 ) ، والتقريب ( 3326 ) .

ومن أفضل أنواع الصبر : الصيامُ ، فإنَّه يجمعُ الصبرَ على الأنواعِ الثَّلاثةِ ؛ لأنَّه صبرٌ على طاعةِ الله - عز وجل - ، وصبرٌ عن معاصي الله ؛ لأنَّ العبدَ يتركُ شهواتِه لله - عز وجل - ونفسه قد تنازعه إليها ، ولهذا في الحديث الصحيح : ( إنَّ الله - عز وجل - يقولُ : كُلُّ عمل ابنِ آدمَ له إلاَّ الصِّيامُ ، فإنَّه لي ، وأنا أجزي به ، إنَّه تركَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي )(1) ، وفيه أيضاً صبرٌ على الأقدار المؤلمة بما قد يحصُلُ للصَّائم من الجوع والعطشِ ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسمِّي شهرَ الصِّيامِ شهرَ الصَّبر(2) .
وقد جاء في حديث الرجل من بني سُليم ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ الصوم نصفُ الصبر ، وربما عُسر الوقوف على سرِّ كونه نصفَ الصبر أكثر من عُسر الوقوف على سرِّ(3) كونِ الطهور شطر الإيمان ، والله أعلم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والقرآنُ حجةٌ لك أو عليك ) ، قال الله - عز وجل - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً } (4). قال بعضُ السَّلف : ما جالسَ أحدٌ القرآنَ فقام عنه سالماً ؛ بل إمَّا أنْ يربح أو أنْ يخسرَ ، ثمَّ تلا هذه الآية(5) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 7/211 ( 5927 ) ، ومسلم 3/157 ( 1151 ) ( 57 ) .
(2) أخرجه: الحارث في "مسنده" كما في " بغية الباحث " ( 321 ) ، وابن خزيمة ( 1887 ) ، والمحاملي في " الأمالي " ( 293 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ، ولم يصححه ابن خزيمة بل توقف فيه .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) الإسراء : 82 .
(5) لم أقف عليه في مظانه ، وذكره القرطبي في " تفسيره " 10 / 321 عن قتادة ، به .

وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جَدِّه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يُمَثَّلُ القُرآن يومَ القيامة رجلاً ، فيؤتى بالرَّجُلِ قد حمله ، فخالف أمره ، فيتمثَّلُ له خصماً ، فيقول : يا ربِّ حمَّلتَه إيَّاي فشَرُّ حاملٍ تعدَّى حدودي ، وضيَّع فرائضي ، وركب معصيتي ، وترك طاعتي ، فما يزال يقذف عليه بالحُجَجِ حتَّى يقالَ : شأنك به ، فيأخذ بيده ، فما يرسلُه حتَّى يكبَّه على مِنخَرِه في النّار ، ويُؤتى بالرَّجل الصَّالح كان قد حمله ، وحفظ أمرَهُ ، فيمتثلُ خصماً دونه ، فيقول : يا ربِّ ، حمَّلتَه إيَّاي ، فخيرُ حاملٍ : حفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتَّبع طاعتي ، فما يزالُ يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به ، فيأخذه بيده ، فما يرسلُه حتى يُلبِسَه حلَّة الإستبرق، ويعقد عليه تاجَ المُلك ، ويسقيه كأسَ الخمر )(1).
وقال ابنُ مسعود : ( القرآنُ شافع مُشفَّع وماحلٌ مصدَّق ، فمن جعله أمامَه ، قادَه إلى الجنَّةِ ، ومن جعله خَلْفَ ظهره ، قاده إلى النار ) (2) .
وعنه قال : ( يجيءُ القرآنُ يومَ القيامة ، فيشفع لِصاحبه ، فيكون قائداً إلى الجنَّة ، أو يشهد عليه ، فيكون سائقاً إلى النار ) (3) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 30044 ) ، وابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " : 238 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 2337 ) ، وفي إسناده محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 6010 ) ، وابن أبي شيبة ( 30054 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 8655 ) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة ( 30053 ) ، والدارمي ( 3325 ) .

وقال أبو موسى الأشعري : إنَّ هذا القرآن كائنٌ لكم أجراً ، وكائنٌ عليكم
وِزراً ، فاتَّبِعوا القرآن ، ولا يتَّبعكُم القرآن ، فإنَّه مَنِ اتَّبعَ القرآنَ هبط به على رياضِ الجنَّةِ ، ومن اتَّبعه القرآنُ ، زخَّ في قفاه ، فقذفه في النار(1) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ النَّاس يغدو ، فبائعٌ نفسه فمعتِقُها أو موبقها ) وخرَّج الإمامُ أحمد ، وابن حبان من حديث كعب بن عُجرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( النَّاسُ غاديان، فمبتاعٌ نفسه ، فمعتق نفسه وموبقها )(2) . وفي روايةٍ خرَّجها الطبراني : ( الناس غاديان ، فبائعٌ نفسه فموبِقُها ، وفادٍ نفسه فمُعتِقها ) . وقال الله - عز وجل - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (3)، والمعنى : قد أفلح من زكى نفسَه بطاعة الله ، وخابَ من دسَّاها بالمعاصي، فالطاعةُ تُزكي النفس وتُطهرها ، فترتفع ، والمعاصي تُدسِّي النفس ، وتقمعها ، فتنخفض ، وتصيرُ كالذي يُدسُّ في التراب .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 30014 ) و( 38421 ) ، وسعيد بن منصور (80 ) ، والدارمي ( 3328 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 2023 ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) الشمس : 7 – 10 .

ودلَّ الحديثُ على أن كلَّ إنسان فهو ساعٍ في هلاك نفسه ، أو في فِكاكِها ، فمن سعى في طاعة الله ، فقد باع نفسَه للهِ ، وأعتقها من عذابه ، ومن سعى في معصيةِ الله ، فقد باعَ نفسَه بالهوان ، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه ، قال الله - عز وجل - : { إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى قوله : { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (1)، وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (2)، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } (3).
وفي " الصحيحين "(4) عن أبي هُريرة ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُنْزِل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } (5): ( يا معشرَ قريشٍ، اشترُوا أنفسَكُم مِنَ اللهِ، لا أُغني عنكُم من الله شيئاً ، يا بني عبد المطلب ، لا أغني عنكم مِنَ اللهِ شيئاً ) ، وفي روايةٍ للبخاري : ( يا بني عبدِ مناف، اشترُوا أنفسَكُم من اللهِ ، يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله ، يا عمَّة رسولِ الله ، يا فاطمة بنت محمد ، اشتريا أنفسكما مِنَ اللهِ ، لا أملِكُ لكُما من الله شيئاً ) .
__________
(1) التوبة : 111 .
(2) البقرة : 207 .
(3) الزمر : 15 .
(4) صحيح البخاري 4/7 ( 2753 ) و4/224 –225 ( 3527 ) و6/140 ( 4771 ) ، وصحيح مسلم 1/132 ( 204 ) ( 348 ) و( 349 ) .
(5) الشعراء : 214 .

وفي روايةٍ لمسلم أنَّه دعا قريشاً ، فاجتمعوا ، فعمَّ وخصَّ ، فقال : ( يا بني كعب بن لؤي أنقِذُوا أنفسكم من النار ، يا بني مرَّة بن كعب أنقِذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ) .
وخرَّج الطبراني(1) والخرائطي من حديث ابن عباس مرفوعاً : ( مَنْ قال إذا أصبح : سبحان الله وبحمده ألفَ مرَّة ، فقد اشترى نفسه مِنَ الله تعالى ، وكان من آخر يومه عتيقاً مِنَ النَّار ) .
وقد اشترى جماعةٌ من السَّلف أنفسَهم من الله - عز وجل - بأموالهم ، فمنهم من تصدَّق بماله كحبيب أبي محمد(2) ، ومنهم مَنْ تصدَّق بوزنه فضة ثلاثَ مرَّاتٍ أو أربعاً ، كخالد الطحَّان(3) .
ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول : إنَّما أنا أسيرٌ أسعى في فكاك رقبتي ، منهم عمرو بنُ عُتبة(4) ، وكان بعضُهم يسبِّحُ كلَّ يوم اثني عشر ألفَ تسبيحة بقدر دِيَتِه ، كأنَّه قد قتل نفسه ، فهو يَفْتَكُّها بديتها(5) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 3982 ) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/116-117 : ( فيه من لم أعرفه ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/149 .
(3) ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 8/278 .
(4) أخرجه : المزي في " تهذيب الكمال " 5/440 .
(5) ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 2/610 .

قال الحسن : المؤمن في الدنيا كالأسير ، يسعى في فكاك رقبته(1) ، لا يأمنُ شيئاً حتّى يلقى الله - عز وجل -(2). وقال : ابنَ آدم، إنَّك تغدو أو تروحُ في طلب الأرباح ، فليكن همُّك نفسك ، فإنَّك لن تربح مثلها أبداً .
قال أبو بكر بن عيّاش : قال لي رجل مرَّة وأنا شابٌّ : خلِّص رقبتَك ما استطعتَ في الدنيا من رقِّ الآخرة ، فإنَّ أسيرَ الآخرةِ غيرُ مفكوكٍ أبداً ، قال : فوالله ما نسيتُها بعد(3) .
وكان بعضُ السَّلف يبكي ، ويقول : ليس لي نفسان ، إنَّما لي نفسٌ واحدةٌ ، إذا ذهبت لم أجد أخرى .
وقال محمد بن الحنفية : إنَّ الله - عز وجل - جعل الجنَّة ثمناً لأنفسكم ، فلا تبيعُوها بغيرها(4) . وقال : من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر(5) . وقيل له : من
أعظمُ الناس قدراً ؟ قالَ : من لم يرَ الدُّنيا كُلَّها لنفسه خطراً(6) .
وأنشد بعضُ المتقدمين :
أثامِن بالنفس النفيسةِ ربَّها
بها تُملك الأخرى فإنْ أنا بِعتُهَا
لَئِنْ ذَهَبَتْ نفسي بدُنيا أُصيبُها

ولَيسَ لها في الخلق كُلِّهم ثَمَنْ
بشيءٍ من الدُّنيا ، فذَاكَ هُوَ الغَبَنْ
لقَدْ ذَهَبَتْ نفسي وقد ذَهَبَ الثَّمنْ
__________
(1) في ( ص ) : ( نفسه ) .
(2) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 307 ) ، وابن أبي شيبة ( 35208 ) .
(3) أخرجه: أبو نعيم في "حلية الأولياء" 8/304، وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/164.
(4) أخرجه: أبو نعيم في "حلية الأولياء" 3/177 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 57/260 .
وذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/43 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء 4/117 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/176 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 57/260 .
وذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/43 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/117 .
(6) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 57/260 .

الحديث الرابع والعشرون

عَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَروي عَنْ ربِّه - عز وجل - أنَّه قالَ : ( يا عِبادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلمَ على نَفسي ، وجَعَلْتُهُ بَينَكُم مُحَرَّماً فلا تَظالموا ، يا عِبادي كُلُّكُم ضَالٌّ إلاَّ مَنْ هَديتُهُ فاستهدُوني أهدِكُم ، يا عبادي كُلُّكُم جَائِعٌ إلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فاستطعموني أُطعِمْكُم ، يا عِبادي كُلُّكُم عَارٍ إلاَّ مَنْ كَسوتُهُ ، فاستَكْسونِي أكسكُمْ ، يا عِبادي إنَّكُم تُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهار ، وأنَا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً ، فاستَغفِروني أغفر لكُمْ . يا عِبادي إنَّكم لَنْ تَبلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، ولن تَبلُغُوا نَفْعِي فَتَنفَعونِي . يا عِبادي لو أنَّ أوَّلَكُم وآخِركُم وإنْسَكُمْ وجِنَّكُم كانُوا على أتْقى قَلب رَجُلٍ واحدٍ منكُم ، ما زَادَ ذلك في مُلكِي شَيئاً ، يا عِبادي لو أنَّ أَوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُمْ وجِنَّكُم كانُوا على أفْجَر قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ منكُم ، ما نَقَصَ ذلك من مُلكِي شيئاً ، يا عِبادي لَوْ أنَّ أَوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُمْ وجنَّكم قاموا في صَعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته ، ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِندي إلاَّ كَما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البَحرَ . يا عبادي ، إنَّما هِيَ أَعمالُكُم أُحْصِيها لَكُمْ ، ثمَّ أُوفِّيكُم إيَّاها ، فَمَنْ وجَدَ خَيراً ، فليَحْمَدِ الله ، ومَنْ وَجَد غيرَ ذلكَ ، فَلا يَلومَنَّ إلاَّ نَفسَه ) . رواهُ مسلمٌ(1)
__________
(1) في "صحيحه" 8/17 ( 2577 ) ( 55 ) من طريق أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، به .

وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20272 ) ، والطيالسي ( 463 ) ، وأحمد 5/154 و160 و177 ، وهناد في " الزهد " ( 905 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 490 ) ، وابن ماجه ( 4257 ) ، والترمذي ( 2495 ) ، والبزار ( 4051 ) و( 4052 ) و( 4053 ) ، وابن حبان ( 619 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 338 ) و( 2811 ) ، والحاكم 4/241، وأبو نعيم في "الحلية" 5/125 – 126 ، والبيهقي 6/93 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7088 ) ، والخطيب في " تاريخه " 7/203 – 204 .

.
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذرٍّ ، وفي آخره : قال سعيدُ بنُ عبد العزيز : كان أبو إدريس الخولاني إذا حدَّثَ بهذا الحديث جثى على ركبتيه .
وخرَّجه مسلم أيضاً من رواية قتادة ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرَّحَبِي ، عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يَسُقْه بلفظه ، ولكنَّه قال : وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس ، وحديث أبي إدريس أتمُّ .
وخرَّجه الإمام أحمد(1) والترمذي(2) وابن ماجه(3) ، من رواية شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم ، عن أبي ذرٍّ ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
: ( يقولُ الله تعالى: يا عبادي، كُلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَنْ هَديتُ ، فسلوني الهدى أهدِكُم، وكلُّكم فقيرٌ إلاَّ من أغنيتُ فسلوني أرزقكم ، وكلُّكُم مذنبٌ إلا من عافيت ، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني غفرتُ له ولا أُبالي ، ولو أنَّ أوَّلكم وآخركم وحيَّكم وميِّتكم ، ورطبكم ويابسكم ، اجتمعوا على أتقى قلب عبدٍ من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناحَ بعوضة ، ولو أنَّ أوَّلكم وآخركم وحيَّكم وميتَكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيدٍ واحد ، فسأل كلُّ إنسان منكم ما بلغتْ أمنيته فأعطيتُ كلَّ سائلٍ منكم ، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أنَّ أحدَكم مرَّ بالبحر ، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأني جوّاد واجد ماجد أفعلُ ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنَّما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقولَ له : كن فيكون ) وهذا لفظ الترمذي ، وقال : ( حديث حسن ) .
__________
(1) المسند 5/154 و177 .
(2) في " الجامع الكبير " ( 2495 ) .
(3) السنن ( 4257 ) .

وخرَّجه الطبراني(1) بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلاَّ أنَّ إسنادَه ضعيف .
وحديث أبي ذرٍّ قال الإمام أحمد : هو أشرفُ حديثٍ لأهلِ الشام(2) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه : ( يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي )، يعني : أنَّه منع نفسه من الظلم لعباده ، كما قال - عز وجل - : { وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } (3)، وقال : { وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ } (4) ، وقال : { وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ } (5)، وقال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } (6)، وقال : { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً } (7)، وقال : { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } (8)، وقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } (9)، والهضمُ : أنْ يُنقَصَ من جزاء حسناته ، والظُّلم : أنْ يُعاقب بذنوب غيره(10) ، ومثل هذا كثير في القرآن .
وهو مما يدلُّ على أنَّ الله قادرٌ على الظلم ، ولكنَّه لا يفعلُه فضلاً منه وجوداً ، وكرماً وإحساناً إلى عباده(11) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 7169 ) ، وسبب ضعفه عبد الملك بن هارون بن عنترة ، قال عنه أبو حاتم : ( متروك الحديث ، ذاهب الحديث ) ، وقال عنه يحيى بن معين : ( كذاب ) . انظر : الجرح والتعديل 5/440 ( 1748 ) .
(2) انظر : الأذكار للنووي : 368 .
(3) ق : 29 .
(4) غافر : 31 .
(5) آل عمران : 108 .
(6) فصلت : 46 .
(7) يونس : 44 .
(8) النساء : 40 .
(9) طه : 112 .
(10) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 13539 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 18379 ) عن ابن عباس ، به .
(11) انظر : تفسير الطبري ( 18380 ) .

وقد فسَّر كثيرٌ من العلماء الظلمَ : بأنَّه وضعُ الأشياء في غير موضعها(1) . وأمَّا من فسَّره بالتَّصرُّف في ملك الغير بغير إذنه - وقد نقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره - فإنَّهم يقولون : إنَّ الظُّلمَ مستحيلٌ عليه وغيرُه متصوَّرٌ في حقِّه ؛ لأنَّ كلَّ ما يفعله فهو تصرُّفٌ في ملكه(2) ، وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لِعمران بنِ حصين حين سأله عن القدر(3) .
__________
(1) انظر : لسان العرب 8/263 ( ظلم ) .
(2) قال ابن أبي العز الحنفي : ( ... فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم بعدله ، ولم يكن ظالماً لهم ، وغاية ما يقدَّر توبة العبد من ذلك واعترافه ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذَّب عبده على جنايته لم يكن ظالماً ولو قدّر أنه تاب منها ، لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنَّه لا يعذب من تاب ، وقد كتب علىنفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ... ) ، انظر : شرح العقيدة الطحاوية : 451 ( ط المكتب الإسلامي ) .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 842 )، وأحمد 4/438 ، ومسلم 8/48 – 49 ( 2650 ) ( 10 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 174 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 28962 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/ ( 556 ) و( 557 ) ، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 950 ) و( 951 ) و( 952 ) و( 953 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 186 ) ، والبغوي في " تفسيره " 5/259 من طرق عن أبي الأسود الدؤلي ، عن عمران بن حصين ، به .

وخرَّج أبو داود ، وابنُ ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان ، عن وهب بن خالد الحمصي ، عن ابن الدَّيلَمي أنَّه سمع أبيَّ بن كعبٍ يقول : لو أنَّ الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم ، ولو رَحِمَهُم ، لكانت رحمتُه خيراً لهم من أعمالهم ، وأنَّه أتى ابن مسعود ، فقال له مثلَ ذلك ، ثم أتى زيدَ ابن ثابت ، فحدَّثه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك(1) . وفي هذا الحديث نظر ، ووهبُ بنُ خالدٍ ليس بذلك المشهور بالعلم(2) . وقد يُحمل على أنَّه لو أراد تعذيبهم ، لقدَّرَ لهم ما يعذِّبهم عليه ، فيكون غيرَ ظالم لهم حينئذٍ .
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 4699 ) ، وابن ماجه ( 77 ) .
وأخرجه : أحمد 5/182 و185 و189 ، وعبد بن حميد ( 247 ) ، وابن أبي عاصم في
" السنة " ( 245 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 844 ) ، وابن حبان ( 727 ) ، والآجري في "الشريعة" : 187 ، والطبراني في " الكبير " ( 4940 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 1962 ) ، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 1092 ) و( 1093 ) ، والبيهقي 10/204 .
(2) لم أجد ما ذكره ابن رجب - رحمه الله - في وهب بن خالد عن أحد من المتقدمين ولا عن غيرهم ، فقد وثقه أبو داود ، وابن حبان ، والعجلي ، والذهبي ، وابن حجر .
انظر : تهذيب الكمال 7/495 ( 7350 ) ، وتهذيب التهذيب 11/143 ( 7795 ) ، والتقريب ( 7474 ) ، وقال العلامة مغلطاي في " إكمال تهذيب الكمال " 12/260
: ( خرج أبو عبد الله الحاكم وأبو علي الطوسي حديثه في صحيحهما ) ، ولعل ابن رجب - رحمه الله - أراد أن يعل هذا الحديث بتفرد وهب بن خالد ؛ إذ إنَّ الحديث ورد موقوفاً من حديث أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة ، وبيان ذلك في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه .

وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلمُ لا يقتضي وصفَه بالظُّلم - سبحانه وتعالى - ، كما أنَّه لا يُوصَفُ بسائر القبائح التي يفعلُها العبادُ ، وهي خَلْقُه وتقديرُه(1) ، فإنَّه لا يُوصَفُ إلاَّ بأفعاله لا يُوصف بأفعال عباده ، فإنَّ أفعالَ عباده مخلوقاتُه ومفعولاتُه ، وهو لا يُوصَفُ بشيءٍ منها ، إنَّما يوصَفُ بما قام به من صفاته وأفعاله ! والله أعلم .
وقوله : ( وجعلتُه بينكم محرَّماً ، فلا تظالموا ) يعني : أنَّه تعالى حَرَّم الظلم على عباده ، ونهاهم أنْ يتظالموا فيما بينهم ، فحرامٌ على كلِّ عبدٍ أنْ يظلِمَ غيره ، مع أنَّ الظُّلم في نفسه محرَّم مطلقاً ، وهو نوعان :
أحدهما : ظلمُ النفسِ ، وأعظمه الشِّرْكُ ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (2)، فإنَّ المشركَ جعل المخلوقَ في منزلةِ الخالق ، فعبده وتألَّهه ، فوضع الأشياءَ في غيرِ موضعها ، وأكثر ما ذُكِرَ في القرآن مِنْ وعيد الظالمين إنَّما أُريد به المشركون ، كما قال الله - عز وجل - : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (3)، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائرَ .
__________
(1) وتقديره ) لم ترد في ( ص ) .
(2) لقمان : 13 .
(3) البقرة : 254 .

والثاني : ظلمُ العبدِ لغيره ، وهو المذكورُ في هذا الحديث ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع : ( إنَّ دماءكم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حرامٌ ، كحرمةِ يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا )(1) . وروي عنه أنَّه خطب بذلك في يوم عرفة ، وفي يوم النَّحر ، وفي اليوم الثاني من أيَّام التشريق ، وفي رواية : ثُمَّ قال : ( اسمعوا منِّي تعيشوا ، ألا لا تَظلموا ، ألا لا تَظلموا ، ألا لا تَظلموا ، إنَّه لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ عن طيبِ نفسٍ منه )(2) .
وفي " الصحيحين " (3) عن ابنِ عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( الظلمُ ظُلُماتٌ يوم القيامة ) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 37164 ) ، وأحمد 5/37 و39 و49 ، والدارمي ( 1916 ) ، والبخاري 1/26 ( 67 ) و1/38 ( 105 ) و2/216 ( 1741 ) و5/224 ( 4406 ) و7/130 ( 5550 ) ، ومسلم 5/ 107 – 108 ( 1679 ) ( 29 ) و( 30 ) و( 31 ) ، والبزار ( 3617 ) ، وابن الجارود ( 833 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 4092 )
و( 4093 ) و( 5850 ) من حديث أبي بكرة ، به مرفوعاً .
(2) أخرجه : أحمد 5/72 من طريق أبي حرّة الرقاشي ،عن عمه . وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف . انظر : تهذيب الكمال 5/ 248 – 249 ( 4659 ) وجزء الحديث =
= ... الأخير : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس ) صحيح ورد من حديث جماعة من الصحابة . انظر : إرواء الغليل 5/279-282 .
(3) صحيح البخاري 3/169 ( 2447 ) ، وصحيح مسلم 8/18 ( 2579 ) ( 57 ) .

وفيهما(1) عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالم حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِته ) ، ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (2). وفي " صحيح البخاري "(3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كانت عنده مظلمة لأخيه ، فليتحلَّلْهُ منها ، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ مِنْ قبل أنْ يُؤخَذ لأخيه من حسناته ، فإنْ لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئات أخيه فطُرِحت عليه ) .
قوله : ( يا عبادي ، كلُّكُم ضالٌّ إلاَّ من هديتُه ، فاستهدوني أهدِكم ، يا عبادِي ، كُلُّكم جائعٌ إلاَّ من أطعمتُه ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي ، كلُّكم عارٍ إلاَّ من كَسوتُهُ ، فاستكسوني أكسكُم ، يا عبادي إنَّكم تُخطئون باللَّيل والنَّهار ، وأنا أغفرُ الذُّنوب جَميعاً ، فاستغفروني أغفر لكم ) .
هذا يقتضي أنَّ جميعَ الخلق مُفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ، ودفع مضارِّهم في أمور دينهم ودُنياهم ، وإنَّ العباد لا يملِكُون لأنفسهم شيئاً مِنْ ذلك كلِّه ، وإنَّ مَنْ لم يتفضَّل اللهُ عليه بالهدى والرزق ، فإنَّه يُحرمهما في الدنيا ، ومن لم يتفضَّل اللهُ عليه بمغفرة ذنوبه ، أوْبَقَتْهُ خطاياه في الآخرة .
__________
(1) صحيح البخاري 6/93 – 94 ( 4686 ) ، وصحيح مسلم 8/19 ( 2583 ) ( 61 ) .
(2) هود : 102 .
(3) الصحيح 3/170 ( 2449 ) و8/138 ( 6534 ) .

قال الله تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً } (1)، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن ، وقال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } (2)، وقال : { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (3)، وقال : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } (4) ، وقال : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } (5) .
وقال تعالى حاكياً عن آدم وزوجه أنَّهما قالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (6)، وعن نوح عليه الصلاة والسَّلام أنَّه قال : { وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (7) .
__________
(1) الكهف : 17 .
(2) فاطر : 2 .
(3) الذاريات : 58 .
(4) العنكبوت : 17 .
(5) هود : 6 .
(6) الأعراف : 23 .
(7) هود : 47 .

وقد استدلَّ إبراهيمُ الخليلُ - عليه السلام - بتفرُّد الله بهذه الأمور على أنَّه لا إله غيره ، وإنَّ كلَّ ما أشرك معه ، فباطل ، فقال لقومه : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } (1)، فإنَّ من تفرَّد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا ، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة ، مستحقٌّ أنْ يُفرَدَ بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرُّع إليه ، والاستكانة له . قال الله - عز وجل - : { اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (2).
وفي الحديث دليلٌ(3) على أنَّ اللهَ يحبُّ أنْ يسأله العبادُ جميعَ مصالح دينهم ودنياهم، مِنَ الطَّعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية والمغفرة، وفي الحديث : ( ليسأل أحدُكم ربَّه حاجته كلَّها حتى يسأله شِسعَ نعله إذا انقطع )(4).
وكان بعضُ السَّلف يسأل الله في صلاته كلَّ حوائجه حتّى ملحَ عجينه وعلفَ شاته . وفي الإسرائيليات : أنَّ موسى - عليه السلام - قال : يا ربِّ إنَّه لتَعْرِضُ لي الحاجةُ من الدنيا ، فأستحيي أنْ أسألك ، قال : سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك .
__________
(1) الشعراء : 75 – 82 .
(2) الروم : 40 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) تقدم تخريجه ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي ضعيف .

فإنَّ كلَّ ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهرَ حاجتَه فيه ، وافتقاره إلى الله ، وذلك يحبُّه الله ، وكان بعضُ السَّلف يستحيي من الله أنْ يسأله شيئاً من مصالح الدنيا ، والاقتداءُ بالسُّنَّة أولى .
وقوله : ( كُلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَنْ هديتُه ) قد ظنَّ بعضُهم أنَّه معارض لِحديث عياض بنِ حمار ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يقولُ اللهُ - عز وجل - : خلقتُ عبادي حنفاء ) ، وفي روايةٍ : ( مسلمين فاجتالتهم الشياطين )(1) وليس كذلك ، فإنَّ الله خلق بني آدم ، وفطرهم على قبول الإسلام ، والميل إليه دونَ غيره ، والتهيؤ لذلك ، والاستعداد له بالقوَّة ، لكن لابدَّ للعبد من تعليم الإسلام بالفعل ، فإنَّه قبل التعليم جاهلٌ لا يعلم شيئاً ، كما قال - عز وجل - : { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً } (2)وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى } (3)، والمراد : وجدَك غيرَ عالمٍ بما علَّمك من الكتاب والحكمة(4) ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ } (5) فالإنسان يولد مفطوراً على قبول الحقِّ ، فإنْ هداه الله سبَّب له من يعلمه الهدى ، فصار مهتدياً بالفعل بعد أنْ كان مهتدياً بالقوَّة ، وإنْ خذله الله ، قيَّض له من
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 1079 ) ، وعبد الرزاق ( 20088 ) ، وأحمد 4/162 و266 ، ومسلم 8/158 – 159 ( 2865 ) ( 63 ) و( 64 ) ، وابن حبان ( 653 ) و( 654 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/ ( 992 ) و( 993 ) و( 994 ) و( 995 ) و( 996 ) وفي
" الأوسط " ( 2933 ) و( 2954 ) ، والبيهقي 9/20 من طرق عن مطرّف ، عن عياض بن حمار ، به .
(2) النحل : 78 .
(3) الضحى : 7 .
(4) انظر : تفسير القرطبي 20/98 .
(5) الشورى : 52 .

يعلمه ما يُغير فطرته كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة ، فأبواه يهوِّدانه ويُنصرانه ويمجسانه )(1) .
وأما سؤالُ المؤمن من الله الهداية ، فإنَّ الهدايةَ نوعان : هداية مجملة : وهي الهدايةُ للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن ، وهدايةٌ مفصلة : وهي هدايته إلى معرفة تفاصيلِ أجزاء الإيمان والإسلام ، وإعانتُه على فعل ذلك ، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليلاً ونهاراً ، ولهذا أمر(2) الله عباده أنْ يقرؤوا في كُلِّ ركعةٍ من صلاتهم قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (3)، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه بالليلِ : ( اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك ، إنَّكَ تَهدي من تشاءُ إلى صراط مستقيم )(4) ، ولهذا يُشمت العاطس ، فيقال له : ( يرحمك الله ) فيقول
: ( يهديكم الله ) كما جاءت السنة بذلك(5)
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20087 ) ، وأحمد 2/253 و275 و282 ، والبخاري 2/118 ( 1358 ) ، ومسلم 8/52 ( 2658 ) ( 22 ) و( 25 )، والترمذي ( 2138 ) ، والآجري في " الشريعة " : 194 ، وابن حبان ( 128 ) و( 130 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/308 ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/228 من حديث أبي هريرة ، به .
(2) في ( ص ) : ( أراد ) .
(3) الفاتحة : 6 .
(4) أخرجه : أحمد 6/156 ، ومسلم 2/185 ( 770 ) ( 200 ) ، وأبو داود ( 767 ) ، وابن ماجه ( 1357 )، والترمذي ( 3420 ) من حديث عائشة ، به .
(5) أخرجه : الطيالسي ( 591 ) ، وأحمد 5/419 و422 ، والدارمي ( 2662 ) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ( 213 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 4009 ) ، والحاكم 4/266 ، وأبو نعيم في "الحلية" 7/163 ، والبغوي في "شرح السنة" ( 3342 ) من حديث أبي أيوب ، به .
وجاء من حديث أبي هريرة ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن جعفر فالسنة ثابتةٌ بذلك .

، وإنْ أنكره من أنكره من فقهاء العراق ظناً منهم أنَّ المسلم لا يحتاج أنْ يُدعى له بالهُدى ، وخالفهم جمهورُ العلماء اتِّباعاً للسنة في ذلك . وقد أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علياً أنْ يسأل الله السداد والهدى(1) ، وعلَّم الحسن أنْ يقولَ في قُنوتِ الوتر : ( اللهم اهدني فيمن هديت )(2) .
وأما الاستغفارُ من الذنوب ، فهو طلبُ المغفرة ، والعبدُ أحوجُ شيءٍ إليه ؛ لأنَّه يخطئ بالليل والنهار ، وقد تكرَّر في القرآن ذكرُ التوبة والاستغفارِ ، والأمرُ بهما ، والحثُّ عليهما ، وخرَّج الترمذي ، وابنُ ماجه من حديث أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ بني آدم خطَّاءٌ ، وخيرُ الخطَّائين التَّوابون )(3)
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 161 ) ، والحميدي ( 52 ) ، وأحمد 1/88 و134 و138 و154 ، ومسلم 8/83 ( 2725 ) ( 78 ) ، وأبو داود ( 4225 ) ، والنسائي 8/177 و219 - 220 ، وابن حبان ( 998 ) . من حديث علي - رضي الله عنه - ، به .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 4984 ) ، وابن أبي شيبة ( 6889 ) ، وأحمد 1/ 199 و200 ، والدارمي ( 1591 ) و( 1593 ) ، وأبو داود ( 1425 ) و( 1426 ) ، وابن ماجه
( 1178 ) ، والترمذي ( 464 ) ، والنسائي 3/48 ، وفي "الكبرى" ، له ( 1442 ) وفي
"فضائل القرآن"، له ( 126 ) ، وابن الجارود ( 272 ) و( 273 ) ، وأبو يعلى ( 6759 ) ، وابن خزيمة ( 1095 ) و( 1096 ) ، وابن حبان ( 945 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 2700 ) و( 2701 ) و( 2702 ) و( 2703 ) و( 2704 ) و( 2706 ) و( 2707 ) و( 2708 ) و( 2710 ) و ( 2711 ) و( 2713 ) ، والحاكم 3/1 ، والبيهقي 2/209 ، وقال الترمذي : ( حديث حسن ) .
(3) أخرجه : ابن ماجه ( 4251 ) ، والترمذي ( 2499 ) ، وقال : ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة ، عن قتادة ) ، وعلي بن مسعدة ضعيف عند التفرد وقد تفرد .

وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34216 ) ، وأحمد 3/198 ، وعبد بن حميد ( 1197 ) ، والدارمي ( 2727 ) ، وأبو يعلى ( 2922 ) ، وابن عدي في " الكامل " 6/453 ، والحاكم 4/244 من طرق عن علي بن مسعدة الباهلي ، عن قتادة ، عن أنس ، به .

.
وخرَّج البخاري من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّةً )(1) ، وخرَّجه النَّسائي وابن ماجه ، ولفظهما : ( إني لأستغفر الله وأتوب إليه كلَّ يوم مئة مرَّةً )(2) .
وخرّج مسلم(3) من حديث الأغرِّ المزني سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( يا أيُّها الناسُ توبوا إلى ربِّكم ، فإنِّي أتوبُ إليه في اليوم مئة مرَّة ) ، وخرَّجه النَّسائي(4) ، ولفظه : ( يا أيُّها الناسُ توبوا إلى ربِّكم واستغفروه ، فإنِّي أتوب إلى الله وأستغفره كلَّ يوم مئة مرَّة ) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 8/83 ( 6307 ) .
وأخرجه أيضاً : أحمد 2/282 و341 ، والترمذي ( 3259 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 435 ) و( 436 ) و( 439 ) ، وابن حبان ( 925 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/188 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 638 ) و( 639 ) ، والبغوي ( 1285 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) أخرجه : ابن ماجه ( 3815 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 434 ) و( 438 ) . وأخرجه أيضاً : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1138 ) ، وابن أبي شيبة ( 29442 )
و( 35071 ) ، وأحمد 2/450 ، والترمذي عقيب ( 3259 ) ، والنسائي في " التفسير "
( 515 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1821 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 640 ) ، والبغوي ( 1286 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
(3) في " صحيحه " 8/72 ( 2702 ) ( 41 ) .
(4) في " عمل اليوم والليلة " ( 444 ) – ( 447 ) .

وخرَّج الإمامُ أحمد(1) من حديث حُذيفة قال : كان في لساني ذَرَبٌ
على أهلي لم أَعْدُهُ إلى غيرِه ، فذكرتُ ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( أين أنتَ
مِنَ الاستغفار يا حُذيفَةُ ، إنِّي لأستغفرُ اللهَ كل يوم مئة مرَّة ) . ومن حديث أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنِّي لأستغفر الله كل يومٍ مئة مرّة وأتوب
إليه )(2) .
وخرَّج النَّسائي(3) من حديث أبي موسى، قال : كنَّا جلوساً ، فجاء النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال : ( ما أصبحت غداةً قط إلا استغفرتُ الله مئةَ مرَّة ) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود(4) ، والترمذي ، والنَّسائي ، وابن ماجه من حديث ابنِ عمر ، قال : إنْ كنَّا لنُعدُّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرَّة يقول
: ( ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ ، إنَّك أنتَ التَّوَّابُ الرَّحيم )(5) .
__________
(1) في " مسنده " 5/396 و397 ، وإسناده ضعيف لجهالة أبي المغيرة عبيد الله بن أبي المغيرة إلاّ أنَّ جزؤه الأخير : ( إني لأستغفر الله كل يوم مئة مرة ) صحيح لغيره .
(2) أخرجه : أحمد 4/410 ، ومتن الحديث صحيح ؛ لكن من حديث الأغر المزني ، وهذا الإسناد معلول ، بيان ذلك كله في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه .
(3) في " الكبرى " (10274 ) المتن صحيح كما تقدم ؛ لكن من حديث الأغر ، وممن نص على أن رواية أبي موسى وهمٌ العقيلي في " الضعفاء " 4/175 ، والمزي إذ قال : ( المحفوظ حديث أبي بردة ، عن الأغر المزني ) .
(4) وأبو داود ) لم ترد في ( ص ) .
(5) أخرجه : أحمد 2/21 و67 ، وأبو داود ( 1516 ) ، والترمذي ( 3434 ) ، والنسائي في
" عمل اليوم والليلة " ( 458 ) ، ( 459 ) ، وابن ماجه ( 3814 ) ، وقال الترمذي
: ( حسن صحيح غريب ) .

وخرَّج النَّسائي(1) من حديث أبي هريرة ، قال : لم أرَ أحداً أكثرَ أنْ يقولَ : أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وخرَّج الإمامُ أحمد(2) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول : ( اللهمَّ اجعلني مِنَ الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساءوا استغفروا ) ، وسنذكر بقية الكلام في الاستغفار فيما بعد إنْ شاء الله تعالى .
وقوله : ( يا عبادي ، إنَّكم لن تبلُغوا ضَرِّي فتضرُّوني ، ولن تبلغوا نفعي
فتنفعوني ) يعني : أنَّ العباد لا يَقدِرُونَ أنْ يُوصِلُوا إلى الله نفعاً ولا ضرّاً ، فإنَّ الله تعالى في نفسه غنيٌّ حميدٌ ، لا حاجةَ له بطاعات العباد ، ولا يعودُ نفعُها إليه ، وإنَّما هُم ينتفعون بها ، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم ، وإنَّما هم يتضررون بها ، قال الله تعالى : { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً } (3) . وقال :
{ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً } (4).
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : ( ومَنْ يعصِ الله ورسولَه فقد غوى ، ولا يضرُّ إلا نفسه ولا يضرُّ الله شيئاً )(5) .
__________
(1) في " عمل اليوم والليلة " ( 454 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(2) أخرجه: أحمد 6/129 و145 و188 و239، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان.
(3) آل عمران : 176 .
(4) آل عمران : 144 .
(5) أخرجه : أبو داود ( 1097 ) و( 2119 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10499 ) ، والبيهقي 3/215 من طرق عن أبي عياض ، عن ابن مسعود ، وأبو عياض هو المدني مجهول فالحديث ضعيف .

قال الله - عز وجل - : { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً } (1)، وقال حاكياً عن موسى : { وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } (2) ، وقال : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (3)، وقال : { لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } (4).
والمعنى : أنَّه تعالى يُحبُّ من عباده أنْ يتَّقوهُ ويُطيعوه ، كما أنَّه يكره منهم أنْ يَعْصُوه ، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشدَّ من فرح من ضَلَّتْ راحلته التي عليها طعامُه وشرابُه بفلاةٍ مِنَ الأرض ، وطلبها حتى أعيى وأيِسَ منها ، واستسلم للموت ، وأيس من الحياة ، ثم غلبته عينُه فنام ، فاستيقظ وهي قائمةٌ عنده ، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوقُ من الفرح ، هذا كلُّه مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه ، وإنَّه إنَّما يعودُ نفعُهَا إليهم دونه ، ولكن هذا من كمال جوده وإحسّانه إلى عباده ، ومحبته لنفعهم ، ودفع الضَّرر عنهم ، فهو يُحِبُّ من عباده أنْ يعرفوه ويحبُّوه ويخافوه ويتَّقوه ويطيعوه ويتقرَّبوا إليه ، ويُحِبُّ أنْ يعلموا أنَّه لا يغفر الذنوب غيره ، وأنَّه قادرٌ على مغفرة ذنوب عباده ، كما في رواية عبد الرحمان بن غَنْم ، عن أبي ذرٍّ لهذا الحديث : ( من علم منكم أنِّي ذو قُدرةٍ على المغفرة ، ثم استغفرني ، غفرت له ولا أبالي ) .
__________
(1) النساء : 131 .
(2) إبراهيم : 8 .
(3) آل عمران : 97 .
(4) الحج : 37 .

وفي " الصحيح " (1) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّ عبداً أذنب ذنباً ، فقال : يا ربّ ، إنِّي عملتُ ذنباً ، فاغفر لي ، فقالَ الله : علم عبدي أنَّ لهُ رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، قد غفرتُ لعبدي ) . وفي حديث عليِّ بن أبي طالب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه لمَّا ركب دابَّته، حَمِدَ اللهَ ثلاثاً ، وكبَّر ثلاثاً ، وقال : ( سبحانك إني ظلمتُ نفسي، فاغفر لي ، فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلاَّ أنت ، ثمَّ ضحك ، وقال : إنَّ ربَّك ليعجَبُ مِنْ عبده إذا قال : ربِّ اغفر لي ذنوبي ، يعلم أنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ غيري )، خرَّجه الإمامُ أحمد والترمذي وصححه(2) .
وفي الصحيح(3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( والله للهُ أرحمُ بعباده من الوالدةِ بولدِها ).
__________
(1) أخرجه : البخاري 9/178 ( 7507 ) ، ومسلم 8/99 ( 2758 ) ( 29 ) و( 30 ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/97 و115 و128 ، والترمذي ( 3446 ) .
(3) أخرجه : البخاري 8/9 ( 5999 ) ، ومسلم 8/97 ( 2754 ) ( 22 ) من طريق زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب ، به .

كان بعضُ أصحاب ذي النون يطوفُ وينادي : آه أين قلبي ، من وجد قلبي ؟ فدخل يوماً بعضَ السكك ، فوجد صبياً يبكي وأمه تضرِبهُ ، ثُمَّ أخرجته من الدار ، وأغلقت البابَ دونه ، فجعل الصبيُّ يتلفَّتُ يميناً وشمالاً لا يدري أين يذهب ولا أين
يقصِدُ ، فرجع إلى باب الدار ، فجعلَ يبكي ويقول : يا أماه من يَفْتَحُ لي الباب إذا أغلقت عني بابَك ؟ ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني ؟ ومن الذي يدنيني بعد أنْ غضبت عليَّ ؟ فرحمته أمُّه ، فقامت ، فنظرت من خَلَلِ الباب ، فوجدت ولدها تجري الدموعُ على خديه متمعِّكاً في التراب ، ففتحت البابَ ، وأخذته حتى وضعته في حجرها ، وجعلت تُقبِّله ، وتقول : يا قُرَّة عيني ، ويا عزيز نفسي ، أنتَ الذي حملتني على نفسك ، وأنتَ الذي تعرَّضت لما حلَّ بك ، لو كنتَ أطعتني لم تلقَ مني مكروهاً ، فتواجد الفتى ، ثم قام ، فصاح ، وقال : قد وجدتُ قلبي ، قد وجدتُ قلبي .

وتفكروا في قوله : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } (1)، فإنَّ فيه إشارةً إلى أنَّ المذنبين ليس لهم من يلجؤون إليه ، ويُعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره ، وكذلك قوله في حقِّ الثلاثة الذين خُلِّفوا : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (2)، فرتَّب توبته عليهم على ظنِّهم أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه ، فإنَّ العبدَ إذا خاف من مخلوقٍ ، هرب منه ، وفرَّ إلى غيره ، وأمَّا من خاف من الله ، فما له منْ ملجأ يلجأُ إليه ، ولا مهرب يهربُ إليه إلاَّ هو ، فيهرُب منه إليه ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( لا ملجأ ، ولا مَنجَا منك إلاَّ إليك )(3) وكان يقول : ( أعوذُ برضاكَ مِنْ سَخَطِك ، وبعفوك من عقوبتك ، وبِكَ منكَ )(4)
__________
(1) آل عمران : 135 .
(2) التوبة : 118 .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 19829 ) ، والطيالسي ( 744 ) ، والحميدي ( 723 ) ، وابن أبي شيبة ( 26526 ) و( 29294 ) ، وأحمد 4/285 و290 و293 و300 ، والدارمي ( 2683 ) ، والبخاري 1/71 ( 247 ) و8/85 ( 6313 ) و9/174
( 7488 ) ، ومسلم 8/77 (2710 ) ( 56 ) و( 57 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 10609 ) و( 10610 ) و( 10611 ) و( 10612 ) و( 10613 ) و( 10616 )
و( 10617 ) و( 10618 ) و( 10619 ) من طرق عن البراء بن عازب ، به .
(4) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 571 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الرزاق ( 2881 )
و( 2883 ) و( 2898 ) ، وإسحاق بن راهويه ( 544 ) ، وأحمد 6/58 و201 ، ومسلم 2/51 ( 486 ) ( 222 ) ، وأبو داود ( 879 ) ، وابن ماجه ( 3841 ) ، والترمذي
( 3493 ) ، والنسائي 1/102 - 103 و2/210 و222 - 223 و 8/283 ، وفي
" الكبرى " ، له ( 710 ) و ( 715 ) و( 2909 ) و ( 8910 ) من حديث عائشة ، به .

.
قال الفضيلُ بنُ عياض رحمه الله : ما مِنْ ليلةٍ اختلط ظلامُها ، وأرخى اللَّيلُ سِربالَ سَترها ، إلاَّ نادى الجليلُ - جل جلاله - : مَنْ أعظمُ منِّي جوداً ، والخلائق لي عاصون ، وأنا لهم مراقبٌ ، أكلؤهم في مضاجعهم ، كأنَّهم لم يعصوني ، وأتولَّى حفظَهم ، كأنَّهم لم يُذنبوا فيما بيني وبينهم ، أجودُ بالفضل على العاصي ، وأتفضَّلُ على المسيءِ ، مَنْ ذا الذي دعاني فلم أُلبِّه ؟ أم مَنْ ذا الذي سألني فلم أعطِه ؟ أم من الذي أناخ ببابي فنحَّيتُه ؟ أنا الفضلُ ، ومنِّي الفضل ، أنا الجوادُ ، ومنِّي الجودُ ، أنا الكريمُ ، ومنِّي الكرمُ ، ومن كرمي أنْ أغفرَ للعاصين بعد المعاصي(1) ، ومن كرمي أنْ أُعطي العبد ما سألني ، وأُعطيه ما لم يسألني ، ومن كرمي أنْ أُعطي التَّائبَ كأنَّه لم يعصني ، فأين عني يهرُبُ الخلائقُ ؟ وأين عن بابي يتنحَّى العاصون(2) ؟ خرَّجه أبو نعيم(3) .
ولبعضهم في المعنى :
أسأتُ ولم أُحْسِنْ وجئتُكَ تائباً

وأنَّى لِعَبْدٍ عن مواليه مَهْرَبُ

يُؤَمِّلُ غُفَراناً فإنْ خَابَ ظَنُّه

فما أَحَدٌ منه على الأرضِ أخيبُ
__________
(1) بعد المعاصي ) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( يستحي العاملون ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/ 92 – 93 .

