Translate

الأحد، 11 يونيو 2023

مختصر صفة الصفوة لابن الجوزى اعداد: أبوأحمدمعتز أحمد عبد الفتاح


 

مختصر صفة الصفوة لابن الجوزى

اعداد: أبوأحمدمعتز أحمد عبد الفتاح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح

يقع كتاب صفة الصفوة فى الاصل (527 صفحة) أربع مجلدات ... 0 وهذه خلاصة الكتاب .....0

طريقتى فى الاختصار ذكر العبر والفوائد فقط واريد من القارئ ان يكون هدفه العبرة والفائدة واذكر لك مثالا:

(( قال محمد بن حفص: مررت على أخ لي من أهل مصر ونحن بالثغر، فأخرج إلي شكالا. فقال: انظر من أي شيء هذا الشكال? فنظرت فإذا شكال من شعر، كأنه من صفائه وشدة سواده قد دهن بالدهن. فقلت: هذا عندي من أعراف الخيل العتاق الكرام. فقال: لا. والله، ولكنه من شعر امرأة من أهل إفريقية جعلت منه شكالا، ثم أرسلت به إلي فقالت: اجعله شكال فرس غاز في سبيل الله عز وجل فإني طالما تمتعت به في غير طاعة الله قلت(ابن الجوزى)إنما ينظر إلى ذل هذه المرأة لله تعالى وقصدها لا إلى صورة فعلها لأنها جهلت أن هذا الفعل لا يجوز.)) منقول من صفة الصفوة ..... فاريد منك هنا ان تلحظ تذلل المرأة وتضحيتها دون صورة الفعل .

وبلا شك ان العلم قبل العمل0كمابوب البخارى لكننى أريد ان تعلو الهمم وتزكو الانفس ونتربى بالقدوة0

ومن القواعد الهامة للنجاة والفلاح ان تحسن الظن بالمسلمين وتسئ الظن بنفسك وتعتنى باصلاح نفسك ...

تذكر ذنوبك وتقصيرك ... ولا يكن همك الحكم على المسلمين وانتقاصهم فالكبر بطر الحق وغمط الناس ...

*ستجد الفوائد متفرقة فتارة فى الحض على الاخلاص و تارة فى التنبيه على حقارة الدنيا وتارة فى العبادة ... 0

انقل نص كلام المصنف مع تصرف قليل جدا احيانا لا يخل بالمعنى ..... ... وقد حذفت الاتى :

* شئ من الترجمة و غالب أسانيد العبر ... فأنا اقصد العبر والفوائد فقط ...

* من اسند إليهم أو الكنيةأو شئ من النسب أو تاريخ ومكان الوفاة ...

(1/1)

* بعض القصص المكررة أوالمبالغ فيها وعليها مسحات صوفية وفيها مخالفات للشريعة 0

* أحاديث لا تصح أوليس هذا مكانها أو مكررة0

* (السيرة النبوية وجاءت فى 14 صفحة) لان محلها كتب السيرة .....

* (ذكرالصحابة جاءفى138 صفحة) ورأيت افرادهم بمصنف مستقل وقد بدأت من التابعين

اسأل الله التواب الغفور ان يغفر لنا ويرحمناونشهده أنا نحبه ونبيه والأنبياء والمؤمنين ونبغض الكافرين ... .

واتركك مع الشيخ الإمام العلامة ابن الجوزى يوضح لك منهجه وطريقته فى ترتيب ونهج الكتاب ..... ... .

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة رب يسر وأعن

قال الشيخ الإمام العلامة جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي رحمه الله:

الحمد لله، و سلام على عباده الذين اصطفى، حمدا إذا قابل النعم وفى، وسلاما إذا بلغ المصطفين شفى، و خص الله بخاصة ذلك نبينا المصطفى، و من احتذى حذوه من أصحابه وأتباعه واقتفى، وفقنا لسلوك طريقهم ...

أما بعد: فإنك الطالب الصادق، والمريد المحقق لما نظرت في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني أعجبك ذكر الصالحين والأخيار، ورأيته دواء لأدواء النفس، إلا أنك شكوت من إطالته بالأحاديث المسندة التي لا تليق به و بكلام عن بعض المذكورين كثير قليل الفائدة، وسألتني أن أختصره لك و أنتقي محاسنه، فقد أعجبني منك أنك أصبت في نظرك، إلا أنه لم يكشف لك كل الأمر، و أنا أكشفه لك فأقول: اعلم أن كتاب الحلية قد حوى من الأحاديث والحكايات جملة حسنة إلا أنه تكدر بأشياء وفاتته أشياء، فالأشياء التي تكدر بها عشرة: الأول -أن هذا الكتاب إنما وضع لذكر أخبار الأخيار، و إنما يراد من ذكرهم شرح أحوالهم و أخلاقهم ليقتدي بها السالك، فقد ذكر فيه أسماء جماعة ثم لم ينقل عنهم شيئا من ذلك ..... .....

(1/2)

والثاني -أنه قصد ما ينقل عن الرجل المذكور، و لم ينظر هل يليق بالكتاب أم لا، مثل ما ملأ ترجمة مجاهد بقطعة من تفسيره، و ترجمة عكرمة بقطعة من تفسيره ..... ... و ليس هذا بموضع هذه الأشياء.

والثالث -أنه أعاد أخبارا كثيرة مثل ما ذكر في ترجمة الحسن البصري من كلامه، ثم أعاده في تراجم أصحابه الذين يرون كلامه ..... ... 0

والرابع -أنه أطال بذكر الأحاديث المرفوعة التي يرويها الشخص الواحد فينسى ما وضع له ذكر الرجل من بيان آدابه و أخلاقه، كما ذكر شعبة و سفيان و مالك و عبد الرحمن بن مهدي و أحمد بن حنبل و غيرهم، فإنه ذكر عن كل واحد من هؤلاء من الأحاديث التي يرويها مرفوعة جملة كثيرة، و معلوم أن مثل كتابه الذي يقصد به مداواة القلوب إنما وضع لبيان أخلاق القوم لا الأحاديث، و لكل مقام مقال، ثم لو كانت الأحاديث التي ذكرها من أحاديث الزهد اللائقة بالكتاب لقرب الأمر، و لكنها من كل فن، و عمومها من أحاديث الأحكام والضعاف ...

والخامس أنه ذكر في كتابه أحاديث كثيرة باطلة و موضوعة، فقصد بذكرها تكثير حديثه و تنفيق رواياته، و لم يبين أنها موضوعة و معلوم أن جمهور المائلين إلى التبرر يخفى عليهم الصحيح من غيره، فستر ذلك عنهم غش من الطبيب لا نصح.

والسادس -السجع البارد في التراجم، الذي لا يكاد يحتوي على معنى صحيح خصوصا في ذكر حدود التصوف.

والسابع -إضافة التصوف إلى كبار السادات كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن وشريح و سفيان و شعبة و مالك و الشافعي وأحمد و ليس عند هؤلاء القوم خبر من التصوف.

(1/3)

فإن قال قائل: إنما عنى به الزهد في الدنيا و هؤلاء زهاد، قلنا: التصوف مذهب معروف عند أصحابه لا يقتصر فيه على الزهد بل له صفات و أخلاق يعرفها أربابه و لولا أنه أمر زيد على الزهد ما نقل عن بعض هؤلاء المذكورين ذمه، فانه قد روى أبو نعيم في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه أنه قال: التصوف مبني على الكسل، و لو تصوف رجل أول النهار لم يأت الظهر إلا و هو أحمق .و قد ذكرت الكلام في التصوف و وسعت القول فيه في كتابي المسمى بتلبيس إبليس.

والثامن -أنه حكى في كتابه عن بعض المذكورين كلاما أطال به لا طائل فيه .....

والتاسع -أنه ذكر أشياء عن الصوفية لا يجوز فعلها، فربما سمعها المبتدئ القليل العلم فظنها حسنة فاحتذاها، مثل ما روي عن أبي حمزة الصوفي أنه وقع في بئر فجاء رجلان فطماها، فلم ينطق حملا لنفسه على التوكل بزعمه، و سكوت هذا الرجل في مثل هذا المقام إعانة على نفسه و ذلك لا يحل، ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحال، كما لم يخرج رسول الله. صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة واستئجاره دليلا واستكتامه، واستكفائه ذلك الأمر و استتار في الغار، و قوله لسراقة: أخف عنا.

فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محذور، و سكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، و بيان ذلك أن الله عز وجل قد خلق للآدمي آلة يدافع بها عن نفسه الضرر و آلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان جهلا بالتوكل و ردا لحكمة الواضع لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله سبحانه و ليس من ضرورته قطع الأسباب، و لو أن إنسانا جاع فلم يأكل، أو احتاج فلم يسأل، أو عري فلم يلبس، فمات دخل النار، لأنه قد دل على طريق السلامة فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه.

(1/4)

والعاشر -أنه خلط في ترتيب القوم فقدم من ينبغي أن يؤخر و آخر من ينبغي أن يقدم، فعل ذلك في الصحابة و فيمن بعدهم، فلا هو ذكرهم على ترتيب الفضائل، ولا على ترتيب المواليد، ولا جمع أهل كل بلد في مكان ... 0

و أما الأشياء التي فاتته فأهمها ثلاثة أشياء: أحدها -أنه لم يذكر سيد الزهاد و أمام الكل و قدوة الخلق و هو نبينا. صلى الله عليه وسلم فانه المتبع طريقه المقتدي بحاله

والثاني -أنه ترك ذكر خلق كثير قد نقل عنهم من التعبد والاجتهاد الكبير .....

والثالث -أنه لم يذكر من عوابد النساء إلا عددا قليلا، و معلوم أن ذكر العابدات ... يوثب المقصر من الذكور0

وقد حداني جدك أيها المريد، في طلب أخبار الصالحين و أحوالهم أن أجمع لك كتابا يغنيك عنه و يحصل لك المقصود منه، و يزيد عليه بذكر جماعة لم يذكرهم، وأخبار لم ينقلها، و جماعة ولدوا بعد وفاته، و ينقص عنه بترك جماعة قد ذكرهم لم ينقل عنهم كبير شيء وحكايات قد ذكرها، فبعضها لا ينبغي التشاغل به، وبعضها لا يليق بالكتاب على ما سبق بيانه.

فصل في بيان وضع كتابنا والكشف عن قاعدته

لما كان المقصود بوضع مثل هذا الكتاب ذكر أخبار العاملين بالعمل، الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، المستعدين للنقلة بتحقيق اليقظة والتزود الصالح، ذكرت من هذه حاله دون من اشتهر بمجرد العلم ولم يشتهر بالزهد والتعبد.

فصل في بيان ترتيب كتابنا

أنا أبتدئ بتوفيق الله سبحانه ومعونته فأذكر بابا في فضل الأولياء الصالحين، ثم أردفه بذكر نبينا محمد. صلى الله عليه وسلم و شرح أحواله وآدابه و ما يتعلق به، ثم أذكر المشتهرين من أصحابه بالعلم المقترن بالزهد والتعبد، وآتي بهم على طبقاتهم في الفضل ثم أذكر المصطفيات من الصحابيات على ذلك القانون، ثم اذكر التابعين و من بعدهم على طبقاتهم في بلدانهم.

(1/5)

وقد طفت الأرض بفكري شرقا وغربا، واستخرجت كل من يصلح ذكره في هذا الكتاب من جميع البقاع. ورب بلدة عظيمة لم أر فيها من يصلح لكتابنا. وقد حصرت أهل كل بلدة فيها وترتيبهم على طبقاتهم: أبدأ بمن يعرف اسمه من الرجال، ثم اذكر بعد ذلك من لم يعرف اسمه، فإذا انتهى ذكرت عابدات ذلك البلد على ذلك القانون، وربما كان في أهل البلد من عقلاء المجانين من يصلح ذكره من الرجال والنساء فاذكره.

وإنما ضبطت هذا الترتيب تسهيلا للطلب على الطالب، ولما لم يكن بد من مركز يكون كنقطة للدائرة رأيت أن مركزنا وهو بغداد أولى من غيره، إلا أنه لما لم يمكن تقديمها على المدينة ومكة لشرفهما، بدأت بالمدينة لانها دار الهجرة، ثم ثنيت بمكة ثم ذكرت الطائف لقربها من مكة ثم اليمن وعدت إلى مركزنا بغداد فذكرت المصطفين منها ثم انحدرت إلى المدائن ونزلت إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم إلى الأبلة ثم عبادان ثم تستر ثم شيراز ثم كرمان ثم أرجان ثم سجستان ثم ديبل ثم البحرين ثم اليمامة ثم الدينور ثم همذان ثم قزوين ثم أصبهان ثم الري ثم دامغان ثم بسطام ثم نيسابور ثم طوس ثم هراة ثم مرو ثم بلخ ثم ترمذ ثم بخاري ثم فرغانة ثم نخشب. ثم ذكرت عباد المشرق المجهولين البلاد والأسماء، فلما انتهى ذكر أهل المشرق عدنا إلى مركزنا وارتقينا منه إلى المغرب، وقد ذكرنا أهل عكبرا ثم الموصل ثم البرقة ثم طبقات أهل الشام ثم المقدسيين، ثم أهل جبلة ثم أهل العواصم والثغور، ثم من لم يعرف بلده من عباد أهل الشام، ثم عسقلان ثم مصر ثم الإسكندرية ثم المغرب، ثم عباد الجبال، ثم عباد الجزائر، ثم عباد السواحل، ثم أهل البوادي و الفلوات، ثم من لم نعرف له مستقرا من العباد و إنما لقي في طريق: فمنهم من لقي في مكة، ومنهم من لقي بعرفة، ومنهم من لقي في الطواف، ومنهم من لقي في غزاة، ومنهم من لقي في طريق سفر ...

(1/6)

ثم ذكرت من لم يعرف له اسم ولا مكان من العباد. ثم ذكرت طرفا من أخبار بنيات صغار تكلمن بكلام العابدات الكبار ثم ذكرت طرفا من أخبار عباد الجن فختمت بذلك الكتاب والله الموفق.

وإنما أنقل عن القوم محاسن ما نقل مما يليق بهذا الكتاب ولا أنقل كل ما نقل، إذ لكل شيء صناعة، وصناعة العقل حسن الاختيار، وكما أني لا أذكر ما لا يصلح أن يقتدى به ممن هو في صورة العلماء والزهاد.

وقد تجوزت بذكر جماعة من المتصوفة وردت عنهم كلمات منكرة وكلمات حسان، فانتخبت من محاسن أقوالهم لأن الحكمة ضالة المؤمن، ومع تنقينا و توقينا و حذف من لا يصلح وما لا يصلح، فقد زاد عدد من في كتابنا على ألف شخص: يزيد الرجال على ثمإنمائة زيادة بينة، وتزيد النساء على مائتين زيادة كثيرة.

باب ذكر فضل الأولياء والصالحين

الأولياء والصالحون هم المقصود من الكون، وهم الذين علموا فعملوا بحقيقة العلم.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله.صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته . رواه البخاري.

وعنه قال: قال رسول الله.صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم علي الله لأبره .....

وعن ابن عيينة قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة .

قال محمد بن يونس: ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين .

ذكر المصطفين من التابعين ومن بعدهم على طبقاتهم في بلدانهم

(1/7)

عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم ياتي بعد ذلك قوم تسبق شهاداتهم ايمانهم، إيمانهم شهادتهم اخرجاه في الصحيحين .

ذكر المصطفين من طبقات أهل المدينة من التابعين ومن بعدهم من الطبقة الأولى

-محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية ... 0

قال محمد بن الحنفية: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر0

و قال ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله له فرجا، أو قال مخرجا

وعنه قال: إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها.

قال محمد بن الحنفية: يا منذر. قلت: لبيك. قال: كل مالا يبتغى به وجه الله يضمحل.

سعيد بن المسيب بن حزن

قال سعيد بن المسيب: ما بقي أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، منى

قال ا بن حرملة ما كان إنسان يجترئ على سعيد ابن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير.

وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب وهو مريض فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس فحدثه. فقال له ذلك الرجل: وددت أنك لم تتعن فقال إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.

وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان عالم بالمدينة إلا يأتيني بعلمه وأوتى بما عند سعيد بن المسيب.

قال سعيد بن المسيب لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة.

وعن يزيد بن حازم قال: كان سعيد بن المسيب يسرد الصوم.

وعن برد مولى ابن المسيب قال ما نودي بالصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد.

وعن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه قال: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة.

(1/8)

وعن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء وقال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما من شيء أخوف عندي من النساء.

قال سعيد بن المسيب: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله عز وجل أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله.

وعن سعيد بن المسيب قال: من استغنى بالله افتقر إليه الناس.

قال سعيد بن المسيب: إن الدنيا نذالة هي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها ووضعها في غير سبلها.

وعن مالك بن أنس قال: قال سعيد ابن المسيب: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ..... ...

سليمان بن يسار و عطاء بن يسار

خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة، ومعهما أصحاب لهم، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا. فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي. قال: فدخلت عليه إمرأة من الأعراب جميلة فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته، ثم قال: ألك حاجة? قالت: نعم. قال: ما هي? قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي فقال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار.

(1/9)

ونظر إلى إمرأة جميلة، فجعلت تراوده عن نفسه ويأبى إلا ما يريد. قال: فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني. قال: اشتد بكاؤه فلما نظرت المرأة إليه وما داخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه. قال: فجعل يبكي والمرأة بين يديه تبكي. فبينما هو كذلك إذا جاء سليمان من حاجته قلما نظر إلى عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي في ناحية البيت بكى لبكائهما لا يدري ما أبكاهما وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا كلما أتى رجل فرآهم يبكون جلس يبكي لبكائهم لا يسألهم عن أمرهم حتى كثر البكاء وعلا الصوت. فلما رأت الأعرابية ذلك قامت فخرجت. و كان سليمان بن يسار يصوم الدهر وكان عطاء بن يسار يصوم يوما ويفطر يوما .....

من الطبقة الثانية من أهل المدينة

عروة بن الزبير بن العوام أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

قال عروة: يا بني سلوني فلقد تركت حتى كدت أنسى وأني لأسأل عن الحديث فيفتح لي حديث يومي 0

وعن أبي الزناد. قال: اجتمع في الحجر قوم فقالوا: تمنوا. فقال عروة: أنا أتمنى أن يؤخذ عني العلم.

وعن الزهري قال: كان عروة يتألف الناس على حديثه.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عروة بن الزبير: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزا طويلا.

وعنه عن أبيه قال إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، فان الحسنة تدل على أختها، وإن السيئة تدل على أختها.

قال لبنيه يا بني تعلموا فإنكم إن تكونوا صغار قوم عسى أن تكونوا كبارهم واسوأتاه ماذا أقبح من شيخ جاهل.

كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون. وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه حتى يخرج منه ولولا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، حتى يخرج.

وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظرا في المصحف، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله

ثم عاود من الليلة المقبلة.

(1/10)

خرج أبي إلى الوليد بن عبد الملك فوقعت في رجله الأكلة فقال له الوليد: يا أبا عبد الله أرى لك قطعها. قال: فقطعت وإنه لصائم فما تضور وجهه. قال: ودخل ابن له أكبر ولده اصطبله فرفسته دابة فقتلته فما سمع من أبي في ذلك شيء، حتى قدم المدينة فقال: اللهم إنه )كان لي بنون أربعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد( وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وايم الله لئن أخذت فلقد أبقيت ولئن ابتليت طالما عافيت.

رأى عروة رجلا يصلي فخفف فدعاه وقال أما كانت لك إلى ربك سبحانه وتعالى حاجة أني لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي حتى أسأله الملح.

وعن هشام عن أبيه قال إذا جعل أحدكم لله عز وجل شيئا فلا يجعل له ما يستحي أن يجعله لكريمه فإن الله تبارك وتعالى أكرم الكرماء وأحق من اختير له.

قال هشام كان أبي لا يفطر ولقد مات يوم مات وهو صائم.

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق

قال أيوب: رأيت على القاسم رداء قد صبغ بشيء من زعفران ويدع مائة ألف لم يتلجلج في نفسه شيء منها.

وعنه قال: ما رأيت رجلا أفضل من القاسم ولقد ترك مائة ألف وهي له حلال.

وعن مالك أن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان لي من الامر شيء لوليت القاسم بن محمد الخلافة.

قال أبي الزناد ما رأيت أحدا أعلم بالسنة من القاسم بن محمد، وكان الرجل لا يعد رجلا حتى يعرف السنة.

وعن أيوب قال: سمعت القاسم يسأل بمنى فيقول لا أدري، لا أعلم. فلما أكثروا عليه قال: والله لا نعلم كل ما تسألونا عنه، ولو علمنا ما كتمناكم ولا حل لنا أن نكتمكم وعن يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم يقول: ما نعلم كل ما نسأل عنه ولأن يعيش الرجل جاهلا بعد أن يعرف حق الله تعالى عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم.

(1/11)

و جاء أعرابي إلى القاسم بن محمد فقال: أنت أعلم أم سالم? قال: ذاك منزل سالم: يزده عليها، حتى قام الأعرابي. قال محمد بن إسحاق: كره أن يقول هو أعلم مني فيكذب، أو يقول أنا أعلم منه فيزكى نفسه.

وعن أبي الزناد عن أبيه قال: ما كان القاسم يجيب إلا في الشيء الظاهر.

وعن سفيان قال: اجتمعوا إلى القاسم بن محمد في صدقة قسمها، قال وهو يصلي: فجعلوا يتكلمون فقال ابنه: إنكم اجتمعتم إلى رجل والله ما نال منها درهما ولا دانقا. قال: فأوجز القاسم ثم قال: يا بني قل فيما علمت. قال سفيان: صدق ابنه ولكنه أراد تأديبه في النطق وحفظه. وتوفي وكان قد ذهب بصره.

مات القاسم بن محمد بين مكة والمدينة حاجا أو معتمرا فقال لابنه: سن على التراب سنا وسو على قبري والحق بأهلك وإياك أن تقول: كان وكان - رحمه الله -

سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب

عن حنظلة قال: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر يخرج إلى السوق فيشتري حوائج نفسه.

وعن هوذة بن عبد العزيز قال: رحم سالم بن عبد الله بن عمر رجل فقال سالم: بعض هذا رحمك الله فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوء. فقال سالم: ما أحسبك أبعدت.

عن مالك قال لم يكن أحد في زمن سالم بن عبد الله أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد والعيش منه: كان يلبس الثوب بدرهمين قال له سليمان بن عبد الملك ورآه حسن السحنة: أي شيء تأكل? قال: الخبز والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته. فقال له أو تشتهيه? قال: إذا لم أشتهه تركته حتى اشتهيه.

وعن محمد بن أبي سارة قال: رأيت سالم بن عبد الله قدم علينا حاجا فصلى العشاء ثم قام إلى ناحية مما يلي باب بني سهم في الصلاة، فلم يزل يميل يمينا وشمالا حتى طلع الفجر، ثم جلس فاحتبى بثوبه.

وعن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله فقال له: يا سالم سلني حاجة فقال له: إني لأستحيي من الله أن أسأل في بيت الله غير الله.

(1/12)

فلما خرج خرج في أثره فقال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة فقال له سالم: حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة? فقال: بل من حوائج الدنيا. فقال له سالم: ما سألت من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها.

أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة

و يقال له راهب قريش لكثرة صلاته وقال الزبير بن بكار: كان أبو بكر بن عبد الرحمن يقال له راهب المدينة.

وكان حارسا لعرضه حتى إنه أودع مالا فأصيب، فقال له عروة: لا ضمان عليك. قال: قد علمت، ولكن لا تتحدث قريش أن أمانتي خربت. فباع مالا له فقضاه. وقد كان قد ذهب بصره 0

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

كان علي بن الحسين إذا توضأ يصفر فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء? فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم.

كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك? فقال: ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي? وعن أبي نوح الأنصاري قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يابن رسول الله النار، يا ابن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتى أطفئت. فقيل له: ما الذي ألهاك عنها? قال: ألهتني عنها النار الأخرى.

جاء رجل إلى علي بن الحسين رضي الله عنه فقال له: إن فلانا قد آذاك ووقع فيك. قال: فانطلق بنا إليه فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه فلما أتاه قال: يا هذا إن كان ما قلت في حقا فغفر الله لي، وإن كان ما قلت في باطلا فغفر الله لك.

(1/13)

كان بين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين بعض الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين وهو مع أصحابه في المسجد، فما ترك شيئا إلا قاله له. قال: وعلي ساكت فانصرف حسن فلما كان في الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه فخرج إليه فقال له علي: يا أخي إن كنت صادقا فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك، السلام عليكم. وولى. قال: فاتبعه حسن فالتزمه من خلفه وبكى حتى رثى له ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه. فقال علي: وأنت في حل مما قلت لي.

قال علي بن الحسين: فقد الأحبة غربة. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي وتقبح سريرتي، اللهم كما أسأت وأحسنت إلي فإذا عدت فعد علي.

وكان يقول: إن قوما عبدوا الله عز وجل رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.

أن علي بن الحسين كان لا يحب أن يعنيه أحد على طهوره وكان يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام. فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يتوضأ ثم يأخذ في صلاته وكان يقضي ما فاته من صلاة النهار بالليل ثم يقول: يا بني ليس هذا عليكم بواجب ولكن أحب لمن عود نفسه منكم عادة من الخير أن يدوم عليها. وكان لا يدع صلاة الليل في الحضر والسفر. وكان يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقة، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.

وكان إذا أتاه السائل رحب به وقال مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة، وكلمه رجل فافترى عليه فقال: إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك. فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: جعلت فداك، ليس كما قلت أنا فاغفر لي: قال: غفر الله لك. فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

(1/14)

وعن شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة.

وعن محمد بن إسحاق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم. فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل.

وكان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل.

وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره، فقالوا: ما هذا? فقالوا: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.

وعن أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين.

أراد علي بن الحسين الخروج في حج أو عمرة فاتخذت له سكينة بنت الحسين سفرة أنفقت عليها ألف درهم أو نحو ذلك، وأرسلت بها إليه فلما كان بظهر الحرة أمر بها فقسمت على المساكين.

قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار، حتى إنه يعتق باليد وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج .

فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة? قال سعيد: نعم فقال لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفا. فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله عز وجل (أخرجاه في الصحيحين0)

وكان عبد الله بن جعفر قد أعطى علي بن الحسين بهذا الغلام الذي أعتقه ألف دينار.

(1/15)

عن علي بن الحسين أنه أتاه نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. فلما فرغوا فقال ألا تخبروني: أنتم المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون(? قالوا: لا قال فأنتم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ? قالوا. لا قال: أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين. ثم قال: أشهد أنكم لستم من الذين قال الله )عز وجل( والذين جاؤا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا أخرجوا فعل الله بكم.

وقال نافع بن جبير لعلي بن الحسين: أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس معه? يعني زيد بن أسلم. فقال: إنه ينبغي للعلم أن يتبع حيثما كان.

وحج هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه. قال: وجاء علي بن الحسين فوقف له الناس وتنحوا حتى استلم. فقال الناس لهشام: من هذا? قال: لا أعرفه.

فقال الفرزدق: لكني أعرفه، هذا علي بن الحسين ..... ...

قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدا أورع من فلان. قال: هل رأيت علي بن الحسين? قال: لا قال: ما رأيت أحدا أورع منه.

وقال الزهري: لم أر هاشميا أفضل من علي بن الحسين، وما رأيت أحدا كان أفقه منه.

وعن طاوس قال: رأيت علي بن الحسين ساجدا في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب، لأسمعن ما يقول. فأصغيت إليه فسمعته يقول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك، فوالله ما دعوت الله بها في كرب إلا كشف الله عني.

(1/16)

كان علي بن الحسين خارجا من المسجد فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال علي بن الحسين: مهلا عن الرجل. ثم أقبل على الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر. ألك حاجة نعنيك عليها? فاستحيا الرجل. فألقى عليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول.

كان عند على قوم فاستعجل خادما له بشواء كان له في التنور. فأقبل به الخادم مسرعا وسقط السفود من يده على بني لعلي أسفل الدرجة فأصاب رأسه فقتله فقال علي للغلام: أنت حر، لم تعمده وأخذ في جهاز ابنه.

دخل على بن الحسين علي محمد بن أسامة ابن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي فقال علي: ما شأنك? قال: علي دين. قال: كم هو? قال خمسة عشر ألف دينار. قال: فهو علي.

وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: أوصاني أبي قال: لا تصحبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق. قال: قلت: جعلت فداءك يا ابت من هؤلاء الخمسة? قال: لا تصحبن فاسقا فإنه يبيعك بأكلة فما دونها. قال: قلت: يا أبة وما دونها? يطمع فيها ثم لا ينالها.

قال: قلت: يا أبة ومن الثاني? قال: قال: لا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه.

قال: قلت: يا أبة ومن الثالث? قال: لا تصحبن كذابا فإنه بمنزلة السراب يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد.

قال: قلت: يا أبة ومن الرابع? قال: لا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.

قال: قلت: يا أبة ومن الخامس? قال: لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع.

عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود

يكنى أبا عبد الله وكان بحرا من البحور في العلم.

قال أبو الزناد ربما كنت أرى عمر بن عبد العزيز في إمارته يأتي عبيد الله فربما حجبه وربما أذن له.

بسر بن سعيد

وكان من العباد المنقطعين وأهل الزهد في الدنيا.

عن مالك قال: مات بسر ولم يدع كفنا.

(1/17)

مات رجل من بني أمية من مترفيهم ومات يومئذ بسر ابن سعيد، فقال عمر بن عبد العزيز: إن كان المدخلان واحدا فعيش فلان أحب إلينا. فقال مزاحم: إنك لا تزال توغر من أخيك عليك. فقال: إذا رأيت الحق قلته.

عكرمة مولى عبد الله بن عباس

مات ابن عباس وهو عبد فاشتراه خالد بن يزيد ابن معاوية من علي بن عبد الله بن عباس بأربعة آلاف دينار. فبلغ ذلك عكرمة فأتى عليا فقال بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار? فراح علي إلى خالد فاستقاله فأقاله فأعتقه.

وعن الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: كان ابن عباس يجعل في رجل الحبل ويعلمني القرآن والسنن.

وعن جابر بن زيد قال: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا أعلم الناس.

وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.

وقال قتادة: أعلمهم بالتفسير عكرمة.

قال إبراهيم وحدثني أبي عن عكرمة قال: لكل شيء أساس، وأساس الإسلام الخلق الحسن.

زياد بن أبي زياد، مولى عبد الله ابن عياش بن أبي ربيعة القرشي وكان زياد عبدا0

وكان عمر بن عبد العزيز يستزيره ويكرمه. وبعث إلى مولاه ليبيعه إياه فأبي وأعتقه.

وقال مالك بن أنس: كان زياد عابدا معتزلا لا يزال يذكر الله تعالى ... 0

وقال محمد بن المنكدر: إنني خلفت زياد بن أبي زياد وهو يخاطب نفسه في المسجد، يقول: اجلسي، أين تريدين أن تذهبي? أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد? انظري إلى ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان، ودار فلان? قال. وكان يقول لنفسه: مالك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت، ومالك من الثياب إلا هذان الثوبان، ومالك من النساء إلا هذه العجوز، أفتحبين أن تموتي? فقالت: أنا أصبر على هذا العيش.

من الطبقة الثالثة من أهل المدينة

علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب

وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأكثره صلاة. وكان يقال له السجاد.

وعن علي بن أبي جملة والأوزاعي قالا: كان علي بن عبد الله بن عباس يسجد كل يوم ألف سجدة.

(1/18)

وعن هشام بن سليمان المخزومي أن علي بن عبد الله بن عباس كان إذا قدم مكة حاجا أو معتمرا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ولزمت مجلس علي بن عبد الله إعظاما وإجلالا وتبجيلا فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعا حوله. وكان لا يرى لقرشي في المسجد الحرام مجلس ذكر يجتمع إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم.

أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب

قال محمد بن علي: الغني والعز يجولان في قلب المؤمن فإذا وصلا إلى مكان التوكل أو طناه.

قال محمد بن علي: ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك، قل أو كثر.

وعن جابر، يعني الجعفي، قال: قال لي محمد بن علي: يا جابر إني لمحزون وإني لمشتغل القلب. قلت وما حزنك وما شغل قلبك? قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغله عما سواه يا جابر ما الدنيا ما عسى أن تكون? هل هو إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها? يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأو بأعينهم من الزينة ففازوا بثواب الأبرار، إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله، قوامين بأمر الله فأنزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت منه أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت ولبس معك منه شيء، واحفظ الله تعالى ما استرعاك من دينه وحكمته.

قال محمد: سلاح اللئام قبيح الكلام - وعنه قال: والله لموت عالم أحب إلى إبليس من موت سبعين عابدا.

وقال محمد بن علي لابنه. يا بني إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر إنك إن كسلت لم تؤد حقا وإن ضجرت لم تصبر على حق.

(1/19)

عن عروة بن عبد الله قال سألت جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف فقال لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه قال قلت: وتقول: الصديق? قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق. فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا ولا في الآخرة.

قال محمد بن علي: يا جابر بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبونا وينالون أبا بكر وعمرو، ويزعمون أني أمرتهم بذلك فأبلغهم أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله عز وجل بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما إن أعداء الله لغافلون عنهما.

وعن أفلح، مولى محمد بن علي، قال: خرجت مع محمد بن علي حاجا فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته فقلت بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفقت بصوتك قليلا قال: ويحك يا أفلح،ولم لا أبكي? لعل الله ينظر إلي منه برحمة فأفوز بها عنده غدا قال: ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه.

وعن خالد بن دينار عن أبي جعفر أنه كان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني.

وعن عبد الله بن عطاء قال: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علما عند أبي جعفر (محمد بن علي) لقد رأيت الحكم عنده كأنه متعلم.

قال محمد بن علي: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه.

وعن أبي حمزة عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى الله عز وجل من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء. وإن أسرع الخير ثوابا البر وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذي جليسه بمالا يعنيه.

(1/20)

وعن عبد الله بن الوليد قال: قال لنا أبو جعفر محمد بن علي: يدخل أحدكم يده كيس صاحبه فيأخذ ما يريد? قال قلنا: لا. قال: فلستم إخوانا كما تزعمون.

وعن سلمى مولاة أبي جعفر قالت: كان يدخل إليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب ويكسوهم الثياب الحسنة ويهب لهم الدراهم. قالت: فأقول له بعض ما تصنع. فيقول: يا سلمى ما يؤمل في الدنيا بعد المعارف والاخوان? وعن سليمان بن قرم قال: كان محمد بن علي يجيز بالخمسمائة والتسعمائة إلى الألف، وكان لا( يمل من مجالسة إخوانه )غنيا.

وعن الأسود بن كثير قال: شكوت إلى محمد بن علي الحاجة وجفاء الإخوان فقال: بئس الأخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا. ثم أمر غلامه فأخرج كيسا فيه سبع مائة درهم فقال: استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني.

وعن أبي جعفر قال: اعرف المودة لك في قلب أخيك بما له في قلبك.

عمر بن عبد العزيز بن مروان

قال احمد بن حنبل يروى في الحديث أن الله تبارك وتعالى يبعث على راس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز ونظرنا في المائة الثانية فإذا هو الشافعي.

وعن سهل بن يحيى محمد المروزي قال اخبر لي أبي عن عبد العزيز بن عمر ابن عبد العزيز قال لما دفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هده أو رجه فقال ما هذه فقيل هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها فقال ما لي ولها نحوها عني قربوا إلي بغلتي.

فقربت إليه بغلته فركبها فجاءه صاحب الشرط يسير بين يديه بالحربة فقال تنح عني ما لي ولك إنما أنا رجل من المسلمين. فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر واجتمع الناس إليه

فقال يا أيها الناس أني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم.

(1/21)

فصاح المسلمون صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فل امرنا باليمن والبركة فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله فان تقوى الله خلف من كل شيء ليس من تقوى الله عز وجل خلف فاعملوا لأخرتكم فانه من عمل لأخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه واصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم وأكثروا ذكر الموت واحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم فانه هادم اللذات وان من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أبا حيا لمعرق في الموت وان هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها ولا في كتابها إنما اختلفوا في الدنيار والدرهم وإني والله لا عطي أحدا باطلا ولا امنع أحدا حقا.

ثم رفع صوته حتى اسمع الناس فقال: يا أيها الناس من أطع الله فقد وجبت طاعته ومن عصى الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

(1/22)

ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين ثم ذهب يتبوأ مقيلا فاتاه ابنه عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع قال أي بني أقيل قال تقيل ولا ترد المظالم قال أي بني أني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان فإذا صليت الظهر ردت المظالم قال يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر قال ادن مني أي بني فدنا منه فالتزمه وقبل بين عينيه وقال الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني فخرج ولم يقل وأمر مناديه أن ينادي إلا من كانت له مظلمة فليرفعها فقام رجل إليه ذمي من أهل حمص ابيض الرأس واللحية فقال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال وما ذاك قال العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني ارضي والعباس جالس فقال له يا عباس ما تقول قال اقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وكتب لي بها سجلا فقال عمر ما تقول يا ذمي قال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل فقال عمر كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك قم فاردد عليه يا عباس ضيعته فرد عليه فجعل لا يدع شيئا مما كان في يده وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة فلما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا فقالوا ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل فبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك فكتب إليه انك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وشنئا لمن بعدهم من أولادهم قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها في بيت المال جورا وعدوانا ولن تترك على هذا.

(1/23)

فلما قرا كتابه كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين أما بعد فانه بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه أما أول شأنك ابن الوليد كما زعم فأمك بنانة أمة السكون كانت تطوف في سوق حمص وتدخل وتدور في حوانيتها ثم الله اعلم بها اشتراها ذبيان من فيء المسلمين فأهداها لأبيك فحملت بك فبئس المحمول وبئس المولود ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا تزعم أني من الظالمين لم حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل وان اظلم مني واترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده فويل لك وويل لأبيك ما اكثر خصماءكما يوم القيامة وكيف ينجو أبوك من خصمائه وان اظلم مني واترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم الحرام ويأخذ مال الحرام وإن أظلم مني واترك بعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر أذن له في المعارف واللهو والشرب وان اظلم مني واترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهما في خمس العرب فرويدا يا بن بنانة فلو التقى حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فان كل فيك حقا والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين.

عن عمر بن ذر قال مولى لعمر بن عبد العزيز حين رجع من جنازة سليمان مالي أراك مغتما قال لمثل ما أنا فيه يغتم انه ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني.

(1/24)

وعن بعض خاصة عمر بن عبد العزيز انه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عاليا فسئل عن البكاء فقيل أن عمر بن عبد العزيز خير جوارية فقال انه قد نزل لي أمر قد شغلني عنكن فمن احب أن اعتقه أعتقته ومن أراد أن امسكه امسكته ولم يكن مني إليها شيء فبكين يأسا منه.

لما ولى عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس قال فقيل لهم وما علمكم بذلك قالوا انه إذا قام خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شائنا.

وعن مسلم قال دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده كاتب يكتب وشمعة تزهر وهو ينظر في أمور المسلمين قال فخرج الرجل فاطفئت الشمعة وجيء بسراج إلى عمر فدنوت منه ف رأيت عليه قميصا فيه رقعة قد طبق ما بين كتفيه قال فنظر في أمري.

عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أما بعد فانك كتبت إلى سليمان كتبا لم ينظر فيها حتى قبض رحمه الله وقد بليت بجوابك كتبت إلى سليمان تذكر انه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين ثمن شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء وصلاة الفجر وتذكر انه قد نفد الذي كان يستضاء به ويسأل أن يقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال وقد عهدتك وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج ولعمري لانت يومئذ خير منك اليوم والسلام.

كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس وأخليهم في مشيته فلما استخلف قوموا ثيابه اثني عشر درهما كمته وعمامته وقميصه وقباءه وقرطقه ورداءه وخفية.

وعن يونس بن أبي شبيب قال شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف بالبيت وان حجزة ازاره لغائبه في عنكه ثم رأيته بعدما استخلف ولو شئت أن اعد أضلاعه من غير أن أمسها لفعلت.

(1/25)

قال مسلمة بن عبد الملك دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه فإذا عليه قميص وسخ فقلت لفاطمة بنت عبد الملك يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين قالت نفعل إن شاء الله ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين فان الناس يعودونه? قالت والله ما له قميص غيره.

وعن الفهري عن أبيه قال كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاح الفيء فتناول ابن له صغير تفاحة فانتزعها من فيه فأوجعه فسعى إلى أمه مستعبرا فأرسلت إلى السوق فاشترت له تفاحا فلما رجع عمر وجد ريح التفاح فقال يا فاطمة هل أتيت شيئا من هذا الفيء قالت لا وقصت عليه القصة فقال والله لقد انتزعتها من ابني لكأنما نزعتها من قلبي ولكن كرهت أن أضيع نصيبي من الله عز وجل بتفاحة من فيء المسلمين.

لما مات عمر كان استودع مولى إليه سفطا يكون عنده فجاءوه فقالوا السفط الذي كان استودعك عمر قال ما لكم فيه خير فأبوا حتى رفعوا ذلك إلى يزيد بن عبد الملك فدعا بالسفط ودعا بني أمية وقال خيركم هذا فقد وجدنا له سفطا وديعة قد استودعها ففتحوه فإذا فيه مقطعات من مسوح كان يلبسها بالليل.

وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار لا يدري هؤلاء ما أبكي هؤلاء فلما تجلت عنهم العبرة قالت له فاطمة بابي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت قال ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير ثم صرخ وغشي عليه.

وعن زياد بن أبي زياد المديني قال أرسلني ابن عامر بن أبي ربيعة إلى عمر بن عبد العزيز في حوائج له فدخلت عليه وعنده كاتب يكتب فقلت السلام عليكم.