فقوله بعد هذا : ( يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكُم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً ، ولو كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ منكم ، ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً ) : هو إشارةٌ إلى أنَّ مُلكه لا يزيدُ بطاعة الخلق ، ولو كانوا كلُّهم بررةً أتقياءَ ، قلوبُهم على قلب أتقى رجلٍ منهم ، ولا يَنْقُصُ مُلكُهُ بمعصية العاصين ، ولو كان الجنُّ والإنسُ كلُّهم عصاةً فجرةً قلوبُهم على قلبِ أفجرِ رجلٍ منهم ، فإنَّه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه ، وله الكمالُ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ، فَمُلكُهُ ملكٌ كاملٌ لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أيِّ وجهٍ كان .
ومِنَ النَّاس مَنْ قال : إنَّ إيجاده لخلقِه على هذا الوجه الموجود أكملُ من إيجاده على غيره ، وهو خيرٌ من وجوده على غيره ، وما فيه من الشَّرِّ ، فهو شرٌّ إضافيٌّ نسبيٌّ بالنسبة إلى بعض الأشياء دونَ بعض ، وليس شَرَّاً مطلقاً ، بحيث يكونُ عدمُه خيراً من وجوده من كلِّ وجه ، بل وجودُه خيرٌ من عدمه ، قال : وهذا معنى قوله : ( بيده الخيرُ )(1) ومعنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والشَّرُّ ليس إليك )(2)
__________
(1) جزء من حديث طويل ، أخرجه : الطيالسي ( 12 ) ، وأحمد 1/47 ، وعبد بن حميد
( 28 ) ، والدارمي ( 2695 ) ، وابن ماجه ( 2235 ) ، والترمذي ( 3428 ) من حديث عمر بن الخطاب ، به .
(2) أخرجه : مسلم 2/85 ( 771 ) (201 ) ، وأبو داود (760 ) ، والترمذي ( 3422 ) ، والنسائي 2/129 – 130 ، وابن الجارود ( 179 ) من طرق عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ، به .
... قال النووي - رحمه الله - : ( وأما قوله : ( والشر ليس إليك ) مما يجب تأويله ؛ لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه ، سواء خيرها وشرها ، وحينئذ يجب تأويله وفيه خمسة أقوال ) ، ثم قال رحمه الله : ( والرابع : معناه والشر ليس شراً بالنسبة إليك فإنك خلقته بحكمة بالغة ، وإنما هو شر بالنسبة للمخلوقين ...) . شرح صحيح مسلم 3/252- 253 .

يعني : أنَّ الشَّرَّ المحضَ الذي عدمه خيرٌ من وجوده ليس موجوداً في ملككَ ، فإنَّ الله تعالى أوجد خلقه على ما تقتضيه حكمته وعدله ، وخصَّ قوماً من خلقه بالفضل ، وترك آخرينَ منهم في العدل ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة .
وهذا فيه نظرٌ ، وهو يُخالِفُ ما في الحديث مِنْ أنَّ جميعَ الخلق لو كانوا على صفةِ أكمل خلقه من البرِّ والتقوى ، لم يزد ذلك ملكه شيئاً ، ولا قدر جناح بعوضة ، ولو كانوا على صفة أنقصِ خلقه من الفجور ، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً ، فدلَّ على أنَّ ملكه كاملٌ على أيِّ وجهٍ كان لا يزداد ولا يكمل بالطاعات ، ولا يَنقُصُ بالمعاصي ، ولا يؤثِّرُ فيه شيء .
وفي هذا الكلام دليلٌ على أنَّ الأصل في التَّقوى والفجور هو القلبُ ، فإذا برَّ القلبُ واتَّقي برَّت الجوارحُ ، وإذا فجر القلب ، فجرت الجوارحُ ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ( التقوى هاهنا ) ، وأشار إلى صدره(1) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/277 ، ومسلم 8/ 10 – 11 ( 2564 ) ( 32 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 11151 ) من طريق عبد الله بن عامر بن كريز ، عن أبي هريرة ، به .

قوله : ( يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسَكُم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ
واحدٍ ، فسألوني ، فأعطيتُ كُلَّ إنسانٍ مسألته ، ما نقصَ ذلك ممَّا عندي إلاَّ كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البحرَ ) المرادُ بهذا ذكرُ كمال(1) قدرته سبحانه ، وكمال ملكه ، وإنَّ مُلكَهُ وخزائنَه لا تَنفَدُ ، ولا تَنقُصُ بالعطاء ، ولو أعطى الأوَّلين والآخرين من الجنِّ والإنس جميعَ ما سألوه في مقامٍ واحدٍ ، وفي ذلك حثٌّ للخلق على سؤالِه وإنزالِ حوائجهم به ، وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يَدُ الله ملأى ، لا تَغِيضُها نفقةٌ ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ(3) ، أفرأيتم ما أنفقَ منذ خلق السماوات والأرض ؟ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَمينه ) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا دعا
أحدُكم ، فلا يَقُل : اللهمَّ اغفر لي إنْ شئتَ ، ولكن ليعزم المسألةَ ، وليُعَظِّم الرَّغبةَ ،
فإنَّ الله لا يتعاظمُهُ شيءٌ ) .
وقال أبو سعيدٍ الخدريُّ : إذا دعوتُم الله ، فارفعوا في المسألة ، فإنَّ ما عنده لا يَنْفَدُه شيء ، وإذا دعوتم فاعزموا ، فإنَّ الله لا مستكره له .
__________
(1) كمال ) لم ترد في ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 6/92 ( 4684 ) و9/150 ( 7411 ) و9/152 ( 7419 ) ، وصحيح مسلم 3/77 ( 993 ) ( 36 ) و( 37 ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في الفتح عقيب ( 4684 ) : ( الليل والنهار بالنصب على الظرفية ) .
(4) الصحيح 8/64 ( 2679 ) ( 8 ) .

وفي بعض الآثار الإسرائيلية : يقول الله - عز وجل - : أيُؤَمَّلُ غيري للشدائد والشدائد بيدي وأنا الحيُّ القيُّوم ؟ ويُرجى غيري ، ويُطرق بابُه بالبكرات ، وبيدي مفاتيحُ الخزائنِ ، وبابي مفتوحٌ لمن دعاني ؟ من ذا الذي أمَّلني لنائبة فقطعت به ؟ أو مَنْ ذا الذي رجاني لعظيمٍ ، فقطعت رجاءه ؟ أو مَنْ ذا الذي طرق بابي ، فلم أفتحه له ؟ أنا غايةُ الآمالِ ، فكيف تنقطعُ الآمالُ دوني ؟ أبخيلٌ أنا فيبخِّلُني عبدي ؟ أليس الدُّنيا والآخرة والكرم والفضلُ كُلُّه لي ؟ فما يمنع المؤمَّلين أنْ يؤمِّلوني ؟ لو جمعتُ أهل السماوات والأرض ، ثم أعطيتُ كلَّ واحدٍ منهم ما أعطيتُ الجميعَ ، وبلَّغْت
كلَّ واحدٍ منهم أملَه، لم يَنقُصْ ذلك مِنْ مُلكي عضو ذرَّةٍ، كيف يَنقُصُ ملكٌ
أنا قَيِّمُه ؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي ، ويا بؤساً لمن عصاني وتوثَّب على
محارمي(1) .
قوله : ( لم ينقص ذلك ممَّا عندي إلاَّ كما يَنقُصُ المِخيَطُ إذا أدخل البحر ) تحقيق لأنَّ ما عنده لا ينقُصُ البتَّة ، كما قال تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ } (2)، فإنَّ البحرَ إذا غُمِسَ فيه إبرةٌ ، ثم أُخرجتْ ، لم ينقص من البحر بذلك شيءٌ ، وكذلك لو فرض أنَّه شرب منه عصفورٌ مثلاً ، فإنَّه لا ينقص البحر البتة ، ولهذا ضربَ الخضرُ لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة علمهما إلى علم الله - عز وجل -(3)
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/187 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1087 ) من قول يزيد بن هارون نقلاً عن بعض كتب من سبق .
(2) النحل : 96 .
(3) وهو معنى من حديث طويل وفيه : ( ... قال : وجاء عصفور ، فوقع على حرف السفينة ، فنقر بمنقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر ...) اللفظ لابن حبان .
أخرجه : الحميدي ( 371 ) ، وأحمد 5/117 – 118 ، والبخاري 1/41 ( 122 ) و4/188 ( 3401 ) و6/110 ( 4725 ) و6/115 ( 4727 ) ، ومسلم 7/103 - 104 ( 2380 ) ( 270 ) ، والترمذي ( 3149 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 11308 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 17493 ) ، وابن حبان ( 6220 ) ، والحاكم 2/369 ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " 144 – 146 من طرق عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، به .

، وهذا لأنَّ البحر لا يزال تمدُّهُ مياه الدُّنيا وأنهارُها الجاريةُ ، فمهما أُخِذَ منه ، لم يَنْقُصْهُ شيءٌ ؛ لأنَّه يمدُّه ما هو أزيدُ ممَّا أخذ منه ، وهكذا طعامُ الجنَّة وما فيها ، فإنَّه لا ينفدُ ، كما قال تعالى : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } (1) ، وقد جاء : ( أنَّه كلَّما نُزِعت ثمرةٌ ، عاد مكانها مثلُها ) وروي : ( مثلاها )(2)، فهي لا تنقُصُ أبداً ويشهد لذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الكسوف: ( وأريتُ الجنَّة، فتناولتُ منها عنقوداً ، ولو أخذتُه لأكلتُم منه ما بَقِيَتِ الدُّنيا ) خرَّجاه في
" الصحيحين " من حديث ابن عباس(3) ، وخرَّجه الإمام أحمد من حديث جابرٍ ، ولفظه: ( ولو أتيتكم به لأكل منه مَنْ بينَ السَّماء والأرض ، لا يَنقصُونَه شيئاً )(4) .
__________
(1) الواقعة : 32 – 33 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1449 ) ، وعزاه الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/414 للبزار أيضاً . وضعفه بسبب عباد بن منصور . انظر : تهذيب الكمال 4/55 ( 3081 ) .
(3) أخرجه : البخاري 1/190 ( 748 ) و2/45 ( 1052 ) ، ومسلم 3/33-34 ( 907 ) ( 17 ) .
(4) المسند 3/352 – 353 و5/137 من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن
عبد الله ، به ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف عند التفرد ، وقد تفرد .

وهكذا لحمُ الطَّيرِ الذي يأكلُه أهل الجنَّة يستخلف ويعودُ كما كان حياً لا ينقص منه شيءٌ ، وقد روي هذا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ فيها ضعفٌ(1) ، وقاله كعبٌ . وروي أيضاً عن أبي أمامة الباهلي من قوله ، قال أبو أمامة : وكذلك الشرابُ يشرب حتى ينتهي نفَسُه ، ثم يعودُ مكانَه . ورؤي بعض العلماء الصالحين بعدَ موته بمدَّة في المنام فقال : ما أكلتُ منذ فارقتكم إلاَّ بعضَ فرخٍ ، أما علمتم أنَّ طعامَ الجنَّة لا ينفَدُ ؟(2)
وقد بيَّن في الحديث الذي خرَّجه الترمذيُّ وابنُ ماجَه السبب الذي لأجله لا ينقصُ ما عندَ الله بالعطاء بقولِهِ : ( ذَلِكَ بأنِّي جوادٌ واجدٌ ماجدٌ ، أفعلُ ما أُريدُ ، عطائي كلامٌ ، وعذابي كلامٌ ، إنَّما أمري لشيءٍ إذا أردتُ أنْ أقولَ له : كن فيكون )(3) وهذا مثلُ قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (4) ، وقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ } (5).
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 33966 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/68 .
(2) ذكر هذه القصة ابن مفلح في " المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد " 1/167 ، عن أبي بكر بن عبد العزيز ، قال : رأيت الخلال في المنام ... فذكر القصة .
(3) سبق تخريجه .
(4) يس : 82 .
(5) النحل : 40 .

في " مسند البزار " بإسناد فيه نظرٌ من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( خزائنُ اللهِ الكلامُ ، فإذا أراد شيئاً ، قال له : كن ، فكان )(1) ، فهو سبحانه إذا أراد شيئاً من عطاءٍ أو عذابٍ أو غير ذلك ، قال له : كن ، فكان ، فكيف يتصوَّرُ أنْ يَنقُصَ هذا ؟ وكذلك إذا أراد أنْ يخلُق شيئاً ، قال له : كن ، فيكون ، كما قال : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ } (2).
وفي بعض الآثار الإسرائيلية : أوحى الله تعالى إلى موسى - عليه السلام - : يا موسى لا تخافنَّ غيري ما دام ليَ السُّلطان ، وسلطاني دائمٌ لا ينقطعُ ، يا موسى ، لا تهتمَّنَّ برزقي أبداً ما دامت خزائني مملوءةً ، وخزائني مملوءةٌ لا تفنَى أبداً ، يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتَني أنيساً لك ، ومتى طلبتني وجدتني ، يا موسى ، لا تأمن مكري ما لم تَجُزِ الصِّراطَ إلى الجنة . وقال بعضهم :
لا تَخضَعَنَّ لِمخلُوقٍ على طَمَعٍ
واستَرْزِقِ الله مِمَّا في خَزَائِنِهِ

فإنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بالدِّينِ
فإنَّما هيَ بَيْنَ الكَافِ والنُّونِ
__________
(1) لم أجده في المطبوع من " مسند البزار " ، ولا في " كشف الأستار " ، وقد عزاه ابن كثير في " تفسيره " : 1044 للبزار ، وقد أخرجه : أبو الشيخ في " العظمة " ( 157 ) . والنظر الذي في إسناده بسبب أغلب بن تميم ضعيف ، والرواي عنه حبان بن أغلب ضعيف أيضاً .
(2) آل عمران : 59 .

وقوله : ( يا عبادي ، إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم ، ثم أُوَفِّيكُم إيَّاها ) يعني : أنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ عبادِه ، ثمَّ يُوفيهم إياها بالجزاء عليها ، وهذا كقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (1)، وقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } (2)، وقوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } (3)، وقوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَميعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ } (4).
__________
(1) الزلزلة : 7 – 8 .
(2) الكهف : 49 .
(3) آل عمران : 30 .
(4) المجادلة : 6 .

وقوله : ( ثم أُوَفِّيكُم إيَّاها ) الظاهرُ أنَّ المرادَ توفيتُها يوم القيامة كما قال تعالى : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (1) ، ويحتمل أنَّ المرادَ : أنَّه يوفي عبادَه جزاءَ أعمالِهم في الدُّنيا والآخرة كما في قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } (2). وقد رُوي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فسّر ذلك بأنَّ المؤمنين يُجازَوْن بسيِّئاتهم في الدُّنيا ، وتدخر لهم حسناتُهم في الآخرة ، فيوفَّوْن أجورها(3) . وأما الكافر فإنَّه يعجل له في الدنيا ثواب حسناته ، وتُدَّخر له سيئاته ، فيعاقب بها في الآخرة . وتوفية الأعمال هي توفية جزائها من خيرٍ أو شرٍ ، فالشرُّ يُجازى به مثلَه من غير زيادةٍ ، إلاَّ أنْ يعفوَ الله عنه ، والخيرُ تُضاعف الحسنة منه بعشر أمثالها إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ لا يعلم قدرها إلا الله(4) ، كما قال - عز وجل - : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (5).
__________
(1) آل عمران : 185 .
(2) النساء : 123 .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 8301 ) ، بمعناه .
(4) أخرجه بمعناه : البخاري 1/17 ( 42 ) من طريق همام ، عن أبي هريرة ، قال : قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها ) .
(5) الزمر : 10 .

وقوله : ( فمن وجد خيراً ، فليحمَدِ الله ، ومن وجدَ غير ذلك ، فلا يلومنَّ إلا نفسه ) إشارةٌ إلى أنَّ الخيرَ كلَّه من الله فضلٌ منه على عبدِه ، من غير استحقاقٍ له ، والشرُّ كلُّه من عند ابنِ آدم من اتَّباع هوى نفسه ، كما قال - عز وجل - : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } (1) ، وقال عليٌّ - رضي الله عنه - : لا يرجونَّ عبدٌ إلا ربه ، ولا يخافنَّ إلا ذنبه(2) ، فالله سبحانه إذا أراد توفيقَ عبد وهدايته أعانه ، ووفَّقه لطاعته ، فكان ذلك فضلاً منه ، وإذا أراد خِذلانَ عبدٍ ، وكلَهُ إلى نفسه ، وخلَّى بينَه وبينَها ، فأغواهُ الشيطانُ لغفلته عن ذكرِ الله ، واتَّبع هواه ، وكان أمره فُرُطاً ، وكان ذلك عدلاً منه ، فإنَّ الحجَّةَ قائمةٌ على العبدِ بإنزالِ الكتاب ، وإرسال الرسول ، فما بقي لأحدٍ مِنَ النَّاس(3) على الله حجةٌ بعد الرُّسُلِ .
__________
(1) النساء : 79 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34504 ) ، والعدني في " الإيمان " ( 19 ) عن علي ، موقوفاً .
(3) من الناس ) سقطت من ( ص ) .

فقوله بعد هذا : ( فمن وجد خيراً ، فليحمدِ الله ، ومن وجدَ غيرَ ذلك ،
فلا يلومنَّ إلاَّ نفسَه ) إنْ كان المرادُ : مَنْ وجدَ ذلك في الدُّنيا ، فإنَّه يكونُ
حينئذٍ مأموراً بالحمد لله على ما وجده من جزاءِ الأعمال الصالحة الذي عجل
له في الدُّنيا كما قال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1)،
ويكون مأموراً بلوم نفسه على ما فَعَلَتْ من الذُّنوب التي وجد عاقبتها في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (2)، فالمؤمن إذا أصابه في الدُّنيا بلاءٌ ، رجع على نفسه باللوم ،
ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار ، وفي " المسند "(3) و" سنن أبي داود "(4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ المؤمنَ إذا أصابه سَقَمٌ ، ثمَّ عافاه الله منه ، كان كفَّارةً لما مضى مِنْ ذُنوبه ، وموعظةً له فيما يستقبلُ من عمره، وإنَّ المنافق إذا مرض وعوفي، كان كالبعيرِ عَقَلَه أهلُه ، وأطلقوه ، لا يدري لِمَ عقلوه ولا لِمَ أطلقوه ) .
__________
(1) النحل : 97 .
(2) السجدة : 21 .
(3) ليس في المطبوع من " مسند الإمام أحمد " في طبعاته المتعددة ، ولا في " المسند الجامع " 8/42-43 ، ولا في " أطراف المسند " ، ولا في " إتحاف المهرة " ، ولا في "جامع المسانيد"=
= ... 7/52-53 ، وقد عزاه لمسند الإمام الحافظ ابن حجر في " الإصابة " 3/131 ( 4436 ) على أنَّ الحديث ضعيف لجهالة أحد رواته .
(4) السنن ( 3089 ) .

وقال سلمان الفارسي : إنَّ المسلمَ ليُبتلى ، فيكون كفارةً لما مضى ومستعتباً فيما بقي ، وإنَّ الكافر يُبتلى ، فمثله كمثل البعير أُطلِقَ ، فلم يدر لما أطلق ، وعقل ، فلم يدر لم عُقِلَ ؟(1)
وإنْ كان المرادُ من وجد خيراً أو غيرَه في الآخرة ، كان إخباراً منه بأنَّ الذين يجدون الخيرَ في الآخرة يحمَدُونَ الله على ذلك ، وأنَّ مَنْ وجدَ غير ذلك يلوم نفسه حين لا ينفعُهُ اللومُ ، فيكونُ الكلام لفظه لفظُ الأمر ، ومعناه الخبرُ ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كَذَب عليَّ متعمداً ، فليتبوَّأ مقعده من النار )(2) والمعنى : أنَّ الكاذبَ عليه يتبوَّأ مقعده من النار .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 10819 ) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 9913 ) عن عمار، به.
(2) صحيح متواتر ، وقد تقدم .

وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنَّة أنَّهم يحمَدُون الله على ما رزقهم من فضله ، فقال : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ } (1) ، وقال :
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } (2) ، وقال : { وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } (3) ، وأخبر عن أهل النار أنَّهم يلومون أنفسهم ، ويمقُتونها أشدَّ المقت ، فقال تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } (4) ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } (5).
__________
(1) الأعراف : 43 .
(2) الزمر : 74 .
(3) فاطر : 34 – 35 .
(4) إبراهيم : 22 .
(5) غافر : 10 .

ج5.



كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

وقد كان السَّلفُ الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة ؛ حذراً من لوم النفس عندَ انقطاع الأعمال على التقصير . وفي " الترمذي "(1) عن أبي هريرة مرفوعاً
: ( ما مِنْ مَيِّتٍ يموتُ إلاَّ ندم ، إنْ كان محسناً ندم على أنْ لا يكونَ ازداد ، وإنْ كان مسيئاً ندم أنْ لا يكون استعتب ) .
وقيل لمسروق : لو قصرتَ عن بعض ما تصنع من الاجتهاد ، فقال : والله لو أتاني آتٍ ، فأخبرني أنْ لا يعذبني ، لاجتهدت في العبادة ، قيل : كيف ذاك ؟ قال : حتى تَعْذِرني نفسي إنْ دخلت النار أنْ لا ألومها ، أما بلغك في قول الله تعالى : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } (2) إنَّما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنَّمَ ، فاعتنقتهم الزَّبانيةُ ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، وانقطعت عنهم الأماني ، ورفعت عنهم الرحمة ، وأقبل كلُّ امرئٍ منهم يلومُ نفسَه(3) .
وكان عامر بن عبد قيس يقول : والله لأجتهدنَّ ، ثم والله لأجتهدنَّ ، فإنْ نجوت فبرحمة الله ، وإلاَّ لم ألم نفسي(4) .
وكان زياد مولى ابن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوانَ بن سُليم : الجدَّ الجدَّ والحذَرَ الحذَرَ ، فإنْ يكن الأمرُ على ما نرجو ، كان ما عمِلتُما فضلاً ، وإلاَّ لم تلوما أنفسكما .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 2403 ) . وقال : ( هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه ، ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة ، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب المدني ) .
(2) القيامة : 2 .
(3) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/13 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/88 .

وكان مُطرِّف بن عبد الله يقول : اجتهدوا في العمل ، فإنْ يكن الأمرُ كما نرجو من رحمة الله وعفوه ، كانت لنا درجات في الجنَّة ، وإنْ يكن الأمرُ شديداً كما نخاف ونُحاذِرُ ، لم نقل : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } (1) ، نقول : قد عملنا فلم ينفعنا ذلك(2) .
__________
(1) فاطر : 37 .
(2) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/119 .

الحديث الخامس والعشرون

عَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - : أنَّ ناساً مِنْ أصْحَابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالُوا لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
يا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بالأجورِ ، يُصلُّونَ كَما نُصَلِّي ، ويَصومُونَ كَمَا نَصُومُ ، ويتَصدَّقُونَ بفُضُولِ أموالِهمْ ، قال : ( أوليسَ قد جعلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحةٍ صَدقةً ، وكُلِّ تَكبيرةٍ صَدقَةً ، وكُلِّ تَحْمِيدةٍ صَدقةً ، وكُلِّ تَهْليلَةٍ صدقةً ، وأمْرٌ بِالمَعْروفِ صَدقَةٌ ، ونَهْيٌ عَنْ مُنكَرٍ صَدقَةٌ ، وفي بُضْعِ أحَدِكُم صَدقَةٌ ) . قالوا : يا رسولَ الله ، أيأتِي أحدُنا شَهْوَتَهُ ويكونُ لهُ فيها أجْرٌ ؟ قال : ( أرأيتُمْ لَوْ وَضَعَها في حَرَامٍ ، أكانَ عليهِ وِزْرٌ . فكذلك إذا وضَعَها في الحلالِ كانَ لهُ أَجْرٌ ) . رَواهُ مُسلمٌ(1) .
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الديلي ، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - ، وقد روي معناه عن أبي ذرٍّ من وجوهٍ كثيرةٍ بزيادةٍ ونقصانٍ ، وسنذكر بعضها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى .
__________
(1) أخرجه : مسلم 2/158 ( 720 ) ( 84 ) و3/82 ( 1006 ) ( 53 ) .
وأخرجه : أحمد 5/167 و168 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 227 ) ، وأبو داود
( 5243 ) و( 5244 ) ، والبزار ( 3917 ) ، وابن حبان ( 838 ) ، والبغوي في
( 1644 ) من طرق عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - ، به .

وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - لِشدَّةِ حرصهم على الأعمال
الصالحة ، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعلُه من الخير ممَّا يقدر عليه غيرهم ، فكان الفقراء يَحزَنُونَ على فواتِ الصَّدقة بالأموال التي يَقدِرُ عليها الأغنياء، ويحزنون على التخلُّف عن الخروجِ في الجهاد ؛ لعدم القدرة على آلته، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه ، فقال : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } (1).
وفي هذا الحديث : أنَّ الفقراء غَبَطوا أهل الدُّثور - والدُّثور : هي الأموال(2) - بما يحصُلُ لهم مِنْ أجرِ الصدقة بأموالهم ، فدلَّهمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على صدقاتٍ يقدِرُون عليها .
__________
(1) التوبة : 92 .
(2) انظر : النهاية 2/100 .

وفي " الصحيحين " (1) عن أبي صالحٍ ، عن أبي هريرة : أنَّ فقراءَ المهاجرين أتَوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ بالدرجات العُلى والنعيمِ المقيمِ ، فقال : ( وما ذاك ؟ ) قالوا : يُصلُّون كما نُصلِّي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق ، ويَعتِقون ولا نَعتِق ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفلا أُعَلِّمُكم شيئاً
تُدرِكُونَ به مَنْ قد سَبَقَكُم ، وتسبِقونَ به من بَعدكم ، ولا يكون أحدٌ
أفضلَ منكم إلا مَنْ صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا : بلى يا رسولَ الله ، قال
: ( تُسبِّحونَ وتُكبِّرونَ وتحمَدُونَ دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة ) ، قال أبو
صالح : فرجع فقراءُ المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : سمع إخواننا أهلُ الأموالِ بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ } (2).
وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم : علي(3) ،
وأبو ذر(4) ، وأبو الدرداء(5) ، وابن عمر(6) ، وابن عباس(7) ، وغيرهم .
__________
(1) صحيح البخاري 1/213 ( 843 ) و8/89 ( 6329 ) ، وصحيح مسلم 2/97 ( 595 ) ( 142 ) و( 143 ) من طريق أبي صالح ، عن أبي هريرة ، به .
(2) المائدة : 54 .
(3) أخرجه : البخاري 4/102 ( 3113 ) ، ومسلم 8/84 ( 2727 ) ( 80 ) .
(4) أخرجه : أحمد 5/154 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 891 ) ، والترمذي ( 1956 ) ، والبزار ( 4070 ) .
(5) أخرجه : عبد الرزاق ( 3187 ) ، وابن أبي شيبة ( 29267 ) ، وأحمد 6/446 ، والبزار ( 3095 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9976 ) و( 9977 ) .
(6) ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/101 ، وقال : ( رواه البزار ، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ) .
(7) لم أقف على رواية ابن عباس .

ومعنى هذا أنَّ الفقراء ظنُّوا أنْ لا صدقةَ إلاَّ بالمال ، وهم عاجزون عن ذلك ، فأخبرهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ جميعَ أنواع فعلِ المعروف والإحسّان صدقة . وفي " صحيح مسلم "(1) عن حذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ معروفٍ صدقةٌ ) . وخرَّجه البخاري(2) من حديث جابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . فالصدقة تُطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسّان ، حتَّى إنَّ فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم . وقد كان بعضُ السَّلف يُنكر ذلك ، ويقول : إنَّما الصَّدقةُ ممَّن يطلُبُ جزاءها وأجرَها ، والصَّحيحُ خلافُ ذلك ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قصر الصَّلاة في السفر : ( صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكم ، فاقبلوا صدقتَه ) خرَّجه مسلم(3) ، وقال : من كانت له صلاةٌ بليلٍ ، فغلب عليه نومٌ فنام عنها ، كتب الله له أجرَ صلاتِه ، وكان نومُه صدقةً مِنَ الله تصدَّق بها عليه ) . خرَّجه النَّسائي وغيرُه من حديث عائشة(4) ،
وخرَّجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء (5).
__________
(1) الصحيح 3/82 ( 1005 ) ( 52 ) .
(2) صحيح البخاري 8/13 ( 6021 ) .
(3) في " صحيحه " 2/143 ( 686 ) ( 4 ) .
(4) أخرجه : النسائي 3/257 و258 وفي " الكبرى " ، له ( 1457 ) و( 1458 ) .
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 307 ) برواية يحيى الليثي ، وأبو داود ( 1314 ) ، والبيهقي 3/15 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 12/261 من حديث عائشة ، به .
(5) في سننه ( 1344 ) .

وفي " مسندي "(1) بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً : ( ما من يومٍ ولا ليلةٍ ولا ساعةٍ إلاَّ لله فيها صدقة يَمُنُّ بها على مَنْ يشاءُ مِنْ عباده ، وما منَّ الله على عبدٍ مثلَ أنْ يُلهِمَهُ ذكره ) .
وقال خالدُ بن معدان : إنَّ الله يتصدَّقُ كلَّ يوم بصدقة ، وما تصدَّق الله على أحدٍ من خلقِه بشيءٍ خيرٍ من أنْ يتصدَّق عليه بذكره(2) .
والصدقة بغير المال نوعان :
أحدهما : ما فيه تعدية الإحسّان إلى الخلق ، فيكون صدقةً عليهم ، وربما
كان أفضلَ من الصدقة بالمال ، وهذا كالأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ،
فإنَّه دُعاءٌ إلى طاعة الله ، وكفٌّ عن معاصيه ، وذلك خيرٌ من النَّفع بالمال ،
وكذلك تعليمُ العلم النافع ، وإقراءُ القرآن ، وإزالةُ الأذى عن الطريق ، والسعيُ
في جلب النفع للناس ، ودفعُ الأذى عنهم ، وكذلك الدُّعاءُ للمسلمين والاستغفارُ لهم .
وخرَّج ابنُ مردويه بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن ابن عمر مرفوعاً : ( مَنْ كانَ له مالٌ ، فليتصدَّق من ماله ، ومن كان له قوَّةٌ ، فليتصدَّق من قوَّته ، ومن كان له عِلمٌ ، فليتصدَّق من عِلْمِه ) ولعله موقوف(3) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) أخرجه : البزار في " مسنده " ( 3890 ) ، وهو في " كشف الأستار " ( 694 ) ، والحديث ضعفه أبو حاتم الرازي كما في " العلل " لابنه ( 370 ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/18 .
(3) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 1083 ) عن زيد بن أسلم ، به ، مرفوعاً ، وهو ضعيف لإرساله ، وفي بعض رجال إسناده مقال .
(4) في " الكبير " ( 6962 ) ، وضعفه بسبب أبي بكر الهذلي . انظر : تهذيب الكمال 8/265
( 7863 ) .

... وأخرجه : الطبراني في " مكارم الأخلاق " (131 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 1279 ) .

بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن سَمُرَة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أفضلُ
الصدقة اللسانُ ) قيل : يا رسول الله ، وما صدقةُ اللسان ؟ قال : ( الشفاعةُ تَفُكُّ بها الأسيرَ ، وتحقِنُ بها الدَّم ، وتَجُرُّ بها المعروف والإحسّان إلى أخيك ، وتدفع عنه الكريهة ) .
وقال عمرو بنُ دينار : بلغنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ صدقةٍ أحبَّ إلى الله من قولٍ ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً } (1) خرَّجه ابن أبي حاتم(2) .
وفي مراسيل الحسن(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ مِنَ الصَّدقة أنْ تسلِّم على النَّاس وأنت طليق الوجه ) . خرَّجه ابن أبي الدُّنيا .
وقال معاذ : تعليمُ العلم لمن لا يعلمه صدقةٌ ، وروي مرفوعاً(4) .
__________
(1) البقرة : 263 .
(2) في " تفسيره " ( 2734 ) عن معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، به .
(3) والمرسل هو أحد أقسام الضعيف .
(4) هو في " مسند الربيع بن حبيب " ( 22 ) عن جابر بن زيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( تعلموا العلم فإنَّ تعلمه قربة إلى الله عز وجل ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وإنَّ العلم لينزل بصاحبه في موضع الشرف والرفعة ، والعلم زين لأهله في الدنيا والآخرة …) على أنَّ هذا الكتاب غير ثابت عن مؤلفه فهو ملصق عليه ، بل جزم بعض الأفاضل من عصرنا أنَّ هذه الشخصية غير موجودة ، ولم تلد الأرحام هذا الرجل .

ومن أنواع الصدقة : كفُّ الأذى عن النَّاسِ ، ففي " الصحيحين "(1) عن أبي ذرٍّ قال : قلت : يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمانُ والجهادُ في سبيله ) ، قلت : فأيُّ الرِّقاب أفضلُ ؟ قال : ( أنفسُها عندَ أهلها وأكثرها ثمناً ) قلت: فإنْ لم أفعل ؟ قال: ( تُعين صانعاً ، وتصنع لأخرقَ ) . قلتُ : يا رسولَ الله ، أرأيتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بعض العمل ؟ قالَ : ( تكفُّ شرَّك عَن النَّاس ، فإنَّها صدقةٌ ) .
وقد رُوِيَ في حديث أبي ذرٍّ زياداتٌ أخرى ، فخرَّج الترمذي(2) من حديث أبي ذرٍّ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقةٌ، وأمرُك بالمعروف، ونهيُك عن المنكر صدقةٌ ، وإرشادُك الرَّجُلَ في أرض الضَّلال لك صدقةٌ ، وإماطتُك الحجرَ والشَّوكَ والعظمَ عن الطَّريق لك صدقةٌ ، وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لك صدقة ) .
وخرَّج ابن حبَّان في " صحيحه "(3) من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ من نفسِ ابنِ آدم إلاَّ عليها صدقةٌ في كلِّ يوم طلعت فيه الشَّمسُ ) . قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدَّقُ بها ؟ قالَ : ( إنَّ أبواب الخير لكثيرةٌ : التسبيحُ ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنَّهيُ عن المنكرِ ، وتميطُ الأذى عن الطَّريقِ ، وتُسمعُ الأصمَّ ، وتهدي الأعمى ، وتدُلُّ المستَدِلَّ على حاجته ، وتسعى بشدَّةِ ساقيكَ مع اللَّهفان المستغيثِ ، وتحمِلُ بشدّةِ ذراعيكَ مع الضَّعيف ، فهذا كُلُّه صدقةٌ منكَ على نفسك ) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/188 ( 2518 ) ، وصحيح مسلم 1/62 ( 84 ) ( 136 ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 1956 ) .
(3) الإحسان ( 3377 ) ، وهو حديث صحيح .

وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث أبي ذرٍّ قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ذهبَ الأغنياءُ بالأجر ، يتصدَّقون ولا نتصدَّق ، قال : ( وأنت فيك صدقةٌ : رفعُك العظمَ عِنِ الطَّريقِ صَدقةٌ، وهدايتُكَ الطَّريقَ صدقةٌ ، وعونُكَ الضَّعيفَ بفضلِ قوَّتك صدقةٌ، وبيانُك عن الأغتَم صدقةٌ ، ومباضعتُك امرأتَك صدقةٌ ) ، قلت : يا رسول الله ، نأتي شهوتنا ونؤجر ؟! قالَ : ( أرأيت لو جعله في حرامٍ ، أكان يأثَمُ ؟ ) قالَ : قلتُ : نعم ، قالَ : ( أفتحتسبون بالشرِّ ولا تحتسبون بالخير ؟ ) وفي روايةٍ أخرى ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ فيك صدقةً كثيرةً ، فذكر فضلَ سمعك وفضل بصرك ) وفي روايةٍ أخرى للإمام أحمد(2) : قال : ( إنَّ من أبواب الصدقةِ التَّكبير ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتَعْزِلُ الشوكةَ عَنْ طريق الناس والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتُسمع الأصمَّ والأبكم حتّى يفقَه ، وتدلُّ المستدلَّ على حاجةٍ له قد علمتَ مكانَها ، وتسعى بشدَّةِ ساقيك إلى اللَّهفان المستغيثِ ، وترفَعُ بشدَّة ذراعَيْكَ مَعَ الضَّعيف ، كلُّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعِكَ زوجتك أجرٌ ) ، قلتُ : كيف يكونُ لي أجرٌ في شهوتي ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرأيت لو كان لك ولدٌ ، فأدرك ورجوتَ خيرَه ، فمات ، أكنت تحتسب به ؟ قلت : نعم ، قال : فأنت خلقته ؟ قلت : بل الله خلقَه ، قال : فأنت هديته ؟ قلت : بل الله هداه ، قال : فأنت كنت ترزُقُه ؟ قلت : بل الله كان يرزُقُه ، قال : كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه ، فإنْ شاء الله أحياه ، وإنْ شاءَ أماته ، ولك أجر ) .
__________
(1) في " مسنده " 5/154 ، وإسناده منقطع إلا أنَّ متن الحديث صحيح .
(2) سبق تخريجه .

وظاهرُ هذا السياق يقتضي أنَّه يُؤْجَرُ على جِماعِه لأهله بنيَّةِ طلب الولد الذي يترتَّبُ الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ، ويحتسبه عند موته ، وأمَّا إذا لم يَنْوِ شيئاً
بقضاءِ شهوته ، فهذا قد تنازع النَّاسُ في دخوله في هذا الحديث(1) .
وقد صحَّ الحديث بأنَّ نفقة الرجل على أهله صدقة ، ففي " الصحيحين "(2)
عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نفقةُ الرجل على أهله صدقةٌ ) . وفي روايةٍ لمسلم : ( وهو يحتسبها ) ، وفي لفظٍ للبخاري : ( إذا أنفقَ الرجلُ على أهله وهو يحتسبها ، فهو له صدقة ) ، فدل على أنّه إنَّما يؤجرُ فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّك لن تُنفِقَ
نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاَّ أُجِرْتَ عليها ، حتَّى اللُّقمة ترفعُها إلى في امرأتك ) خرَّجاه(3).
__________
(1) قال النووي - رحمه الله - : ( وفي هذا دليل على أنَّ المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات ، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به ، أو طلب ولد صالح ، أو إعفاف نفسه ، أو إعفاف الزوجة ، ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام ، أو الفكر فيه ، أو الهم به ، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة ) . شرح صحيح مسلم 4/100 .
(2) صحيح البخاري 1/21 ( 55 ) و5/105 ( 4006 ) و7/80 ( 5351 ) ، وصحيح مسلم 3/81 ( 1002 ) ( 48 ) .
(3) أخرجه : البخاري 4/3 ( 2742 ) و5/87 ( 3936 ) و5/225 ( 4409 ) و7/81 ( 5354 ) ، ومسلم 5/71 ( 1628 ) ( 5 ) .

وفي " صحيح مسلم "(1) عن ثوبان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الدنانير دينارٌ ينفقُه الرَّجُل على عيالِه ، ودينارٌ ينفقه على فرسٍ في سبيل الله ، ودينارٌ ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله ) قال أبو قِلابة عند رواية هذا الحديث : بدأ بالعيال ، وأيُّ رجلٍ أعظمُ أجراً من رجلٍ ينفقُ على عيالٍ له صغار يُعِفُّهم الله به ، ويُغنيهم الله به .
وفيه أيضاً (2) عن سعد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ نفقتك على عيالِكَ
صدقة ، وإنَّ ما تأكلُ امرأتُك من مالك صدقة ) . وهذا قد ورد مقيداً في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله . وفي " صحيح مسلم "(3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( دينار أنفقتَه في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدَّقت به
على مسكينٍ ، ودينارٌ أنفقته على أهلك ، أفضلُها الدِّينارُ الذي أنفقته على
أهلك ) .
وخرَّج الإمام أحمد(4) ، وابن حبان في " صحيحه "(5) من حديث أبي هُريرة قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تصدَّقُوا ) ، فقال رجلٌ : عندي دينار ، فقال : ( تصدَّق به على نفسك ) قال : عندي دينارٌ آخر ، قال : ( تصدَّق به على زوجتك ) ، قال : عندي دينارٌ آخر ، قال : ( تصدَّق به على وَلَدِكَ ) ، قال : عندي دينارٌ آخرُ ، قال : ( تصدَّقْ به على خادمك ) ، قال : عندي دينارٌ آخر ، قال : ( أنت أبصرُ ) .
__________
(1) الصحيح 3/78 ( 994 ) ( 38 ) .
(2) صحيح مسلم 5/72 ( 1628 ) ( 8 ) .
(3) الصحيح 3/78 ( 995 ) ( 39 ) .
(4) في " مسنده " 2/251 و471 و524 ، وهو حديث قويٌّ .
(5) الإحسان ( 3337 ) و( 4233 ) و( 4235 ) .

وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث المقدام بن معدي كرب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أَطْعَمْتَ نفسَك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدكَ ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمَك ، فهو لك صدقة ) وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرة يطول ذكرها .
وفي " الصحيحين "(2) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ مسلمٍ يَغرسُ غَرْساً، أو يزرعُ زرعاً ، فيأكلُ منه إنسانٌ ، أو طيرٌ ، أو دابَّةٌ، إلا كان له صدقةٌ ) .
وفي " صحيح مسلم "(3) عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما من مسلمٍ يغرسُ غَرْساً إلا كان ما أكلَ منه له صدقة ، وما سُرِقَ منه له صدقة ، وما أَكَلَ السَّبعُ منه فهو له صدقة ، وما أكلتِ الطَّير فهو له صدقةٌ ، ولا يرزؤُه أحدٌ إلا كان له صدقة ) . وفي روايةٍ له أيضاً : ( فيأكل منه إنسانٌ ، ولا دابةٌ ، ولا طائرٌ إلاَّ كان له صدقة إلى يوم القيامة ) .
وفي " المسند " (4) بإسنادٍ ضعيف عن معاذ بن أنس الجُهني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من بَنى بنياناً في غير ظلمٍ ولا اعتداءٍ ، أو غرس غِراساً في غيرِ ظلمٍ ولا اعتداءٍ ، كان له أجراً جارياً ما انتفع به أحدٌ من خلق الرحمان ) .
__________
(1) في " مسنده " 4/131 و132 ، وهو حديث قويٌّ .
(2) صحيح البخاري 3/135 ( 2320 ) و8/12 ( 6012 ) ، وصحيح مسلم 5/28
( 1553 ) ( 12 ) .
(3) الصحيح 5/27 – 28 ( 1552 ) ( 7 ) ( 8 ) ( 9 ) ( 10 ) ( 11 ) .
(4) مسند الإمام أحمد 3/438 ، وسبب ضعفه ضعف ابن لهيعة وزبان بن فائد .

وذكر البخاري في " تاريخه "(1) من حديث جَابر مرفوعاً : ( مَنْ حَفَر ماءً لم تشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا سَبُعٍ ولا طائرٍ إلا آجره الله يومَ القيامة ) .
وظاهر هذه الأحاديث كلّها يدلُّ على أنَّ هذه الأشياء تكونُ صدقة يُثاب عليها الزارعُ والغارسُ ونحوهما من غير قصدٍ ولا نيةٍ ، وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وِزْرٌ ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ ) يدلُّ بظاهره على أنَّه يُؤْجَرُ في إتيان أهله من غير نيَّةٍ ، فإنَّ المُباضِع لأهله كالزَّارع في الأرض الذي يحرث الأرض ويبذر فيها ، وقد ذهب إلى هذا طائفةٌ من العلماء ، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشُّرب والجماع ، واستدل بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ( إنَّ المؤمنَ ليؤجَرُ في كلِّ شيءٍ حتَّى في اللُّقمة يرفعها إلى فيه )(2). وهذا اللَّفظ الذي استدلَّ به غيرُ معروف ، إنَّما المعروف قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد
: ( إنَّكَ لن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرتَ عليها ، حتَّى اللُّقمة ترفعها إلى في امرأتك )(3) ، وهو مقيَّدٌ بإخلاص النية لله ، فتحمل الأحاديثُ المطلقة عليه ، والله أعلم .
__________
(1) التاريخ الكبير 1/314 ، وقد ساقه البخاري مبيناً الاختلاف فيه على عطاء بن رباح فساقه مرفوعاً ثم موقوفاً ثم ساقه من طريقه عن عائشة مرفوعاً بلفظ : ( من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/177 ، والنسائي في " الكبرى " ( 10906 ) ، والطبراني في " الأوسط "
( 6123 ) من طريق العيزار بن حريث العبدي ، عن عمر بن سعد ، عن أبيه ، به ، وعمر بن سعد صدوق حسن الحديث فإسناد الحديث حسن إلا أنَّ ظاهر كلام ابن رجب إعلال المتن لتفرده بهذا اللفظ .
(3) سبق تخريجه .

ويدلُّ عليهِ أيضاً قولُ الله - عز وجل - : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (1)، فجعل ذَلِكَ خيراً ، ولم يرتِّب عليهِ الأجرَ إلا مع نية
الإخلاصِ . وأمَّا إذا فعله رياءً ، فإنَّه يُعاقب عليهِ ، وإنَّما مَحَلُّ التردُّد إذا فعله بغيرِ نيَّةٍ صالحةٍ ولا فاسدة . وقد قالَ أبو سليمان الداراني : من عَمِلَ عَمَلَ خيرٍ من غير نية كفاه نيَّة اختيارِه للإسلام على غيرِه منَ الأديان(2) ، وظاهر هذا أنَّه يُثاب عليهِ من غيرِ نيَّةٍ بالكلية ؛ لأنَّه بدخوله في الإسلام مختارٌ لأعمالِ الخيرِ في الجُملة ، فيثابُ على كُلِّ عَملٍ يعملُه منها بتلك النية ، والله أعلم .
وقوله : ( أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا
وضعها في الحلال ، كان له أجر ) . هذا يُسمَّى عندَ الأصوليين قياسَ العكس ،
ومنه قولُ ابن مسعودٍ ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كلمةً وقلتُ أنا أخرى ، قال : ( من مات يُشرِكُ بالله شيئاً دخل النار ) ، وقلت : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل
الجنة(3) .
__________
(1) النساء : 114 .
(2) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 9/271 .
(3) أخرجه : أحمد 1/382 و425 ، والبخاري 2/90 ( 1238 ) ، وأبو يعلى ( 5198 ) ، وابن خزيمة : 359 – 360، وأبو عوانة ( 30 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 66 ) و( 67 ) و( 68 ) و( 69 ) و( 70 ) .

والنَّوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية : ما نفعُه قاصرٌ على فاعله ، كأنواع الذِّكر : مِنَ التَّكبير ، والتَّسبيح ، والتَّحميد ، والتَّهليل ، والاستغفار ، وكذلك المشيُ إلى المساجدِ صدقة ، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصَّلاة والصيام والحج والجهاد أنَّه صدقة ، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة ؛ لأنَّه إنَّما ذكر ذلك جواباً لسؤالِ الفُقراء الَّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوَّع الأغنياء بأموالهم ، وأما الفرائض ، فقد كانوا كلهم مشتركين فيها .
وقد تكاثرتِ النُّصوصُ بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من الأعمال ، كما في حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالكم ، وأزكاها عند مليكِكُم ، وأرفعِها في درجاتكم ، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخيرٍ لكم منْ أنْ تَلْقَوا عدوَّكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قالَ : ( ذكرُ اللهِ - عز وجل - ) . خرَّجه الإمام
أحمد(1) والترمذي(2) ، وذكره مالك في " الموطأ "(3) موقوفاً على أبي الدرداء .
__________
(1) في " مسنده " 5/195 و6/447 .
(2) في " الجامع الكبير " ( 3377 ) .
(3) الموطأ ( 564 ) برواية الليثي ، والاختلاف في هذا الحديث لم يكن قاصراً على الاختلاف في الرفع والوقف ، بل روي موصولاً ومرسلاً بيان ذلك كله في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه .

وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ قال : لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، له الملكُ ، وله الحمدُ ، يُحيي ويُميت ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يوم مئة مرَّة، كانت له عَدْلَ عشر رقاب ، وكُتبت له مئة حسنةٍ ، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ ، وكانت له حِرْزاً من الشَّيطان يومَه ذلك حتَّى يُمسي ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاءَ به إلاَّ أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك ) .
وفيهما(2) أيضاً عن أبي أيوبَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه قال : ( من قالها عشرَ مرَّاتٍ ، كان كمن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ مِنْ ولدِ إسماعيل ) .
وخرَّج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي سعيدٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ : أيُّ العباد أفضلُ درجة عندَ الله يومَ القيامة ؟ قال : ( الذاكرون الله كثيراً ) قلتُ : يا رسولَ الله ، ومِنَ الغازي في سبيل الله ؟ قال : ( لو ضرب بسيفه في الكُفَّار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً ، لكان الذاكرون لله أفضلَ منه درجةً )(3)
__________
(1) صحيح البخاري 4/153 ( 3293 ) و8/106 ( 6403 ) ، وصحيح مسلم 8/69
( 2691 ) ( 28 ) .
(2) أخرجه : البخاري 8/106 ( 6404 ) ، ومسلم 8/69 ( 2693 ) ( 30 ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/75 ، والترمذي ( 3376 ) .

وأخرجه : أبو يعلى ( 1401 ) ، وابن عدي في " الكامل " 4/15 ، والبغوي ( 1246 )
و( 1247 ) من طريق دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، به ، وهي رواية ضعيفة لذا قال الترمذي : ( هذا حديث غريب ، إنَّما نعرفه من حديث دراج ) .

. ويُروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعاً ، والصوابُ وقفُه على معاذ من قوله(1) .
وخرَّج الطبراني(2) من حديث أبي الوازع ، عن أبي بُردة ، عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو أنَّ رجلاً في حجره دراهمُ يقسِمُها ، وآخرَ يذكر الله ، كان الذاكر لله أفضلَ ) .
قلت : الصحيحُ عن أبي الوازع ، عن أبي برزة الأسلمي من قوله . خرَّجه جعفر الفريابي(3) .
وخرَّج أيضاً من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كبَّرَ مئة ، وسبَّح مئة(4) ، وهلَّل مئة ، كانت خيراً له من عشر رقابٍ يَعْتِقُها ، ومن سبع بَدَناتٍ ينحَرها )(5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29452 ) و( 35046 ) ، وأحمد 5/239 ، والطبراني في " الكبير " 20/( 352 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1658 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 6/57 من طريق معاذ ، مرفوعاً .
وأخرجه عن معاذ موقوفاً : مالك في "الموطأ" ( 564 ) برواية يحيى الليثي ، والحاكم 1/496، والبيهقي في " الدعوات " ( 20 ) .
وأخرجه عن جابر : الطبراني في " الأوسط " ( 2317 ) وفي " الصغير " ، له ( 201 ) .
(2) في "الأوسط" ( 5969 ) ، وقال : ( لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد ، تفرد به : عمر بن موسى ) قلت : عمر بن موسى ضعيف ، قال عنه ابن عدي في " الكامل " 6/109 : ( ضعيف يسرق الحديث ويخالف في الأسانيد ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/33 .
(4) عبارة : ( وسبح مئة ) لم ترد في ( ص ) .
(5) أخرجه : البخاري في" الأدب المفرد " ( 636 ) من طريق سلمة بن وردان ، عن أنس ، به ، وسلمة بن وردان ضعيف .

وخرَّج ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنَّه قيل له : إنَّ رجلاً أعتق مئة
نسمة ، فقال : إنَّ مئة نسمة من مالِ رجلٍ كثيرٌ ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار ، وأنْ لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله - عز وجل -(1).
وعن أبي الدَّرداء أيضاً ، قال : لأن أقولَ : الله أكبرُ مئة مرة ، أحبُّ إلىَّ من أنْ أتصدَّق بمئة دينار(2) . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيرُه من الصَّحابة والتابعين : إنَّ الذِّكرَ أفضلُ من الصَّدقة بعددِه من المال .
__________
(1) أخرجه : أبو عبد الرحمان الضبي في " الدعاء " 1/268 (91 ) من طريق ضرار بن مرة ، عن رجل من بني عبس ، عن أبي الدرداء ، به ، وإسناده ضعيف لجهالة الرجل من بني عبس .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/180 عن أبي رجاء ، عن أبي الدرداء ، موقوفاً .

وخرَّج الإمامُ أحمد(1) والنَّسائي(2) من حديث أمِّ هانئ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( سَبِّحي الله مئة تسبيحة ، فإنَّها تَعدِلُ مئة رقبة من ولد إسماعيل ، واحمدي الله مئة تحميدة ، فإنَّها تَعدِلُ لكِ مئة فرس مُلجَمة مُسرَجة(3) تحملين عليهنَّ في سبيل الله ، وكبِّري الله مئة تكبيرة ، فإنَّها تعدِلُ لك مئة بَدَنة مقلَّدة مُتُقبَّلة ، وهلِّلي الله مئة تهليلة - لا أحسبه إلا قال : - تملأ ما بَيْنَ السماء والأرض ، ولا يُرفَع يومئذٍ لأحدٍ مثلُ عملك إلاَّ أنْ يأتيَ بمثل ما أتيت ) ، وخرَّجه أحمد(4) أيضاً وابنُ ماجه(5) ، وعندهما : ( وقولي : لا إله إلا الله مئة مرة ، لا تذر ذنباً ، ولا يسبقها العمل ) . وخرَّجه الترمذي(6) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بنحوه .
وخرَّج الطبراني(7) من حديث ابن عباس مرفوعاً : قال : ( ما صَدقةٌ أفضلَ من ذكرِ الله - عز وجل - ) .
__________
(1) في " مسنده " 6/344 ، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح ، وهو باذام ، ويقال : باذان مولى أم هانئ ، لذا قال البخاري في " التاريخ الكبير " 2/254-255 : ( لا يصح ) .
(2) في " الكبرى " ( 10680 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) في " مسنده " 6/425 ، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر نجيح بن عبد الرحمان السندي .
(5) في " سننه " ( 3797 ) ، وسنده ضعيف لضعف زكريا بن منظور ولجهالة حال شيخه محمد ابن عقبة .
(6) في " الجامع الكبير " ( 3471 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في سنده الضحاك بن حُمرْة ضعيف .
(7) في " الأوسط " ( 7414 ) ، وفي إسناده محمد بن الليث أبو الصباح الهدادي راجع فيه
" الثقات " 9/135 ، وقارن بـ " لسان الميزان " 7/468 .

وخرَّج الفريابي بإسنادٍ فيه نظرٌ عن أبي أمامة مرفوعاً : ( من فاته الليلُ أنْ يُكابِدَه ، وبَخِل بماله أن ينفِقه ، وجَبُنَ مِنَ العدوِّ أنْ يُقاتِله ، فليكثر مِن سُبحان الله وبحمده ، فإنَّها أحبُّ إلى الله - عز وجل - مِنْ جبلِ ذهبٍ ، أو جبل فضَّةٍ يُنفقه في سبيل الله - عز وجل -(1) ) . وخرَّجه البزار(2) بإسنادٍ مُقارب من حديث ابن عباس مرفوعاً وقال
في حديثه : ( فليكثر ذكر الله ) ولم يزِدْ على ذلك ، وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ
متعدِّدةٌ .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7877 ) من طريق الفريابي ، وهو حديث ضعيف بسبب علي بن يزيد الألهاني ، والراوي عنه عثمان بن أبي العاتكة . انظر : تهذيب الكمال 5/311
( 4743 ) .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 3058 ) ، وإسناده ضعيف لضعف أبي يحيى القتات .

الحديث السادس والعشرون

عَنْ أَبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - ، قال : قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُلُّ سُلامَى(1) مِنَ النَّاسِ عليهِ صَدَقةٌ ، كُلَّ يَوْمٍ تَطلُعُ فيه الشَّمْسِ : تَعدِلُ بَينَ الاثنينِ صدَقَةٌ ، وتُعينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فتحمِلُهُ عليها ، أو تَرْفَعُ لهُ عليها متاعَهُ صَدَقةٌ ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقةٌ ، وبِكُلِّ خُطوةٍ تَمشيها إلى الصَّلاةِ صَدَقةٌ ، وتُميطُ الأذى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجاه من رواية همَّام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة(2)
__________
(1) السلامى : جمع سلامية ، وهي الأنملة من أنامل الأصابع ، وقيل : واحده وجمعه سواء ، ويجمع على سلاميات : وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان ، وقيل : السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام ، ومعنى الحديث : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة . انظر : النهاية 52/396 .
(2) أخرجه : البخاري 3/245 ( 2707 ) و4/42 ( 2891 ) و4/68 ( 2989 ) ، ومسلم 3/83 ( 1009 ) ( 56 ) .

وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 403 ) ، وأحمد 2/312 و316 و374 ، وابن أبي عاصم في " الزهد " ( 37 ) ، وابن خزيمة ( 1493 ) و( 1494 ) ، وابن حبان ( 472 ) ، والطبراني في " مكارم الأخلاق " ( 117 ) ، والبيهقي 3/229 و4/ 187 – 188 ، والبغوي ( 1645 ) . والروايات مطولة ومختصرة .

، وخرَّجه البزار(1) من رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الإنسان ثلاث مئة وستون عظماً ، أو ستة وثلاثون سلامى ، عليه في كلِّ يوم صدقةٌ ) قالوا : فمن لم يجد ؟ قالَ : ( يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ) قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : ( يرفع عَظْماً عن الطَّريقِ ) قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : ( فليُعن ضعيفاً ) قالوا : فمن لم يستطع ذلك ؟ قال : ( فليدع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ) .
وخرَّج مسلم(2) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خُلِقَ ابنُ آدم على ستين وثلاث مئة مَفْصِلٍ ، فمن ذكر الله ، وحَمِدَ الله ، وهلَّل الله ، وسبَّح الله ، وعزل حجراً عن طريق المسلمين ، أو عزل شوكةً ، أو عزل عظماً ، أو أمر بمعروفٍ ، أو نهى عن منكرٍ عددَ تلك الستين والثلاث مئة السُّلامى أمسى من يومه وقد زَحْزَحَ نفسه عن النَّارِ ) .
وخرَّج مسلم(3) أيضاً من رواية أبي الأسود الدَّيلي، عن أبي ذرٍّ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُصبح على كلِّ سُلامى مِن أحدكم صدقةٌ ، فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ ، ونهيٌ عَنِ المُنكرِ صدقةٌ ، ويُجزئ من ذلك ركعتان يركعهما منَ الضُّحى ) .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 928 ) ، وقال البزار : ( لا نعلم رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أبو عوانة ) .
(2) في " صحيحه " 3/81 - 82 ( 1007 ) ( 54 ) .
(3) في " صحيحه 2/158 ( 720 ) ( 84 ) .

وخرَّج الإمام أحمد(1) ، وأبو داود(2) من حديث بُريدة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( في الإنسان ثلاث مئة وستونَ مَفْصِلاً ، فعليه أنْ يتصدَّقَ عن كلِّ مَفصِلٍ منه بصدقة ) قالوا : ومَن يُطيق ذلك يا نبيَّ الله ؟ قال : ( النُّخَاعَةُ في المسجد تَدفنها ، والشَّيء تُنَحِّيه عن الطريق ، فإنْ لم تجد ، فركعتا الضحى تجزئُك ) .
وفي " الصحيحين "(3) عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( على كلِّ مسلمٍ
صدقةٌ ) قالوا : فإنْ لم يجد ؟ قالَ : ( فيعملُ بيده ، فينفع نفسَه ويتصدَّقُ ) قالوا : فإنْ لم يستطع ، أو لم يفعل ؟ قال : ( يُعينُ ذا الحاجة الملهوف ) ، قالوا : فإنْ لم يفعل ؟ قال : ( فليأمر بالخير أو قال : بالمعروف ) قالوا : فإنْ لم يفعل ؟ قال : ( فليُمسِكْ عَنِ الشَّرِّ ، فإنَّه له صدقة ) .
وخرَّج ابن حبان في " صحيحه "(4) من حديث ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( على كُل مَنْسِمٍ(5) من ابن آدم صدقة كُلَّ يوم ) فقال رجلٌ من القوم : ومن يُطِيق هذا ؟ قال : ( أمر بالمعروف صدقة ، ونهيٌّ عن المنكر صدقة ، والحملُ على الضَّعيف صدقة ، وكلُّ خطوةٍ يخطوها أحدُكم إلى الصَّلاة صدقةٌ ) . وخرَّجه البزار(6) وغيره .
__________
(1) في " مسنده " 5/354 و359 ، وهو حديث صحيح لغيره .
(2) في سننه ( 5242 ) .
(3) صحيح البخاري 3/143 ( 1445 ) و8/13 ( 6022 ) ، وصحيح مسلم 3/83
( 1008 ) ( 55 ) .
(4) الإحسان ( 299 ) ، وفي إسناده مقال ؛ لأنَّه من رواية سماك ، عن عكرمة وهي مضطربة ، إلا إنَّ للحديث ما يقويه .
(5) أي : كل مفصل .
(6) في " مسنده " ( 926 ) .

وفي رواية : ( على كل مِيسَم(1) من الإنسان صدقةٌ كل يوم ، أو صلاة ) ، فقال رجل : هذا من أشدِّ ما أتيتنا به ، فقال : ( إنَّ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر صلاةٌ أو صدقةٌ ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤكَ القذرَ عَنِ الطَّريقِ صلاةٌ ، وكلُّ خطوةٍ تَخطوها إلى الصَّلاة صلاةٌ ) (2) . وفي رواية البزار : ( وإماطةُ الأذى عَنِ الطَّريق صدقةٌ ) أو قال : ( صلاةٌ ) .
وقال بعضهم : يريد بالمِيسم : كلَّ عضو على حِدة ، مأخوذ من الوسم : وهو العلامة ، إذ ما مِنْ عظم ولا عرق ولا عَصَبٍ إلا وعليه أثَرُ صنع الله ، فيجبُ على العبدِ الشكرُ على ذلك للهِ والحمد له على خلقه سوياً صحيحاً ، وهذا هو المراد بقوله : ( عليه صلاةٌ كلَّ يومٍ ) ؛ لأنَّ الصَّلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء .
وخرَّج الطبراني(3) من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( على كلِّ سُلامَى ، أو على كلِّ عضوٍ من بني آدم في كلِّ يوم صدقة ، ويُجزئ من ذلك ركعتا الضحى ) .
ويُروى من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( على كلِّ نفسٍ في كلِّ يومٍ صدقة ) قيل : فإنْ كان لا يجد شيئاً ؟ قال : ( أليس بصيراً شهماً فصيحاً صحيحاً ؟ ) قال : بلى ، قال : ( يُعطي من قليله وكثيره ، وإنَّ بصرَك للمنقوصِ بصرُه صدقةٌ ، وإنَّ سمعكَ للمنقوص سمعُهُ صدقة )(4) .
__________
(1) قال ابن الأثير : ( المراد به أن على كل عضو موسوم بصنع الله صدقة ) . انظر : النهاية 5/186 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11791 ) ، وهو كذلك من رواية سماك ، عن عكرمة .
(3) في " الأوسط " ( 4449 ) وفي " الصغير " ، له ( 630 ) ، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/240 : ( رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " ، وفيه من لم أجد له ترجمة ) .
(4) لم أقف عليه بما تيسر لي من مصادر .

وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذرٍّ - الذي خرَّجه ابن حبان في " صحيحه "(1) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيسَ مِنْ نفسِ ابن آدم إلا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلعت فيه الشمس ) ، قيل : يا رسولَ الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدَّقُ بها ؟ قال : ( إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ : التَّسبيحُ ، والتَّحميدُ ، والتَّكبيرُ ، والتَّهليلُ ، والأمرُ بالمعروف ، والنَّهيُ عن المُنكر ، وتُميط الأذى عن الطَّريقِ ، وتُسمِعُ الأصمَّ ، وتهدي الأعمى ، وتَدُلُّ المستدلَّ على حاجته ، وتسعى بشدَّة ساقيك مع اللَّهفان المستغيث ، وتحمل بشِدَّة ذراعيك معَ الضَّعيف ، فهذا كلُّه صدقةٌ منكَ على نفسِكَ ) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( على كلِّ سُلامى مِن النَّاس عليه صدقة ) . قال أبو عُبيد : السُّلامى في الأصل(2) عَظْمٌ يكون في فِرْسِنِ البعير ، قال : فكأنَّ معنى الحديث : على كُلِّ عظم من عظام ابن آدم صدقةٌ(3) ، يُشير أبو عُبيد إلى أنَّ السُّلامى اسمٌ لبعض العظام الصغار التي في الإبل ، ثم عبَّرَ بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره .
فمعنى الحديث عنده : على كُلِّ عظمٍ من عظام ابن آدم صدقة .
وقال غيرُه : السُّلامى : عظمٌ في طرف اليد والرِّجلِ ، وكني بذلك عن جميع عظام الجسد ، والسُّلامى جمعٌ ، وقيل : هو مفرد .
__________
(1) الإحسان ( 3377 ) .
(2) عبارة : ( في الأصل ) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : غريب الحديث 3/10 – 11 .

وقد ذكر علماء الطبِّ أنَّ جميعَ عظام البدن مئتان وثمانية وأربعون عظماً سوى السمسمانيات ، وبعضهم يقول : هي ثلاث مئة وستون عظماً ، يظهر منها للحسِّ مئتان وخمسة وستون عظماً ، والباقية صغارٌ لا تظهر تُسمى السمسمانية ، وهذه الأحاديث تُصدق هذا القول ، ولعلَّ السُّلامى عبر بها عن هذه العظام الصغار ، كما أنَّها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا ، حيث قال فيها : ( أو ستةٌ وثلاثون سُلامى ) وقد خرَّجه غيرُ البزار ، وقال فيه : ( إنَّ في ابنِ آدمَ ست مئة وستين عظماً ) وهذه الرواية غلطٌ . وفي حديث عائشة وبُريدة ذكر ثلاث مئة وستين مفصلاً .
ومعنى الحديث : أنَّ تركيب هذه العظام وسلامتها مِن أعظم نِعَمِ الله على عبده ، فيحتاج كلُّ عظم منها إلى صدقة يتصدق ابنُ آدم عنه ، ليكونَ ذلك شكراً لهذه النعمة . قال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (1)، وقال - عز وجل - : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } (2)، وقال
: { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (3)، وقال : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } (4) ، قال مجاهد : هذه نِعَمٌ من الله متظاهرةٌ يقرِّرُكَ بها كيما تَشكُر(5)
__________
(1) الانفطار : 6 – 8 .
(2) الملك : 23 .
(3) النحل : 78 .
(4) البلد : 8 – 9 .
(5) لم أقف على قول مجاهد وما وجدته عن قتادة .

أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 28891 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 19319 ) .

، وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية ، فبكى ، فسئل عن بكائِهِ ، فقال : هل بتَّ ليلة شاكراً لله أنْ جعل لك عينين تُبصر بهما ؟ هل بتَّ ليلةً شاكراً لله أنْ جعل لك لساناً تنطق به ؟ وجعل يعدِّد من هذا الضرب.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا(1) بإسناده عن سلمانَ الفارسي ، قال : إنَّ رجُلاً بُسِطَ له مِنَ الدُّنيا ، فانتزع ما في يديه ، فجعل يحمَدُ الله - عز وجل - ، ويُثني عليه ، حتَّى لم يكن له فراش إلا بوري(2) ، فجعل يَحمد الله ، ويُثني عليه ، وبسط للآخر من الدنيا ، فقال لصاحب البُوري : أرأيتك أنتَ على ما تحمد الله - عز وجل - ؟ قال : أحْمَدُ اللهَ على ما لو أُعْطِيتُ به ما أُعْطِيَ الخَلقُ ، لم أُعْطِهِمْ إيَّاه ، قال : وما ذاك ؟ قال : أرأيتَ بصرَك ؟ أرأيت لسانَك ؟ أرأيت يديك ؟ أرأيت رجليك ؟
وبإسناده عن أبي الدرداء أنَّه كان يقول : الصِّحَّةُ غِنى الجسد(3) .
وعن يونس بن عبيد : أنَّ رجلاً شكا إليه ضِيقَ حاله ، فقال له يونس : أيسُرُّك أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مئة ألف درهم ؟ قال الرجل : لا ، قال : فبيدك مئة ألف درهم ؟ قال : لا ، قال : فبرجليك ؟ قال : لا ، قال : فذكَّره نِعَمَ الله عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة(4) .
وعن وهب بن مُنَبِّهٍ ، قال : مكتوبٌ في حكمة آل داود : العافية المُلك الخفيُّ(5) .
__________
(1) في " الشكر " ( 100 ) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4462 ) .
(2) فارسي معرب وهو الحصير المعمول من القصب . لسان العرب 1/536 ( بور ) .
(3) الشكر ( 102 ) .
وأخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 25/125 .
(4) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/177 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/292.
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 122 ) .

وعن بكر المزني قال : يا ابن آدم ، إنْ أردتَ أنْ تعلمَ قدرَ ما أنعمَ اللهُ عليك ، فغمِّضْ عينيك(1) . وفي بعض الآثار : كم مِنْ نِعمَةٍ لله في عرقٍ ساكن(2) .
وفي " صحيح البخاري "(3) عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نِعْمَتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصِّحَّةُ والفراغ ) .
فهذه النِّعم مما يُسألُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة ، ويُطالب بها كما قال تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } (4) . وخرَّج الترمذيُّ(5) وابنُ حبَّانَ(6) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أوَّلَ ما يُسأل العبد عنه يوم القيامة مِن النعيم ، فيقول له : ألم نصحَّ لك جسمَك ، ونُرْويكَ من الماء البارد ؟ ) .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : النعيمُ : الأمنُ والصحة(7). وروي عنه مرفوعاً(8) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 182 ) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4465 ) و( 4466 ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/210 عن أبي الدرداء .
وأخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/211 عن سفيان الثوري ، وقال : فيه بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(3) الصحيح 8/109 ( 6412 ).
(4) التكاثر : 8 .
(5) في " جامعه " ( 3358 ) ، وقال : ( غريب ) على أنَّ إسناده لا ينْزل عن رتبة الحسن ؛ لذا أورده العلامة الألباني في صحيحته ( 539 ) .
(6) في " الإحسان "( 7364 ) .
(7) أخرجه : هناد بن السري في " الزهد " ( 694 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 29318 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4615 ) .
(8) ذكره ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 19461 ) .

وقال عليُّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } (1)، قال : النعيم : صحَّةُ الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأَلُ الله العبادَ : فيما استعملوها ؟ وهو أعلمُ بذلك منهم(2) ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (3) .
وخرَّج الطبراني(4) من رواية أيوب بن عُتبة - وفيه ضعف(5) - ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال : لا إله إلا الله ، كان لهُ بها عهدٌ عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مئة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ) ، فقال رجل : كيف نَهلكُ بعدَ هذا يا رسول الله ؟ قال : ( إنَّ الرجلَ ليأتي يومَ القيامة بالعملِ ، لو وُضِعَ على جبل لأثقله ، فتقوم النِّعمَةُ مِن نعمِ اللهِ ، فتكاد أنْ تستنفد ذلك كلَّه ، إلاَّ أنْ يتطاول الله برحمته ) .
وروى ابن أبي الدنيا(6)
__________
(1) التكاثر : 8 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 29322 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4613 ) .
(3) الإسراء : 36 .
(4) في " الكبير " ( 13595 ) وفي " الأوسط " ، له ( 1604 ) . انظر : مجمع الزوائد 10/420 .
(5) قال عنه أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير وفي غير يحيى على ذاك ، وقال عنه أبو حاتم : ( فيه لين ، قدم بغداد ولم يكن معه كتب فكان يحدّث من حفظه
على التوهم فيغلط ) ، وقال عنه أبو زرعة : ( ضعيف ) ، وقال عنه مسلم بن الحجاج
: ( ضعيف ) ، وقال عنه يحيى بن معين : ( ليس بالقوي ) ، وقال عنه ابن حجر
: ( ضعيف ) . انظر : الجرح والتعديل 2/182 ( 907 ) ، وتهذيب الكمال 1/320
( 610 ) ، والتقريب ( 619 ) .
(6) في " الشكر " ( 24 ) .
وذكره الديلمي في " مسند الفردوس " ( 8763 ) .

وفيه صالح بن موسى قال عنه يحيى بن معين : ( ليس بشيء ) ، وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم : ( سألت أبي عنه ) ، فقال : ( ضعيف الحديث ، منكر الحديث جداً كثير المناكير عن
الثقات ) ، قلت : ( يكتب حديثه ) ؟ قال : ( ليس يعجبني حديثه ) ، وقال عنه النَّسائي
: ( لا يكتب حديثه ، ضعيف ) . انظر : الجرح والتعديل 4/380 – 381 ( 1825 ) ، وتهذيب الكمال 3/437 - 438 ( 2827 ) .
وفيه أيضاً ليث بن أبي سليم سُئل عنه يحيى بن معين فقال : ( ليس حديثه بذاك ضعيف ) ، وقال عنه أبو حاتم وأبو زرعة : ( ليث لا يشتغل به ، هو مضطرب الحديث ) ، وقال عنه ابن حجر : ( صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك ) .
انظر : الجرح والتعديل 7/242 ( 1014 ) ، والتقريب ( 5685 ) .

بإسنادٍ فيه ضعف أيضاً عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُؤتى بالنِّعم يومَ القيامة ، وبالحسنات والسيئات ، فيقول الله لنعمةٍ مِنْ نِعَمِهِ : خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنةً إلا ذهبت بها ) .
وبإسناده عن وهب بن مُنَبِّه قال : عَبَدَ الله عابدٌ خمسين عاماً ، فأوحى الله - عز وجل - إليه : إني قد غفرتُ لك ، قال : يا ربِّ ، وما تغفر لي ولم أذنبْ ؟ فأذِنَ الله - عز وجل - لِعِرْقٍ في عنقه ، فضرب عليه ، فلم ينم ، ولم يُصلِّ(1) ، ثم سكن وقام ، فأتاه مَلَكٌ ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق ، فقال الملك : إنَّ ربَّك - عز وجل - يقول : عبادتُك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق(2) .
وخرَّج الحاكم(3)
__________
(1) عبارة : ( فلم ينم ولم يصل ) لم ترد في ( ص ) .
(2) في " الشكر " ( 148 ) ، ومن طريقه أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/68 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4622 ) .
(3) في " المستدرك " 4/250 .

وأخرجه: العقيلي في "الضعفاء" 2/144 – 145 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "( 4620 ) .

هذا المعنى مرفوعاً من رواية سليمان بن هرم القرشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ جبريل أخبره أنَّ عابداً عبد الله على رأس جبلٍ في البحر خمس مئة سنة ، ثم سأل ربَّه أنْ يَقبِضَهُ وهو ساجدٌ ، قال : فنحن نمُرُّ عليه إذا هبطنا وإذا عرَجنا ، ونجد في العلم أنَّه يُبعث يَوْمَ القيامةِ ، فيوقف بَيْنَ يدي الله - عز وجل - ، فيقول الربُّ - عز وجل - : أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ، فيقولُ العبدُ : يا ربِّ ، بعملي ، ثلاثَ مرَّات ، ثم يقول الله للملائكة : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادةِ خمس مئة سنة ، وبقيت نِعَمُ الجسد له ، فيقول : أدخلوا عَبْديَ النار ، فيجرُّ إلى النار ، فينادي ربه : برحمتك أدخلني الجنَّة ، برحمتك ، فيدخله الجنَّة ، قال جبريل : إنَّما الأشياءُ برحمة الله يا محمد . وسُليمان بن هرم ، قال العقيلي : هو مجهول وحديثُه غيرُ محفوظ(1) .
وروى الخرائطي(2) بإسنادٍ فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( يُؤتى بالعبد يومَ القيامة ، فيُوقَفُ بين يدي الله - عز وجل - فيقول للملائكة : انظرُوا في عمل عبدي ونعمتي عليه ، فينظرون فيقولون : ولا بقدْرِ نعمةٍ واحدةٍ من نِعَمِكَ عليه ، فيقول : انظروا في عمله سيِّئه وصالحه ، فينظرون فيجدونه كَفافاً ، فيقول : عبدي ، قد قبلتُ حسناتِك ، وغفرت لك سيِّئاتِك ، وقد وهبتُ لك نعمتي فيما بين
ذلك ) .
__________
(1) انظر : الضعفاء 2/144 ( 638 ) ، وهذه القصة مع ضعف سندها ونكارة متنها تخالف نص القرآن : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] ، وانظر : ميزان الاعتدال للذهبي 2/228 .
(2) في " فضيلة الشكر " ( 57 ) .

والمقصودُ : أنَّ الله تعالى أنعمَ على عباده بما لا يُحصونَه كما قال : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا } (1)، وطلب منهمُ الشُّكرَ ، ورضي به منهم . قال سليمان التيمي : إنَّ الله أنعم على العباد على قدره ، وكلَّفهم الشكر على قدرهم حتى رَضِيَ منهم مِنَ الشُّكرِ بالاعتراف بقلوبهم بنعمه(2) ، وبالحمد بألسنتهم عليها ، كما خرَّجه أبو داود(3) والنَّسائي(4)
__________
(1) إبراهيم : 34 ، والنحل : 18 .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 8 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4578 ) .
(3) في " سننه " ( 5073 ) .
(4) في " الكبرى " ( 9835 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 7 ) .

وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 2163 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 4368 ) ، والبغوي ( 1328 ) ، وهذا الحديث حسنه ابن حجر في " نتائج الأفكار " 2/380 .

من حديث عبد الله بن غَنَّام ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( من قال حينَ يُصبِحُ : اللهمَّ ما أَصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك ، فمنك وحْدَكَ لا شريكَ لك ، فلكَ الحمدُ ولك الشُّكْرُ ، فقد أدَّى شُكْرَ ذلك اليومِ ، ومن قالها حين يُمسي أدَّى شكر ليلته ) . وفي روايةٍ للنَّسائي عن
عبد الله بن عباس(1) .
وخرَّج الحاكم(2)
__________
(1) هذه الرواية ذكرها المزي في " تحفة الأشراف " 6/161 ( 8976 ) ، وقال : ( وهو خطأ ) وهذه الرواية أخرجها : ابن حبان ( 861 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 306 ) ، وقال الدكتور بشار في تعليقه على " التحفة " : ( وكذلك جزم ابن عساكر في " الأطراف " بأنه خطأ ثم قال : ( وقد وافق ابن وهب في رواية له الأكثر ) ، وقال أبو نعيم في " المعرفة "
: ( من قال فيه عن ابن عباس فقد صحَّف ) ، بل إنَّ الحافظ ابن حجر قال في " الإصابة " 2/349 في ترجمة عبد الله بن غنام : ( وله حديث في سنن أبي داود والنسائي في القول عند الصباح ، وقد صحَّفه بعضهم ، فقال : ابن عباس ، وأخرج النسائي الاختلاف فيه ) ، لكن في " النكت الظراف " يشير إلى أنَّ القول بخطأ من قال : ( ابن عباس ) فيه نظر ، وقوله في
" الإصابة " أجود ، وهو الموافق لما ذهب إليه المزي ) .
(2) في " المستدرك " 1/514 و4/253 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 47 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4379 ) .
والحديث ضعفه الذهبي في " تلخيص المستدرك " 1/514 و4/253 على أنَّ الحاكم لم يصححه في الموضع الأول وصححه في الموضع الثاني ، والصواب ما ذهب إليه الذهبي من ضعف الحديث .

من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً ، فعلم أنَّها مِنْ عند الله إلا كتب الله له شُكرها قبل أنْ يَشكُرَها ، وما أذنَبَ عبدٌ ذنباً ، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أنْ يستغفره ) .
قال أبو عمرو الشيباني : قال موسى - عليه السلام - يوم الطُّورِ : يا ربِّ ، إنْ أنا صلَّيتُ فمِنْ قِبَلِكَ ، وإنْ أنا تصدقت فمن قبلك ، وإنْ أنا بلَّغتُ رسالتَك فمن قبلك ، فكيف أشكرُكَ ؟ قال : الآن شكرتني(1) .
وعن الحسن قال : قال موسى - عليه السلام - : يا ربِّ ، كيف يستطيع آدم أنْ يؤدِّي شكرَ ما صنعت إليه ؟ خلقتَه بيدِكَ ، ونفخت فيه من رُوحِكَ ، وأسكنته جنَّتَكَ ، وأمرتَ الملائكة فسجدوا له ، فقال : يا موسى ، عَلِمَ أَنَّ ذلك مني ، فحمدني عليه ، فكان ذلك شكراً لما صنعته(2) .
وعن أبي الجلد(3) قال : قرأتُ في مسألة داود أنَّه قال : أي ربِّ كيف لي أنْ أشكُرَكَ وأنا لا أصلُ إلى شكرك إلاَّ بنعمتك ؟ قال : فأتاه الوحي : أنْ يا داود ، أليس تعلمُ أنَّ الذي بك من النِّعم مني ؟ قال : بلى يا ربِّ(4) ، قال : فإنِّي أرضى
بذلك منك شكراً(5) .
__________
(1) أخرجه : الخرائطي في " فضيلة الشكر " ( 39 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 12 ) ، ومن طريقه أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4427 ) .
(3) اسمه حيلان بن فروة . انظر : حلية الأولياء 6/54 .
(4) يا رب ) لم ترد في ( ص ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة في " الشكر " ( 5 ) ، وأحمد بن حَنْبل في " الزهد " ( 375 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/56 .

قال : وقرأتُ في مسألةِ موسى : يا ربِّ ، كيف لي أنْ أشكركَ وأصغرُ نعمةٍ وضعتَها عندي مِنْ نِعَمِكَ لا يُجازي بها عملي كله ؟ قال : فأتاه الوحيُ : أنْ يا موسى ، الآن شكرتني(1) .
وقال أبو بكر بن عبد الله : ما قال عبد قطُّ : الحمدُ لله مرَّةً ، إلاَّ وجبت عليه نعمةٌ بقوله : الحمد لله ، فما جزاء تلك النَّعمة ؟ جزاؤها أنْ يقولَ : الحمد لله ، فجاءت نعمةٌ أخرى ، فلا تنفد نعماءُ الله(2) .
وقد روى ابنُ ماجه(3) من حديث أنسٍ مرفوعاً: ( ما أنعمَ الله على عبدٍ نعمةً، فقال : الحمدُ لله ، إلاَّ كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ ) .
وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب(4) ، عن أسماء بنت يزيد مرفوعاً أيضاً .
وروي هذا عن الحسن البصري من قوله(5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 6 ) ، وأحمد بن حنبل في " الزهد " ( 349 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/56 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4415 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 7 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4408 ) .
(3) في " سننه " ( 3805 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شبيب بن بشر .
(4) لم أقف على هذه الرواية ، وشهر بن حوشب ضعيف .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 111 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4406 ).

وكتب بعضُ عمال عمر بن عبد العزيز إليه : إني بأرضٍ قد كثُرَت فيها النِّعم، حتى لقد أشفقتُ على أهلها مِنْ ضعفِ الشُّكر ، فكتب إليه عُمَرُ : إنِّي قد كنتُ أراك أعلم بالله ممَّا أنتَ ، إنَّ الله لم يُنعم على عبدٍ نعمةً ، فحمِدَ الله عليها ، إلاَّ كان
حمدُه أفضلَ من نِعَمِه ، لو كنتَ لا تعرف ذلك إلاَّ في كتاب الله المنزل ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } (1) ، وقال تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا } إلى قوله : { وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ } (2) وأيّ نعمة أفضلُ من دخول الجنَّة(3) ؟
وقد ذكر ابنُ أبي الدنيا في " كتاب الشكر "(4) عن بعض العُلماء أنَّه صوَّب هذا القولَ : أعني قولَ من قال : إنَّ الحمدَ أفضلُ من النِّعم ، وعن ابن عُيينة أنَّه خطَّأ قائلَه ، قال : ولا يكون فعلُ العبدِ أفضلَ من فعلِ الربِّ - عز وجل -(5).
__________
(1) النمل : 15 .
(2) الزمر : 73 – 74 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/293 .
(4) الشكر ( 11 ) عن الحسن .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4586 ) .
(5) ذكره : المناوي في " فيض القدير " 5/547 .

ولكن الصواب قول من صوَّبه ، فإنَّ المرادَ بالنعم : النعم الدنيوية ، كالعافية والرِّزق والصِّحَّة ، ودفع المكروه ، ونحو ذلك ، والحمد هو مِنَ النِّعم الدينية ، وكلاهما نعمةٌ مِنَ اللهِ ، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده ، فإنَّ النعم الدنيوية إنْ لم يقترن بها الشُّكرُ ، كانت بليةً كما قال أبو حازم : كلُّ نعمةٍ لا تقرِّبُ مِنَ الله فهي بليَّةٌ(1) ، فإذا وفَّقَ الله عبدَه للشكر على نعمه الدنيوية بالحمدِ أو غيره من أنواع الشكر ، كانت هذه النعمةُ خيراً من تلك النعم وأحبَّ إلى الله - عز وجل - منها ، فإنَّ الله يُحِبُّ المحامدَ ، ويرضى عن عبدِه أنْ يأكلَ الأكلة ، فيحمده عليها ، ويشرب الشربة ، فيحمَده عليها ، والثناء بالنِّعم والحمدُ عليها وشكرُها عندَ أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم ، فهم يبذلُونَها طلباً للثناء ، والله - عز وجل - أكرمُ الأكرمين ، وأجودُ الأجودين ، فهو يَبذُلُ نِعَمَهُ(2) لعباده ، ويطلب منهم الثناءَ بها ، وذكرها ، والحمد عليها ، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها ، وإنْ كان ذلك كلُّه من فضله عليهم ، وهو غيرُ محتاجٍ إلى شكرهم ، لكنَّه يُحِبُّ ذلك من عباده ، حيث كان صلاحُ العبدِ وفلاحُه وكماله فيه . ومِن فضله أنَّه نسب الحمدَ والشُّكر إليهم ، وإنْ كان من أعظم نِعَمِه عليهم ، وهذا كما أنَّه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ، ثم استقرض منهم بعضَهُ ، ومدحهم بإعطائه ، والكلُّ ملكُه ، ومِنْ فضله ، ولكن كرمه اقتضى ذلك ، ومِنْ هُنا يُعلم معنى الأثرِ الذي جاء مرفوعاً(3)
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 20 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/320 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4537 ) ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/92 .
(2) نعمه ) لم ترد في ( ص ) .
(3) ذكره المنذري بصيغة التمريض في " الترغيب والترهيب " ( 2334 ) عن ابن عمر ، به مرفوعاً ، وقال : ( رواه البخاري في الضعفاء ) .

وموقوفاً(1) : ( الحمد لله حمداً يُوافي نعمَه ، ويكافئُ مزيده ) .
ولنرجع الآن إلى تفسير حديث : ( كلُّ سُلامى مِنَ النَّاس عليه صدقة كُلَّ يوم تطلع فيه الشَّمسُ ) .
يعني : أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدمَ عن هذه الأعضاء في كُلِّ يومٍ من أيَّامِ الدُّنيا ، فإنَّ اليوم قد يُعَبَّرُ به عن مدَّةٍ أزيدَ مِنْ ذلك ، كما يقال : يوم صِفِّين ، وكان مدَّةَ أيَّام، وعن مطلق الوقت كما في قوله : { أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } (2). وقد يكون ذلك ليلاً ونهاراً ، فإذا قيل : كلَّ يوم تطلعُ فيه الشمس ، علم أنَّ هذه الصدقة على ابن آدم في كلِّ يوم يعيشُ فيه من أيام الدُّنيا ، وظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الشُّكر بهذه الصَّدقة واجبٌ على المسلم كلَّ يوم ، ولكن الشُّكر على درجتين :
__________
(1) أخرجه : أبو الشيخ الأصبهاني في " العظمة " ( 1053 ) من طريق أبي صالح ، به .
(2) هود : 8 .

إحداهما : واجب ، وهو أنْ يأتي بالواجبات ، ويجتنب المحارم، فهذا لابدَّ منه، ويكفي في شكر هذه النِّعم ، ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه أبو داود من حديث أبي الأسود الدِّيلي ، قال : كنا عند أبي ذرٍّ ، فقال : يُصبح على كُلِّ سُلامى مِنْ أحدكم في كُلِّ يومٍ صدقة ، فله بكلِّ صلاة صدقةٌ ، وصيام صدقة ، وحجٍّ صدقة ، وتسبيح صدقة ، وتكبير صدقة ، وتحميد صدقة ، فعدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هذه الأعمال الصالحات قال : ( يجزئ أحدكم مِنْ ذلك ركعتا الضحى )(1) وقد تقدَّم في حديث أبي موسى(2) المخرَّج في " الصحيحين " : ( فإنْ لم يفعل ، فليمسك عَنِ الشَّرِّ ، فإنَّه له صدقة ) . وهذا يدلُّ على أنَّه يكفيه أنْ لا يفعل شيئاً من الشرِّ ، وإنَّما يكون مجتنباً للشرِّ إذا قام بالفرائض ، واجتنبَ المحارمَ ، فإنَّ أعظمَ الشرِّ تركُ الفرائض ، ومن هنا قال بعضُ السَّلف : الشُّكرُ ترك المعاصي(3) . وقال بعضهم : الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِنَ النِّعَمِ على معصية(4).
وذكر أبو حازمٍ الزاهد شُكْرَ الجوارح كُلِّها ، وأنْ تُكفَّ عن المعاصي وتُستعمل في الطاعات ، ثم قال : وأمَّا من شكر بلسانه ، ولم يشكر بجميع أعضائه ، فمثله كمثل رجل له كِساءٌ ، فأخذ بطرفه ، فلم يلبسه ، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر(5) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) أخرجه : أبن أبي الدنيا في " الشكر " ( 19 ) عن مخلد بن الحسين .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4547 ) عن محمد بن لوط .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 6045 ) عن الجنيد بلفظ : ( الشكر أن لا يعصى الله فيما أنعم به ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 129 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/246 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4564 ) .

وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم : لينظر العبدُ في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصرِه ويديه ورجليه وغير ذلك ، ليس من هذا شيءٌ إلاَّ وفيه نعمةٌ من الله - عز وجل - ، حقٌّ على العبد أنْ يعملَ بالنِّعم التي في بدنه لله - عز وجل - في طاعته ، ونعمة أخرى في الرزق ، حق عليه أنْ يعمل لله - عز وجل - فيما أنعم عليه مِنَ الرِّزق في طاعته ، فمن عمل بهذا ، كان قد أخذ بحزم الشُّكر وأصله وفرعه(1) . ورأى الحسن رجلاً يتبختر في مشيته ، فقال : للهِ في كُلِّ عُضوٍ منه نعمة ، اللهمَّ لا تجعلنا ممن يتقوَّى بنعمك على معصيتك .
الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحبُّ ، وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض ، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات ، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين ، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث التي سبق ذكرُها ، وكذلك كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في الصَّلاة ، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : ( أفلا أكونُ عبداً شكوراً ؟ )(2) .
وقال بعضُ السَّلف : لما قال الله - عز وجل - : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً } (3) ، لم يأتِ عليهم ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ إلاَّ وفيهم مصلٍّ يُصلي(4) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 188 ) .
(2) أخرجه : البخاري 2/63 ( 1130 ) و6/169 ( 4836 ) ، ومسلم 8/140 ( 2819 ) ( 79 ) و(80 ) .
(3) سبأ : 13 .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 74 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4524 ) عن مسعر بن كدام .

وهذا مع أنَّ بعضَ هذه الأعمال التي ذكرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واجبٌ : إمَّا على الأعيان، كالمشي إلى الصلاة عندَ من يرى وجوبَ الصَّلاة في الجماعات في المساجد، وإما على الكفاية ، كالأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، وإغاثة الملهوف ، والعدلِ بينَ الناسِ ، إمَّا في الحكم بينهم ، أو في الإصلاح . وقد روي من حديث عبد الله بن عمرو ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الصَّدقةِ إصلاحُ ذات البين )(1) .
وهذه الأنواع التي أشار إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة ، منها ما نفعُهُ متعدٍّ
كالإصلاح ، وإعانةِ الرَّجُلِ على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها ، والكلمة الطيبة ، ويدخل فيها السلام ، وتشميتُ العاطس ، وإزالة الأذى عن الطَّريق ، والأمر بالمعروف ، والنَّهيُ عن المنكرِ ، ودفنُ النُّخامة في المسجد ، وإعانة ذي الحاجة الملهوف ، وإسماع الأصمّ ، والبصر للمنقوص بصره ، وهداية الأعمى أو غيره الطريق . وجاء في بعض روايات حديثِ أبي ذرٍّ : ( وبيانك عن الأَرتم صدقة ) يعني : من لا يُطيق الكلام(2) ، إمَّا لآفةٍ في لسانه ، أو لِعُجْمة في لغته ، فيُبَيِّنُ عنه ما يحتاج إلى بيانه .
__________
(1) أخرجه : عبد بن حميد ( 335 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 2059 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1280 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 11092 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف عبد الرحمان بن زياد الإفريقي ، وهو يروي هنا عن شيخ مجهول .
(2) انظر : لسان العرب 5/133 ( رتم ) .

ومنه ما هو قاصرُ النَّفع : كالتَّسبيحِ ، والتَّكبير ، والتَّحميد ، والتَّهليل ، والمشي إلى الصَّلاةِ ، وصلاة ركعتي الضُّحى ، وإنَّما كانتا مجزئتين عن ذلك كلِّه ؛ لأنَّ في الصَّلاة استعمالاً للأعضاء كلِّها في الطَّاعة والعبادة ، فتكون كافيةً في شكر نعمه سلامة(1) هذه الأعضاء . وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرُها استعمالٌ لبعض أعضاء البدن خاصَّةً ، فلا تكمُلُ الصدقة بها حتَّى يأتيَ منها بعدد سُلامى البدن ، وهي ثلاث مئة وستون كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - .
وفي " المسند "(2) عن ابنِ مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أتدرون أيُّ الصَّدقة أفضلُ وخير ؟ ) قالوا : الله ورسولُه أعلمُ . قال : ( المِنحة : أنْ تمنح أخاك الدَّراهم ، أو ظهرَ الدابَّةِ ، أو لبنَ الشَّاةِ أو لبنَ البقرة ) . والمراد بمنحة الدراهم : قرضُها ، وبمنحة ظهر الدَّابةِ إفقارها ، وهو إعارتها لمن يركبُها ، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أنْ يمنحه بقرةً أو شاةً ليشربَ لبنها ثمَّ يعيدها إليه ، وإذا أطلقت المنيحةُ ، لم تنصرِفْ إلاَّ إلى هذا .
وخرَّج الإمام أحمد(3) والترمذي(4) من حديث البراء بن عازبٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال : ( من منح منيحة لبن ، أو وَرِقٍ ، أو هدى زُقاقاً ، كان له مثلُ عِتْقِ رقبةٍ ) وقال الترمذي : معنى قوله : ( من منح منيحة وَرِق ) إنَّما يعني به قرض الدراهم ، وقوله : ( أو هدى زقاقاً ) إنَّما يعني به هداية الطريق ، وهو إرشادُ السبيل .
__________
(1) عبارة : ( نعمه سلامة ) لم ترد في ( ص ) .
(2) 1/463 ، وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم الهجري .
(3) في " المسند " 4/285 و286 و296 و300 و304 .
(4) في " جامعه " ( 1957 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .

وخرَّج البخاري(1) من حديث حسّان بن عطية ، عن أبي كبشةَ السَّلولي ، قال : سمعتُ عبد الله بنَ عمرٍو يقول : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أربعون خَصلةً ، أعلاها منيحة(2) العنْز(3) ، ما مِنْ عاملٍ يعملُ بخصلةٍ منها رجاءَ ثوابها ، وتصديقَ
موعودها ، إلاَّ أدخله الله بها الجنة ) . قال حسان : فعددنا ما دونَ منيحة العنْزِ من ردِّ السَّلام ، وتشميت العاطس ، وإماطة الأذى عن الطَّريق ونحوه ، فما استَطعنا أنْ نبلُغَ خمس عشرة خصلة .
وفي " صحيح مسلم "(4) عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( حقُّ الإبل حلبُها على الماء ، وإعارةُ دلوها ، وإعارةُ فحلها ، ومنيحتها ، وحملٌ عليها في سبيل الله ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(5) من حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ معروفٍ صدقةٌ ، ومِنَ المعروف أنْ تلقَى أخاكَ بوجهٍ طلقٍ ، وأنْ تُفرِغَ من دلوك في إنائه ) . وخرَّجه الحاكم(6)
__________
(1) في " صحيحه " 3/217 ( 2631 ) .
(2) قال ابن حجر : ( والمنيحة بالنون المهملة وزن عطية هي في الأصل العطية ، قال أبو عبيد : المنيحة عند العرب على وجهين أحدهما : أنْ يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له ، والآخر : أنْ يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحليبها ووبرها زماناً ثم يردها ) . انظر : فتح الباري 5/299 .
(3) قال ابن حجر : ( بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي معروفة وهي واحدة المعز ) . انظر : فتح الباري 5/301 .
(4) الصحيح 3/74 ( 988 ) ( 28 ) .
(5) في " مسنده " 3/344 و360 ، وإسناده ضعيف لضعف المنكدر بن محمد بن المنكدر لكن للحديث شواهد يتقوى بها ، والله أعلم .
(6) في " المستدرك " 2/50 .