(1/26)

فقال وعليك السلام ثم انتبهت فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال يا ابن أبي زياد أننا لسنا ننكر الأولى التي قلت والكاتب يقرأ عليه مظالم جاءت من البصرة فقال لي اجلس فجلست على اسكفة الباب وهو يقرأ وعمر يتنفس صعدا فلما فرغ أخرج من كان في البيت حتى وصيفا كان فيه ثم قام يمشي إلي حتى جلس بين يدي ووضع يديه على ركبتي ثم قال يا ابن أبي زياد استدفأت في مدرعتك هذه قال وعلي مدرعة من صوف واسترحت مما نحن فيه ثم سألني عن صلحاء أهل المدينة رجالهم ونسائهم فما ترك منهم أحدا إلا سألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته ثم قال لي يا ابن أبي زياد إلا ترى ما وقعت فيه قال قلت ابشر يا أمير المؤمنين أني أرجو لك خيرا قال هيهات هيهات قال ثم بكى حتى جعلت ارثي له فقلت: يا أمير المؤمنين بعض ما تصنع فإني أرجو لك خيرا قال: هيهات هيهات اشتم ولا اشتم وأضرب ولا أضرب وأوذي ولا أوذي ثم بكى حتى جعلت أرثي له فأقمت حتى قضى حوائجي ثم أخرج من تحت فراشه عشرين دينارا فقال استعن بهذه فانه لو كان لك في الفيء حق أعطيناك حقك إنما أنت عبد فأبيت أن آخذها فقال إنما هي نفقتي فلم يزل بي حتى أخذتها وكتب إلي مولاي الموالي يسأله أن يبيعني منه فأبى واعتقني.

(1/27)

وعن عمرو بن مهاجر قال قال لي عمر بن عبد العزيز إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني ثم قال يا عمر ما تصنع? وعن عبيد الله بن محمد التميمي قال سمعت أبي وغيره يحدث أن عمر بن عبد العزيز لما ولي منع قرابته ما كان يجري عليهم واخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم فشكوا إلى عمته أم عمر فدخلت فقالت إن قرابتك يشكونك ويزعمون انك أخذت منه خير غيرك قال منعتهم حقا ولا أخذت منهم حقا فقالت أني رأيتهم يتكلمون وأني أخاف أن يهجوا عليك يوما عصيبا فقال كل يوم أخافه دون القيامة فلا وقاني الله شره قال ودعا بدينار وخبث ومجمرة فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمر تناوله بشيء فألقاه على الخبث فنش فقال أي عمة آما تأوين لابن أخيك من مثل هذا فقامت فخرجت على قرابته فقالت تزوجون إلى آل عمر فإذا نزعوا الشبه جزعتم اصبروا له.

(1/28)

وخطب عمر بن عبد العزيز فقال: أما بعد فان الله عز وجل لم يخلقكم عبثا ولم يدع شيئا من أمركم سدى وان لكم معادا فخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض واشترى قليلا بكثير فانيا بباق وخوفا بامن إلا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين في كل يوم وليلة تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه وانقضى اجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع ثم تدعونه غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجه الحساب مرتهنا بعمله فقيرا إلى ما قدم غنيا عما ترك فاتقوا الله قبل نزول الموت وايم الله أني لأقول لكم هذه المقالة وما اعلم عند أحد مكنم من الذنوب ما اعلم عندي وما يبلغني عن أحد منكم ما يسعه ما عندي إلا وددت انه يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه وايم الله لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه ولكن سبق من الله عز وجل كتاب ناطق وسنة عادلة دل فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته. ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وشهق وبكى الناس وكانت آخر خطبة خطبها.

وعن هاشم لما كانت الصرعة التي هلك فيها عمر دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين انك أفقرت أفواه وولدك من هذا المال وتركتهم علية لا شيء لهم فلو وصيت بهم إلي والى نظرائي من أهل بيتك.

(1/29)

قال فقال اسندوني ثم قال أما قولك أني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله أني ما منعتهم حقا هو لهم ولم أعطهم ما ليس لهم وأما قولك لو أوصيت بهم فان وصيي ووليي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين بني أحد الرجلين إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجا وإما رجل مكب على المعاصي فإني لم اكن أقويه على معاصي الله. ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكرا قال فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلة لا شيء لهم فإني بحمد الله قد تركتهم بخير أي بني إن أباكم مثل بين أمرين بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار قوموا عصمكم الله.

عن عمر انه لما كان مرضه الذي قبض فيه قال أجلسوني فأجلسوه ثم قال أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ولكن لا اله إلا الله ثم رفع رأسه واحد النظر فقالوا له انك لتنظر نظرا شديدا فقال أني لأرى حضرة ما هم بأنس ولا جان ثم قبض رضي الله عنه.

عبد الملك ابن عمر بن عبد العزيز

عن بعض مشيخة الشام قال كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما ادخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك.

وعن إسماعيل بن أبي حكيم قال غضب عمر بن عبد العزيز يوما فاشتد غضبه وكان فيه حدة وعبد الملك حاضر فلما سكن غضبه قال يا أمير المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك وموضعك الذي وضعك الله به وما ولاك من أمر عباده يبلغ بك الغضب بما آري قال كيف قلت فأعاد عليه كلامه فقال آما تغضب يا عبد الملك فقال ما تغنى سعة جوفي إن لم اردد فيه الغضب حتى لا يظهر منه شيء اكرهه.

(1/30)

دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على عمر فقال يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فأخلني وعنده مسلمة بن عبد الملك فقال عمر اسردون عمك قال نعم فقال مسلمة وخرج وجلس بين يديه فقال يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدا إذا سالك فقال رأيت بدعة تمتها أو سنة فلم تحيها فقال له يا بني أشيء حملك الرغبة إلي أم رأي رايته من قبل نفسك قال لا والله ولكن رأي رايته من قبل نفسي عرفت انك مسؤول فما أنت قائل فقال له أبوه رحمك الله وجزاك من ولد خيرا فوالله أني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيدهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجة من دم أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا بالحق وهو خير الحاكمين .....0

ان عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك استوى قائما وأحاط به الناس فقال والله يا بني لقد كنت برا بابيك والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسرورا بك ولا والله ما كنت قط اشد سرورا ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله إليه فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ورحم كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره الحمد لله رب العالمين ثم انصرف.

عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام

كان عامر بن الزبير يقف عند موضع الجنائز يدعو وعليه قطيفة فربما سقطت عنه القطيفة وما يشعر بها.

(1/31)

وعنه قال: ربما خرج عامر بن عبد الله بن الزبير منصرفا من العتمة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعرض له الدعاء قبل أن يصل إلى منزله فيرفع يديه فما يزال كذلك حتى ينادي بالصبح فيرجع إلى المسجد فيصلي الصبح بوضوء العتمة. ..... ... قال معن وسمعت أن عامر بن عبد الله ربما أخرج البدرة فيها عشرة آلاف درهم فيقسمها فما يصلي العتمة ومعه منها درهم.

وعن سفيان بن عيينة قال: اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله عز وجل بتسع ديات.

و كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتحين العباد وهم سجود أبا حازم وصفوان بن سليم وسليمان بن شحم، وأشباههم فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون بمكانه.

فيقال له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم? فيقول: اكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسولي وإذ لقيني.

وعن عياش بن المغيرة قال: كان عامر بن عبد الله بن الزبير إذا شهد جنازة وقف على القبر فقال: إلا أراك ضيقا? إلا أراك دقعا? إلا أراك مظلما? إن سلمت لأتاهبن لك اهبتك. فأول شيء تراه عيناه من ماله يتقرب به إلى ربه وإن كان رقيقه ليتعرضون له عند انصرافه من الجنائز ليعتقهم.

سمع عامر بن عبد الله المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد فقال: خذوا بيدي فقيل له: انك عليل قال: اسمع داعي الله فلا أجيبه فاخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات.

أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم

وكان على قضاء المدينة فلما ولي عمر بن عبد العزيز ولاه إمرة المدينة روى عطاف بن خالد عن أمه عن إمرة أبي بكر محمد بن عمور بن حزم أنها قالت ما اضطجع أبو بكر على فراشه منذ أربعين سنة بالليل.

محمد بن كعب القرظي يكنى أبا حمزة

قال محمد بن كعب إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال فقها في الدين وزهادة في الدنيا وبصرا بعيوبه.

(1/32)

عن يزيد بن عبد الملك بن المغيرة عن محمد بن كعب قال من قرأ القرآن متع بعقله وان بلغ مائتي سنة.

روى أبو كثير النصري قال قالت أم محمد بن كعب القرظي لمحمد يا بني لولا أني أعرفك صغيرا طيبا وكبيرا طيبا لظننت انك أحدثت ذنبا موبقا لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار قال يا أماه وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي وأنا في بعض ذنوبي فمقتني فقال اذهب لا اغفر لك مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى انه لينقضي الليل ولم افرغ من حاجتي.

وقال محمد بن كعب لان أقرا في ليلتي حتى اصبح إذا زلزلت الأرض زلزالها سورة الزلزلة والقارعة سورة القارعة لا أزيد عليهما وأتفكر فيهما وأتردد احب إلي من أن اهذ القرآن هذا أو قال انثره نثرا.

اتى محمد بن كعب القرظي رجل فقال يا عبد الله ما تقول في التوبة قال ما أحسنها قال أف رأيت إن أعطيت الله عهدا أن لا اعصيه أبدا فقال له محمد فمن حينئذ اعظم جرما منك تتالى على الله أن لا ينفذ فيك أمره.

أبو عمر وبن حماس

كان أبو عمرو متعبدا متجهدا يصلي الليل وكان شديد النظر إلى النساء فدعا الله أن يذهب بصره فذهب بصره فلم يحتمل العمى فدعا الله أن يرد عليه بصره فبينما هو في المسجد إذ رفع رأسه فنظر إلى القنديل فدعا غلامه فقال ما هذا قال القنديل قال وذاك وذاك يعد قناديل المسجد وخر ساجدا شكر الله إذ رد عليه بصره فكان بعد ذلك إذا رأى المرأة طأطأ رأسه وكان يصوم الدهر.

وعن مالك بن انس قال كان يونس بن يوسف من العباد أو من خيار الناس.

من الطبقة الرابعة

محمد بن مسلم بن شهاب الزهري يكنى أبا بكر

عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: ما أرى أحدا جمع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جمع ابن شهاب.

وقال مالك بن أنس: ما أدركت فقيها محدثا غير واحد. فقلت من هو? فقال ابن شهاب الزهري.

(1/33)

وعنه أنه قال: إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم والله لقد أدركت ها هنا، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا كلهم يقول، قال فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم آخذ عن أحد منهم حرفا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ولقد قدم علينا محمد بن شهاب الزهري وهو شاب فازدحمنا على بابه لأنه كان من أهل هذا الشأن.

وقال أيوب: ما رأيت أحدا اعلم من الزهري فقال صخر بن جويرية: ولا الحسن? قال ما رأيت أحدا أعلم من الزهري.

وعن جعفر بن ربيعة قال: قلت لعراك بن مالك: من افقه أهل المدينة? قال: أما أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان أفقههم فقها وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب: وأما أغزرهم حديثا فعروة ابن الزبير ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بن عبد الله بحرا إلا فجرته. قال عراك، فأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب فإنه جمع علمهم جميعا إلى علمه.

وعن معمر: قال رجل من قريش: قال لنا عمر بن عبد العزيز: أتأتون الزهري? قلنا نعم. قال: فأتوه فانه لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه - قال: والحسن ونظراؤه يومئذ أحياء.

وقال سفيان: مات الزهري يوم مات وليس أحد اعلم بالسنة منه.

وعن ابن شهاب انه كان يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته.

وعن الليث قال: ما رأيت عالما قط اجمع من ابن شهاب ولا أكثر علما منه، ولو سمعت ابن شهاب يحدث في الترغيب لقلت: لا يحسن إلا هذا، وان حدث عن الأنبياء وأهل الكتاب لقلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الأعراب والأنساب لقلت لا يحسن إلا هذا. وان حدث عن القرآن والسنة كان حديثه جامعا.

وعن مالك بن أنس قال أول من دون العلم ابن شهاب.

قال الزهري: ما استعدت حديثا ولا شككت في حديث قط إلا حديثا واحدا فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت.

(1/34)

وعن يونس بن يزيد قال: سمعت الزهري يقول أن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك، و لم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به.

وعن سفيان قال: سمعت الزهري يقول: العلم ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال.

وعن معمر، عن الزهري قال: ما عبد الله بشيء أفضل من العلم.

قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أهون عليه الدينار والدرهم من ابن شهاب، وما كانت عنده إلا مثل البعر.

وعن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب انه كان يكون معه في السفر. قال: فكان يعطي من جاءه وسأله حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فلا يزالون يسلفونه حتى لا يبقى معهم شيء، فيحلفون انه لم يبق معهم شيء فيستسلف من عبيده فيقول: أي فلان أسلفني وأضعف لك كما تعلم فيسلفونه ولا يرى بذلك بأسا فربما جاءه السائل فيقول: أبشر فسيأتي الله بخير. فيقيض الله لابن شهاب أحدا رجلين إما رجل يهدي له ما يسعهم وإما رجل يبيعه وينظره قال: وكان يطعمهم الثريد ويسقيهم العسل.

محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن محرز

وعن أبي معشر قال: دخل المنكدر على عائشة فقالت: لك ولد? قال: لا. فقالت: لو كان عندي عشرة آلاف درهم لوهبتها لك. قال: فما أمست إلا بعث إليها معاوية بمال فقالت ما أسرع ما ابتليت، وبعثت إلى المنكدر بعشرة آلاف فاشترى منها جارية فهي أم محمد وعمر وأبي بكر.

وعن الحارث بن الصواف قال: قال محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.

وعن سفيان قال: كان محمد بن المنكدر ربما قام من الليل يصلي ويقول كم من عين الآن ساهرة في رزقي.

وكان له جار مبتلى فكان يرفع صوته من الليل يصيح وكان محمد يرفع صوته بالحمد. فقيل له في ذلك فقال: يرفع صوته بالبلاء وأرفع صوتي بالنعمة.

(1/35)

عن محمد بن المنكدر أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذا استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه: ما الذي أبكاك? فاستعجم عليهم، فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبي حازم واخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي فقال: يا أخي ما الذي أبكاك قد رعت أهلك? فقال له إني مرت بي آية من كتاب الله عز وجل. قال: ما هي? قال: قول الله عز وجل وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون سورة الزمر آية 47 قال: فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما. قال: فقال بعض أهله لأبي حازم جئنا بك لتفرج عنه فزدته. قال فأخبرهم ما الذي أبكاهما0

قال عمر بن محمد: كنت أمسك على أبي المصحف، قال: فمرت مولاة له فكلمها فضحك إليها. ثم أقبل يقول إنا لله إنا لله حتى ظننت أنه قد حدث شيء. فقلت: ما لك? فقال: أما كان لي في القرآن شغل حتى مرت هذه فكلمتها.

قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ المؤمن في ولده وولد ولده، ويحفظه في دويرته وفي دويرات حوله، فما يزالون في حفظ وعافية ما كان بين أظهرهم.

بعث محمد بن المنكدر إلى صفوان بن سليم بأربعين دينارا ثم قال لبنيه: يا بني ما ظنكم برجل فرغ صفوان لعبادة ربه عز وجل.

قال محمد بن المنكدر: بات عمر، يعني أخاه، يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.

عن محمد بن المنكدر انه كان يضع خده بالأرض ثم يقول لأمه: قومي ضعي قدمك على خدي.

وعن محمد بن سوقة قال: سمعت محمد بن المنكدر يقول: نعم العون على تقوى الله عز وجل الغني.

قيل لمحمد بن المنكدر: أي العمل احب إليك? قال: إدخال السرور على المؤمن، قيل: فما بقي من لذتك? قال: الإفضال على الإخوان.

قال محمد بن المنكدر: الفقيه يدخل بين الله عز وجل وبين عباده، فلينظر كيف يدخل .....

(1/36)

عن عكرمة عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت فقيل له: لم تجزع? قال: أخشى آية من كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون سورة الزمر آية 47 فإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.

وعن ابن زيد قال: أتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال: يا أبا عبد الله كأني أراك قد شق عليك الموت? قال: فما زال يهون عليه الأمر وينجلي عن محمد حتى لكأن في وجهه المصابيح. ثم قال له محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك. ثم قضى رحمه الله.

عمر بن المنكدر

قالت أم عمر بن المنكدر لعمر: إني اشتهي أن أراك نائما. فقال: يا أماه والله أن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني وما قضيت منه أربي.

وعن سالم أبي بسطام قال: كان عمر بن المنكدر لا ينام الليل يكثر البكاء على نفسه فشق ذلك على أمه فقالت لأخيه محمد بن المنكدر: إن الذي يصنع عمر يشق علي فلو كلمته في ذلك. فاستعان عليه بابي حازم فقالا له: أن الذي تصنع يشق على أمك. قال: فكيف أصنع? إن الليل إذا دخل علي هالني فأستفتح القرآن وما تنقصني نهمتي فيه. قالا: فالبكاء? قال: آية من كتاب الله أبكتني قالا وما هي? قال: قوله عز وجل وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون سورة الزمر آية 47.

(1/37)

بعث بعض الأمراء إلى عمر بن المنكدر بمال فجاء به الرسول فوضعه بين يديه فجعل عمر ينظر إليه ويبكي ثم جاء أبو بكر فلما رأى عمر يبكي جلس يبكي لبكائه ثم جاء محمد فجلس يبكي لبكائهما. فاشتد بكاؤهم جميعا. فبكى الرسول أيضا لبكائهم ثم أرسل إلى صاحبه فأخبره بذلك فأرسل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ليستعلم علم ذلك البكاء فجاء ربيعة فذكر ذلك لمحمد فقال محمد: سله فهو أعلم ببكائه فاستأذن عليه ربيعة فقال: يا أخي ما الذي أبكاك من صلة الأمير? قال: والله إني خشيت أن تغلب الدنيا على قلبي فلا يكون للآخرة فيه نصيب فذلك الذي أبكاني قال: وأمر بالمال فتصدق به على فقراء أهل المدينة، قال: فجاء ربيعة فأخبر الأمير بذلك فبكى وقال: هكذا يكون والله أهل الخير رحمه الله.

سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف يكنى أبا إسحاق

ولي قضاء المدينة عن شعبة قال: كان سعد يصوم الدهر ويقرأ القرآن في كل يوم وليلة.

وعن عبيد الله بن سعد الزهري قال: قال: عمى عن أبيه، قال: سرد أبي سعد ابن إبراهيم الصوم أربعين سنة.

وعن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال: قيل له من أفقه أهل المدينة? قال: أتقاهم لربه.

وعن ابن سعد بن إبراهيم قال: كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يقرأ القرآن.

وعنه قال: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين لم يفطر حتى يختم القرآن وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. وكان كثيرا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه رحمه الله.

عبد الرحمن بن أبان بن عثمان ابن عفان رحمهم الله روى عن أبيه.

كان عبد الرحمن بن أبان يشتري أهل البيت ثم يأمر بهم فيكسون ويدهنون ثم يعرضون عليه فيقول انتم أحرار لوجه الله استعين بكم على غمرات الموت. قال: فمات وهو قائم في مسجده يصلي السبحة، يعني الضحى.

ربيعة بن أبي عبد الرحمن

(1/38)

أن فروخا أبا عبد الرحمن أبا ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيا وربيعة حمل في بطن أمه وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين آلف دينار. فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسا وفي يده رمح فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه فخرج ربيعة فقال له: يا عدو الله أتهجم على منزلي? فقال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله أنت رجل دخلت على حرمي فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان وأنت مع امرأتي. وكثر الضجيج فلما بصروا بمالك: سكت الناس كلهم. فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الديار. فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ مولى بني فلان. فسمعت امرأته كلامه فخرجت فقالت: هذا زوجي، وهذا ابنه الذي خلفه وأنا حامل به فاعتنقا جميعا وبكيا فدخل فروخ المنزل فقال: هذا ابني? قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار. فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام.

فخرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته وأتاه مالك بن أنس والحسن بن زيد وابن أبي علي اللهبي والمساحقي وأشراف المدينة وأحدق الناس به فقالت امرأته: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاه فوقف عليه ففرجوا له قليلا ونكس ربيعة رأسه يوهمه انه لم يره فقال: من هذا الرجل? فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني. فرجع إلى منزله فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدا من أهل الفقه والعلم عليها. فقالت أمه: فأيما أحب إليك: ثلاثون آلف دينار أو هذا الذي هو فيه من الجاه? قال لا والله إلا هذا. قالت فإني أنفقت المال كله عليه قال: فوالله ما ضيعته.

(1/39)

وعن ابن زيد قال: مكث ربيعة دهرا طويلا عابدا يصلي الليل والنهار، فجالس القاسم فنطق بلب وعقل فكان القاسم إذا سئل عن شيء قال: سلوا هذا لربيعة.

وعن سوار بن عبد الله قال: ما رأيت أحدا أعلم من ربيعة الرأي قلت: ولا الحسن وابن سيرين? قال: ولا الحسن وابن سيرين.

وكان السفاح قد أقدم عليه ربيعة الانبار ليوليه القضاء فلم يفعل، وعرض عليه العطاء فلم يقبل.

وعن مالك قال لي ربيعة حين أراد الخروج إلى العراق: أن سمعت إني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تعدني شيئا. فكان كما قال: لما قدمها لزم بيته فلم يخرج إليهم ولم يحدثهم بشيء حتى رجع قال مالك: لما قدم على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له بجائزة فأبى أن يقبلها. فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية فأبى أن يقبلها.

كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوما جالسا فغطى رأسه ثم اضطجع فبكى فقيل له: ما يبكيك? فقال رثاء ظاهر وشهوة خفية.

وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: لقد رأيت مشيخة المدينة وان لهم لغدائر وعليهم الممصر والمورد في أيديهم مخاصر، وفي أيدهم آثار الحناء في هيئة الفتيان ودين أحدهم ابعد من الثريا إذا أريد على دينه.

صفوان بن سليم الزهري مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف يكنى أبا عبد الله.

عن عبد العزيز بن أبي حازم قال: عادلني صفوان بن سليم إلى مكة فما وضع جنبه في المحمل حتى رجع.

كان صفوان بن سليم في الصيف يصلي بالليل في البيت، فإذا كان الشتاء صلى في السطح لئلا ينام.

قال أبي ضمرة: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له غدا القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.

وعن أبي علقمة المديني قال: كان صفوان بن سليم لا يكاد يخرج من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أراد أن يخرج بكى وقال: أخشى أن لا أعود إليه.

(1/40)

وعن محمد بن أبي منصور قال: قال صفوان بن سليم أعطى الله عهدا أن لا أضع جنبي على فراش حتى الحق بربي قال: فبلغني أن صفوان عاش بعد ذلك أربعين سنة لم يضع جنبه فلما نزل به الموت قيل له: رحمك الله ألا تضطجع? قال ما وفيت لله بالعهد إذا.

قال: فأسند فما زال كذلك حتى خرجت نفسه، قال: ويقول أهل المدينة، انه ثفنت جبهته من اثر السجود.

وعن أبي مروان مولى بني تميم قال: انصرفت مع صفوان بن سليم من العيد إلى منزله فجاء بخبر يابس فجاء سائل فوقف على الباب وسأل فقام صفوان إلى كوة في البيت فأخذ منها شيئا فأعطاه فاتبعت ذلك السائل لأنظر ما أعطاه. فإذا هو يقول: أعطاه الله افضل ما أعطى أحدا من خلقه فقلت ما أعطاك? قال: أعطاني دينارا.

وعن سفيان قال: جاء رجل من أهل الشام فقال: دلوني على صفوان بن سليم? فإني رأيته دخل الجنة فقلت: بأي شيء? قال: بقميص كساه إنسانا.

قال بعض إخوان صفوان: سألت صفوان عن قصة القميص قال: خرجت من المسجد في ليلة باردة فإذا رجل عريان، فنزعت قميصي فكسوته.

(1/41)

قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها. قال: فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم عن غير معرفة فقال: يا عمر من هذا الرجل، ما رأيت سمتا أحسن منه? قال: يا أمير المؤمنين هذا صفوان بن سليم. قال: يا غلام كيس فيه خمس مائة دينار. فآتى بكيس فيه خمس مائة دينار فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي فوصفه للغلام حتى أثبته فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان فلما نظر إليه صفوان ركع وسجد ثم سلم واقبل عليه فقال: ما حاجتك? قال: امرني أمير المؤمنين، وهو ذا ينظر إليك والي أن ادفع هذا الكيس وفيه خمس مائة دينار إليك وهو يقول: استعن بهذا على زمانك وعلى عيالك. فقال صفوان للغلام: ليس أنا بالذي أرسلت إليه. فقال له الغلام: ألست صفوان بن سليم? قال: بلى أنا صفوان بن سليم. قال: فإليك أرسلت. قال: اذهب فاستثبت فإذا أثبت فهلم. فقال الغلام: فأمسك الكيس معك واذهب. قال: لا، إذا أمسكت كنت قد أخذت، ولكن اذهب فاستثبت فأنا ها هنا جالس. فولى الغلام فأخذ صفوان نعليه وخرج فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة.

أبو مصعب قال لي ابن أبي حازم: دخلت أنا وأبي نسأل عنه، يعني صفوان بن سليم وهو في مصلاه فما زال به أبي حتى رده إلى فراشه فأخبرتني مولاته أن ساعة خرجتم مات.

أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج

وعن سفيان قال: قيل لأبي حازم ما مالك? قال: ثقتي بالله عز وجل ويأسى مما في أيدي الناس.

قال أبو حازم: ما مضى من الدنيا فحلم وما بقي فأماني.

قال أبو حازم: لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله إلا احسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يغور فيما بينه وبين الله عز وجل إلا اعور فيما بينه وبين العباد. ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، انك إذا صانعت هذا الوجه مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنفتك الوجوه كلها.

(1/42)

قال أبو حازم: إذا رأيت الله عز وجل يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره.

قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله عز وجل فهي بلية.

وعن سفيان قال: قال أبو حازم: ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظا للسانه منه لموضع قدميه.

قال أبو حازم نعمة الله فيما زوي عني من الدنيا افضل من نعمته فيما أعطاني منها.

وقال أبو حازم: إن وقينا شر ما أعطينا لم نبال ما فاتنا.

قال أبو حازم: أن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى عيش من الدنيا يكفيك، وان كان لا يغنيك، ما يكفيك فليس شيء يكفيك.

بعث سليمان بن عبد الملك إلى حازم فجاءه فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت? قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فانتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال: صدقت، فكيف القدوم على الله عز وجل? قال: إما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم: قال: اعرض نفسك على كتاب الله عز وجل فانك تعلم ما لك عند الله قال يا أبا حازم وإني أصيب ذلك? قال: عند قوله إن الأبرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم سورة الانفطار آية 14 فقال سليمان: فأين رحمة الله? قال قريب من المحسنين سورة الأعراف آية 56 قال: ما تقول فيما نحن فيه? قال. اعفني عن هذا قال سليمان: نصيحة تلقيها. قال أبو حازم: أن أناسا اخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة من المسلمين ولا اجتماع من رأيهم فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم? فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا شيخ. قال أبو حازم: كذبت، أن الله تعالى اخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه قال سليمان: أصحبنا يا حازم تصب منا ونصب منك قال: أعوذ بالله من ذلك. قال: ولم? قال أخاف أن اركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات.

(1/43)

قال: فاشر علي. قال: اتق الله أن يراك حيث نهاك وان يفقدك حيث أمرك. قال: يا أبا حازم ادع لنا بخير. قال: اللهم أن كان سليمان وليك فيسره للخير، وان كان عدوك فخذ إلى الخير بناصيته. فقال: يا غلام هات مائة دينار. ثم قال: خدها يا أبا حازم. فقال لا حاجة لي فيها إني أخاف أن يكون لما سمعت من كلامي.

فكأن سليمان أعجب بابي حازم. فقال الزهري: انه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته قط. قال أبو حازم: انك نسيت الله فنسيتني ولو أحببت الله لأحببتني. قال الزهري: أتشتمني? قال سليمان: بل أنت شتمت نفسك. أما علمت أن للجار على جاره حقا قال أبو حازم: أن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء، تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا و لو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم. قال الزهري كأنك إياي تريد وبي تعرض قال: هو ما تسمع.

(1/44)

كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك: أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله عليك فيما اصح من بدنك وأطال من عمرك وعملت حجج الله تعالى مما علمك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك وكل حجة يحتج بها عليك الغرض الأقصى ابتلى في ذلك شكرك وأبدا فيه فضله عليك وقد قال عز وجل: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد سورة إبراهيم آية7 فانظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها فلا تحسبن الله عز وجل راضيا منك بالتعذير، ولا قابلا منك التقصير هيهات ليس ذاك اخذ على العلماء في كتابه إذ قال: لتبيننه للناس ولا تكتمونه سورة آل عمران آية 187 انك تقول انك جدل ماهر عالم قد جادلت الناس فجدلتهم وخاصمتهم فخصمتهم إدلالا منك بفهمك واقتدارا منك برأيك فأين تذهب عن قول الله عز وجل: ها انتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة سورة النساء آية 109 اعلم أن أدنى ما ارتكبت واعظم ما احتقبت أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت وإجابتك حين دعيت فما أخلقك أن ينوه غدا باسمك مع الجرمة، وان تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، انك أخذت ما ليس لمن أعطاك، جعلوك قطبا تدور عليه رحى باطلهم وجسرا يعبرون بك إلى بلائهم وسلما إلى ضلالتهم يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم فما ايسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما اقل ما أعطوك في قدر ما اخذوا منك، فانظر لنفسك فانه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حسابا رجل مسؤول وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا وانظر كيف

(1/45)

إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس مبجلا، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته مستترا، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا، ما لك لا تتنبه من نعستك. وتستقيل من عثرتك فتقول والله ما قمت لله عز وجل مقاما واحدا أحيي له فيه دينا ولا أميت له فيه باطلا? أين شكرك لمن استحملك كتابه واستودعك علمه? ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله عز وجل فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى الآية سورة الأعراف آية 169 انك لست في دار مقام قد أوذنت بالرحيل فما بقاء المرء بعد أقرانه? طوبى لمن كان في الدنيا على وجل ما يؤمن من أن يموت وتبقى ذنوبه من بعده انك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلا أن ترد له على ظهرك. ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشفى من سعد بكسبه غيره. احذر فقد أتيت وتخلص فقد وهلت. انك تعامل من لا يجهل والذي يحفظ عليك لا يغفل.

تجهز فقد دنا منك سفر بعيد وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن إني أردت توبيخك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قوله تعالى: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين سورة الذاريات آية 55 أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه? وهل تراه دخر لك خيرا منعوه أو علمك شيئا جهلوه? فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك فمن يلوم الحدث قي سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله? ونحمد الذي عافانا مما ابتلاك به. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال أبو حازم: أن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها فانه لو جاء يوم نفاقها لم تصل منها إلى قليل ولا إلى كثير.

قال أبو حازم ويحك يا أعرج يدعى يوم القيامة بأهل خطيئة كذا وكذا فتقوم معهم، ثم يدعى بأهل خطيئة.

(1/46)

قال أبو حازم: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح.

وعن محمد بن مطرف قال: قال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد الزق به شيء يسوءك.

وعن أبي حازم قال أن العبد ليعمل الحسنة تسره حين يعملها وما خلق الله من سيئة هي عليه اضر منها، وان العبد ليعمل السيئة ثم تسوءه حين يعملها، وما خلق الله عز وجل من حسنة انفع له منه، وذلك أن العبد حين يعمل الحسنة يتجبر فيها ويرى أن له فضلا على غيره ولعل الله عز وجل يحبطها ويحبط معها عملا كثيرا، وان العبد ليعمل السيئة تسوءه ولعل الله عز وجل يحدث له فيها وجلا فيلقى الله وان خوفها لفي جوفه باق.

كان أبو حازم يمر على الفاكهة فيقول: موعدك الجنة.

مر أبو حازم بجزار فقال: يا أبا حازم خذ من هذا اللحم فانه سمين قال: ليس معي درهم. قال أنظرك. قال: أنا أنظر نفسي.

وعن الفضل قال قال حازم المديني: وجدت الدنيا شيئين: فشيء منها هو لي فلن أعجله قبل اجله ولو طلبته بقوة السموات والأرض، وشيء منها هو لغيري فلم أنله، فيما مضى، ولا أرجوه فيما بقي، يمنع الذي لي من غيري كما يمنع الذي لغيري مني، ففي أي هذين افني عمري? ووجدت ما أعطيت من الدنيا شيئين فشيء يأتي اجله قبل اجلي فاغلب عليه، وشيء يأتي اجلي قبل اجله فأموت واخلفه لمن بعدي، ففي أي هذين اعصي ربي عز وجل?.

قال أبو حازم: عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، ويدعون أن يعلموا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة????????????????.

قال أبو حازم: إني لأعظ وما أرى له موضعا وما أريد إلا نفسي، وقال: لو أن أحدكم قيل له ضع ثوبك على هذا الهوف حتى يرمى لقال: ما كنت لأخرق ثوبي، وهو يخرق دينه. وحلف أبو حازم لجلسائه: لوددت أن أحدكم يبقي على دينه كما يبقى على نعله..

قال أبو حازم أضمنوا لي اثنين أضمن لكم الجنة: عملا بما تكرهون إذا احبه الله تعالى، وترك ما تحبون إذا كرهه الله عز وجل.

(1/47)

قال أبو حازم يسير الدنيا يشغل عن كثير من الآخرة، وقال: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وما أكرهت أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم.

وقال: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت. وقال: انك لتجد الرجل يعمل بالمعاصي فإذا قيل له: أتحب أن تموت? قال: يقول: وكيف? وعندي ما عندي. فيقال له: أفلا تترك ما تعمل من المعاصي? فيقول: ما أريد تركه وما احب أن أموت حتى اتركه.

وقال: شيئان إذا عملت بهما أصبت بهما خير الدنيا والآخرة لا أطول عليك.

قيل: وما هما أنا أبا حازم? قال: تحمل ما تكره إذا احبه الله وتترك ما تحب إذا كرهه الله.

وعن محمد بن يحيى المازني قال: قال أبو حازم: رضي الناس من العمل بالعلم ومن الفعل بالقول.

وعن العمري قال: رأيت أبا جعفر القاري، يعني في المنام، على الكعبة فقلت له يا أبا جعفر قال: نعم اقريء إخواني مني السلام وخبرهم أن الله عز وجل جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، واقريء أبا حازم السلام وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكيس الكيس فان الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.

من الطبقة الخامسة من أهل المدينة

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين

يكنى أبا عبد الله أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق كان مشغولا بالعبادة عن حب الرياسة.

وعن عمرو بن أبي المقدام قال كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت انه من سلالة النبيين.

(1/48)

قال جعفر بن محمد لسفيان الثوري يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها فاكثر من الحمد والشكر عليها فإن الله عز وجل قال في كتابه لئن شكرتم لأزيدنكم سورة إبراهيم آية 7 وإذا استبطأت الرزق فاكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين يعني في الدنيا ويجعل لكم جنات سورة نوح آية 12 في الآخرة يا سفيان إذا حزبك أمر من سلطان أو غيره فاكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة.

وعن ابن أبي حازم قال كنت عند جعفر بن محمد إذ جاءه آذنه فقال سفيان الثوري بالباب فقال ائذن له فدخل فقال جعفر يا سفيان انك رجل يطلبك السلطان وأنا اتقي السلطان قم فاخرج غير مطرود فقال سفيان حدثني حتى اسمع وأقوم فقال جعفر حدثني أبي عن جدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله ومن أستبطأ الرزق ليستغفر الله ومن حزبه أمر فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله فلما قام سفيان قال جعفر خذها يا سفيان ثلاث وأي ثلاث.

وعن الهياج بن بسطام قال كان جعفر بن محمد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء.

قال جعفر بن محمد لسفيان الثوري لا يتم المعروف إلا بثلاثة بتعجيله وتصغيره وستره.

وسئل جعفر بن محمد لم حرم الله الربا قال لئلا يتمانع الناس المعروف.

(1/49)

وعن بعض أصحاب جعفر الصادق قال دخلت على جعفر وموسى بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية فكان مما حفظت منها أن قال: يا بني أقبل وصيتي واحفظ مقالتي فانك إن حفظتها تعش سعيدا وتمت حميدا يا بني انه من قنع بما قسم الله له استغنى ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا ومن لم يرض بما قسم الله عز وجل له اتهم الله تعالى في قضائه ومن استصغر زلة نفسه استعصم زلة غيره ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته ومن سل سيف البغي قتل به ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيها ومن داخل السفهاء حقر ومن خالط العلماء وقر ومن دخل مداخل السوء اتهم يا بني قل الحق لك وعليك وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه.

وعن احمد بن عمرو بن المقدام الرازي قال وقع الذباب على المنصور فذبه عنه فعاد فذبه حتى اضجره فدخل جعفر بن محمد فقال له المنصور يا أبا عبد الله لم خلق الله عز وجل الذباب قال ليذل به الجبابرة.

وعن الحسن بن سعيد اللخمي عن جعفر بن محمد قال من لم يغضب من الجفوة لم يشكر النعمة.

وعن الحرمازي قال كان رجل من أهل السواد يلزم جعفر بن محمد ففقده فسأل عنه فقال له رجل انه نبطي يريد أن يضع منه فقال جعفر اصل الرجل عقله وحسبه ودينه وكرمه تقواه والناس في آدم مستوون.

وعن سفيان الثوري قال سمعت جعفر بن محمد الصادق يقول عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول فإن طلب في الخمول ولم توجد فيوشك أن تكون في التخلي وليس كالخمول فإن طلبت في التخلي ولم توجد فيوشك أن تكون في الصمت وليس كالتخلي فإن طلب في الصمت فلم توجد فيوشك أن تكون في كلام السلف الصالح والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها.

(1/50)

وعن عبد الله بن الفضيل بن الربيع عن ابيه ولم يحفظ على الدعاء وبعضه عن غيره قال حج أبو جعفر سنة سبع وأربعين ومائة فقدم المدينة وقال ابعث إلي جعفر بن محمد من يأتينا به تعبا قتلني الله إن لم أقتله فتغافل عنه الربيع لينساه ثم أعاد ذكره للربيع وقال أرسل إليه من يأتي به متعبا فتشاغل عنه ثم أرسل إلى الربيع برسالة قبيحة في جعفر وأمره أن يبعث إليه ففعل فلما أتاه قال له يا أبا عبد الله اذكر الله فانه قد أرسل إليك التي لا سوى لها قال جعفر لا حول ولا قوة إلا بالله ثم اعلم أبا جعفر حضوره فلما دخل أوعده وقال أي عدو الله اتخذك أهل العراق إماما يجبون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني وتبغيه الغوائل قتلني الله إن لم أقتلك فقال يا أمير المؤمنين إن سليمان عليه السلام أعطى فشكر وان أيوب ابتلي فصبر وان يوسف ظلم فغفر وأنت من ذلك السنخ فقال له أبو جعفر إلي وعندي أبا عبد الله البريء الساحة السليم الناحية القليل الغائلة جزاك الله من ذي رحم افضل ما جزى ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه على فراشه ثم قال علي بالمنجفة فأتي بدهن فيه غالية فغلفه بيده حتى خلت لجيته قاطرة ثم قال في حفظ الله وفي كلاءته ثم قال يا ربيع ألحق أبا عبد الله جائزته وكسوته انصرف أبا عبد الله في حفظ الله وفي كنفه فانصرف ولحقته فقلت له أني قد رأيت قبل ذلك ما لم تره و رأيت بعد ذلك ما قد رأيت فما قلت يا أبا عبد الله حين دخلت قال قلت اللهم احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بركنك الذي لا يرام واغفر لي بقدرتك علي لا أهلك وأنت رجائي اللهم انك اكبر واجل ممن أخاف واحذر اللهم بك ادفع في نحره واستعذ بك من شره.

محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ابن الحارث بن أبي ذئب

(1/51)

وكان من أورع الناس ... 0 وكان يصلي الليل أجمع واخبرني أخوه قال كان يصوم يوما ويفطر يوما فوقعت الرجفة بالشام فقدم رجل من أهل الشام فحدثه عن الرجفة وكان يوم إفطاره فقلت له قم تغذى قال دعه اليوم فسرد الصوم من ذلك اليوم إلى أن مات وكان يتعشى بالخبز والزيت وله طيلسان وقميص يشتو فيه ويصيف ويحفظ حديثه كله.

ودخل على عبد الصمد بن علي وهو والي المدينة فكلمه في شيء فقال له عبد الصمد: إني لأراك مرائيا فأخذ عودا أو شيئا من الأرض فقال: من أرائي? فوالله للناس عندي أهون من هذا وحج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب فقال نشدتك بالله الست اعمل بالحق? أليس تراني اعدل فقال ابن أبي ذئب أما إذا نشدتني بالله فأقول اللهم لا ما أراك تعدل وانك لجائر وأنا لتستعمل الظلمة وتدع أهل الخير.

قال محمد بن عمر فحدثني محمد بن إبراهيم وإبراهيم بن يحيى وأخبرت عن عيسى بن علي قالوا فظننا أن أبا جعفر سيعالجه فجعلنا نكف إلينا ثيابنا مخافة أن يصيبنا من دمه فجزع أبو جعفر واغتم وقال له قم فاخرج.

وكان فقيها صالحا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أقدمه المهدي بغداد فحدث بها ثم رجع يريد المدينة فمات بالكوفة.

مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أبو عبد الله القرشي

عن الزبير بن بكار قال كان مصعب بن ثابت من اعبد أهل زمانه صام خمسين سنة.

قال الزبير وحدثني يحيى بن مسكين قال ما رأيت أحدا قط اكثر ركوعا وسجودا من مصعب بن ثابت كان يصلي في كل يوم وليلة آلف ركعة ويصوم الدهر.