وأخرجه : أبو يعلى ( 2040 ) ، والدارقطني في " سننه " ( 2872 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 94 ) ، والبيهقي 10/242 ، ورواية الحاكم في سندها عبد الحميد بن الحسن الهلالي ضعيف ، وتوبع في بعض المصادر بمن هو مثله من الضعفاء .

وغيره بزيادة ، وهي : ( وما أنفق المرءُ على نفسه وأهلِه ، كُتِبَ له به صدقةٌ ، وما وقى به عرضَه كُتِبَ له به صدقة ، وكُلُّ نفقةٍ أنفقها مؤمن ، فعلى الله خَلَفُها ضامن إلاَّ نفقةً في معصيةٍ أو بنيانٍ ) .
وفي " المسند "(1) عن أبي جُري الهُجيمي، قال : سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المعروف، فقال : ( لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئاً ، ولو أنْ تُعْطيَ صِلةَ الحبلِ ، ولو أنْ تُعطي شِسْعَ النَّعلِ ، ولو أنْ تُفرِغَ من دلوكَ في إناء المستسقي ، ولو أنْ تُنَحِّي الشَّيءَ مِنْ طريق النَّاسِ يؤذيهم ، ولو أنْ تلقى أخاكَ ووجهُك إليه منطلق ، ولو أنْ تلقى أخاك فتسلِّمَ عليه ، ولو أنْ تُؤْنِسَ الوحشان في الأرض ) .
ومِنْ أنواع الصَّدقة : كفُّ الأذى عن النَّاس باليد واللسان ، كما في
" الصحيحين " عن أبي ذرٍّ(2) ، قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ الأعمال أفضل ؟ قالَ
: ( الإيمانُ بالله ، والجهاد في سبيله ) قلتُ : فإنْ لم أفعل ؟ قال : ( تُعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق(3) ) ، قلت : أرأيت إنْ ضعُفت عن بعضِ العمل ؟ قال : ( تكفُّ شرَّكَ عن النَّاسِ ، فإنها صدقة ) .
وفي " صحيح ابن حبان "(4)
__________
(1) المسند 3/482 و4/65 ، وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه : البخاري 3/188 – 189 ( 2518 ) ، ومسلم 1/61 (84 ) ( 136 ) .
(3) الأخرق الذي لا صنعة له . انظر : شرح السنة عقيب حديث ( 2418 ) .
(4) الإحسان ( 373 ) .

وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 941 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1650 ) ، والحاكم 1/63 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3327 ) ، وجميع أسانيده ضعيفة .

عن أبي ذرٍّ قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، دُلَّني على عملٍ ، إذا عملَ به العبدُ دخلَ به الجنَّةَ ، قال : ( يُؤمِنُ بالله ) قلت :
يا رسولَ الله ، إنَّ مع الإيمان عملاً ؟ قالَ : ( يرضخُ(1) ممَّا رزقه الله ) ، قلت : وإنْ كانَ معدماً لا شيء لهُ ؟ قالَ : ( يقول معروفاً بلسانه ) ، قلتُ : فإنْ كانَ عيياً لا يُبلغُ عنه لسانُه ؟ قال : ( فيُعين مغلوباً ) ، قلت : فإنْ كان ضعيفاً لا قُدرةَ له ؟ قال : ( فليصنع لأخرق ) ، قلت : فإنْ كان أخرقَ ؟ فالتفت إليَّ ، فقال : ( ما تريدُ أنْ تدعَ في صاحبك شيئاً مِنَ الخيرِ ؟ فليدع النَّاس من أذاه ) ، قلتُ : يا رسول الله ، إنَّ هذا كلَّه ليسيرٌ ، قال : ( والذي نفسي بيده ، ما مِنْ عبدٍ يعملُ بخصلةٍ منها يُريد بها ما عندَ الله ، إلا أَخذت بيده يومَ القيامة حتى يدخل الجنَّة ) .
فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلِّها إخلاص النية كما في حديث
عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلةً(2) ، وهذا كما في قوله - عز وجل - : { لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (3). وقد رُوي عن الحسن ، وابن سيرين أنَّ فعلَ المعروف يُؤجَرُ عليه ، وإنْ لم يكن له فيه نيّة . سئل الحسنُ عن الرَّجلِ يسألُه آخَرُ حاجةً وهو يُبغِضُهُ ، فيُعطيه حياءً : هل له فيه أجر ؟ فقال : إنَّ ذلك لمن المعروف ، وإنَّ في المعروف لأجراً . خرَّجه حميدُ بنُ زنجويه .
__________
(1) الرَّضخُ : العطية القليلة . انظر : النهاية 2/228 .
(2) سبق تخريجه .
(3) النساء : 114 .

وسُئِلَ ابنُ سيربن عن الرجل يتبع الجنازة ، لا يتبعها حسبةً ، يتبعها حياءً من أهلها : أله في ذلك أجرٌ ؟ فقالَ : أجرٌ واحد ؟ بل لهُ أجران : أجرٌ لِصلاته على أخيه ، وأجرٌ لصلته الحيّ . خرَّجه أبو نعيم في " الحلية "(1) .
ومن أنواع الصدقة : أداءُ حقوق المسلم على المسلم ، وبعضُها مذكورٌ في الأحاديث الماضية ، ففي " الصحيحين "(2) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( حقُّ المسلم على المسلمِ خمسٌ ، ردُّ السَّلامِ ، وعيادةُ المريض ، واتِّباعُ الجنائز ، وإجابةُ الدَّعوة ، وتشميتُ العاطس ) وفي روايةٍ لمسلم(3) : ( للمسلم على المسلم سِتٌّ ) ، قيل : ما هُنَّ يا رسول الله ؟ قال : ( إذا لقيته تُسلِّمُ عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس فَحَمِدَ الله ، فشمِّته ، وإذا مَرِضَ فعُدْهُ ، وإذا مات فاتَّبعه ) .
وفي " الصحيحين "(4) عن البراء قال : أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع : بعيادةِ
المريض واتِّباع الجنازة ، وتَشميتِ العاطس ، وإبرارِ القسم ، ونصر المظلوم ،
وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام . وفي روايةٍ لمسلم(5) : وإرشاد الضال ، بدل إبرار القسم .
ومن أنواع الصَّدقة : المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم ، قال ابن عباس : من مشى بحقِّ أخيه إليه ليقضيه ، فله بكلِّ خطوة صدقة(6) .
__________
(1) الحلية 2/264 .
(2) أخرجه : البخاري 2/90 ( 1240 ) ، ومسلم 7/3 ( 2162 ) ( 4 ) .
(3) في " صحيحه " 7/2 ( 2162 ) ( 5 ) .
(4) صحيح البخاري 2/90 ( 1239 ) و3/168 ( 2445 ) ، وصحيح مسلم 6/134
( 2066 ) ( 3 ) .
(5) في " صحيحه " 6/134 ( 2066 ) ( 3 ) .
(6) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 823 ) .

ومنها : إنظارُ المعسر ، وفي " المسند "(1) و" سنن ابن ماجه "(2) عن بُريدة مرفوعاً : ( من أنظرَ معسراً ، فله بكلِّ يوم صدقة قبل أنْ يَحُلَّ الدَّيْنُ ، فإذا حلَّ الدين ، فأنظره بعد ذلك ، فله بكلِّ يوم مثله صدقة ) .
ومنها : الإحسّان إلى البهائم ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عن سقيها ، فقال : ( في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجر )(3) ، وأخبر أنَّ بغيّاً سقت كلباً يلهثُ مِن العطش ، فغفر لها(4).
وأمَّا الصَّدقة القاصرةُ على نفس العامل بها ، فمثل أنواع الذكر مِن التَّسبيح ،
والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، والصلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك
تلاوةُ القرآن ، والمشي إلى المساجد ، والجلوسُ فيها لانتظار الصلاة ، أو لاستماع الذكر .
ومن ذلك : التَّواضعُ في اللِّباس ، والمشي ، والهدي ، والتبذل في المهنة ، واكتساب الحلال ، والتحرِّي فيه .
__________
(1) المسند 5/351 و360 والحديث صحيح .
(2) السنن ( 2418 ) .
(3) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2688 ) برواية يحيى الليثي ، وأحمد 2/375 و517 ، والبخاري 3/146 - 147 ( 2363 ) و3/173 - 174 ( 2466 )، و8/11 ( 6009 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 378 ) ، ومسلم 7/43 ( 2244 ) ( 153 ) ، وأبو داود
( 2550 ) ، وأبو عوانة 3/365 و366 ، وابن حبان ( 544 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 113 ) ، والبيهقي 4/185 – 186 و8/14 ، والبغوي ( 384 ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/507 و510 ، والبخاري 4/158 ( 3321 )، ومسلم 7/43 ( 2245 ) ( 154 ) و( 155 ) ، وأبو يعلى ( 6035 ) و( 6044 ) ، وابن حبان ( 386 ) ، والبيهقي 8/14 ، والبغوي ( 1666 ) من حديث أبي هريرة ، به .

ومنها أيضاً : محاسبةُ النفس على ما سلف من أعمالها ، والندم والتوبة من الذنوب السالفة ، والحزن عليها ، واحتقار النفس ، والازدراء عليها ، ومقتها في الله - عز وجل - ، والبكاء من خشية الله تعالى ، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أمور الآخرة ، وما فيها مِنَ الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب ، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب ، كالخشية ، والمحبَّةِ ، والرَّجاء ، والتوكُّل ، وغير ذَلِكَ . وقد قيل : إنَّ هذا التفكُّر أفضلُ من نوافل الأعمال البدنية ، روي ذَلِكَ عن غير واحد من التَّابعين ، منهم : سعيدُ بن المسيب(1) ، والحسن(2) ، وعمر بن
عبد العزيز ، وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليهِ . وقال كعب : لأنْ أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بوزني ذهباً(3) .
__________
(1) انظر : الطبقات لابن سعد 5/102 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/161 – 162 ، والزهد الكبير للبيهقي ( 830 ) .
(2) انظر : الزهد لهناد ( 945 ) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/134 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35544 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/366 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/138 ، والمزي في " تهذيب الكمال " 6/170 ( 5569 ) .

الحديث السابع والعشرون

عَنِ النَّواسِ بنِ سَمعانِ - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ ، والإثْمُ : ما حَاكَ في نَفْسِكَ ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ ) . رواهُ مسلمٌ(1) .
وعَنْ وابِصَةَ بن مَعْبَدٍ قال : أتيتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالَ : ( جِئْتَ تَسأَلُ عن البرِّ والإثمِ ؟ ) قُلْتُ : نعَمْ ، قال : ( استَفْتِ قَلْبَكَ ، البرُّ ما اطمأنَّتْ إليهِ النَّفْسُ ، واطمأنَّ إليهِ القلبُ ، والإثمُ ما حَاكَ في النَّفسِ ، وتَردَّدَ في الصَّدْرِ ، وإنْ أفتاكَ النَّاسُ وأَفْتوكَ )(2) .
__________
(1) في " صحيحه " 8/6-7 ( 2553 ) ( 14 ) و( 15 ) .
وأخرجه : أحمد 4/182 ، والدارمي ( 2792 ) و( 2793 ) ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 295 ) و( 302 ) ، والترمذي ( 2389 ) ، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 2138 ) ، وابن حبان ( 397 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 980 ) و( 2023 ) ، والحاكم 2/14 ، والبيهقي 10/192 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7273 ) و( 7994 ) ، والبغوي
( 3494 ) من حديث النواس بن سمعان ، به .
(2) أخرجه : أحمد 4/228 ، والدارمي ( 2533 ) ، وأبو يعلى ( 1586 ) و( 1857 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2139 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 403 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/24 و6/255 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/292 – 293 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 65/259 من حديث وابصة بن معبد ، به .

قال الشيخ - رحمه الله - : حديثٌ حسنٌ رويناه في " مسنَدَي " الإمامين أحمد والدَّارميِّ(1) بإسنادٍ حسنٍ .
أما حديث النوَّاس بن سمعان ، فخرَّجه مسلم من رواية معاوية بن صالح ، عن
عبد الرحمان بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن النوَّاس ، ومعاوية وعبد الرحمان وأبوه تفرَّد بتخريج حديثهم مسلم دونَ البخاري(2) .
__________
(1) كتاب الدارمي طبع طبعات عديدة ، وأغلب تلك الطبعات باسم " سنن الدارمي " وطبع طبعة أخرى باسم " المسند الجامع " ، وذكر المحقق أنَّه هكذا وجد اسم الكتاب على النسخ الخطية التي اعتمد عليها وذكر أنَّ التسمية التي أطلقها الدارمي على كتابه هي المسند من باب أنَّ أحاديثه مروية بالإسناد كما يقال "مسند أبي عوانة"، وهو مرتب على أبواب الفقه ، وكذا "مسند السراج" ، والبخاري ومسلم وابن خزيمة وضعوا المسند من ضمن عناوين كتبهم للمعنى الآنف الذكر ، والله أعلم .
(2) تقدم تخريجه .

وأما حديث وابصة فخرَّجه الإمام أحمد من طريق حماد بنِ سلمة ، عن الزبير ابن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله بن مِكرز ، عن وابصة بن معبد ، قال : أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريدُ أنْ لا أدع شيئاً من البرِّ والإثم إلاَّ سألتُ عنه ،
فقال لي : ( ادنُ يا وابصةُ ) ، فدنوتُ منه ، حتّى مست ركبتي ركبتَه ، فقال
: ( يا وابصة أُخبرك ما جئتَ تسأل عنه أو تسألني ؟ ) قلت : يا رسول الله
أخبرني ، قالَ : ( جئتَ تسألني عن البرِّ والإثم ) ، قلت : نعم ، فجمع
أصابعَه الثلاث ، فجعل يَنكُتُ بها في صدري ، ويقول : ( يا وابصة ،
استفتِ نفسَك ، البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلب ، واطمأنَّت إليه النفسُ ، والإثمُ :
ما حاك في القلبِ ، وتردَّد في الصَّدر وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوك )(1) . وفي
روايةٍ أخرى للإمام أحمد(2) أنَّ الزبيرَ لم يسمعه من أيوب ، قال : وحدَّثني
جلساؤه ، وقد رأيتُه ، ففي إسناد هذا الحديث أمران يُوجب كلٌّ منهما
ضعفه :
أحدهما : انقطاعه بين الزبير وأيوب ؛ فإنَّه رواه عن قوم لم يسمعهم .
والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه ابن حبان أيضاً ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرَّجه الإمام أحمد(3) أيضاً من رواية معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعتُ وابصةَ ، فذكر الحديث مختصراً ، ولفظه : قال : ( البرُّ ما انشرحَ له صدُرك ، والإثمُ ما حاك في صدرك ، وإنْ أفتاك عنه الناس ) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) في " مسنده " 4/228 .
(3) في " مسنده " 4/227 من طريق أبي عبد الله السُّلَمي ، عن وابصة بن معبد ، به .
... وقد وقع في " مسند الإمام أحمد " - رحمه الله - : ( أبو عبد الرحمان السلمي ) بدل ( أبو عبد الله السلمي ) ، وانظر : تعجيل المنفعة ( 331 ) ، وأطراف المسند 5/438.

والسُّلمي هذا : قال عليُّ بن المديني : هو مجهول .
وخرَّجه البزار(1) والطبراني(2) وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار(3) : لا نعلم أحداً سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمداً . قال عبد الغني ابن سعيد الحافظ : لو قال قائلٌ : إنَّه محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعتُ ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصورُ في الزَّندقة ، وهو مشهورٌ بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصةَ (4) ، والله أعلم .
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعدِّدة وبعضُ طرقه جيدة ، فخرَّجه الإمامُ أحمدُ(5) ، وابن حبان في " صحيحه "(6) من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جدِّه ممطور ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رجلٌ :
يا رسولَ الله ، ما الإثم ؟ قالَ : ( إذا حاك في صدرك شيءٌ فدعه ) وهذا إسنادٌ جيِّدٌ على شرط مسلم ، فإنَّه خرَّج حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعَه منه ، وإنْ أنكره ابنُ معين .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 183 ) من طريق أبي عبد الله الأسدي ، عن وابصة بن معبد ، به .
(2) في " الكبير " 22/ ( 402 ) .
(3) كما في " كشف الأستار " عقيب ( 183 ) .
(4) انظر : تهذيب الكمال 6/322 ( 5832 ) .
(5) في " مسنده " 5/251 و252 و255 – 256 .
(6) الإحسان ( 176 ) .

وخرَّج الإمام أحمد(1) من رواية عبد الله بن العلاء بن زَبْر : سمعتُ مسلم بن مِشْكَم قال : سمعتُ أبا ثعلبة الخشني يقول : قلتُ : يا رسول الله ، أخبرني ما يحلُّ لي و ما يحرُمُ عليَّ ، فقال : ( البرُّ ما سَكَنَتْ إليه النَّفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثم ما لم تسكن إليه النَّفسُ ، ولم يطمئنَّ إليه القلب ، وإنْ أفتاك المفتون ) ، وهذا أيضاً إسنادٌ جيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور(2) ، وخرَّجه البخاري(3) ، ومسلم بن مِشْكَم ثقةٌ مشهورٌ أيضاً(4) .
وخرَّج الطبراني(5) وغيرُه بإسنادٍ ضعيفٍ من حديث واثلة بن الأسقع قال : قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أفتني عن أمرٍ لا أسألُ عنه أحداً بعدَك ، قال : ( استفت نفسَك ) ، قلت : كيف لي بذاك ؟ قالَ : ( تدعُ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك ، وإنْ أفتاك المفتون ) ، قلتُ : وكيف لي بذاك ؟ قال : ( تضعُ يدكَ على قلبك ، فإنَّ الفؤاد يسكن للحلالِ ، ولا يسكن للحرام ) . ويُروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ضعيفٍ أيضاً .
__________
(1) في " مسنده " 4/194 .
(2) انظر : تهذيب الكمال 4/233 – 234 ( 3458 ) .
(3) أي : خرج له البخاري في " صحيحه " ، وانظر : التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الصحيح 2/844 ( 848 ) للباجي .
(4) انظر : تهذيب الكمال 7/105 – 106 ( 6538 ) .
(5) في " الكبير " 22/( 193 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 7492 ) من حديث واثلة بن الأسقع ، به .
انظر : مجمع الزوائد 10/294 .

وروى ابنُ لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب(1) : أنَّ سويدَ بن قيسٍ أخبره عن
عبد الرحمان بن معاوية : أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ما يَحِلُّ
لي مما يحرمُ عليَّ ؟ وردَّدَ عليهِ ثلاث مِرارٍ ، كلَّ ذَلِكَ يسكتُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قالَ
: ( أين السائل ؟ ) فقالَ : أنا ذا يا رسول الله ، فقالَ بأصابِعه : ( ما أنكر
قلبُك فدعه ) . خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه "(2) ، وقال : لا
أدري عبد الرحمان بن معاوية سمع من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا
الحديث .
قلتُ : هو عبد الرحمان بن معاوية بن حديج جاء منسوباً في كتاب " الزهد " لابن المبارك ، وعبد الرحمان هذا تابعيٌّ مشهور ، فحديثه مرسل .
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : الإثم حوازُّ القلوب(3) ، واحتجَّ به
الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمان ، عن
أبيه ، قال : قال عبد الله : إياكم وحزَّاز القلوب ، وما حزَّ في قلبك من شيءٍ فدعه(4) .
وقال أبو الدرداء : الخير في طمأنينة ، والشرُّ في ريبة(5) .
وروي عن ابن مسعود من وجهٍ منقطعٍ أنَّه قيل له : أرأيتَ شيئاً يَحيكُ في
صدورنا ، لا ندري حلال هو أم حرامٌ ؟ فقال : إيَّاكم والحَكَّاكَاتِ ، فإنَّهنَّ الإثم(6) ، والحَزُّ والحكُّ متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثَّر في القلب ضِيقاً وحَرجاً ، ونُفوراً وكراهة(7) .
__________
(1) انظر : تهذيب الكمال 8/118 .
(2) نسبة السيوطي في " الجامع الكبير " 2/561 إلى البغوي في " معجمه " وذكر قوله .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 824 ) عن عبد الرحمان بن معاوية ، مرسلاً .
(3) سبق تخريجه .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/134 – 135 .
(5) سبق تخريجه .
(6) ذكره ابن الأثير في " النهاية " 1/418 .
(7) انظر : النهاية 1/377 و418 .

فهذه الأحاديثُ اشتملت على تفسير البرِّ والإثم ، وبعضُها في تفسير الحلال
والحرام ، فحديثُ النَّوَّاس بن سمعان فسَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه البرَّ بحُسن الخلق(1) ، وفسَّره في حديث وابصة وغيره بما اطمأنَّ إليه القلب والنفس(2) ،كما فسَّر الحلالَ بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنَّما اختلف تفسيرُه للبر ؛ لأنَّ البرَّ يُطلق باعتبارين معينين :
أحدُهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خصَّ بالإحسانِ إلى الوالدين ، فيقال : برُّ الوالدين ، ويطلق كثيراً على الإحسان إلى الخلق عموماً ، وقد صنّف ابنُ المبارك كتاباً سماه كتاب " البر والصلة "، وكذلك في "صحيح البخاري" و" جامع الترمذي " : كتاب " البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموماً ، ويقدَّم فيه برُّ الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أنَّه قال : يا رسول الله مَنْ أبرُّ ؟ قالَ : ( أمك ) ، قالَ : ثُمَّ من ؟ قال : ( ثم أباك ) ، قال : ثم من ؟ قالَ : ( ثُمَّ الأقرب فالأقرب )(3) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20121 ) ، وأحمد 5/3 و5 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 3 ) ، وأبو داود ( 5139 ) ، والترمذي ( 1897 ) من طرق عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، به ، ورواية بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده من شرط الحسن ، لذا قال الترمذي : ( حديث حسن ) .

ومن هذا المعنى : قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الحجُّ المبرور ليس لهُ جزاءٌ إلاَّ الجنَّة )(1) . وفي " المسند "(2) : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن برِّ الحجِّ ، فقال : ( إطعامُ الطَّعام ، وإفشاءُ السلام ) ، وفي روايةٍ أخرى : ( وطيبُ الكلام )(3) .
وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول : البرُّ شيءٌ هيِّنٌ : وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ(4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/2 ( 1773 ) ، ومسلم 4/107 ( 1349 ) ( 437 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) المسند 3/325 و334 ، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن ثابت .
(3) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 5325 ) ، والحاكم 1/483 ، من حديث جابر بن
عبد الله ، به ، ورواية الطبراني فيها عبد الله بن محمد العبادي وهو ضعيف ورواية الحاكم فيها أيوب بن سويد الرملي ، وقد تفرد بهذا الحديث كما نص عليه البيهقي في " السنن الكبرى " 5/262 ، وهو ضعيف وقد ساقه ابن عدي من ضمن مناكيره 2/31 .
(4) أخرجه : الخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 23 – 24 .

وإذا قرن البرُّ بالتَّقوى ، كما في قوله - عز وجل - : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (1) ، فقد يكون المرادُ بالبرِّ معاملةَ الخلق بالإحسّان ، وبالتَّقوى : معاملة الحقِّ بفعل طاعته ، واجتناب محرَّماته ، وقد يكونُ أُريد بالبرِّ : فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرَّمات(2) ، وقوله تعالى : { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ } (3)قد يُراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظُلم الخلق ، وقد يُراد بالإثم : ما هو محرَّم في نفسه كالزِّنى ، والسرقة ، وشُرب الخمر ، وبالعُدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نُهي عنه ممَّا جنسُه مأذونٌ فيه ، كقتل مَن أُبيح قتلُه لِقِصاصٍ ، ومن لا يُباح ، وأخذُ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك(4) .
__________
(1) المائدة : 2 .
(2) انظر : تفسير البغوي 2/9 ، وتفسير ابن الجوزي 2/277 ، وتفسير ابن كثير : 572 ( ط . دار ابن حزم ) .
(3) المائدة : 2 .
(4) انظر : تفسير البغوي 2/9 ، وتفسير ابن الجوزي 2/277 ، وتفسير ابن كثير : 572 ( ط . دار ابن حزم ) .

والمعنى الثاني من معنى البرِّ : أنْ يُراد به فعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة(1) ، كقوله تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (2)، وقد رُوي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية(3) .
فالبرُّ بهذا المعنى يدخل فيه جميعُ الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبُّه الله ، وإقام الصَّلاة ، وإيتاء
الزّكاة ، والوفاء بالعهد ، والصَّبرِ على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطَّاعات ، كالصَّبر عِند لقاءِ العدوِّ .
__________
(1) تفسير ابن كثير : 572 ( ط . دار ابن حزم ) .
(2) البقرة : 177 .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/287 ( 1539 ) .

وقد يكون جوابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث النوَّاس(1) شاملاً لهذه الخصال
كلِّها ؛ لأنَّ حُسنَ الخُلق قد يُراد به التخلُّقُ بأخلاق الشريعة ، والتأدُّبُ بآداب الله التي أدَّبَ بها عبادَه في كتابه ، كما قال تعالى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (2)، وقالت عائشة : كان خُلُقُه - صلى الله عليه وسلم - القرآن(3) ، يعني : أنَّه يتأدَّب بآدابه ، فيفعل أوامرَه ويجتنب نواهيه ، فصار العملُ بالقرآن له خُلقا كالجبلَّة والطَّبيعة لا يُفارِقُه ، وهذا أحسنُ الأخلاق وأشرفُها وأجملُها(4) .
وقد قيل : إنَّ الدِّين كلَّه خُلُقٌ . وأما في حديث وابصة ، فقال : ( البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلبُ ، واطمأنت إليه النفس )(5) ، وفي رواية : ( ما انشرح إليه
الصَّدرُ )(6) ، وفسر الحلالَ بنحوِ ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره ، وهذا يدلُّ على أنَّ الله فطرَ عبادَه على معرفة الحق ، والسكون إليه وقبوله ، وركَّز في الطباع محبةَ ذلك ، والنفور عن ضدِّه .
وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمار : ( إني خلقتُ عبادي حنفاءَ مسلمين ، فأتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم ، فحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم ، وأمَرَتهُم أنْ يُشرِكوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً )(7).
وقوله : ( كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ ، فأبواه يهوِّدانه ، وينصِّرانه ، ويمجِّسانه ، كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء ، هل تُحِسُّونَ فيها من جدعاء ؟ ) قال أبو هريرة : اقرؤوا إنْ شئتم : { فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ } (8)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) القلم : 4 .
(3) سبق تخريجه .
(4) انظر : حاشية السندي على سنن النسائي 3/200 .
(5) سبق تخريجه .
(6) سبق تخريجه .
(7) أخرجه : مسلم 8/158 ( 2865 ) ( 63 ) عن عياض بن حِمَار المجاشعي ، به .
(8) الروم : 30 . =

= ... والحديث أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20087 ) ، وأحمد 2/233 و275 و315 ، والبخاري 1/118 ( 1358 ) و( 1359 ) و8/153 ( 6599 ) ، ومسلم 8/52
( 2658 ) ( 22 ) و8/53 ( 2658 ) ( 24 )، وابن حبان ( 130 ) ، والبيهقي 6/203 ، والخطيب في " تأريخه " 3/308 ، والبغوي ( 84 ) من حديث أبي هريرة ، به .

.
ولهذا سمَّى الله ما أمرَ به معروفاً ، وما نهى عنه منكراً ، فقال : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } (1)، وقال في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } (2)، وأخبر أنَّ قلوب المؤمنين تطمئنُّ بذكره ، فالقلبُ الذي دخله نورُ الإيمان ، وانشرح به وانفسح ، يسكن للحقِّ ، ويطمئن به ويقبله ، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله(3) .
قال معاذ بن جبل : أحذركم زيغةَ الحكيم ، فإنَّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يُدريني أنَّ الحكيمَ قد يقول كلمة الضلالة ، وأنَّ المنافق يقول كلمةَ الحقِّ ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه ، فإنَّه لعلَّه أنْ يُراجع ، وتَلَقَّ الحقَّ إذا سمعته ، فإنَّه على الحقِّ نوراً ، خرَّجه أبو داود(4) . وفي روايةٍ له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيمِ حتَّى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟(5)
__________
(1) النحل : 90 .
(2) الأعراف : 157 .
(3) انظر : تفسير البغوي 3/20 ، وتفسير ابن كثير : 1012 ( ط . دار ابن حزم ) .
(4) في " السنن " ( 4611 ) . وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/232 – 233 عن معاذ بن جبل ، به .
(5) أخرجه : أبو داود ( 4611 ) عن معاذ بن جبل ، به .

فهذا يدل على أنَّ الحقَّ والباطل لا يلتبِسُ أمرُهما على المؤمن البصير ،
بل يعرف الحقَّ بالنُّور الذي عليه ، فيقبله قلبُه ، ويَنفِرُ عن الباطل ، فينكره ولا
يعرفه ، ومِنْ هذا المعنى قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( سيكون في آخر الزَّمان قوم يحدِّثونَكم
بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإيَّاكم وإياهم )(1) ، يعني : أنَّهم يأتون بما
تستنكره قلوبُ المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : ( أنتم ولا آباؤكم ) إشارةٌ
إلى أنَّ ما استقرَّت معرفتُه عند المؤمنين مع تقادُمِ العهد وتطاول الزَّمان ، فهو الحقُّ ، وأنَّ ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر ، فلا خيرَ فيه .
فدلَّ حديثُ وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلبُ ، وانشرح إليه الصَّدرُ ، فهو البرُّ والحلالُ ، وما كان خلافَ ذلك ، فهو الإثم والحرام .
وقوله في حديث النوَّاس : ( الإثم ما حاك في الصدر ، وكرِهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس )(2) إشارةٌ إلى أنَّ الإثم ما أثَّر في الصدر حرجاً ، وضيقاً ، وقلقاً ، واضطراباً ، فلم ينشرح له الصَّدرُ(3) ، ومع هذا ، فهو عندَ النَّاسِ مستنكرٌ ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عندَ الاشتباه ، وهو ما استنكره النَّاس على فاعلِه وغير فاعله .
__________
(1) أخرجه : مسلم 1/9 ( 6 ) ( 6 ) ، وابن حبان ( 6766 ) ، والحاكم 1/103 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/550 ، والبغوي ( 107 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه : مسلم 1/9 ( 7 ) ( 7 ) بنحوه عن أبي هريرة ، به .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 8/289 .

ومن هذا المعنى قولُ ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسناً ، فهو عند الله
حسن ، وما رآه المومنون قبيحاً ، فهو عند الله قبيح(1) .
وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : ( وإنْ أفتاك المفتون ) يعني : أنَّ ما
حاك في صدر الإنسان ، فهو إثمٌ ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ ، فهذه مرتبةٌ
ثانيةٌ ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكراً عندَ فاعله دونَ غيره ، وقد جعله أيضاً إثماً ، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يُفتي
له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ ، فأمَّا ما كان مع المفتي به
دليلٌ شرعيٌّ ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه ، وإنْ لم ينشرح له
صدرُه ، وهذا كالرخص الشرعية ، مثل الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر
الصَّلاة في السَّفر ، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال ، فهذا لا عبرةَ به .
وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب منْ ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة(2) ، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم ، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه ، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم(3) .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 246 ) ، وأحمد 1/379 ، والبزار ( 1816 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8583 ) و( 8593 ) ، والحاكم 3/78 – 79 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/375 – 376 ، والبغوي ( 105 ) من قول عبد الله بن مسعود ، به .
انظر : مجمع الزوائد 1/177 – 178 .
(2) انظر : زاد المعاد 2/178 ، وفتح الباري 5/425 – 426 .
(3) أخرجه: البخاري 3/252 ( 2731 ) و( 2732 ) من طريق المسور بن مخرمة ومروان، به .

وفي الجملة ، فما ورد النصُّ به ، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1).
وينبغي أنْ يتلقى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا ، فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به ، والتَّسليمُ له ، كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (2) .
وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيءٌ ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلاَّ من يخبر عن رأيه ، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه ، بل هو معروفٌ باتباع الهوى ، فهنا يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره ، وإنْ أفتاه هؤلاء
المفتون(3).
وقد نصَّ الإمامُ أحمد على مثل هذا ، قال المروزي في كتاب "الورع" (4) : قلتُ لأبي عبد الله : إنَّ القطيعة أرفقُ بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيءٌ ، فقال : أمرُها أمرٌ قذر متلوِّث ، قلت : فتكره العملَ فيها ؟ قال : دع ذا عنك إنْ كان لا يقعُ في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، قال : قال ابن مسعود : الإثم حوازُّ القلوب(5) . قلت : إنَّما هذا على المشاورة ؟ قال : أيُّ شيءٍ يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطربَ عليَّ قلبي ، قال : الإثم حَوازُّ القلوب .
__________
(1) الأحزاب : 36 .
(2) النساء : 65 .
(3) انظر : البرهان في أصول الفقه 2/883 ، وتحفة المسؤول في مختصر منتهى السول 4/257 - 259 ، وإرشاد الفحول : 844 .
(4) الورع ( 156 ) .
(5) سبق تخريجه .

وقد سبق في شرح(1) حديث النُّعمان بن بشير : ( الحلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ
بيِّنٌ )(2) ، وفي شرح حديث الحسين بن علي : ( دع ما يريبُك إلى ما لا
يريبُك )(3) ، وشرح حديث : ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت )(4) شيءٌ يتعلَّقُ بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا .
وقد ذكر طوائفُ مِن فقهاءِ الشافعيَّة والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام : هل هو حجَّةٌ أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافاً بينهم ، وذكر طائفةٌ من أصحابنا أنَّ الكشفَ ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمِّ المتكلِّمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نصَّ أحمد هاهنا بالرُّجوع إلى حوازِّ القلوب ، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُه المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامُهم في ذلك لا يستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ ، بل إلى مجرَّد رأي وذوقٍ ، كما كان ينكرُ الكلامَ في مسائلِ الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي من غير دليلٍ شرعيٍّ .
فأمَّا الرُّجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حوازِّ القلوب ، فقد دلَّت عليه النُّصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف يُنكره الإمام أحمد بعدَ ذلك ؟ لا سيَّما وقد نصَّ على الرُّجوع إليه موافقةً لهم . وقد سبق حديث : ( إنَّ الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة )(5)، فالصدق يتميَّزُ من الكذب بسكونِ القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيعُ بن خثيم : إنَّ للحديث ضوءاً كضوء النَّهار تعرفه، وظلمةً كظُلمة الليل تُنكره(6) .
__________
(1) شرح ) سقطت من ( ص ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) سبق تخريجه .
(6) أخرجه : وكيع في " الزهد " ( 528 ) ، والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 2/564 ، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " : 316 ، والخطيب في " الكفاية " : 431 ، وابن الجوزي في " الموضوعات " 1/103 .

وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث ربيعة ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد ، عن أبي حميد وأبي أُسيد : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتُمُ الحديثَ عنِّي تعرفُهُ قلوبُكم ، وتلينُ له أشعارُكم وأبشارُكم ، وترَوْنَ أنَّه منكم قريبٌ ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتُم الحديث عنِّي تُنكره قلوبُكم ، وتَنفرُ منه أشعارُكم وأبشارُكم ، وترون أنَّه منكم بعيدٌ ، فأنا أبعدكم منه ) . وإسناده قد قيل : إنَّه على شرط مسلم ؛ لأنَّه خرَّج بهذا الإسناد بعينه حديثاً(2) ، لكن هذا الحديث معلول(3) ، فإنَّه رواه بُكير بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن عباس بن سهل ، عن أبيِّ بن كعب من قوله(4) ، قال البخاري : وهو أصحُّ .
__________
(1) في " مسنده " 3/497 و5/425 .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 1/295 ، والخطيب في " الكفاية " : 429 - 430 عن أبي حُميد أو أبي أُسيد ، به .
وأخرجه : البخاري في " التأريخ الكبير " 3/391 ( 1585 ) من طريق ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، به ، مرسلاً .
(2) صحيح مسلم 2/155 ( 713 ) ( 68 ) عن أبي حُميد أو أبي أُسيد ، به .
(3) انظر : العلل لابن أبي حاتم 1/446 – 447 ( 509 ) .
(4) انظر : التاريخ الكبير 5/259 ( 1349 ) .

وروى يحيى بنُ آدم ، عن ابن أبي ذئبٍ ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا حُدِّثتُم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدِّقُوا به ، فإنِّي أقولُ ما يُعرف ولا يُنكر ، وإذا حُدِّثتُم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإنِّي لا أقول ما يُنكر ولا يعرف )(1) ، وهذا الحديث معلولٌ أيضاً ، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب ، ورواه الحفَّاظ عنه ، عن سعيد مرسلاً ، والمرسل أصحُّ عند أئمة الحفَّاظ ، منهم : ابنُ معين والبخاري(2) وأبو حاتم الرازي(3) وابن خزيمة ، وقال : ما رأيتُ أحداً من عُلماء الحديث يُثبت وصلَه .
وإنَّما تُحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحَّتها - على معرفة أئمة الحديث الجهابذة النُّقَّاد ، الذين كَثُرت ممارستهم لكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام غيره ، ولحال رُواةِ الأحاديث ، ونَقَلَةِ الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإنَّ هؤلاء لهم نقدٌ خاصٌّ في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختصُّ الصيرفي الحاذق بمعرفة النُّقود ، جيِّدِها ورديئها ، وخالصها ومشوبِها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكنُ أنْ يُعبِّرَ عن سبب معرفته ، ولا يُقيم عليه دليلاً لغيره ، وآيةُ ذلك أنَّه يُعرَضُ الحديثُ الواحدُ على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتَّفقونَ على الجواب فيه مِنْ غير مواطأة .
__________
(1) أخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 3/391 ( 1585 ) .
(2) في " التاريخ الكبير " 3/391 ( 1585 ) من طريق إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، مرسلاً .
(3) في " العلل " 1/446 – 447 ( 509 ) .

وقد امتحن هذا منهم غيرَ مرَّةٍ في زمن أبي زُرعة وأبي حاتم ، فوُجِدَ الأمرُ على ذلك ، فقال السائل : أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهامٌ . قال الأعمش : كان إبراهيم النَّخعي صيرفياً في الحديث ، كنت أسمعُ مِنَ الرِّجالِ ، فأعرض عليه ما سمعته(1) . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أنْ يكونَ مثل الصيرفيّ الذي ينتقد الدراهم ، فإنَّ الدراهم فيها الزائفَ والبَهْرَجَ وكذلك الحديث(2) .
وقال الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنَعرِضُهُ على أصحابنا كما نَعرِضُ الدرهم الزَّائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا(3) .
وقيل لعبد الرحمان بن مهدي : إنَّك تقولُ للشيء : هذا صحيح وهذا لم
يثبت ، فعن من تقولُ ذلك ؟ فقال : أرأيتَ لو أتيتَ الناقد فأريتَه دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرَجٌ أكنت تسأله عن من ذلك ، أو كنت تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلمُ الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخُبْرة به(4) .
وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً ، وأنَّه قيل له : يا أبا عبد الله تقولُ : هذا الحديث منكر ، فكيف علمتَ ولم تكتب الحديث كلَّه ؟ قال : مثلنا كمثل ناقدِ العين لم تقع بيده العَيْنُ كلُّها ، وإذا وقع بيده الدينارُ يعلم أنَّه جيدٌ ، وأنَّه رديء .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/310 ، والحاكم في " معرفة علوم الحديث " : 16 ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/220 ، والمزي في " تهذيب الكمال " 1/145 ( 260 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/311 .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/312 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 37/129 .
وذكره : ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/103 .
(4) انظر : تهذيب الأسماء 1/284 .

وقال ابنُ مهدي : معرفة الحديث إلهام(1). وقال : إنكارُنا الحديث عند الجهال كهانةٌ (2).
وقال أبو حاتم الرازي(3) : مَثَلُ معرفة الحديث كمثل فصٍّ ثمنه مئة دينار ، وآخر مثله على لونه ، ثمنُه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقدِ أنْ يُخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأُ لنا أنْ نُخبِر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذِبٌ ، وأنَّ هذا حديثٌ مُنكرٌ إلا بما نعرفه ، قال : وتُعرَفُ جودةُ الدينارِ بالقياسِ إلى غيره ، فإنْ تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنَّه مغشوش ، ويُعلم جنسُ الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإنْ خالفه في المائيَّة والصَّلابة ، علم أنَّه
زجاج ، ويُعلَمُ صحةُ الحديث بعدالة ناقليه وأنْ يكون كلاماً يصلح مثلُه أنْ يكون كلامَ النبوّة ، ويُعرف سُقمه وإنكاره بتفرُّد من لم تصحَّ عدالته بروايته ، والله
أعلم .
وبكلِّ حالٍ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعلل الحديث أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث جداً ، وأوَّل من اشتهر بالكلام(4) في نقد الحديث ابنُ سيرين ، ثم خلفه أيوبُ السَّختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عن شعبة يحيى القطّان وابنُ مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعليُّ بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثلُ البخاري وأبي داود وأبي زُرعة وأبي حاتم(5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " 1/195 .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " 1/196 .
(3) في " الجرح والتعديل " 1/84 ، و" العلل " 1/196 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : الجرح والتعديل 1/314 .

وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قلَّ من يفهم هذا ، وما أعزَّه إذا دفعت هذا عن واحد أو اثنين ، فما أقلَّ من تجد من يُحسن هذا(1) ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يُحسن هذا - يعني : أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا(2) . وقيل له بعدَ موت أبي زُرعة : تعرف اليوم أحداً يعرف هذا ؟ قالَ : لا(3) .
وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم : النَّسائي والعقيلي وابنُ عدي والدارقطني ، وقلَّ من جاء بعدهم ممَّن هوَ بارع في معرفة ذَلِكَ حتَّى قالَ أبو الفرج بن الجوزي في أوَّل كتابه " الموضوعات "(4) : قد قلَّ من يفهم هذا بل عُدِمَ ، والله أعلم .
__________
(1) ذكره : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/287 .
(2) ذكره : ابن أبي حاتم في" الجرح والتعديل " 1/287 – 288 .
(3) ذكره : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/314 .
(4) الموضوعات 1/31 .

الحديث الثامن والعشرون
عَن العِرْبَاض بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ : وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعِظَةً ، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ ، فَقُلْنا : يَا رَسول الله ، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا ، قال : ( أوصيكُمْ بتَقوى الله ، والسَّمْعِ والطَّاعةِ ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً ، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ
الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ ) رواه أبو داود والتِّرمذيُّ (1) ، وقال : حديثٌ حَسَنٌ
صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (3) من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، زاد أحمد في روايةٍ له ، وأبو داود : وحُجْر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العِرباض ابن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين (4) ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلمٌ من جهة إنكارٍ منهما له ، وزعم الحاكمُ (5) أنَّ سببَ تركهما له أنَّهما توهّما أنَّه ليس له راوٍ عن خالد بن معدان غيرَ ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضاً بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .
__________
(1) السنن ( 4607 ) ، والجامع الكبير ( 2676 ) .
(2) في " مسنده " 4/146 .
(3) في " سننه " ( 43 ) و( 44 ) .
(4) قال الحافظ ابن كثير في " تحفة الطالب " : 134 – 135 ( 46 ) : ( وصححه أيضاً الحافظ أبو نعيم الأصبهاني . وقال شيخ الإسلام الأنصاري : هو أجود في أهل الشام ، وأحسنه ) .
(5) في " المستدرك " 1/96 .

قلتُ : ليس الأمرُ كما ظنَّه ، وليس الحديثُ على شرطهما ، فإنَّهما لم يخرِّجا
لعبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، ولا لحُجْرٍ الكلاعي شيئاً ، وليسا ممَّن اشتهر بالعلم والرواية .
وأيضاً ، فقد اختُلِفَ فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدَّم ، وروي عنه عن ابن أبي بلال ، عن العِرباض ، وخرَّجه الإمام أحمد (1) مِنْ هذا الوجه أيضاً ، وروي أيضاً عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، عن العِرباض ، خرَّجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه (2) ، وزاد في حديثه : ( فقد تركتُكم على البيضاءِ ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ ) ، وزاد في آخر الحديث : ( فإنَّما المؤمن كالجمل الأنِفِ ، حيثما قيدَ انقاد ) .
وقد أنكر طائفةٌ مِنَ الحُفَّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجةٌ فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرَّجه
الحاكم (3) ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : ( فإنَّ المؤمن كالجملِ الأنِفِ ، حيثما قيد انقاد ) .
__________
(1) في " مسنده " 4/127 .
(2) المسند 4/126 ، والسنن ( 43 ) .
(3) في " المستدرك " 1/96 .

وخرَّجه ابن ماجه (1) أيضاً من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى ابن أبي المطاع ، سمعتُ العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متَّصلٌ ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرَّح فيه بالسَّماع ، وقد ذكر البخاري في
" تاريخه " (2) : أنَّ يحيى بن أبي المطاع سمع من العِرباض اعتماداً على هذه الرواية ، إلاَّ أنَّ حفَّاظ أهلِ الشَّام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلطٌ ، وممَّن ذكر ذلك أبو زرعة الدِّمشقي ، وحكاه عن دُحيم (3) ، وهؤلاء أعرفُ بشيوخهم من غيرهم(4) ، والبخاري - رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد رُوي عن العِرباض من وجوه أخر ، ورُوي من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلاَّ أنَّ إسنادَ حديثِ بُريدة لا يثبت، والله أعلم .
فقولُ العِرباض : وعظنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : ( بليغة ) ، وفي روايتهم أنَّ ذلك كانَ بعد صلاةِ الصُّبح ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : { وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } (5) ، وقال : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (6) ، ولكنَّه كان لا يُديم وعظهم ، بل يتخوّلُهُم به أحياناً ، كما في " الصحيحين " (7)
__________
(1) في " سننه " ( 42 ) .
(2) التاريخ الكبير 8/188 ( 12449 ) .
(3) قول دحيم ذكره ابن حجر في " التقريب " ( 7649 ) .
(4) من غيرهم ) سقطت من ( ص ) .
(5) النساء : 63 .
(6) النحل : 125 .
(7) صحيح البخاري 1/27 ( 68 ) و8/109 ( 6411 )، وصحيح مسلم 8/142 ( 2821 ) ( 82 ) و( 83 ) .

وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 255 ) ، والحميدي ( 107 ) ، وابن أبي شيبة ( 26515 ) ، وأحمد 1/377 و378 و427 و465 ، والترمذي ( 2855 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 5889 ) ، وابن حبان ( 4524 ) من طرق ، عن أبي وائل ، بهذا الإسناد .

عن أبي وائل ، قال : كان عبدُ الله بنُ مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ ، فقال له رجل : يا أبا
عبد الرحمان ، إنَّا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولَودِدْنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ ، فقال : ما يمنعني أنْ أحدِّثكم إلا كراهةَ أنْ أُمِلَّكم ، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .
والبلاغةُ في الموعظة مستحسنةٌ ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها ، والبلاغةُ : هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها ، ولا يُطيلُها ، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ .
وفي " صحيح مسلم "(1) عن جابر بنِ سمُرة قال : كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاتُه قصداً ، وخطبته قصداً .
وخرَّجه أبو داود (2) ولفظه : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة ، إنَّما هو كلمات يسيرات .
وخرَّج مسلم (3) من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ ، فلما
نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفَّستَ ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ ، وقِصَر خُطبتِهِ ، مَئِنَّةٌ (4) من فقهه ، فأطيلوا الصَّلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإنَّ من البيان سحراً ) .
__________
(1) الصحيح 3/11 ( 866 ) ( 41 ) و( 42 ) .
(2) في " سننه " ( 1107 ) ، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب .
(3) في " صحيحه " 3/12 ( 869 ) ( 47 ) .
(4) قال البغوي في " شرح السنة " عقيب الحديث ( 1077 ) : ( أي علامة ، فهي على وزن مَفْعِلة ، والميم زائدة ، كقولهم : مخلفة ، ومعناه : أنَّ هذا مما يستدل به على فقه الرجل ) .

وخرَّج الإمام أحمد (1) وأبو داود (2) من حديث الحكم بن حزن ، قال :
شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه كلماتٍ خفيفاتٍ طيِّباتٍ مباركاتٍ .
وخرَّج أبو داود (3) عن عمرو بنِ العاص : أنَّ رجلاً قام يوماً ، فأكثر القولَ ، فقال عمرٌو : لو قَصَد في قوله ، لكان خيراً له ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد رأيتُ - أو أمرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القول ، فإنَّ الجواز هو خير ) .
وقوله : ( ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب ) هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عندَ سماع الذكر كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (4) ، وقال : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (5) ، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } (6) ، وقال : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللهِ } (7) ، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } (8) .
__________
(1) في " مسنده " 4/212 ، وإسناده حسن شهاب بن خراش وشعيب بن رزيق صدوقان حسنا الحديث .
(2) في " سننه " ( 1096 ) .
(3) في " سننه " ( 5008 ) ، وإسناده لا بأس به .
(4) الأنفال : 2 .
(5) الحج : 34 – 35 .
(6) الحديد : 16 .
(7) الزمر : 23 .
(8) المائدة : 83 .

وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة ، كما قال جابر : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا
خطبَ ، وذكر الساعةَ ، اشتدَّ غضبه ، وعلا صوتُه ، واحمرَّت عيناه ، كأنَّه منذرُ جيش يقول : صبَّحَكم ومسَّاكم . خرَّجه مسلم بمعناه (1) .
وفي " الصحيحين "(2) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى الظُّهرَ ، فلمَّا سلم ، قام على المنبر ، فذكر السَّاعة ، وذكر أنَّ بَيْنَ يديها أموراً عظاماً ، ثم قال : ( من أحبَّ أنْ يسألَ عن شيءٍ فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتُكم به في مقامي هذا ) ، قال أنس : فأكثر النَّاسُ البكاءَ ، وأكثر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول : ( سلوني ) ، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي
يا رسول الله ، قال : ( النار ) ، وذكر الحديث .
وفي " مسند الإمام أحمد "(3) عن النُّعمان بن بشير : أنَّه خطب ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يقول : ( أنذرتكم النَّار ، أنذرتكم النَّار ) حتّى لو أنَّ رجلاً كان بالسُّوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه .
__________
(1) في " صحيحه " 3/11 ( 867 ) ( 43 ) و( 44 ) .
(2) صحيح البخاري 1/143 ( 540 ) و8/96 ( 6362 ) 9/118 ( 7294 ) ، وصحيح مسلم 7/92 ( 2359 ) ( 134 ) و7/93 ( 2359 ) و( 136 ) و7/94 ( 2359 )
( 137 ) .
(3) المسند 4/268 و272، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب فهو صدوق حسن الحديث .

وفي " الصحيحين "(1) عن عدي بن حاتمٍ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :
( اتقوا النَّار ) ، قال : وأشاح ، ثم قال : ( اتقوا النَّار ) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنَّه ينظر إليها ، ثم قال : ( اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ ، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبةٍ ) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث عبد الله بن سلمة ، عن عليٍّ ، أو عنِ الزُّبير
ابن العوّام ، قال : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا ، فيذكِّرُنا بأيَّامِ الله ، حتّى يُعرَف ذلك في وجهه ، وكأنه نذيرُ قوم يُصبِّحهم الأمرُ غُدوةً ، وكان إذا كان حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكاً حتَّى يرتفع عنه .
وخرَّجه الطبراني والبزارُ (3) من حديث جابر ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الوحيُّ ، أو وعظَ ، قلت : نذير قوم أتاهُم العذابُ ، فإذا ذهبَ عنه ذلك ، رأيت أطلقَ الناس وجهاً ، وأكثَرهم ضَحِكاً ، وأحسنهم بِشراً - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) صحيح البخاري 8/14( 6023 ) و8/140 ( 6540 ) و8/144 ( 6563 ) ، وصحيح مسلم 3/86 ( 1016 ) ( 68 ) .
(2) في " مسنده " 1/167 ، وفي سنده عبد الله بن سلمة وحديثه من قبيل الحسن ، والله أعلم .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 2477 ) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9/17 ، وقال
: ( رواه البزار وإسناده حسن ) .

وقولهم : ( يا رسول الله كأنَّها موعظةُ مودِّع ، فأوصنا ) يدلُّ على أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها ، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ ، فإنَّ المودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيرُه في القول والفعل ، ولذلك أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُصلي صلاة مودِّعٍ (1)
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/412 ، وابن ماجه ( 4171 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3987 )
و( 3988 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ فقال : عِظني وأوجز ، فقال : ( ثم إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً واجمع الإياس مما في يدي الناس ) بلفظ أحمد .

وورد أيضاً عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك .

؛ لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته ، أتقنها على أكمل وجوهها . ولرُبما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريضٌ في تلك الخطبة بالتَّوديع ، كما عرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع ، وقال : ( لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) (1) ، وطفق يودِّعُ الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، ولمّا رجع من حجِّه إلى المدينة ، جمع الناس بماءٍ بين مكة والمدينة يُسمى خُمَّاً(2) ، وخطبهم ، فقال : ( يا أيُّها النّاس ، إنّما أنَا بَشرٌ يوشِكُ أنْ يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب ) ثم حضَّ على التمسُّك بكتابِ الله ، ووصَّى بأهل بيته ، خرَّجه مسلم (3) .
وفي " الصحيحين " (4) ولفظه لمسلم عن عقبةَ بنِ عامرٍ ، قال : صلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحدٍ ، ثم صَعِدَ المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات ، فقال
: ( إنِّي فَرَطُكُم على الحوض ، فإنَّ عَرْضَهُ ، كما بين أيلةَ إلى الجُحفةِ ، وإنِّي لست أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أنْ تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم ) . قال عقبة : فكانت آخرَ ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر .
وخرَّجه الإمام أحمد (5)
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/318 ، ومسلم 4/79 ( 1297 ) ( 310 ) ، وأبو داود ( 1970 ) ، والترمذي ( 886 ) ، والنسائي 5/270 ، وابن خزيمة ( 2877 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 2995 ) و( 2997 ) ، والبيهقي 5/125 و130 من حديث جابر بن
عبد الله ، به . والروايات متباينة اللفظ متفقة المعنى .
(2) في ( ص ) : ( جمع الناس بين مكة والمدينة في وادٍ يقال له : غدير خم ) .
(3) في " صحيحه " 7/122 ( 2408 ) ( 36 ) .
(4) صحيح البخاري 2/114 ( 1344 ) و4/240 ( 3596 ) و5/132 ( 4085 ) و8/112
( 6426 ) و8/151 ( 6590 ) ، وصحيح مسلم 7/67 ( 2296 ) ( 30 ) و( 31 ) .
(5) في " مسنده " 4/154 .

وأخرجه : البخاري 5/120 ( 4042 ) بهذا اللفظ من حديث عقبة بن عامر .

ولفظه : صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين كالمودِّع للأحياء والأموات ، ثم طلَعَ المنبرَ ، فقال : ( إنِّي فرطُكم ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدَكم الحوضُ ، وإنِّي لأنظرُ إليه ، ولستُ أخشى عليكم الكُفر ، ولكن الدُّنيا أنْ تنافسوها ) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمد النَّبيُّ الأُميُّ - قال ذلك ثلاث مرَّات - ولا نبيَّ بعدي ، أُوتيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتمَه وجوامعه ، وعلمت كم خزنةُ النَّار ، وحملةُ العرش ، وتَجَوَّزَ لي ربِّي وعُوفيتُ وعُفِيَتْ أُمَّتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم ، فإذا ذُهِبَ بي ، فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرِّموا
حرامه ) .
فلعلَّ الخطبة التي أشار إليها العرباضُ بنُ سارية في حديثه كانت بعضَ هذه
الخطب ، أو شبيهاً بها ممَّا يُشعر بالتوديع .
وقولهم : ( فأوصنا ) ، يعنون وصيةً جامعةً كافية، فإنَّهم لمَّا فهموا (2) أنَّه
مودِّعٌ ، استوصوهُ وصيَّةً ينفعهم التمسُّك بها بعدَه ، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسَّك
بها ، وسعادةٌ له في الدنيا والآخرة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسَّمع والطَّاعة ) ، فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة .
__________
(1) في " مسنده " 2/172 و212 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، ولجهالة عبد الرحمان بن مُريح .
(2) في ( ص ) : ( علموا ) .

أمَّا التَّقوى ، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها ، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ } (1) ، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ (2) .
وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين ، ففيها سعادةُ الدُّنيا(3) ، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر ، إنْ كان فاجراً عبدَ
المؤمنُ فيه ربَّه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله (4) .
وقال الحسن في الأمراء : هم يلونَ من أمورنا خمساً : الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود ، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم ، وإنْ جاروا وظلموا ، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون ، مع أنَّ - والله - إنَّ طاعتهم لغيظٌ ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ .
__________
(1) النساء : 131 .
(2) عند الحديث الثامن عشر .
(3) قبل هذا في ( ص ) : ( المسلمين في ) .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7508 ) .

وخرّج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال : أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه حينَ صلَّوا العشاء : ( أنِ احشُدوا ، فإنَّ لي إليكم حاجةً ) فلمّا فرغ مِنْ صلاةِ الصُّبح ، قال : ( هل حشدتم كما أمرتكم ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اعبدوا الله، ولا تُشركوا به شيئاً، هل عقلتم هذه؟ ) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: ( أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً . قلنا : نعم ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ) ثلاثاً ، ( هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً ، قلنا : نعم ، قال : فكنَّا نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلَّم كلاماً طويلاً ، ثم نظرنا في كلامه ، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كلَّه (1) .
وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً ، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية ، قالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع ، فسمعتُه يقول : ( يا أيُّها النَّاسُ ، اتَّقوا الله ، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله ) (2) .
وخرَّج مسلم منه ذكرَ السمعِ والطاعة (3) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7678 ) وإسناده ضعيف من أجل عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وأبيه .
(2) أخرجه : أحمد 6/402 ، والترمذي ( 1706 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) في " صحيحه " 4/79 ( 1298 ) ( 311 ) من حديث أم الحصين ، به .

وخرَّج الإمام أحمد والترمذي أيضاً من حديث أبي أُمامة ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجَّةِ الوداع ، يقول : ( اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكُم ، وصوموا شهركم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخُلُوا جنَّةَ
ربِّكم ) (1) ، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال : ( يا أيُّها النَّاس ، إنَّه لا نبيَّ بعدي ، ولا أمَّةَ بعدكم ) وذكر الحديث بمعناه (2) .
وفي " المسند " (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من لقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً ، وأدّى زكاةَ مالهِ طيِّبةً بها نفسُه محتسباً ، وسمع وأطاع ، فله الجنَّة ، أو دخل الجنَّة ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ ) ، وفي روايةٍ : ( حبشي ) هذا مما تكاثرت به الرِّوايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مما اطلع عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمرِ أُمته بعده ، وولاية العبيد عليهم ، وفي " صحيح البخاري " (4) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ، وإنِ استُعمِلَ عَلَيكُمْ عبدٌ حبشيٌّ ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/251 و262 ، والترمذي ( 616 ) ، وقال الترمذي : ( حسن
صحيح ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7535 ) و( 7617 ) و( 7622 ) وفي " مسند
الشاميين " ، له ( 543 ) و( 834 ) من حديث أبي أمامة ، به ، وهو صحيح .
(3) مسند الإمام أحمد 2/361 – 362 ، وإسناده ضعيف لجهالة المتوكل أو أبي المتوكل الراوي عن أبي هريرة ، وفي السند بقية بن الوليد مدلس ويدلس تدليس التسوية وقد عنعن .
(4) الصحيح 9/78 ( 7142 ) .

وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : إنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ أسمع وأطيع ، ولو كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف . والأحاديث في المعنى كثيرة جداً .
ولا يُنافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقي في النَّاس
اثنان ) (2) ، وقوله : ( النّاس تبعٌ لقريش ) (3) ، وقوله : ( الأئمة من قريش ) (4) ؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي ، ويشهد لذلك ما خَرَّجَه الحاكمُ (5) من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ
أبرارها ، وفجارُها أمراءُ فجارها ، ولكلٍّ حقٌّ ، فآتوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وإنْ أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً مجدعاً ، فاسمعوا له وأطيعوا ) وإسناده جيد ، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفاً (6) ، وقال الدارقطني (7) : هو أشبه .
__________
(1) الصحيح 2/120 ( 648 ) ( 240 ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1956 ) ، وأحمد 2/29 ، والبخاري 9/78 ( 7140 ) ، ومسلم 6/2 ( 1820 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1122 ) ، وابن حبان ( 6266 ) من حديث ابن عمر ، به .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 2380 ) ، وأحمد 2/242 ، والبخاري 4/217 ( 3495 ) ، ومسلم 6/2 ( 1818 ) ( 1 ) و( 2 ) ، والبيهقي 8/141 من حديث أبي هريرة ، به .
(4) أخرجه : الطيالسي ( 2133 ) ، وابن أبي شيبة ( 32388 ) ، وأحمد 3/129 و183 ، والنسائي في " الكبرى " ( 5942 ) ، وأبو يعلى ( 3644 ) و( 4032 ) ، والبيهقي 8/144 من حديث أنس بن مالك ، به ، وهو حديث صحيح .
(5) في " المستدرك " 4/75 – 76 .
(6) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1517 ) و( 1518 ) .
(7) في " العلل " 3/199 .

وقد قيل : إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه ، كما قال : ( مَن بنى مسجداً و لو كَمَفْحَصِ قطاة ) (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن يعِشْ منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ ) . هذا إخبارٌ
منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه ، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات ، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراقِ أُمَّته على بضعٍ وسبعين فرقة ، وأنَّها كلَّها في النَّار إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه ، وكذلك في هذا الحديث أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده ، والسُّنة : هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 4017 ) ، وابن حبان ( 1610 ) و( 1611 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/217 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 479 ) من حديث أبي ذر ، به ، وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه وتفصيل طرقه ورواياته في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه . =
= ... ومفحص القطاة : هو موضعها الذي تجثم فيه وتبيض ، كأنَّها تفحص عنه التراب ، أي : تكشفه . النهاية 3/415 .

وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات ؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم ، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسَّمع والطَّاعة لأُولي الأمر إشارةٌ إلى أنَّه لا طاعةَ لأولي الأمر إلاّ في طاعة اللهِ ، كما صحَّ عنه أنَّه قال : ( إنَّما الطَّاعةُ في المعروف ) (1) .
وفي " المسند " (2) عن أنس : أنَّ معاذَ بن جبل قال : يا رسول الله ، أرأيتَ
إنْ كان علينا أمراءُ لا يستنُّون بسنَّتك ، ولا يأخذون بأمركَ ، فما تأمرُ في أمرهم ؟
فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا طاعة لمن لم يُطع الله - عز وجل - ) .
وخرَّج ابن ماجه (3) من حديث ابن مسعود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ) فقلت : يا رسول الله إنْ أدركتُهم ، كيف أفعلُ ؟ قال : ( لا طاعة لمن عصى الله ) .
وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع سنَّته ، وسنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لوُلاةِ الأُمور عموماً دليلٌ على أنَّ سنةَ الخلفاء الراشدين متَّبعة ، كاتِّباع سنته ، بخلاف غيرهم من وُلاة الأمور .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/82 و94 ، والبخاري 5/203 ( 4340 ) و9/78 ( 7145 ) و9/109 ( 7257 ) ، ومسلم 6/15 ( 1840 ) ( 39 ) و6/116 ( 1840 ) ( 40 ) ، وأبو داود ( 2625 ) ، والنسائي 7/159 – 160 وفي " الكبرى " ، له ( 8722 ) من حديث علي بن أبي طالب ، به .
(2) مسند الإمام أحمد 3/213 ، وإسناده لا بأس به إن شاء الله .
(3) في " سننه " ( 2865 ) ، وإسناده حسن .

وفي " مسند الإمام أحمد " (1) و" جامع الترمذي " (2) عن حُذيفة قال : كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلوساً ، فقال : ( إني لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم ، فاقتدوا باللَّذيْنِ من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسَّكوا بعهدِ عمَّار ، وما حدَّثكم ابنُ مسعودٍ ، فصدقوه ) ، وفي روايةٍ : ( تمسَّكوا بعهد ابنِ أم عبدٍ ، واهتدوا بهدي عمار ) . فنصَّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من يُقتدى به مِنْ بعده ، والخُلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم : أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ ، فإنَّ في حديث سفينة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الخلافةُ بعدي ثلاثونَ سنة، ثم تكونُ ملكاً ) (3) ، وقد صححه الإمام أحمد ،
واحتجَّ به على خلافة الأئمة الأربعة (4) .
__________
(1) المسند 5/385 و399 و400 .
(2) الجامع الكبير ( 3663 ) و( 3799 م ) ، وقال في الموضع الثاني : ( هذا حديث حسن ) على أنَّه أشار إلى الاختلاف في إسناده .
(3) أخرجه : أحمد 5/220 و221 ، وأبو داود ( 4646 ) و( 4647 ) ، وابن أبي عاصم في
" الآحاد والمثاني " ( 113 ) و( 139 ) و( 140 ) وفي " السنة " ، له ( 1181 )
و( 1185 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1402 ) و( 1403 ) و( 1404 )
و( 1405 ) و( 1407 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8155 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 3349 ) ، وابن حبان ( 6657 ) و( 6943 ) .
(4) قال عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1400 ) : ( سمعت أبي يقول : … أما الخلافة فنذهب إلى حديث سفينة فنقول : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلفاء ) .

ونصَّ كثيرٌ من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضاً ، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد (1) من حديث حُذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوَّة ، فتكونُ ما شاءَ الله أنْ تكونَ ، ثم يرفعُها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثمَّ تكونُ مُلكاً عاضَّاً ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكونُ مُلكاً جبرية ، فتكون ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوَّة ) ثُمَّ سكت . فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه رجلٌ ، فحدَّثه بهذا الحديث ، فسُرَّ به ، وأعجبه .
وكان محمد بن سيرين أحياناً يسأل عن شيءٍ مِنَ الأشربةِ ، فيقول : نهى عنه إمامُ هدى : عمرُ بن عبد العزيز (2) .
وقد اختلف العلماء في إجماع الخُلفاء الأربعة : هل هو إجماعٌ ، أو حُجَّةٌ ، مع مخالفة غيرهم مِنَ الصَّحابة أم لا ؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد (3) ، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ، ولم يعتدَّ بمن خالف الخُلفاء ، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق .
__________
(1) في " مسنده " 4/273 ، وإسناده حسن .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/257 .
(3) انظر : البحر المحيط للزركشي 3/527 – 528 .

ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً ، ولم يُخالفه منهم أحدٌ ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة ، فهل يقدم قولُه على قول غيره ؟ فيه قولان أيضاً للعلماء ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة ، وكذا ذكره الخطابيُّ (1) وغيره ، وكلامُ أكثرِ السَّلفِ يدلُّ على ذلك ، خصوصاً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فإنَّه روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنَّه قال : ( إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبِه ) (2) . وكان عمرُ بن عبد العزيز يتَّبع أحكامَه ، ويستدلُّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه ) .
__________
(1) في " معالم السنن " 4/278 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 31986 ) ، وأحمد 2/401 ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 1250 ) ، وابن حبان ( 6889 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه أيضاً : ابن سعد في "طبقاته" 2/335 ، وأحمد 2/53 و95 وفي "فضائل الصحابة" ، له ( 313 ) ، والترمذي ( 3682 ) ، وابن حبان ( 6895 ) من حديث ابن عمر ، به ، وهو حديث قويٌّ بمجموع طرقه .

وقال مالكٌ : قال عمرُ بنُ عبد العزيز : سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمر من بعده سُنناً ، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله ، وقوَّةٌ على دين الله ، ليس لأحدٍ تبديلُها ، ولا تغييرُها ، ولا النظرُ في أمرٍ خالفَها ، مَنِ اهتدى بها ، فهو مهتدٍ ، ومن استنصر بها ، فهو منصور ، ومن تركها واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين ، ولاَّه اللهُ ما تولَّى ، وأصلاه جهنَّم ، وساءت مصيراً (1) . وحكى عبدُ الله بن عبد الحكم عن مالك : أنَّه قال : أعجبني عَزْمُ(2) عمرَ على ذلك ، يعني : هذا الكلام . وروى عبدُ الرحمان بنُ مهدي هذا الكلام عن مالكٍ ، ولم يحكِه عن عمرَ .
وقال خلَفُ بنُ خليفة : شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطبُ النَّاس وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنَّ ما سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه ، فهو وظيفةُ دينٍ ، نأخذ
به ، وننتهي إليه (3) . وروى أبو نعيم (4) من حديث عَرْزب الكندي : أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّه سيحدث بعدي أشياء ، فأحبها إلي أنْ تلزموا ما أحدث عمر ) .
وكان عليٌّ يتبع أحكامه وقضاياه ، ويقول : إنَّ عمرَ كان رشيدَ الأمر (5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 4/1067 ( 5969 ) ، والآجري في " الشريعة " : 48 .
(2) عزم ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/298 .
(4) في " معرفة الصحابة " ( 5567 ) و( 5568 ) من حديث عبد الملك بن عياض الجذامي أبي عفيف ، عن عرزب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال أبو حاتم الرازي : ( عبد الملك أبو عفيف مجهول ، وشيخه لا يعرف ) . انظر : الإصابة 3/442 ، وجامع المسانيد 9/102 .
(5) أخرجه : أبو عبيد في " الأموال " ( 273 ) ، وابن أبي شيبة ( 32004 ) ، وأحمد في
" فضائل الصحابة " ( 537 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1307 ) ، والبيهقي 10/120 .

وروى أشعثُ ، عن الشَّعبيِّ ، قال : إذا اختلف الناسُ(1) في شيءٍ ، فانظروا كيف قضى فيه عمرُ ، فإنَّه لم يكن يقضي في أمر لم يُقْضَ فيه قبلَه حتى
يُشاوِرَ (2) .
وقال مجاهد : إذا اختلف الناسُ في شيءٍ ، فانظروا ما صنع عمر ، فخُذُوا
به (3) . وقال أيوب ، عن الشعبيِّ : انظروا ما اجتمعت عليه أمَّةُ محمد ، فإنَّ الله لم يكن ليجمعها على ضلالةٍ ، فإذا اختلفت ، فانظروا ما صنعَ عُمَر بنُ الخطاب ، فخذوا به .
وسئل عكرمة عن أم الولد ، فقال : تعْتقُ بموت سيدها ، فقيل له : بأيِّ شيء تقولُ ؟ قال : بالقرآن ، قال : بأيِّ القرآن ؟ قال : { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (4) ، وعمرُ من أولي الأمر (5) .
وقال وكيع : إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيءٍ ، فهو الأمرُ .
وروي عن ابن مسعود أنَّه كان يحلف بالله : إنَّ الصِّراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر حتى دخل الجنَّة(6) .
__________
(1) الناس ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/320 .
(3) أخرجه : أحمد في " فضائل الصحابة " ( 349 ) .
(4) النساء : 59 .
(5) أخرجه: سعيد بن منصور في "سننه" ( 657 ) ( ط . دار الصميعي ) ، والبيهقي 10/346 .
(6) عبارة : ( حتى دخل الجنة ) لم ترد في ( ص ) .

وبكلِّ حالٍ ، فما جمع عمرُ عليه الصَّحابةَ ، فاجتمعوا عليه في عصره ، فلا شكَّ أنَّه الحقُّ ، ولو خالف فيه بعدَ ذلك مَنْ خالف ، كقضائه في مسائلَ مِنَ الفرائض كالعول ، وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أنَّ للأمِّ ثلث الباقي ، وكقضائه فيمن جامعَ في إحرامه أنَّه يمضي في نسكه وعليه القضاءُ والهديُ ، ومثل ما قضى به في امرأةِ المفقودِ ، ووافقه غيره مِنَ الخُلفاء أيضاً ، ومثلُ ما جمع عليه النَّاسَ في الطَّلاق الثَّلاث ، وفي تحريم متعة النِّساء ، ومثل ما فعله من وضع الدِّيوان ، ووضع الخراج على أرض العنوة ، وعقد الذِّمة لأهل الذِّمة بالشُّروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك .
ويشهد لصحة ما جمع عليه عمرُ الصحابة ، فاجتمعوا عليه ، ولم يُخالف في وقته قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتني في المنام أنزِعُ على قليبٍ ، فجاء أبو بكرٍ ، فنزع ذَنُوباُ أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعفٌ ، والله يغفر له ، ثم جاء ابنُ الخطَّاب ، فاستحالت غَرْباً ، فلم أرَ أحداً يفري فَرْيَهُ حتَّى رَوِيَ النَّاس ، وضربوا بعَطَنٍ ) ، وفي روايةٍ : ( فلم أرَ عبقرياً من النَّاسِ يَنْزِعُ نزعَ ابنِ الخطاب ) وفي روايةٍ : ( حتى تولَّى والحوض يتفجَّرُ ) (1) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/368 و450 ، والبخاري 5/7 ( 3664 ) و9/49 ( 7021 )
و( 7022 ) و9/170 ( 7475 ) ، ومسلم 7/112 ( 2392 ) ( 17 ) و7/113
( 2392 ) ( 17 ) و( 18 ) ، والنسائي في " فضائل الصحابة " ( 15 ) من حديث أبي هريرة ، به .

وهذا إشارةٌ إلى أنَّ عمرَ لم يمت حتَّى وضع الأمورَ مواضعها ، واستقامت الأمورُ ، وذلك لِطول مدَّته ، وتفرُّغه للحوادث ، واهتمامه بها ، بخلاف مدَّةِ أبي بكر فإنَّها كانت قصيرةً ، وكان مشغولاً فيها بالفُتوح ، وبعث البُعوث للقتال ، فلم يتفرَّغ لكثيرٍ من الحوادث ، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلُغه ، ولا يُرفَعُ إليه ، حتَّى رفعت تلك الحوادثُ إلى عمرَ ، فردَّ النَّاس فيها إلى الحقِّ وحملهم على
الصَّواب .
وأمَّا ما لم يجمع عمرُ النَّاسَ عليه ، بل كان له فيه رأيٌ ، وهو يسوِّغ لغيره أنْ يرى رأياً يُخالف رأيه ، كمسائل الجَدِّ مع الإخوة ، ومسألة طلاق البتة ، فلا يكونُ قولُ عمر فيه حجَّةً على غيره مِنَ الصَّحابة ، والله أعلم .
وإنَّما وصف الخلفاء بالراشدين ؛ لأنَّهم عرفوا الحقَّ وقَضَوا به ، فالراشدُ ضدُّ الغاوي ، والغاوي مَنْ عَرَفَ الحقَّ ، وعمل بخلافه .
وفي رواية ( المهديين ) ، يعني : أنَّ الله يهديهم للحقِّ ، ولا يُضِلُّهم عنه ، فالأقسام ثلاثة : راشدٌ وغاوٍ وضالٌّ ، فالراشد عرف الحقَّ واتَّبعه ، والغاوي : عرفه ولم يتَّبعه ، والضالُّ : لم يعرفه بالكليَّة ، فكلُّ راشدٍ ، فهو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامَّةً ، فهو راشد ؛ لأنَّ الهدايةَ إنَّما تتمُّ بمعرفة الحقِّ والعمل به أيضاً .
وقوله : ( عَضُّوا عليها بالنواجذ ) كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها ، والنواجذ : الأضراس .

قوله : ( وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور ، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة ) تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ ، وأكَّد ذلك بقوله : ( كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ) ، والمراد بالبدعة : ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه ، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه ، فليس ببدعةٍ شرعاً ، وإنْ كان بدعةً لغةً ، وفي " صحيح
مسلم " (1) عن جابر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته : ( إنَّ خيرَ الحديثِ
كتابُ الله ، وخير الهدي هديُ محمد ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكلُّ بدعة ضلالة ) .
وخرَّج الترمذي (2) وابن ماجه (3) من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ضعف (4) - عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسولُه ، كان عليه مثلُ آثام مَنْ عمل بها ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارهم شيئاً ) .
__________
(1) الصحيح 3/11 ( 867 ) ( 43 ) و( 44 ) و( 45 ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 2677 ) .
(3) في " سننه " ( 209 ) و( 210 ) .
(4) قال ابن حبان في " المجروحين " 2/221 : ( كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني … يروي عن أبيه ، عن جده بنسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب ، وكان الشافعي رحمه الله يقول : كثير بن عبد الله المزني ركن من أركان الكذب ) .

وخرَّج الإمام أحمد (1) من رواية غضيف بن الحارث الثُّمالي قال : بعث إليَّ عبدُ الملك بنُ مروان ، فقال : إنا قد جمعنا الناس على أمرين : رفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة ، والقصص بعد الصُّبح والعصر ، فقال : أما إنَّهما أمثلُ بدعتكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيءٍ منها ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحْدَثَ قومٌ بدعةً إلا رُفعَ مثلُها منَ السُّنَّة ) فتمسُّكٌ بسنَّةٍ خيرٌ من إحداث بدعةٍ . وقد رُوي عن ابن عمر من قوله نحو هذا .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ بدعة ضلالة ) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين ، وهو شبيهٌ بقوله : ( مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ ) (2) ، فكلُّ من أحدث شيئاً ، ونسبه إلى الدِّين ، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه ، فهو ضلالةٌ ، والدِّينُ بريءٌ منه ، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة .
__________
(1) في " مسنده " 4/105 ، وإسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي بن عبد الله .
(2) تقدم عند الحديث الخامس .

وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع ، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية ، لا الشرعية ، فمِنْ ذلك قولُ عمر - رضي الله عنه - لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد ، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال : نعمت البدعةُ هذه . وروي عنه أنَّه قال : إنْ كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة (1) . وروي أنَّ أبيَّ بن كعب ، قال له : إنَّ هذا لم يكن ، فقال عمرُ : قد علمتُ ، ولكنَّه حسنٌ . ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحُثُّ على قيام رمضان ، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحداناً ، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - (2) . ورُويَ عنه أنَّه كان يقومُ بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (3) .
ومنها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتِّباع سنة خلفائه الراشدين ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإنَّ النَّاس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمانَ وعليٍّ .
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 301 ) برواية يحيى الليثي ، والبخاري 3/58 ( 2010 ) ، والبيهقي 2/493 .
(2) أخرجه : البخاري 2/13 ( 924 ) و2/62 ( 1129 ) ، ومسلم 2/177 ( 761 )
و( 177 ) و( 178 ) من حديث عائشة ، به .
(3) أخرجه : أحمد 5/159 و163 ، والدارمي ( 1784 ) ، وأبو داود ( 1375 ) ، وابن ماجه ( 1327 ) ، والترمذي ( 806 ) ، والنسائي 3/83 من حديث أبي ذر ، وقال الترمذي
: ( حسن صحيح ) .

ومن ذلك : أذانُ الجمعة الأوَّل ، زاده عثمانُ (1) لحاجةِ النَّاسِ إليه ، وأقرَّه عليٌّ ، واستمرَّ عملُ المسلمينَ عليه ، وروي عَن ابن عمر أنَّه قال : هو بدعة (2) ، ولعلَّه أرادَ ما أراد أبوه في قيام رمضان .
ومِنْ ذلك جمع المصحف في كتابٍ واحدٍ ، توقَّف فيه زيدُ بنُ ثابتٍ ، وقال لأبي بكر وعمر : كيف تفعلان ما لم يفعلْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ ثم علم أنَّه مصلحةٌ ، فوافق على جمعه (3) ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بكتابة الوحي ، ولا فرق بَيْنَ أنْ يُكتب مفرقاً أو مجموعاً ، بل جمعُه صار أصلح .
وكذلك جمعُ عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشيةَ تفرُّق الأمة ، وقد استحسنه عليٌّ وأكثرُ الصحابة ، وكان ذلك عينَ المصلحة .
وكذلك قتال من منع الزكاة : توقف فيه عمر وغيرُه حتى بيَّن له أبو بكر أصلَه الذي يرجعُ إليه مِنَ الشَّريعة (4) ، فوافقه الناسُ على ذلك .
__________
(1) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 424 ) بتحقيقي ، وأحمد 3/449 و450 ، والبخاري 2/10 ( 912 ) و( 913 ) ، وأبو داود ( 1087 ) من حديث السائب بن يزيد ، قال : إنَّ الأذان كان أوله للجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
وعمر ، فلما كان خلافة عثمان كثر الناس أمر عثمان - رضي الله عنه - بأذان ثان فأذن فثبت الأمر على
ذلك … ) .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 5441 ) .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 3 ) ، وأحمد 1/10 و13 ، والبخاري 6/89 ( 4679 ) ، والترمذي ( 3103 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7995 ) من حديث زيد بن ثابت ، به .
(4) أخرجه : البخاري 2/131 ( 1400 ) ، ومسلم 1/38 ( 20 ) ( 32 ) من حديث أبي هريرة ، به .

ومِنْ ذلك القصص ، وقد سبق قولُ غضيف بن الحارث : إنَّه بدعةٌ ، وقال الحسن : القصص بدعةٌ ، ونعِمَت البدعةُ ، كم من دعوة مستجابة ، وحاجة مقضية ، وأخٍ مستفاد (1) . وإنَّما عني هؤلاء بأنَّه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معيَّن يقصُّ على أصحابه فيهِ غير خطبه الراتبة في الجُمَعِ والأعياد ، وإنَّما كان يذكرهم أحياناً ، أو عندَ حدوث أمرٍ يحتاجُ إلى التَّذكير عنده ، ثم إنَّ الصحابة اجتمعوا على تعيين وقتٍ له كما سبق عن ابنِ مسعودٍ : أنَّه كان يُذَكِّرُ أصحابه كلَّ يوم خميس .
وفي " صحيح البخاري " (2) عن ابن عبَّاسٍ قال : حدِّث الناس كلَّ جمعة مرَّةً ، فإنْ أبيتَ فمرَّتين ، فإنْ أكثرت ، فثلاثاً ، ولا تُمِلَّ الناس .
وفي " المسند " (3) عن عائشة أنَّها وصَّت قاصَّ أهلِ المدينة بمثل ذلك . وروي عنها أنَّها قالت لعُبيد بن عُميرٍ : حدِّثِ النَّاسَ يوماً ، ودعِ النَّاس يوماً ، لا تُملَّهم (4) . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أمر القاصَّ أنْ يقصَّ كلَّ ثلاثة أيام مرَّة . ورُوي عنه أنَّه قال له : روِّح الناسَ ولا تُثقِلْ عليهم ، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء .
وقد روى الحافظ أبو نعيم (5) بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد ، حدثنا حرملة ابن يحيى قال : سمعتُ الشافعي - رحمة الله عليه - يقول : البدعة بدعتان : بدعةٌ محمودةٌ ، وبدعة مذمومةٌ ، فما وافق السنة فهو محمودٌ ، وما خالف السنة فهو مذمومٌ . واحتجَّ بقول عمر : نعمت البدعة هي .
__________
(1) انظر : كشف الظنون 2/1909 ، وأبجد العلوم 2/536 .
(2) الصحيح 8/91 ( 6337 ) .
(3) مسند الإمام أحمد 6/217 .
(4) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 6/16 .
(5) في " الحلية " 9/113 .

ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه مِنْ قبلُ : أنَّ البدعة المذمومة ما ليس لها أصل منَ الشريعة يُرجع إليه ، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصلٌ مِنَ السنة يُرجع إليه ، وإنَّما هي بدعةٌ لغةً لا شرعاً ؛ لموافقتها السنة .
وقد روي عَنِ الشَّافعي كلام آخر يفسِّرُ هذا ، وأنَّه قال : والمحدثات ضربان : ما أُحدِثَ مما يُخالف كتاباً ، أو سنةً ، أو أثراً ، أو إجماعاً ، فهذه البدعة الضلال ، وما أُحدِث مِنَ الخير ، لا خِلافَ فيه لواحدٍ مِنْ هذا ، وهذه محدثة غيرُ مذمومة (1) .
وكثير من الأمور التي حدثت ، ولم يكن قد اختلفَ العلماءُ في أنَّها هل هي بدعةٌ حسنةٌ حتّى ترجع إلى السُّنة أم لا ؟ فمنها : كتابةُ الحديث ، نهى عنه عمرُ وطائفةٌ مِنَ الصَّحابة ، ورخَّص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السُّنَّة .
ومنها : كتابة تفسير الحديث والقرآن ، كرهه قومٌ من العُلماء ، ورخَّصَ فيه كثيرٌ منهم .
وكذلك اختلافُهم في كتابة الرَّأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسِعَةِ الكلام في المعاملات وأعمالِ القلوب التي لم تُنقل عَنِ الصحابة والتابعين . وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك (2) .
وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه ، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجوداً في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدَهم ، فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة .
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : إنَّكم قد أصبحتُم اليومَ على الفطرة ، وإنَّكم ستُحدِثونَ ويُحدَثُ لكم ، فإذا رأيتم محدثةً ، فعليكم بالهَدْيِ الأوّل (3) . وابنُ مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " مناقب الشافعي " 1/468 – 469 .
(2) انظر : فتح الباري 13/311 .
(3) أخرجه : المروزي في " السنة " ( 80 ) .

وروى ابن مهدي ، عن مالك قال : لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان(1) . وكأنَّ مالكاً يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرُّق في أُصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممَّن تكلَّم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواصِّ هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أنَّ المعاصي لا تضرُّ أهلَها ، أو أنَّه لا يدخلُ النَّار مِنْ أهل التوحيدِ أحدٌ .
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب ، وزعم أنَّه نزَّه الله بذلك عن الظلم .
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِثَ مِنَ الكلام في ذات الله وصفاته ، ممَّا سكت عنهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتَّابعونَ لهم بإحسّانٍ ، فقومٌ نَفَوا كثيراً ممَّا ورَدَ في الكتاب والسُّنة من ذلك ، وزعموا أنَّهم فعلوه تنْزيهاً لله عمَّا تقتضي العقولُ تنْزيهه عنه ، وزعموا أنَّ لازِمَ ذلك مستحيلٌ على الله - عز وجل - ، وقومٌ لم يكتفوا بإثباته ، حتى أثبتوا بإثباتهِ ما يُظَنُّ أنَّه لازمٌ له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللَّوازم نفياً وإثباتاً دَرَجَ صدْرُ الأمَّة على السُّكوت عنها .
ومما أُحدِث في الأمة بعْدَ عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي ، وردُّ كثيرٍ ممَّا وردت به السُّنة في ذلك لمخالفته للرَّأي والأقيسة
العقلية .
__________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح " 13/311 .

ومما حدث بعد ذلك الكلامُ في الحقيقة بالذَّوق والكشف ، وزعم أنَّ الحقيقة تُنافي الشريعة ، وأنَّ المعرفة وحدَها تكفي مع المحبَّة ، وأنَّه لا حاجةَ إلى الأعمالِ ، وأنَّها حجابٌ ، أو أنَّ الشَّريعة إنَّما يحتاجُ إليها العوامُّ ، وربما انضمَّ إلى ذلك الكلامُ في الذَّات والصَّفات بما يعلم قطعاً مخالفتُه للكتاب والسُّنة ، وإجماع سلف الأمة ، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم .

الحديث التاسع والعشرون
عَنْ مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال : قُلتُ : يا رَسولَ الله أَخبِرني بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني مِنَ النَّارِ ، قال : ( لقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظيمٍ وإنَّهُ لَيَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه : تَعْبُدُ الله لا تُشْرِكُ بهِ شيئاً ، وتُقيمُ الصَّلاةَ ، وتُؤتِي الزَّكاةَ ، وتَصُومُ رَمضَانَ ، وتَحُجُّ البَيتَ ) . ثمَّ قالَ : ( ألا أَدُلُّكَ على أبوابِ الخير ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ ، والصَّدقَةُ تُطْفِئُ الخَطيئَةَ كَما يُطفئُ الماءُ النارَ ، وصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوفِ اللَّيلِ ، ثمَّ تلا : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } حتَّى بَلَغَ : { يَعْمَلُوْنَ } (1) ، ثُمَّ قالَ : ( أَلا أُخْبِرُكُ برَأْسِ الأمْرِ وعَمودِه وذِرْوَة سنامِهِ ؟ ) قُلتُ : بَلَى يا رَسولَ الله ، قال : ( رَأسُ الأمْرِ الإسلامُ ، وعَمُودُه الصَّلاةُ ، وذِرْوَةُ سَنامِهِ الجهادُ ) ، ثم قال : ( ألا أُخبِرُكَ بمَلاكِ ذلك كُلِّهِ ؟ ) ، قلتُ : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : ( كُفَّ عَلَيكَ هذا ) ، قلتُ : يا نَبيَّ الله ، وإنَّا لمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بهِ ؟ فقالَ :
( ثَكِلتْكَ أُمُّكَ ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجوهِهِمْ ، أو على مَنَاخِرِهم إلاَّ حَصائِدُ أَلسِنَتِهِم ) . رواهُ الترمذيُّ ، وقال : حَديثٌ حَسنٌ صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، والترمذي (3) ، والنَّسائي (4) ، وابن ماجه (5)
__________
(1) السجدة : 16 – 17 .
(2) في " مسنده " 5/231 .
(3) في " جامعه " ( 2616 ) .
(4) في " الكبرى " ( 11394 ) وفي " التفسير " ، له ( 414 ) .
(5) في " سننه " ( 3973 ) .

وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20303 ) ، وعبد بن حميد ( 112 ) ، والمروزي في
" تعظيم قدر الصلاة " ( 196 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 266 ) ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " ( 104 ) ، والبيهقي في " الشعب " ( 3350 ) ، والبغوي ( 11 ) .

من رواية معمر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن
جبل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وفيما قاله - رحمه الله - نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّه لم يثبت سماعُ أبي وائل من معاذ ، وإنْ كان قد أدركه بالسِّنِّ ، وكان معاذٌ بالشَّام ، وأبو وائل بالكوفة ، وما زال الأئمةُ - كأحمد وغيره - يستدلُّون على انتفاء السَّماع بمثل هذا ، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء : قد أدركه ، وكان بالكُوفة ، وأبو الدَّرداء بالشام ، يعني : أنَّه لم يصحَّ له سماع منه (1) . وقد حكى أبو زرعة الدِّمشقي عن قوم أنَّهم توقَّفُوا في سماعِ أبي وائل من عمر ، أو نفوه ، فسماعه من معاذ أبعد .
والثاني : أنَّه قد رواه حمَّادُ بنُ سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجود ، عن شهر بن حوشبٍ ، عن معاذ ، خرَّجه الإمام أحمد مختصراً (2) ، قال الدارقطني (3) : وهو أشبهُ بالصَّواب ؛ لأنَّ الحديثَ معروفٌ من رواية شهرٍ على اختلافٍ عليه فيه .
قلت : ورواية شهر عن معاذ مرسلةٌ يقيناً (4) ، وشهرٌ مختلفٌ في توثيقه وتضعيفه (5) ، وقد خرَّجه الإمامُ أحمد من رواية شهر ، عن عبدِ الرحمان بن غَنْمٍ ، عن معاذ (6)
__________
(1) انظر : المراسيل لابن أبي حاتم ( 319 ) .
(2) في " مسنده " 5/248 .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21515 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 200 ) .
(3) في " العلل " 6/79 س ( 988 ) .
(4) انظر : الكنى للبخاري ( 201 ) .
(5) انظر : الجرح والتعديل 4/347 ( 1668 ) ، وتهذيب الكمال 3/411 ( 2767 ) .
(6) في " مسنده " 5/235 و236 و245 .

وأخرجه : ابن المبارك في " الجهاد " ( 31 ) ، والبزار ( 2669 ) و( 2670 ) ، والطبراني في
" الكبير " 5/( 115 ) و( 116 ) و( 140 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 222 ) .

، وخرَّجه الإمام أحمد أيضاً من رواية عُروة بن النزَّال ، أو النزال ابن عروة ، وميمون بن أبي شبيب (1) ، كلاهما عن معاذ ، ولم يسمع عروةُ ولا ميمونُ من معاذ ، وله طرقٌ أخرى عن معاذ كلُّها ضعيفة (2) .
وقوله : ( أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنَّةَ ، ويُباعدني من النَّار ) قد تقدَّم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب وغيرهما : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن مثل هذه المسألة ، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ .
__________
(1) في " مسنده " 5/237 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 30314 ) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد " ( 16 ) وفي " الزهد " ، له ( 7 ) ، والنسائي 4/166 ، والطبري في " تفسيره " ( 21515 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 304 ) و( 305 ) ، والحاكم 2/76 و412 .
(2) أخرجه : أحمد 5/234 ، والبزار ( 2651 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1492 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/154 عن عطية بن قيس بلفظ : ( الجهاد عمود الإسلام ، وذروة سنامه ) .
وفيه بكير بن عبد الله بن أبي مريم ( أبو بكر ) ، سئل عنه أحمد بن حنبل فقال : ( ضعيف كان عيسى لا يرضاه ) ، وسئل عنه يحيى بن معين فضعفه ، وقال أبو زرعة الرازي : ( ضعيف ، منكر الحديث ) . انظر : الجرح والتعديل 2/327 – 328 ، وتهذيب الكمال 2/252
( 7836 ) .

وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنَّه قال : يا رسول الله ، إنِّي أريدُ أنْ أسألَكَ عن كلمةٍ(1) قد أمرضَتنِي وأسقمتني وأحزنتني ، قال : ( سل عمَّا شئتَ ) ، قال : أخبرني بعملٍ يدخلُنِي الجنَّة لا أسألكَ غيرَه ، وهذا يدلُّ على شدَّةِ اهتمامِ معاذٍ - رضي الله عنه - بالأعمال الصَّالحة ، وفيه دليلٌ على أنَّ الأعمالَ سببٌ لدخول الجنَّة ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (2) .
وأما قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( لَنْ يدخُلَ أحدٌ منكُمُ الجنَّة بِعمَلِه ) (3) فالمراد - والله أعلم - أنَّ العملَ بنفسه لا يستحقُّ به أحدٌ الجنَّة لولا أنَّ الله جعله - بفضله ورحمته - سبباً لذلك ، والعملُ نفسُه من رحمة الله وفضله على عبده ، فالجنَّةُ وأسبابُها كلٌّ من فضل الله ورحمته .
__________
(1) في ( ص ) : ( مسألة ) .
(2) الزخرف : 72 .
(3) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1445 ) ، والطيالسي ( 2322 ) ، وابن الجعد ( 2772 ) ، وأحمد 2/235 و326 و390 و451 و473 و509 و514 و524 ، والبخاري 8/128 ( 6463 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 461 ) ، ومسلم 8/138
( 2816 ) ( 71 ) ، وابن ماجه ( 4201 ) ، وأبو يعلى ( 1243 ) ، وابن حبان ( 348 ) و( 660 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8004 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 626 ) ، والبيهقي 3/18 وفي " الشعب " ، له ( 766 ) و( 10149 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

وقوله : ( لقد سألتَ عن عظيم ) قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لِرجل سأله عن مثل هذا : ( لئن كُنتَ أوجزت المسألة ، لقد أعظمتَ
وأطولتَ ) (1) ، وذلك لأنَّ دخولَ الجنَّة والنَّجاةَ من النار أمرٌ عظيم جداً ، ولأجله أنزل الله الكتب ، وأرسلَ الرُّسلَ ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ : ( كيف تقولُ إذا
صلَّيتَ ؟ ) قال : أسألُ الله الجنَّة ، وأعوذُ به من النار ، ولا أُحسِنُ دندنَتَك (2) ولا دندَنَة مُعاذ ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :
( حَوْلَها نُدَندِن ) . وفي روايةٍ : ( هل تصير دندنتي ودندنةُ مُعاذٍ إلا أنْ نسأل الله
الجنَّةَ ، ونعوذ به من النار ) (3) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7284 ) ، وقد تقدم .
(2) الدندنة الكلام الذي لا يفهم . انظر : مختصر المختصر لابن خزيمة عقيب حديث ( 725 ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/74 ، وابن ماجه ( 910 ) و( 3847 ) ، وابن خزيمة ( 725 ) ، وابن حبان ( 868 )، والبيهقي في "الصغرى" ( 467 ) عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
وقد أبهم اسم الصحابي في " مسند الإمام أحمد " فقال : ( عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .

وقوله : ( وإنَّه ليسيرٌ على من يسَّره الله عليه ) إشارةٌ إلى أنَّ التَّوفيقَ كُلَّه بيد الله - عز وجل - ، فمن يسَّرَ الله عليه الهدى اهتدى ، ومن لم يُيسره عليه، لم يتيسَّر له ذلك ، قالَ الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -
: ( اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لهُ ، أمَّا أهل السَّعادة ، فيُيسَّرون لعمل أهل السَّعادة ، وأمَّا أهل الشَّقاوة ، فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة ) ، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية (2) . وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائه: ( واهدني ويسِّر الهُدى لي ) (3) ، وأخبر الله عن نبيه موسى - عليه السلام - أنَّه قال في دعائه: { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } (4)، وكان ابنُ عمر يدعو : اللهمَّ يسرني لليُسرى
__________
(1) الليل : 5 – 10 .
(2) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20074 ) ، والطيالسي ( 151 ) ، وأحمد 1/129 ، وعبد ابن حميد ( 84 ) ، والبخاري 2/120 ( 1362 ) و6/212 ( 4947 ) و( 4948 )
و( 4949 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 903 ) ، ومسلم 8/45 ( 2647 ) ( 6 ) ، وأبو داود ( 4694 ) ، وأبو يعلى ( 582 ) ، والبغوي ( 72 ) عن علي بن أبي طالب ، به .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29390 ) ، وأحمد 1/227 ، وعبد بن حميد ( 717 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 665 ) ، وأبو داود ( 1510 ) و( 1511 ) ، والترمذي
( 3551 ) ، وابن ماجه ( 3830 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 607 ) ، وابن حبان ( 947 ) و( 948 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1411 ) و( 1412 ) ، والحاكم 1/519 - 520 ، والبغوي ( 1375 ) ، وقال الترمذي : ( حسنٌ صحيح ) .
(4) طه : 25 - 26 .

، وجنِبني العُسرى (1) .
وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيهُ ترتيب دخول الجنَّة على الإتيان بأركان الإسلام الخمسة ، وهي : التَّوحيدُ ، والصَّلاةُ ، والزَّكاةُ ، والصِّيام ، والحجُّ .
وقوله : ( ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ ) لمَّا رتَّبَ دخولَ الجنَّة على واجبات الإسلام ، دلَّه بعد ذلك على أبواب الخيرِ مِنَ النَّوافِل ، فإنَّ أفضلَ أولياءِ الله هُمُ المقرَّبون ، الذين يتقرَّبون إليه بالنَّوافل بعدَ أداءِ الفرائض .
وقوله : ( الصومُ جنَّة ) هذا الكلام ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجُوهٍ كثيرةٍ ، وخرَّجاه في " الصحيحين " (2) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّجه الإمام أحمد (3) بزيادة ، وهي : ( الصِّيام جنَّةٌ وحِصْنٌ حصينٌ مِنَ النَّار ) .
وخرّج من حديث عثمان بن أبي العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الصوم جنَّةٌ مِنَ النَّارِ(4) ، كجُنَّة أحدكم من القِتال ) (5) .
ومن حديث جابر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال ربُّنا - عز وجل - : الصِّيام جنَّةٌ يستجِنُّ بها العبدُ من النَّار ) (6) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29861 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/308 .
(2) صحيح البخاري 3/31 ( 1894 ) ، وصحيح مسلم 3/156 ( 1151 ) ( 162 ) .
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 860 ) برواية الليثي ، وأحمد 2/465 ، وأبو داود
( 2363 ) ، والنسائي ( 3252 ) و( 3253 ) ، وابن حبان ( 3427 ) .
(3) في " مسنده " 2/402 .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 3571 ) .
(4) عبارة : ( من النار ) سقطت من ( ص ) .
(5) في " مسنده " 4/21 و22 و217 ، وإسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق ، والحديث في " مختصر المختصر " ( 1891 ) وراجع تخريجه هناك .
(6) أخرجه : أحمد 3/341 و396 ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة .

وخرَّج أحمد (1) والنَّسائي (2) من حديث أبي عُبيدة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( الصِّيام جنَّة ما لم يَخْرِقْها ) ، وقوله : ( ما لم يخرقها ) ، يعني : بالكلام السيء ونحوه ، ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في " الصحيحين " (3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( الصيام جنَّة ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، فإن امرؤٌ سابَّه فليقل : إني امرؤ صائم ) .
وقال بعضُ السَّلف : الغيبةُ تخرقُ الصِّيامَ ، والاستغفارُ يرقَعُهُ ، فمن استطاع منكم أنْ لا يأتي بصوم مخرَّقٍ فليفعل (4) .
وقال ابنُ المنكدر : الصائمُ إذا اغتاب خرق ، وإذا استغفر رقع .
وخرَّج الطبراني (5) بإسنادٍ فيه نظرٌ عن أبي هريرة مرفوعاً : ( الصِّيامُ جُنَّةٌ ما لم يخرقها ) ، قيل : بم يخرقه ؟ قال : ( بكذبٍ أو غيبةٍ (6) ) .
__________
(1) في " مسنده " 1/195 و196 ، وإسناده لا بأس به .
(2) في " المجتبى " 4/167 و168 .
(3) سبق تخريجه .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 3644 ) عن أبي هريرة .
(5) في " الأوسط " ( 4536 ) و( 7814 ) .
وأخرجه : ابن عدي في " الكامل " 4/32 .
وفيه الربيع بن بدر ، قال عنه يحيى بن معين : ( بصريٌّ ضعيف ليس بشيء ) ، وقال البخاري : ( يقال له : عليلة بن بدر السعدي التميمي بصري ) ، وقال أبو داود : ( ضعيف ) ، وقال أبو حاتم : ( لا يشتغل به ولا بروايته ، فإنَّه ضعيف الحديث ذاهب الحديث ) .
انظر : الكامل 4/29 ، وتهذيب الكمال 2/457 ( 1839 ) .
وهو كذلك من رواية الحسن عن أبي هريرة ، وقد قال أبو حاتم الرازي ، والذهبي بعدم سماع الحسن من أبي هريرة . انظر على سبيل المثال : المراسيل لابن أبي حاتم ( 102 ) و( 103 )
و( 104 )… إلخ ، وسير أعلام النبلاء 4/566 .
(6) من قوله : ( قيل بم يخرقه … ) إلى سقط من ( ص ) .

فالجُنَّة : هي ما يستجنُّ بها العبد ، كالمجنِّ الذي يقيه عندَ القتالِ من الضَّرب ، فكذلك الصيام يقي صاحبه منَ المعاصي في الدُّنيا ، كما قال - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1) ،
فإذا كان له جُنَّةٌ من المعاصي ، كان له في الآخرة جُنَّةٌ من النار ، وإنْ لم يكن له جُنَّةٌ في الدنيا من المعاصي ، لم يكن له جُنَّةٌ في الآخرة من النار .
وخرَّج ابنُ مردويه من حديث عليٍّ مرفوعاً ، قال : ( بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلماتٍ ) ، فذكر الحديثَ بطوله ، وفيه : ( وإنَّ الله يأمُركُم أنْ تصُوموا ، ومَثَلُ ذلك كمثل رجلٍ مشى إلى عدوِّه ، وقد أخذَ للقتال جُنَّةً ، فلا يخافُ من حيث ما أُتي ) (2) . وخرَّجه من وجهٍ آخر عن عليٍّ موقوفاً ، وفيه قال : ( والصيامُ مَثَلُه كمثل رجلٍ انتصره النَّاسُ ، فاستحدَّ في السِّلاح ، حتَّى ظنَّ أنَّه لن يصل إليه سلاحُ العدوِّ ، فكذلك الصيامُ جنَّة ) (3) .
وقوله : ( والصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ ) هذا الكلامُ رُويَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن وجوهٍ أُخر ، فخرَّجه الإمامُ أحمد والترمذي من حديث كعب بن عُجرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الصَّومُ جُنَّةٌ حصينةٌ ، والصَّدقةُ تُطفئ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماء النار ) (4) .
وخرَّجه الطبراني وغيره من حديث أنس مرفوعاً ، بمعناه (5) .
__________
(1) البقرة : 183 .
(2) أخرجه : البزار ( 695 ) بدون لفظة : ( وإن الله يأمركم أن تصوموا … ) وقال عقبه
: ( ولم أرى الخامسة في كتابي ) ، وإسناد الحديث ضعيف .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 5141 ) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) تقدم تخريجه .

وخرّجه الترمذي (1) وابنُ حبان في " صحيحه " (2) من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ صدقة السِّرِّ لتطفئُ غضبَ الربِّ ، وتدفع مِيتةَ السُّوء ) .
ورُوي عن عليِّ بنِ الحسين : أنَّه كان يحملُ الخبزَ على ظهرهِ باللَّيل يتَّبِعُ
به المساكين في ظُلمة الليل ، ويقول : إنَّ الصَّدقة في ظلامِ(3) اللَّيلِ تُطفئُ
غضبَ الرَّبِّ - عز وجل - (4) . وقد قال الله - عز وجل - : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ } (5) ، فدلَّ على أنَّ الصدقة يُكفَّر بها من السيئات : إما مطلقاً ، أو صدقة السر .
وقوله : ( وصلاةُ الرَّجُلِ في جوف الليل ) ، يعني : أنَّها تُطفئ الخطيئة أيضاً كالصَّدقة ، ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه الإمام أحمد من رواية عُروة بن النَّزَّال ، عن معاذ قال : أقبلنا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، فذكر الحديثَ ، وفيه : ( الصَّومُ جنَّةٌ، والصَّدقةُ وقيامُ العبد في جوف الليل يُكفر الخطيئة ) (6) .
وفي " صحيح مسلم " (7) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبة قيامُ الليل ) .
وقد رُوي عن جماعةٍ من الصحابة : أنَّ الناس يحترقون بالنهار بالذنوب ، وكلَّما قاموا إلى صلاةٍ من الصَّلوات المكتوبات أطفؤوا ذنوبهم ، ورُوي ذلك مرفوعاً من وجوهٍ فيها نظرٌ .
__________
(1) في " جامعه " ( 664 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده عبد الله بن عيسى الخزاز ضعيف .
(2) الإحسان ( 3309 ) .
(3) في ( ج ) : ( سواد ) .
(4) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " : 16 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/135 - 136 .
(5) البقرة : 271 .
(6) سبق تخريجه .
(7) الصحيح 3/169 ( 1163 ) ( 202 ) و( 203 ) .

فكذلك قيامُ الليل يُكفر الخطايا ؛ لأنَّه أفضلُ نوافل الصلاة ، وفي
" الترمذي " (1) من حديث بلال ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( عليكم بِقيام الليل ،
فإنَّه دأبُ الصالحين قَبلَكُم ، وإنَّ قيامَ الليل قربةٌ إلى الله - عز وجل - ، ومنهاةٌ عن
الإثم ، وتكفيرٌ للسيئات ، ومطردة للدَّاءِ عن الجسد ) . وخرَّجه أيضاً من حديث
أبي أُمامة (2) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ، وقال : هو أصحُّ من حديث بلال .
وخرَّجه ابن خزيمة (3) والحاكم (4) في " صحيحيهما " من حديث أبي أمامة
أيضاً .
__________
(1) الجامع الكبير ( 3549 ) .
وأخرجه : المروزي في " قيام الليل " ( 18 ) ، والروياني في " مسند الصحابة " ( 745 ) ، والشاشي ( 978 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3087 ) ، وهذا حديث ضعيف ،
قال الترمذي : ( غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه ، ولا يصحّ
من قبل إسناده ؛ وسمعت محمد بن إسماعيل ، يقول : محمد القرشي هو : محمد بن
سعيد الشامي ، وهو : ابن قيس ، وهو : محمد بن حسّان ، وقد ترك
حديثه ) .
(2) الجامع الكبير ( 3549 م2 ) .
(3) مختصر المختصر ( 1135 ) ، وقلت في تعليقي هناك : ( هذا الحديث منكر من منكرات معاوية بن صالح ، وقد ساقه ابن عدي في كتابه " الكامل " ضمن منكراته ، وقد سبق إلى هذا الإعلال أبو حاتم الرازي فقد قال : ( وهو حديث منكر لم يروه غير معاوية بن صالح ، وأظنه من حديث محمد بن سعيد الشامي الأزدي ؛ فإنَّه يروي هذا الحديث بإسنادٍ آخر ) علل الحديث ( 346 ) ) .
(4) المستدرك 1/308 .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7466 ) وفي " الأوسط " ، له ( 3265 ) ، والبيهقي 2/502 ، والبغوي ( 922 ) .

وقال ابن مسعود : فضلُ صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية . وخرَّجه أبو نعيم عنه مرفوعاً (1) ، والموقوف (2) أصح .
وقد تقدَّم أنَّ صدقة السِّرِّ تُطفئُ الخطيئة ، وتُطفئ غضبَ الرَّبِّ ، فكذلك صلاةُ الليل .
وقوله : ( ثم تلا : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (3) ، يعني : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هاتين الآيتين عندَ ذكره فضلَ صلاة الليل ، ليبيِّنَ بذلك فضل صلاة الليل ، وقد رُويَ عن أنس أنَّ هذه الآية نزلت في انتظار صلاةِ العشاء ، خرَّجه الترمذي وصححه (4) . ورُوي عنه أنَّه قال في هذه الآية : كانوا يتنفلون بينَ المغرب والعشاء ، خرَّجه أبو داود (5) . وروي نحوه عن بلال ، خرّجه البزار بإسنادٍ ضعيف (6) .
__________
(1) في " حلية الأولياء " 4/167 و5/36 .
(2) في " حلية الأولياء " 4/167 و5/36 و7/238 .
وأخرجه: ابن أبي شيبة ( 6610 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8998 ) و( 8999 ) موقوفاً .
(3) السجدة : 16 – 17 .
(4) في " جامعه " ( 3196 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21505 ) .
(5) في " سننه " ( 1322 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21505 ) .
(6) في " مسنده " ( 1364 ) . وفيه عبد الله بن شبيب ، قال عنه الهيثمي : ( ضعيف ) . انظر : مجمع الزوائد 7/90 ، وكذا في السند علل أُخر .

وكلُّ هذا يدخل في عموم لفظ الآية ، فإنَّ الله مدح الذين تتجافى جنوبُهم عن المضاجع لدعائه ، فيشملُ ذلك كلَّ مَنْ ترك النَّومَ بالليل لذكر الله ودُعائه ، فيدخلُ فيه مَنْ صلَّى بين العشاءين ، ومن انتظرَ صلاة العشاءِ فلم ينم حتَّى يُصليها
لاسيما مع حاجته إلى النوم ، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة ، وقد
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنِ انتظرَ صلاةَ العشاء : ( إنَّكم لن تَزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم
الصَّلاة ) (1) .
ويدخلُ فيه مَنْ نامَ ثمَّ قام مِنْ نومه باللَّيل للتهجُّدِ ، وهو أفضلُ أنواع التطوُّع بالصَّلاة مطلقاً .
وربما دخل فيه من ترك النَّوم عندَ طُلوع الفجر ، وقام إلى أداء صلاةِ الصُّبح ، لاسيما مع غَلَبَةِ النَّوم عليه ، ولهذا يُشرع للمؤذِّن في أذان الفجر أنْ يقولَ في أذانه : الصَّلاة خَيرٌ مِن النوم .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 4074 ) ، وأحمد 3/182 و189 و200 و267 ، وعبد بن
حميد ( 1292 ) ، والبخاري 1/150 ( 572 ) و1/168 ( 661 ) و1/214 ( 847 ) و7/201 ( 5869 ) ، ومسلم 2/116 ( 640 ) ( 222 ) ، وأبو يعلى ( 3313 ) ، وأبو عوانة 1/303 ، وابن حبان ( 1537 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 1423 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6370 ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وصلاةُ الرَّجُلِ من جوف الليل ) ذكر أفضلَ أوقات التهجُّد بالليل ، وهو جوفُ الليل ، وخرَّج الترمذي (1) والنَّسائي (2) من حديث أبي أمامة ، قال : قيل : يا رسول الله ، أيُّ الدُّعاء أسمع ؟ قالَ : ( جوفُ الليل الآخرِ ، ودُبُرُ الصَّلوات المكتوبات ) .
وخرَّجه ابن أبي الدنيا (3) ، ولفظه : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أيُّ
الصلاة أفضل ؟ قال : ( جوفُ الليل الأوسط ) ، قال : أيُّ الدُّعاء أسمع ؟ قال
: ( دُبر المكتوبات ) .
وخرَّج النَّسائي (4) من حديث أبي ذرٍّ قال : سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أي الليل خير ؟ قالَ : ( خير الليل جوفه ) . وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث أبي مسلم قال : قلت لأبي ذرٍّ : أيُّ قيام الليل أفضل ؟ قال : سألت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني ، فقال :
( جوفُ اللَّيل الغابر (6) ، أو نصف الليل ، وقليلٌ فاعله ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 3499 ) ، وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) على أنَّ إسناده قد أعل بالانقطاع فقد أعل سند الحديث ابن القطان فقال : ( اعلم أنَّ ما يرويه ابن سابط ، عن أبي أمامة ، هو منقطع لم يسمع منه ) بيان الوهم والإيهام 2/385 ( 387 ) .
(2) في " الكبرى " ( 9936 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 108 ) .
(3) في " التهجد " ( 240 ) .
(4) في " الكبرى " ( 4216 ) .
وأخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 2/36 ( 1635 ) ثم ساقه مرسلاً ، وظاهر صنيعه أنَّه أعله بالإرسال .
(5) في " مسنده " 5/179 .
وأخرجه : النسائي في " الكبرى " ( 1308 ) ، وابن حبان ( 2564 ) ، والبيهقي 3/4 ، وإسناده ضعيف المهاجر أبو خالد قال عنه أبو حاتم : ( لين الحديث ليس بذاك ، وليس
بالمتقن ، يكتب حديثه ) ؛ لكن للحديث شواهد تقويه .
(6) أي : الباقي .

وخرَّج البزار (1) ، والطبراني (2) من حديث ابنِ عمر ، قال : سُئلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الليل أجوبُ دعوةً ؟ قالَ: ( جوف الليل ) ، زاد البزار في روايته : ( الآخر ) .
وخرَّج الترمذي (3) من حديثِ عمرو بن عبسة ، سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول
: ( أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن تكونَ ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن ) ، وصححه ، وخرَّجه الإمام أحمد (4) ، ولفظه قالَ : قلتُ : يا رسول الله ، أيُّ الساعات أفضلُ ؟ قال : ( جوفُ الليل الآخر ) وفي روايةٍ (5) له أيضاً : قال : ( جوف الليل الآخر أجوبُه دعوةً ) ، وفي روايةٍ (6)
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 3151 ) .
(2) في " الأوسط " ( 3428 ) ، وفي " الصغير " ، له ( 347 ) .
(3) في " جامعه " ( 3579 ) . =
= ... وأخرجه : النسائي 1/279 وفي " الكبرى " ، له ( 1544 ) ، وابن خزيمة ( 1147 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/37 و352 ، والحاكم 1/309 .
(4) في " مسنده " 4/112 و385 .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 4/164 – 165 ، وعبد بن حميد ( 300 ) .
(5) في " مسنده " 4/387 ، وإسناد هذه الرواية ضعيف ، وقد اضطرب راويها ففي بعضها
: ( أوجبه ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/154 .
(6) في " مسنده " 4/114 .

وأخرجه : عبد بن حميد ( 297 )، والنسائي 1/279 و283 وفي "الكبرى" ، له ( 1544 ) و( 1560 ) ، وابن خزيمة ( 1147 ) ، وهو حديث صحيح .

له : قلتُ : يا رسول الله ، هل مِنْ ساعةٍ أقربُ إلى الله من أخرى ؟ قال : ( جوف الليل الآخر (1) ) . وخرَّجه ابن ماجه (2) ، وعنده : ( جوفُ اللَّيل الأوسط ) وفي روايةٍ للإمام أحمد (3) عن عمرو بن عبسة ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، هل من ساعةٍ أفضلُ من ساعةٍ ؟ قال : ( إنَّ الله ليتدلَّى في جوف الليل ، فيغفر إلاَّ ما كان من الشرك ) .
وقد قيل : إنَّ جوف الليل إذا أطلق ، فالمرادُ به وسطُه ، وإنْ قيل : جوف الليل الآخر ، فالمرادُ وسط النِّصف الثاني ، وهو السدسُ الخامسُ من أسداس الليل ، وهو الوقتُ الذي ورد فيه النزول الإلهي .
__________
(1) من قوله : ( أجوبه دعوة … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) في " سننه " ( 1251 ) ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن طلق وعبد الرحمان بن البيلماني .
(3) في " مسنده " 4/385 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين سليم بن عامر وعمر بن عَبسة .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أُخبرك برأسِ الأمر وعموده وذِروة سنامه ؟ ) قلتُ : بلى
يا رسول الله ، قال : ( رأسُ الأمر الإسلام ، وعمودُه الصلاةُ ، وذِروةُ سنامه
الجهادُ ) ، وفي روايةٍ للإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب ، عن ابن غَنْمٍ ، عن معاذ قال : قال لي نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ شئتَ حدَّثتُك برأسِ هذا الأمرِ وقِوام هذا الأمرِ وذِروة السَّنام ) ، قلتُ : بلى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ رأسَ هذا الأمر أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، وأنَّ محمَّداً عبده ورسولُه ، وإنَّ قِوام هذا الأمر إقام الصَّلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وإنَّ ذِروة السَّنام منه الجهادُ في سبيل الله ، إنَّما أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حتّى يُقيموا الصّلاة ، ويؤتوا الزَّكاة ، ويشهدوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها ، وحسابُهم على الله - عز وجل - ) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( والذي نفسُ محمدٍ بيده ، ما شحب وجهٌ ، ولا اغبرَّت قدمٌ في عملٍ يُبتغى فيه درجات الجنَّة بعدَ الصلاة المفروضة كجهادٍ في سبيل الله ، ولا ثَقَّلَ ميزانَ عبدٍ كدابَّةٍ تنفق له في سبيل الله ، أو يُحمل عليها في سبيل الله - عز وجل - ) (1) .
فأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أشياء : رأس الأمر ، وعموده ، وذروة سنامه .
فأمَّا رأس الأمر ، ويعني بالأمر : الدين الذي بعث به وهو الإسلام ، وقد جاء تفسيرُه في الرواية الأخرى بالشهادتين ، فمن لم يقرَّ بهما ظاهراً وباطناً ، فليسَ من الإسلام في شيء .
__________
(1) سبق تخريجه .

وأمَّا قِوام الدين الذي يقومُ به الدِّين كما يقومُ الفسطاطُ على عموده ، فهو
الصلاة ، وفي الرواية الأخرى : ( وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) وقد سبق القولُ في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض .
وأمَّا ذِروة سنامه - وهو أعلى ما فيه وأرفعه - فهو الجهاد ، وهذا يدلُّ على أنَّه أفضلُ الأعمال بعدَ الفرائض ، كما هو قولُ الإمام أحمد وغيره من العلماء .
وقوله في رواية الإمام أحمد : ( والذي نفس محمدٍ بيده ما شحب وجهٌ ولا اغبرَّت قدمٌ في عمل يُبتغى به درجات الجنَّة بعدَ الصَّلاة المفروضة كجهادٍ في سبيلِ الله - عز وجل - ) يدلُّ على ذلك صريحاً .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي ذرٍّ ، قال : قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، أيُّ العمل أفضلُ ؟ قال : ( إيمانٌ بالله وجهادٌ في سبيله ) .
وفيهما (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الأعمال إيمانٌ بالله ، ثمَّ جهاد في سبيل الله ) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جداً .
وقوله : ( ألا أُخبرك بملاك ذلك كُلِّه ) قلتُ : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه فقال : ( كُفَّ عليك هذا ) إلى آخر الحديث . هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كُلِّه ، وأنَّ من ملك لسانه ، فقد ملك أمره وأحكمه(3) وضبطه ، وقد سبق الكلامُ على هذا المعنى في شرح حديث : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيراً ، أو ليصمت ) (4) . وفي شرح حديث : ( قل : آمنتُ باللهِ ، ثم استقم ) (5) . وخرَّج البزار في " مسنده " (6)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه : البخاري 2/164 ( 1519 ) ، ومسلم 1/61 ( 83 ) ( 135 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) الحديث الخامس عشر .
(5) الحديث الحادي والعشرون .
(6) البحر الزخار ( 2302 ) .

وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/300 .

من حديث أبي اليَسَر(1) أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله ، دلَّني على عملٍ يُدخلني الجنَّة ، قال
: ( أمسك هذا ) ، وأشار إلى لسانه ، فأعادها عليه ، فقال : ( ثكلتك أمُّك ،
هل يَكُبُّ النَّاسَ على مناخرهم في النَّار إلاَّ حصائدُ ألسنتهم ) وقال : إسناده
حسن .
والمرادُ بحصائد الألسنة : جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته ؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله(2) الحسنات والسَّيِّئات ، ثم يَحصُدُ يومَ القيامة ما زرع ، فمن زرع خيراً من قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامةَ ، ومن زرع شرَّاً مِنْ قولٍ أو عملٍ حصد غداً النَّدامة .
وظاهرُ حديثِ معاذ يدلُّ على أنَّ أكثر ما يدخل النَّاسُ به النار النُّطقُ بألسنتهم، فإنَّ معصية النُّطق يدخل فيها الشِّركُ وهو أعظمُ الذنوب عندَ الله - عز وجل - (3)، ويدخل فيها القولُ على الله بغير علم ، وهو قرينُ الشِّركِ ، ويدخلُ فيه شهادةُ الزُّور التي عدَلت الإشراك بالله - عز وجل - ، ويدخلُ فيها السِّحر والقذفُ وغيرُ ذلك مِنَ الكبائر والصَّغائر كالكذب والغيبةِ والنَّميمة ، وسائرُ المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون معيناً عليها .
وفي حديث أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أكثرُ ما يُدخِلُ النَّاسَ النارَ الأجوفان : الفمُ والفرجُ ) خرَّجه الإمام أحمد (4) والترمذي (5) .
وفي " الصحيحين " (6)
__________
(1) أبو اليَسَر ، بفتح التحتانية والمهملة : كعب بن عمرو بن عباد السَّلمي ، بالفتح ، صحابي بدريٌّ جليل . التقريب ( 5646 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( عند الله - عز وجل - ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " مسنده " 2/291 و392 و442 .
(5) في " جامعه " ( 2004 ) ، وقال الترمذي : ( صحيح غريب ) .
(6) أخرجه : البخاري 8/125 ( 6477 ) ، ومسلم 8/222 – 223 ( 2988 ) ( 50 ) .

وأخرجه : ابن حبان ( 5707 ) و( 5708 ) ، والبيهقي 8/164 وفي " شعب الإيمان "، له
( 4956 ) .

عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها ، يَزِلُّ بها في النَّار أبعدَ ما بينَ المشرق والمغرب ) وخرَّجه الترمذي (1) ، ولفظه : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأساً ، يهوي بها سبعين خريفاً في النار ) .
وروى مالك (2) ، عن زيد بنِ أسلم ، عن أبيه : أنَّ عمرَ دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه ، فقال عمر(3) : مه ، غفر الله لك ! فقال أبو بكرٍ : هذا أوردني الموارد .
وقال ابنُ بريدة : رأيتُ ابنَ عبَّاسٍ آخذاً بلسانه وهو يقول : ويحك ، قُلْ خيراً تغنم، أو اسكت عن سُوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنَّك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن عبَّاس، لم تقولُ هذا ؟ قال: إنّه بلغني أنَّ الإنسان -أراه قال- ليس على شيءٍ من جسده أشدُّ حنقاً أو غيظاً يَوْمَ القيامةِ منه على لسانه إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً (4) .
وكان ابن مسعود يحلِفُ بالله الذي لا إله إلا هو : ما على الأرض شيءٌ
أحوج إلى طولِ سجنٍ من لسان (5) .
وقال الحسن : اللسان أميرُ البدن ، فإذا جنى على الأعضاء شيئاً جنت ، وإذا عفَّ عفت (6) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2314 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ الحديث صحيح .
وأخرجه : أحمد 2/236 و297 و355 ، وابن ماجه ( 3970 ) ، وابن أبي عاصم : 15 و394 ، وأبو يعلى ( 6235 ) ، والحاكم 4/597 .
(2) في " الموطأ " ( 2825 ) برواية الليثي .
(3) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1047 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/327 – 328 .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 26499 ) ، وهناد بن السري في " الزهد " ( 1095 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/134 .
(6) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 59 ) .

وقال يونس بنُ عبيد : ما رأيتُ أحداً لسانه منه على بالٍ إلا رأيتُ ذلك صلاحاً في سائر عمله (1) .
وقال يحيى بن أبي كثير : ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله ، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله (2) .
وقال المبارك بن فضالة ، عن يونس بن عبيد : لا تجدُ شيئاً مِنَ البرِّ واحداً يتَّبعه البِرُّ كلّه غيرَ اللسان ، فإنَّك تَجِدُ الرجل يصومُ النهار ، ويُفطر على حرام ، ويقومُ الليل ويشهد بالزور بالنهار - وذكرَ أشياءَ نحو هذا - ولكن لا تجده لا يتكلَّم إلا بحقٍّ فَيُخالف ذلك عمله أبداً (3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 112 ) ( ط دار الكتب العلمية ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/68 .
(3) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 113 ) ( ط دار الكتب العلمية ) .

الحديث الثلاثون
عَنْ أَبي ثَعلَبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه - ، عَن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( إنَّ الله فَرَضَ فرائِضَ ، فَلا تُضَيِّعُوها ، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدوها ، وحَرَّمَ أَشْياءَ ، فلا تَنتهكوها ، وسَكَتَ عنْ أشياءَ رَحْمةً لكُم غَيْرَ نِسيانٍ ، فلا تَبحَثوا عَنْها ) . حديثٌ حسنٌ ، رواه الدَّارقطنيُّ (1) وغيرُهُ .
هذا الحديثُ من رواية مكحول ، عن أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان :
إحداهما : أنَّ مكحولاً لم يصحّ له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نُعيم الحافظ وغيرهما .
والثانية : أنَّه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال الدارقطني (2) : الأشبه بالصَّواب المرفوعُ ، قال : وهو أشهرُ .
وقد حسَّن الشيخُ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسّنه قبلَه الحافظ أبو بكر ابن السمعاني في " أماليه " .
__________
(1) في " سننه " 4/184 ( 4350 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 589 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 3492 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/17 ، والبيهقي 10/12 – 13 ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/9 من حديث أبي ثعلبة الخشني ، به .
وأخرجه : البيهقي 10/12 عن أبي ثعلبة موقوفاً .
(2) في " العلل " 6/324 ( 1170 ) .

وقد رُويَ معنى هذا الحديث مرفوعاً من وجوه أُخر ، خرَّجه البزار في
" مسنده " (1) والحاكم (2) من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا منَ الله عافيتَهُ ، فإنَّ الله لم يكن لينسى شيئاً ) ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } (3) ، وقال الحاكم (4) : صحيح الإسناد ، وقال البزار (5) : إسناده
صالح .
وخرَّجه الطبراني (6) والدارقطني (7) من وجه آخر ، عن أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث(8) أبي ثعلبة ، وقال في آخره : ( رحمة من الله ، فاقبلوها ) ، ولكن إسناده ضعيف .
وخرَّج الترمذي (9) ، وابن ماجه (10) من رواية سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ السَّمن والجُبن والفراء ، فقال : ( الحلالُ ما أحلَّ الله في كتابه ، والحرامُ ما حرَّمَ الله في كتابه ، وما سكت عنه ، فهو مما عفا عنه ) .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 123 ) من حديث أبي الدرداء ، به .
(2) في " المستدرك " 2/375 ، وأخرجه : البيهقي 10/12 .
(3) مريم : 64 .
(4) في " المستدرك " 2/375 .
(5) كما في " كشف الأستار " عقيب الحديث ( 123 ) .
(6) في "الأوسط" ( 7461 ) وفي "الصغير"، له ( 1083 ) وإسناده ضعيف جداً ؛ لشدة ضعف أصرم بن حوشب ، وهذا الحديث عدّه ابن عدي في "الكامل" 2/297 من أباطيل أصرم هذا .
(7) في " سننه " 4/297 – 298 ( 4768 ) ، وإسناده ضعيف جداً لشدة ضعف نهشل الخراساني .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) في " جامعه " ( 1726 ) ، والحديث معلول بالوقف .
(10) في " سننه " ( 3367 ) من حديث سلمان الفارسي ، به .

وقال الترمذي (1) : رواه سفيان - يعني : ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي
عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنَّه أصحُّ . وذكر في كتاب " العلل " (2) عن البخاري : أنَّه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظاً ، وقال أحمد : هو
منكر ، وأنكره ابنُ معين أيضاً ، وقال أبو حاتم الرازي (3) : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي ، عن أبي عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ، ليس فيه سلمان .
قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر .
وخرَّجه ابن عدي (4) من حديث ابن عمر مرفوعاً وضعَّف إسناده .
ورواه أبو صالح المري ، عن الجُريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة
مرفوعاً ، وأخطأ في إسناده .
وروي عن الحسن مرسلاً (5) .
وخرَّج أبو داود (6) من حديث ابن عباس قال : كان أهلُ الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذراً ، فبعث الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل كتابه ، وأحلَّ
حلاله ، وحرَّم حرامه ، فما أحلَّ فهو حلال ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت
عنه فهو عفو ، وتلا : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } (7) ، وهذا
موقوف .
وقال عُبيد بن عمير : إنَّ الله - عز وجل - أحلَّ حلالاً وحرَّم حراماً ، وما أحلَّ فهو
حلال ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفوٌ (8) .
__________
(1) في " جامعه " عقيب الحديث ( 1726 ) .
(2) عقيب الحديث ( 303 ) .
(3) في " العلل " 2/228 عقيب الحديث ( 1503 ) .
(4) في " الكامل " 8/250 .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 2/174 .
(6) في " سننه " ( 3800 ) .
وأخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 5/1404 – 1405 ( 8000 ) ، والحاكم 4/115 عن عبد الله بن عباس موقوفاً .
(7) الأنعام : 145 .
(8) انظر : التمهيد لابن عبد البر 21/291 .

فحديث أبي ثعلبة قسَّم فيه أحكام الله أربعةَ أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكامَ الدين كلَّها .
قال أبو بكر بن السَّمعاني : هذا الحديثُ أصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدِّين ، قال : وحُكي عن بعضهم أنّه قال : ليس في أحاديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ واحدٌ أجمع بانفراده لأصولِ العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة، قال: وحُكي عن أبي واثلة المزني أنَّه قال : جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدِّين في أربعِ كلماتٍ ، ثم ذكر حديثَ أبي ثعلبة .
قال ابنُ السَّمعاني : فمن عمِلَ بهذا الحديث ، فقد حاز الثَّواب ، وأمِنَ
العقابَ ؛ لأنَّ من أدَّى الفرائضَ ، واجتنب المحارم ، ووقف عندَ الحدودِ ، وترك البحث عمَّا غاب عنه ، فقد استوفى أقسامَ الفضل ، وأوفى حقوق الدِّين ؛ لأنَّ الشرائع لا تخرُج عَنْ هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث . انتهى .
فأما الفرائض ، فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ .
وقد اختلفَ العلماء : هل الواجبُ والفرضُ بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من
قال : هما سواء ، وكلُّ واجب بدليلٍ شرعي من كتابٍ ، أو سنةٍ ، أو إجماعٍ ، أو غير ذلك من أدلة الشرع ، فهو فرضٌ ، وهو المشهور عن أصحاب الشَّافعي
وغيرهم (1) ، وحُكي رواية عن أحمد ؛ لأنَّه قال : كلُّ ما في الصلاة فهو فرضٌ .
__________
(1) انظر : اللمع : 65 ، والمستصفى 1/66 ، وروضة الناظر 1/103 ، والإحكام -للآمدي 1/99 ، وتحفة المسؤول 2/23 ، وشرح الكوكب المنير 1/351 – 352 .

ومنهم من قال : بل الفرضُ ما ثبتَ بدليلٍ مقطوعٍ به (1) ، والواجبُ ما ثبت بغير مقطوع به ، وهو قولُ الحنفيَّةِ وغيرهم (2) .
وأكثرُ النُّصوص عن أحمد تُفرِّق بين الفرض والواجب (3) ، فنقل جماعةٌ
مِنْ أصحابه عنه أنَّه قال : لا يُسمَّى فرضاً إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال
في صدقة الفطر : ما أجترئ أنْ أقول : إنَّها فرضٌ (4) ، مع أنَّه يقول بوجوبها ،
فمِنْ أصحابنا مَنْ قال : مراده أنَّ الفرض : ما ثبت بالكتاب ، والواجب : ما
ثبت بالسنَّة ، ومنهم من قال : أراد أنَّ الفرض : ما ثبت بالاستفاضة والنَّقل
المتواتر ، والواجب : ما ثبت مِنْ جهة الاجتهاد ، وساغ الخلافُ في
وجوبه (5) .
ويُشْكِلُ على هذا أنَّ أحمد قال في رواية الميموني في برِّ الوالدين : ليس بفرضٍ ، ولكن أقولُ : واجبٌ ما لم يكن معصية ، وبرُّ الوالدين مجمَعٌ على وجوبه ، وقد كثُرتِ الأوامرُ به في الكتاب والسُّنَّة ، فظاهرُ هذا أنَّه لا يقول : فرضاً إلاَّ ما ورد في الكتاب والسُّنة تسميته فرضاً .
__________
(1) انظر : اللمع : 65 ، والمستصفى 1/66 ، وميزان الأصول : 28 ، والمحصول 1/97 ، والإحكام – للآمدي 1/99 ، وتحفة المسؤول 2/24 ، والبحر المحيط 1/144 ، وإرشاد الفحول : 60 .
(2) انظر : اللمع : 65 ، والمستصفى 1/66 ، وميزان الأصول : 28 ، والإحكام – للآمدي 1/99 ، وتحفة المسؤول 2/23 - 24 ، والبحر المحيط 1/145 – 146 ، وإرشاد الفحول : 60 .
(3) انظر : شرح الكوكب المنير 1/352 .
(4) انظر : المغني 2/647 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 2/85 .
(5) انظر : اللمع : 65 .

وقد اختلفَ السَّلفُ في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر : هل يُسمَّى فريضةً أم لا (1) ؟ فقالَ جويبر ، عن الضحاك : هما مِنْ فرائض الله - عز وجل - ، وكذا رُوي عَنْ مالك .
وروى عبدُ الواحد بن زيد ، عن الحسن ، قال : ليس بفريضةٍ ، كان فريضةً على بني إسرائيل ، فرحم الله هذه الأمة لِضعفهم ، فجعله عليهم نافلة .
وكتب عبدُ الله بن شبرمة إلى عمرو بن عُبيد أبياتاً مشهورةً أولها :
الأَمْرُ بالمعروفِ يا عمرو نافِلَةٌ

والقَائِمونَ بهِ لله أنْصارُ

واختلف كلامُ أحمد فيه : هل يُسمَّى واجباً أم لا ؟ فروى عنه جماعةٌ ما يدلُّ على وجوبه ، وروى عنه أبو داود في الرجل يرى الطُّنبورَ ونحوَه : أواجبٌ عليه تغييره ؟ قال : ما أدري ما واجب إن غيَّر ، فهو فضل (2) .
وقال إسحاق بن راهويه : هو واجبٌ على كلِّ مسلمٍ ، إلاَّ أنْ يخشى على نفسه ، ولعلَّ أحمد يتوقَّفُ في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجبٍ على الأعيان ، بل على الكفاية .
__________
(1) انظر : أحكام القرآن للجصاص 2/37 – 38 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/350 ، ومجموعة الفتاوى لابن تيمية 28/73 .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 3/140 .

وقد اختلف العلماءُ في الجهاد : هل هو واجبٌ أم لا ؟ فأنكر جماعةٌ منهم وجوبَه (1) ، منهم : عطاء (2) ، وعمرو بنُ دينار (3) ، وابنُ شبرمة (4) ، ولعلَّهم أرادوا هذا المعنى ، وقالت طائفة : هوَ واجبٌ ، منهم : سعيدُ بن المسيّب (5) ، ومكحولٌ ، ولعلَّهما أرادا وجوبَه على الكفاية .
وقال أحمد في رواية حَنْبل : الغزوُ واجبٌ على النَّاس كلِّهم كوجوبِ الحجِّ ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم ، ولابدَّ للناس من الغزو .
وسأله المروذي عن الجهاد : أفرضٌ هو ؟ قالَ : قد اختلفوا فيهِ ، وليس هوَ مثلَ الحجِّ ، ومرادُه : أنَّ الحجَّ لا يسقطُ عمَّن لم يحجَّ مع الاستطاعة بحجِّ غيره ، بخلاف الجهاد .
وسُئِلَ عن النَّفير : متى يجب ؟ فقال : أما إيجابٌ فلا أدري ، ولكن إذا خافوا على أنفسهم ، فعليهم أنْ يخرُجوا .
وظاهر هذا التوقُّف في إطلاق لفظ الواجب(6) على ما لم يأت فيه لفظُ الإيجاب تورُّعاً ، ولذلك توقَّف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختُلِفَ فيه ، وتعارضت أدلتُه من نصوص الكتاب أو السنة ، فقال في متعة النساء : لا أقولُ : هي حرامٌ ، ولكن يُنهى عنه ، ولم يتوقَّف في معنى التحريم ، ولكن في إطلاق لفظه ؛ لاختلاف النصوص والصحابةِ فيها ، هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد (7) .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 1/256 بتحقيقي ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/483 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 2/559 .
(2) انظر : تفسير الطبري ( 3241 ) ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/180 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/894 .
(3) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/893 – 894 .
(4) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/894 .
(5) انظر : تفسير الطبري ( 3244 ) ، والشرح الكبير على المغني 10/360 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/858 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/770 .

وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين : لا أقولُ : حرام ، ولكن يُنهى
عنه (1) ، والصَّحيح في تفسيره أنه توقَّف في إطلاق لفظة الحرام دون معناها ، وهذا كله على سبيل الورع في الكلام ؛ حذراً من الدُّخول تحت قوله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ } (2) .
قال الربيعُ بن خثيم : ليتق أحدُكم أنْ يقولَ : أحلَّ الله كذا ، وحرَّم كذا ،
فيقولُ الله : كذبتَ ، لم أُحِلَّ كذا ولم أحرِّم كذا (3) .
وقال ابنُ وهب : سمعتُ مالك بنَ أنس يقول : أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل : أكره هذا ، ولا أحبُّه ، ولا يقول : حلال ولا حرام .
وأما ما حُكي عن أحمد أنَّه قال : كلُّ ما في الصلاة فهو فرض ، فليس كلامه كذلك وإنَّما نقل عنه ابنُه عبد الله أنَّه قال : كلُّ شيءٍ في الصلاة مما وكَّده الله ، فهو
فرض ، وهذا يعود إلى معنى قوله : إنَّه لا فرض إلاّ ما في القرآن والذي وكّده الله من أمر الصلاة القيامُ والقراءة والركوع والسجود ، وإنَّما قال أحمد هذا ؛ لأنَّ بعضَ النَّاس كان يقول : الصَّلاةُ فرضٌ ، و الرُّكوع والسجود(4) لا أقول : إنَّه فرضٌ ، ولكنه سنَّةٌ . وقد سُئِلَ مالك بنُ أنس عمن يقول ذلك ، فكفَّره ، فقيل له : إنَّه يتأوَّل ، فلعنه ، وقال : لقد قال قولاً عظيماً . وقد نقله أبو بكر النَّيسابوري في كتاب " مناقب مالك " من وجوه عنه(5) .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/749 .
(2) النحل : 116 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 8995 ) عن عبد الله بن مسعود ، نحوه .
(4) من قوله : ( وإنما قال أحمد … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) عبارة : ( من وجوه عنه ) سقطت من ( ص ) .

وروى أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن ميمون بن الرماح ، قال : دخلتُ على مالكِ بن أنسٍ ، فقلت : يا أبا عبد الله ، ما في الصَّلاة من فريضةٍ وما فيها من سنةٍ ، أو قال : نافلة ؟ فقال مالك : كلامُ الزنادقة ، أخرِجوه (1) .
ونقل إسحاق بن منصور ، عن إسحاق بن راهويه : أنَّه أنكر تقسيمَ أجزاءِ الصَّلاة إلى سنَّةٍ وواجب ، فقال : كلُّ ما في الصَّلاة ، فهو واجبٌ ، وأشار إلى أنَّ منه ما تُعادُ الصَّلاةُ بتركه ، ومنه لا تعاد .
وسببُ هذا - والله أعلم - أنَّ التعبير بلفظ السُّنَّة قد يُفضي إلى التَّهاونِ بفعل
ذلك ، وإلى الزُّهد فيه وتركه ، وهذا خلافُ مقصودِ الشارع مِنَ الحثِّ عليه ، والتَّرغيب فيه بالطُّرق المؤدِّيةِ إلى فعله وتحصيله ، فإطلاقُ لفظ الواجب أَدْعى إلى الإتيان به ، والرغبة فيه .
وقد ورد إطلاقُ الواجب في كلام الشَّارع على ما لا يأثمُ بتركه ، ولا يُعاقب عليه عندَ الأكثرين (2) ، كغُسلِ الجمعة ، وكذلك ليلة الضَّيفِ عندَ كثيرٍ من العلماء أو أكثرهم ، وإنَّما المرادُ به المبالغةُ في الحثِّ على فعله وتأكيده .
وأمَّا المحارم : فهي التي حماها الله تعالى ، ومنع من قُربانها وارتكابها
وانتهاكها (3) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 8/114 .
(2) انظر : المحصول في أصول الفقه 1/95 – 96 ، والبحر المحيط في أصول الفقه 1/140 – 141 .
(3) انظر : لسان العرب 3/138 ( حرم ) .

والمحرَّمات المقطوعُ بها مذكورة في الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } (1) إلى آخر الآيات الثلاثة ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (2) .
وقد ذكر في بعض الآيات المحرَّمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرّمات من المطاعم في مواضع ، منها قولُه تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ } (3) ، وقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } (4) وفي الآية الأخرى : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ
بِه } (5) ، وقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ } (6) .
وذكر المحرَّمات في النكاح في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } (7).
__________
(1) الأنعام : 151 .
(2) الأعراف : 33 .
(3) الأنعام : 145 .
(4) البقرة : 173 .
(5) النحل : 115 .
(6) المائدة : 3 .
(7) النساء : 23 .