من الطبقة السادسة من أهل المدينة

مالك بن انس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي

وعن أبي مصعب قال سمعت مالك بن انس يقول ما أفتيت حتى شهد لي سبعون اني أهل لذلك.

وعنه قال ما أحببت في الفتيا حتى سألت من هو اعلم مني هل يراني موضعا لذلك سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقلت يا أبا عبد الله فلو نهاك قال كنت انتهي لا ينبغي للرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو اعلم منه.

(1/52)

وقال خلف دخلت على مالك بن انس فقال لي انظر ما تحت مصلاي أو حصيري فنظرت فإذا بكتاب فقال أقراه فإذا فيه رؤيا رآها له بعض إخوانه فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في مسجده وقد اجتمع الناس عليه فقال لهم اني قد خبأت لكم تحت منبري طيبا أو علما وأمرت مالكا أن يفرقه على الناس فانصرف الناس وهم يقولون إذا ينفذ مالك ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بكى فقمت عنه.

وعن ابن أبي اويس قال كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال احب أن اعظم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا وكان يكره أن يحدث في الطريق وهو قائم أو مستعجل فقال احب أن يفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

كان مالك بن انس إذا أراد أن يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتبخر وتطيب، وإذا رفع أحد صوته عنده قال: اغضض من صوتك فإن الله عز وجل يقول: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي سورة الحجرات آية:2 فمن رفع صوته عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قال مالك بن انس ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في القلب.

و قيل لمالك بن انس: ما تقول في طلب العلم? قال: حسن جميل، ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه.

وعن ابن مهدي قال: سال رجل مالكا عن مسالة فقال: لا أحسنها فقال الرجل: اني ضربت إليك كذا وكذا لأسألك عنها. فقال له مالك: فإذا رجعت إلى مكانك وموضعك فاخبرهم اني قلت لك لا أحسنها.

وعن ابن أبي اويس قال اشتكى مالك بن انس أياما يسيرة فسالت بعض أهلنا عما قال عند الموت فقال تشهد ثم قال لله الآمر من قبل ومن بعد.

من الطبقة السابعة من أهل المدينة

عبد الله بن عبد العزيز العمري

(1/53)

تعبد عبد الله العمري وكان لا يرى إلا وفي يده كتاب يقرؤه وترك مجالسه الناس فسئل عن فعله فقال لم أر أوعظ من قبر ولا انس من كتاب ولا اسلم من الوحدة فقيل له قد جاء في الوحدة ما جاء قال لا تفسد إلا جاهلا.

قال أبو عبد الرحمن العمري أن من غفتلك عن نفسك إعراضك عن الله بان ترى ما يسخطه فتجاوزه ولا تأمر ولا تنهى خوفا ممن لا يملك ضرا ولا نفعا.

وقال سمعته يقول من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين نزعت منه هيبة الله تعالى فلو أمر بعض ولده أو بعض مواليه لا ستخف به.

وعن أبي قدامة السرخسي قال قام العمري للخليفة على الطريق فقال له فعلت وفعلت فقال له ماذا تريد ماذا تريد قال تعمل بكذا وتعمل بكذا فقال له هارون نعم يا عم نعم يا عم.

وعن سعيد بن سليمان قال كنت بمكة في زقاق الشطوى والى جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري وقد حج هارون الرشيد فقال لها إنسان يا أبا عبد الرحمن هو ذا أمير المؤمنين يسعى قد أخلي له المسعى قال العمري للرجال لا جزاك الله عني خيرا كلفتني أمرا كنت عنه غنيا ثم تعلق نعليه وقام فتبعته وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا فصاح به يا هارون فلما نظر إليه قال لبيك يا عم قال ارق الصفا فلما رقيه قال ارم بطرفك إلى البيت.

قال قد فعلت قال كم هم قال ومن يحصيهم قال فكم في الناس مثلهم قال خلق لا يحصيهم إلا الله قال اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسال عن خاصة نفسه وأنت وحدك تسال عنهم كلهم فانظر كيف تكون قال فبكى هارون وجلس وجعلوا يعطونه منديلا للدموع قال العمري أو أخرى أقولها قال قل يا عم قال والله إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه فكيف بمن يسرف في مال المسلمين ثم مضى وهارون يبكي.

(1/54)

قال محمد بن خلف سمعت محمد بن عبد الرحمن يقول بلغني أن هارون الرشيد قال اني لأحب أن أحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر ثم يسمعني ما أكره وقد روي لنا من طريق آخر انه لقيه في المسعى فاخذ بلجام دابته فأهوت إليه الأجناد فكفهم عنه الرشيد فكلمه فإذا دموع الرشيد تسيل على معرفة دابته ثم انصرف وانه لقيه مرة فقال يا هارون فعلت وفعلت فجعل يسمع منه ويقول مقبول منك يا عم على الرأس والعين فقال يا أمير المؤمنين من حال الناس كيت وكيت فقال عن غير علمي وأمري وخرج العمري إلى الرشيد مرة ليعظه فلما نزل الكوفة زحف العسكر حتى لو كان نزل بهم مائة آلف من العدو ما زادوا علىهيبته ثم رجع ولم يصل إليه وعن أبي يحيى الزهري قال قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث اني لم أصبح املك إلا سبعة دراهم من لحاء شجر فتلته بيدي وبنعمة ربي أحدث لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي ما يمنعني أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها.

جاء رجل إلى العمري فقال عظني قال فاخذ حصاة من الأرض فقال زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض قال زدني قال كما تحب أن يكون الله عز وجل لك غدا فكن له اليوم.

موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي.

كان يدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل وكان كريما حليما إذا بلغه عن رجل انه يؤذيه بعث إليه بمال.

(1/55)

عن الفضل بن الربيع عن أبيه انه لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى المهدي في النوم علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول يا محمد فهل عسيتم أن توليتم إن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم سورة محمد آية 22 قال الربيع فأرسل إلي ليلا فراعني ذلك فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية وكان أحسن الناس صوتا فقال علي بموسى بن جعفر فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه وقال يا أبا الحسن رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ علي كذا فتؤمنني إن تخرج علي أو على أحد من ولدي فقال والله لا فعلت ذلك ولا هو من شأني قال صدقت يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة.

قال الربيع فأحكمت أمره ليلا فما أصبح إلا وهو في الطريق خوف العوائق.

(1/56)

وعن شقيق بن إبراهيم البلخي قال خرجت حاجا في سنة تسع وأربعين ومائتين فنزلت القادسية فبينا أنا انظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة يعلو فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة في رجليه نعلان وقد جلس منفردا فقلت في نفسي هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم والله لأمضين إليه ولأوبخنه فدنوت منه فلما راني مقبلا قال يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض إثم سورة الحجرات آية 12 ثم تركني ومضى فقلت في نفسي إن هذا لأمر عظيم قد تكلم على ما في نفسي ونطق باسمي وما هذا إلا عبد صالح لألحقنه ولأسلنه أن يحالني فأسرعت في إثره فلم ألحقه وغاب عن عيني فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري فقلت هذا صاحب امضي إليه واستحله فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه فلما راني مقبلا قال يا شقيق اتل وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى سورة طه آية 82 ثم تركني ومضى فقلت إن هذا الفتى لمن الإبدال وقد تكلم على سري مرتين فلما نزلنا رمالا إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا انظر إليه ف رأيت قد رمق السماء وسمعته يقول: أنت ربي إذا ظمئت من الماء وقوتي إذا أردت الطعاما اللهم سيدي مالي سواها فلا تعدمنيها قال شقيق فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فمد يده فاخذ الركوة وملاها ماء وتوضأ وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام فقلت أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك.

(1/57)

فقال يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا سويق وسكر فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحا منه فشبعت ورويت فاقمت أياما لا اشتهي طعاما ولا شرابا ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرايته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نصف الليل يصلي بخشوع وانين وبكاء فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح الله ثم قام فصلى الغداة وطاف بالبيت أسبوعا وخرج فتبعته فإذا له حاشية وموال وهو على خلاف ما رايته في الطريق ودار به الناس من حوله يسلمون عليه فقلت لبعض من رايته يقرب منه من هذا الفتى فقال هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقلت قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد.

وعن احمد بن إسماعيل قال بعث موسى ين جعفر إلى الرشيد من الحبس رسالة كانت انه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتى نفضي جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون.

ذكر المصطفين من عباد المدينة الذين لم تعرف أسماؤهم

عابد من رعاة المدينة قال نافع خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع فقال له عبد الله هلم يا راعي فاصب من هذه السفرة فقال اني صائم فقال له عبد الله في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم فقال الراعي أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر وقال هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تقطر عليه وتعطيك ثمنها? قال إنها ليست لي إنها لمولاي قال فما عسيت أن يقول كل مولاك إن قلت أكلها الذئب فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله? قال فلم يزل أين عمر يقول قال الراعي فأين الله فما عدا إن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فاعتق الراعي ووهب له الغنم ...

(1/58)

عابد آخر

قال محمد بن المنكدر اني لليلة مواجة هذا المنبر جوف الليل أدعو إذا أنا بأنسان عند اسطوانة مقنع رأسه فاسمعه يقول أي رب إن القحط قد اشتد على عبادك وإني مقسم عليك يا رب إلا سقيتهم قال فما كان إلا ساعة إذا سحابة قد أقبلت ثم أرسلها الله عز وجل وكان عزيزا أين المنكدر أن يخفى عليه أحد من أهل الخير فقال هذا بالمدينة ولا اعرفه فما سلم الإمام تقنع وانصرف واتبعه ولم يجلس للقاص حتى أتى دار انس فدخل موضعا خرج مفتاحا ثم دخل قال فلما أصبحت أتيته فإذا أنا اسمع نجرا في بيته فسلمت وقلت ادخل قال ادخل فإذا هو ينجر أقداحا يعملها فقلت كيف أصبحت أصلحك الله قال فاستشهرها وأعظمها مني فلما رأيت ذلك قلت أخي سمعت أقسامك البارحة على الله عز وجل يا أخي هل لك في نفقة تغنيك عن هذا وتفرغك لما تريد من الآخرة قال لا ولكن غير ذلك لا تذكرني لأحد حتى أموت ولا تأتيني يا ابن المنكدر فانك أن تأتني تشهرني للناس فقلت اني احب أن ألقاك قال: ألقني في المسجد وكان فارسيا قال فما ذكر ذلك ابن المنكدر لأحد حتى مات الرجل.

قال ابن وهب بلغني انه انتقل من تلك الدار فلم ير ولم يدر أين ذهب فقال أهل تلك الدار الله بيننا وبين ابن المنكدر اخرج عنا الرجل الصالح.

عابد آخر

عن محمد بن المنكدر قال كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس اصلي إليها بالليل فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستقون فلم يسقوا فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي فجاء رجل اسود تعلوه صفرة متزر بكساء وعلى رقبته كساء اصغر منه. ودعا فقال أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم فأنا اقسم عليك لما سقيتهم.

(1/59)

قال ابن المنكدر فقلت مجنون قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم اسمع يمثلها قط قال ثم قال ومن أنا وما أنا حيث استجبت إلي ولكن عذت بحمدك وعذت بطولك ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه ثم قام فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحسن الصبح سج سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب المسجد فخرج يرفع ثوبه ويخوض الماء فخرجت خلفه رافعا ثوبي أخوض الماء فلم ادر أين ذهب. فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي فلم يزل قائما حتى إذا خشى الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه فجعل يمشي وابتعه حتى دخل دارا قد عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد.

فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخرز وإذا هو إسكاف فلما راني عرفني وقال أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة تريد أن اعمل لك خفا فجلست فقلت الست صاحبي بارحة الأولى فاسود وجهه وصاح بي وقال ابن المنكدر ما أنت وذاك قال وغضب قال ففرقت والله منه وقلت اخرج من عنده الآن.

(1/60)

فلما كان في الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجيء قال قلت أنا لله ما صنعت فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح وإذا ليس في البيت شيء فقال لي أهل الدار يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس قلت ما له قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كسائه ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب? قال محمد بن المنكدر فما تركت بالمدينة دارا اعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله.

عابد آخر عن محمدبن سويد أن أهل المدينة قحطوا وكان فيها رجل صالح لازما لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هم في دعائهم إذ أنا برجل عليه طمران خلقان فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه إلى الله تعالى فقال يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة فلم يرد يده ولم يقطع دعاءه حتى تفشت بالغيوم ومطروا حتى صاح أهل المدينة الغرق فقال يا رب إن كنت تعلم انهم قد اكتفوا فارفع عنهم.

فسكن وتبع الرجل صاحب المطر حتى عرف موضعه ثم بكر عليه فنادى أهل البيت فخرج الرجل فقال قد أتيتك في حاجة قال وما هي قال تخصني بدعوة فقال سبحان الله أنت وتسألني أن أخصك بدعوة ما الذي بلغك ما رأيت عني فاخبره فقال ورأيتني قال نعم قال أطعت الله فيما أمرنى ونهاني وسألته فأعطاني.

(1/61)

عابد آخر كان مصعب يصلي في اليوم والليلة آلف ركعة ويصوم الدهر قال بت ليلة في المسجد بعد ما خر الناس منه فإذا برجل قد جاء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فاسند ظهره إلى الجدار فقال اللهم انك تعلم اني كنت أمس صائما ثم أمسيت فلم افطر على شيء اللهم فإني أمسيت اشتهي الثريد فأطعمنيه من عندك قال فنظرت إلى وصيف داخل من خوخة المنارة ليس في خلقه وصفاء الناس ومعه قصعة فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وجعل الرجل يأكل وحصبني فقال هلم فجئته وظننت أنا من الجنة فأحببت أن آكل منها فأكلت منها لقم فأكلت طعاما لا يشبه طعام أهل الدنيا ثم احتشمت فقمت فرجعت لمجلس فلما فرغ من أكله اخذ الوصف القصعة ثم أهوى راجعا من حيث جاء وقام الرجل منصرفا فتبعته لأعرفه فلا ادري أي سلك?

ذكر المصطفيات من عابدات المدينة

مليكة بنت المنكدر

قال مالك بن دينار بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة جهيرة في الحجر وهي تقول أتيتك من شقة بعيدة مؤملة لمعروفك فأنلني معروفا من معروفك تغنيني به عن معروف من سواك يا معروفا يا لمعروف فعرفت أيوب السختياني فسألنا عن منزلها وقصدناها وسلمنا عليها فقال لها أيوب قولي خيرا يرحمك الله قالت وما أقول أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد أضرا بي وشغلاني عن عبادة ربي قوما فإني أبادر طي صحيفتي.

قال أيوب فما حدثت نفسي بامرأة قبلها فقلت لها لو تزوجت رجلا كان يعنيك على ما أنت عليه قالت لو كان مالك بن دينار أو أيوب السختياني ما أردته فقلت أنا مالك بن دينار وهذا أيوب وهذا أيوب السختياني فقالت أف لقد ظننت انه يشغلكما ذكرالله عن محادثة النساء وأقبلت على صلاتها فسالنا عنها فقالواهذه مليكةبنت المنكدر.

وعن أبي خالد قال كلمنا ابنة المنكدر في تخفيف بعض العبادة فقالت دعوني أبادر طي صحيفتي رحمها الله.

فاطمة بنت محمد بن المنكدر

(1/62)

كانت فاطمة بنت محمد بن المنكدر تكون نهارها صائمة فإذا جنها الليل تنادي بصوت حزين هدا الليل واختلط الظلام وأوى كل حبيب إلى حبيبه وخلوتي بك أيها المحبوب أن تعتقني من النار رحمها الله.

من المجهولات الأسماء

امرأة كانت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

عن عبد الله بن زيد بن اسلم عن أبيه عن جده اسلم قال بينا أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس المدينة إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل وإذا امرأة تقول لابنتها يا ابتناه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء فقالت لها يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم قالت وما كان من عزمته يا بنية قالت انه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء فقالت لها يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فانك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لامها يا أمتاه ما كنت لأطيعه في الملأ واعصيه في الخلاء وعمر يسمع كل ذلك فقال يا اسلم علم الباب واعرف الموضع ثم مضى في عسسه حتى أصبح فلما أصبح قال يا اسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها وهل لهم من بعل فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم لا يعل لها وإذا تيك أمها وإذ ليس لهم رجل فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته فدعا عمر ولده فجمعهم فقال هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه ولو كان بابيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه المرأة فقال عبد الله لي زوجة وقال عبد الرحمن لي زوجة وقال عاصم يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتا وولدت الابنة عمر بن عبد العزيز.

عابدة أخرى

أن امرأة كانت بالمدينة ترهق فدخلت المقابر ذات يوم فإذا هي بجمجمة قد بدت. فوالله ما عاودتني تلك الوسوسة بعد تلك الليلة. قال فصرخت ثم رجعت منيبة فدخل عليها نساؤها فقلن ما هذا فقلت:

(1/63)

بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجما جوف القبور ثم قالت اخرجن عني فلا تأتيني منكن امرأة ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت على ذلك.

عابدتان مدنيتان

عن عبد الله ابن أخت مسلم بن سعد انه قال أردت الحج فدفع إلي خالي مسلم عشرة آلاف درهم وقال لي إذا قدمت المدينة فانظر أفقر أهل بيت بالمدينة فأعطهم إياها فلما دخلت سألت عن أفقر أهل بيت بالمدينة فدللت على أهل بيت فطرقت الباب فأجابتني امرأة من أنت فقلت أنا رجل من أهل بغداد أودعت عشرة آلاف وأمرت أن أسلمها إلى أفقر أهل بيت بالمدينة وقد وصفهم لي فخذوها فقالت يا عبد الله إن صاحبك اشترط أفقر أهل بيت وهؤلاء الذين بازائنا أفقر منا فتركتهم وأتيت أولئك فطرقت الباب فأجابتني امرأة فقلت لها مثل الذي قلت لتلك المرأة فقالت يا عبد الله نحن وجيراننا في الفقر سواء فاقسمها بيننا وبينهم.

ذكر المصطفين من طبقات أهل مكة من التابعين ومن بعدهم من الطبقة الأولى

عبيد بن عمير بن قتادة الليثي

و عن عبيد بن عمير قال إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه وبخلتم بالمال أن تنفقوه جبنتم عن العدو أن تقاتلوه فاكثروا من ذكر الله عز وجل. و قال ما المجتهد فيكم إلا كاللعب فيما مضى.

من الطبقة الثانية

مجاهد بن جبير يكنى أبا الحجاج

عن مجاهد قال كانوا يكتفون من الكلام باليسير.

وعن مجاهد قال من أعز نفسه أذل دينه ومن أذل نفسه اعز دينه وعنه عن مجاهد قال: إن الله عز وجل ليصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده وعنه عن مجاهد قال: إن العبد إذا اقبل إلى الله عز وجل بقلبه اقبل الله بقلوب المؤمنين إليه.

عن مجاهد قال لا تحد النظر إلى أخيك ولا تسأله من أين جئت وأين تذهب.

عن مجاهد قال عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقفه على كل آية أسأله كيف أنزلت وكيف كانت.

وعن خالد بن زيد عن مجاهد قال إن القرآن يقول اني معك ما اتبعتني فإذا لم تعمل بي اتبعتك.

(1/64)

وعن مجاهد قال إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل أخاه المسلم بخير قالت الملائكة ولك بمثله وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة ابن آدم المستور عورته أربع على نفسك واحمد الله الذي ستر عورتك.

قال مجاهد ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده حتى إذا كان آخر مرض يمرضه العبد أتاه ملك الموت فقال أتاك رسول بعد رسول فلم تعبا به وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا.

وعن مجاهد قال يؤمر العبد إلى النار يوم القيامة فيقول ما كان هذا ظني فيقال ما كان ظنك

فيقول أن تغفر لي فيقول خلوا سبيله.

و عن مجاهد قال كان بالمدينة أهل بيت ذوو حاجة عندهم راس شاة فأصابوا شيئا فقالوا لو بعثنا هذا الرأس إلى من هو أحوج إليه منا قال فبعثوا به فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم.

وعنه قال كنا عند مجاهد فقال القلب هكذا وبسط كفه فإذا أذنب الرجل ذنبا قال هكذا وعقد وأحدا ثم أذنب وعقد اثنين ثم ثلاثا ثم أربعا ثم رد الإبهام على الأصابع في الذنب الخامس ثم يطبع على قلبه.

قال مجاهد: فأيكم يرى أنه لم يطبع على قلبه.

عطاء بن أبي رباح

عن أبي عبد الله يعني احمد بن حنبل قال العلم خزائن يقسم الله لمن احب لو كان يخص بالعلم أحد لكان بيت النبي صلى الله عليه وسلم أولى كان عطاء بن أبي رباح حبشيا وكان يزيد بن بي حبيب نوبيا اسود وكان الحسن مولى للأنصار وكان ابن سيرين مولى للأنصار.

وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي كان عطاء بن أبي رباح عبدا اسود لامرأة من أهل مكة وكان انفه كأنه باقلاة قال وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي فلما صلى انفتل إليهم فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه قوما فقاما فقال يا ابني لاتنيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

(1/65)

قال ابن محمد كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس وبعد ابن عباس لعطاء بن أبي رباح.

وعن سلمة بن كهيل قال ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله عز وجل غير هؤلاء الثلاثة عطاء وطاوس ومجاهد وعن ابن جريج قال كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنة.

قال عمر بن ذر ما رأيت مثل عطاء قط وما رأيت على عطاء قميصا ولا رأيت عليه ثوبا يساوي خمسة دراهم.

وعن إسماعيل بن أمية قال كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم يخيل إلينا انه يؤيد وعن عمرو بن سعيد عن أمه قالت قدم ابن عمر مكة فسألوه فقال أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل وفيكم ابن أبي رباح.

وعن عبد الله بن إبراهيم بن عمرو بن كيسان قال اخبرني أبي قال اذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحا يصيح لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح وعن الأوزاعي قال ما رأيت أحدا خشع لله من عطاء ولا أطول حزنا من يحيى بن أبي كثير.

وعن يعلى بن عبيد قال دخلنا على محمد بن سوقة فقال أحدثكم بحديث لعله إن ينفعكم فانه قد نفعني ثم قال قال لنا عطاء بن أبي رباح يا بني أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل إن تقراه وتأمر بمعروف أو تنهى عن منكر أو تنطق بحاجتك في معيشك التي لا بد لك منها أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أمل صدر نهاره فإن اكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.

وعن ابن جريج قال كان عطاء بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرا مائتي آية من البقرة وهو قائم ما يزول منه شيء ولا يتحرك وعن ابن عيينة قال قلت لابن جريح ما رأيت مصليا مثلك قال لو رأيت عطاء.

(1/66)

وعن معاذ بن سعيد قال كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه فقال عطاء سبحان الله ما هذه الأخلاق ما هذه الأخلاق اني لأسمع الحديث من الرجل وأنا اعلم منه به فأريه اني لا أحسن منه شيئا وعن عثمان بن الأسود قال قلت لعطاء الرجل يمر بالقوم فيقذفه بعضهم أيخبره قال لا المجالس بالأمانة. وعن ابن أبي ليلى قال حج عطاء سبعين حجة وعاش مائة سنة

عبد الله بن عبيد بن عمير

وكان من افصح أهل مكة 0قال عبد الله بن عبيد بن عمير الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حرون فإذا ونى قائدها لم تستقم لسائقها وإذا ونى سائقها لم تستقم لقائدها ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى تقوم على الخير الإيمان بالله مع العمل لله والعمل لله مع الإيمان بالله.

قال عبد الله بن عبيد بن عمير لا ينبغي لمن اخذ بالتقوى وزن بالورع أن يذل لصاحب الدنيا.

من أهل مكة

عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج مولى أمية بن خالد يكنى أبا الوليد

عن عبد الرزاق قال كنت إذا رأيت ابن جريج علمت انه يخشى الله وما رأيت مصليا مثله قط.

وعنه قال أهل مكة يقولون اخذ ابن جريج الصلاة من عطاء وأخذها عطاء من ابن الزبير وأخذها ابن الزبير من أبي بكر الصديق وأخذها أبو بكر من النبي ).

قال عبد الرزاق و كان ابن جريج حسن الصلاة - و عن مالك بن أنس قال كان ابن جريج صاحب ليل.

محمد بن طارق المكي

عن محمد بن فضيل قال رأيت ابن طارق في الطواف قد انفرج له أهل الطواف عليه نعلان مطرقتان فحزروا طوافه في ذلك الزمان فإذا هو يطوف في اليوم والليلة عشرة فراسخ.

وعن ابن شبرمة قال لو اكتفى أحد بالتراب كفى ابن طارق كف من تراب رحمه الله.

عثمان بن أبي دهرش المكي

كان إذا رأى الفجر قد اقبل عليه تنبه وقال: اصير الان مع الناس ولا ادري ما اجني على نفسي.

وقال عثمان بن أبي دهرش ما صليت صلاة قط الا استغفرت الله تعالى من تقصيري فيها.

وهيب بن الورد بن أبي الورد

(1/67)

عن سفيان بن عيينة عن وهيب بن الورد قال بينا أنا واقف في بطن الوادي إذا أنا برجل قد اخذ بمنكبي فقال يا وهيب خف الله لقدرته عليك واستحيي منه لقربه منك قال فالتفت فلم أر أحدا.

قيل لوهيب بن الورد ألا تشرب من زمزم قال بأي دلو? قال شعيب بن حرب ما احتملوا لأحد ما احتملوا لوهيب كان يشرب بدلوه.

وعن احمد بن عبيد بن ناصح قال قال يوسف بن اسباط عن القعقاع بن عمارة عن وهيب المكي قال يقول الله عز وجل وعزتي وجلالي وعظمتي ما من عبد اثر هواي على هواه إلا أقللت همومه وجمعت عليه ضيعته ونزعت الفقر من قلبه وجعلت الغنى بين عينيه واتجرت له من وراء كل تاجر وعزتي وعظمتي وجلالي ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كثرت همومه وفرقت عليه ضيعته ونزعت الغنى من قلبه وجعلت الفقر بين عينيه ثم لم أبال في أي أوديتها هلك.

وقال عبد الرحمن العراقي قال وهيب بن الورد خالطت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلا غفر لي ذنبا فيما بيني وبينه ولا وصلني إذا قطعته ولا ستر على عورة ولا أمنته إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير.

وكان سفيان الثوري إذا جاء الناس في المسجد الحرام وفرغ قال قوموا إلى الطبيب يعني وهيبا.

وعن ابن المبارك قال ما جلست إلى أحد كان انفع لي مجالسة من وهيب كان لا يأكل من الفواكه وكان إذا انقضت السنة وذهبت الفواكه يكشف عن بطنه وينظر إليه ويقول يا وهيب ما أرى بك بأسا ما أرى تركك الفواكه ضرك شيئا.

وعن محمد بن مزاحم عن وهيب بن الورد قال وجدت العزلة اللسان.

قال وهيب بن الورد كان يقال الحكمة عشرة أجزاء فتسعة منها في الصمت والعاشرة عزلة الناس قال فعالجت نفسي على الصمت فلم أجدني أضبط كل ما أريد منه ف رأيت أن هذه الأجزاء العشرة عزلة الناس.

(1/68)

وعن ابن أبي رواد قال انتهيت إلى رجل ساجد خلف المقام في ليلة باردة مطيرة يدعو ويبكي فطفت أسبوعا ثم عدت فوجدته على حاله فقمت قريبا منه الليل كله فلما أدبر الليل سمعت هاتفا يقول يا وهيب بن الورد ارفع رأسك فقد غفر لك قال فلم أر شيئا فلما برق الصبح رفع رأسه ومضى فاتبعته فقلت أو ما سمعت الصوت فقال وأي صوت فأخبرته فقال لا تخبر به أحدا فما حدثت به أحدا حتى مات وهيب.

قال وهيب عجبا للعالم كيف تجيبه دواعي قلبه إلى ارتياح الضحك وقد علم أن له في القيامة روعات ووقفات وفزعات ثم غشي عليه.

ويرون الرؤيا لوهيب انه من أهل الجنة فإذا اخبر بها اشتد بكاؤه وقال قد خشيت ان يكون هذا من الشيطان.

وعنه قال حلف وهيب بن الورد ألا يراه الله ضاحكا ولا أحد من خلقه حتى يعلم ما يأتي به رسل ربه قال فسمعوه عند الموت يقول وفيت لي ولم أف لك.

وعن عبد الرزاق قال سمعت وهيب بن الورد يقول من عد كلامه من عمله قل كلامه.

قال وهيب بن الورد لو أن علماءنا عفا الله عنا وعنهم نصحوا لله في عباده فقالوا يا عباد الله اسمعوا ما نخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم وصالح سلفكم من الزهد في الدنيا فاعملوا به ولا تنظرون إلى أعمالنا هذه الفسلة كانوا قد نصحوا الله في عباده ولكنهم يأبون إلا أن يجروا عباد الله إلى فتنتهم وما هم فيه.

و قيل لوهيب بن الورد أيجد طعم العبادة من يعصي الله قال لا ولا من يهم بالمعصية.

وعن محمد بن يزيد قال سمعت وهيبا يقول ضرب لعلماء السوء مثل فقيل إنما مثل عالم السوء كمثل الحجر في الساقية فلا هو يشرب الماء ولا هو يخلي الماء إلى الشجر فيحيا به.

(1/69)

قال وهيب وبلغنا أن الخبيث إبليس تبدى ليحيى بن زكريا عليهما السلام فقال له اني أريد انصحك قال كذبت أنت لا تنصحني ولكن اخبرني عن بني ادم قال هم عندنا على ثلاثة أصناف أما صنف منهم فهم اشد الأصناف علينا نقبل حتى نفتنه ونستمكن منه نم يفزع إلى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه ثم نعود له فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن من ذلك في عناء.

وأما الصنف الآخر فهم بين أيدينا بمنزلة الكرة في أيد صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا فقد كفونا أنفسهم.

وأما الصنف الآخر فهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء.

فقال له يحيى على ذاك هل قدرت مني على شيء قال لا إلا مرة واحدة فانك قدمت طعاما تأكله فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت اكثر مما تريد فنمت تلك الليلة ولم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها.

قال فقال له يحيى لا جرم لا شبعت من طعام أبدا حتى أموت فقال له الخبيث لا جرم لا نصحت آدميا بعدك.

محمد بن يزيد قال رأيت وهيب بن الورد صلى ذات يوم العيد فلما انصرف الناس جعلوا يمرون به فنظر إليهم ثم زفر ثم قال لئن كان هؤلاء القوم اصبحوا مستيقنين انه قد تقبل منهم شهرهم هذا لكان ينبغي لهم ان يكونوا مشاغيل بأداء الشكر عما هم فيه وإن كانت الأخرى لقد كان ينبغي لهم أن يصبحوا اشغل واشغل.

ثم قال كثيرا ما يأتيني من يسألني من إخواني فيقول يا أبا أمية ما بلغك عمن طاف سبعا بهذا البيت ما له من الأجر فأقول يغفر الله لنا ولكم بل سلوا عما أوجب الله تعالى من أداء الشكر في طواف هذا السبع ورزقه إياه حين حرم غيره.

(1/70)

قال فيقولون إنا نرجو فيقول وهيب فلا والله ما رجا عبد قط حتى يخاف ثم يقول كيف تجترئ أن ترجو رضا من لا يخاف غضبه إنما كان الراجي خليل الرحمن إذ يخبرك الله عز وجل عنه قال وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا سورة البقرة آية 127 ثم قال والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين سورة الشعراء آية 82.

وعن علي بن أبي بكر قال اشتهي وهيب لبنا فجاءته خالته به من شاة لآل عيسى بن موسى قال فسألها عنه فأخبرته فأبى أن يأكله فقالت له كل فأبى فعاودته وقالت له: إني أرجو إن أكلته أن يغفر الله لك أي باتباع شهوتي فقال: ما أحب أنى أكلته وإن الله تعالى غفر لي فقالت لمقال إني أكره أن أنال مغفرته بمعصيته.

عن عمرو بن محمد بن أبي رزين قال وسمعت وهيبا يقول أن العبد ليصمت فيجتمع له لبه.

وسمعته يقول لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل ولكن ليكن همه في أحكامه وتحسينه فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.

وعن مؤمل قال سمعت وهيبا يقول لو قمت قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك? حلال أو حرام? وعن محمد بن يزيد عن وهيب قال بلغنا والله اعلم أن موسى عليه السلام قال يا رب أوصني قال: أوصيك بي. قالها ثلاثا، كل ذلك يقول: أوصيك بي.

حتى قال في الآخرة أوصيك بي إلا يعرض لك أمر إلا آثرت فيه محبتي على ما سواها فمن لم يفعل ذلك لم أرحمه ولم أزكه.

وعن وهيب قال اتق أن تسب إبليس في العلانية وأنت صديقه في السر.

وعن أبي صالح الجدي قال صليت إلى جنب وهيب العصر فلما صلى جعل يقول اللهم ان كنت نقصت منها شيئا أو قصرت فيها فاغفر لي قال فكأنه قد أذنب ذنبا عظيما يستغفر منه.

وعن بشر بن الحارث قال كان وهيب بن الورد تبين خضرة البقل من بطنه من الهزال.

وعنه قال: بلغنا أن وهيبا كان إذا أتي بقرصته بكى حتى يبلها.

من الطبقة الرابعة عبد العزيز بن أبي رواد مولى المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة

(1/71)

ذهب بصر عبد العزيز بن أبي رواد عشرين سنة لم يعلم به أهله ولا ولده فتأمله ابنه ذات يوم فقال له يا أبت ذهبت عينك قال نعم يا بني الرضا عن الله تعالى اذهب عين أبيك منذ عشرين سنة.

وعن شعيب قال جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد خمسمائة مجلس فما احسب صاحب الشمال كتب شيئا.

وعن يوسف قال مكث عبد العزيز بن أبي رواد أربعين سنة لم يرفع طرفه إلى السماء فبينما هو يطوف حول الكعبة إذ طعنه المنصور أبو جعفر في خاصرته بإصبعه، فالتفت إليه فقال: قد علمت أنها طعنة جبار.

وعن خلاد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد قال كان يقال من رأس التواضع الرضا بالدون من شرف المجالس وكان يقول في رأس كل إنسان حكمة أخذ بها ملك فإن تواضع لربه رفعه.

وقال انتعش رحمك الله وإن تكبر قمعه وقال: اخسأ خسأك الله.

قال رجل لعبد العزيز بن أي رواد كيف أصبحت فبكى وقال أصبحت والله في غفلة عظيمة عن الموت مع ذنوب كثيرة قد أحاطت بي واجل يسرع كل يوم في عمري وموئل لست ادري علام اهجم? ثم بكى.

قال عبد العزيز بن أبي رواد لرجل: ومن لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء الإسلام و القرآن والمشيب.

زمعة بن صالح المكي

كان زمعة نازلا عندنا وكان له أهل وبنات وكان يقوم فيصلي ليلا طويلا فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته:

يا أيها الركب المعرسونا ... 0أكل هذا الليل ترقدونا ... 0ألا تقومون فترحلونا

قال فيتواثبون فيسمع من ههنا باك، ومن ههنا داع، ومن ههنا قارئ، ومن ههنا متوضئ فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى - رحمه الله.

من الطبقة الخامسة

سفيان بن عيينة بن أبي عمران

(1/72)

قال سفيان بن عيينة لما بلغت خمس عشرة سنة دعاني أبي فقال لي: يا سفيان قد انقطعت عنك شرائع الصبا فاحتفظ من الخير تكن من أهله، ولا يغرنك من اغتر بالله فمدحك بما يعلم الله خلافه منك فانه ما من أحد يقول في أحد من الخير إذا رضى إلا وهو يقول فيه من الشر مثل ذلك إذا سخط فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء لا تنقل احسن ظني بك إلى غير ذلك ولن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم.

قال سفيان فجعلت وصية أبي قبلة أميل معها ولا أميل عنها.

وعن ابن معاذ قال سمعت سفيان بن عيينة يقول من تزين للناس بشيء يعلم الله منه غير ذلك شانه الله.

وعن النعمان قال سمعت ابن عيينة يقول ليس من حب الدنيا طلبك ما لا بد منه.

قال سفيان بن عيينة إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل فما اصنع بالعلم الذي كتبت? وعن علي بن الجعد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول من زيد في عقله نقص من رزقه.

قال سفيان بن عيينة أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء.

وقال من رأى انه خير من غيره فقد استكبر وذلك أن إبليس إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام استكباره.

وعن سعيد بن داود عن ابن عيينة قال من كانت معصيته في الشهوة فارج له التوبة فإن آدم عصى مشتهيا فغفر له فإذا كانت معصيته في كبر فاخش على صاحبه اللعنة فإن إبليس عصى مستكبرا فلعن.

وعن إسحاق بن منيب قال: قال سفيان بن عيينة لم يعرفوا حتى احبوا أن لا يعرفوا.

وعن بكر العابد قال قلت لسفيان بن عيينة يا أبا محمد أبلغك أن الناس يزدحمون يوم القيامة? فقال: الأقدام يوم القيامة هكذا ووضع يده فوق الأخرى، ثم قال بكر بلغني أن الناس يخرجون من قبورهم وهم يقولون الماء الماء، العطش العطش.

قال ابن عيينة أصابتني ذات يوم رقة فبكيت فقلت في نفسي لو كان بعض أصحابنا لرق معي ثم غفوت فاتاني آت في منامي فرفسني وقال يا سفيان خذا أجرك ممن أحببت أن يراك.

(1/73)

ابن وهب قال: قال سفيان بن عيينة إنما منزلة الذي يطلب العلم ينتفع به بمنزلة العبد يطلب كل شيء يرضي سيده يطلب التحبب إليه والتقرب إليه والمنزلة عنده لئلا يجد عنده شيئا يكرهه.

وعن حرملة بن يحيى قال اخذ سفيان بن عيينة بيدي فأقامني في ناحية فأخرج من كمه رغيف شعير وقال لي: دع يا حرملة ما بقول الناس هذا طعامي منذ ستين سنة.

قال ابن عيينة إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل وإذا كانت السريرة افضل من العلانية فذلك الفضل وإذا كانت العلانية افضل من السريرة فذلك الجور.

قال سفيان بن عيينة: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله.

كان سفيان بن عيينة بعدما أسن يتمثل بهذا البيت.

يعمر واحد فيغر قوما وينسى من يموت من الصغار

قال سفيان بن عيينة لولا أن الله عز وجل طمأن ابن آدم بثلاث ما أطاقة شيء وأنهن لقيه وإنه على ذلك لوثاب الفقر والمرض والموت.

وعن حيان بن صخر بن جويرية قال سمعت سفيان بن عيينة يقول ليس يضر المدح من عرف نفسه.

قال ابن عيينة العلم إن لم ينفعك ضرك.

وعن أبي موسى الأنصاري قال: قال سفيان إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة.

قال سفيان بن عيينة كان يقال اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها.

قال سفيان بن عيينة كان يقال الأيام ثلاثة: فأمس حكيم مؤدب ترك حكمته وأبقاها عليك واليوم صديق مودع كان عنك طويل الغيبة حتى أتاك ولم تأته وهو عنك سريع الظعن وغدا لا تدري أتكون من أهله أو لا تكون.

قال سفيان بن عيينة لم يجتهد أحد قط اجتهادا ولم يتعبد أحد قط عبادة افضل من ترك ما نهى الله عنه.

قال سفيان بن عيينة كان يقال أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة رجل كان له عبد فجاء يوم القيامة أفضل عملا منه ورجل له مال فلم يتصدق منه فمات فورثه غيره فتصدق منه ورجل عالم لم ينتفع بعلمه فعلم غيره فانتفع به.

(1/74)

قال أبو السرى تكلمت في مجلس فيه سفيان بن عيينة وفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك فأما سفيان فتغرغرت عيناه ثم نشفت الدموع وأما ابن المبارك فسالت دموعه وأما الفضيل فانتحب فلما قام فضيل وابن المبارك قلت لسفيان يا أبا محمد ما منعك أن يجيء منك مثل ما جاء من صاحبيك? قال هكذا أكمد للحزن، إن الدمعة إذا خرجت استراح القلب.

وعن عيسى بن أبي موسى الأنصاري قال سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن حد الرضا عن الله تعالى فقال الراضي عن الله لا يتمنى سوى المنزلة التي هو فيها.

وعن حامد بن عمرو البكراوي قال سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول لسفيان بن عيينة يا أبا محمد واحزناه على الحزن فقال سفيان يا عبد الله هل حزنت قط لعلم الله جل وعز فيك? فقال عبد الله: آه تركتني لا افرح.

وعن سفيان قال: قال الأحنف: قال لنا عمر بن الخطاب: تفقهوا قبل أن تسودوا قال سفيان لأن الرجل إذا أفقه لم يطلب السؤدد.

عن سليمان بن أيوب قال: سمعت ابن عيينة يقول شهدت ثمانين موقفا.

وعن الحسن بن عمران بن عيينة ابن أخي سفيان بن عيينة قال حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومائة فلما كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه ثم قال قد وافيت هذا الموضع سبعين عاما أقول في كل سنة اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان وإني قد استحييت من الله من كثرة ما اسأله ذلك فرجع فتوفي في السنة الداخلة أول رجب سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون وهو ابن إحدى وتسعين سنة.

الفضيل بن عياض التميمي

قال الفضيل بن عياض لو أن الدنيا كلها بحذافيرها جعلت لي حلالا لكنت أتقذرها.

قال الفضيل بن عياض أصلح ما أكون أفقر ما أكون وإني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي.

كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنسانا وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يرددها.

(1/75)

وكان يلقى له حصير بالليل في مسجده فيصلي من أول الليل ساعة حتى تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصير فينام قليلا ثم يقوم فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم هكذا حتى يصبح.

قال الفضيل إذا لم تقدر على القيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.

وعن منصور بن عمار قال تكلمت يوما في المسجد الحرام فذكرت شيئا من صفة النار ف رأيت الفضيل بن عياض صاح حتى غشى عليه فطرح نفسه.

قال الفضيل بن عياض لو خيرت بين أن أعيش كلبا أو أموت كلبا ولا أرى يوم القيامة لاخترت أن أعيش كلبا أو أموت كلبا ولا أرى يوم القيامة.

وعن مهران بن عمرو الأسدي قال سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفة بالموقف وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء، يقول واسوأتاه، وافضيحتاه وإن عفوت وعن احمد بن سهل قال قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا انه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن. قال: وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له اقرأ ألهاكم التكاثر سورة التكاثر آية 1 ورفع بها صوته. فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقة ينشف بها الدموع من عينيه وأنشأ يقول:

بلغت الثمانين أو حزتها فماذا أؤمل أو أنتظر?

أتى لي ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما ينتظر علتني السنون فأبلينني.

قال ثم خنقته العبرة. وكان معنا علي بن خشرم فأتمه لنا فقال:

علتني السنون فأبلينني فرقت عظامي وكل البصر

وعن أبي جعفر الحذاء قال: سمعت فضيل بن عياض يقول أخذت بيد سفيان ابن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن انه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.

(1/76)

وعن علي بن الحسن قال بلغ فضيلا أن جريرا يريد أن يأتيه قال: فأقفل الباب من خارج قال: فجاء جرير فرأى الباب مقفلا فرجع قال علي فبلغني ذلك فأتيته فقلت له جرير فقال ما يصنع بي يظهر لي محاسن كلامه وأظهر له محاسن كلامي فلا يتزين لي ولا أتزين له خير له.

قال فضيل لو قيل لك يا مرائي لغضبت ولشق عليك وتشكو فتقول قال لي يا مرائي عساه قال حقا من حبك للدنيا تزينت للدنيا وتصنعت للدنيا ثم قال اتق ألا تكون مرائيا وأنت لا تشعر تصنعت وتهيأت حتى عرفك الناس فقالوا هو رجل صالح فأكرموك وقضوا لك الحوائج ووسعوا لك في المجالس وإنما عرفوك بالله ولولا ذلك لهنت عليهم.

قال وسمعت الفضيل يقول تزينت لهم بالصوم فلم ترهم يرفعون بك رأسا.

تزينت لهم بالقرآن فلم ترهم يرفعون بك رأسا تزينت لهم بشيء بعد شيء إنما هو لحب الدنيا.

وعن الحسين بن زياد قال دخلت على فضيل يوما فقال عساك إن رأيت في ذلك المسجد يعني المسجد الحرام رجلا شرا منك إن كنت ترى أن فيه شرا منك فقد ابتليت بعظيم.

قال فضيل بن عياض لرجل لأعلمنك كلمة هي خير من الدنيا وما فيها والله لئن علم الله منك إخراج الآدمين من قلبك حتى لا يكون في قلبك مكان لغيره لم تسأله شيئا إلا أعطاك.

وعن إبراهيم بن الأشعث قال سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله بعمل مقتك عليه فاغلق دونك أبواب المغفرة وأنت تضحك كيف ترى تكون حالك.

وعن عبد الصمد بن يزيد قال سمعت الفضيل يقول أدركت أقواما يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال ليس لك هذا قومي خذي حظك من الآخرة.

(1/77)

وعن محمد قال: شهدت الفضيل بن عياض وجلس إليه سفيان بن عيينة فتكلم الفضيل فقال كنتم معشر العلماء سرج البلاد يستضاء بكم فصرتم ظلمة وكنتم نجوما يهتدى بكم فصرتم حيرة، ثم لا يستحي أحدكم أن يأخذ مال هؤلاء الظلمة، ثم يسند ظهره يقول: حدثنا فلان عن فلان. فقال سفيان: لئن كنا لسنا بصالحين فإنا نحبهم.

قال فضيل بن عياض: لأن أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحب إلي من أن أطلبها بالعبادة.

وعن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني فخرجت مسرعا فقلت يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال: ويحك قد حك في نفسي شيء فانظر لي رجلا أسأله فقلت ها هنا سفيان بن عيينة فقال امض بنا إليه. فأتيناه فقرعت الباب فقال من ذا? فقلت أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعا فقال يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله.

فحدثه ساعة ثم قال له عليك دين قال نعم فقال أبا عباس اقض دينه فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا انظر لي رجلا اسأله فقلت له هاهنا عبد الرزاق بن همام قال امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الباب فقال من هذا? قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعا فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك قال خذ لما جئناك له. فحادثه ساعة ثم قال له عليك دين قال نعم قال أبا عباس اقض دينه.

(1/78)

فلما خرجنا قال ما أغنى صاحبك شيئا انظر لي رجلا اسأله قلت ها هنا الفضيل ابن عياض قال امض بنا إليه فأتيناه فإذا وهو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها فقال اقرع الباب فقرعت الباب فقال من هذا فقلت أجب أمير المؤمنين فقال ما لي ولأمير المؤمنين فقلت سبحان الله أما عليك طاعة? أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه فنزل ففتح الباب ثم إرتقى إلى الغرفة فأطفا المصباح ثم إلتجأ إلى زواية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه فقال يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي فقال له خذ لما جئناك له رحمك الله فقال إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سألم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء ابن حيوة فقال لهم إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي. فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة فقال له سالم بن عبد الله إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك من الموت وقال له محمد بن كعب القرظي إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا وأوسطهم عندك أخا وأصغرهم عندك ولدا فوقر أباك واكرم أخاك وتحنن على ولدك.

(1/79)

وقال له رجاء ين حيوة إن اردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت وإني أقول لك أني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا? فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه فقلت له أرفق بأمير المؤمنين فقال يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وارفق به أنا ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء قال فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له ما أقدمك قال خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية أبدا حتى ألقى الله ...

قال فبكى هارون بكاء شديدا ثم قال له زدني رحمك الله فقال يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أمرني على إمارة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل .

فبكى هارون بكاء شديدا وقال له زدني رحمك الله فقال يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة .

(1/80)

فبكى هارون وقال له عليك دين قال نعم دينلربي يحاسبني عليه فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن ألهم حجتي قال إنما اعني دين العباد قال إن ربي لم يأمرني بهذا أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره فقال عز وجل: وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين سورة الذاريات آية 56-58. فقال له هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادك فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا? سلمك الله ووفقك.

ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قال هارون: أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.

فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به فقال لها مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.

فلما سمع هارون هذا الكلام قال ندخل فعسى أن يقبل المال فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة فانصرف رحمك الله فانصرفنا.

علي بن الفضيل بن عياض

عن فضيل بن عياض قال بكى ابني علي فقلت يا علي ما يبكيك قال يا أبة أخاف ألا تجمعنا القيامة.

وعن بشر بن الحارث قال كان عشرة ينظرون في الحلال النظر الشديد لا يدخل بطونهم إلا حلال ولو استفوا التراب فذكر منهم علي بن الفضيل.

كان علي بن الفضيل يصلي حتى يزحف إلى فراشه ثم يلتفت إلى أبيه فيقول: يا أبة سبقني العابدون.

وعن سفيان بن عيينة قال ما رأيت أحدا أخوف من الفضيل وابنه.

محمد بن ادريس الامام الشافعي

عن الشافعي قال: لم يكن لي مال فكنت اطلب العلم في الحداثة اذهب إلى الديةان استوهب الظهور اكتب فيها.

(1/81)

وعن حسين الكرابيسي قال: سمعت الشافعي يقول: كنت امرءا أكتب الشعر وآتي البوادي فأسمع منهم0

وكان الشافعي يطلب اللغة العربية والشعر وكان كثيرا ما يخرج الى البدو فيحمل ما فيه من الادب فبيما هو يوما في حي من احياء العرب جاء إليه بدوي فقال له ما تقول في امرأة تحيض يوما وتطهريوما قال ما ادري قال يا ابن اخي الفريضة اولى بك من النافلة فقال له انما اريد هذا لذاك وعليه قد عزمت وبالله التوفيق ثم خرج الى مالك بن انس.

قال الشافعي كنت يتيما في حجر امي ولم يكن معها ما تعطي المعلم وكان المعلم قد رضي مني ان اخلفه اذا قام فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث والمسألة فكنت أنظر إلى العظم يلوح فاكتب فيه الحديث والمسالة وكانت لنا جرة عظيمة فاذا امتلا العظم تركته في الجرة وفي رواية اخرى فامتلا من ذلك حبان.

قال الشافعي حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطا وانا ابن عشر سنين.

وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال يروى في الحديث ان الله تعالى يبعث على راس كل مائة سنة من يصحح لهذه الامة دينها فنظرنا في المائة الاولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز ونظرنا في المائة الثانية فنراه الشافعي.

وقال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي يا أبا عبد الله أفت الناس آن والله ان تفتي وهو ابن دون عشرين سنة.

وعن عبد الله بن احمد بن حنبل قال قلت لابي يا ابة أي رجل كان الشافعي? سمعتك تكثر من الدعاء له فقال يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فانظر هل لهذين من خلف او عوض? وعن الميموني قال سمعت احمد بن حنبل يقول ستة ادعوهم في السحر احدهم الشافعي.

وعن ابن راهويه قال كنت مع احمد بمكة فقال لي تعال حتى اريك رجلا لم تر عيناك مثله فاراني الشافعي.

وعن الشافعي وحضر ميتا فلما سجينا عليه نظر إليه وقال اللهم بغناك عنه وفقره اليك اغفر له.

(1/82)

وعن الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول ما اوردت الحق والحجة على احد فقبلهما مني الا هبته واعتقدت مودته ولا كابرني على الحق احد ودافع الحجة الا سقط من عيني.

وعن احمد بن خالد الخلال قال سمعت محمد بن ادريس الشافعي يقول ما ناظرت احدا فاحببت ان يخطىء.

وعن الحسين الكرابيسي يقول سمعت الشافعي يقول ما ناظرت احدا قط الا احببت ان يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ وما ناظرت احدا الا ولم ابال بين الله الحق على لساني أو لسانه.

قال الشافعي اشد الاعمال ثلاثة الجود من قلة والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف.

وقال لوددت ان الخلق يتعلمون مني ولا ينسب الي منه شيء وسمعته يقول طلب العلم افضل من صلاة النافلة.

قال الشافعي طالب العلم يحتاج الى ثلاث احداها حسن ذات اليد والثانية طول عمر والثالثة يكون له ذكاء.

وعن الربيع قال قال الشافعي من طلب الرياسة فرت منه واذا تصدر الحديث فاته علم كثير.

(1/83)

وعن يونس بن عبد الاعلى قال قال لي الشافعي يا يونس اذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فاياك ان تبادره بالعداوة وقطع الولاية فتكون ممن ازال يقينه بشك ولكن القه وقل له بلغني عنك كذا وكذا واحذر ان تسمى له المبلغ فان انكر ذلك فقل له انت اصدق وابر لا تزيدن على ذلك شيئا وان اعترف بذلك ف رأيت له في ذلك وجها لعذر فاقبل منه وان لم تر ذلك فقل له ماذا اردت بما بلغني عنك فان ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه وإن لم تر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ اثبتها عليه سيئة ثم انت في ذلك بالخيار ان شئت كافاته بمثله من غير زيادة وان شئت عفوت عنه والعفو اقرب للتقوى وابلغ في الكرم لقول الله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله سورة الشورى آية 40 طه فان نازعتك نفسك بالمكأفاة فافكر فيما سبق له لديك من الاحسان فعدها ثم ابدر له احسانا بهذه السيئة ولا تبخسن باقي احسانه السالف بهذه السيئة فان ذلك الظلم بعينه يا يونس اذا كان لك صديق فشد يديك به فان اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل.

قال الشافعي يا يونس الانقباض عن الناس مكسبه للعدواة والانبساط اليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط.

قال محمد بن ادريس الشافعي قبول السعاية شر من السعاية لان السعاية دلالة والقبول اجازة و ليس من دل على شيء كمن اقبل واجاز.

قال وتنقص رجل محمد بن الحسن عند الشافعي فقال له مه لقد تلمظت بمضغة طالما لفظها الكرام.

وعن الربيع بن سليمان قال قال الشافعي استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر.

قال الشافعي من ضحك منه في مسالة لم ينسها ابدا.

(1/84)

وقال رضا الناس غاية لا تدرك فعليك بما يصلحك فالزمه فانه لا سبيل الى رضاهم واعلم انه من تعلم القرآن جل في عيون الناس ومن تعلم الحديث قويت حجته ومن تعلم النحو هيب ومن تعلم العربية رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن تعلم الفقه نبل قدره ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه وملاك ذلك كله التقوى.

قال الشافعي من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل مقداره ومن تعلم اللغة رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن كتب الحديث قويت حجته ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.

وعن الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل.

قال الشافعي لو علمت ان الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته.

سال رجل الشافعي عن سنه قال ليس من المروءة ان يخبر الرجل بسنه لانه ان كان صغيرا استحقروه وان كان كبيرا استهرموه. سال رجل مالكا عن سنة فقال اقبل على شانك.

وعنه قال كان الشافعي قد جزا الليل ثلاثة اجزاء الثلث الاول يكتب والثلث الثاني يصلي والثلث الثالث ينام.

وعنه قال كان للشافعي في رمضان ستون ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة

قال الربيع كان الشافعي يختم كل شهر ثلاثين ختمة وفي رمضان ستني ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة.

وعن نهشل بن كثير عن ابيه قال دخل الشافعي يوما الى بعض حجر هارون الرشيد ليستاذن له ومعه سراج الخادم اقعده عند ابي عبد الصمد مؤدب اولاد هارون الرشيد فقال سراج للشافعي يا ابا عبد الله هؤلاء اولاد امير المؤمنين وهذا مؤدبهم فلو اوصيته بهم فاقبل عليه فقال ليكن اول ما تبدا به من اصلاح اولاد امير المؤمنين اصلاحك نفسك فان اعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما تستحسنه والقبيح عندهم ما تكرهه علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه ثم روهم من الشعر اعفه ومن الحديث اشرفه ولا تخرجهم من علم الى غيره حتى يحكموه فان ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم.

(1/85)

و قدم الشافعي مرة من اليمن ومعه عشرون الف دينار فضرب خيمته خارجا من مكة فما قام حتى فرقها كلها.

وعن المزني قال سمعت الشافعي يقول من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله.

وعن الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول لن يجفو فعل من يصفو.

وعنه قال سمعت الشافعي يقول وساله رجل عن مسالة فقال روي فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له السائل يا ابا عبد الله تقول به

فرأيت الشافعي اعد وانتفض وقال يا هذا أي ارض تقلني واي سماء تظلني اذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلم اقل به نعم على السمع والبصر.

قال وسمعت الشافعي وقد روى حديثا فقال له بعض من حضر تاخذ بهذا? فقال اذا رويت عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم اخذ به فانا اشهدكم ان عقلي قد ذهب ومد يديه.

وعنه قال الشافعي اذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت.

وعن أبي بيان الاصبهاني قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله محمد بن ادريس الشافعي ابن عمك هل نفعته بشيء أو خصصته بشيء فقال نعم سألت الله ألا يحاسبه فقلت بماذا يا رسول الله قال انه كان يصلي علي صلاة لم يصل بمثل تلك الصلاة احد فقلت وما تلك الصلاة يا رسول الله قال كان يصلي علي اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون وصل على محمد كلما غفل عنه الغافلون.

وعن المزني قال دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها فقلت كيف اصبحت فقال اصبحت من الدنيا راحلا ولاخواني مفارقا ولكاس المنية شاربا ولسوء اعمالي ملاقيا وعلى الله تعالى واردا فلا ادري روحي تصير الى الجنة فاهنئها او الى النار فاعزيها? ثم بكى وانشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك اعظما

ومازلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منه وتكرما

(1/86)

وعن الربيع قال كنا جلوسا في حلقه الشافعي بعد موته بيسير فوقف علينا اعرابي فسلم ثم قال لنا اين قمر هذه الحلقة وشمسها? فقلنا توفي رحمه الله.

فبكى بكاء شديدا ثم قال رحمه الله وغفر له فلقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة ويسد على خصمه واضح المحجبة ويغسل من العار وجوها مسودة ويوسع بالراي ابوابا منسدة ثم انصرف.

وعنه قال رأيت الشافعي بعد وفاته بالمنام فقلت يا ابا عبد الله ما صنع الله بك

قال اجلسني على كرسي من ذهب ونثر علي اللؤلؤ الرطب والسلام.

ابو غياث المكي مولى جعفر بن محمد

قال ابا جعفر محمد بن جرير الطبري كنت بمكة سنة اربعين ومائتين فرأيت خراسانيا ينادي معاشر الحاج من وجد هميانا فيه الف دينار فرده علي اضعف الله له الثواب قال فقام إليه شيخ من اهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد فقال له يا خراساني بلدنا فقير اهله شديد حاله ايامه معدودة ومواسمه منتظرة لعله يقع بيد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا ياخذه ويرده عليك قال الخراساني فكم يريد قال العشر مائة دينار قال لا افعل ولكنا نحيله على الله عز وجل قال وافترقا.

(1/87)

قال ابن جرير فوقع لي ان الشيخ صاحب القريحة والواجد للهميان فاتبعته فكان كما ظننت فنزل الى دار مستفلة خلقه الباب والمدخل فسمعته يقول يا لبابة قالت له لبيك ابا غياث قال وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا فقلت له قيده بان تجعل لواجده شيئا فقال كم فقلت عشره فقال لا ولكنا نحيله على الله عز وجل فاي شيء نعمل ولا بد لي من رده فقالت له نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ولك اربع بنات واختان وانا وامي وانت تاسع القوم اشبعناواكسنا ولعل الله عز وجل يغنيك فتعطيه او يكافئه عنك ويقضيه: فقال لها لست افعل ولا احرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة. قال ثم سكت القوم وانصرفت فلما ان كان من الغد على ساعات من النهار سمعت الخراساني يقول يا معاشر الحاج وفد الله من الحاضر والبادي من وجد هميانا فيه الف دينار فرده اضعف الله له الثواب قال فقام إليه الشيخ فقال يا خراساني قد قلت لك بالامس ونصحتك وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع وقد قلت لك ان تدفع الى واجده مائة دينار فلعله ان يقع بيد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل فامتنعت فقل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة الدنانير ستر وصيانة قال فقال له الخراساني لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل قال ثم افترقا.

قال الطبري فما اتبعت الشيخ ولاالخراساني وجلست اكتب كتاب النسب للزبير بن بكار فلما كان من الغد سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه فقام إليه الشيخ فقال له يا خراساني قلت لك اول امس العشر منه وقلت لك امس عشر العشر اعط دينار عشر عشر العشر يشتري بنصف دينار قريبة يستفي عليها للمقيمين بمكة بالاجرة وبنصف دينار شاة يحلبها ويجعل ذلك لعياله غذاء قال لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.

(1/88)

قال فجذبه الشيخ وقال له تعال خذ هميانك ودعني انام الليل وارحنا من محاسبتك فقال له امش بين يدي فمشى الشيخ وتبعه الخراساني وتبعتهما فدخل الشيخ فما لبث ان خرج وقال ادخل يا خراساني فدخل ودخلت فنبش تحت درجة له مزبلة فاخرج منها الهميان اسود من خرق بخارية غلاظ فقال هذا هميانك فنظر إليه وقال هذا هذا هيماني قال ثم حل راسه من شد وثيق ثم صب المال في حجر نفسه وقلبه مرارا وقال هذه دنانيرنا وامسك فم الهميان بيده الشمال ورد المال بيده اليمنى فيه ثم شده شدا سهلا ووضعه على كتفه ثم اراد الخروج فلما بلغ باب الدار رجع فقال للشيخ يا شيخ مات ابي رحمه الله وترك من هذه ثلاثة الاف دينارفقال لي اخرج ثلثها ففرقه علىاحق الناس عندك وبع رحلي واجعله نفقة لحجتك ففعلت ذلك واخرجت ثلثها الف دينار وشددتها في هذا الهميان وما رأيت منذ خرجت من خراسان الى هاهنا رجلا احق به منك خذه بارك الله لك فيه قال ثم ولى وتركه قال فوليت خلف الخراساني فعدا ابو غياث فلحقني وردني وكان شيخا مشدود الوسط بشريط معصب الحاجبين ذكر ان له ستا وثمانين سنة فقال لي اجلس فقد رايتك تتبعني في اول يوم وعرفت خبرنا بالامس واليوم سمعت احمد بن يونس اليربوعي يقول سمعت مالكا يقول سمعت نافعا يقول عن عبد الله بن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر وعلي رضي الله عنهما اذا اتاكما الله بهدية بلا مسالة ولا استشراف نفس فاقبلاها ولا ترداها فترد لها على الله عز وجل وهذه هدية من الله والهدية لمن حضر.

ثم قال يا لبابة وفلانة وفلانة فصاح ببناته واخواته وزوجته وامها وقعد واقعدني فصرنا عشرة فحل الهميان وقال ابسطوا حجوركم فبسطت حجري وما كان لهن قميص له حجر يبسطونه فمدوا ايديهم واقبل يعد دينارا دينارا حتى اذا بلغ العاشر الي قال ولك دينار حتى فرغ الهميان وكانت ألفا فيها الف فاصابني مائة دينار فداخلني من سرور غناهم اشد مما داخلني من سرور صيانتي بالمائة دينار.

(1/89)

فلما اردت الخروج قال لي يا فتى انك لمبارك وما رأيت هذا المال قط ولا املته واني لانصحك انه حلال فاحتفظ به واعلم اني كنت اقوم فاصلي الغداة في هذا القميص الخلق ثم انزعه فيصلين فيه واحدة واحدة ثم اكتسب الى ما بين الظهر والعصر ثم اعود في آخر النهار بما فتح الله عز وجل لي من اقط وتمر وكسيرات ومن بقول نبذت ثم انزعه فيتداولنه فيصلين فيه المغرب وعشاء الاخرة فنفعهن الله بما اخذن ونفعني واياك بما اخذنا ورحم صاحب المال في قبره واضعف ثواب الحامل للمال وشكر له.

قال ابن جرير فودعته وكتبت بها العلم سنتين اتقوت بها واشتري منها الورق واسافر واعطي الاجرة فلما كان بعد سنة ست وخمسين سألت عن الشيخ بمكة فقيل انه مات بعد ذلك بشهور ووجدت بناته ملوكا تحت ملوك وماتت الاختان وامهن وكنت انزل على ازواجهن واولادهن فاحدثهم بذلك فيانسون بي ويكرموني ... 0

ابو جعفر المزين الكبير جاور بمكة وبها مات وكان من العباد.

قال ابا جعفر المزين محنتنا وبلاؤنا صفاتنا فمتى فنيت حركات صفاتنا اقبلت القلوب منقادة للحق.

وقال ابا جعفر المزين الكبير ان الله لم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ولكن بقدر جوده وكرمه ولم يفرح المحزونين بقدر حزنهم ولكن بقدر رافته ورحمته.

أبو الحسن علي بن محمد المزين الصغير

وعن جعفر الخلدي ودعت المزين الصوفي فقلت زودني شيئا فقال ان ضاع منك شيء أو أن أردت يجمع الله بينك وبين إنسان فقل يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه ان الله لا يخلف الميعاد اجمع بيني وبين كذا فان الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء او ذلك الانسان فما دعوت بها في شيء الا استجيب.

قال ابا الحسن المزين الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب والحسنة الحسنة ثواب الحسنة.

وقال ابو الحسن المزين من استغنى بالله احوج الله الخلق اليه.

وقال المعجب بعلمه مستدرج والمستحسن لشيء من افعاله ممكور به.

ذكر المصطفين من عباد كانوا بمكة لم تعرف أسماؤهم

(1/90)

عابد قال عبد الله بن المبارك كنت بمكة فاصابهم قحط فخرجوا الى المسجد الحرام يستسقون فلم يسقوا والى جانبي اسود منهوك فقال اللهم انهم قد دعوك فلم تجبهم واني اقسم عليك ان تسقينا قال فوالله ما لبثنا ان سقينا قال فانصرف الاسود واتبعته حتى دخل دارا في الخياطين فعلمتها فلما اصبحت اخذت دنانير واتيت الدار فاذا رجل على باب الدار فقلت اردت رب هذه الدار فقال أنا قلت مملوك لك أردت شراءه فقال لي أربعة عشر مملوكا أخرجهم إليك فأخرجهم فلم يكن منهم. فقلت له: بقي شيء? فقال لي غلام مريض فأخرجه فإذا هو الاسود فقلت بعنيه قال هو لك يا ابا عبد الرحمن فاعطيته اربعة عشر دينارا واخذت المملوك فلما صرنا الى بعض الطريق قال لي يا مولاي أي شيء تصنع بي وانا مريض فقلت لما رأيت عشية امس قال فاتكأ على الحائط فقال اللهم اذ شهرتني فاقبضني اليك قال فخر ميتا قال فانحشر عليه اهل مكة ..... ..... ...

فدنوت منه فاذا هو قد مات فوالله ما ذكرته قط الا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني رحمه الله.

عابد آخر عن ابي سعد الخزاز قال كنت بمكة معي رفيق لي من الورعين فأقمنا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا وكان بحذائنا فقير معه كويزة وركوة مغطاة بقطعة خيش وربما كنت أراه يأكل خبز خواري فقلت في نفسي والله لاقولن لهذا نحن الليلة في ضيافتك فقلت له فقال نعم وكرامة فلما جاء وقت العشاء جعلت أراعيه ولم أر معه شيئا فمسح يده على سارية فوقع على يده شيء فناولني فإذا درهمان لا تشبه الدراهم فاشترينا خبزا وادما.

فلما مضى لذلك مدة جئت إليه وسلمت عليه وقلت له اني ما زلت اراعيك منذ تلك الليلة وانا احب ان تعرفني بم وصلت الى ذلك فان كان يبلغ بعمل حدثتني فقال يا ابا سعيد ما هو الا حرف واحد قلت وما هو قال تخرج قدر الخلق من قلبك تصل الى حاجتك.

(1/91)

عابد آخر عن عبيد الله بن ابي نوح قال قال لنا عابد كان بمكة ما تركت النار للعاقل سرورا في اهل ولا ولد ولبئس المصير مصير مفرط في المهلة ومتكل على الغرة وطول الغفلة.

وقال لنا لتكن الاثرة لله في قلوبكم المستولية على جميع اموركم يوشك ان تفوزوا بذلك يوم يخسر المبطلون0

ذكر المصطفيات من عابدات مكة

نقيش بنت سالم

عن أبي المورق قال حدثني من سمع نقيش بنت سالم بمكة وهي تقول يا سيد الانام رحلت بي الشقة وهذا مقام العائد بعفوك من سخطك وبرحمتك من غضبك يا حبيب الاوابين يا من لا يكديه الا عطاء يا ذا المن والالاء زدني بالثقة منك وصلة واجعل قراي عتق رقبتي وأقرر عيني برضاك.

قال ورايتها بالموقف وهي تقول بهظتني الاثام يا سيد الانام كحلت عيني بملمول الحزن فوعزتك لا نعمت بضحك ابدا حتى اعلم اين قراري والى اين تصير داري فلما رات ايدي الناس مبسوطة للدعاء قالت يا رب أقامهم هذا المقام خوف النار يا قرة عيني وعيون الأبرار يلتمسون نائلك ويرجون فضلك.

قلما رجعوا وضعت خذها وصرخت انصرف الناس ولم اشعر قلبي منك الياس.

ذكر المصطفيات من عابدات مكة المجهولات الاسماء

عابدة عن مالك بن دينار قال رأيت امرأة بمكة من أحسن الناس عينين قال فكان النساء يجئن فينظرن اليها فاخذت في البكاء فقيل لها تذهب عيناك فقالت ان كنت من اهل الجنة فيبدلني الله عينين احسن من هاتين وان كنت من اهل النار فسيصيبهما اشد من هذا فبكت حتى ذهبت إحدى عينيها رحمها الله.

(1/92)

عابدة أخرى عن ابي عبد الرحمن المغازلي قال كانت حكيمة مجاورة بمكة فدخلنا عليها ذات يوم فقالت لها امرة كانت تخدمها اخوانك جاؤوك يحبون ان يسمعوا كلامك. قال فبكت طويلا ثم اقبلت علينا فقالت اخوتي وقرة عيني مثلوا القيامة نصب ابصار قلوبكم وردوا على انفسكم ما قدم تقدم عن اعمالكم فما ظننتم انه يجوز في ذلك اليوم فارغبوا الى السيد في قبوله وتمام النعمة فيه وما خفتم ان يرد في ذلك اليوم عليكم فخذوا في اصلاحه من اليوم ولا تغفلوا عن انفسكم فترد عليكم حيث لا يوجد البدل ولا يقدر على الفداء. قال ثم بكت طويلا ثم أقبلت علينا فقالت إخوتي وقرة عيني إنما صلاح الأبدان وفسادها من حسن النية وسوئها اخواني وقرة عيني انما نال المتقون المحبة لمحبتهم له وانقطاعهم إليه ولولا الله ورسوله ما نالوا ذلك ولكنهم احبوا الله ورسوله فاحبهم عباد الله لحبهم الله ورسوله اخواني وقرة عيني كلم الخوف قلوب اهله فاقتطعهم والله شغلهم عن مطاعم اللذات والشهوات اخوتي وقرة عيني بقدر ما تعرضون عن الله يعرض عنكم بخيره وبقدرما تقبلون عليه كذلك يقبل عليكم ويزيدكم من فضله والله واسع كريم.

عابدة كانت إمرأة بمكة تسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة فأتت فلما بلغت القبر اختلست من ايدي الرجال

عابدة أخرى عن ابن شوذب قال كتب عبدة بن ابي لبابة الى شريك يقال له الحسن بن الخزاز ادفع ثلاث مائة درهم الى احوج اهل بيت بمكة فسال فدل على اهل بيت فوقف بهم فخرجت إليه امرأة كبيرة حسنة السمت فقال لها بعث الي بثلاث مائة درهم وامرت ان ادفعها الى احوج اهل بيت بمكة فقالت المراة ان كنت امرت بهذا فما نحن هم وما لنا فيها من حق وانا اعرف اهل بيت احوج منا. فسالها فدلته عليهم فاعطاهم الدراهم وكتب الى عبدة يخبره بحال المراة فكتب عبدة ان اضعفها اعطها ستمائة درهم.

(1/93)

عابدة أخرى قال كانت امرأة بمكة يأتيها العباد فيتحدثون عندها ويتواعظون فقالت لهم يوما حجبت قلوبكم الدنيا عن الله عز وجل فلو جليتموهما لجالت في ملكوت السموات ولأتتكم بطرف الفوائد.

عابدة أخرى عن صالح بن عبد الكريم قال دللت على امرأة بمكة او بالمدينة تتعبد فاتيتها وهي تتكلم قال فاحسنت حتى سكتت قال فصبرت حتى تفرق الناس عنها ثم دنوت منها فقلت لقد تكلمت ولقد خشيت عليك العجب فقالت انما العجب من شيء هو منك فاما ما كان من غيرك ففيم العجب ... 0

عابدة اخرى عن عبد الرحمن بن الحكم قال كانت عجوز من قريش بمكة تاوي في سرب ليس لها بيت غيره فقيل لها اترضين بهذا فقالت أوليس هذا لمن يموت كثيرا.

من المصطفين من أهل الطائف

سعيد بن السائب الطائفي

كان سعيد بن السائب الطائفي لا تكاد تجف له دمعة انما دموعه جارية دهره ان صلى فهو يبكي وان طاف فهو يبكي وأن جلس يقرأ في المصحف فهو يبكي وان لقيته في طريق فهو يبكي.

قال سفيان فحدثوني ان رجلا عاتبه على ذلك فبكى ثم قال انما ينبغي ان تعذلني وتعاتبني على التقصير والتفريط فانهما قد استوليا علي. قال الرجل فلما سمعت ذلك انصرفت وتركته.

قال ا بن يزيد ما رأيت احدا قط اسرع دمعة من سعيد انما كان يجريه ان يحرك فترى دموعه كالقطر.

قيل لسعيد بن السائب كيف اصبحت قال اصبحت انتظر الموت على غير عدة.

وعنه قال سمعت الثوري يقول جلست ذات يوم احدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكي حتى رحمته فقلت يا سعيد ما يبكيك وانت تسمعني اذكر اهل الخير وفعالهم فقال يا سفيان وما يمنعني من البكاء اذا ذكرت مناقب اهل الخير وكنت عنهم بمعزل? قال يقول سفيان حق له ان يبكي رحمه الله.

ذكر المصطفين من طبقات أهل اليمن من التابعين ومن بعدهم من الطبقة الثانية

طاووس بن كيسان

(1/94)

أن طاووسا اليماني كان له طريقان إلى المسجد طريق في السوق وطريق آخر فكان يأخذ في هذا يوما وفي هذا يوما فاذا مر في طريق السوق فراى تلك الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة وقد روي لنا لم ينعس.

وعن رجل قال اتى طاووس رجلا في السحر فقالوا هو نائم فقال ما كنت ارى ان احدا ينام في السحر.

وعن عبد الرزاق قال حدثني ابي قال كان طاووس يصلي في غداة باردة فمر به محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف او ايوب بن يحيى وهو ساجد في موكبه فامر بساج او طليسان مرتفع فطرح عليه فلم يرفع راسه حتى فرغ من حاجته فلما سلم نظر فإذا الساج عليه قال فانتفض ولم ينظر إليه ومضى الى منزله.

دخل طاووس ووهب بن منبه على محمد بن يوسف اخي الحجاج وكان عاملا علينا في غداة باردة فقعد طاووس على الكرسي فقال محمد يا غلام هلم ذلك الطيلسان فالقه على ابي عبد الرحمن.

فألقوه عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى عنه الطيلسان وغضب محمد بن يوسف فقال له وهب والله ان كنت لغنيا أن تغضبه علينا لو أخذت الطيلسان فبعته واعطيت ثمنه المساكين فقال نعم لولا ان يقال من بعدي أخذه طاووس فلا يصنع فيه ما اصنع لفعلت.

(1/95)

أن محمد بن يوسف وأيوب بن يحيى بعثا الى طاووس بخمسمائة دينار وقالوا للرسول ان اخذها منك فان الامير سيكسوك ويحسن اليك فخرج بها حتى قدم على طاووس فقال يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها إليك الأمير قال ما لي بها من حاجة قال فأراده على قبضها فأبى فغفل طاووس فرمى بها في كوة في البيت ثم ذهب فقال لهم قد أخذها فلبثوا حينا ثم بلغهم عن طاووس شيء يكرهونه فقال ابعثوا إليه فليبعث الينا بما لنا فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعث به اليك الامير قال ما قبضت منه شيئا فرجع الرسول فاخبرهم فعرفوا انه صادق. فقيل للرجل الذي ذهب بها فبعثوه إليه فقال المال الذي جئتك به يا ابا عبد الرحمن فقال هل قبضت منك شيئا قال لا قال فهل تدري اين وضعته? قال نعم في تلك الكوة قال فابصره حيث وضعته قال فمد يده فاذا هو بالصرة قد بنت عليها العنكبوت فاخذها فذهب بها اليهم.

وعن سفيان قال جاء ابن لسليمان بن عبد الملك فجلس الى جنب طاووس فلم يلتفت إليه فقيل له جلس اليك ابن امير المؤمنين فلم تلتفت إليه قال اردت ان يعمل ان لله عبادا يزهدون فيما في يديه.

وعن سفيان عن عمرو قال ما رأيت احدا اشد تنزها مما في ايدي الناس من طاووس.

قال ابن ابي رواد رأيت طاووسا واصحابه اذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا احدا وابتهلوا في الدعاء.

وعن الصلت بن راشد قال كنت عند طاووس فساله سلم بن قتيبة عن شيء فزبره وانتهره قال قلت هذا سلم بن قتيبة صاحب خرسان قال ذاك اهون له علي.

وعن عبد الرزاق قال قدم طاووس مكة فقدم امير قال فقيل له ان من فضله ومن ومن فلو اتيته قال ما لي إليه حاجة قالوا انا نخافه عليك قال فما هو كما تقولون.

وعن ابن طاووس قال قلت لابي اريد ان اتزوج فلانة قال اذهب فانظر اليها قال فذهبت فلبست من صالح ثيابي وغسلت راسي وادهنت فلما راني في تلك الهيئة قال اقعد لا تذهب.

(1/96)

مر طاووس بنهر قد كرى فارادت بغلته ان تشرب فابى ان يدعها يعني كراه السلطان.

صلى وهب بن منبه وطاووس اليماني الغداة بوضوء العتمة اربعين سنة.

وعن ابن جريح قال قال لي عطاء قال لي طاووس يا عطاء لا تنزلن حاجتك بمن أغلق دونك ابوابه وجعل عليها حجابه ولكن انزلها بمن بابه مفتوح لك الى يوم القيامة امرك ان تدعوه وضمن لك ان يستجيب لك.

وعن أحمد بن أبي الحواري قال سمعت ابا سليمان قال كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم العابدين.

وعن ليث عن طاووس قال ما من شيء يتكلم به ابن آدم الا احصي عليه حتى انينه في مرضه.

وعن عبد الله بن ابي صالح المكي قال دخل طاووس يعودني فقلت يا ابا عبد الرحمن ادع الله لي فقال ادع لنفسك فانه يجيب المضطر اذا دعاه.

وعن داود بن ابراهيم ان الاسد حبس الناس ليلة في طريق الحج فدق الناس بعضهم بعضا فلما كان في السحر ذهب عنهم فنزل الناس يمينا وشمالا فالقوا انفسهم فناموا وقام طاووس يصلي فقال ابن طاووس الا تنام فقد نصبت الليلة فقال طاووس ومن ينام السحر?

عن طاووس قال ادركت خمسين من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سفيان قال قلت لعبيد الله بن ابي يزيد مع من كنت تدخل على ابن عباس قال مع عطاء والعامة وكان طاووس يدخل مع الخاصة.

رحمك الله ابا عبد الرحمن حج اربعين حجة رحمه الله.

وهب بن منبه

عن وهب بن منبه قال الايمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وماله الفقه.

قال وهب بن منبه في موعظه له يا بن آدم انه لا أقوى من خالق ولا اضعف من مخلوق ولا اقدر ممن طلبته في يده ولا اضعف ممن هو في يد طالبه يا ابن ادم انه قد ذهب منك ما لا يرجع اليك واقام معك ما سيذهب.

(1/97)

يا ابن ادم اقصر عن تناول ما لا تنال وعن طلب ما لا تدرك وعن ابتغاء ما لا يوجد واقطع الرجاء منك عما فقدت من الاشياء واعلم انه رب مطلوب هو شر لطالبه يا ابن ادم انما الصبر عند المصيبة واعظم من المصيبة سوء الخلف منها.

يا بن ادم فاي الدهر ترتجي أيوما يجيء في غرة أو يوما تستأخر فيه عن أوان مجيئه? انظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام يوما مضى لا ترتجيه ويوما لا بد منه ويوما يجيء لا تامنه فامس شاهد مقبول وأمين مؤد وحكيم وارد قد فجعك بنفسه وخلف في يديك حكمته واليم صديق مودع كان طويل الغيبة وهو سريع الظعن اتاك ولم تاته وقد مضى قبله شاهد عدل فان كان ما فيه لك فاشفعه بمثله.

يا ابن ادم مضت لنا اصول نحن فروعها فما بقاء الفرع بعد اصله.

يا بن ادم انما اهل هذه الدار سفر لا يحلون عقدة الرحال الا في غيرها وانما يتبلغون بالعواري فما أحسن الشكر للنعم والتسليم للمعير فاعلم يا ابن ادم انه لا رزية اعظم من رزية في عقل ممن ضيع اليقين.

أيها الناس إنما البقاء بعد الفناء وقد خلقنا ولم نكن سنبلى ثم نعود الا وانما العوارى اليوم والهبات غدا الا وانه قد تقارب منا سلب فاحش او اعطاء جزيل فاستصلحوا ما تقدمون بما تظعنون عنه.

ايها الناس انما انتم في هذه الدار غرض فيكم المنايا تنتضل وان الذي انتم فيه من دنياكم نهب للمصائب لا تتناولون فيها نعمة الا بفراق اخرى ولا يستقبل معمر منكم يوما من عمره الا بهدم آخر من اجله ولا تجدد زيادة في اجله الا بنفاد ما قبله من رزقه ولا يحيا له اثر الا مات له اثر فنسال الله ان يبارك لنا ولكم فيما مضى من هذه العظة.

وعن بكار بن عبد الله قال سمعت وهب بن منبه يقول مر رجل عابد على رجل عابد فقال ما لك قال اعجب من فلان ان كان قد بلغ من عبادته فمالت به الدنيا فقال لا تعجب ممن تميل به ولكن اعجب ممن استقام.

(1/98)

عن وهب بن منبه قال اوحى الله عز وجل الى داود يا داود هل تدري من اغفر له ذنوبه من عبيدي قال من هو يا رب قال الذي اذا ذكر ذنوبه ارتعدت منها فرائصه فذلك العبد الذي امر ملائكتي ان يمحوا عنه ذنوبه.

قال وقال داود الهي اين اجدك اذا ما طلبتك قال عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.

وعن بكار بن عبد الله عن وهب قال قرات في بعض الكتب ان مناديا ينادي من السماء الرابعة كل صباح أبناء الاربعين زرع قد دنا حصاده ابناء الخمسين ماذا قدمتم وماذا اخرتم ابناء الستين لا عذر لكم ليت الخلق لم يخلقوا واذا خلقوا علموا لماذا خلقوا قد اتتكم الساعة فخذوا حذركم.

وعن عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب بن منبه يقول قرأت في التوراة أيما دار بنيت بقوة الضغفاء جعلت عاقبتها للحراب وأيما مال جمع من غير حل جعلت عاقبته الى الفقر.

قال وهب بن منبه ربما صليت الصبح بوضوء العتمة ... 0

وعن المثنى بن الصباح قال لبث وهب بن منبه عشرين سنة لم يجعل له بين العشاء والصبح وضوءا.

وقد روينا في ترجمة طاووس ان وهب بن منبه صلى الغداة بوضوء العشاء اربعين سنة.