وذكر المحرَّمات من المكاسب في قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (1) .
وأما السُّنة ، ففيها ذكر كثيرٍ من المحرَّمات ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله حرَّم بَيْعَ الخمر والميتة والخنْزير والأصنام ) (2). وقوله: ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ) (3). وقوله : ( كلُّ مسكرٍ حرام ) (4) . وقوله : ( إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرام ) (5) .
فما ورد التَّصريحُ بتحريمه في الكتاب والسنة ، فهو محرّم .
__________
(1) البقرة : 275 .
(2) أخرجه : أحمد 3/324 و326 ، والبخاري 3/110 ( 2236 ) و5/190 ( 4296 ) ، ومسلم 5/41 ( 1581 ) ( 71 ) ، وأبو داود ( 3486 ) و( 3487 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(3) أخرجه : أحمد 1/247 و293 و322 ، وأبو داود ( 3488 ) ، وابن حبان ( 4938 ) ، والطبراني في "الكبير" (12887) ، والبيهقي 6/13 – 14 من حديث عبد الله بن عباس، به ، وهو صحيح .
(4) أخرجه : الطيالسي ( 1916 ) ، وأحمد 2/16 و29 و31 و104 – 105 ، ومسلم 6/100 ( 2003 ) ( 73 ) و( 74 ) ، وأبو داود ( 3679 ) ، والترمذي ( 1864 ) ، والنسائي 8/297 و324 وفي " الكبرى " ، له ( 5097 ) و( 5210 ) من حديث عبد الله ابن عمر ، به .
والروايات مطولة ومختصرة .
(5) أخرجه : البخاري 2/215 ( 1739 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .

وقد يستفادُ التحريمُ من النَّهي مع الوعيد والتَّشديدِ ، كما في قوله - عز وجل - :
{ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (1) .
وأما النهي المجرد ، فقد اختلفَ الناسُ : هل يُستفاد منه التَّحريمُ أم لا (2) ؟ وقد روي عن ابن عمر إنكارُ استفادة التحريم منه . قالَ ابنُ المبارك : أخبرنا سلاَّمُ بن أبي مطيع ، عن ابن أبي دخيلةَ ، عن أبيه ، قالَ : كنتُ عندَ ابن عمر ، فقالَ : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الزَّبيب والتَّمر ، يعني : أنْ يُخلطا ، فقال لي رجل من خلفي : ما قال ؟ فقلتُ: حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيب والتمر ، فقال عبد الله بنُ عمر : كذبتَ ، فقلتُ : ألم تقل : نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، فهو حرامٌ ؟ فقال : أنت تشهد بذاك ؟ قال سلاَّم : كأنه يقول : من نهي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما هو أدب .
وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقِّي إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمُه ممَّا فيه نوعُ شبهةٍ أو اختلاف .
وقال النَّخعي : كانوا يكرهون أشياء لا يُحرمونها ، وقال ابنُ عون : قال لي مكحول : ما تقولون في الفاكهة تُلقى بين القَوم فينتهبونها ؟ قلتُ : إنَّ ذَلِكَ عندنا
لمكروهٌ ، قال : حرام هي ؟ قلت : إنَّ ذلك عندنا لمكروه ، قال : حرام هي(3) ؟ قال ابن عون : فاستجفينا ذلك مِنْ قول مكحول .
__________
(1) المائدة : 90 – 91 .
(2) انظر : التمهيد في أصول الفقه 1/362 – 363 .
(3) من قوله : ( قلت : إنَّ ذلك … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وقال جعفر بن محمد : سمعت رجلاً يسأل القاسم بن محمد : الغناءُ أحرامٌ هو ؟ فسكت عنه القاسمُ ، ثم عاد ، فسكت عنه ، ثم عاد ، فقال له : إنَّ الحرام ما حُرِّم في القرآن ؟ أرأيت إذا أتي بالحقِّ والباطل إلى الله ، في أيهما يكونُ الغناء ؟ فقال الرجل : في الباطل ، فقال : فأنت ، فأفتِ نفسكَ .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : سمعتُ أبي يقول : أما ما نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فمنها أشياء حرامٌ ، مثل قوله : ( نهى أنْ تُنكحَ المرأةُ على عمَّتها ، أو على خالتها ) (1) ، فهذا حرام ، ونهى عن جلودِ السِّباع (2) ، فهذا حرامٌ ، وذكر أشياء من نحو هذا .
ومنها أشياء نهى عنها ، فهي أدبٌ .
وأما حدودُ الله التي نهى عن اعتدائها ، فالمرادُ بها جملة ما أَذِنَ في فعله ، سواء كان على طريقِ الوجوبِ ، أو الندب ، أو الإباحة ، واعتداؤها : هو تجاوزُ ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه ، كما قال تعالى : { وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (3) والمراد : من طلَّقَ على غير ما أمرَ الله به وأذن فيه ، وقال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (4)، والمراد : من أمسك بعد أنْ طلَّق بغير معروف ، أو سرَّح بغير إحسانٍ ، أو أخذ ممَّا أعطى المرأة شيئاً على غير وجه الفدية التي أذِنَ الله فيها .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 10753 ) ، وأحمد 2/423 و474 و489 و508 و516 ، ومسلم 4/135 ( 1408 ) ( 33 )، وأبو داود ( 2065 ) و( 2066 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وللحديث طرق أخرى .
(2) أخرجه : أحمد 5/74 و75 ، والدارمي ( 1983 ) ، وأبو داود ( 4132 ) ، والترمذي
( 1770م ) و( 1771 ) ، والنسائي 7/176 من حديث أسامة بن عُمير الهذلي ، به .
(3) الطلاق : 1 .
(4) البقرة : 229 .

وقال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } (1) إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (2) ، والمراد : من تجاوز ما فرضه الله للورثة ، ففضَّلَ وارثاً ، وزاد على حقه ، أو نقصه منه ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجَّة الوداع : ( إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصية لوارث ) (3) .
وروى النَّوَّاس بنُ سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4) قال : ( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جَنَبَتيِّ الصِّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحةٌ ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة ، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول : يا أيُّها النَّاسُ ، ادخُلوا الصِّراط جميعاً ، ولا تُعرِّجوا، وداعٍ يدعو من جوفِ الصِّراط ، فإذا أراد أنْ يفتحَ شيئاً من تلك الأبواب ، قال : وَيْحَكَ لا تَفتحه ، فإنَّك إنْ تَفتحه تَلِجْه ، والصِّراطُ : الإسلامُ ، والسُّوران : حدودُ الله ، والأبواب المفتَّحةُ : محارمُ الله ، وذلك الداعي على رأس الصِّراط كتاب الله ، والداعي من فوقُ : واعظ الله في قلب كلِّ مسلم ) خرَّجه الإمام أحمد (5) ، وهذا لفظه ، والنَّسائي في " تفسيره " (6) ، والترمذي (7) وحسنه .
__________
(1) النساء : 13 .
(2) النساء : 14 .
(3) أخرجه : أبو داود ( 2870 ) و( 3565 ) ، وابن ماجه ( 2713 ) ، والترمذي ( 2120 ) ، والبيهقي 6/264 من حديث أبي أمامة ، به مرفوعاً ، قال الترمذي : ( هو حديث حسن ) .
(4) من قوله : ( في خطبته … ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) في " مسنده " 4/182 – 183 .
(6) التفسير ( 253 ) .
(7) في " جامعه " ( 2859 ) .

فضرب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الإسلام في هذا الحديث بصراطٍ مستقيمٍ ، وهو الطريقُ السَّهلُ الواسعُ ، الموصلُ سالكَه إلى مطلوبه ، وهو - مع هذا - مستقيمٌ ، لا عوَجَ فيه ، فيقتضي ذلك قربَه وسهولته ، وعلى جنبتي الصِّراط يمنة ويَسرة سوران ، وهما حدودُ الله ، وكما أنَّ السُّورَ يمنع من كان داخله مِن تعدِّيه ومجاوزته ، فكذلك الإسلامُ يمنع من دخله من الخُروج عن حدوده ومجاوزتها ، وليس وراءَ ما حدَّ الله من المأذونِ فيه إلاَّ ما نهى عنه ، ولهذا مدح سبحانه الحافظينَ لحدوده ، وذمَّ من لا يعرف حدَّ الحلال من الحرام ، كما قال تعالى : { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ } (1) . وقد تقدَّم حديث القرآن وأنَّه يقول لمن عمل به : حَفِظَ حدودي ، ولمن لم يعمل به : تعدَّى حدودي .
والمراد : أنَّ من لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه ، فقد حفظ حدودَ الله ، ومن تعدَّى ذلك ، فقد تعدَّى حدود الله (2) (3).
__________
(1) التوبة : 97 .
(2) سبق تخريجه .
(3) من قوله : ( والمراد : أن كمن لم يتجاوز … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وقد تُطلق الحدودُ ، ويراد بها نفسُ المحارم (1) ، وحينئذٍ فيقال : لا تقربوا
حدودَ الله ، كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها } (2) ، والمراد : النَّهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصِّيام والاعتكاف في المساجد ، ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارم حدوداً - قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَثَلُ القائمِ على حدودِ الله والمُدْهِنِ فيها ، كمثل قوم اقتسموا سفينة ) (3) الحديث المشهور ، وأراد بالقائم على حدود الله : المنكر للمحرَّمات والناهي عنها (4) .
وفي حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إني آخذ بحُجَزِكُم أقول : اتَّقوا النَّارَ ، اتَّقوا الحدودَ ) قالها ثلاثاً ، خرَّجه الطبراني (5) والبزار (6) ، وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه ، ومنه قولُ الرجل الذي قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إني أصبتُ حداً فأقمه عليَّ (7) .
__________
(1) انظر : لسان العرب 3/79 ( حدد ) .
(2) البقرة : 187 .
(3) أخرجه : الحميدي ( 919 ) ، وأحمد 4/268 و269 و270 و273 ، والبخاري 3/182
( 2493 ) و3/237 ( 2686 ) ، والترمذي ( 2173 ) ، وابن حبان ( 297 ) و( 298 )
و( 301 )، والبيهقي 10/91 و288، والبغوي ( 4151 ) من حديث النعمان بن بشير ، به.
(4) انظر : فتح الباري لابن حجر 5/362 .
(5) في " الكبير " ( 10953 ) .
(6) كما في " كشف الأستار " ( 1536 ) .
(7) سبق تخريجه .

وقد تُسمى العقوباتُ المقدرة الرادعةُ عن المحارم المغلظة حدوداً ، كما يقال : حدُّ الزنى ، وحدُّ السرقة ، وحدُّ شرب الخمر ، ومنه قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامة :
( أتشفع في حدٍّ من حدود الله ؟ ) (1) ، يعني : في القطع في السَّرقة . وهذا هو المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء .
وأمَّا قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُجْلَدُ فَوقَ عشرِ جلدات إلا في حدٍّ مِنْ حُدودِ
اللهِ ) (2) فهذا قد اختلف الناسُ في معناه ، فمنهم من فسر الحدود هاهنا بهذه الحدود المقدرة ، وقال : إنَّ التَّعزير لا يُزاد على عشرِ جلدات ، ولا يُزادُ عليها إلاَّ في هذه الحدود المقدَّرة ، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ الله ، وقال : المرادُ أنَّ مجاوزة العشر جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكاب محرَّم مِنْ محارم الله ، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غير محرَّمٍ ، فلا يتجاوز به عشر جلدات (3) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18830 ) ، وأحمد 6/162 ، والدارمي ( 2307 ) ، والبخاري 4/213 ( 3475 ) و8/199 ( 6788 ) ، ومسلم 5/114 ( 1688 ) ( 8 ) و( 9 ) و5/115 ( 1688 ) ( 10 ) من حديث عائشة ، به . وهو جزء من حديث طويل .
(2) أخرجه : البخاري 8/215 ( 6848 ) ، ومسلم 5/126 ( 1708 ) ( 40 ) ، وأبو داود
( 4491 ) من حديث أبي بردة ، به .
(3) انظر : معالم السنن 3/294 ، وعون المعبود 12/201 – 202 .

وقد حمل بعضُهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وحدَّ حُدُوداً فلا تعتدوها ) على هذه العقوبات الزَّاجرة عَنِ المحرَّمات ، وقال : المراد النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عند إقامتها على أهل الجرائم . ورجَّح ذلك بأنَّه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنَّواهي لكان تكريراً لقوله : ( فرض فرائضَ فلا تُضيِّعُوها ، وحرَّم أشياء ، فلا تنتهكوها ) وليس الأمر على ما قاله ، فإنَّ الوقوفَ عندَ الحُدودِ يقتضي أنَّه لا يخرج عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذون فيه فرضاً ، أو ندباً ، أو مباحاً كما تقدَّم ، وحينئذٍ فلا تكريرَ في هذا الحديث ، والله أعلم .
وأمَّا المسكوتُ عنه ، فهو ما لم يُذكَرْ حكمُه بتحليلٍ ، ولا إيجابٍ ، ولا تحريمٍ ، فيكون معفوَّاً عنه ، لا حرجَ على فاعلِهِ ، وعلى هذا دلَّت هذه الأحاديثُ المذكورة هاهنا ، كحديث أبي ثعلبة وغيره .
وقد اختلفت ألفاظُ حديث أبي ثعلبة ، فروي باللفظ المتقدِّم ، ورُوي بلفظ آخر، وهو : ( إنَّ الله فَرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيانٍ فلا تبحثوا عنها ) خرَّجه إسحاق بنُ راهويه . ورُوي بلفظ آخر وهو : ( إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وسنَّ لكم سنناً فلا تنتهكوها ، وحرَّم عليكم أشياء فلا تعتدوها ، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها ) خرَّجه الطبراني (1) . وهذه الرواية تبيِّنُ أنَّ المعفوَّ عنه ما تُرِكَ ذكرُه ، فلم يحرَّم ولم يُحلَّل .
__________
(1) في " الكبير " 22/( 589 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني ، به .
والحديث سبق تخريجه .

ولكن مما ينبغي أنْ يعلم : أنَّ ذكرَ الشيءِ بالتَّحريم والتَّحليل مما قد يخفى فهمُه مِنْ نُصوص الكتاب والسُّنة ، فإنَّ دلالة هذه النُّصوص قد تكونُ بطريق النَّصِّ والتَّصريح ، وقد تكونُ بطريق العُموم والشُّمول ، وقد تكون دِلالتُه بطريق الفحوى والتنبيه ، كما في قوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } (1) ، فإنَّ دخُولَ ما هو أعظمُ من التَّأفيف مِنْ أنواع الأذى يكونُ بطريق الأولى ، ويُسمَّى ذلك مفهومَ الموافقةِ (2) .
وقد تكونُ دلالته بطريقِ مفهومِ المخالفة ، كقوله : ( في الغنم السَّائمة
الزكاة ) (3) فإنَّه يدلُّ بمفهومه على أنَّه لا زَكاةَ في غير السَّائمة ، وقد أخذ الأكثرون بذلك ، واعتبروا مفهوم المخالفة ، وجعلوه حجَّةً (4) .
وقد تكونُ دلالته مِنْ باب القياس ، فإذا نصَّ الشَّارع على حُكم في شيءٍ لمعنى من المعاني ، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره ، فإنَّه يتعدَّى الحكمُ إلى كلِّ ما وجد في ذلك المعنى عندَ جمهور العلماء ، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله، وأمر بالاعتبار به ، فهذا كلُّه ممَّا يعرَفُ به دلالة النُّصوص على التَّحليل والتَّحريم .
فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه ، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه ، وهاهنا مسلكان :
__________
(1) الإسراء : 23 .
(2) انظر : البرهان في أصول الفقه 1/300 .
(3) أخرجه : البخاري 2/146 ( 1454 ) ، وأبو داود ( 1567 ) ، وابن حبان ( 3266 ) عن أنس بن مالك ، بنحوه .
(4) انظر : البرهان في أصول الفقه 1/298 – 299 .

أحدهما: أنْ يُقال : لا إيجابَ ولا تحريمَ إلاَّ بالشَّرع ، ولم يوجب الشَّرعُ كذا ، أو لم يحرِّمه ، فيكونُ غيرَ واجبٍ ، أو غير حرامٍ ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية ، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه ، أو نفي تحريم بعض العُقود المختلف فيها ، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك ، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها ، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلاَّ لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا ، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم ، كما يقطع بانتفاء فرضية صلاةٍ سادسةٍ ، أو صيام شهر غير شهر رمضان ، أو وجوب الزَّكاة في غير الأموال الزَّكويَّة ، أو حَجَّةٍ غير حجَّةِ الإسلام ، وإنْ كان هذا كلُّه يستدلُّ عليه بنصوصٍ مصرِّحةٍ بذلك ، وإنْ ظنَّ انتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ ، ظنَّ انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع .
والمسلك الثاني : أنْ يذكر مِنْ أدلَّة الشَّرع العامة ما يدلُّ على أنَّ ما لم يوجبه الشَّرع ، ولم يحرِّمه ، فإنَّه معفوٌّ عنه ، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه ، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عنِ الحجِّ أفي كلِّ عام ؟ فقال :
( ذروني ما تركتُكم ، فإنَّما هلك مَنْ كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ ، فأتوا منه ما استطعتم ) (1) .
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقَّاص : ( إنَّ أعظم المسلمين في
المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرَّم ، فحرِّم من أجل مسألته ) (2) .
__________
(1) سبق تخريجه . انظر : الحديث التاسع .
(2) سبق تخريجه .

وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ هذا أيضاً في مواضعَ ، كقوله - عز وجل - : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } (1) ، فإنّ هذا يدلُّ على أنّ ما لم يجِد تحريمه ، فليس بمحرَّمٍ ، وكذلك قوله : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (2) ، فعنفهم على تركِ الأكل ممّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه ، معلِّلاً بأنَّه قد بيَّن لهمُ الحرامَ ، وهذا ليس منه ، فدلَّ على أنَّ الأشياء على الإباحة ، وإلاَّ لمَا أَلحَقَ اللَّومَ بمن امتنع من الأكل ممَّا لم ينصَّ له على حِلِّه بمجرَّد كونه لم ينصَّ على تحريمه .
واعلم أنَّ هذه المسألة غيرُ مسألةِ حُكم الأعيان قبل وُرود الشَّرع : هل هو الحظرُ أو الإباحة ، أو لا حُكم فيها ؟ فإنَّ تلك المسألة مفروضةٌ فيما قبل وُرودِ الشَّرع(3) ، فأمَّا بعد وُروده فقد دلت هذه النُّصوصُ وأشباهُها على أنَّ حكم ذلك الأصل زال واستقرَّ أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة بأدلَّة الشَّرع . وقد حكى بعضُهم الإجماع على ذلك ، وغلَّطوا من سوَّى بين المسألتين ، وجعل حكمهما واحداً .
__________
(1) الأنعام : 145 .
(2) الأنعام : 119 .
(3) من قوله : ( هل هو الحظر … ) إلىهنا سقط ( ص ) .

وكلام الإمام أحمد يدلُّ على أنَّ ما لا يدخل في نصوص التَّحريم ، فإنَّه معفوٌّ عنه (1) . قال أبو الحارث : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - : إنَّ أصحاب الطَّير يذبَحُون مِنَ الطير شيئاً لا نعرفه ، فما ترى في أكله ؟ فقال : كل ما لم يكن ذا مِخلَبٍ أو يأكلُ الجِيفَ ، فلا بأس به ، فحصر تحريمَ الطير في ذي المخلب المنصوص عليه ، وما يأكل الجِيفَ ؛ لأنَّه في معنى الغراب المنصوص عليه(2) وحكم بإباحة ما عداهما . وحديث ابن عباس (3) الذي سبق ذكره يدلُّ على مثل هذا ، وحديث سلمان الفارسي (4) فيه النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء ، فإنَّ الجبن كان يُصنعُ بأرضِ المجوس ونحوهم من الكُفَّارِ ، وكذلك السَّمن ، وكذلك الفراء تُجلب من عندِهم ، وذبائحهم ميتةٌ ، وهذا مما يستدلُّ به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها ، وعلى إباحة أطعمة المجوس ، وفي ذلك كُلِّه خلافٌ مشهورٌ ، ويُحملُ على أنَّه إذا اشتبه الأمرُ ، لم يجبِ السُّؤالُ والبحثُ عنه ، كما قال ابن عمر لمَّا سُئل عن الجُبن الذي يصنعه المجوسُ ، فقال : ما وجدته في سوق المسلمين اشتريتُه ولم أسأل عنه (5) ، وذكر عندَ عمر الجبن وقيل له : إنَّه يُصنع بأنافح الميتة ، فقال : سموا الله وكلوا(6). قال الإمام أحمد: أصحُّ حديث فيه هذا الحديث ، يعني : جبن المجوس (7) .
__________
(1) انظر : التبصرة في أصول الفقه : 80 - 81 ، وميزان الأصول : 193 - 194 ، وشرح الكوكب المنير 1/500 - 504 .
(2) من قوله : ( وما يأكل الجيف … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) أخرجه : عبد الرزاق ( 8785 ) .
(6) أخرجه : عبد الرزاق ( 8782 ) .
(7) انظر : المغني 9/342 .

وقد رُوي من حديث ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بجبنة في غزوة الطَّائِفِ ،
فقال : ( أين تُصنَعُ هذه ؟ ) قالوا : بفارس ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ضعوا فيها السِّكِّينَ واقطعوا ، واذكروا اسمَ الله وكلوا ) خرَّجه الإمام أحمد (1) ، وسئل عنه ، فقال :
هو حديث منكرٌ ، وكذا قال أبو حاتم الرازي (2) .
وخرَّج أبو داود (3) معناه من حديث ابن عمر ، إلاَّ أنَّه قال : في غزوة تبوك ، وقال أبو حاتم (4) : هو منكر أيضاً .
وخرَّجه عبد الرزاق في " كتابه " (5) مرسلاً ، وهو أشبه ، وعنده زيادة ، وهي : أنَّه قيل له : يا رسول الله ، نخشى أنْ تكونَ ميتة ؟ قال : ( سمُّوا عليه
وكُلوه ) .
وخرَّج الطبراني (6) معناه من حديث ميمونة ، وإسناده جيِّد ، لكنه غريب جداً .
وفي " صحيح البخاري " (7) عن عائشة : أنَّ قوماً قالوا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ قوماً يأتوننا باللَّحم ، لا ندري أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا ؟ فقال : ( سمُّوا عليه أنتم
وكلوا ) قالت : وكانوا حديثي عهدٍ بالكُفر .
__________
(1) في " مسنده " 1/234 .
... وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2878 ) و( 2879 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 11807 ) ، والبيهقي 10/6 من حديث عبد الله بن عباس ، به .
(2) في " العلل " 2/221 عقيب ( 1488 ) .
(3) في " السنن " ( 3819 ) . وأخرجه : البيهقي 10/6 من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(4) في " العلل " 2/221 عقيب ( 1488 ) .
(5) المصنف ( 8795 ) عن الشعبي والضحاك بن مزاحم ، مرسلاً .
(6) في " الأوسط " ( 1597 ) . وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/291 من حديث ميمونة ، به .
(7) الصحيح 3/71 ( 2057 ) من حديث عائشة ، به .

وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن الحسن : أنَّ عمر أراد أنْ ينهى عن حُلَلِ الحِبَرَةِ ؛ لأنَّها تُصبَغُ بالبَوْلِ ، فقال له أُبيٌّ : ليس ذلك لك ، قد لبسهنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولبسناهنَّ في عهده ، وخرَّجه الخلاَّل من وجه آخر وعنده : إنَّ أُبَيّاً قال له : يا أمير المؤمنين ، قد لبسها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورأى اللهُ مكانها ، ولو علم اللهُ أنَّها حرامٌ ، لنهى عنها ، فقال : صدقت .
وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يَصبغُه أهلُ الكتاب من غير غسلٍ ، فقال : لم تسأل عمَّا لا تعلم ، لم يزلِ النَّاسُ منذ أدركناهم لا يُنكرون ذلك . وسئِلَ عن يهود يَصبغُون بالبول ، فقال : المسلم والكافرُ في هذا سواء ، ولا تسأل عن هذا ، ولا تبحث عنه ، وقال : إذا علمت أنَّه لا محالةَ يصبغ بشيءٍ مِنَ البولِ ، وصحَّ عندكَ ، فلا تصلِّ فيه حتّى تغسله .
وخرَّج من حديث المغيرة بن شعبة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُهدي إليه خُفَّان ، فلبسهما ولا يعلم أذكيٌّ هما أم لا (2) .
وقد ورد ما يستدلُّ به على البحث والسؤال ، فخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث رجلٍ عن أمِّ مسلمٍ الأشجعية : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتاها وهي في قبَّةٍ فقال : ( ما أحسنها إنْ لم يكن فيها ميتةٌ ) ، قالت : فجعلت أتتبعها . والرجل مجهول (4) .
__________
(1) المسند 5/143 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّ الحسن لم يسمع من عمر ولا من أُبي .
(2) أخرجه : الترمذي ( 1769 ) وفي " الشمائل " ، له ( 74 ) ، وقال : ( حسن غريب ) ، وانظر تعليقي على " الشمائل " : 69 ( 74 ) .
(3) في " مسنده " 6/437 .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 8/237 ، والطبراني في "الكبير" 25/( 375 ) و( 376 ) من حديث أُمِّ مسلم الأشجعيَّة ، به .
(4) فالحديث ضعيف لجهالة هذا الرجل .

وخرَّج الأثرمُ بإسنادِه عن زيد بن وهب ، قال : أتانا كتابُ عمر بأَذربيجان : إنَّكم بأرضٍ فيها الميتة ، فلا تلبِسُوا مِنَ الفراء حتّى تعلموا حِلَّه من حرامه .
وروى الخلال بإسناده عن مجاهد : أنَّ ابن عمر رأى على رجل فرواً ، فمسَّه وقال : لو أعلم أنَّه ذُكِّيَ ، لسرَّني أنْ يكون لي منه ثوب (1) .
وعن محمد بن كعب أنَّه قال لعائشة : ما يمنعك أنْ تتخذي لحافاً (2) من
الفراء ؟ قالت : أكره أنْ ألبس الميتة .
وروى عبد الرزاق (3) بإسناده عن ابن مسعود : أنَّه قال لمن نزلَ من المسلمين بفارس : إذا اشتريتُم لحماً فسلوا ، إنْ كان ذبيحةَ يهودي أو نصراني فكُلوا ، وهذا لأنَّ الغالب على أهل فارس المجوس وذبائحُهم محرَّمةٌ .
والخلاف في هذا يُشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تُباح ذبيحته من الكفَّار ، وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم ، والخلاف فيها يرجعُ إلى قاعدةِ تعارُض الأصل
والظاهر ، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث : ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمورٌ مشتبهات ) (4) .
وقوله في الأشياء التي سكت عنها : ( رحمة من غير نسيان ) (5) يعني : أنَّه إنَّما سكت عن ذكرها رحمةً بعباده ورفقاً ؛ حيث لم يحرِّمْها عليهم حتّى يُعاقبَهم على فعلها ، ولم يُوجِبها عليهم حتّى يعاقبَهم على تركها ، بل جعلها عفواً ، فإنْ فعلوها ، فلا حرجَ عليهم ، وإنْ تركوها فكذلك ، وفي حديث أبي الدرداء (6) : ثم تلا : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } (7) ومثلُه قوله - عز وجل - : { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا
يَنْسَى } (8) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 24765 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المصنف " ( 8578 ) .
(4) سبق تخريجه . انظر : الحديث السَّادس .
(5) سبق تخريجه .
(6) سبق تخريجه .
(7) مريم : 64 .
(8) طه : 52 .

وقوله : ( فلا تبحثوا عنها ) يحتمِلُ اختصاص هذا النهي بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنَّ كثرةَ البحث والسؤال عمَّا لم يذكر قد يكونُ سبباً لنزول التَّشديد فيه بإيجابٍ أو تحريمٍ ، وحديث سعد بن أبي وقَّاص (1) يدلُّ على هذا ، فيحتمل أنْ يكون النَّهيُ عامَّاً ، والمروى عن سلمان من قوله يدلُّ على ذلك ، فإنَّ كثرة البحث والسُّؤال عن حكمٍ ما لم يُذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يُوجِب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه ؛ لمشابهته لبعضِ الواجبات أو المحرَّمات ، فقَبولُ العافية فيه ، وتركُ البحث والسُّؤالِ عنه خيرٌ ، وقد يدخلُ ذلك في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هلك المتنطعون ) ، قالها ثلاثاً . خرَّجه مسلم (2) من حديث ابن مسعود مرفوعاً ، والمتنطع : هو المتعمِّقُ البحَّاث عمَّا لا يعنيه (3) ، وهذا قد يتمسَّك به من يتعلَّق بظاهرِ اللَّفظ ، وينفي المعاني والقياس كالظاهرية .
والتَّحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أنَّ البحث عمَّا لم يُوجَدْ فيه نصٌّ خاصٌّ أو عامٌّ على قسمين :
أحدهما : أنْ يبحث عن دخوله في دلالات النُّصوص الصَّحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصَّحيح ، فهذا حقٌّ ، وهو ممَّا يتعيَّنُ فعلُه على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) في " صحيحه " 8/58 ( 2670 ) ( 70 ) .
(3) انظر : شرح السنة 12/367 عقيب ( 3396 ) ، وشرح النووي لصحيح مسلم 8/388 .

والثاني : أنْ يدقِّق النَّاظِر نظرَه وفكرَه في وُجوهِ الفُروق المستبعدةِ ، فيفرِّق بين متماثلين بمجرَّد فرقٍ لا يظهر له أثرٌ في الشَّرع ، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمعِ ، أو يجمع بين متفرِّقين بمجرَّد الأوصاف الطرديَّة التي هي غيرُ مناسبة ، ولا يدلُّ دليلٌ على تأثيرها في الشَّرع ، فهذا النَّظر والبحثُ غيرُ مرضيٍّ ولا محمودٍ ، مع أنَّه قد وقع فيه طوائفٌ مِنَ الفُقَهاءِ ، وإنَّما المحمودُ النَّظرُ الموافقُ لنظرِ الصحابة ومَنْ بعدهُم مِنَ القُرونِ المفضَّلةِ كابنِ عبَّاسٍ ونحوه ، ولعلَّ هذا مرادُ ابن مسعود بقوله : إيَّاكم والتنطُّع ، إياكم والتعمُّق ، وعليكم بالعتيق ، يعني : بما كان عليه الصَّحابة - رضي الله عنهم - .
ومن كلام بعض أئمة الشافعية : لا يليقُ بنا أنْ نكتفيَ بالخيالات في الفروق ، كدأبِ أصحاب الرأي ، والسر في تلك أنَّ متعلَّق الأحكام في الحال الظُّنونُ وغلباتُها، فإذا كان اجتماعُ مسألتين أظهرَ في الظنِّ مِنَ افتراقهما ، وجب القضاءُ باجتماعهما ، وإنِ انقدحَ فرقٌ على بعد ، فافهموا ذلك فإنَّه من قواعد الدين . انتهى .
ومما يدخل في النَّهي عن التعمُّق والبحث عنه : أمورُ(1) الغيب الخبريّة التي أمر بالإيمان بها، ولم يُبين كيفيتها ، وبعضُها قد لا يكونُ له شاهدٌ في هذا العالم المحسوس ، فالبحث عن كيفيَّة ذلك هو ممَّا لا يعني ، وهو مما يُنهى عنه ، وقد يوجِبُ الحيرة والشَّكَّ ، ويرتقي إلى التَّكذيب .
__________
(1) من قوله : ( على بعد فافهموا … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يزال النَّاس يَسألون حتّى يقال : هذا الله خلَقَ الخَلْق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد مِنْ ذَلِكَ شيئاً ، فليقل : آمنت بالله ) ، وفي روايةٍ (2) لهُ : ( لا يزالُ النَّاسُ يسألونَكم عَنِ العِلم ، حتّى يقولوا : هذا الله خلقنا ، فمن خلق الله ؟ ) وفي روايةٍ له أيضاً (3) :
( لَيسألَنَّكُم النَّاسُ عَنْ كلِّ شيءٍ ، حتى يقولوا : الله خلق كلَّ شيءٍ ، فمن خلقه ؟ ). وخرَّجه البخاري (4) ، ولفظه : ( يأتي الشيطان أحدَكُم فيقول : من خلق كذا ؟
من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربَّك ؟ فإذا بلغه فليستعذْ بالله ولينتَهِ ) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله - عز وجل - : إنَّ أمَّتك لا يزالون يقولون : ما كذا ما كذا ، حتّى يقولوا : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ ) . وخرَّجه البخاري (6) ، ولفظه : ( لن يبرحَ الناس يتساءلون : هذا الله خالِقُ كلِّ شيءٍ ، فمن خلق الله ؟ ) .
__________
(1) الصحيح 1/83 ( 134 ) ( 212 ) .
(2) الصحيح 1/84 ( 135 ) ( 215 ) .
(3) الصحيح 1/85 ( 135 ) ( 216 ) .
(4) في " صحيحه " 4/149 ( 3276 ) .
(5) الصحيح 1/85 ( 136 ) ( 217 ) .
(6) في " صحيحه " 9/119 ( 7296 ) .

قال إسحاق بن راهويه : لا يجوزُ التفكُّر في الخالق ، ويجوز للعباد أن يتفكَّروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم ، ولا يزيدون على ذلك ؛ لأنَّهم إنْ فعلوا تاهوا ، قال : وقد قال الله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (1) ، فلا يجوز أنْ يقال : كيف تُسبِّحُ القِصَاعُ ، والأَخْوِنَةُ ، والخبزُ المخبوزُ ، والثِّيابُ المنسوجة ؟ وكلُّ هذا قد صحَّ العلم فيهم أنَّهم يسبحون ، فذلك إلى الله أنْ يجعل تسبيحَهم كيف شاء وكما شاء ، وليس للنَّاس أنْ يخوضُوا في ذلك إلاَّ بما علموا ، ولا يتكلَّموا في هذا وشِبْهِهِ إلاَّ بما أخبر الله ، ولا يزيدُوا على ذلك ، فاتَّقوا الله ، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة ، فإنَّه يُرْديكم الخوض فيه عن سنن الحقِّ . نقل ذلك كلَّه حربٌ ، عن إسحاق - رحمه الله - .
__________
(1) الإسراء : 44 .

الحديث الحادي والثلاثون
عَنْ سهلِ بنِ سعْدٍ السَّاعِديِّ قال : جاءَ رجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ :
يا رَسولَ الله دُلَّني عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي الله ، وأحَبَّنِي النَّاسُ ، فقال
: ( ازهَدْ فِي الدُّنيا يُحِبَّكَ الله ، وازهَدْ فيمَا في أيدي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ ) . حديثٌ حسنٌ رَواهُ ابنُ ماجه (1) وغيرُهُ بأسانِيدَ حَسَنةٍ .
__________
(1) في " سننه " ( 4102 ) .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 2/11 ، والطبراني في " الكبير " ( 5972 ) ، وابن عدي في " الكامل " 3/458 ، والحاكم 4/313 ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/252 - 253 و7/36 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 643 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 10523 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي ، به .

هذا الحديث خرَّجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - أنَّ إسناده حسن ، وفي ذلك نظر ، فإنَّ خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمامُ أحمد : منكرُ الحديث ، وقال مرة : ليس بثقة ، يروي أحاديث بواطيل ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيءٍ ، وقال مرة : كان كذاباً يكذب ، حدَّث عن شعبة أحاديثَ موضوعة ، وقال البخاري وأبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : متروكُ الحديث ضعيف (1)(2) ، ونسبه صالح بنُ محمد ، وابنُ عدي إلى وضع الحديث(3) ، وتناقض ابنُ حبان في أمره ، فذكره في كتاب "الثقات" (4)، وذكره في كتاب " الضعفاء " (5) ، وقال : كان ينفردُ عَنِ الثِّقاتِ بالموضوعات ، لا يحلُّ الاحتجاج بخبره ، وخرَّج العقيلي (6) حديثه هذا وقال : ليس له أصل من حديث سفيان الثوري ، قال : وقد تابع خالداً عليه محمَّد بن كثيرٍ الصَّنعانيُّ ، ولعله أخذه عنه ودلسه ؛ لأنَّ المشهور به خالد هذا .
قال أبو بكر الخطيب : وتابعه أيضا أبو قتادة الحرَّاني ومِهرانُ بن أبي عمر الرازي ، فرووه عن الثَّوريِّ قال : وأشهرُها حديثُ ابن كثير . كذا قال ، وهذا يخالفُ قولَ العقيلي : إنَّ أشهرَها حديثُ خالد بن عمرو ، وهذا أصحُّ ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ، ضعفه أحمد (7) . وأبو قتادة ومهران تُكُلِّمَ فيهما أيضاً ، لكن محمد بن كثير خيرٌ منهما ، فإنَّه ثقةٌ عندَ كثير مِنَ الحفَّاظ .
وقد تعجب ابنُ عدي من حديثه هذا ، وقال : ما أدري ما أقول فيه (8) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/343 .
(3) انظر : تهذيب الكمال 2/360 – 361 ( 1622 ) .
(4) الثقات 8/223 .
(5) انظر : المجروحين 1/283 .
(6) في " الضعفاء " 2/11 .
(7) انظر : الضعفاء 4/128 .
(8) انظر : الكامل في الضعفاء 3/459 .

وذكر ابنُ أبي حاتم (1) أنَّه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري ، فذكر هذا الحديث ، فقال : هذا حديثٌ باطلٌ ، يعني : بهذا الإسناد ، يُشير إلى أنَّه لا أصلَ له عن محمد بن كثير ، عن سفيان .
وقال ابن مشيش : سألتُ أحمد عن حديث سهل بن سعد ، فذكر هذا الحديث ، فقال أحمد : لا إله إلا الله - تعجباً منه - من يروي هذا ؟ قلت : خالد ابن عمرو ، فقال : وقعنا في خالد بن عمرو ، ثم سكت ، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئاً من حديث خالد هذا ، فإنَّه لا يُشتغل به .
وخرَّجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " (2) له عن خالد بن عمرو ، ثم قال : كنت منكراً لهذا الحديث ، فحدثني هذا الشيخُ عن وكيع : أنَّه سأله عنه ، ولولا مقالته هذه لتركته . وخرَّج ابن عدي (3) هذا الحديث(4) في ترجمة خالد بن عمرو ، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضاً ، وقال : هذا الحديث عن الثوري منكر ، قال : ورواه زافر - يعني : ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان ، عن أبي حازم ، عن ابن عمر . انتهى ، وزافر ومحمد بن عيينة ، كلاهما ضعيف .
__________
(1) في " العلل " 2/372 عقيب ( 1815 ) .
(2) المواعظ ( 131 ) .
(3) في " الكامل " 3/458 – 459 .
(4) عبارة : ( هذا الحديث ) سقطت من ( ص ) .

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسلٍ(1) : خرجه أبو سليمان بن
زبر الدِّمشقي في " مسند إبراهيم بن أدهم " (2) من جمعه من رواية معاوية بن
حفص ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن ربعي بن حِراش ، قال :
جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، دلَّني على عمل يحبَّني الله
عليه ، ويحبني الناس عليه ، فقال : ( أما العملُ الذي يحبُّك الله عليه ،
فالزُّهدُ في الدُّنيا ، وأمَّا العملُ الذي يحبُّك الناس عليه ، فانظر هذا الحطام ، فانبذه إليهم ) .
وخرَّجه ابن أبي الدُّنيا في كتاب " ذم الدُّنيا " من رواية عليِّ بن بكار ، عن
إبراهيم بن أدهم ، قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره ، ولم يذكر في إسناده منصوراً ولا ربعياً ، وقال في حديثه : ( فانبذ إليهم ما في يديك من الحُطام ) .
وقدِ اشتمل هذا الحديثُ على وصيتين عظيمتين :
إحداهما : الزُّهدُ في الدُّنيا ، وأنَّه مقتضٍ لمحبة الله - عز وجل - لعبده .
والثانية : الزُّهد فيما في أيدي الناس ، وأنَّه مقتضٍ لِمحبَّة النَّاس .
__________
(1) والمرسل أحد أنواع الضعيف .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/41 من طريق إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أنس ، به ؛ لكنَّ وصله خطأ ، قال أبو نعيم عقب الحديث : ( ذكر أنس في هذا الحديث وهم من عمر أو أبي أحمد ، فقد رواه الأثبات عن الحسن بن الربيع فلم يجاوزوا فيه مجاهداً ) ، ثم ساقه مرسلاً من طريق مجاهد .

فأمَّا الزُّهد في الدُّنيا ، فقد كثُر في القُرآن الإشارة إلى مدحه ، وإلى ذمّ الرغبة في الدُّنيا ، قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (1) ، وقال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } (2) ، وقال تعالى في قصة قارون : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ } إلى قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ } (3) ، وقال تعالى : { وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } (4) ، وقال : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } (5) .
وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنَّه قال لقومه : { يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } (6).
وقد ذمَّ الله مَنْ كان يُريد الدُّنيا بعمله وسعيه ونيَّته ، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث : ( الأعمال بالنيات ) (7) .
__________
(1) الأعلى : 16 – 17 .
(2) الأنفال : 67 .
(3) القصص : 79 – 83 .
(4) الرعد : 26 .
(5) النساء : 77 .
(6) غافر : 38 – 39 .
(7) سبق تخريجه . انظر : الحديث الأول .

والأحاديث في ذمِّ الدُّنيا وحقارتها عند الله كثيرةٌ جداً ، ففي " صحيح
مسلم " (1) عن جابر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالسُّوقِ والنَّاسُ كَنَفَيْهِ (2) ، فمرَّ بجديٍّ
أسكَّ (3) ميِّتٍ ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : ( أيُّكم يُحبُّ أنَّ هذا له بدرهم ؟ ) فقالوا : ما نحبُّ أنَّه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : ( أتحبُّون أنَّه لكم ؟ ) قالوا : والله لو كان حياً كان عيباً فيه ؛ لأنَّه أسكُّ ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : ( والله للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم ) .
وفيه أيضاً (4) عن المستورد الفهري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما الدُّنيا في
الآخرة إلاَّ كما يَجْعَلُ أحدُكم أصبَعَهُ في اليمِّ ، فلينظر بماذا ترجع ) .
وخرَّج الترمذي (5) من حديث سهل بن سعد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو كانتِ الدُّنيا تعدِلُ عندَ الله جناح بعوضةٍ ، ما سقى كافراً منها شربةً ) وصححه (6) .
__________
(1) الصحيح 8/210 – 211 ( 2957 ) ( 2 ) .
وأخرجه : أحمد 3/365 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 962 ) ، وأبو داود ( 186 ) ، والبيهقي 1/139 عن جابر بن عبد الله ، به .
(2) الكَنفَ بالتحريك الجانِب والناحِية .
انظر : النهاية 4/205 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 9/261 .
(3) أسكَّ : أي : صغير الأُذنين . انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 9/261 .
(4) مسلم في " صحيحه " 8/156 ( 2858 ) ( 55 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 496 ) ، وأحمد 4/228 – 229 و229 ، وابن ماجه
( 4108 ) ، والترمذي ( 2323 ) ، وابن حبان ( 4330 ) من حديث المستورد بن شَدَّاد الفهري ، به .
(5) في " جامعه " ( 2320 ) من حديث سهل بن سعد ، به .
(6) انظر : جامع الترمذي عقيب ( 2320 ) ، على أنَّ في إسناده عبد الحميد بن سليمان ضعيف ، وقد تابعه من هو مثله فلعل الترمذي صححه لشواهده ، والله أعلم .

ومعنى الزهد في الشيء : الإعراضُ عنه لاستقلاله ، واحتقاره ، وارتفاع الهمَّةِ
عنه ، يقال : شيء زهيد ، أي : قليل حقير (1) .
وقد تكلَّم السَّلفُ ومَنْ بعدَهم في تفسير الزُّهد في الدُّنيا ، وتنوَّعت عباراتهم عنه ، وورد في ذلك حديثٌ مرفوع خرَّجه الترمذي (2) وابن ماجه (3) من رواية عمرو بن واقدٍ ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولانيِّ ، عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الزَّهادةُ في الدُّنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ لا تكونَ بما في يديك أوثقَ ممَّا في يد الله ، وأنْ تكون في ثواب المصيبة إذا أنتَ أُصبتَ بها أَرغبَ فيها لو أنَّها بقيت لك ) . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه ، وعمرو بن واقد منكر الحديث (4) .
قلت : الصحيح وقفه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " (5) ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالدُ بنُ صبيح ، حدثنا يونس بن حلبس قال : قال أبو مسلم الخولاني : ليس الزهادةُ في الدُّنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، إنَّما الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق مما في يديك ، وإذا أُصِبْتَ بمصيبةٍ ، كنت أشدَّ رجاءً لأجرها وذُخرها مِن إيَّاها لو بقيت لك .
وخرَّجه ابن أبي الدُّنيا من راوية محمد بن مهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزَّهادة في الدُّنيا بتحريم الحلال ، ولا بإضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأنْ يكونَ حالك في المصيبة وحالُك إذا لم تُصب بها سواءً ، وأنْ يكون مادحُك وذامُّك في الحقِّ سواء .
__________
(1) انظر : لسان العرب 6/97 ( زهد ) .
(2) في " جامعه " ( 2340 ) من حديث أبي ذر ، به .
(3) السنن ( 4100 ) من حديث أبي ذر ، به .
(4) في " جامعه " عقيب ( 2340 ) .
(5) الزهد ( 96 ) .

ففسر الزهد في الدُّنيا بثلاثة أشياء كُلُّها من أعمال القلوب ، لا من أعمال
الجوارح ، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لا تَشْهَدْ لأحدٍ بالزُّهد ، فإنَّ الزُّهد في القلب .
أحدها : أنْ يكونَ العبدُ بما في يد الله أوثقَ منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ مِنْ صحَّة اليقين وقوَّته ، فإنَّ الله ضَمِن أرزاقَ عباده ، وتكفَّل بها ، كما قال :
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } (1) ، وقال : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (2) ، وقال : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } (3) .
قال الحسن : إنَّ مِنْ ضعف يقينك أنْ تكونَ بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله - عز وجل - .
وروي عن ابن مسعود قال : إنَّ أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا : ليس في البيت دقيق . وقال مسروقٌ : إنَّ أحسن ما أكون ظناً حين يقول الخادم : ليس في البيت قفيزٌ من قمحٍ ولا درهمٌ (4) . وقال الإمامُ أحمد : أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصْبِحُ وليس عندي شيء (5) .
وقيل لأبي حازم الزاهد : ما مالُك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثِّقةُ بالله ، واليأسُ ممَّا في أيدي الناس (6) .
وقيل له : أما تخافُ الفقر ؟ فقال : أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟!
ودُفع إلى عليِّ بنِ الموفق ورقة ، فقرأها فإذا فيها : يا عليّ بن الموفق أتخاف الفقرَ وأنا ربك ؟
__________
(1) هود : 6 .
(2) الذاريات : 22 .
(3) العنكبوت : 17
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34871 ) ، والدينوري في " المجالسة " ( 2744 ) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 2/97 .
(5) انظر : صفة الصفوة 2/345 .
(6) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 963 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/231 – 232 .

وقال الفضيلُ بن عياض (1) : أصلُ الزُّهد الرِّضا عَنِ الله - عز وجل - . وقال : القنوع هو الزهد ، وهو الغنى .
فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفاً ، ومنعه ذلك مِنْ طلب الدُّنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك ، كان زاهداً في الدُّنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإنْ لم يكن له شيء من الدُّنيا كما قال عمَّار : كفى بالموت واعظاً ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلاً (2) .
وقال ابن مسعود : اليقينُ : أنْ لا ترضي النَّاسَ بسخطِ اللهِ ، ولا تحمد أحداً على رزق الله ، ولا تلم أحداً على ما لم يؤتِكَ الله ، فإنَّ الرِّزقَ لا يسوقُه حرصُ حريصٍ ، ولا يردُّه كراهة كارهٍ ، فإنَّ الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الرَّوحَ والفرحَ في اليقين والرضا ، وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخطِ (3) .
وفي حديث مرسل أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدُّعاء : ( اللهمَّ إنِّي أسألك إيماناً يُباشر قلبي ، ويقيناً(4) صادقاً(5) حتى أعلم أنَّه لا يمنعني رزقاً قسمته لي ، ورضِّني من المعيشة بما قسمت لي ) (6) .
__________
(1) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 960 ) و( 3045 ) ، وأبو عبد الرحمان السّلمي في
" طبقات الصوفية " : 10 .
(2) أخرجه : البيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10556 ) عن عمار بن ياسر ، مرفوعاً .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " : 118 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 209 ) .
(4) في ( ص ) : ( ولساناً ) .
(5) صادقاً ) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " : 112 .