وعن ابي سنان القسملي قال سمعت وهب بن منبه واقبل على عطاء الخراساني فقال ويحك يا عطاء الم اخبر انك تحمل علمك الى ابواب الملوك وابناء الدنيا? ويحك يا عطاء تاتي من يغلق عنك بابه ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه وتدع من يفتح لك بابه ويظهر لك غناءه ويقول ادعوني استجب لكم سورة غافر آية 60.

ويحك يا عطاء ارض بالدون من الدنيا مع الحكمة ولا ترض بالدون من الحكمة مع الدنيا ويحك يا عطاء ان كان يغنيك ما يكفيك فان ادنى ما في الدنيا يكفيك وان كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يكفيك ويحك يا عطاء إنما بطنك بحر من البحور وواد من الاودية فليس يملؤه الا التراب.

(1/99)

وعن منير مولى الفضل بن أبي عياش قال كنت جالسا مع وهب بن منبه فاتاه رجل فقال اني مررت بفلان وهو يشتمك فغضب وقال ما وجد الشيطان رسولا غيرك فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الرجل الشاتم فسلم على وهب فرد عليه ومد يده وصافحه واجلسه الى جنبه.

قال وهب بن منبه اذا مدحك الرجل بما ليس فيك فلا تأمنه أن يذمك بما ليس فيك.

عن وهب بن منبه قال الايمان قائد والعمل سائق والنفس بينهما حرون فاذا قاد القائد ولم يسق السائق ولم يغن ذلك شيئا واذا ساق السائق ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئا واذا قاد القائد وساق السائق اتبعته النفس طوعا وكرها وطاب العمل.

المغيرة بن حكيم الصنعاني

سافر المغيرة بن حكيم الى مكة اكثر من خمسين سفرا حافيا محرما صائما لا يترك صلاة السحر في سفره إذا كان السحر نزل فصلى ويمضي اصحابه فاذا صلى الصبح لحق متى ما لحق.

وعن ابراهيم بن عمر قال كان جزء المغيرة بن حكيم في يومه وليلته القرآن كله يقرأ في صلاة الصبح من البقرة الى هود ويقرا قبل الزوال الى ان يصلي العصر من هود الى الحج ثم يختم.

ضرغام بن وائل الحضرمي

وكان زاهد قومه فقال لغلامه ذات يوم اشدد كتافي وعفر خدي بالثرى ففعل.

فقال مليكي دنا الرحيل اليك ولا براءة لي من ذنب ولا عذر لي فاعتذر ولا لي قوة فانتصر انت انت لي فتغمدني قال ومات فسمعوا قائلا يقول اسكان العبد لمولاه فقبله.

ذكر المصطفين من عباد اليمن المجهولين الاسماء

(1/100)

عابد عن علي بن زيد قال قال طاووس بينا انا بمكة بعث الي الحجاج اجلسني الى جنبه واتكاني على وساده اذ سمع ملبيا يلبي حول البيت رافعا صوته بالتلبية فقال علي بالرجل فاتي به فقال ممن الرجل فقال من المسلمين قال ليس عن الاسلام سألت قال فعم سألت قال سالتك عن البلد قال من أهل اليمن قال كيف تركت محمد بن يوسف يريد اخاه قال تركته عظيما جسيما لباسا ركابا خراجا ولاجا قال ليس عن هذا سالتك قال فعم سألت قال سالتك عن سيرته فقال تركته ظلوما غشوما مطيعا للمخلوق عاصيا للخالق.

فقال له الحجاج ما حملك ان تتكلم بهذا الكلام وانت تعلم مكانه مني قال الرجل اتراه بمكانة منك اعز مني بمكاني من الله عز وجل وانا وافد بيته ومصدق نبيه وقاضي دينه قال فسكت الحجاج فما أحار جوابا وقام الرجل من غير ان يؤذن له فانصرف.

قال طاووس وقمت في اثره وقلت الرجل حكيم فاتى البيت فتعلق باستاره ثم قال اللهم بك اعوذ وبك الوذ اللهم اجعل لي في اللهف الى جودك والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين وغنى عما في أيدي المستأثرين اللهم فرجك القريب القريب ومعروفك القدمي وعادتك الحسنة. ثم ذهب في الناس فرايته عشية عرفة وهو يقول اللهم ان كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني الاجر على مصيبتي بتركك القبول مني ثم ذهب في الناس فرايته غداة جمع يقول واسواتاه والله منك وان عفوت يردد ذلك.

عابد اخر قال ذو النون وصف لي رجل باليمن قد برز على الخائفين وسما على المجتهدين وذكر لي باللب والحكمة فخرجت حاجا فلما قضيت نسكي مضيت إليه لاسمع من كلامه وانتفع بموعظته انا وناس كانوا معي يطلبون منه مثل ما اطلب.

(1/101)

وكان معنا شاب عليه سيماء الصالحين ومنظر الخائفين كان مصفار الوجه من غير مرض اعمش العينين من غير عمش ناحل الجسم من غير سقم يحب الخلوة ويانس بالوحدة تراه ابدا كانه قريب العهد بالمصيبة فخرج الينا فجلسنا إليه فبدا الشاب بالسلام عليه وصافحه فابدى الشيخ له البشر والترحيب ثم سلمنا عليه فقال الشاب ان الله بمنه وفضله قد جعلك طبيبا لسقام القلوب معالجا لاوجاع الذنوب وبي جرح نغل وداء قد استكمل فان رأيت ان تلطف لي ببعض مراهمك وتعالجني برفقك.

فقال له الشيخ سل ما بدا لك يا فتى فقال له الشاب يرحمك الله ما علامة الخوف من الله تعالى قال ان يؤمنه خوفه كل خوف غير خوفه قال متى يتبين للعبد خوفه من الله تعالى قال اذا انزل نفسه من الدنيا منزلة السقيم فهو يحتمي من اكل الطعام مخافة السقام ويصبر على مضض كل دواء مخافة طول الضنى.

فصاح الفتى صيحة ثم بقي باهتا ساعة ثم قال رحمك الله ما علامة المحب لله تعالى فقال له حبيبي ان درجة المحب درجة رفيعة قال وانا احب ان تصفها لي قال فان المحبين لله تعالى شق لهم عن قلوبهم فأبصروا بنور القلوب عز جلال الله فصارت ابدانهم دنياوية وارواحهم حجبية وعقولهم سماوية تسرح بين صفوف الملائكة وتشاهد تلك الامور باليقين فعبدوه بمبلغ استطاعتهم حبا له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار. فشهق الفتى وصاح صيحة كانت فيها نفسه قال فاكب الشيخ عليه يلثمه ويقول هذا مصرع الخائفين وهذه درجة المجتهدين.

عابدان قال سلامة كنت باليمن في بعض مخاليفها فاذا رجل معه ابن له شاب فقال ان هذا ابي وهو من خير الاباء ولي بقر تاتيني مساء فاحلبها ثم اتي ابي وهو في الصلاة فاحب ان يكون عيالي يشربون فضله فلا ازال قائما عليه والاناء في يدي وهو مقبل على صلاته وعسى ان لا ينفتل ويقبل علي حتى يطلع الفجر.

(1/102)

قلت للشيخ ما تقول قال صدق واثنى على ابنه ثم قال اني اخبرك بعذري اذا دخلت في الصلاة فاستفتحت القرآن ذهب بي مذاهب وشغلني حتى ما اذكره حتى اصبح.

قال سلامة ذكرت امرهما لعبد الله بن مرزوق فقال هذان يدفع بهما عن اهل اليمن قال وذكرت امرهما لابن عيينة قال هذان يدفع بهما عن اهل الارض رضي الله عنهما.

ذكر المصطفيات من عابدات اليمن

خنساء بنت خدام

كانت باليمن امرأة من العرب جليلة جهورية حسنا وجمالا كأنها بدنة يقال لها خنساء بنت خدام فصامت أربعين عاما حتى لصق جلدها بعظمها وبكت حتى ذهبت عيناها وقامت حتى أقعدت من رجليها.

وكان طاووس ووهب بن منبه يعظمان قدرها وكانت إذا جن عليها الليل وهدأت العيون وسكنت الحركات تنادي بصوت لها حزين يا حبيب المطيعين إلى كم تحبس خدود المطيعين في التراب أبعثهم حتى ينجزوا موعدك الصادق الذي اتعبوا له أنفسهم ثم انصبوها. قال فيسمع البكاء من الدور حولها.

سوية

عن أبي هشام رجل من قريش من بني عامر قال قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها سوية فنزلت في بعض رباعنا فكنت اسمع لها من الليل نحيبا وشهيقا فقلت للجارية اشرفي على هذه المرأة فانظري ما تصنع فإذا هي قائمة مستقبلة القبلة رافعة رأسها إلى السماء فقلت ما تصنع قالت ما أراها تصنع شيئا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء فقلت اسمعي ما تقول قالت لا افهم كثيرا من قولها غير اني اسمعها تقول: أراك خلقت سوية من طينة لا زبة غمرتها بنعمتك تغذوها من حال إلى حال وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة في اثر فلتة أتى أنها تظن انك لا ترى سوء فعالها بلى وأنت على كل شيء قدير.

ثم صرخت وسقطت ونزلت الجارية فأخبرتني بسقطتها فلما أصبحنا نظرنا فإذا هي قد ماتت والسلام.

من عابدات اليمن المجهولات الأسماء

عابدة

(1/103)

عن محمد بن سليمان القرشي قال بينا أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف في الطريق في أذنيه قرطان في كل قرط جوهرة يضيء وجهه من ضوء تلك الجوهرة وهو يمجد ربه بأبيات من الشعر فسمعته يقول:

مليك في السماء به افتخاري عزيز القدر ليس به خفاء فدنوت منه فسلمت عليه فقال ما أنا براد حتى تؤدي من حقي ما يجب لي عليك قلت وما حقك قال أنا غلام على مذهب إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لا أتغذى ولا أتعاشى كل يوم حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فاجتبه إلى ذلك فرحب بي وسرت معه حتى قربنا من خيمة شعر فلما قربنا من الخيمة صاح يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة يا لبيكاه فقال قومي إلى ضيفنا فقالت الجارية حتى أبدأ بشكر المولى الذي سبب لنا هذا الضيف. فقامت فصلت ركعتين شكرا لله عز وجل. فأدخلني الخيمة وأجلسني وأخذ الغلام الشفرة وأخذ عناقا ليذبحها فلما جلست في الخيمة نظرت إلى أحسن الناس وجها فكنت أسارقها النظر ففطنت لبعض لحظاتي إليها فقالت لي مه أما علمت أنه قد نقل إلينا عن صاحب المدينة صلى الله عليه وسلم أن زنى العينين النظر أما أني ما أردت بهذا أن أوبخك ولكني أردت أن أؤدبك لكي لا تعود إلى مثل هذا. فلما كان النوم بت أنا والغلام خارجا وباتت الجارية في الخيمة وكنت اسمع دوي القرآن الليل كله بأحسن صوت يكون وارقه فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من كان ذلك فقال تلك اختي تحيي الليل كله إلى الصباح فقلت يا غلام أنت أحق بهذا العمل من اختك أنت رجل وهي امرأة قال فتبسم وقال لي ويحك يا فتى اما علمت انه موفق ومخذول?

ذكر المصطفين من أهل بغداد

أبو هاشم الزاهد

قال أبو نعيم :الحافظ أبو هاشم من قدماء زهاد بغداد ومن أقران أبي عبد الله البراثي وبلغني أن سفيان الثوري جلس إليه وقال ما زلت آرائي وأنا لا أشعر حتى جالست أبا هاشم فأخذت منه ترك الرياء.

(1/104)

قال أبو هاشم الزاهد ان الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة ليكون انس المريدين به دونها وليقبل المطيعون له بالاعراض عنها وأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون والى الآخرة مشتاقون.

وعن محمد بن الحسين قال قال أبو هاشم الزاهد أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله.

ولد الرشيد المعروف بالسبتي

عن عبد الله بن الفرج العابد قال احتجت إلى صانع يصنع لي شيئا من امر الروز جاريين فأتيت السوق فجعلت ارمق الصناع فإذا في آواخرهم شاب مصفر بين يديه زبيل كبير ومر وعليه جبة صوف ومئزر صوف فقلت له تعمل قال نعم قلت بكم قال بدرهم ودانق قلت له قم حتى تعمل قال على شريطه قلت ما هي

قال إذا كان وقت الظهر واذن المؤذن خرجت وتطهرت وصليت في المسجد جماعة ثم رجعت فإذا كان وقت العصر فكذلك قلت نعم فقام معي فجئنا المنزل فوافقته على ما ينقله من موضع إلى موضع فشد وسطه وجعل يعمل ولا يكلمني بشيء. حتى إذا أذن المؤذن للظهر قال يا عبد الله قد أذن المؤذن قلت شانك.

فخرج فصلى فلما رجع عمل أيضا عملا جيدا إلى العصر فلما أذن المؤذن قال يا عبد الله قد أذن المؤذن قلت شأنك فخرج فصلى ثم رجع فلم يزل يعمل إلى آخر النهار فوزنت له اجرته وانصرف.

فلما كان بعد أيام احتجت إلى عمل فقالت لي زوجتي اطلب لنا ذلك الصانع الشاب فانه قد نصحنا في عملنا فجئت السوق فلم اره فسألت عنه فقالوا تسأل عن ذلك المصفر المشؤوم الذي لا نراه إلا من سبت إلى سبت لا يجلس إلا وحده في آخر الناس فانصرفت.

فلما كان يوم السبت اتيت السوق فصادفته فقلت تعمل فقال قد عرفت الاجرة والشرط قلت استخر الله تعالى فقام فعمل على النحو الذي كان عمل.

قال فلما وزنت له الاجرة زدته فابى أن يأخذ الزيادة فألححت عليه فضجر وتركني ومضى فغمني ذلك فاتبعته وداريته حتى أخذ اجرته فقط.

فلما كان بعد مدة احتجنا أيضا إليه فمضيت في يوم السبت فلم اصادفه.

(1/105)

فسألت عنه فقيل لي هو عليل وقال لي من كان يخبر أمره إنما كان إلى السوق من سبت إلى سبت يعمل بدرهم ودانق يتقوت كل يوم دانقا وقد مرض.

فسألت عن منزله فأتيته وهو في بيت عجوز فقلت لها هذا الشاب الروزجاري فقالت

هو عليل منذ أيام فدخلت عليه فوجدته لما به وتحت رأسه لبنة.

فسلمت عليه وقلت لك حاجة قال نعم ان قبلت قلت اقبل ان شاء الله تعالى قال إذا أنا مت فبع هذا المر واغسل جبتي هذه الصوف وهذا المئزر وكفني بهما وافتق جيب الجبة فان فيها خاتما فخذه ثم انظر يوم يركب هارون الرشيد الخليفة فقف له في موضع يراك فكلمه واره الخاتم فانه سيدعو بك فسلم إليه الخاتم ولا يكن هذا إلا بعد دفني قلت نعم.

فلما مات فعلت ما امرني ثم نظرت اليوم الذي يركب فيه الرشيد فجلست له على الطريق فلما مر ناديته يا أمير المؤمنين لك عندي وديعة ولوحت بالخاتم فامر بي فأخذت وحملت حتى دخل إلى داره ثم دعا بي ونحى جميع من عنده وقال من أنت فقلت عبد الله بن الفرج فقال هذا الخاتم من أين لك فحدثته قصة الشاب فجعل يبكي حتى رحمته.

فلما انس الي قلت يا أمير المؤمنين من هو منك قال ابني قلت كيف سار إلى هذه الحال قال ولد لي قبل ان ابتلى بالخلافة فنشأ نشوءا حسنا وتعلم القرآن والعلم فلما وليت الخلافة تركني ولم ينل من دنياي شيئا فدفعت إلى أمه هذا الخاتم وهو ياقوت ويساوي مالا كثيرا فدفعته إليها وقلت لها تدفعين هذا إليه وكان برا بأمه وتسأليه أن يكون معه فلعله ان يحتاج إليه يوما من الأيام فينتفع به وتوفيت أمه فما عرفت له خبرا إلا ما أخبرتني به أنت ثم قال لي إذا كان الليل فأخرج معي إلى قبره.

فلما كان الليل خرج وحده معي يمشي حتى أتينا قبره فجلس إليه فبكى بكاء شديدا فلما طلع الفجر قمنا فرجع فقال لي تعاهدني في الأيام حتى ازور قبره.

فكنت اتعاهده بالليل فيخرج حتى يزور قبره ثم يرجع.

عبد الله بن مرزوق أبو محمد

(1/106)

زعم أبو عبد الرحمن السلمي انه كان وزير هارون الرشيد فخرج من ذلك وتخلى من ماله وتزهد.

عن موسى قال استاذنت على عبد الله بن مرزوق فدخلت عليه فإذا هو قاعد كأن حزن الخلق عليه.

كان عبد الله بن مرزوق كأنه رجل واله كانه رجل قد فاته شيء وكانت له شعرات طوال عند صدغيه فكان إذا ذكر فرق نتفها أو مدها ففاض دمعه.

وعن سلامة وصى عبد الله بن مرزوق قال قال عبد الله بن مرزوق في مرضه يا سلامة ان لي اليك حاجة قال قلت ما هي قال تحملني فتطرحني على تلك المزبلة لعلي اموت عليها فيرى مكاني فيرحمني رحمه الله.

عبد الله بن الفرج

عن إبراهيم بن سهل قال قال عبد الله بن الفرج سلوا الله عفوا جميلا قال فقلنا يا أبا محمد أي شيء العفو الجميل قال ان يأمر بك من الموقف إلى الجنة يعني لا يفتشك.

معروف بن الفيرزان الكرخي

كان أبو محفوظ معروف قد ناداه الله عز وجل بالاجتباء في حال الصبا يذكر ان اخاه عيسى قال كنت أنا واخي معروف في الكتاب وكنا نصارى وكان المعلم يعلم الصبيان أب وابن فيصيح أخي معروف أحد أحد فيضربه المعلم على ذلك ضربا شديدا حتى ضربه يوما ضربا عظيما فهرب على وجهه.

فكانت أمي تبكي وتقول لئن رد الله علي ابني معروفا لاتبعنه على أي دين كان

فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة فقالت له يا بني على أي دين أنت قال على دين الإسلام قالت اشهد ان لا اله إلا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله. فاسلمت أمي واسلمنا كلنا.

وعن السري بن سفيان قال اقام معروف الصلاة ثم قال لمحمد بن أبي توبة تقدم فصل بنا وذلك ان معروفا كان لا يؤم إنما يؤذن ويقيم ويقدم غيره قال محمد بن أبي توبة ان صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم صلاة أخرى قال معروف وأنت تحدث نفسك ان تصلي صلاة أخرى نعوذ بالله من طول الامل طول الامل يمنع خير العمل.

(1/107)

قال محمد بن منصور كنا عند معروف الكرخي وجاءت امرأة سائلة فقالت اعطوني شيئا افطر عليه فاني صائمة فدعاها معروف وقال لها يا اختي سر الله افشيته وتأملين ان تعيشي إلى الليل? وعن يحيى بن جعفر قال رأيت معروفا الكرخي يؤذن فلما قال اشهد ان لا اله إلا الله رأيت شعر لحيته وصدغيه قائما كأنه زرع.

وعن عيسى أخي معروف قال دخل رجل على معروف في مرضه الذي مات فيه فقال يا أبا محفوظ أخبرني عن صومك قال كان عيسى عليه السلام يصوم كذا قال أخبرني عن صومك قال كان داود عليه السلام يصوم كذا.

قال أخبرني عن صومك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم كذا قال أخبرني عن صومك قال اما أنا فكنت أصبح دهري كله صائما فان دعيت إلى الطعام أكلت ولم اقل اني صائم.

كان معروف الكرخي يضرب نفسه ويقول يا نفس كم تبكين اخلصي وتخلصي.

وعن عمرو بن موسى قال سمعت معروفا يقول وعنده رجل يذكر رجلا فجعل يغتابه فجعل معروف يقول له اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك.

وقال سري سألت معروفا عن الطائعين لله باي شيء قدروه على الطاعة لله عز وجل قال بخروج الدنيا من قلوبهم ولو كانت في قلوبهم ما صحت لهم سجدة.

جاء قوم إلى معروف فاطالوا عنده الجلوس فقال اما تريدون ان تقوموا وملك الشمس ليس يفتر عن سوقه? وعن محمد بن حماد بن المبارك قال قال رجل لمعروف أوصني قال توكل على الله حتى يكون جليسك وانيسك وموضع شكواك واكثر ذكر الموت حتى لا يكون لك جليس غيره واعلم ان الشفاء لما نزل بك كتمانه وان الناس لا ينفعونك ولا يضرونك ولا يعطونك ولا يمنعونك.

وعن القاسم بن محمد البغدادي قال كنت جار معروف الكرخي فسمعته في السحر ينوح ويبكي وينشد:

أي شيء تريد مني الذنوب شغفت بي فليس عني تغيب

ما يضر الذنوب لو اعتقتني رحمة لي فقد علاني المشيب

(1/108)

وعن إبراهيم الأطرش قال كان معروف الكرخي قاعدا دجلة ببغداد إذ مر بنا احداث في زورق يضربون الملاهي ويشربون فقال له أصحابه اما ترى ان هؤلاء في هذا الماء يعصون الله ادع عليهم فرفع يده إلى السماء وقال الهي وسيدي أسألك ان تفرحهم في الجنة كما فرحتهم في الدنيا فقال له أصحابه إنما قلنا لك ادع الله عليهم لم نقل لك ادع الله لهم فقال إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم بشيء.

قال ابن شيروية كنت اجالس معروفا الكرخي فلما كان ذات يوم رأيت وجهه قد خلا فقلت يا أبا محفوظ بلغني انك تمشي على الماء فقال لي ما مشيت قط على الماء ولكن إذا هممت بالعبور يجمع لي طرفاها فاتخطاها.

قال ا بن منصور مضيت يوما إلى معروف الكرخي ثم عدت إليه من غد ف رأيت في وجهه اثر شجة فهبت ان اسأله عنها وكان عنده رجل اجرأ عليه مني فقال له كنا عندك البارحة فلم نر في وجهك هذا الاثر فقال له معروف خذفيما تنتفع به فقال له اسألك بحق الله فانتفض معروف ثم قال له وما حاجتك إلى هذا مضيت البارحة إلى بيت الله الحرام ثم صرت إلى زمزم فشربت منها فزلت رجلي فنطح وجهي الباب فهذا الذي ترى من ذلك.

مر معروف على سقاء يسقي الماء وهو يقول رحم الله من شرب فشرب وكان صائما وقال لعل الله أن يستجيب له.

وعن سري قال هذا الذي أنا فيه من بركات معروف انصرفت من صلاة العيد فرأيت مع معروف صبيا شعثا فقلت له من هذا قال رأيت الصبيان يلعبون وهذا واقف منكسر فسألته لم لا تلعب قال أنا يتيم قال سري فقلت له فما ترى انك تعمل به قال لعلي اخلو فاجمع له نوى يشتري به جوزا يفرح به فقلت له اعطنيه اغير من حاله فقال لي أوتفعل فقلت نعم فقال لي خذه اغنى الله قلبك فسويت الدنيا عندي اقل من كذا.

قيل لمعروف الكرخي في علته أوص فقال إذا مت فتصدقوا بقميصي هذا فاني أحب ان أخرج من الدنيا عريانا كما دخلت إليها عريانا.

بشر بن الحارث الحافي

(1/109)

عن أيوب العطار قال قال لي بشر بن الحارث الحافي احدثك عن بدو امري بينا أنا امشي رأيت قرطاسا على وجه الأرض فيه اسم الله تعالى فنزلت إلى النهر فغسلته وكنت لا املك من الدنيا إلا درهما فيه خمسة دوانق فاشتريت بأربعة دوانيق مسكا وبدانق ماء ورد وجعلت اتتبع اسم الله تعالى واطيبه ثم رجعت إلى منزلي فنمت فاتاني آت في منامي فقال يا بشر كما طيبت اسمي لاطيبن اسمك وكما طهرته لاطهرن قلبك.

قال بشر بن الحارث أنا لله عشت إلى زمان ان لم اعمل فيه بالجفاء لم يسلم ديني.

قال محمد زرت بشر بن الحارث فقعدت معه مليا فما زادني على كلمة قال ما اتقى الله من أحب الشهرة وعن أحمد بن نصر قال كنا قعودا قدام بشر بن الحارث نفسين قال فجاء الثالث فقام فدخل.

قال بشر بعث إلى عاصم الصفار فقال يا أبا نصر ان أبا الحسن يقرأ عليك السلام ويقول قد اشتد شوقي إليك حتى لقد كدت ان اتيك من غر إذن فعلمت كراهيتك لمجيء الرجال فان رأيت ان تاذن لي فاتيك لاسلم عليك فلعل الله ان ينفعني برؤيتك قال فقلت له قد فهمت رسالة الشيخ فابلغه السلام وقل له لا تأتني فان في مجيئك الي شهرة علي وعليك.

قال بشر بن الحارث لقد شهرني ربي في الدنيا فليته لا يفضحني في القيامة ما اقبح بمثلي يظن في ظن وأنا على خلافه إنما ينبغي لي ان اكون اكثر ما يظن بي اني اكره الموت وما يركه الموت إلا مريب ولولا اني مريب لاي شيء اكره الموت.

وقال أحمد بن الصلت سمعت بشر بن الحارث يقول غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه واخاء مكانه عنهم.

قال بشر بن الحارث اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب فربما سترت على ما تكره قال ثم التفت الي فقال يا أخي بادر بادر فان ساعات الليل والنهار تذهب الاعمال.

قال بشر بن الحارث يوم ماتت أخته ان العبد إذا قصر في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه.

وقال رجل رأيت بشر بن الحارث وقف على أصحاب الفاكهة فجعل ينظر. فقلت يا أبا نصر

(1/110)

لعلك تشتهي من هذا شيئا قال لا ولكن نظرت في هذا إذا كان يطعم هذا من يعصيه فكيف من يطيعه.

وعن أبي بكر المروزي قال سمعت بعض القطانين يقول اهدى الي استاذي رطبا وكان بشر يقيل في دكاننا في الصيف فقال له استاذي يا أبا نصر هذا من وجه طيب فان رأيت ان تأكل قال فجعل يمسه بيده ثم ضرب بيده إلى لحيته وقال ينبغي ان استحي من الله اني عند الناس تارك لهذا وآكله في السر? وعنه قال سمعت أبا حفص ابن أخت بشر قال سمعت بشرا يقول ما شبعت منذ خمسين سنة.

وعنه قال سمعت قرابة بشر الحافي يقول قدم بشر بن عبادان ليلا أو قال من سفر وهو متزر بحصير.

عن يحيى بن عثمان قال كان لبشر بن الحارث في كل يوم رغيف.

قال وقال لي بشر كان لي سنور فكنت إذا وضعت طعامي بين يدي جاءت فعيناها في عيني فآكل وارمي لها قال فقلت اليك عني تأكلين قوتي.

وعن أبي بكر قال سمعت بشر بن الحارث يقول اني لاشتهي شواء منذ أربعين سنة ما صفا لي درهمه.

عبد الله بن خبيق قال رجل لبشر ما لي اراك مغموا قال ما لي لا اكون مغموما وأنا رجل مطلوب.

وعن أبي الحسن قال سمعت أبي يحكي عن بشر انه قال ربما رفعت يدي في الدعاء فاردها أو قال فاستلها.

اقول إنما يفعل هذا من له عنده وجه.

وعن زبدة أخت بشر بن الحارث قالت دخل بشر علي ليلة من الليالي فوضع إحدى رجليه داخل الدار والأخرى خارج الدار وبقي كذلك يتفكر حتى أصبح فلما أصبح قلت له في ماذا تفكرت طول الليلة قال تفكرت في بشر النصراني وبشر إليهودي وبشر المجوسي ونفسي واسمي بشر فقلت ما الذي سبق منك حتى خصك فتفكرت في تفضله علي وحمدته علي ان جعلني من خاصته والبسني لباس أحبائه.

وعن أحمد بن نصر قال سمعت بشرا يقول يا مازني ليت لا يكون حظي من الله هذا الذي يقول الناس بشر بشر و رأيت اشفار عينيه قد ذهبت من البكاء وعن الحسن بن عمرو قال سمعت بشر بن الحارث يقول لو علمت ان رضاه ان اشد في رجلي حجرا ثم القي نفسي في البحر لفعلت.

(1/111)

قال ا بن دهقان لبشر بن الحارث أحب ان اخلو معك قال إذا شئت فبكرت يوما فرأيته قد دخل قبة فصلى فيها أربع ركعات لا احسن ان أصلي مثلها فسمعته يقول في سجوده اللهم انك تعلم فوق عرشك ان الذل أحب الي من الشرف اللهم انك تعلم فوق عرشك ان الفقر أحب الي من الغنى اللهم انك تعلم فوق عرشك اني لا اوثر على حبك شيئا فلما سمعته أخذني الشهيق والبكاء فلما سمعني قال اللهم انك تعلم اني لو اعلم ان هذا ههنا لم أتكلم.

قال بشر : ان الجوع يصفي الفؤاد ويورث العلم الدقيق وسمعت بشرا يقول طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.

وعن أحمد بن الصلت قال سمعت بشر بن الحارث يقول حادثوا الامال بقرب الاجال.

قال بشر بن الحارث واراد الدخول إلى المقبرة فقال الموتى داخل السور اكثر منهم خارج السور.

وعن أحمد بن الصلت قال سمعت بشر بن الحارث يقول ليس من المودة ان تحب ما يبغض حبيبك.

وعن عمرو بن موسى قال رأيت بشرا ومعه رجل فتقدم إلى بئر ليشرب منها فجذبه بشر وقال تشرب من البئر الأخرى حتى جاوز ثلاثة ابار فقال له الرجل أبا نصر أنا عطشان فقال له بشر اسكت فهكذا ندفع الدنيا.

قال بشر بن الحارث بحسبك ان اقواما موتى تحيا القلوب بذكرهم وان أقواما أحياء تعمى الأبصار بالنظر إليهم.

وعن عمرو بن موسى الأحول قال سمعت بشرا يقول يكون الرجل مرائيا في حياته مرائيا بعد موته قيل كيف يكون مرائيا بعد موته قال يحب ان يكثر الناس على جنازته.

وعن الحسن بن عمرو قال سمعت بشر بن الحارث يقول الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد ثم قال ذاك يركب ويرجع ويراه الناس وهذا يعطي سرا لا يراه إلا الله عز وجل.

وسمعت بشرا يقول ما اقبح ان يطلب العالم فيقال هو بباب الأمير.

رحل بشر بن الحارث رضي الله عنه في طلب العلم إلى مكة والكوفة والبصرة غير انه لم يتصد للراوية .....

(1/112)

وعن الكندي قال رأيت بشر بن الحارث في النوم فقلت له ما فعل الله بك فقال غفر لي واقعدني على طيار من لؤلؤة بيضاء وقال لي سر في ملكي.

وقال ابن خزيمة لما مات أحمد بن حنبل بت من ليلتي فرأيته في النوم فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي وتوجني والبسني نعلين من ذهب وقال لي يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي قلت فما فعل بشر فقال لي بخ بخ من مثل بشر تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول له كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب وانعم يا من لم ينعم رحمه الله ورضي عنه.

احمد بن محمد بن حنبل

قال ابو عفيف وذكر ابا عبد الله احمد بن حنبل فقال كان في الكتاب معنا وهو غليم يعرف فضله وكان الخليفة بالرقة فيكتب الناس الى منازلهم فيبعث نساؤهم الى المعلم ابعث الينا باحمد بن حنبل ليكتب لهم جواب كتبهم فيبعثه فكان يجيء اليهم مطاطىء الرأس فيكتب جواب كتبهم فربما املو عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم.

وعن ادريس بن عبد الكريم قال قال خلف جاءني احمد بن حنبل يستمع حديث ابي عوانة فاجتهدت ان ارفعه فابى وقال لا اجلس الا بين يديك امرنا ان نتواضع لمن نتعلم منه.

قال ابو زرعة كان احمد بن حنبل يحفظ الف الف حديث فقيل له وما يدريك قال ذكارته فاخذت عليه الابواب.

ابو جعفر بن احمد بن محمد بن سليمان التستري قال قيل لابي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين احفظ فقال احمد بن حنبل حرزت كتبه اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان ولا في بطنه حديث فلان وكل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه.

وعن ابراهيم الحربي قال رأيت احمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء.

(1/113)

وعن احمد بن سنان قال ما رأيت يزيد بن هارون لاحد اشد تعظيما منه لاحمد بن حنبل ولا رأيته أكرم أحدا كرامته لاحمد بن حنبل وكان يقعد الى جنبه إذا حدثنا وكان يوقره ولا يمازحه ومرض احمد فركب إليه فعاده.

قال المصنف رحمه الله قلت كانت مخايل النجابة تظهر من احمد رضي الله عنه من زمان الصبا وكان حفظه للعلم من ذلك الزمان غزيرا وعمله به متوفرا.

فلذلك كان مشايخه يعظمونه فكان اسماعيل بن علية يقدمه وقت الصلاة يصلي بهم وضحك اصحابه يوما فقال اتضحكون وعندي احمد بن حنبل?.

وقال عبد الرزاق ما رأيت افقه ولا اورع من احمد بن حنبل.

وقال وكيع وحفص بن غياث ما قدم الكوفة مثل احمد بن حنبل.

وقال ابو الوليد الطيالسي ما بالمصرين احد احب الي من احمد بن حنبل.

وقال ابن مهدي ما نظرت إليه الا ذكرت به سفيان الثوري ولقد كاد هذا الغلام ان يكون إماما في بطن أمه.

وقال يحيى بن سعيد ما قدم علي مثل احمد بن حنبل.

وقال ابو عاصم النبيل وقد ذكر طلاب العلم فقال ما رأينا في القوم مثل احمد بن حنبل.

وعن ابي بكر المروزي قال كنت مع ابي عبد الله نحوا من اربعة اشهر بالعسكر لا يدع قيام الليل وقراءة النهار فما علمت بختمة ختمها كان يسر ذلك.

وعن ابي عصمة بن عصام البيعقي قال بت ليلة عند احمد بن حنبل فجاء بالماء فوضعه فلما اصبح نظر في الماء فاذا هو كما كان فقال سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل?.

وعن ابي داود السجستاني قال لم يكن احمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من امر الدنيا فاذا ذكر العلم تكلم.

وعن ابي عبيد القاسم بن سلام قال جالست ابا يوسف ومحمد بن الحسن ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي فما هبت احدا منهم ما هبت احمد بن حنبل ولقد دخلت عليه في السجن لاسلم عليه فسالني رجل عن مسالة فلم اجبه هيبة له.

(1/114)

وعن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال ما اعلم اني رأيت احدا انظف ثوبا ولا اشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر راسه وشعر بدنه ولا انقى ثوبا واشده بياضا من احمد بن حنبل.

قال ابن المديني قال لي احمد بن حنبل اني لاحب ان اصحبك الى مكة وما يمنعني من ذاك الا اني اخاف من املك او تملني قال فلما ودعته قلت يا ابا عبد الله توصيني بشيء قال نعم الزم التقوى قلبك والزم الاخرة امامك.

وقال ابو داود السجستاني كانت مجالسه احمد بن حنبل مجالسه الاخرة ولا يذكر فيها شيء من امر الدنيا ما رأيت احمد بن حنبل ذكر الدنيا قط.

وعن إبراهيم الحربي قال كان أحمد بن حنبل يأتي العرس والختان والاملاك يجيب ويأكل.

وعن ا سحاق بن راهوية قال لما خرج احمد بن حنبل الى عبد الرزاق انقطعت به النفقة فاكرى نفسه من بعض الجمالين الى ان وافى صنعاء وقد كان إصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحد شيئا.

قال عبد الرزاق وذكر احمد بن حنبل فدمعت عيناه فقال قدم بلغني ان نفقته نفدت فأخذت عشرة دنانير واقمته خلف الباب وما معي ومعه أحد وقلت انه لا تجتمع عندنا الدنانير وقد وجدت الساعة عند النساء عشرة دنانير فخذها فارجو الا تنفقها حتى يتهيأ عندنا شيء فتبسم وقال لي يا ابا بكر لو قبلت شيئا من الناس قبلت منك ولم يقبل.

(1/115)

وعن صالح بن احمد قال جاءتني حسن فقالت يا مولاي قد جاء رجل بتليسة فيها فاكهة يابسة وبهذا الكتاب قال صالح فقمت فقرات الكتاب فاذا فيه يا ابا عبد الله ابضعت لك بضاعة الى سمرقند فوقع فيها كذا وكذا ورددتها فيها كذا وكذا وقد بعثت بها اليك وهي اربعة الاف درهم وفاكهة انا لقطتها من بستاني ورثته عن ابي وابي ورثه عن ابيه. قال فجمعت الصبيان فلما دخل دخلنا عليه فبكيت وقلت له يا ابة اما ترق لي من اكل الزكاة ثم كشفت عن راس الصبية وبكيت فقال من اين علمت دع حتى استخير الله تعالى الليلة قال فلما كان من الغد قال يا صالح صي فاني قد استخرت الله تعالى الليلة فعزم لي الا اخذها وفتح التليسة ففرقها على الصبيان وكان عنده ثوب عشاري فبعث به إليه ورد المال قال صالح فبلغني ان الرجل اتخذه كفنا.

وعن علي بن الجهم قال كان له جار فاخرج الينا كتابا فقال اتعرفون هذا الخط قلنا هذا خط احمد بن حنبل كيف كتب لك قال كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة ففقدنا احمد بن حنبل اياما لم نره ثم جئنا إليه لنسأل عنه فقال لنا أهل الدار التي هو فيها هو في ذلك البيت فجئنا إليه والباب مردود عليه واذا خلقان فقلنا له يا ابا عبد الله ما خبرك لم نرك منذ أيام فقال سرقت ثيابي.

فقلت له معي دنانير فان شئت فخذ قرضا وان شئت فصلة فابى أن يفعل فقلت تكتب لي باجرة قال نعم فاخرجت دينارا فابى ان ياخذه وقال اشتر لي ثوبا واقطعه بنصفين فأومأ الي أنه يأتزر بنصف ويرتدي بالنصف الاخر وقال جئني بنفقته ففعلت وجئت بورق فكتب لي وهذا خطه.

وعن صالح بن احمد بن حنبل قال دخلت على ابي في أيام الواثق والله يعلم في أي حالة نحن وخرج لصلاة العصر وكان له جلد يجلس عليه قد اتت عليه سنون كثيرة حتى قد بلي فإذا تحته كتاب فيه.

(1/116)

بلغني يا ابا عبد الله ما انت فيه وعن الضيق وما عليك من الدين وقد وجهت اليك بأربعة الاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك وتوسع بها على عيالك وما هي من صدقة ولا زكاة انما هو شيء ورثته من ابي.فقرات الكتاب ووضعته فلما دخل قلت له يا ابة ما هذا الكتاب فاحمر وجهه وقال رفعته منك ثم قال تذهب بجوابه الى الرجل وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك الي ونحن في عافية فاما الدين فانه لرجل لا يرهقنا واما عيالنا فهم بنعمة الله والحمد لله.فذهبت بالكتاب الى الرجل الذي كان اوصل كتاب الرجل فقال ويحك لو ان عبد الله قبل هذا الشيء ورمي مثلا في دجلة كان مأجورا لان هذا الرجل لا يعرف له معروف.فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل بمثل ذلك فرد عليه الجواب بمثل ما رد فلما مضت سنة أو أقل أو أكثر ذكرناها فقال لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.وعن محمد بن موسى بن حماد الزيدي قال حمل الى الحسن بن عبد العزيز الحروي من ميراثه من مصر مائة الف دينار فحمل إلي أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس الف دينار فقال يا ابا عبد الله هذه ميراث حلال فخذها فاستعن بها على عائلتك فقال لا حاجة لي فيها انا في كفاية فردها ولم يقبل منها شيئا.وعن السري بن محمد خال ولد صالح قال جاء احمد بن صالح يوضىء ابا عبد الله يوما وقد بل ابو عبد الله خرقة فألقاها على رأسه فقال له احمد بن صالح يا جدي انت محموم قال ابو عبد الله وانى لي بالحمي? وعن رحيلة قال كنت على باب احمد بن حنبل والباب مجاف وام ولده تكلمه وتقول له انا معك في ضيق منزل بيت صالح يأكلون ويفعلون وهو يقول قولي خيرا خرج الصبي معه فبكى فقال له أي شيء تريد قال زبيب قال اذهب فخذ من البقال حبة.وعن ابي بكر المروزي قال سمعت ابا عبد الله يقول إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وانها أيام قلائل وقال سمعت ابا عبد الله يقول أسر ايامي الي يوم اصبح وليس عندي شيء.

(1/117)

وعن صالح بن احمد قال ربما رأيت ابي يأخذ الكسر فيفض الغبار عنها ثم يصيرها في قصعة ثم يصب عليها ماء حتى تبتل ثم ياكلها بالملح وما رايته قط اشترى رمانا ولا سفرجلا ولا شيئا من الفاكهة الا ان يكون يشتري بطيخة فياكلها بخبز او عنبا او تمرا فاما غير ذلك فما رايته قط اشتراه وربما خبز له فيجعل في فخارة عدسا وشحما وتمرات شهريز فيخص الصبيان بقصعة فيصوت ببعضهم فيدفعه اليهم فيضحكون ولا ياكلون وكان كثيرا ما يأتدم بالخل وكان يشترى له شحم بدرهم فكان ياكل منه شهرا فلما قدم من عند المتوكل أدمن الصوم وجعل لا يأكل الدسم فتوهمت أنه كان جعل على نفسه ان سلم ان يفعل ذلك.وعن النيسابوري صاحب اسحاق بن ابراهيم قال لي الامير اذا جاء افطاره ارنيه قال فجاؤوا برغيفين خبز وخيارة فاريته الامير فقال هذا لا يجيبنا اذا كان هذا يقنعه.وعن الحسن بن خلف الصائغ قال جاءني المروزي في علة أبي عبد الله قال ابو عبد الله عليل فذهبت بالمتطبب فدخلنا عليه قال ما حالك قال احتجمت امس قال وما اكلت قال خبزا وكامخا قال يا ابا عبد الله تحتجم وتاكل خبزا وكامخا قال فما أكل?وعن محمد بن الحسن بن هارون قال رأيت ابا عبد الله اذا مشى في الطريق يكره ان يتبعه احد.وقال المروزي سمعت ابا عبد الله يقول الخوف يمنعني من اكل اطعام والشراب فما اشتهيه.قال المروزي وبال ابو عبد الله في مرضه دما فاريته المتطبب فقال هذا رجل قد فتت الغم والحزن كبده.وعن ابراهيم بن شماس قال كنت اعرف احمد بن حنبل وهو غلام يحيى الليل.وعن المروزي قال سمعت ابا عبد الله يقول قد وجدت البرد في اطرافي ما اراه الا من ادماني اكل الخل والملح.وعن فوران قال كنا عند احمد بن حنبل قبل ان يموت بليليتين وكان ثم غلام اسود لابي يوسف يعني عمه اشتراه من هذا المال فذهب بروح أحمد فنهاه.

(1/118)

وعن سليمان بن داود الشاذكوني ان احمد رهن سطلا عند فامي فاخذ منه شيئا يتقوته فجاء فاعطاه فكاكه فاخرج إليه سطلين فقال انظر أيهما سطلك فخذه.قال لا أدري أنت في حل منه ومما أعطيتك ولم يأخذ قال الفامي والله انه لسطله وإنما أردت ان امتحنه فيه.وعن احمد بن محمد التستري قال ذكروا لي ان احمد بن حنبل اتي عليه ثلاثة أيام ما كان طعم فيها فبعث الى صديق له فاستقرض شيئا من الدقيق فعرفوا في البيت شدة حاجته الى الطعام فخبزوا عاجلا فلما وضع بين يديه قال كيف خبزتم هذا بسرعة قيل له كان التنور في دار صالح ابنه مسجورا فخبزنا عاجلا.فقال ارفعوا ولم يأكل وامر بسد بابه الى دار صالح.وعن عبد الله بن احمد قال كان ابي اصبر الناس على الوحدة لم يره احد الا في مسجد او حضور جنازة او عيادة مريض وكان يكره المشي في الاسواق.وعنه قال كان ابي يصلي في كل يوم وليلة ثلاث مائة ركعة فلما مرض من تلك الأسواط اضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة وقد كان قرب من الثمانين وكان يقرأ في كل يوم سبعا يختم في سبعة أيام وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار وكان ساعة يصلي عشاء الاخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم الى الصباح يصلي ويدعو وحج ابي خمس حجات ثلاث حجج ماشيا واثنتين راكبا وانفق في بعض حجاته عشرين درهما.وعنه قال كنت اسمع ابي كثيرا يقول في دبر الصلاة اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك صنه عن المسالة لغيرك.وعن ابي عيسى عبد الرحمن بن زاذان قال صلينا وابو عبد الله احمد بن حنبل حاضر فسمعته يقول: اللهم من كان على هوى او على راي وهو يظن انه على الحق وليس هو الحق فرده الى الحق حتى لا يضل من هذه الامة احد اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به ولا تجعلنا في رزقك خولا لغيرك ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا ولا ترنا حيث نهيتنا ولا تفقدنا من حيث امرتنا اعزنا ولا تذلنا اعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية.

(1/119)

وعن علي بن ابي حرارة قال كانت امي مقعدة نحو عشرين سنة فقالت لي يوما اذهب الى احمد بن حنبل فسله ان يدعو الله لي فمضيت فدققت عليه الباب فقال من هذا فقلت رجل من اهل ذلك الجانب سألتني أمي وهي زمنة مقعدة ان اسالك ان تدعو الله لها فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال نحن احوج ان تدعو الله لها فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال نحن احوج ان تدعو الله لنا فوليت منصرفا فخرجت عجوز من داره فقالت انت الذي كلمت ابا عبد الله قلت نعم قالت قد تركته يدعو الله لها. قال فجئت من فوري الى البيت فدققت الباب فخرجت على رجليها تمشي حتى فتحت لي الباب وقالت قد وهب الله لي العافية.وعن ميمون قال كنت ببغداد فسمعت ضجة فقلت ما هذا فقالوا احمد بن حنبل يمتحن فدخلت فلما ضرب سوطا قال بسم الله فلما ضرب الثاني قال لا حول ولا قوة الا بالله فلما ضرب الثالث قال القرآن كلام الله غير مخلوق فلما ضرب الرابع قال قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا سورة التوبة 51 فضرب تسعة وعشرين سوطا.وكانت تكة احمد حاشية ثوب فانقطعت فنزل السراويل الى عانته فرمي احمد طرفه الى السماء وحرك شفتيه فما كان باسرع ان بقي السراويل لم ينزل.فدخلت إليه بعد سبعة أيام فقلت يا ابا عبد الله رايتك تحرك شفتيك فاي شيء قلت قال قلت اللهم اني اسالك باسمك الذي ملات به العرش ان كنت تعلم اني على الصواب فلا تهتك لي سترا.قال شاباص النائب لقد ضربت احمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته فيلا لهدته.وقال عبد الله بن احمد بن حنبل كنت كثيرا اسمع والدي يقول رحم الله ابا الهيثم غفر الله لابي الهيثم عفا الله عن ابي الهيثم فقلت يا ابة من ابو الهيثم?

(1/120)

فقال لما اخرجت للسياط ومدت يداي للعاقبين اذ انا بشاب يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي تعرفني قلت لا قال انا ابو الهيثم العيار اللص الطرار كتوب في ديوان امير المؤمنين اني ضربت ثمانية عشر الف سوط بالتفاريق وصبرت على ذلك على طاعة الشيطان لاجل الدنيا فاصبر انت في طاعة الرحمن لاجل الدين قال فضربت ثمانية عشر سوطا بدل ما ضرب ثمانية عشر الفا وخرج الخادم فقال عفا عنه أمير المؤمنين.وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قال لي أبي يا بني لقد اعطيت المجهود من نفسي.قال وكتب أهل المطامير الى أحمد بن حنبل ان رجعت عن مقالتك ارتددنا عن الاسلام.ان احمد بن حنبل جعل المعتصم في حل في يوم فتح بابك او في فتح عمورية فقال هو في حل من ضربي.احل احمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع فيه والمعتصم وقال لولا ان ابن ابي داود داعية لاحللته.وقال صالح بن احمد بن حنبل ورد كتاب علي بن الجهم ان أمير المؤمنين يعني المتوكل قد وجه اليك يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج فالله الله ان تستعفي او ترد المال فيتسع القول لمن يبغضك.فلما كان من الغد ورد يعقوب فدخل عليه فقال يا ابا عبد الله امير المؤمنين يقرئك السلام ويقول قد احببت ان انس بقربك وان اتبرك بدعائك وقد وجهت اليك عشرة الاف درهم معونة على سفرك.اخرج صرة فيها بدرة نحو مائتي دينار والباقي دراهم صحاح فلم ينظر اليها ثم شدها يعقوب وقال له اعود غدا حتى ابصر ما تعز عليه وانصرف.

(1/121)

فجئت باجانة خضراء فكببتها على البدرة فلما كان عند المغرب قال يا صالح خذ هذا صيره عندك فصيرتها عند راسي فوق البيت فلما كان سحرا اذا هو ينادي يا صالح فقمت فصعدت إليه فقال ما نمت ليلتي هذه فقلت لم يا ابة? فجعل يبكي وقال سلمت من هؤلاء حتى اذا كان في آخر عمري بليت بهم قد عزمت على ان افرق هذا الشيء اذا اصبحت فقلت ذاك اليك فلما اصبح قال جئني يا صالح بميزان وقال وجهوا الى ابناء المهاجرين والانصار ثم قال وجهه الى فلان يفرق في ناحية والى فلان فلم يزل حتى فرقها كلها ونفضت الكيس ونحن في حالة الله تعالى بها عليم.فجاء بني لي فقال يا ابة اعطني درهما فنظر الي فاخرجت قطعة فاعطيته وكتب صاحب البريد انه قد تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس.قال علي بن الجهم فقلت يا امير المؤمنين قد علم الناس انه قد قبل منك وما يصنع احمد بالمال وانما قوته رغيف فقال لي صدقت يا علي.قال صالح ثم اخرجنا ليلا معنا حراس معهم النفاطات فلما اضاء الفجر قال لي يا صالح معك دراهم قلت نعم قال اعطهم فاعطيتهم درهما درهما ودخلنا العسكر وابي منكس الرأس ثم انزل دار ايتاخ وجاء علي بن الجهم فقال قد امر لكم امير المؤمنين بعشرة الاف مكان التي فرقها وامر ان لا يعلم بذلك فيغتم.ثم جاءه احمد بن معاوية فقال ان امير المؤمنين يكثر ذكرك ويشتهي قربك وتقيم ههنا تحدث فقال انا ضعيف.ثم حمل الى دار الخلافة فاخبرني بعض الخدم ان المتوكل كان قاعدا وراء ستر فلما دخل ابي الدار قال لامه يا اماه قد انارت الدار ثم جاء خادم بمنديل فيه ثياب فالبس وهو لا يحرك يديه فلما صار الى الدار نزع الثياب عنه ثم جعل يبكي ثم قال سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة حتى اذا كان في آخر عمري بليت بهم ثم قال يا صالح وجه هذه الثياب الى بغداد تباع وتصدق بثمنها ولا يشتري احد منكم شيئا منها.

(1/122)

واجريت له مائدة وثلج وضرب الخيش فلما راه تنحى فالقى نفسه على مضربة له وجعل يواصل ويفطر في كل ثلاث على تمر شهريز فمكث كذلك خمسة عشر يوما ثم جعل يفطر ليلة وليلة ولا يفطر الا على رغيف وكان اذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها فياكل من حضر.وامر المتوكل ان تشتري لنا دار فقال يا صالح لئن اقررت لهم بشراء دار لتكونن القطيعة بيني وبينك فلم يزل يدفع شرى الدار حتى اندفع.ثم انحدرت الى بغداد وخلفت عبد الله عنده فاذا عبد الله قد قدم وقد جاء بثيابي التي كانت عنده فقلت له ما جاء بك فقال قال لي انحدر وقل لصالح لا تخرج فانتم كنتم افتي والله لو استقبلت من امري ما استدبرت ما اخرجت واحدا منكم معي ولولا مكانكم لمن كانت توضع هذه المائدة?وفي رواية اخرى ثم انه مرض فاذن له المتوكل في العود الى بغداد فعاد.قال المروزي مرض ابوعبد الله ليلة الاربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة احدى واربعين ومائتين ومرض تسعة أيام وتسامع الناس فاقبلوا لعيادته ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون فربما اذن للناس فيدخلون افواجا يسلمون عليه فيرد عليهم بيده.وقال ابو عبد الله جاءني حاجب لابن طاهر فقال ان الامير يقرئك السلام وهو يشتهي ان يراك فقلت له هذا مما اكره وامير المؤمنين قد اعفاني مما اكره.ووضأته فقال خلل الاصابع فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملاوا السكك والشوارع فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله فصاح الناس وعلت الاصوات بالبكاء حتى كان الدنيا قد ارتجت.قال اسحاق مات ابو عبد الله وما خلف الا ستة قطع او سبعة وكانت في خرقة كان يمسح بها وجهه قدر دانقين.وعن حنبل قال اعطى بعض ولد الفضل بن الربيع ابا عبد الله وهو في الحبس ثلاث شعرات فقال هذا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فاوصى ابو عبد الله عند موته ان يجعل على كل عين شعرة وشعرة على لسانه ففعل ذلك به بعد موته.

(1/123)

وعن صالح بن أحمد قال قال لي أبي جئني بالكتاب الذي فيه حديث بن ادريس عن ليث عن طاووس انه كان يكره الانين فقراته عليه فلم يئن الا في الليلة التي مات فيها.وعن عبد الله بن احمد بن حنبل قال لما حضرت ابي الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لاشد بها لحييه فجعل يعرق ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده هكذا لا بعد لا بعد ففعل هذا مرة وثانية فلما كان في الثالثة قلت له يا ابة أي شيء هذا قد لهجت به فلي هذا الوقت تعرق حتى نقول قد قضيت ثم تعود فتقول لا بعد لا بعد.فقال لي يا بني ما تدري ما قلت قلت لا فقال ابليس لعنه الله قائم حدائي عاض على انامله يقول لي يا أحمد فتني فاقول لا بعد لا بعد حتى اموت.وعن بنان بن احمد القصباني انه حضر جنازة احمد بن حنبل فيمن حضر قال فكانت الصفوف من الميدان الى قنطرة باب القطيعة وحزر من حضرها من الرجال ثمان مائة الف ومن النساء ستين الف امرأة.يقال ان احمد بن حنبل لما مات مسحت الامكنة المبسوطة التي وقف الناس عليها للصلاة فحزر مقادير الناس بالمساحة على التقدير ستمائة الف واكثر سوى ما كان في الاطراف والجوالي والسطوح والمواضع المتفرقة اكثر من الف الف.وقال ابو بكر المروزي رأيت احمد بن حنبل في النوم كانه في روضة وعليه حلتان خضراون وعلى راسه تاج من النور واذا هو يمشي مشية لم اكن اعرفها فقلت يا احمد ما هذه المشية التي لم اكن اعرفها لك فقال هذه مشية الخدام في دار السلام فقلت ما هذا التاج الذي اراه على راسك فقال ان ربي عز وجل اوقفني وحاسبني حسابا يسيرا وحباني وقربني واباحني النظر إليه وتوجني بهذا التاج وقال لي يا احمد هذا تاج الوقار توجتك به كما قلت القرآن كلامي غير مخلوق.وعن ابي يوسف بن لحيان قال لما مات احمد بن حنبل راى رجل في منامه كان على كل قبر قنديلا فقال ما هذا فقيل له اما علمت انه نور لاهل القبور قبورهم بنزول هذا الرجل بين اظهرهم قد كان فيهم يعذب فرحم.

(1/124)

محمد بن مصعب ابو جعفر الدعاءوذكر محمد بن مصعب فقال استسقى ماء فحطت برادة فسمع صوتها فشهق وصاح ووقال يا محمد بن مصعب من اين لك في النار برادة قال رفع صوته فقرا وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل سورة الكهف اية 29.كان المامون قد امر محمد بن مصعب الى الحبس فقال وقد ذهب به الى الحبس ورفع رأسه الى السماء وقال اقسمت عليك ان حبستني عندهم الليلة فاخرج في جوف الليل. فصلى الغداة في منزله.يحيى بن ايوب ابو زكرياالعابد المعروف بالمقابري كان من خيار عباد الله ومن اهل السنة? ... 0عن العباس بن محمد بن عبد الرحمن الاشهلي قال حدثني ابي قال مررت بالمقابر فسمعت همهمة فاتبعت الاثر فاذا يحيى بن ايوب في حفرة من تلك الحفر واذا هو يدعو ويبكي ويقول يا قرة عين المطيعين ويا قرة عين العاصين.ولم لا يكون قرة عين المطيعين وانت مننت عليهم بالطاعة ولم لا تكون قرة عين العاصين وانت سترت عليهم الذنوب? قال ويعاود البكاء قال فغلبني البكاء ففطن لي فقال لي تعال لعل الله إنما بعث بك لخير.احمد بن نصر الخزاعيكان من كبار العلماء الامرين بالمعروف وسمع الحديث من مالك بن انس وحماد بن زيد وهشيم وغيرهم.امتحنه الواثق بالقرآن فأبى أن يقول انه مخلوق فقتله في يوم السبت غرة رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين بسر من راى فصلب جسده هناك وانفذ راسه الى بغداد فنصبه فلم يزل كذلك ست سنين ثم حط وجمع بين راسه وبدنه .....وعن داود بن سليمان قال حدثني ابي قال سمعت أحمد بن نصر الخزاعي يقول رأيت مصابا قد وقع فقرات في اذنه فكلمتني الجنية من جوفه يا ابا عبد الله بالله دعني اخنقه فانه يقول القرآن مخلوق.قال ابا عبد الله احمد بن حنبل وذكر احمد ابن نصر فقال رحمه الله ما كان اسخاه لقد جاد بنفسه.

(1/125)

وعن ابراهيم بن اسماعيل بن خلف قال كان احمد بن نصر خلى فلما قتل في المحنة وصلب اخبرت ان الرأس يقرأ القرآن فمضيت وبت بقرب من الرأس مشرفا عليه وكان عند رجالة وفرسان يحفظونه فلما هدات العيون سمعت الرأس يقرأ الم احسب الناس ان يتركون ان يقولوا امنا وهم لا يفتنون سورة العنكبوت اية 1-2. فاقشعر جلدي ثم رايته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والاستبرق وعلى راسه تاج فقلت ما فعل الله بك يا اخي قال غفر لي وادخلني الجنة الا اني مغموما ثلاثة أيام قلت ولم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بي فلما بلغ خشبتي حول وجهه عني فقلت بعد ذلك يا رسول الله قتلت على الحق او على الباطل فقال انت على الحق ولكن قتلك رجل من أهل بيتي فاذا بلغت اليك استحيي منك وعن ابراهيم بن الحسن قال راى بعض اصحابنا احمد بن نصر في النوم بعد ما قتل فقال له ما فعل الله بك قال ما كانت الا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك الي رحمه الله.ابو محمد الطيب بن اسماعيل ويعرف بابي حمدون الدلالكان احد القراء المشهورين والزهاد الصالحين.عن ابي العباس احمد بن مسروق قال سمعت ابا حمدون المقرىء يقول صليت ليلة فقرات فأدغمت حرفا فحملتني عيني فرأيت كأن نورا قد تلبب بي وهو يقول لي بيني وبينك الله قال قلت من انت قال انا الحرف الذي ادغمتني. قال قلت لا اعود فانتبهت فما عدت ادغم حرفا.ان ابا حمدون الطيب بن اسماعيل كف بصره فقاده قائده ليدخله المسجد فلما بلغ المسجد قال له قائده يا استاذ اخلع نعليك قال يا بني لم اخلعهما قال لان فيهما اذى فاغتم ابو حمدون وكان من عباد الله الصالحين فرفع يده ودعا بدعوات ومسح بها وجهه فرد الله إليه بصره ومشى.كان لابي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلثمائة من اصدقائه قال وكان يدعو لهم كل ليلة فتركهم ليلة فنام فقيل له في نومه يا ابا حمدون لم تسرج مصابيحك الليلة قال فقعد واسرج واخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ.

(1/126)

من خيار الزهاد المشتهرين بالقرآن كان يقصد المواضع التي ليس فيها احد يقرىء الناس فيقرئهم حتى اذا حفظوا انتقل الى اخرين بهذا النعت وكان يلتقط المنبوذ كثيرا رحمه الله.مسرور بن ابي عوانة وكان عابدا مجتهدا.عن اسماعيل بن زياد ابو يعقوب قال قد رأيت العباد والمجتهدين ما رأيت احدا قط اصبر على صلاة الليل والنهار وطول السهر والقيام من مسرور بن ابي عوانة.كان يصلي الليل والنهار لا يفتر.قال وقدم علينا مرة فقال اخرجوني الى الساحل انظر إلى الماء حتى لا أنام.كان ابو عوانة من اكثر الناس صلاة بالليل واطوله اجتهادا فلما قدم علينا مسرور بن ابي عوانة قال لي أبو عوانة يا ابا المساور احتقرت والله نفسي او قال تصاغرت الى نفسي.الحارث بن اسد المحاسبيقال حارث المحاسبي ثلاثة اشياء عزيزة او معدومة حسن الوجه مع الصيانة وحسن الخلق مع الديانة وحسن الاخاء مع الامانة.وقال الجنيد كنت كثيرا اقول للحارث عزلتي انسي فيقول كم تقول انسي وعزلتي لو ان نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم انسا ولو ان نصف الخلق الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم.وقال كان الحارث كثير الضر فاجتاز بي يوما وأنا جالس على بابنا فرأيت على وجهه زيادة الضر من الجوع فقلت له يا عم لو دخلت الينا فنلت من شيء عندنا وعمدت الى بيت عمي كان اوسع من بيتنا لا يخلو من اطعمة فاخرة لا يكون مثلها في بيتنا سريعا فجئت بانواع كثيرة من الطعام فوضعته بين يديه فمد يده فاخذ لقمة فرفعها الى فيه فرايته يلوكها ولا يزدردها ثم وثب فخرج وما كلمني.فلما كان الغد لقيته فقلت يا عمر سررتني ثم نغصت علي فقال يا بني اما الفاقة فكانت شديدة وقد اجتهدت في ان انال من الطعام الذي قدمت الي ولكن بيني وبين الله علامة اذا لم يكن الطعام مرضيا ارتفع الى انفي منه زفورة فلم تقبله نفسي فقد رميت بتلك اللقمة في دهليزكم وخرجت.وقال الجنيد مات ابو حارث المحاسبي وان الحارث لمحتاج الى دانق فضة.

(1/127)

وخلف ابوه ومالا كثيرا وما اخذ منه حبة واحدة وقال اهل ملتين لا يتوارثان وكان أبوه واقفيا.عبد الوهاب بن الحكم يكنى ابا الحسن.عن ابي بكر الحسن بن عبد الوهاب الوراق قال ما رأيت ابي ضاحكا قط الا تبسما ومارايته مازحا قط ولقد راني مرة وانا اضحك مع امي فجعل يقول لي صاحب قران يضحك هذا الضحك? وعن ابي بكر المروزي قال سمعت ابا عبد الله يقول عبد الوهاب الوراق رجل صالح مثله يوفق لاصابة الحق.وعنه قال قال لي عبد الوهاب يعني الوراق انت كيف استخرت تقيم بسر من راى فذكرت ذلك لاحمد فقال فلم لم تقل له ما كان بد للاسير ممن يخدمه ثم قال لا نزال بخير ما كان في الناس من ينكر علينا.وعنه قال سمعت اسحاق بن داود يقول كنت ادعو عبد الوهاب فاضع الطعام بين يديه فاكل واتركه فيقول لي يا ابا يعقوب قل لي كل فاتغافل عنه واكل فياخذ بيدي يقول لي قل لي كل فاقول له فلم دعوتك? ... 0وكان مختصا بصحبة احمد بن حنبل وكان احمد يقول اني لادعو الله له ومن يقوى على ما يقوى عليه عبد الوهاب وقيل له عند موته من نسأل بعدك فقال سلوا عبد الوهاب.عن عاصم الحربي قال رأيت في المنام بشر بن الحارث الحافي فقلت من اين يا ابا نصر فقال من عليين قلت ما فعل احمد بن حنبل قال تركت الساعة احمد بن حنبل وعبد الوهاب الوراق بين يدي الله تعالى ياكلان ويشربان ويتنعمان رحمها الله.السري بن المغلس السقطيخال الجنيد واستاذه وقد ذكرنا في اخبار معروف انه دعا له وقال اغنى الله قلبك فوقع الزهد في قلبه حينئذ.ان سريا السقطي مرت به جارية معها اناء فيه شيء فسقط من يدها فانكسر فاخذ سري شيئا من دكانه فدفعه اليها بدل ذلك الاناء فنظر إليه معروف الكرخي فاعجبه ما صنع فقال له معروف بغض الله اليك الدنيا.

(1/128)

وعن مظفر المقري قال سمعت علان الخياط وجرى بيني وبينه مناقب سري السقطي فقال علان كنت جالسا مع سري يوما فوافته امرأة فقالت يا ابا الحسن انا من جيرانك اخذ ابني الطائف وانا اخشى ان يؤذيه فان رأيت ان تجيء معي او تبعث اليه.قال علان فتوقعت ان يبعث إليه فقام وكبر وطول في صلاته فقالت المراة يا ابا الحسن الله الله في هوذا اخشى ان يؤذيه السلطان فسلم وقال لها انا في حاجتك.قال علان فما برحت حتى جاءت امرأة الى المراة فقالت الحقي قد خلوا ابنك.قال علان واي شيء يتعجب من هذا اشتري كر لوز بستين دينارا وكتب في روزنامجه ثلاثة دنانير ربحه فصار كر اللوز بتسعين دينارا فاتاه الدلال وقال اريد ذاك اللوز فقال خذه فقال بكم قال بثلاثة وستين دينار قال له الدلال ان اللوز قد صار الكر بتسعين فقال له قد عقدت بيني وبين الله عقدا لا احله: ليس ابيعه الا بثلاثة وستين دينارا فقال له الدلال اني قد عقدت بيني وبين الله تعالى لا اغش مسلما لست اخذ منك الا بتسعين دينارا فلا الدلال اشترى منه ولا سري باعه فكيف لا يستجاب دعاء من هذا فعله?.قال سري بن المفلس غزونا ارض الروم فمررت بروضة خضرة فيها الخيار وحجر منقور فيه ماء المطر فقلت في نفسي لئن اكلت يوما حلالا فاليوم فنزلت عن دابتي وجعلت اكل من ذلك الخيار وشربت من ذلك الماء فاذا هاتف يهتف بي يا سري النفقة التي بلغت لها الى ها هنا من أين?قال سري بن المغلس اشتهي منذ ثلاثين سنة جزرة اغمسها في الدبس واكلها فما يصح لي.وعن حسن المسوحي قال دفع الي سري السقطي قطعة فقال اشتر لي باقلي من رجل قدره داخل الباب فطفت الكرخ كله فلم اجد الا من قدره خارج الباب فرجعت إليه فقلت خذ قطعتك فاني لا اجد الا من قدره خارج.وعن ابي عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي قال سمعت سريا السقطي يقول اني لاذكر مجيء الناس الي فاقول اللهم هب لهم من العلم ما يشغلهم عني فاني لا اريد مجيبئهم ولا ان يدخلوا علي.

(1/129)

وعن علي بن عبد الحميد الغضائري قال سمعت السري السقطي ودققت عليه الباب فقام الى الباب فسمعته يقول اللهم اشغل من يشغلني عنك بك.قال ابن المقري وزادني بعض اصحابنا عنه انه قال فكان من بركة دعائه اني حججت اربعين حجة على رجلي من حلب ذاهبا وراجعا.وعن جنيد قال دخلت على سري وهو جالس يبكي وبين يديه كوز مكسور.فجلست حتى سكت فقلت ما يبكيك قال كنت صائما فجاءت ابنتي بكوز فيه ماء فعلقته هناك فقالت يبرد لك لتفطر عليه فحملتني عيني ف رأيت كان جارية قد دخلت علي من هذا الباب عليها قميص فضة وفي رجلها نعلان لم ار قدما قط في نعل احسن منهما فقلت لها لمن انت قالت لمن لا يبرد الماء في الكيزان الخضر وضربت بكمها الكوز فرمت به وهو هذا ثم انتبهت.قال جنيد فمكثت اختلف إليه مدة طويلة أرى الكوز بين يديه مكسورا عليه التراب وهو لا يرفعه.وعنه قال قال لي سري ان أمكنك ألا تكون آلة بيتك الا خزفا فافعل قال لي الجنيد وهكذا كانت آلة بيته وسمعت سريا يقول رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل قال وكان سري اذا جن عليه الليل دافع اوله ثم دافع ثم دافع فاذا غلبه الامر اخذ في النحيب والبكاء.قال السري ما ارى لي على احد فضلا قيل ولا على المخنثين قال ولا على المخنثين? قال السلمي وسمعت ابا بكر محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت ابا عمر الانماطي يقول سمعت الجنيد يقول سمعت السري يقول من اراد ان يسلم دينه ويستريح قلبه وبدنه ويقل غمه فليعتزل الناس لان هذا زمان عزلة ووحدة.قال السري كل الدنيا فضول الا خمس خصال خبز يشبعه وماء يرويه وثوب يستره وبيت يكنه وعلم يستعمله.وعن علي بن عبد الحميد الغضائري قال سمعت السري يقول من لم يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم ومن هانت عليه المصائب احرز ثوابها.

(1/130)

وعنه قال سمعت السري يقول قليل في سنة خير من كثير في بدعة كيف يقل عمل مع تقوى وسمعته يقول اقوى القوة غلبتك نفسك ومن عجز عن ادب نفسه كان عن ادب غيره اعجز ومن اطاع من فوقه اطاعه من دونه ومن خاف الله خافه كل شيء.وقال ان اغتممت بما ينقص من مالك فابك على ما ينقص من عمرك.وقال من قلة الصدق كثرة الخلطاء ومن علامة الاستدراج العمي عن عيوب النفس.وعنه قال سمعت السري يقول اجلد الناس من ملك غضبه ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله ولن يكمل رجل حتى يؤثر دينه على شهوته ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.وعن الجنيد قال سمعت سريا يقول ما احب ان اموت حيث اعرف اخاف الا تقبلني الارض فافتضح.وقال سمعت سريا يقول اني لانظر الى انفي في كل يوم مرتين مخافة ان يكون قد اسود وجهي.احمد بن عبد الله قال اخبرني جعفر بن محمد في كتابه قال سمعت الجنيد قال سمعت السري بن مغلس يقول لو احسست بانسان يريد ان يدخل علي فقلت بلحيتي كذا وامر يده على لحيته كانه يريد تسويتها من أجل دخول الداخل لخفت ان يعذبني الله على ذلك بالنار.وسمعته يقول أحب ان اكل اكلة ليس لله علي فيها تبعة ولا لمخلوق علي فيها منة فما اجد الى ذلك سبيلا.وسمعته يقول خرجنا يوما من مكة فلما اصحرنا رأيت في مجرى السيل طاقة بقل فمددت يدي فاخذتها وقلت الحمد لله ورجوت ان تكون حلالا ليس لمخلوق فيها منة فقال لي بعض من راني وقد اخذتها يا ابا الحسن التفت فالتفت فاذا مثل تلك الطاقة كثير فقال لي خذ فقلت له الطاقة الاولى ليس لاحد فيها منة وهذا بدلالتك وانما اريد ما لا منة فيه لمخلوق ولا لله فيه تبعة.قال وسمعته يقول كنت بطرسوس فكان معي في الدار فتيان متعبدون وكان في الدار تنور يخبزون فيه فانكسر التنور فعملت بدله من مالي فتورعوا ان يخبزوا فيه.وقال له رجل كيف انت? فانشا يقول:من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الاكباد وسمعته

(1/131)

يقول اللهم ما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب.وسمعته يقول اذا فاتني جزء من وردي لا يمكنني ان اقضيه ابدا.وسمعته يقول اذا ابتدا الانسان ثم كتب الحديث فتر واذا ابتدا بكتبه الحديث ثم تنسك نفذ.وذكر له اهل الحقائق من العباد فقال اكلهم اكل المرضى ونومهم نوم الغرقى.وسمعته يقول احذر لا تكون ثناء منشورا وعيبا مستورا.وسمعته يقول وقد ذكر الناس فقال لا تعمل لهم شيئا ولا تترك لهم شيئا ولا تعط لهم شيئا ولا تكشف لهم عن شيءيريد بهذا ان تكون اعمالك كلها لله تعالى.قال وسمعت الحسن البزار يقول سألت احمد بن حنبل عن السري بعد قدومه من الثغر فقال اليس الشيخ الذي يعرف بطيب الغذاء قلت بلى فقال هو على سترة عندنا قبل ان يخرج.وقد كان السري يكثر من ذكر طيب الغذاء وتصفية القوت وشدة الورع حتى انتشر ذلك وبلغ احمد بن حنبل.قال الجنيد وكان السري يقول لنا ونحن حوله انا لكم عبرة يا معشر الشباب اعملوا فانما العمل في الشبيبة وكان يقول من الناس ناس لو مات نصف احدهم ما انزجر النصف الاخر ولا احسبني الا منهم.وسمعت السري يقول قلوب المؤمنين معلقة بالسوابق وقلوب الابرار معلقة بالخواتيم هؤلاء يقولون بماذا يختم لنا واولئك يقولون ماذا سبق من الله لنا?.وعن ابي عبيد بن حربوية قال سمعت السري السقطي يقول من النذالة ان ياكل الانسان بدينه.قال السري من حاسب نفسه استحيا الله من حسابه وسمعته يقول من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.وعن ابي عبيد بن حربوية قال سمعت سريا السقطي يقول سلب الدنيا عن اوليائه وحماها عن اصفيائه واخرجها من قلوب اودائه لانه لم يرضها لهم.

(1/132)

قال السري بن مغلس انقطع من انقطع عن الله بخصلتني واتصل من اتصل بالله باربع خصال فاما من انقطع عن الله فانه يتخطى الى نافلة بتضييع فرض والثاني عمل بظاهر الجوارح لم يواطىء عليه صدق القلوب واما الذي اتصل به المتصلون فبلزوم الباب والتشمير في الخدمة والصبر على المكاره وصيانات الكرامات.وعن ابي بكر النساخ قال سمعت السري يقول لو علمت ان جلوسي في البيت افضل من خروجي الى المجلس ما خرجت ولو علمت ان جلوسي معكم افضل من جلوسي في البيت ما جلست ولكني ان دخلت اقتضاني العلم لكم وان خرجت نافرتني الحقيقة فانا عند منافرتي مستحى وانا عند اقتضاء العلم محجوج.وعن الجنيد قال سمعت السري يقول وددت ان حزن الخلق كلهم علي.وسمعته يقول ان في النفس لشغلا عن الناس.وعن محمد بن علي الحربي قال سمعت سريا يقول حمدت الله مرة وانا استغفر الله من ذلك الحمد منذ ثلاثين سنة قيل وكيف ذلك قال كان لي دكان وكان فيه متاع فوقع الحريق في سوقنا فقيل لي فخرجت اتعرف خبر دكاني فلقيت رجلا فقال ابشر فان دكانك قد سلم فقلت الحمد لله ثم افكرت فرايتها خطيئة.وعن الجنبيد قال دخلت على سري السقطي فسلمت وجلست فقال لي اقرب مني فقربت منه فاخذ بيدي وقال لي اعلم يا بني ان الشوق والانس يرفرفان على القلب فان وجدا هنالك الهيبة والاجلال حلا والا رحلا.وععن ابن مسروق قال سمعت سريا يقول ثلاث من كن فيه استكمل الايمان من اذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق واذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل واذا قدر لم يتناول ما ليس له.وعن جنيد قال سمعت سريا يقول اذا فاتني شيء من وردي لم اقدر ان اعيده.قال جنيد كان سري متصل الشغل وكان اذا فاته شيء لا يقدر ان يعيده وكذا كان عمر بن الخطاب لم يكن له وقت ينام فيه فكان ينعس وهو قاعد فقيل له يا امير المؤمنين الا تنام فقال كيف انام ان نمت بالنهار ضيعت امور المسلمين وان نمت بالليل ضيعت حظي من الله عز وجل.

(1/133)

وعنه قال أخبرنا سري السقطي قال صليت ليلة ثم جلست ساعة ومددت رجلي فنوديت في سري يا سري من جالس الملوك ينبغي ان يحسن الادب.قال الجنبيد ما رأيت اعبد لله من السري اتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رئي مضطجعا الا في علة الموت.قال سري بن المغلس لو ان رجلا دخل الى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الاشجار عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الاطيار فخاطبه كل طائر منها بلغته وقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه الى ذلك كانت في يدها اسيرا.وعن ابراهيم بن السري قال سمعت ابي يقول عجبت لمن غدا وراح في طلب الارباح وهو مثل نفسه لا يربح ابدا وسمعت ابي يقول لو اشفقت هذه النفوس على اديانها شفقتها على اولادها لاقت السرور في معادها.وعن الجنيد بن محمد قال سمعت سريا يقول لولا الجمعة والجماعة لسددت على نفسي الباب ولم اخرج.قال سري لاخوانه الدهر ثلاثة أيام يوم مضى بؤسه وشدته وغمه لم يبق منه شيء واليوم الذي انت فيه صديق مودع لك طويل الغيبة عنك سريع الرحلة عنك وغدا في يديك تأميله ولعلك من غير اهله.وقال امس اجل واليوم عمل وغدا امل.وقال الجنيد كنت نائما عند سري رحمه الله فانبهني فقال لي يا جنيد رأيت كأني قد وقفت بين يدي الله تعالى فقال لي يا سري خلقت الخلق فكلهم ادعى محبتي وخلقت الدنيا فهرب مني تسعة اعشارهم وبقي معي العشر وخلقت الجنة فهرب مني تسعة اعشار العشر وبقي معي عشر العشر فسلطت عليهم ذرة من البلاء فهرب مني تسعة اعشار عشر العشر فقلت للباقين معي لا الدنيا اردتم ولا الجنة اخذتم ولا من النار هربتم فماذا تريدون قالوا انك تعلم ما نريد فقلت لهم فاني مسلط عليكم من البلاء بعدد انفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي اتصبرون قالوا اذا كنت انت المبتلي لنا فافعل ما شئت فهؤلاء عبادي حقا.

(1/134)

وعنه قال كنت يوما عند السري بن مغلس وكنا خاليين وهو متزر بمئزر فنظرت الى جسده كانه جسد سقيم دنف مضني كاجهد ما يكون فقال انظر الى جسدي هذا لو شئت أن أقول ان ما بي من المحبة لله تعالى لكان كما اقول وكان وجهه اصفر ثم اشرب حمرة حتى تورد ثم اعتل فدخلت عليه اعوده فقلت له كيف تجدك فقال:كيف اشكو الى طبيبي ما بي? والذي بي اصابني من طبيبيفاخذت المروحة اروحه فقال لي كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل ثم أنشأ يقول:القلب محترق والدمع مستبق والكرب مجتمع والصبر مفترقكيف القرار على من لا قرار له مما جناه الهوى والشوق والقلق?يا رب ان كان شيء فيه لي فرج فامنن علي به بي ما دام بي رمقوعنه قال دخلت على سري السقطي وهو في النزع فجلست عند راسه فوضعت خدي على خذه فدمعت عيناي فوقع دمعي على خده ففتح عينيه فقال لي من انت قلت انا خادمك الجنيد فقال مرحبا فقلت له ايها الشيخ اوصني بوصية انتفع بها بعدك قال أياك ومصاحبة الاشرار وان تنقطع عن الله بصحبة الاخيار.علي بن الموفق ابو الحسن العابدقال علي بن الموفق قام رجل من اخوانكم في ليلة باردة فلما تهيا للصلاة اذا شقاق في يديه ورجليه فبكى فهتف به هاتف من البيت ايقظناك وانمناهم وتبكي علينا.قال علي بن الموفق لما تم لي ستون حجة خرجت من الطواف وجلست بحذاء الميزاب وجعلت اتفكر لا ادري أي شيء حالي عند الله وقد كثر ترددي الى هذا المكان قال فغلبتني عيني فكان قائلا يقول يا علي اتدعو الى بيتك الا من تحبه فانتبهت وقد سري عني ما كنت فيه.

(1/135)

قال علي بن الموفق حججت نيفا وخمسين حجة فنظرت الى اهل الموقف وضجيج اصواتهم فقلت اللهم ان كان في هؤلاء احد لم يتقبل حجة فقد وهبت حجتي له فرحت الى مزدلفة فبت بها فرأيت رب العزة تعالى في المنام فقال لي يا علي يا ابن الموفق تتسخى علي? قد غفر لاهل الموقف ولامثالهم وشفعت كل واحد منهم في اهل بيته وعشيرته وذريته وأنا أهل التقوى واهل المغفرة.ابو شعيب البراثي العابدأبو شعيب البراثي اول من سكن براثا في كوخ يتعبد فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار ابناء الدنيا فتجردت ما كانت فيه وتزوجت به مكثا سنين كثيرة يتعبدان احسن عبادة وتوفيا على ذلك متعاونين رحمهما الله.ابو عبد الله بن ابي جعفر البراثيقال ابو مريم لابي عبد الله البراثي كم تبكي كم هذا البكاء فاخرج الي يده واذا على اصبعه شعرة ملفوفة فنشرها ثم قال اذا كان المجاز على مثل هذه فاي قدم يثبت على مثل هذا ثم بكى.قال البراثي لن يرد القيامة ارفع درجة من الراضين عن الله على كل حال ومن وهب له الرضا فقد بلغ افضل الدرجات ومن زهد على حقيقة كانت مؤنته خفيفة ومن لم يعرف ثواب الاعمال ثقلت عليه في جميع الاحوال.وعنه قال سمعت ابا عبد الله البراثي يقول كرمك اطعمنا سيدي في عفوك وجودك اطعمن في فضلك وذنوبنا قد تؤيسنا من ذلك وتابى قلوبنا لمعرفتها بك ان تقطع رجاءها بك منك فتفضل ايها الكريم وجد بعفوك يا رحيم.وعنه قال سمع ابا عبد الله البراثي يقول بالمعرفة هانت على العاملين العبادة وبالرضا عن الله عز وجل في تدبيره زهدوا في الدنيا ورضوا منها لانفسهم بتقديره.وعنه قال سمعت ابا عبد الله البراثي يقول من كرمت نفسه عليه رغب بها عن الدنيا.قال ابوعبد الله البراثي حملتنا المطامع على اسوا الصنائع نذل لمن لا يقدر لنا على ضرر ولا على نفع ونخضع لمن لا يملك لنا رزقا ولا حياة ولا موتا ولا نشورا فكيف ازعم اني اعرف ربي حق معرفته وانا اصنع ذلك هيهات هيهات.ابو جعفر المحولي

(1/136)

قال ابو جعفر المحولي وكان عابدا عالما حرام على قلب محب الدنيا ان يسكنه الورع الخفي وحرام على نفس عليها رياسة الناس ان تذوق حلاوة الاخرة وحرام على كل عالم لم يعمل بعلمه أن يتخذه المتقون إماما.قال ابو جعفر المحولي اليك اشكو بدنا غذي بنعمتك ثم توثب على معاصيك.قال ابو جعفر يوما وذكر عنده الفالوذج فقال ان قلبا يتفرغ لصنعة الفالوذج حتى ياكله لقلب فارغ جدا ثم بكى.وعنه قال سمعت ابا جعفر المحولي يقول اذا جاع العبد صفا بدنه ورق قلبه وهطلت دمعته واسرعت الى الطاعة اطواره وجوارحه وعاش في الدنيا كريما.ابراهيم الاجري الكبيرقال ابراهيم الاجري وكان من الفاضلين لان ترد همك الى الله عز وجل ساعة خير لك مما طلعت عليه الشمس.ابو بكر محمد بن مسلم بن عبد الرحمن القنطريكان ينزل قنطرة البردان وكان يشبه في الزهد والورع والشغل عن الدنيا واهلها ببشر بن الحارث وكان قوته شيئا يسيرا انما كان فيما اخبرت عنه يكتب جامع سفيان الثوري لقوم لا يشك في صلاحهم ببضعة عشر درهما فمنها قوته.وعن ابي بكر احمد بن محمد المروزي قال دخلت على ابي بكر بن مسلم صاحب قنطرة البردان يوم عيد فوجدته عليه قميص مرفوع نظيف ومطبق وقدامة قليل خرنوب يقرضه فقلت يا ابا بكر اليوم عيد الفطر وتاكل خرنوبا? فقال لي لا تنظر الى هذا ولكن انظر ان سالتني عنه من اين هو ايش اقول? وقال الجنيد بن محمد عبرت يوما إلى أبي بكر بن مسلم في نصف النهار فقال ما كان لك في هذا الوقت عمل يشغلك عن المجيء الي قلت اذا كان مجيئي اليك عملا فما اعمل.وعنه قال كان لي شيوخ كانت رؤيتهم لي قوة من الاسبوع الى الاسبوع وان ابا بكر بن مسلم منهم.قال ابو بكر بن مسلم الدنيا لاي شيء تراد ان كان انما تراد للذة فلا كانت الدنيا ولا كان اهلها انما تراد الدنيا ان يطاع الله فيها.أيوب الحمالمن العباد المجتهدين من ذوي الكرامات وهو من اقران بشر وسري وصحب سهل بن عبد الله.