وكان عطاء الخراساني لا يقومُ من مجلسه حتى يقولَ : اللهمَّ هب لنا يقيناً منك حتى تُهوِّن علينا مصائبَ الدُّنيا ، وحتى نعلمَ أنَّه لا يُصيبنا إلا ما كتبتَ علينا ، ولا يُصيبنا مِنْ هذا الرِّزقِ إلاَّ ما قسمتَ لنا (1) .
روينا من حديث ابن عباس مرفوعاً ، قال : ( من سرَّه أنْ يكون أغنى الناسِ ، فليكن بما في يدِ الله أوثق منه بما في يده ) (2) .
والثاني : أنْ يكونَ العبدُ إذا أُصيبَ بمصيبةٍ في دُنياه مِنْ ذهابِ مالٍ ، أو ولدٍ ، أو غير ذلك ، أرغبَ في ثواب ذلك ممَّا ذهبَ منه مِنَ الدُّنيا أنْ يبقي له ، وهذا أيضاً ينشأُ مِنْ كمالِ اليقين .
وقد روي عن ابن عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه : ( اللهُمَّ اقسم لنا مِنْ خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين معاصِيكَ ، ومِنْ طاعتك ما تبلِّغُنا به جنَّتك ، ومِنَ اليقين ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدُّنيا ) (3) وهو من علامات الزُّهد في الدُّنيا ، وقلَّةِ
الرَّغبة فيها ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : من زهد في الدُّنيا ، هانت عليه المصيباتُ .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " : 108 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/218 – 219 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 367 ) و( 368 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به . وهو جزء من حديث طويل .
(3) أخرجه : الترمذي ( 3502 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 402 ) ، والحاكم 1/528 ، والبغوي ( 1374 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .

والثالث : أنْ يستوي عندَ العبد حامدُه وذامُّه في الحقِّ ، وهذا من علامات الزُّهد في الدُّنيا ، واحتقارها ، وقلَّةِ الرَّغبة فيها ، فإنَّ من عظُمتِ الدُّنيا عنده أحبَّ المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ ، فربما حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحق خشيةَ الذَّمِّ ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدح ، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من قلبه ، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ ، وما فيه رضا مولاه ، كما قال ابن مسعود : اليقين أنْ لا تُرضي النَّاسَ بسخط الله (1) . وقد مدح الله الذين يُجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم .
وقد روي عن السَّلف عبارات أخرُ في تفسير الزُّهد في الدُّنيا ، وكلها تَرجِعُ إلى ما تقدَّم ، كقول الحسن : الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال : هو أفضل مني ، وهذا يرجع إلى أنَّ الزاهد حقيقةً هو الزَّاهدُ في مدح نفسه وتعظيمها ، ولهذا يقال : الزهد في الرِّياسة أشدُّ منه في الذهب والفضة (2) ، فمن أخرج مِنْ قلبه حبَّ الرياسة في الدُّنيا ، والتَّرفُّع فيها على الناس ، فهو الزاهد حقاً ، وهذا هو الذي يستوي عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ ، وكقول وهيب بن الورد : الزهد في الدُّنيا أنْ لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها (3) ، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .
وهذا يرجع إلى أنَّه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصُها ، وهو مثلُ استواءِ المصيبة وعدمها كما سبق .
وسئل بعضُهم - أظنُّه الإمام أحمد - عمَّن معه مالٌ : هل يكون زاهداً ؟ قال : إنْ كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه ، أو كما قال .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/238 من قول يوسف بن أسباط .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/140 .

وسئل الزهري عن الزاهد فقال : من لم يغلب الحرامُ صبرَه ، ولم يشغل الحلالُ شكره (1) ، وهذا قريبٌ ممَّا قبله ، فإنَّ معناه أنَّ الزاهد في الدُّنيا إذا قدر منها على حرام ، صبر عنه ، فلم يأخذه ، وإذا حصل له منها حلالٌ ، لم يشغَلْهُ عَنِ الشُّكر ، بل قام بشكرِ الله عليه .
قال أحمد بن أبي الحواري : قلتُ لسفيان بن عيينة : مَنِ الزَّاهد في الدُّنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر(2)، وإذا ابتُلي صبر . فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وابتلي فصبر ، وحبس النِّعمةَ (3) ، كيف يكون زاهداً ؟! فقال : اسكت ، من لم تمنعه النَّعماءُ مِنَ الشُّكر ، ولا البلوى من الصَّبر ، فذلك الزاهد (4) .
وقال ربيعة : رأس الزهادة جمعُ الأشياء بحقها ، ووضعُها في حقِّها (5) .
وقال سفيان الثوري : الزهد في الدُّنيا قِصَرُ الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباء (6) ، وقال : كان من دعائهم : اللهم زهِّدنا في الدُّنيا ، ووسِّع علينا منها ، ولا تزوِها عنا ، فترغِّبنا فيها . وكذا قال الإمام أحمد : الزُّهد في الدُّنيا : قِصَرُ الأمل ، وقال مرة : قِصَرُ الأملِ واليأسُ مما في أيدي الناس .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/287 .
(2) من قوله : ( لم يشغله عن الشكر … ) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/273 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/259 .
(6) أخرجه : وكيع في " الزهد " 1/222 ( 6 ) ، والدينوري في " المجالسة " ( 2848 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/386 .

ووجه هذا أنَّ قِصَرَ الأملِ يُوجِبُ محبَّةَ لقاء الله بالخروج من الدُّنيا ، وطول الأمل يقتضي محبَّةَ البقاءِ فيها ، فمن قصُرَ أملُه ، فقد كره البقاء في الدُّنيا ، وهذا نهاية الزُّهد فيها ، والإعراض عنها ، واستدل ابنُ عيينة لهذا القول بقوله تعالى
: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إلى قوله: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } (1).
وروى ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن الضَّحَّاك بن مزاحم قال : أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
رجلٌ ، فقال : يا رسول الله ، مَنْ أزهدُ النَّاسِ ؟ فقال : ( من لم ينسَ القبرَ والبِلى ، وترك أفضلَ(2) زينة الدُّنيا ، وآثرَ ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعدَّ غداً مِنْ أيَّامه وعدَّ نفسه من الموتى ) (3) وهذا مرسل .
وقد قسَّم كثيرٌ مِنَ السَّلفِ الزُّهدَ أقساماً : فمنهم من قال : أفضل الزُّهدِ : الزُّهدُ في الشِّركِ ، وفي عبادةِ ما عُبِدَ من دُونِ الله ، ثمَّ الزُّهدُ في الحرام كلِّه من المعاصي ، ثمَّ الزُّهدُ في الحلال ، وهو أقلُّ أقسام الزهد ، فالقسمان الأولان من هذا الزهد ، كلاهما واجبٌ ، والثَّالث : ليس بواجبٍ ، فإنَّ أعظمَ الواجبات : الزُّهد في الشِّركِ ، ثم في المعاصي كلِّها (4) . وكان بكرٌ المزنيُّ يدعو لإخوانه : زهَّدنا الله وإياكم زُهْدَ مَنْ أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات ، فعلم أنَّ الله يراه فتركه .
وقال ابنُ المبارك : قال سلام بن أبي مطيع : الزُّهد على ثلاثة وجوه :
__________
(1) البقرة : 94 – 96 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34318 ) من طريق الضَّحاك بن مزاحم ، مرسلاً فهو ضعيف لإرساله .
(4) انظر : الفوائد لابن القَيَّم : 146 .

واحد : أنْ يُخْلِصَ العمل لله - عز وجل - والقول ، ولا يُراد بشيء منه الدُّنيا .
والثاني : تركُ ما لا يصلُحُ ، والعمل بما يصلح .
والثالث : الحلال أنْ يزهدَ فيه وهو تطوُّعٌ ، وهو أدناها (1) .
وهذا قريب مما قبله ، إلاَّ أنَّه جعل الدَّرجةَ الأُولى مِنَ الزُّهدِ الزُّهدَ في
الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل ، وهو الشِّركُ الأصغر ، والحاملُ عليه
محبَّةُ المدح في الدُّنيا ، والتقدُّم عند أهلها ، وهو مِنْ نوعِ محبَّةِ العلوِّ فيها
والرياسة .
وقال إبراهيم بن أدهم : الزهد ثلاثة أصناف : فزهدٌ فرضٌ ، وزهدٌ فضلٌ ، وزهدٌ سلامةٌ ، فالزهد الفرض : الزهد في الحرام ، والزهد الفضل : الزهد في الحلال ، والزهدُ السلامةُ : الزُّهد في الشبهات (2) .
وقدِ اختلفَ الناسُ : هل يستحقُّ اسمَ الزاهد مَنْ زَهِدَ في الحرام خاصَّةً ، ولم يزهد في فضول المباحات أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أنَّه يستحقُّ اسمَ الزهد بذلك ، وقد سبق ذلك عَنِ الزُّهري وابن عيينة وغيرهما .
والثاني : لا يستحقُّ اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباح ، وهو قولُ طائفة من العارفين وغيرهم ، حتى قال بعضهم : لا زُهْدَ اليوم لفقد المباح المحض ، وهو قول يوسف بن أسباط (3) وغيره ، وفي ذلك نظر . وكان يونس بن عبيد يقول : وما قدر الدُّنيا حتى يُمدَح من زهد فيها ؟
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/188 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/26 و10/137 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/238 بنحوه .

وقال أبو سليمان الداراني : اختلفوا علينا في الزُّهد بالعراق ، فمنهم من قال : الزُّهد في ترك لقاءِ النَّاسِ ، ومنهم من قال : في ترك الشَّهواتِ ، ومنهم من قال : في ترك الشِّبَعِ ، وكلامهم قريبٌ بعضُه مِن بعضٍ ، قال : وأنا أذهبُ إلى أنَّ الزُّهدَ في ترك ما يشغلُك عن الله - عز وجل - (1) ، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن ، وهو يجمعُ جميعَ معاني الزُّهد وأقسامه وأنواعه .
واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا ليس هو راجعاً إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار ، المتعاقبان إلى يوم القيامة ، فإنَّ الله جعلهما خِلفَةً لمن أراد أنْ يذَّكَّرَ أو أراد شكوراً . ويُروى عن عيسى - عليه السلام - أنَّه قال : إنَّ هذا الليل والنهار خزانتان ، فانظُروا ما تضعُون فيهما ، وكان يقول : اعملوا اللَّيل لما خلق له ، والنَّهار لما خلق له .
وقال مجاهد : ما مِنْ يوم إلاَّ يقول : ابنَ آدم قد دخلتُ عليك اليوم ، ولن أرجعَ إليك بعدَ اليوم ، فانظُر ماذا تعمل فيَّ ، فإذا انقضى ، طوي ، ثم يُخْتَمُ عليه ، فلا يُفَكُّ حتّى يكون الله هو الذي يفضّه يومَ القيامة ، ولا ليلة إلا تقول كذلك (2) ، وقد أنشد بعضُ السَّلف :
إنَّما الدُّنيا إلى الجنَّـ

ـةِ والنَّار طريق

واللَّيالي متجر الإنـ

ـسان والأيَّام سُوق
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/258 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/292 بنحوه .

وليس الذمُّ راجعاً إلى مكان الدُّنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكناً ، ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن ، ولا إلى ما أنبته فيها من الشَّجر والزرع ، ولا إلى ما بثَّ فيها من الحيوانات وغير ذلك ، فإنَّ ذلك كُلَّه مِنْ نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانيَّة صانعه وقُدرته وعَظَمَتهِ ، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدُّنيا ؛ لأنَّ غالبها واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَدُ عاقبتُه ، بل يقعُ على ما تضرُّ عاقبتُه ، أو لا تنفع ، كما قال - عز وجل - : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } (1) .
وانقسم بنو آدم في الدُّنيا إلى قسمين :
أحدهما : من أنكر أنْ يكون للعباد بعد الدُّنيا دارٌ للثَّواب والعقاب ، وهؤلاء هم الَّذين قال الله فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } (2) ، وهؤلاء همُّهمُ التمتُّع بالدُّنيا ، واغتنامُ لَذَّاتها قبل الموت ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ } (3) . ومن هؤلاء من كان يأمرُ بالزُّهد في الدُّنيا ؛ لأنَّه يرى أنَّ الاستكثار منها يُوجِبُ الهمَّ والغمَّ ، ويقول : كلَّما كثُرَ التعلُّقُ بها ، تألَّمت النَّفسُ بمفارقتها عند الموت ، فكان هذا غايةَ زُهدهم في الدُّنيا .
__________
(1) الحديد : 20 .
(2) يونس : 7 – 8 .
(3) محمد : 12 .

والقسم الثاني : من يُقرُّ بدارٍ بعد الموت للثَّواب والعقاب ، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين ، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات بإذن الله .
فالظالم لنفسه: هم الأكثرون منهم ، وأكثرهم وقف مع زهرةِ الدُّنيا وزينتِها ، فأخذها مِن غير وجهها ، واستعملها في غيرِ وجهها ، وصارت الدُّنيا أكبرَ همِّه ، لها يغضب(1) ، وبها يرضى، ولها يُوالي ، وعليها يُعادي ، وهؤلاء هم أهلُ اللَّهو واللَّعب والزِّينة والتَّفاخر والتَّكاثر ، وكلُّهم لم يعرفِ المقصودَ من الدُّنيا(2) ، ولا أنَّها منزلُ سفرٍ يتزوَّدُ منها لِمَا بعدَها مِنْ دارِ الإقامة ، وإنْ كان أحدُهم يُؤمِنُ بذلك إيماناً مجمَلاً ، فهو لا يعرفه مفصَّلاً ، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرفة بالله في الدُّنيا ممَّا هو أنموذَجُ ما ادُّخر لهم في الآخرة .
والمقتصد منهم أخذَ الدُّنيا مِنْ وجوهها المباحَةِ ، وأدَّى واجباتها ، وأمسك لنفسه الزَّائِدَ على الواجب ، يتوسَّعُ به في التمتُّع بشهواتِ الدُّنيا(3) ، وهؤلاءِ قدِ اختُلف في دخولهم في اسم الزَّهادَةِ في الدُّنيا كما سبق ذكره ، ولا عقاب عليهم في ذلك ، إلاَّ أنَّه ينقصُ من درجاتهم من الآخرة بقدر توسُّعهم في الدُّنيا . قال ابن عمر : لا يصيبُ عبدٌ مِنَ الدُّنيا شيئاً إلاَّ نقص من درجاته عند الله، وإنْ كان عليه كريماً ، خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (4) بإسنادٍ جيد . وروي مرفوعاً من حديث عائشة بإسناد فيه نظر .
__________
(1) عبارة : ( لها يغضب ) سقطت من (ص ) .
(2) عبارة : ( من الدنيا ) سقطت من ( ص ) .
(3) من قوله : ( على الواجب … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) كما في " الترغيب والترهيب " ( 4709 ) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا .
وأخرجه : هناد في " الزهد " ( 557 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/306 .

وروى الإمام أحمدُ في كتاب " الزهد " بإسناده : أنَّ رجلاً دخل على معاوية ، فكساه ، فخرج فمرَّ على أبي مسعود الأنصاري ورجلٍ آخر من الصَّحابة ، فقال أحدهما له : خذها مِنْ حسناتِك ، وقال الآخر : من طيِّباتك .
وبإسناده عن عمر قال : لولا أنْ تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عَيشِكُم ، ولكنَّي سمعت الله عيَّرَ قوماً، فقال : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنيا } (1) (2).
وقال الفضيل بن عياض : إنْ شئت استَقِلَّ مِنَ الدُّنيا ، وإنْ شئت استكثر منها فإنَّما تأخُذُ مِن كيسك .
ويشهد لهذا أنَّ الله - عز وجل - حرَّم على عباده أشياءَ مِنْ فضول شهواتِ الدُّنيا وزينتها وبهجتها ، حيث لم يكونوا محتاجين إليه ، وادَّخره لهم عنده في الآخرة ، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله - عز وجل - : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرحمان لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } إلى قوله : { وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنيا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (3) .
__________
(1) الأحقاف : 20 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 24196 ) بنحوه .
(3) الزخرف : 33 - 35 .

وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مَنْ لبس الحَريرَ في الدُّنيا ، لم يلبسه في
الآخرة ) (1) ، و ( من شرب الخمر في الدُّنيا لم يشربها في الآخرة ) (2) . وقال :
( لا تلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ ، ولا تشربوا في آنية الذَّهبِ والفِضَّةِ ، ولا تأكُلُوا في صحافها ، فإنَّها لهم في الدُّنيا ، ولكم في الآخرة ) (3) .
قال وهب : إنَّ الله - عز وجل - قال لموسى - عليه السلام - : إنِّي لأذودُ أوليائي عن نعيم الدُّنيا ورخائها كما يذودُ الرَّاعي الشفيقُ إبِلَه عن مبارك العُرَّةِ ، وما ذلك لهوانهم عليَّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تَكْلَمْه الدُّنيا (4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 7/193 ( 5832 ) ، ومسلم 6/142 – 143 ( 2073 ) ( 21 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : البخاري 7/135 ( 5575 ) ، ومسلم 6/100 ( 2003 ) ( 73 ) ، وأبو داود
( 3679 ) ، وابن حبان ( 5366 ) ، والبيهقي 8/293 ، والبغوي ( 3013 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(3) أخرجه : الحميدي ( 440 ) ، والبخاري 7/99 ( 5426 ) ، ومسلم 6/136 – 137
( 2067 ) ( 4 ) و( 5 ) ، وابن ماجه ( 3414 ) و( 3590 ) ، والترمذي ( 1878 ) ، والنسائي 8/198 – 199 ، وابن حبان ( 5339 ) من حديث حذيفة ، به .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/11 – 12 من طرق عن ابن عباس ، بنحوه .

ويشهد لهذا ما خرَّجه الترمذي عن قتادة بن النُّعمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً حماه عَنِ الدُّنيا ، كما يَظَلُّ أحدُكُمْ يحمي سقيمَه الماءَ ) (1) ، وخرَّجه الحاكم (2) ، ولفظه : ( إنَّ الله ليحمي عبدَه الدُّنيا وهو يحبُّه ، كما تحمُونَ مريضَكم الطَّعام والشراب ، تخافون عليه ) .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( الدُّنيا سجنُ المؤمن ، وجنَّة الكافر ) .
وأمَّا السَّابقُ بالخيرات بإذن الله ، فهمُ الَّذينَ فهِمُوا المرادَ مِنَ الدُّنيا ، وعَمِلُوا بمقتضى ذلك ، فعلموا أنَّ الله إنَّما أسكنَ عبادَه في هذه الدَّارِ ، ليبلوهم أيُّهم أحسنُ
عملاً ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (4) ، وقال : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (5) .
__________
(1) أخرجه : الترمذي ( 2036 ) ، وابن حبان ( 669 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 17 ) من حديث قتادة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(2) في " المستدرك " 4/207 و309 من حديث قتادة بن النعمان ، به .
(3) الصحيح 8/210 ( 2956 ) ( 1 ) .
وأخرجه : أحمد 2/323 و485 ، وابن ماجه ( 4113 ) ، وابن حبان ( 687 ) و( 688 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وهنا قد وهم ابن رجب فنسب الحديث في " صحيح مسلم " إلى : ( عبد الله بن عمرو ) ، بينما هو من رواية أبي هريرة .
أما رواية عبد الله بن عمرو فقد أخرجها : أحمد 2/197 ، والحاكم 4/315 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/177 و185 .
(4) هود : 7 .
(5) الملك : 2 .

قال بعض السَّلف : أيهم أزهد في الدُّنيا ، وأرغبُ في الآخرة ، وجعل ما في الدُّنيا مِنَ البهجة والنُّضرة مِحنَةً ، لينظر من يقف منهم معه ، ويَركَن إليه ، ومن ليس كذلك ، كما قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (1) ثم بين انقطاعه ونفاده ، فقال : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } (2) ، فلمَّا فهِموا أنَّ هذا هو المقصود مِنَ الدُّنيا ، جعلوا همَّهم التزوُّدَ منها للآخرة التي هي دارُ القرار ، واكتفوا مِنَ الدُّنيا بما يكتفي به المسافرُ في سفره ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما لي وللدُّنيا ، إنَّما مثلي ومثل الدُّنيا كراكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ، ثم راح وتركها ) (3) .
__________
(1) الكهف : 7 .
(2) الكهف : 8 .
(3) أخرجه : أحمد 1/391 و441 ، وابن ماجه ( 4109 ) ، والترمذي ( 2377 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 9307 ) ، والحاكم 4/310 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/102 و4/234 من حديث عبد الله بن مسعود ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
وللحديث طرق أخرى .

ووصَّى - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الصحابة أنْ يكون بلاغُ أحدِهم مِنَ الدُّنيا كزادِ الراكب ، منهم : سلمان (1) ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأبو ذرٍّ ، وعائشة (2) ، ووصَّى ابنَ عمرَ أنْ يكونَ في الدُّنيا كأنَّه(3) غريبٌ أو عابرُ سبيل ، وأنْ يَعُدَّ نفسه من أهل القبور (4) .
وأهل هذه الدرجة على قسمين : منهم من يقتصرُ من الدُّنيا على قدر ما يسدُّ الرَّمق فقط ، وهو حالُ كثيرٍ من الزُّهَّادِ . ومنهم من يفسح لنفسه أحياناً في تناول بعض شهواتِها المباحةِ ؛ لتقوى النَّفسُ بذلك ، وتنشَط للعملِ ، كما روي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال : ( حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في
الصَّلاة ) خرَّجه الإمام أحمد (5) والنَّسائي (6) من حديث أنس .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20632 ) ، ووكيع في " الزهد " ( 67 ) ، وأحمد 5/438 ، وابن حبان ( 706 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6069 ) و( 6160 ) و( 6182 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/195 و196 و197 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 728 ) من حديث سلمان ، وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه : الترمذي ( 1780 ) من حديث عائشة ، وإسناده ضعيف جداً .
(3) عبارة : ( في الدنيا كأنَّه ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/24 و41 ، والبخاري 8/110 ( 6416 ) ، وابن ماجه ( 4114 ) ، والترمذي ( 2333 )، وابن حبان ( 698 )، والبيهقي 3/369 من حديث عبد الله بن عمر ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(5) في " مسنده " 3/128 و199 و285 من حديث أنس بن مالك ، به .
(6) في " المجتبى " 7/61 و62 ، وهو حديث صحيح .

وخرَّج الإمام أحمد (1) من حديث عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ
من الدُّنيا النِّساء والطِّيب والطعام ، فأصاب من النِّساءِ والطِّيبِ ، ولم يُصب من الطَّعامِ .
وقال وهب : مكتوبٌ في حكمة آل داود - عليه السلام - : ينبغي للعاقل أنْ لا يَغْفُل عن أربع ساعاتٍ : ساعةٍ يُحاسِبُ فيها نفسه ، وساعةٍ يُناجي فيها ربَّه ، وساعةٍ يلقى فيها إخوانه الذين يُخبرونه بعيُوبه ، ويُصدقونه عن نفسه ، وساعةٍ يُخلي بين نفسه وبين لذَّاتها فيما يحلُّ ويجمل ، فإنَّ في هذه السَّاعة عوناً على تلك الساعات ، وفضلَ بُلغة واستجماماً للقلوب ، يعني : ترويحاً لها (2) .
ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوِّي على الطاعة كانت شهواتُه له طاعة يُثابُ عليها ، كما قال معاذ بن جبل : إنِّي لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (3) ، يعني : أنَّه ينوي بنومه التَّقوِّي على القيام في آخر الليل ، فيحتسِبُ ثوابَ نومهِ كما يحتسب ثواب قيامه . وكان بعضهم إذا تناول شيئاً من شهواته المباحة واسى منها إخوانَه ، كما روي عن ابن المبارك أنَّه كان إذا اشتهى شيئاً لم يأكلْه حتّى يشتهيه بعضُ أصحابه ، فيأكله معهم ، وكان إذا اشتهى شيئاً ، دعا ضيفاً له ليأكل معه .
وكان يذكر عن الأوزاعي أنَّه قال : ثلاثة لا حسابَ عليهم في مطعمهم :
المتسحِّر ، والصائم حين يفطر ، وطعام الضيف (4) .
__________
(1) في " مسنده " 6/72 من طريق أبي إسحاق ، عن رجل حدَّثه ، عن عائشة ، به ، وإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن عائشة .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 313 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1226 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 4677 ) و( 4678 ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 5959 ) ، وأحمد 4/409 عن معاذ بن جبل ، به .
وهو جزء من حديث طويل .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/72 من طريق يونس بن يزيد ، عن الأوزاعي ، عن حَسَّان .

وقال الحسن : ليس مِن حبك للدُّنيا طلبك ما يصلحك فيها ، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها ، ومن أحبَّ الدُّنيا وسرَّته ، ذهب خوفُ الآخرة من قلبه .
وقال سعيد بن جبير : متاعُ الغرور ما يُلهيك عن طلب الآخرة ، وما لم يُلهك فليس بمتاع الغرور ، ولكنَّه متاعُ بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه (1) .
وقال يحيى بنُ معاذ الرازي : كيف لا أُحِبُّ دنيا قُدِّر لي فيها قوتٌ ، أكتسب بها حياةً ، أُدركُ بها طاعةً ، أنالُ بها الآخرة .
وسئل أبو صفوان الرّعيني - وكان من العارفين - : ما هي الدُّنيا التي ذمَّها الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أنْ يجتنبها ؟ فقال : كلُّ ما أصبت في الدُّنيا تريدُ به الدُّنيا ، فهو مذمومٌ ، وكلُّ ما أَصبتَ فيها تريدُ به الآخرة ، فليس منها (2) .
وقال الحسن : نعمت الدار كانت الدُّنيا للمؤمن ، وذلك أنَّه عمل قليلاً ، وأخذ زاده منها إلى الجنَّة ، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق ، وذلك أنَّه ضيَّع لياليه ، وكان زادُه منها إلى النار (3) .
__________
(1) أخرجه : نعيم بن حماد في " زوائده على الزهد " لابن المبارك ( 140 ) .
(2) أخرجه : أبو سعيد في " الزهد وصفة الزاهدين " ( 35 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/5 ، والبيهقي في " الزهد الكبير " ( 448 ) .
(3) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1637 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " : 284 . ( ط . دار الرَّيان للتُراث ) .

وقال أيفع بنُ عبدٍ الكَلاعيُّ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّة وأهل النار النارَ ، قال الله : يا أهل الجنة ، كَمْ لَبِثْتُم في الأرضِ عَدَدَ سِنين ؟ قالوا : لَبِثْنَا يَوماً أَوْ بَعْضَ يَومٍ ، قال : نعم ما اتجرتم في يومٍ أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول لأهل النار : كم لبثتم في الأرض عددَ سنين ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتَّجرتم في يومٍ أو بعض يومٍ ، سخطي ومعصيتي وناري ، امكثوا فيها خالدين مخلدينَ ) (1) .
وخرَّج الحاكم (2) من حديث عبد الجبَّار بن وهب ، أنبأنا سعدُ بن طارق ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نعمتِ الدَّارُ الدُّنيا لمن تزوَّد منها لآخرته حتّى يُرضِيَ ربَّهُ ، وبئستِ الدَّارُ لمن صدَّته عن آخرته ، وقصَّرت به عن رضا ربِّه ، وإذا قال العبد : قبَّحَ الله الدُّنيا ، قالت الدُّنيا : قبَّح الله أعصانا لربِّه ) وقال (3) : صحيح الإسناد ، وخرَّجه العقيلي (4) ، وقال : عبد الجبار بن وهب مجهول وحديثُه غير محفوظ ، قال : وهذا الكلام يُروى عن عليٍّ من قوله .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في "تفسيره" ( 14060 ) وكما في "تفسير ابن كثير" : 1308 ( ط . دار ابن حزم ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/132 من طريق أيفع بن عبد الكلاعي ، مرسلاً .
(2) في " المستدرك " 4/312 – 313 .
وأخرجه : الرامهرمزي في " الأمثال " : 58 و147 ، وابن عدي في " الكامل " 4/226 عن سعد بن طارق ، عن أبيه ، به .
(3) في " المستدرك " 4/313 .
(4) في " الضعفاء " 3/89 .

وقول عليٍّ خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (1) عنه بإسنادٍ فيه نظر : أنَّ علياً سمع رجلاً يسبُّ الدُّنيا ، فقال : إنَّها لدارُ صدق لمن صدقها ، ودارُ عافيةٍ لمن فهم عنها ، ودارُ غنى لمن تزوَّد منها ، مسجد أحبَّاءِ الله ، ومهبِطُ وحيِهِ ، ومُصَلّى ملائكتِهِ ، ومتجَرُ أوليائه ، اكتسبوا فيها الرَّحمَةَ وربحُوا فيها الجَنَّة ، فمن ذا يذمُّ الدُّنيا وقد آذنت بفراقها ، ونادت بعيبها ، ونعت نفسها وأهلَها ، فمثَّلت ببلائها البلاءَ ، وشوَّقت بسرُورها إلى السُّرور، فذمَّها قومٌ عندَ النَّدامة ، وحمِدها آخرون ، حدَّثتهم فصدقوا ، وذكَّرتهم فذكروا ؟ فيا أيُّها المغترُّ بالدُّنيا، المغترُّ بغرورها، متى استلامت إليك الدُّنيا ؟ بل متى غرَّتك ؟ أبمضاجعِ آبائك مِنَ الثرى ؟ أم بمصارع أُمَّهاتك منَ البلى ؟ كم قد قلَّبت بكفيك ، ومرَّضت بيديك تطلب له الشِّفاءَ ، وتسأل له الأطباء ، فلم تظفر بحاجتك ، ولم تُسعَفْ بطلبَتِكَ ، قد مثَّلت لك الدُّنيا بمصرعه مصرَعَك غداً ، ولا يُغني عنك بكاؤك ، ولا ينفعُك أحبَّاؤك .
فبين أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - أنَّ الدُّنيا لا تُذَمُّ مطلقاً ، وأنَّها تُحمدُ بالنِّسبة إلى من تزوَّد منها الأعمال الصالحة ، وأنَّ فيها مساجدَ الأنبياءِ ، ومهبطَ الوحي ، وهي دار التِّجارة للمؤمنين ، اكتسبوا فيها الرَّحمة ، وربحوا بها الجَنَّة ، فهي نِعمَ الدَّارُ لمن كانت هذه صفَته . وأمَّا ما ذكر من أنَّها تَغُرُّ وتخدَعُ ، فإنَّها تُنادي بمواعظها ، وتنصحُ بعبرها ، وتُبدي عيوبَها بما تُري أهلها من مصارع الهلكى ، وتقلُّبِ الأحوال مِنَ الصِّحَّة إلى السَّقم ، ومِنَ الشَّبيبة إلى الهرم ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن العِزِّ إلى الذُّلِّ ، لكنَّ مُحِبَّها قد أصمَّه وأعماه حبُّها ، فهو لا يسمع نداءها ، كما قيل :
قدْ نادَتِ الدُّنيا على نَفسِها
__________
(1) في " ذم الدنيا " ( 147 ) .

لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسمَعُ

كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيتُهُ

وجَامِعٍ بَدَّدَتُ ما يَجْمَعُ

قال يحيى بنُ معاذ : لو يسمع الخلائقُ صوتَ النِّياحةِ على الدُّنيا في الغيبِ من ألسنةِ الفناءِ ، لتساقطت القلوبُ منهم حُزناً (1) . وقال بعضُ الحكماء : الدُّنيا أمثالٌ تضرِبُها الأيَّامُ للأنام ، وعلمُ الزَّمان لا يحتاجُ إلى تَرجُمان ، وبحبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماعُ القلوب عنِ المواعظ ، وما أحثَّ السائقَ لو شعرَ الخلائقُ .
وأهل الزُّهد في فضول الدُّنيا أقسام : فمنهم من يحصلُ له ، فيمسكه ويتقرَّبُ به إلى الله ، كما كان كثيرٌ مِنَ الصَّحابة وغيرهم ، قال أبو سليمان : كان عثمان
وعبد الرحمان بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه ، يُنفقان في طاعته ، وكانت معاملتُهما لله بقلوبِهما (2) .
ومنهم من يُخرجه مِنْ يده ، ولا يُمسكه ، وهؤلاء نوعان : منهم من يُخرجه اختياراً وطواعية ، ومنهم من يُخرجهُ ونفسه تأبى إخراجه ، ولكن يُجاهدُها على ذلك . وقد اختُلف في أيِّهما أفضل ، فقال ابنُ السَّماك والجنيد : الأوَّل أفضلُ ، لتحقُّق نفسه بمقامِ السَّخاءِ والزُّهد ، وقال ابن عطاء : الثَّاني أفضل ؛ لأنَّ له عملاً ومجاهدة . وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليه أيضاً .
ومنهم من لم يحصُل له شيءٌ مِنَ الفُضولِ ، وهو زاهدٌ في تحصيله ، إمَّا مع قدرته ، أو بدونها ، والأوَّل أفضلُ مِنْ هذا ، ولهذا قال كثيرٌ مِنَ السَّلفِ : إنَّ عمرَ ابن عبد العزيز كان أزهدَ مِنْ أويس ونحوه ، كذا قال أبو سليمان (3) وغيرُه .
وكان مالكُ بنُ دينار يقولُ : الناسُ يقولون : مالكٌ زاهدٌ ، إنَّما الزَّاهدُ عمر ابن عبد العزيز (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/56 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/262 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/272 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/257 .

وقد اختلف العلماء : أيُّما أفضلُ : من طلبَ الدُّنيا منَ الحلال ، ليصل رحمَه ، ويقدِّم منها لنفسه ، أم من تركها فلم يطلبها بالكُليَّة ؟ فرجَّحت طائفةٌ من تركها
وجانبها ، منهم : الحسن وغيره ، ورجَّحت طائفةٌ من طلبها على ذلك الوجه ، منهم : النخعي وغيره ، وروي عن الحسن عنه نحوه .
والزَّاهدون في الدُّنيا بقلوبهم لهم ملاحظُ ومشاهدُ يشهدونها ، فمنهم من يشهدُ كثرةَ التَّعب بالسَّعي في تحصيلها ، فهو يزهدُ فيها قصداً لراحةِ نفسه . قال الحسن : الزُّهد في الدُّنيا يُريح القلب والبدن .
ومنهم من يخافُ أنْ ينقصَ حظُّه من الآخرة بأخذ فضولِ الدُّنيا . ومنهم من يخافُ من طُولِ الحساب عليها ، قال بعضهم (1) : من سأل الله الدُّنيا ، فإنَّما يسأل طولَ الوُقوفِ(2) للحساب .
ومنهم من يشهدُ كثرةَ عُيوبِ الدُّنيا ، وسرعة تقلُّبها وفنائها ، ومزاحمةَ الأراذِلِ في طلبها ، كما قيل لبعضهم : ما الذي زهَّدكَ في الدُّنيا ؟ قالَ : قلَّةُ وفائها ، وكثرةُ جفائها ، وخسة شُركائها .
ومنهم من كان ينظر إلى حقارةِ الدُّنيا عند الله ، فيقذرها ، كما قال الفضيلُ : لو أنَّ الدُّنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالاً لا أحاسب بها في الآخرة ، لكنت أتقذرها كما يتقذر الرَّجلُ الجيفةَ إذا مرَّ بها أنْ تصيبَ ثوبه (3) .
ومنهم من كان يخافُ أنْ تشغلَه عن الاستعدادِ للآخرة والتزوُّدِ لها . قال الحسن : إنْ كان أحدهم ليعيش عمره مجهوداً شديدَ الجهد ، والمالُ الحلال إلى جنبه ، يقال له : ألا تأتي هذا فتُصيب منه ؟ فيقول : لا والله لا أفعل ، إنِّي أخافُ أنْ آتيه ، فأصيبَ منه ، فيكون فسادَ قلبي وعملي (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/337 من قول بِشر بن الحارث .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/89 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/269 .

وبُعِثَ إلى عمر بن المنكدر بمالٍ ، فبكى ، واشتدَّ بكاؤه ، وقال : خشيت أنْ تغلب الدُّنيا على قلبي ، فلا يكون للآخرة فيه نصيب ، فذلك الذي أبكاني ، ثم أمر به ، فتُصُدِّقَ به على فقراء أهل المدينة .
وخواص هؤلاء يخشى أنْ يشتغلَ بها عن اللهِ ، كما قالت رابعة : ما أحبُّ أنَّ لي الدُّنيا كلَّها مِنْ أوَّلها إلى آخرها حلالاً ، وأنا أنفقُها في سبيل الله ، وأنَّها شغلتني
عنِ الله طرفةَ عينٍ .
وقال أبو سليمان : الزهد ترك ما يشغل عن الله (1) . وقال : كلُّ ما شغلك عن اللهِ مِنْ أهلٍ ومالٍ وولدٍ ، فهو مشؤوم (2) .
وقال : أهلُ الزُّهد في الدُّنيا على طبقتين(3) : منهم من يزهدُ في الدُّنيا ، فلا يُفْتَحُ له فيها روح الآخرة ، ومنهم من إذا زَهِدَ فيها ، فُتحَ له فيها روحُ الآخرة (4) ، فليس شيءٌ أحبَّ إليه من البقاء ليطيع الله (5) .
وقال : ليس الزاهد من ألقى همومَ الدُّنيا ، واستراح منها ، إنَّما الزَّاهد من زَهِدَ في الدُّنيا ، وتعب فيها للآخرة (6) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/258 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/264 .
(3) في ( ص ) : ( الزهد على طبقتين ) .
(4) من قوله : ( ومنهم من إذا … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/274 .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/273 .

فالزُّهد في الدُّنيا يُرادُ به تفريغُ القلب منَ الاشتغال بها ؛ ليتفرَّغ لِطلب الله ، ومعرفته ، والقرب منه ، والأُنس به ، والشَّوقِ إلى لقائه ، وهذه الأمورُ ليست مِنَ الدُّنيا كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( حُبِّبَ إلي من دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ ، وجُعلت قرَّةُ عيني في الصَّلاة ) (1) ، ولم يجعل الصَّلاةَ ممَّا حُبِّبَ إليه مِنَ الدُّنيا ، كذا في
" المسند " (2) و" النسائي " (3) ، وأظنُّه وقع في غيرهما : ( حبِّبَ إليَّ من دنياكم
ثلاث ) (4) ، فأدخل الصلاة في الدُّنيا ، ويشهدُ لذلك حديث : ( الدُّنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها ، إلاَّ ذكر الله وما والاه ، أو عالماً أو متعلماً ) خرَّجه ابن ماجه (5) والترمذي (6)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) المسند 3/128 و199 و285 من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) في " المجتبى " 7/61 و72 من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) قال العلامة محمد عبد الرؤوف المناوي: ( من زاد كالزمخشري والقاضي لفظ ثلاث فقد وهم، قال الحافظ العراقي في "أماليه" لفظ ثلاث ليست في شيء من كتب الحديث وهي تفسد المعنى، وقال الزركشي : لم يرد فيه لفظ ثلاثة وزيادتها مخلة للمعنى فإن الصلاة ليست من الدنيا ، وقال ابن حجر في " تخريج الكشاف " : لم يقع في شيء من طرقه ، وهي تُفسد المعنى إذ لم يذكر بعدها إلا الطيب والنساء ثم إنَّه لم يضفها لنفسه فما قال : أحب ، تحقيراً لأمرها ؛ لأنَّه أبغض الناس فيها لا لأنها ليست من دنياه بل من آخرته كما ظن إذ كل مباح دنيوي ينقلب طاعة بالنية فلم يبق لتخصيصه حينئذٍ وجه ) . فيض القدير 3/489 – 490 ( 3669 ) ، وانظر : الكافي الشاف ( 183 ) ، والمقاصد الحسنة : 180 .
(5) السنن ( 4112 ) .
(6) في " جامعه " ( 2322 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال : ( حسن غريب ) .

وأخرجه : أبو نعيم " الحلية " 3/157 و7/90 من حديث جابر ، به .

، وحسَّنه من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وروي نحوه من غير وجه مرسلاً ومتصلاً .
وخرَّج الطبراني (1) من حديث أبي الدرداء مرفوعاً قال : ( الدُّنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها إلا ما ابتُغِيَ به وجه الله ) . وخرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (2) موقوفاً ، وخرَّجه أيضاً من رواية شهر بن حوشب (3) ، عن عبادة ، أراه رفعه ، قال
: ( يُؤتى بالدُّنيا يومَ القيامة ، فيقال : مِيزوا منها ما كان لله - عز وجل - ، وألقوا سائرها في النار ) .
فالدُّنيا وكلُّ ما فيها ملعونة ، أي : مُبعدَةٌ عن الله ؛ لأنَّها تَشغلُ عنه ، إلاَّ العلمَ النَّافع الدَّالَّ على الله ، وعلى معرفته ، وطلب قُرْبِه ورضاه ، وذكر الله وما والاه ممَّا يُقَرِّبُ مِنَ الله ، فهذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا ، فإنَّ الله إنَّما أمرَ عبادَه بأنْ يتَّقوه ويُطيعوه ، ولازِمُ ذلك دوامُ ذكره ، كما قال ابن مسعود : تقوى الله حقّ تقواه أنْ يُذكَرَ فلا يُنسى (4) . وإنَّما شرعَ الله أقام الصَّلاةِ لذكره ، وكذلك الحج والطَّواف . وأفضلُ أهل العبادات أكثرُهم ذكراً لله فيها ، فهذا كلُّه ليس مِنَ الدُّنيا المذمومة ، وهو المقصودُ من إيجاد الدُّنيا وأهلها ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } (5) .
__________
(1) كما في " مجمع الزوائد " 10/222 ، وقال الهيثمي : ( رواه الطبراني وفيه خداش بن المهاجر ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات ) .
(2) في " ذم الدنيا " ( 6 ) .
(3) وهو ضعيف .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5957 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8501 ) و( 8502 )، والحاكم 2/294 ، والبغوي في " تفسيره " 1/479 ، وابن الجوزي في " تفسيره " 1/431 .
(5) الذاريات : 56 .

وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاء والصُّوفيَّة أنَّ ما يُوجدُ في الدُّنيا مِنْ هذه العبادات أفضلُ ممَّا يُوجد في الجنَّة مِنَ النَّعيم ، قالوا : لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حقُّ (1) العبد ، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد ، وهذا غلطٌ ، ويقوِّي غلطَهم قولُ كثيرٍ من المفسِّرين في قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } (2) قالوا : الحسنةُ : لا إله إلا الله ، وليس شيءٌ خيراً منها . ولكنَّ الكلامَ على التَّقديم والتَّأخير ، والمراد : فله منها خيرٌ ، أي : له خيرٌ بسببها ولأجلها .
والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتاب والسُّنة أنَّ الآخرة خيرٌ مِنَ الأُولى مطلقاً . وفي " صحيح الحاكم " (3) عن المستورد بن شدَّادٍ ، قال : كنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فتذاكروا الدُّنيا والآخرة ، فقال بعضهم : إنَّما الدُّنيا بلاغٌ
للآخرة ، وفيها العمل ، وفيها الصلاةُ ، وفيها الزَّكاةُ . وقالت طائفة منهم : الآخرةُ فيها الجنَّةُ ، وقالوا ما شاء الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما الدُّنيا في الآخرة
إلاَّ كما يَمشي أحدكم إلى اليمِّ ، فأدخل إصبعه فيه ، فما خرج منه ، فهو
الدُّنيا ) ، فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدُّنيا ، وما فيها من
الأعمال .
ووجه ذلك : أنَّ كمالَ الدُّنيا إنَّما هو في العلم والعمل ، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليه ، فإنَّ العلم أصلُه العلمُ بالله وأسمائه وصفاته ، وفي الآخرة ينكشفُ الغِطاءُ ، ويصيرُ الخبر عياناً ، ويصيرُ
علمُ اليقين عينَ اليقين ، وتصيرُ المعرفةُ بالله رؤيةً له ومشاهدةً ، فأين هذا مما في
الدُّنيا ؟
وأما الأعمال البدنية ، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين :
__________
(1) في ( ج ) : ( حظ ) .
(2) النمل : 89 .
(3) المستدرك 4/319 .

أحدهما : اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة ، وكدُّها بالعبادة .
والثاني : اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره .
فالأوَّلُ قد رُفعَ عن أهل الجنَّة ، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم : ارفعوا رؤوسكم فإنَّكم لستم في دار مجاهدة .
وأما المقصود الثاني ، فحاصلٌ لأهل الجنَّة على أكمل الوُجُوهِ وأتمِّها ، ولا نسبةَ لما حصل لقلوبهم في الدُّنيا من لطائف القُرْبِ والأنس والاتِّصال إلى ما يُشاهدونه في الآخرة عياناً ، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرْبِ الله ورؤيته ، وسماع كلامه ، ولاسيما في أوقات الصَّلوات في الدُّنيا ، كالجُمَع والأعياد ، والمقرَّبون منهم يحصلُ ذلك لهم كلَّ يومٍ مرَّتين بكرةً وعشياً في وقت صلاة الصُّبح وصلاة العصر ، ولهذا لمَّا ذكرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنَّةِ يرونَ ربَّهم (1) حضَّ عقيب ذلك على المحافظة على صلاةِ العصر وصلاة الفجر ؛ لأنَّ وقت هاتين الصَّلاتين وقتٌ لرؤية خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتهم لهُ ، وكذلك نعيمُ الذِّكر وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهم أبداً ، فيُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمونَ النَّفسَ . قالَ ابنُ عيينة : لا إله إلا الله لأهلِ الجنَّة ، كالماء البارد لأهل الدُّنيا ، فأينَّ لذَّة الذِّكرِ للعارفين في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم به في الجنَّة .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1178 ) ، وأحمد 2/389 ، والبخاري 9/156 ( 7437 ) ، ومسلم 1/112 ( 182 ) ( 299 ) و1/114 ( 182 ) ( 300 ) ، وأبو داود ( 4730 ) ، وابن ماجه ( 178 ) ، والترمذي ( 2554 ) من حديث أبي هريرة ، ونص الحديث : ( قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تُضامون في رؤية القمر ليلة البدر ، وتُضامون في رؤية الشمس ؟ ) قالوا : لا ، قال : ( فإنَّكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تُضامون في رؤيته ) .
والروايات مطولة ومختصرة .

فتبيَّن بهذا أن قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } (1) على ظاهره ، فإنَّ ثواب كلمة التَّوحيد في الدُّنيا أنْ يصِلَ صاحبها إلى قولها في الجَنَّةِ على الوجه الذي يختصُّ به أهل الجنّةِ .
وبكلِّ حال ، فالذي يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِنْ تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومن قُربه ومشاهدته ولذَّةِ ذكره ، هو أمرٌ لا يمكنُ التَّعبيرُ عن كُنهه في الدُّنيا ؛ لأنَّ أهلها لم يُدرِكوه على وجهه ، بل هو ممَّا لا عينٌ رأت ، ولا أُذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشرٍ ، والله تعالى المسؤول أنْ لا يَحْرِمنا خيرَ ما عنده بشرِّ ما عندنا بمنِّه وكرمه ورحمته آمين .
ولنرجع إلى شرح حديث : ( ازهد في الدُّنيا يحبَّك الله ) (2) ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ الله يحبُّ الزاهدين في الدُّنيا ، قال بعض السَّلف : قال الحواريون لعيسى - عليه السلام - : يا روحَ الله ، علِّمنا عملاً واحداً يُحبُّنا الله - عز وجل - عليهِ ، قالَ : أبغِضُوا الدُّنيا يحبكُم الله - عز وجل - .
وقد ذمَّ الله تعالى من يحبُّ الدُّنيا ويؤثِرُها على الآخرة ، كما قال : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } (3) ، وقال : { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } (4) ، وقال : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } (5) ، والمراد حبُّ المال ، فإذا ذمَّ من أحبَّ الدُّنيا دلَّ على مدحِ مَنْ لا يحبُّها ، بل يرفُضها ويترُكُها .
__________
(1) النمل : 89 .
(2) سبق تخريجه .
(3) القيامة : 20 – 21 .
(4) الفجر : 20 .
(5) العاديات : 8 .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...