(1/137)

عن محمد بن خالد قال سمعت ايوب الحمال يقول عقدت على نفسي الا امشي غافلا ولا امشي الا ذاكرا فمشيتت مشية فاخذتني عرجة فعلمت من اين اتيت فبكيت واستغثت وتبت فزالت العلة والعرجة فرجعت الى الموضع الذي غفلت فيه فرجعت الى الذكر فمشيت سليما.قال فلما ان ظعنا في البادية وسرنا منازل اذا عصفور يحوم علينا وحولنا فرفع ايوب راسه فنظر إليه فقال له قد جئت الى ههنا واخذ خبزا ففته له في كفه فوقع العصفور على يده وجعل ياكل منها ثم صب له ماء فشرب ثم قال له اذهب الان فطار العصفور فلما كان من الغد رجع العصفور ففعل به ايوب مثل ما فعل في اليوم الاول ثم لم يزل يفعل به ذلك حتى انتهى الى آخر السفرة.محمد بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن بن عبد الصمد مولى سعيد بن العاص القرشيقال محمد بن ابي الورد هلاك الناس في حرفين اشتغال بنافلة وتضييع فريضة وعمل بالجوارح بلا مواطاة القلب عليه وانما منعوا الوصول بتضييع الاصول.قال ابو الحسن محمد بن محمد بن ابي الورد اشكر الخلق لله عز وجل من لم ير انه شكر الله عز وجل قط.وسئل محمد عن قوله افمن زين له سوء عمله فراه حسنا سورة فاطر 8 قال من ظن في اساءته انه محسن.وقال من آداب الفقير في فقره ترك الملامة والتعبير لمن ابتلي بطلب الدنيا والرحمة والشفقة عليه والدعاء له ليريحه الله من تعبه فيها.وقال ان لله عز وجل يوما لا ينجو من شره منقاد لهواه وان ابطا الصرعى نهضة يوم القيامة صريع الشهوة وان العقل معدن والفكرمعول فبقدر الطاقة والقوة يكون انتهاؤه وعلى العاقل مراعاة قلبه وحفظ ساعته لا غير.ما زال مشهورا بالورع والزهد والفضل والانكماش في العبادة حتى فارق الدنيا.احمد بن محمد بن ابي الوردقال بن ابي الورد ولي الله اذا زاد جاهه زاد تواضعه واذا زاد ماله زاد سخاؤه واذا زاد عمره زاد اجتهاده.

(1/138)

وقال وصل القوم بخمس بلزوم الباب وترك الخلاف والنفاذ في الخدمة والصبر على المصائب وصيانة الكرامات.وعن ابي علي الروذباري قال كان احمد ومحمد ابنا محمد بن ابي الورد صحبا ابا عبد الله الساجي وكان ابو عبد الله يقول من أراد ان يخدم الفقراء فليخدم خدمة ابني الورد صحباني عشرين سنة ما سالاني مسالة قط وما رأيت منهما منكرا قط.محمد بن منصور الطوسيقال محمد بن منصور ست خصال يعرف بها الجاهل الغضب في غير شيء والكلام في غير نفع والعظة في غير موضعها وافشاء السر والثقة بكل احد ولا يعرف صديقه من عدوه.محمد السمنيقال الجنيد قال لي محمد السمني كنت في وقت من الاوقات اعمل على الشوق وكنت اجد من ذلك شيئا انه به مشتغل فخرجت الى الغزو وهذه الحالة حالي وغزا الناس وغزوت معهم فكثر العدو على المسلمين وتقاربوا والتقوا ولزم المسلمين من ذلك خوف لكثرة الروم.قال احمد فرأيت نفسي في ذلك الموطن وقد لحقها روع فاشتد ذلك علي وجعلت أوبخ نفسي والومها واؤنبها واقول لها كذابة تدعين الشوق فلما جاء الموطن الذي يؤمل في مثله الخروج اضطربت وتغيرت فانا اوبخها اذا وقع لي انزل الى النهر فاغتسل فخلعت ثيابي واتزرت ودخلت النهر فاغتسلت وخرجت وقد اشتدت لي عزيمة لا ادري ما هي? فخرجت بقوة تلك العزيمة ولبست ثيابي واخذت سلاحي ودنوت من الصفوف وحملت بقوة تلك العزيمة حملة وانا لا ادري كيف انا فخرقت صفوف المسلمين وصفوف الروم حتى صرت من ورائهم ثم كبرت تكبيرة فسمع الروم تكبيرا فظنوا ان كمينا قد خرج عليهم من ورائهم فولوا وحمل عليهم المسلمون فقتل من الروم بسبب تكبيرتي تلك نحو اربعة الاف وجعل الله عز وجل ذلك سببا للفتح والنصر.زهير بن محمد بن قميرعن ابي القاسم احمد بن منيع قال ما رأيت بعد ابي عبد الله احمد بن حنبل ازهد من زهير بن قمير.

(1/139)

وعن محمد بن زهير بن قمير قال كان ابي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان.قال زهير اشتهي لحما من اربعين سنة ولا اكله حتى ادخل الروم فاكله من مغانم الروم.ابراهيم بن هانىء ابو اسحاق النيسابوريرحل في طلب العلم الى البلدان واستوطن بغداد واختفى عنده احمد بن حنبل وكان يثني عليه ويقول لا اطيق ما يطيق ابراهيم من العبادة.عن ابي بكر النيسابوري قال حضرت ابراهيم بن هانىء عند وفاته فقال لابنه اسحاق انا عطشان فجاءه بماء فقال غابت الشمس قال قال لا قال فرده.ثم قال لمثل هذا فليعمل العاملون سورة الصافات آية 61 ثم خرجت روحه.وعن ابي بكر بن زنجويه قال قال احمد بن حنبل ان كان ببغداد من الابدال احد فأبو اسحاق ابراهيم بن هانىء.فتح بن شحرف بن داودوعن رويم بن احمد قال لقيني يوما الفتح بن شحرف فقال يا أبا محمد أنت أمين الله على نفسك لا ترى علي شيئا محتاج إليه ولا عندي شيء تزحمك الحاجة إليه فتتخلف عن أخذه.وعن محمد بن المسيب قال قال الإمام احمد بن حنبل ما أخرجت خراسان مثل فتح بن شحرف.كتب فتح بن شحرف على باب بيته: رحم الله ميتا دخل على هذا الميت فلم يذكر الموتى عنده إلا بخير.وقال احمد بن عبد الجبار سمعت ابي يقول صحبت فتح بن شحرف ثلاثين سنة فلم أره رفع رأسه إلى السماء ثم رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه ونظر إلى السماء ثم قال قد طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك.قال الفتح بن شحرف يقول رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في النوم فقلت له يا أمير المؤمنين أوصني قال لي ما احسن تواضع الأغنياء للفقراء واحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء قال فقلت له زدني فاوما الي بكفه فإذا فيه مكتوب:قد كنت ميتا فصرت حيا وعن قليل تصير ميتاأغنى بدار الفناء بيت فابن بدار البقاء بيتا

(1/140)

قال أبو محمد الحريري غسلت الفتح بن شحرف فقلبته على يمينه فإذا على فخذه الأيمن مكتوب خلقه الله كتابة بينة قال جعفر و رأيت الفتح بين شحرف هذا وكان رجلا صالحا زاهدا لم ياكل الخبز ثلاثين سنة وكان ذا أخلاق حسنة وكان يطعم الفقراء ومن يزوره من الأصحاب الطعام الطيب وكان حسن العبادة والورع والزهد.عن أبي محمد الحريري قال غسلنا الفتح بن شحرف فرأينا على فخذه مكتوبا لا اله إلا الله فتوهمناه مكتوبا فإذا هو عرق داخل الجلد.أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربيكان إماما في جميع العلوم وله التصانيف الحسان وكان زاهدا في الدنيا ...وعن القاسم بن بكير قال سمعت إبراهيم الحربي يقول ما كنا نعرف من هذه الاطبخة شيئا كنت اجيء من عشاء إلى عشاء وقد هيات لي امي باذنجانة مشوية أو لعقة بن أو باقة فجل.وقال أبو بكر بن علي الخراط كنت يوما جالسا مع إبراهيم بن اسحاق على باب داره فلما ان اصبحنا قال لي يا ابا علي قم إلى شغلك فان عندي فجلة قد اكلت البارحة خضرتها اقوم اتغذى بجزرتها.جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم بعشرة آلاف درهم من عند المعتضد يسأله عن أمر أمير المؤمنين يفرق ذلك فرده فانصرف الرسول ثم عاد فقال أن أمير المؤمنين يسألك ان تفرقه في جيرانك فقال عافاك الله هذا مال لم نشغل انفسنا بجمعه فلا نشغلها بتفرقته قل لأمير المؤمنين ان تركتنا والا تحولنا من جوارك.

(1/141)

اعتل إبراهيم الحربي علة حتى اشرف على الموت فدخلت إليه يوما فقال لي يا أبا القاسم أنا في أمر عظيم مع ابنتي ثم قال لها قومي اخرجي إلى عملك فخرجت فألقت على وجهها خمارها فقال لها إبراهيم هذا عمك كلميه فقالت لي يا عم نحن في أمر عظيم لا في الدنيا ولا في الآخرة الشهر والدهر ما لنا طعام إلا كسر يابسة وملح وربما عدمنا الملح وبالأمس قد وجه إليه المعتضد مع بدر بألف دينار فلم يأخذها ووجه إليه فلان وفلان فلم يأخذ منهما شيئا وهو عليل. فالتفت الحربي إليها وتبسم وقال يا بنية إنما خفت الفقر قالت نعم قال انظري إلى تلك الزاوية فنظرت فإذا كتب فقال هناك اثنا عشر ألف جزء لغة وغريب كتبته بخطي إذا مت فوجهي كل يوم بجزء فبيعه بدرهم فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم فليس هو فقير.وقال احمد بن سليمان القطيعي اضقت اضافة فمضيت إلى إبراهيم الحربي لابثه ما انا فيه فقال لي لا يضيق صدرك فان الله من وراء المعونة اني اضقت مرة إلى ان انتهى امري في الاضافة إلى ان عدم عيالي قوتهم فقالت لي الزوجة هب اني وإياك نصبر فكيف نعمل بهاتين الصبيتين فهات شيئا من كتبك حتى نبيعه أو نرهنه فضننت بذلك فقلت اقترضي لهما شيئا وانظريني بقية اليوم والليلة وكان لي بيت في دهليز داري فيه كتبي وكنت اجلس فيه للنسخ والنظر.

(1/142)

فلما كان في تلك الليلة إذ داق يدق الباب فقلت من هذا فقال رجل من الجيران فقلت ادخل فقال اطفىء السراج حتى ادخل فكببت على السراج شيئا وقلت ادخل فدخل وترك إلى جانبي شيئا وانصرف فكشفت على السراج ونظرت فإذا منديل له قيمة وفيه أنواع من الطعام وكاغذ فيه خمسمائة درهم فدعوت الزوجة وقلت انبهي الصبيان حتى يأكلوا. ولما كان من الغد قضينا دينا كان علينا من تلك الدراهم وكان وقت مجيء الحاج من خراسان فجلست على بابي من غد تلك الليلة فإذا جمال يقود جملين عليهما حملان ورقا وهو يسال عن منزل إبراهيم الحربي فانتهى إلي فقلت أنا إبراهيم الحربي فحط الحملين وقال هذان الحملان أنفذهما لك رجل من أهل خراسان فقلت من هو فقال قد استحلفني إلا أقول من هو? وعن ثعلب قال ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس نحو أو لغة نحو خمسين سنة.وعن بن صالح الأنماطي قال لا نعلم أن بغداد أخرجت مثل ابراهيم الحربي في الأدب والحديث والفقه والزهد.وقال أبو الحسن العتكي سمعت إبراهيم الحربي يقول لجماعة عنده من تعدون الغريب في زمانكم هذا فقال واحد منهم الغريب من ناى عن وطنه قال آخر الغريب من فارق أحبابه وقال كل واحد منهم شيئا فقال إبراهيم الغريب في زماننا رجل صالح عاش بين قوم صالحين ان امر بالمعروف آزروه وان نهي عن المنكر اعانوه وان احتاج إلى شيء من الدنيا ما نوه ثم ماتوا وتركوه.وعن مقاتل بن محمد بن بنان العتكي قال حضرت مع أبي وأخي عند ابن إسحاق يعني إبراهيم الحربي فقال إبراهيم لأبي هؤلاء أولادك قال نعم قال احذر لا يرونك حيث نهاك الله فتسقط من أعينهم.

(1/143)

وعن محمد بن خلف وكيع قال كان لإبراهيم الحربي ابن وكان له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن ولقنه من الفقه شيئا كثيرا قال فمات فجئت اعزيه فقال كنت اشتهي موت ابني هذا قال قلت يا با إسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد انجب ولقنته الحديث والفقه? قال نعم رأيت في النوم كان القيامة قد قامت وكان الصبيان بايديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس يسقونهم وكان اليوم يوما حارا شديدا حره قال فقلت لاحدهم اسقني من هذا الماء قال فنظر الي وقال ليس انت أبي فقلت أي شيء انتم قال فقال نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا اباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء قال فلهذا تمنيت موته.وعن عيسى بن محمد الطوماري قال دخلنا على إبراهيم الحربي وهو مريض وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب فجاءت الجارية وردت الماء وقالت مات الطبيب فبكى وانشأ يقول:إذا مات المعالج من سقامي فيوشك للمعالج ان يموتايحيى الجلاءقال ابو عبد الله بن الجلاء قلت لذي النون لم سمي ابي الجلاء أكان يصنع صنعة قال لا نحن سميناه الجلاء كان إذا تكلم علينا جلا قلوبنا.وعن ابي عبد الله احمد بن يحيى الجلاء قال مات ابي فلما وضع في المغسل رايناه يضحك فالتبس على الناس امره فجاؤوا بطبيب وغطوا وجهه فاخذ مجسه فقال هذا ميت فكشفوا عن وجهه الثوب فراه يضحك فقال الطبيب ما ادري احي هو ام ميت? فكان إذا جاء انسان ليغسله لبسته منه هيبة لا يقدر على غسله حتى جاء رجل من اخوانه فغسله وكفنه وصلى عليه ودفن.أبو إبراهيم السائحعن عبد الله بن احمد بن حنبل قال كان في دهليزنا دكان وكان إذا جاء انسان يريد ان يخلو معه اجلسه على الدكان واذا لم يرد ان يخلو معه اخذ بعضادتي الباب وكلمه.

(1/144)

فلما كان ذات يوم جاءنا انسان فقال لي قل له أبو إبراهيم السائح فجلسنا على الدكان فقال لي ابي سلم عليه فانه من كبار المسلمين أو من خيار المسلمين فسلمت عليه فقال له ابي حدثني يا ابا إبراهيم فقال له أبو إبراهيم خرجت إلى الموضع الفلاني بقرب الدير الفلاني فأصابتني علة منتعتني من الحركة فقلت في نفسي لو كنت بقرب الدير لعل من فيه من الرهبان يداويني فإذا انا بسبع عظيم يقصد نحوي حتى جاءني فاحتملني على ظهره حملا رفيقا حتى ألقاني عند الدير فنظر الرهبان إلى حالي مع السبع فاسلموا كلهم وهم أربعمائة راهب0 إسماعيل بن يوسف أبو علي المعروف بالديلميجمع بين العلم والعبادة والحديث وجالس احمد بن حنبل وحدث عن مجاهد بن موسى.كان إسماعيل الديلمي من خيار الناس وذكر لي انه كان يحفظ أربعين ألف حديث.قالوا وكان يعبر إلى الجانب الشرقي قاصدا محمد بن اشكاب الحافظ فيذاكره بالمسند.وكان إسماعيل من اشهر الناس بالزهد والورع والتميز بالصون واما مكسبه فكان من المشاهرة في الارجاء.وعن ابي علي الابراري قال قلت لإسماعيل الديلمي تشهر في هذه الارحاء بثلاثة دراهم واي شيء تكفي ثلاثة دراهم فقال يا بني ما لم يتصل بنا عز التوكل فلا ينبغي ان نستعجل الذل بالتشرف.وعن كردان قال قال لي اسماعيل الديلمي اشهيت حلوا وبلغت شهوته الي فخرجت من المسجد بالليل لابول فإذا جنبتي الطريق اخاوين حلوا فنوديت يا اسماعيل هذا الذي اشتهيت فإن تركته فهو خير لك فتركته.زكريا بن يحيى بن عبد الملكأبو يحيى الناقد كان من كبار الاخيار.عن محمد بن جعفر بن سام قال لو قيل لابي يحيى الناقد غدا تموت ما ازداد في عمله.قال أبو يحيى الناقد اشتريت من الله تعالى حوراء باربعة الاف ختمة فلما كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء تقول وفيت بعهدك فها انا الذي اشتريتني فيقال انه مات عن قريب.أبو يعقوب الزيات

(1/145)

قال الجنيد بن محمد دققت على ابي يعقوب الزيات بابه في جماعة من اصحابنا فقال ما كان لكم شغل في الله يشغلكم عن المجيء الي قال الجنيد فقلت له إذا كان مجيئنا اليك من شغلنا به لم ننقطع عنه ففتح الباب.وقال يوما لبعض المريدين اتحفظ القرآن فقال لا فقال واغوثاه بالله مريد لا يحفظ القرآن كأترنجة لا ريح لها فبم يتنعم فبم يترنم فبم يناجي ربه? رحمه الله.الجنيد بن محمد بن الجنيدقال الخلدي وبلغني عن الجنيد انه كان في سوقه وكان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة.وعنه قال لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير ابي القاسم الجنيد ولا اكثرهم كان يكون له علم كثيرولا يكون له حال واخر كان يكون له حال كثير وعلم يسير والجنيد كانت له حال خطيرة وعلم غزير فإذا رأيت حاله رجحته إلى علمه واذا رأيت علمه رجحته على حاله.قال الجنيد كنت بين يدي سري السقطي العب وانا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي يا غلام ما الشكر فقلت ألا تعصي الله بنعمه فقال لي اخشى ان يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا ازال ابكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي.قيل للجنيد ممن استفدت هذا العلم قال من جلوسي بين يدي الله تعالى ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة واومىء إلى درجة في داره.كان الجنيد يجيء كل يوم إلى السوق فيفتح حانوته فيدخله ويسبل الستر ويصلي اربعمائة ركعة ثم يرجع إلى بيته.قال الجنيد بن محمد معاشر الفقراء انما عرفتم بالله وتكرمون له فإذا خلوتم به فانظروا كيف تكونون معه? وعن ابي الطيب بن الفرحان قال سمعت الجنيد يقول علامة اعراض الله عن العبد ان يشغله بما لا يعنيه.قال الجنيد الطريق إلى الله مسدود على خلق الله عز وجل إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته كما قال الله عز وجل لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة سورة الاحزاب آية 21.

(1/146)

وعن خير قال كنت يوما جالسا في بتين فخطر لي خاطر ان ابا القاسم جنيدا بالباب اخرج اليه فنفيت ذلك عن قلبي وقلت وسوسة فوقع لي خاطر ثان يقتضي مني الخروج ان جنيدا على الباب فاخرج إليه فنفيت ذلك عن سري فوقع لي خاطر ثالث فعلمت انه حق وليس بوسوسة ففتحت الباب فإذا انا بالجنيد قائم فسلم علي وقال يا خير ألا خرجت مع الخاطر الاول? وعن أبي محمد الحريري قال سمعت الجنيد يقول لقد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش افضل منهم يقينا.وعن أبي بكر محمد بن احمد قال سمت الجنيد يقول فتح كل باب وكل علم نفيس بذل المجهود.قال الجنيد لولا انه يروى انه يكون في آخر الزمان زعيم القوم ارذلهم ما تكلمت عليكم.وعن أبي القاسم المطرز قال سمعت الجنيد بن محمد يقول اضر ما على اهل الديانات الدعاوي.وعن أبي بكر المفيد قال سمعت الجنيد يقول احذر ان تكون ثناء منشورا وعيبا مستورا.وعن العباس بن عبد الله قال سمعت الجنيد بن محمد يقول المروءة احتمال زلل الاخوان.وعن أبي القاسم النقاش قال سمعت الجنيد يقول الانسان لايعاب بما في طبعه انما يعاب إذا فعل ما ينافي طبعه.وساله رجل كيف الطريق إلى الله فقال توبة تحل الاصرار وخوف يزيل الغرة ورجاء مزعج إلى طريق الخيرات ومراقبة الله في خواطر القلوب.وقال الجنيد ليس يتسع على ما يرد علي من العالم لاني قد اصلت اصلا وهو ان الدار دار غم وهم بلاء وفتنة وان العالم كله شر ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما اكره فان تلقاني بما احب فهو فضل والا فالاصل الاول.قال الجنيد لو اقبل صادق على الله ألف ألف سنة ثم اعرض عنه لحظة كان ما فاته اكثر مما ناله.وقال رجل للجنيد علام يتأسف المحب قال على زمان بسط أورث قبضا اوزمان انس اورث وحشة وانشأ يقول:قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم فكدرته يد الايام حين صفاقال جعفر وقال أبو العباس بن مسروق مررت مع الجنيد في بعض دروب بغدادواذا مغن يغني:

(1/147)

منازل كنت تهواها وتألفها ايام انت على الايام منصورفبكى الجنيد بكاء شديدا ثم قال يا ابا العباس ما اطيب منازل الالفة والانس واوحش مقامات المخالفات لا ازال احن إلى بدو ارادتي وجدة سعيي.دخل أبو العباس بن عطاء على جنيد وهو في النزع فسلم عليه فلم يرد عليه ثم رد عليه بعد ساعة وقال اعذرني فاني كنت في وردي ثم حول وجهه إلى القبلة وكبر ومات رحمه الله.وقال أبو محمد الحريري كنت واقفا على راس الجنيد في وقت وفاته وكان يوم جمعة وهو يقرأ القرآن فقلت يا ابا القاسم ارفق بنفسك فقال يا أبا محمد ما رأيت أحدا أحوج إليه مني في هذا الوقت وهو ذا تطوى صحيفتي.وعنه قال حضرت عند الجنيد قبل وفاته بساعتين فلم يزل باكيا وساجدا فقلت له يا ابا القاسم قد بلغ بك ما ارى من الجهد فقال يا ابا محمد احوج ما كنت إليه هذه الساعة فلم يزل باكيا وساجدا حتى فارق الدنيا.كان أبو القاسم الجنيد كثير الصلاة ثم رأيناه في وقت موته وهو يدرس ويقدم إليه الوسادة فيسجد عليها فقيل له إلا روحت عن نفسك فقال طريق وصلت به إلى الله لا اقطعه.وقال أبو بكر العطار حضرت الجنيد عند الموت في جماعة من اصحابنا قال فكان قاعدا يصلي ويثني رجله كلما اراد ان يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله فثقل عليه حركتها فمد رجليه وقد تورمتا فرآه بعض اصدقائه فقال ما هذا يا ابا القاسم فقال هذه نعم الله اكبر فلما فرغ من صلاتهقال له أبو محمد الحريري لو اضطجعت قال يا ابا محمد هذا وقت يؤخذ منه الله اكبر فلم يزل ذلك حاله حتى مات رحمه الله.وصلى عليه ولده وحزروا الجمع الذي صلى عليه فكانوا نحو ستين ألفا.وعن جعفر الخلدي في كتابه قال رأيت الجنيد في النوم فقلت له ما فعل الله بك قال طاحت تلك الاشارات وغابت تلك العبارات وفنيتتلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في السحر رحمه الله.الحسن بن علي أبو علي المسوحي

(1/148)

قال حسن المسوحي في شيء من الأنس للجنيد ويحك ما الانس لو مات من تحت السماء ما استوحشت.قال حسن المسوحي كنت اوي باب الكناس كثيرا وكنت اقرب من مسجد ثم أتفيأ فيه من الحر واستكن فيه من البرد فدخلت يوما وقد كظني الحر واشتد علي فحملتني عيني فنمت فرأيت كان سقف المسجد قد انشق وكان جارية قد نزلت علي من السقف عليها قميص فضة يتحشحش ولها ذؤابتان فجلست عند رجلي فقبضت رجلي عنها فمدت يدها فنالت رجلي فقلت لها يا جارية لمن انت قالت انا لمن دام على ما انت عليه.أبو علي احمد بن إبراهيمكان احمد بن إبراهيم المسوحي يحج بقميص ورداء ونعل طاق ولا يحمل معه شيئا لا ركوة ولا كوزا إلا كوز بلور فيه تفاح شامي يشمه من جوف بغداد إلى مكة وكان من افاضل الناس.سمنون بن حمزةعن ابي احمد المغازلي قال كان ورد سمنون في كل يوم وليلة خمسمائة ركعة.أبو اسحاق إبراهيم الآجري الصغيرجاء يهودي يقتضيه شيئا من ثمن قصب فكلمه فقال له ارني شيئا اعرف به شرف الاسلام وفضله على ديني حتى اسلم فقال له وتفعل قال نعم قال له هات رداءك قال فاخذه فجعله في رداء نفسه ولف رداءه عليه ورمى به في النار نار اتون الاجر ودخل في اثره فأخذ الرداء وخرج من الباب ففتح رادء نفسه وهو صحيح واخرج رداء اليهودي حراقا اسود من جوف رادء نفسه فاسلم اليهودي رحمه الله.ابو نصر المحبجمع بين الزهد المروءة عن ابي العباس بن مسروق قال اجتزت انا وابو نصر المحب في الكرخ وعلى ابي نصر إزار له قيمة فاذا نحن بسائل يسال وهو يقول شفيعي اليكم محمد صلى الله عليه وسلم فشق ابو نصر ازراه فاعطاه النصف ومشى خطوتين وقال هذه نذالة فانصرف إليه فاعطاه النصف الاخر رحمه الله.ابو سعيد الخراز واسمه احمد بن عيسىقال الجنيد لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه ابو سعيد الخراز لهلكنا قال علي فقلت لابراهيم واي شيء كان حاله قال اقام كذا وكذا سنة يخرز ما فاته الحق بين الخرزتين.

(1/149)

وقال ابو سعيد الخراز من ظن انه ببذل الجهد يصل فمتمن ومن ظن انه بغير بذل الجهد يصل فمتعن.وعن ابي القاسم بن مروان قال كان عندنا بنهاوند فتى يصحبني وكن اصحب ابا سعيد الخراز فكنت اذا رجعت حدثت ذلك الفتى ما اسمع من ابي سعيد.وعن علي بن حفص الرازي قال سمعت ابا سعيد الخراز يقول ذنوب المقربين حسنات الابرار.قال ابو سعيد الخراز المعرفة تاتي القلوب من جهتني من عين الجود ومن بذل المجهود.قال ابو سعيد الخراز اذا بكت عين الخائفين فقد كاتبوا الله بدموعهم.قال ابوسعيد الخراز العافية سترت البر والفاجر فاذا جاءت البلوى يتبين عندها الرجال.وقال ابو بكر الشقاق سمعت احمد بن عيسى الخراز يقول كنت يوما امشي في الصحراء فاذا قريب من عشرة كلاب الرعاة شدوا علي فلما قربوا مني جعلت استعمل المراقبة فاذا كلب ابيض قد خرج من بينهم وحمل على الكلاب فطردهم عني ولم يفارقني حتى تباعدت عني الكلاب ثم التفت أره.قال ابو سعيد وكان لي معلم يختلف الي يعلمني الخوف ثم ينصرف فقال لي يوما اني معلمك خوفا يجمع لك كل شيء قلت ما هو قال مراقبة الله عز وجل.ابو الحسين النوريقال ابو احمد المغازلي ما رأيت أحدا قط أعبد من النوري فقيل ولا جنيد? قال ولا جنيد وكان له قنينة تسع خمسة ارطال ماء يشربها في خمسة أيام وقت افطاره.قال عبد الكريم ثم حدثني أبو جعفر الفرغاني قال مكث أبو الحسين النوري عشرين سنة يأخذ من بيته رغيفين ويخرج ليمضي الى السوق فيتصدق بالرغيفين ويدخل المسجد فلا يزال يركع حتى يجيء وقت سوقه فاذا جاء الوقت مضى الى السوق فيظن أنه قد تغدى في بيته ومن في بيته عندهم انه اخذ معه غداءه وهو صائم.

(1/150)

دخل ابو الحسين النوري الى الماء ليغتسل فجاء لص فاخذ ثيابه فخرج عن الماء فلم يجد ثيابه فرجع الى الماء فلم يكن الا القليل حتى جاء اللص ومعه ثيابه فوضعها مكانه وقد جفت يده اليمنى فخرج ابو الحسن من الماء ولبس ثيابه وقال سيدي قد رد علي فرد عليه يده فرد الله عليه يده ثم مضى.اعتل النوري فبعث إليه الجنيد بصرة فيها دراهم وعاده فردها النوري ثم اعتل الجنيد فدخل عليه النوري عائدا فقعد عند راسه ووضع يده على جبهته فعوفي من ساعته فقال النوري للجنيد اذا عدت اخوانك فارفق بهم بمثل هذا البر.عمرو بن عثمان المكيقال عمر بن عثمان المكي المروءة التغافل عن زلل الاخوان.وقال العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بين ذلك خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد.قال عمرو بن عثمان واغماه من عهد لم يقم له بوفاء ومن خلوة لم تصحب بحياء ومن أيام تفنى ويبقى ما كان فيها أبدا.قال عمرو بن عثمان المكي لقد وبخ الله التاركين للصبر على دينهم بما اخبرنا عن الكفار انهم قالوا امشوا واصبروا على آلهتكم سورة ص آية 60 فهذا توبيخ لمن ترك الصبر من المؤمنين على دينه.وقال عثمان بن سهل دخلت على عمرو بن عثمان المكي في علته التي توفي فيها فقلت له كيف تجدك فقال اجد سري واقفا مثل الماء لا يختار النقلة ولا المقام.رويم بن احمدقال رويما الفقر له حرمة حرمته ستره واخفاؤه والغيرة عليه والضن به فمن كشفه واظهره وبذله فليس هو من اهله ولا كرامة.وعن محمد قال سمعت رويم بن احمد يقول منذ عشرين سنة لا يخطر بقلبي ذكر الطعام حتى يحضر.وقال الدينوري سمعت رويم بن احمد يقول مكثت عشرين سنة لا يعرض في سري ذكر الاكل حتى يحضر.قال رويم بن احمد الاخلاص ارتفاع رؤيتك عن فعلك والفتوة ان تعذر اخوانك في زللهم ولا تعاملهم بما يحوجك الى الاعتذار اليهم.

(1/151)

وسمعته يقول الصبر ترك الشكوى والرضا استلذاذ البلوى والتوكل اسقاط رؤية الوسائط.وقال احمد بن فارس قال رويم ليس الا بذل الروح والا فلا تشتغل بترهات الصوفية.قال رويم الصوفي اذا وهب الله لك مقالا وفعالا فاخذ منك المقال وترك عليك الفعال فال تبال فانها نعمة وان اخذ منك الفعال وترك عليك المقال فنح على نفسك فانها مصييبة وان اخذ منك المقال والفعال فاعلم انها نقمة.ابو عبد الله بن الجلاءقال ابو عمر الدمشقي سمعت ابن الجلاء يقول قلت لابي وامي احب ان تهباني لله فقالا قد وهبناك لله فغبت عنهما مدة ثم رجعت من غيبتني وكانت ليلة مطيرة فدققت عليهما الباب فقالا من قلت ولدك قال كان لنا ولد فوهبناه لله ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبناه وما فتح لي الباب.وعنه قال سمعت ابا عبد الله بن الجلاء يقول من بلغ بنفسه الى ربتة سقط عنها ومن بلغ به ثبت عليها.وكان اذا سئل عن المحبة قال ما لي وللمحبة انا اريد ان اتعلم التوبة.وعن ابي عبد الرحمن السلمي قال قال ابو عبد الله بن الجلاء من علت همته عن الاكوان وصل الى مكونها ومن وقف بهمته على شيء سوى الحق فاته الحق لانه اعز من ان يرضى معه بشريك.أبو العباس بن عطاءكان ابو العباس بن عطاء ينام من الليل والنهار ساعتين.وعن ابي الحسين بن حبيش وذكر ابا العباس بن عطاء فقال كان له في كل يوم ختمة وفي شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وبقي في ختمة يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة فمات قبل ان يختمها.قال ابو العباس بن عطاء يا ابا جعفر لي من سنين كثيرة ذكرها كل يوم ختمة لا تفوتني ولي في شهر رمضان كل يوم وليلة ثلاث ختمات ولي ختمة منذ أربع عشرة سنة ما بلغت النصف منها يريد الفهم منها.وعن أبي العباس بن عطاء قال من ألزم نفسه بآداب السنة عمر الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام اشرف من متابعة الحبيب في اوامره وافعاله واخلاقه والتأدب بآدابه.

(1/152)

وعن محمد بن علي بن حبيش قال سئل ابو العباس بن عطاء وانا حاضر عن اقرب شيء الى مقت الله تعالى قال رؤية النفس وافعالها واشد من ذلك مطالعة الاغراض عن افعالها.وسمعته يقول علامات الولي اربعة صيانة سره فيما بينه وبين الله وحفظ جوراحه فيما بينه وبين امر الله واحتمال الاذى فيما بينه وبين خلق الله ومداراته للخلق على تفاوت عقولهم.ابو الحسن علي بن محمد بن الزاهدقال أبوالحسن بن بشار وكان إذا أراد أن يخبر عن نفسه بشيء قال اعرف رجلا كان حاله كذا وكذا فقال ذات يوم اعرف رجلا يشتهي منذ ثلاثين سنة ان يشتهي ليترك ما يشتهي فما يجد شيئا يشتهى.ودخل ابو محمد ابن اخي معروف الكرخي الى ابي الحسن بن بشار وعليه جبة صوف فقال له ابو الحسن يا ابا محمد صوفت قلبك او جسمك صوف قلبك والبس القوهي على القوهي.وقال رجل لابي الحسن بن بشار كيف الطريق الى اللهتعالى فقال له كما عصيت الله تعالى سرا تطيعه سرا حتى يدخل الى قلبك لطائف البر.وقال منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة احتاج ان اعتذر منها.كان ابن بشار يذكر الناس وكان يفتتح مجلسه فيقول وانك لتعلم ما نريد فساله رجل ما الذي تريد فقال هو يعلم انني ما اريد من الدنيا ولا الاخرة سواه.أبو محمد الحريريقال ابو محمد الحريري من توهم ان عملا من اعماله يوصله الى ماموله الاعلى والادنى فقد ضل عن طريقه لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لن ينجي احدكم عمله فما لا ينجي من المخوف كيف يبلغ الى المأمول? ومن صح اعتماده على فضل الله تعالى فذاك الذي يرجى له الوصول.قال ابو محمد الحريري امرنا هذا كله مجموع على فصل واحد وهو ان تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم على ظاهرك قائما.قال ابو محمد الحريري وكان عنده جماعة فقال هل فيكم من اذا اراد الله ان يحدث في المملكة حدثا أبدى علمه الى وليه قبل ابدائه في كونه فقالوا لا.قال مروا وابكوا على قلوب لم تجد من الله شيئا من هذا.

(1/153)

اخبرنا ابن ناصر بالاسناد عن ابي محمد الحريري قال من استولت عليه النفس صار اسيرا في حكم الشهوات محصورا في سجن الهوى فحرم الله على قلبه الفوائد فلا يستلذ بكلامه ولا يستحليه وان كثر تردده على لسانه.بنان بن محمد بن حمدان الحمالوقال بنان الحمال البريء جريء والخائن خائف ومن اساء استوحش.وعن ابي علي الروذباري قال سمعت بنان الحمال يقول دخلت البرية على طريق تبوك وحدي فاستوحشت فاذا هاتف يهتف يا بنان نقضت العهد لم نستوحش اليس حبيبك معك?.وقال ابو علي الروذباري كان سبب دخولي مصر حكاية بنان وذلك انه امر ابن طولون بالمعروف فامر ان يلقى بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما اخرج من بين يدي السبع قيل له ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال كنت اتفكر في سؤر السباع ولعابها.وعن عمرو بن محمد بن عراك ان رجلا كان له على رجل مائة دينار بوثيقة الى اجل فما جاء الأجل طلب الوثيقة فلم يجدها فجاء الى بنان فساله الدعاء. فقال له انا رجل قد كبرت وانا احب الحلواء اذهب فاشتر لي رطل معقود وجئني به حتى ادعو لك فذهب فاشترى له ما قال ثم جاء به فقال بنان افتح القرطاس ففتح الرجل القرطاس فاذا هو بالوثيقة فقال لبنان هذه وثيقتي فقال خذ وثيقتك وخذ المعقود اطعمه صبيانك فاخذ ومضى.أبو علي الحسين بن صالحابن خيران الفقيه الشافعي جمع بين الفقه والورع واريد على القضاء فابى.قال ابو عبد الله الحسين بن محمد بن عبيد العسكري اريد ابو علي بن خيران للقضاء فامتنع فوكل علي بن عيسى الوزير ببابه فشاهدت الموكلين ببابه وختم الباب بضعة عشر يوما فقال لي ابي يا بني انظر حتى تحدث بهذا ان عشت ان انسانا فعل هذا به ليلى فامتنع وكلم الوزير فاعفاه.

(1/154)

امر وزير المقتدر بالله نازوك صاحب البلد يطلب الشيخ ابا علي الفقيه الشافعي حتى يعرض عليه قضاء القضاة فاستتر فوكل بباب داره رجاله بضعة عشر يوما حتى احتاج الى الماء فلم يقدر عليه الا من عند الجيران.فبلغ الوزير ذلك فامر بازالة التوكل عنهوقال في مجلسه والناس حضور ما اردنا بالشيخ ابي علي بن خيران الا خيرا اردنا ان يعلم ان في مملكتنا رجلا نعرض عليه قضاء القضاة شرقا وغربا وهو لا يقبل.خير عبد الله أبو الحسين النساجقال خير النساج الخوف سوط الله يقول به انفسنا وقد تعودت سوء الادب ومتى اساءت الجوارح الادب فهو من غفلة القلب وظلمة السر.وقال العمل الذي يبلغ الى الغايات هو رؤية التقصير والعجز والضعف.أبو علي الروذباريقال محمد بن علي بن المأمون سمعت ابا علي الروذباري يقول من الاغترار ان تسيء فيحسن اليك فتترك الانابة والتوبة توهما انك تسامح في الهفوات وترى ان ذلك من بسط الحق لك.قال أبي علي الروذباري انفقت على الفقراء كذا وكذا الف فما وضعت شيئا في يد فقير كنت اضع ما ادفع الى الفقراء في يدي فياخذونه من يدي حتى تكون يدي تحت ايديهم ولا تكون يدي فوق يد فقير.أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكنانيوقال محمد بن عبد الله بن شاذان كان يقال ان الكناني ختم في الطواف اثنتي عشرة الف ختمة.وقال ابوجعفر الاصفهاني صحبت الكناني سنين فكان يزداد على الايام ارتفاعا وفي نفسه اتضاعا وسمعته يقول روعة عبد عند انتباه من غفلة وارتعاد من خوف خظيئة اعود على المريد من عبادة الثقلين.قال الكناني ان الله تعالى نظر الى عبيد من عبيده فلم يرهم اهلا لمعرفته فشغلهم بخدمته.ابو بكر الشبليوكان يقول خلف أبي ستين ألف دينار سوى الضياع فانفقت الكل وقعدت مع الفقراء.قال الحسين بن احمد الصفار سئل الشبلي وانا حاضر أي شيء اعجب? قال قلب عرف ربه ثم عصاه.وقال الشبلي مجاهدة النفس بالنفس افضل من مجاهدة الغير بالنفس.

(1/155)

وقال الحسين بن احمد الصفار كنت يوما عند الشبلي وكان يذم الدنيا واهلها فقال يا من باع شيء واشترى لا شيء بكل شيء وسمعته يقول ليس من استأنس بالذكر كمن استأنس بالمذكور.وسئل ما الزهد فقال نسيان الزهد.وقال الشبلي العارف سيار الى الله عز وجل تعالى غير واقف.وسئل وانا حاضر أي شيء اعجب قال قلب عرف ربه ثم عصاه.وكان الشبلي ينوح يوما ويقول مكر بك في احسانه فتناسيت وامهلك في غيك فتماديت واسقطك من عينه فما دريت ولا باليت.وقال ليت شعري ما اسمي عندك غدا يا علام الغيوب وما انت صانع في ذنوبي ياغفار الذنوب وبم تختم عملي يا مقلب القلوب? قال وكان الشبلي يقول في جوف الليل قرة عيني وسرور قلبي ما الذي اسقطني من عينك ثم يصرخ ويبكي.وقال الشبلي لا تأمين على نفسك وان مشيت على الماء حتى تخرج من دار الغرة الى دار الامل.وقال الشبلي اذا وجدت قلبك مع الله فاحذر من نفسك واذا وجدت قلبك مع نفسك فاحذر من الله.وقال الشبلي من عرف الله عز وجل لا يكون له غم وسمعته يقول احبك الخلق لنعمائك وانا احبك لبلائك.قال ابا بكر الشبلي ان اردت ان تنظر الى الدنيا بحذافيرها فانظر الى مزبلة فهي الدنيا واذا اردت ان تنظر الى نفسك فخذ كفا من تراب فانك منه خلقت وفيه تعود ومنه تخرج واذا اردت ان تنظر ما انت فانظر ماذا يخرج منك في دخولك الخلاء فمن كان حاله كذلك فلا يجوز أن يتطاول أو أن يتكبر على من هو مثله.وعن الحسين بن احمد الهروي قال سمعت ابا بكر الشبلي يقول ليس للاعمى من رؤية الجوهرة الا مسها وليس للجاهل من الله الا ذكره باللسان.ابو محمد عبد الله بن محمد النيسابوريوقال ابو الفرج الصائغ قال المرتعش من ظن أن أفعاله تنجيه من النار او تبلغه درجة الرضوان فقد جعل لنفسه ولفعله خطرا ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله اقصى منازل الرضوان.

(1/156)

وقيل له ان فلانا يمشي على الماء فقال ان من مكنه الله من مخالفة هواه فهو اعظم من المشي على الهواء والماء.ابو اسحاق ابراهيم بن حماد الازديقال القاضي ابو الحسين الجراحي ما جئت الى ابراهيم بن حماد قط الا وجدته قائما يصلي او جالسا يقرأ.وقال ابو بكر النيسابوري ما رأيت اعبد منه.أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجادكان احمد بن سليمان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويترك منه لقمة فاذا كان ليلة الجمعة تصدق بذلك الرغيف وكل تلك اللقم التي استفضلها.قال ابو بكر من نقر على الناس قل اصدقاؤه ومن نقر على ذنوبه طال بكاؤه ومن نقر على مطعمه طال جوعه.جعفر بن محمد بن نصير الخلدي يكنى ابا محمد حج ستين حجة.قال جعفرا الخلدي لرجل كن شريف الهمة فان الهمم تبلغ بالرجال لا المجاهدات.جعفر بن حربعن علي بن المحسن المسوحي عن ابيه ان جعفر بن حرب كان يتقلد كبار الاعمال للسلطان وكانت نعمته تقارب نعمة الوزارة فاجتاز يوما راكبا في موكب له عظيم ونعمته على غاية وفور ومنزله بحالها في الجلالة فسمع رجلا يقرأ ألم يأن للذين امنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق سورة الحديد آية 16 فصاح اللهم يكررها دفعات وبكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه ودخل الى دجلة واستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرق جميع ماله في المظالم التي كانت عليه وردها وتصدق بالباقي. فاجتاز رجل فراه في الماء قائما وسمع بخبره فوهب له قميصا ومئزرا فاستتر بهما وخرج فانقطع الى العلم والعبادة حتى مات.أبو بكر محمد بن سعيد الحربيقال أبو بكر بن الضرير الزاهد دافعت الشهوات حتى صارت شهوتي المدافعة فحسب.أبو الحسين محمد بن احمد بن اسماعيل ابن عبيس بن سمعون وكان يلقب الناطق بالحكمة

(1/157)

عن ابي بكر الاصبهاني وكان خادم الشبلي قال كنت بين يدي الشبلي في الجامع يوم جمعة فدخل ابو الحسين بن سمعون وهو صبي على راسه قلنسوة بشفاشك مطليس بفوطة فجاز علينا وما سلم فنظر الشبلي الى ظهره وقال يا ابا بكر اتدري أي شيء لله من الذخائر في هذا الصبي? وقال الحسن بن محمد الخلال قال لي ابو الحسين بن سمعون ما اسمك? فقلت حسن فقال فقد اعطاك الله الاسم فسله ان يعطيك المعنى.قال ابن سمعون رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة.وقال ابو الفتح القولس لحقتني اضافة في وقت من الاوقات فنظرت فلم اجد في البيت غير قوس لي وخفين كنت البسهما فاصبحت وقد عزمت على بيعهما. وكان يوم مجلس ابي الحسين بن سمعون فقلت في نفسي احضر المجلس ثم انصر ف فابيع الخفين والقوس فحضرت فلما اردت الانصراف ناداني ابو الحسين يا ابا الفتح لا تبع الخفين ولا تبع القوس فان الله سياتيك برزق من عنده او كما قال.قال ابو الحسين بن سمعون كل من لم ينظر بالعلم فيما لله عليه فالعلم حجة عليه وبال.وقال الصادقون الحذاق هم الذين نظروا الى ما بذلوا في جنب ما وجدوا فصغر ذلك عندهم فاعتذروا.وقال قللوا اهتمامكم لكم ووفروا اهتمامكم بكم وتوسدوا اوسادا من الشكر والبسوا لباسا من الذكر والتحفوا لحافا من الخوف تفوزوا بمدحة الرب الله ان تستهينوا بشيء يوجب الذم دون ان تستهينوا بما يوجب العقوبة.وقال يا هذا تظلم الى ربك منك واستنصره عليك ينصرك.وقال احزنوا على ما فاتكم واسفوا على تقصيركم واحرزوا بضائعكم من التلف لا تخرج القطاع عليها.وقال كل داء عرف دواؤه فهوصغيرة والذي لم يعرف له دواء كبير.وقال اجهد يا هذا ان يسرق منك ولا يسرق لك.وقال احذروا الصغائر فان النقط الصغار اثار في الثوب النقي.وقال احذر ان ترى عملك لك فان رايته لك كنت ناظرا الى ليس لك.

(1/158)

وقال من الوقاحة تمنيك مع توانيك استوف من نفسك الحقوق ثم وفها الحظوظ حسب ما يكفيها لا ما يطغيها قفها بين الجنة والنار تأباك الجنة بكل معنى وتقبلك النار بجملتك.وقال معنى قوله: لا يزال عبدي يتحبب إلي حتى أحبه قال: حتى أظهر له حبي لأنه لم يزل محبا.وقال الخير كله في هذا الزمان ترك ما الناس عليه ومص النوى وسف الرمل وانشدنا:لو كل جارحة مني لها لغة تثنى عليك بما اوليت من حسنلكان ما زال شكري اذ اشرت به اليك ازيد في الاحسان والمننقال ابو الحسن بن سمعون يقول يا هذا اكرمتك لما عاملتك وصنتك لما نهيتك فمعاملتي لك كرامة ونهي لك صيانة كلفتك الصلاة ولعلمي بتوانيك لم اجعل لها وقتا واحدا جعلت لها اولا واخر وانت تقول الوقت واسع متى ما اتسع الوقت على عاقل اما علمت ان الاوقات على العقلاء ادق من ثقب الابر تهتم لك كاني لست مولاك وتدع الاهتمام بك كاني لست مطالباك اما علمت انه اذا بدا النهار اطالبك بحق ملكي واذا بدا الليل اطلبك بحق حبي.قال ابو علي وسمعت ابا سعيد احمد بن المسك بن احمد البزاز يقول سمعت عمي محمد بن احمد يقول رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم في جامع الخليفة والى جانبه رجل مكتهل فسالت عنه فقيل هو عيسى ابن مريم روح الله وكلمته وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم اليس في امتي الاحبار اليس في امتي الرهبان اليس من امتي اصحاب الصوامع قال فدخل ابو الحسين بن سمعون فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في امتك مثل هذا فسكت وانتبهت.قال البرقاني لسمعون انت تدعو الناس الى الزهد في الدنيا والترك لها وتلبس احسن الثياب وتاكل اطيب الطعام فكيف هذا فقال كل ما يصلحك فافعله اذا صلح حالك مع الله بلبس لين الثياب واكل طيب الطعام فلايضرك.عبد الصمد بن عمر بن محمد بن اسحاقابو القاسم الواعظ كان من اهل الزهد والصلاح الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

(1/159)

كان عند عبد الصمد جزء عن النجاد فاخذت من ابي بكر البقال نسخته ومضيت انا وابو يعلى بن المامون إليه فسلمنا عليه وسالناه ان يحضرنا في المسجد لنسمع الجزء منه وسبقناه الى المسجد.فدخل وسلم وصلى ركعتين ثم جاء فجلس بين ايدينا فقلت له انما حضرنا لنسمع منك فان رأيت ان ترتفع الى صدر المجلس فقال هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم واشار الى ابن المامون وانت رجل من اهل العلم وما كنت لارتفع عليكما في المجلس.جاء رجل الى عبد الصمد بمائة دينار ليدفعها إليه فقال له انا غني عنها فقال فرقها على اصحابك هؤلاء فقال ضعها على الارض ففعل فقال عبد الصمد للجماهة من احتاج منكم الى شيء فلياخذه على قدر حاجته فتوزعها الجماعة على صفات مختلفة من القلة والكثرة ولم يمسها هو بيده ثم جاء ابنه بعد ساعة فطلت منه شيئا فقال له اذهب الى البقال فخد منه ربع رطل تمرا.وقال التنوخي كنت يوم الجمعة في جامع المنصور والخطيب على المنبر وعلى يساري علي بن طلحة المقري البصري فمددت عيني فرأيت عبد الصمد بالقرب مني فهممت بالنهوض إليه وكان صديقا لي فاحتشمت من القيام في مثل ذلك الوقت مع قرب قيام الصلاة فقام ومشى نحوي فقمت إليه فقال لي اجلس ايها القاضي فليس اليك قصدت ولا لك اردت بمجيئي انما هذا اردت واليه قصدت يعني ابن طلحة وذلك ان نفسي تأباه وتكرهه فاردت ان اذلها بصده واخالف ارادتها فقصدته فقام ابن طلحة إليه وقبل راسه وعاد عبد الصمد الى موضعه.اجتاز عبد الصمد يوما بسوق الطعام فراى غلاما يقال له عزيز وقد خرج مع العيارين وكانت أيامهم والناس مجتمعون عليه وأبواه يبكيان ويعذلانه ويأبى عليهم. فلما اكثر عليه قال لهما مثلي يقول شيئا يرجع عنه قد قلت لاصحابي اني منكم امضيا اطلبا عزيزا غيري شاروفتي في جيبي.

(1/160)

يقال عبد الصمد رايته قد تابع الهوى على الوقاء مع علمه بانه اذا وقع في الشدائد لا يجريه فبايعت ربي على الوفاء مع علمي باني اذا وقعت في الشدائد يجيرني فاجتزت يوما بباب درب الديزج فشممت روائح طيبة فطالبتني نفسي بشيء منها فقلت اطلبي عبد الصمد غيري شاورفتي في جيبي.قال وسمعت عبد الصمد يقول كنت يوما امشي في بعض الطرق واذا بساع قد اقبل من عدوه وقد بقي عليه من الطريق بقية والناس يستقبلونه بالتحف فقال له رجل أي فلان مت اليوم حتى تعيش ابدا فقلت لنفسي هذا لك موتي اليوم حتى تعيشي ابدا.قال عبد الصمد يا ابا علي رأيت اليوم عجبا اجتزت ببعض الخرابات فسمع منها أنينا فدخلت واذا برجل قد شد حبلا يريد ان يخنق نفسه فزعقت عليه وقلت له لا يحل لك ان تفعل هذا فقال لي فاعذر فقلت لي فاعذر فقلت وما شأنك والغدر قال قد قامرت في قتل نفسي فقمرتها وما ارى الغدر فنحيت الحبل من عنقه وعجبت كيف لم يستجز الغدر في هوى الشيطان فكيف يجوز الغدر في رضا الرحمن? وحكى ابو الوفاء بن عقيل قال هجم عيد على عبد الصمد والبيت فارغ من القوت فجاءه رجل بدراهم فقال خذ هذه فقال يا هذا بالله دعني اليوم اتلذذ بفقري كما يتلذذ الاغنياء بغناهم وكان يقول ابدا اوجدهم في تعذيبه عذوبة.عن عبد الصمد انه كان في دعوة فقيل له انبسط وتمكن فقال ومايمكني من يحتشم ربه في الخلوة لا ينبسط.وكان يحرض اصحابه الى الجد ويقول هيه قد فاتتكم الدنيا فلا تفوتنكم الاخرة.وقال التنوخي حدثني من حضر عبد الصمد وقد احتضر فدخلت عليه ام الحسن بن القاضي ابي احمد بن الاكفاني وكانت احد من يقوم بامره ويراعيه.فقالت له اسالك واقسم عليك الا سالتني حاجة فقال لها نعم كوني لهنية يعني ابنته بعد موتي كما انت لها في حياتي فقالت افعل ثم امسك ساعة وقال استغفر الله وكررها الله لها خير منك.

(1/161)

وحكى ابن عقيل عن بعض من حضر عبد الصمد عند الموت قال حضرته وهو يقول يا سيدي لليوم خباتك ولهذه الساعة اقتنيتك حقق حسن ظني بك.عثمان بن عيسى ابو عمر الباقلاويكان يقال له العابد الصموت لامساكه عن الكلام فيما لا يعنيه.قال احمد بن علي الحافظ كان عثمان الباقلاوي احد الزهاد المتعبدين منقطعا عن الخلق ملازما للخلوة.قال وسمعت بعض الشيوخ الصالحين يقول سمعت عثمان الباقلاوي يقول اذا كان وقت غروب الشمس احسست بروحي كأنها تخرج يعني لاشتغاله في تلك الساعة بالافطار عن الذكر.قال وسمعته يقول احب الناس الي من ترك السلام علي لانه يشغلني بسلامه عن الذكر.قال وكان له مغتسل وحارة في المسجد فكان يصلي بينهما وكنت اصلي به شهر رمضان فقرات ليلة سورة الحاقة حتى اتيت هذه الاية فيومئذ وقعت الواقعة سورة الحاقة آية 15 فصاح وسقط مغشيا عليه فما بقي احد في المسجد الا انتحب.بكر بن شاذان بن بكر أبو القاسمقرأ القرآن على جماعة وسمع الحديث من جعفر الخلدي وابي بكر الشافعي وغيرهما وكان يقرىء القرآن ويروي الحديث ويعظ الناس وكان من قوام الليل واهل التقوى.عن الحسن بن غالب المقرىء ان بكر بن شاذان وابا الفضل التميمي جرى بينهما كلام فبدر من ابي الفضل كلمة ثقلت على بكر وانصرفا ثم ندم التميمي فقصد ابا بكر بن يوسف وقال له قد كلمت بكرا بشيء قد خفي عليه وندمت على ذلك فاريد ان تجمع بيني وبينه فقال له ابن يوسف سيخرج لصلاة العصر.فخرج بكر وجاء إلى ابن يوسف التميمي عنده فقال له التميمي اسالك ان تجعلني في حل فقال بكر سبحان الله ما فراقتك حتى احللتك وانصرف.قال التميمي قال لي والدي يا عبد الواحد احذر ان تخاصم من اذا نمت كان منتبها.قال ابن غالب وكان لبكر ورد من الليل لا يخل به.أبو أحمد عبد الله بن احمد ابن محمد الفرضي

(1/162)

قال علي بن عبد الواحد بن مهدي اختلفت الى ابي احمد الفرضي ثلاث عشرة سنة لم اره ضحك فيها غير انه قرأ علينا يوما كتاب الانبساط فاراد ان يضحك فغطى فمه.و كان اذا جاء الى ابي حامد الاسفرائيني قام ابو حامد من مجلسه ومشي الى باب مسجده حافيا مستقبلا له.قال وكتب ابو حامد مع رجل خراساني كتابا الى ابي احمد يشفع له ان يأخذ عليه القرآن فظن ابو احمد انها مسالة قد استفتي فيها فلما قرا الكتاب غضب ورماه عن يده وقال انا لا اقريء القرآن بشفاعة او كما قال.وقال ابو القاسم منصور بن عمرو الفقيه لم ار في الشيوخ من يعلم العلم خالصا لله لا يشوبه شيء من الدنيا غير ابي احمد الفرضي فانه كان يكره ادنى سبب حتى المدح لاجل العلم.وكان قد اجتمعت فيه أدوات الرياسة من علم وقرآن وإسناد وحالة متسعة في الدنيا وغير ذلك وكان أورع الخلق وكان يبتدىء كل يوم بتدريس القرآن ويحضر عند الشيخ الكبير ذو الهيئة فيقدم عليه الحدث لاجل سبقه فاذا فرغ من اقراء القرآن ولي قراءة الحديث علينا بنفسه فلا يزال كذلك حتى يستنفد قوته ثم يضع الكتاب من يده وينصرف.قال وكنت اطيل العقود معه وهو على حالة واحدة لا يتحرك ولا يعبث بشيء من اعضائه ولا يغير شيئا من هيئته حتى افارقه. وقد بلغني انه كان يجلس مع اهله على هذا الوصف ولم ار في الشيوخ مثله.أبو العباس أحمد بن محمدكان فقيها فصيحا من اصحاب ابي حامد الاسفرائيني توطن بغداد ولي القضاء بها على الجانب الشرقي ومدينة المنصور وكان مدرسا مفتيا مناظرا وكانت له حلقة بجامع المنصور.ذكر عبيد الله بن احمد بن عثمان الصيرفي عمن حدثه ان القاضي ابا العباس الابيوردي كان يصوم الدهر وان غالب افطاره كان على الخبز والملح وكان فقيرا يظهر المروءة قال ومكث شتوة لا يملك جبة يلبسها.وكان يقول لاصحابه في علة تمنعني عن لبس الحشو فكانوا يظنونه يعني المرض وانما كان يعني بذلك الفقر ولا يظهره تصوتا ومروءة.

(1/163)

ابو الحسن علي بن عمر بن محمد ابن الحسن الحربيالمعروف بالقزويني وكان من كبار الصالحين ... وقرا القرآن بالقراءات على ابي حفص الكناني وغيره.وكان منذ كان صبيا حسن الطريقة ملازما للصمت عما لا يعنيه وافر العقل ثم كان يقرأ القرآن ويروي الحديث ولا يخرج من بيته الا الى الصلاة وله كرامات كثيرة ...قال احمد بن علي بن ثابت كان ابو الحسن القزويني احد الزهاد المذكورين ومن عباد الله الصالحين توفي في شعبان سنة اثنتين واربعين واربعمائة وصلى عليه في الصحراء بين الخربية والعتابين وحضرت الصلاة عليه وكان الجمع متوفرا جدا يفوت الاحصاء لم ار جمعا على جنازة اعظم منه وغلق جميع البلد في ذلك اليوم.وقال ابو الفتح بن علوس الدينوري صلى الناس على القزويني حيث توجهوا ولم يحط الى الارض لكثرة الخلق انما كان على ايدي الرجال حيث اتجه صلوا عليه.وقال ابو الوفاء بن عقيل شهدت جنازته وكان يوما لم ير في الاسلام بعد جنازة احمد بن حنبل مثله غلقت له المكاتب والحمامات وبلغت المعبرة بباب الطاق مع كون الجسر ممدودا ربع دينار ولم يسع الناس جامع ولا امكن ان يصلي عليه امام معين فجعل كل قبيل فيه الوف من الناس يصلى بهم رجل يصلح للتقدم.وكانت الضجة تمنع التبليغ للتكبير فصلى اكثر الناس وحدانا و رأيت عدة بنانيك فيها من المداسات الكثيرة ينادي عليها لياخذها اربابها.انتبه اخي ابو غالب يوسف بن محمد في الليلة التي مات فيها القزويني وهو يبكي وقد اخذته الرعدة فسكنه والدنا وامسكه وقرا عليه وقال له ما لك يا بني قال رأيت في المنام كان ابواب السماء قد فتحت وابن القزويني يصعد اليها فلما كان في صبيحة تلك الليلة سمعنا المنادي ينادي بموته.

(1/164)

وقال ابو الفرج عبد العزيز بن عبد الله الصائغ صليت على ابي الحسين القزويني فهالني كثرة الخلق الذين حضروا جنازته واستعظمتهم فرايته تلك الليلة في المنام وهو يقول لي استعظمت الخلق الذين صلوا علي قد صلى علي من الملائكة في السماء اكثر من ذلك.أبو بكر محمد بن عبد الله الدينوريوكان يسكن الرصافة ببغداد وكان زاهدا حسن العيش.قال ابو الوفاء كنت شابا حديث السن اتردد الى مجلس ابن بشران الواعظ وكان يعتاد عيني الرمد كثيرا فرآني ذات يوم في المجلس رجل كان يبسط لابن بشران بساط المنبر يقال له بكار فقال لي اراك تدوم على حضور هذا المجلس فقلت لعلي استفيد شيئا ينفعني في ديني فقال لي اجلس حتى ينقضي المجلس فجلست. فلما انقضى المجلس اخذ بيدي وحملني الى الرصافة وجاء بي إلى باب فطرقه فقال قائل من داخل الدار من فقال انا بكار فقال يا بكار الست قد كنت هاهنا اليوم فقال جئت في حاجة مهمة ففتح الباب وهو يقول لا حول ولا قوة الا بالله.ثم دخلنا واذا بشيخ جالس مستقبل القبلة على راسه سطح كالطرحة فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقال بكار يا سيدي هذا صبي يداوم حضور المجلس ويحب الخير وقد دام مرض عينه فادع له فدعاني فاتيته فادخل خنصره في فيه ثم مسح عيني به فبقيت بعد ذلك نحو ستين سنة لم ترمد عيني فلما خرجت سألت عنه فقيل لي هذا ابو بكر الدينوري صاحب ابن سمعون.أبو الطيب طاهر بن عبد الله ابن طاهر الطبريسافر في طلب العلم ... 0 وبرع في الفقه وجمع التقوى الى العلم وولي القضاء بربع الكرخ بعد ابي عبد الله الصيمري وقد كان راى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له يا فقيه فكان يفرح ويقول سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيها.قال احمد بن علي بن ثابت انشدني ابو الطيب الطبري لنفسه:ما زلت اطلب علم الفقه مصطبرا على الشدائد حتى اعقب الخيراوكان ما كر من درس ومن سهر في عظم ما نلت من عقباه مغتفرا

(1/165)

حفظت ماثورة حفظا وثقبت به وما يقاس على الماثور معتبراصنفت في كل نوع من مسائله غرائب الكتب مبسوطا ومختصرااقول بالاثر المروي متبعا وبالقياس اذا لم اعرف الاثراذا انتضيت بياني عن غوامضه حسرت عنها قناع اللبس فانحسراوان تحريت طوق الحق مجتهدا وصلت منها الى ما اعجز الفكراوكنت ذا ثروة لما عنيت به فلم ادع ظاهرا منها ومدخراوما ابالي اذا ما العلم صاحبني ثم القتى فيه ان لا اصحب البشراثنت عناني عنه همة طمحت الى الهوى فاستطابت عنده الصبرااصدى فلا اتصدى للئيم ولا ابيت دون الغنى حزنان منكسرااذا اضقت سألت الله معتذرا كفايتي فاطاب الورد والصدراابو الطيب صعد من سميرية وقد تم له عشر المائة فقفز منها الى الشط فقال بعض من حضر يا سيدنا لا تفعل هذا فان اعضاءك تضعف وربما اورث مثل هذه الطفرة فتقا في المعى فقال يا هذا ان هذه اعضاءنا حفظناها من معاصي الله فحفظها الله علينا.ابتدا القاضي ابو الطيب يدرس الفقه ويتعلم العلم وله اربع عشر سنة فلم يخل به يوما واحدا الى ان مات.... وبلغ من السن مائة سنة وسنتين وكان صحيح العقل ثابت الفهم يقضي ويفتي الى حين وفاته رحمه الله.أبو الحسن البردانيكان من الزهاد المنقطعين بجامع المنصور.أبو بكر احمد بن علي العلبيكان يقريء القرآن ويؤم الناس ويعمل بيده ولا يقبل من أحد شيئا ويذهب بنفسه في كل ليلة الى دجلة فياخذ في كوز له ماء يفطر عليه ويمشي في حوائج نفسه ولا يستعين باحد.وكان اذا حج يزور القبور بمكة ويجيء الى قبر الفضيل بن عياض ويخط بعصاه ويقوليا رب ها هنا يا رب ها هنا.فاتفق انه خرج للحج في سنة ثلاث وخمس مائة فشهد عرفة محرما وتوفي عشية ذلك اليوم في ارض عرفات فحمل الى مكة وطيف به حول البيت ودفن يوم منحر الى جانب الفضل بن عياض.عبد الوهاب بن المبارك ابن احمد الانماطي

(1/166)

وما عرفنا من مشايخنا اكثر سماعا منه ولا اكثر كتابة للحديث ولا اصبر على الاقراء ولا احسن بشرا ولقاء ولا اسرع دمعة ولا اكثر بكاء.ولقد كنت اقرا عليه الحديث في زمان الصبا ولم اذق بعد طعم العلم فكان يبكي بكاء متصلا وكان ذلك البكاء يعمل في قلبي وأقل ما يبكي هذا هكذا الا لامر عظيم فاستفدت ببكائه ما لم استفد بروايته.وكان مجلسه منزها عن غيبة الناس وكان رضي الله عنه على طريقة السلف وكنا نتنظره من يوم الجمعة لياتي من داره بنهر القلائين الى جامع المنصور فلا ياتي على قنطرة باب البصرة وانما يمر على القنطرة العتيقة فسالته عن سبب هذا فقال كانت تلك دار ابن معروف القاضي فلما قبض عليه بنيت قنطرة.قال وحدثنا ابو محمد التميمي عنه انه احل من يعبر عليها غير اني لا افعل.وعدته في مرضه وقد بلي وذهب لحمه فقال لي ان الله عز وجل لا يتهم في قضائه.ذكر المصطفين من عباد بغداد المجهولين الأسماءعابد مجذوم قال خلف البرزالي: اتيت برجل مجذوم ذاهب اليدين والرجلين اعمى فجعلته مع المجذومين فغفلت عنه أياما ثم ذكرته فقلت يا هذا اني غفلت عنك فكيف حالك فقال لي حبيبي ومن أنا احبه فقد احاطت محبته باحشائي فلا اجد لما أنا فيه من الم مع محبته لا يغفل عني. فقلت له اني نسيت فقال ان لي من يذكرني وكيف لا يذكر الحبيب حيبيه وهو نصب عينيه تائه العقل والقلب قلت لها الا ازوجك امرأة تنظفك من هذه الاقذار قال فبكي ثم تنفس ورمى ببصره نحو السماء وقال يا حبيب قلبي ثم اغمي عليه.

(1/167)

فافاق فقلت ما تقول فقال كيف تزوجني وانا مالك الدنيا وعروسها قلت أي شيء الذي عندك من ملك الدنيا وانت ذاهب اليدين والرجلين اعمى تأكل كما تأكل البهائم قال رضي عني سيدي إذا ابلى جوارحي واطلق لساني بذكره. قال فوقع مني بكل موقع فما لبث الا يسيرا حتى مات فأخرجت له كفنا فيه طول فقطعت منه فاتيت في منامي فقيل لي يا خلف بخلت على ولي ومحبي بكفن طويل قد رددنا عليك كفنك وكفناه عندنا بالسندس والاستبراق قال فصرت إلى بيت الاكفان فإذا الكفن ملقى.عابد آخرقال إبراهيم الاجري الكبير كنت يوما قاعدا على باب المسجد في يوم شات إذ مر بي رجل عليه خرقتان فظننت انه من هؤلاء الذين يسالون فقلت في نفسي لو عمل هذا بيده كان خيرا له قال ومضى الرجل.فلما كان الليل اتاني ملكان فأخذا بضبعي ثم ادخلاني المسجد الذي كنت على بابه قاعدا فإذا رجل نائم عليه خرقتان فكشف لي عن وجهه فإذا هو الذي مر بي فقالا لي كل لحمه فقلت ما اغتبته قالا لي بلى حدثت نفسك بغيبته ومثلك لا يرضى منه بمثل هذا.قال فانتبهت فزعا فمكثت ثلاثين يوما اقعد على باب المسجد لا اقوم الا لفرض انتظر ان يمر بي فاستحله.فلما كان بعد الثلاثين مر بي على حاله والخرقتان عليه فوثبت إليه فغمز وغمزت خلفه فلما خفت ان يفوتني قلت يا هذا قف اكلمك قال فالتفت الي ثم قال يا إبراهيم وانت أيضا ممن يغتاب المؤمنين بقلبه قال فسقطت مغشيا علي قال فافقت وهو عند راسي فقال اتعود قلت لا ثم غاب عن عيني فلم اره بعد ذلك.عابد آخر

(1/168)

من بعض قرى بغداد بلغنا عن جنيد قال سمعت السري بن المغلس يقول ان في قرى بغداد لاولياء لا يعرفهم الخلق قال وكنت ادور في القرى لعلي اجد منهم واحدا فبينا أنا يوما في بعض القرى دخلت مسجدا فرأيت فيه شابا ساكتا فتقدم الي وقال لي اتاذن ان اسالك مسالة فقلت هات فقال مسالة فسال مسالة من احوال القلب دقيقة فاجبته فقلت له يقع لك مثل هذه المسالة فقال كثير فقلت كيف تعمل قال أنا انسان قد لازمت هذا الموضع فإذا وقع لي مثل هذه المسالة قيض الله لي وليا مثلك فيجيبني فعلمت صدق قول السري.عابد آخرعن أبي الحسين بن سمعون قال اجتزت يوما على الصراة ف رأيت امرأة تلتقط ورق البقل الذي ياتي على الماء فقلت لا شك ان هذه امرأة فقيرة. فوقفت حتى رجعت فتبعتها فاتت إلى دار فدخلت فرجعت إلى بيتي فما استقر بي المنزل حتى اتاني خادم معه دنانير ودراهم فقال ادفع هذا إلى محتاج.فأخذته وقمت فاتيت بيت المراة فطرقت الباب فخرج رجل من خواص مجلسي ومن الملازمين لي فلما راني قال ما لك هكذا فقلت جئتكم بهذه الدنانير تستعينون بها على الوقت فنظر الي مغضبا وقال يا شيخ تحذرنا من الدنيا وتاتينا بها ثم رد الباب في وجهي ودخل فرجعت منكسرا إلى بيتي.ثم قلت في نفسي لا بد ان اعود إليه فاعتذر فاتيته في اليوم الثاني فطرقت الباب مرارا فلم يجبني أحدا وإذا امرأة من الجيران تقول ما لك يا رجل فقلت لها ما فعل أهل هذه الدار فقالت كان في هذه الدار رجل مع والدته وكنا نتبرك بهم فجاء بالامس شيطان فكلمهم بما كرهوا فانتقلوا عنا.قال فعدت وانا شديد الحزن على ما فعلت وجعلت اتفقد مجلسي ولا ارى الرجل.

(1/169)

فلما كان يوم عرفة وانا اتكلم على الناس رايته في اوآخرهم فلما انقضى المجلس مضيت إليه وسلمت فرد علي وقال لا تعد ما فات ولا تقل شيئا فلولا اني اعتقد كلامك دواء لقلبي لم احضر وانما غبت عنك لانا انتقلنا إلى مكان آخر حتى لا نعرف فقلت ما اتيت الا معتذرا وما اعود ثم فارقته.ذكر المصطفين من عقلاء المجانين ببغدادسعدون المجنونقال يحيى خرجت يوما إلى مقابر باب خراسان ثم جلست في موضع ارى منه من يدخل المقابر فنظرت إلى رجل دخل المقابر مقنعا فجعل يجول في المقابر كلما راى قبرا محفورا أو منخسفا وقف عليه وبكى.فقمت رجاء ان انتفع به فلما صرت إليه إذا هو سعدون المعتوه وكان يكون في كوخ مقابر عبد الله بن مالك فقلت له يا سعدون أي شيء تصنع فقال يا يحيى هل لك في ان تجلس فنبكي على بلى هذه الابدان قبل ان تبلي فلا يبكي عليها باك ثم قال يا يحيى البكاء من القدوم على الله عز وجل اولى بنا من البكاء على بلى الابدان ثم قال يا يحيى وإذا الصحف نشرت سورة التكوير اية 10 ثم صاح صيحة شديدة وقال واغوثاه بالله مما يقابلني في الصحف قال يحيى فغشي علي فافقت وهو جالس يمسح وجهي بمكه وهو يقول يا يحيى من اشرف منك لو مت?. قال الفتح بن شخرف كان سعدون صاحب محبة لله صام ستين سنة حتى خف دماغه فسماه الناس مجنونا لتردد قوله في المحبة فغاب عنا زمانا فبينا أنا قائم على حلقة ذي النون رايته عليه جبة صوف وعليها مكتوب لا تباع ولا تشترى فسمع كلام ذي النون فصرخ وانشا يقول:ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي ولا بد من سلوى إذا لم يكن صبر

(1/170)

قال ذوالنون المصري خرج الناس إلى الاستسقاء بالبصرة فخرجت فيمن خرج فبينا أنا مار بين الناس إذا بيدين قبضتا على رجلي فقلت من أنت خل عني فقال أنا سعدون المجنون اين تريد يا أبا الفيض قلت اريد المصلى ادعو الله تعالى فقال بقلب سماوي أو بقلب جاف فقلت بقلب سماوي قال انظر يا ذا النون لا تبهرج فان الناقد بصير وقال تدعو الله واؤمن على دعائك أو ادعو الله وتؤمن على دعائي فقلت تدعو أنت واؤمن عليه.قال فصف قدميه ثم قال الهي بحق البارحة الا امطرتنا قال ذو النون لقد رأيت الغيوم قد ارتفعت عن اليمين والشمال حتى التقت فجاءنا المطر كافواه العزالي فقلت له بحق معبودك أي شيء كان بينك وبين الله البارحة فقال لي لا تدخل بيني وبين قرة عيني قلت لا بد ان تخبرني فانشا يقول:انست به فلا ابغي سواه مخافة ان اضل فلا اراهفحسبك حسرة وضنى وسقما بطردك عن مجالس أولياهقال ذو النون رأيت سعدونا في المقبرة في يوم حار وهو يناجي ربه عز وجل بصوت عال ويقول أحد أحد فاتبعته فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت له بحق من تناجيه الا وقفت لي وقفة فوقف وقال لي قل واوجز فقلت اوصني بوصية احفظها عنك أو تدعو لي بدعوة فقال:يا طالب العلم ههنا وهنا ومعدن العلم بين جنبيكاان كنت تبغي الجنان تدخلها فاذرف الدمع فوق خديكاوقم إذا قام كل مجتهد وادع لكيما يقول لبيكاقال ثم مضى فقال يا غياث المستغيثين اغثني قلت له ارفق بنفسك فلعله يلحظك بلحظة فيغفر لك فنفض يده من يدي وعدا يقول:انست به فلا أبغي سواه مخافة ان اضل فلا اراهفحسبك حسرة وضنى وسقما بطردك عن مجالس اولياهقال صالح المري قرات بين يدي سعدون المجنون كأنهن الياقوت والمرجان من سورة الرحمن الاية: 58. فصرخ ثم قال ملاح والله ثم انشا يقول:ان في الخلد جارية هي حسن كما هيهلو تراها على النما رق بالغنج ماشيهلتمنيت أنها لك ما عشت باقيهبهلول

(1/171)

قال سري السقطي اجتزت يوما بالمقابر فإذا أنا ببهلول قد دلى رجليه في قبر وهو يلعب بالتراب فقلت أنت ههنا قال نعم أنا عند قوم لا يؤذونني وان غبت عنهم لا يغتابوني فقلت يا بهلول الخبز قد غلا فقال والله ما ابالي ولو حبة بمثقال ان علينا ان نعبده كما امرنا وعليه ان يرزقنا كما وعدنا ثم ولى عني وهو يقول:يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناهافنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله مإذا حين تلقاهعن الفضل بن الربيع قال حججت مع هارون الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي فقلت اسكت فقد اقبل امير المؤمنين فسكت فلما حاذاه الهودج قال يا امير المؤمنين حدثني ايمن بن نابل قال انبانا قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث فلم يكن ثم طرد ولا ضرب ولا إليك إليكقلت يا امير المؤمنين انه بهلول المجنون قال قد عرفته قل يا بهلول فقال يا امير المؤمنين.هب انك قد ملكت الارض طرا ودان لك البلاد فكان مإذا?اليس غدا مصيرك ترب ويحثو الترب هذا ثم هذا? قال اجدت يا بهلول أفغيره قال نعم يا أمير المؤمنين من رزقه الله جمالا ومالا فعف في جماله واتقى في ماله كتب في ديوان الابرار.قال فظن انه يريد شيئا قال فانا قد امرنا بقضاء دينك قال لا تفعل يا امير المؤمنين لا تقض دينا بدين اردد الحق إلى أهله واقض دين نفسك من نفسك. قال أنا قد امرنا ان تجرى عليك جراية قال لا تفعل يا امير المؤمنين لا يعطيك وينساني اجرى علي الذي اجري عليك لا حاجة لي في جرايتك.مجنون آخر يقال له أبو علي المعتوه

(1/172)

قال خلف بن سالم لابي علي المعتوه وكان ينزل في الخرم يا أبا علي ألك مأوى قال نعم قلت وأين مأواك قال في دار يستوي فيها العزيز والذليل قال قلت له واين هذه الدار قال المقابر قلت يا أبا علي ما تستوحش في ظلم الليل قال اني اكثر ذكر ظلم اللحد ووحشته فهون علي ظلم الليل قلت له فربما رأيت في المقابر شيئا تنكره قال ربما ولكن في هول الآخر ما يشغل عن هول المقابر.قال الاشهلي قلت لابي يا ابة مثل هذا الكلام الجيد الصحيح يتكلم به مجنون قال يا بني هؤلاء قوم كان لهم فضل ودين ومعرفة فزالت عقولهم وبقي ذلك الفضل فلم يختلط فيما اختلط.ذكر المصطفيات من عابدات بغدادجوهرة العابدة البراثيةكانت جوهرة امرأة أبي عبد الله البراثي جارية لبعض الملوك فعتقت فخلعت الدنيا ولزمت أبا عبد الله البراثي فتزوج بها وتعبدت. قال أبو عبد الله البراثي قالت لي جوهرة يوما يا أبا عبد الله النساء يحلين في الجنة إذا دخلنها قلت نعم قال فصاحت صيحة غشي عليها فلما افاقت قلت ما هذا الذي اصابك قالت ذكرت حالي تلك وما كنت قد نلت من الدنيا فخشيت والله حرمان الآخرة.قال أبو عبد الله البراثي رات جوهرة في منامها خياما مضروبة فقالت لمن ضربت هذه الخيام فقيل للمجتهدين بالقرآن فكانت بعد ذلك لا تنام.قال البراثي كانت جوهرة تنبهني من الليل وتقول يا أبا عبد الله كاروان رفث معناه قد سارت القافلة.زوجة أبي شعيب البراثي العابدكان أبو شعيب البراثي اول من سكن براثا في كوخ يتعبد فيه فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار من ابناء الدنيا كانت ربيت في قصور الملوك فنظرت الي أبي شعيب فاستحسنت حاله وما كان عليه فصارت كالاسير له فعزمت على التجرد من الدنيا والاتصال بابي شعيب.فجاءت إليه قالت اريد ان اكون خادمة فقال لها ان اردت ذلك فغيري هيئتك، وتجردي عما أنت فيه حتى تصلحي لما اردت. فتجردت عن كل ما تملكه ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها.اخوات بشر الحافي

(1/173)

قال السلمي اخوات بشر مخة وربذة ومضغة.وكانت مضغة اخت بشر اكبر منه وماتت قبله وقيل لما ماتت مضغة توجع عليها بشر توجعا شديدا وبكي بكاء كثيرا فقيل له في ذلك فقال قرات في بعض الكتب ان العبد إذا قصر في خدمة ربه سلبه انيسه وهذه كانت انيستي من الدنيا. قال الخطيب وذكر إبراهيم الحربي ان بشرا قال هذا يوم ماتت أخته مخة والله اعلم.قال أبو عبد الله القحطبي كان لبشر اخت صوامة قوامة.قال بشر بن الحارث تعلمت الورع من أختي فإنها كانت تجتهد الا تأكل ما للمخلوق فيه صنع.عبد الله بن احمد بن حنبل قال كنت مع أبي يوما من الايام في المنزل فدق داق الباب فقال لي أخرج فانظر من بالباب فخرجت فإذا امرأة فقالت لي استاذن لي على أبي عبد الله قال فاستاذنته قال اخلها.قال فدخلت فسلمت عليه وقالت له يا أبا عبد الله أنا امرأة اغزل بالليل في السراج فربما طفئ السراج فأغزل في القصر فعلي أن أبين غزل القمر من غزل السراج? قال فقال لها ان كان عندك بينهما فرق فعليك ان تبيني ذلك قال قالت يا أبا عبد الله انين المريض شكوى قال ارجو الا يكون ولكنه اشتكاء إلى الله عزوجل.قال فودعته وخرجت فقال يا بني ما سمعت قط انسانا يسال عن مثل هذا اتبع هذه المرأة فانظر اين تدخل قال فاتبعتها فإذا قد دخلت إلى بيت بشر بن الحارث وإذا هي أخته قال فرجعت فقلت له فقال محال ان تكون مثل هذه الا اخت بشر. …كانت مخة من بين اخوات بشر تقصد احمد بن حنبل وتساله عن الورع والتقشف وكان احمد يعجب بمسائلها.قالت زبدة اخت بشر اثقل شيء على العبد الذنوب واخفه عليه التوبة فما له يدفع اثفل شيء باخف شيء?امرأة عبد الله بن الفرج العابد

(1/174)

لما مات عبد الله بن الفرج لم تعلم زوجته اخوانه بموته وهم جلوس بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته فغسلته وكفنته في كساء له وأخذت فرد باب من أبواب بيته وجعلته فوقه وشدته بشريط ثم قالت لاخوانه قد مات وقد فرغت من جهازه. فدخلوا واحتملوه إلى قبره واغلقت الباب خلفهم.ميمونة أخت إبراهيمابن احمد الخواص لامه كانت تسلك مسلك أخيها إبراهيم في الزهد والتقلل والورع والتوكل.احمد بن سالم قال دق داق باب إبراهيم الخواص فقالت له أخته من تطلب فقال إبراهيم الخواص فقالت قد خرج فقال متى يرجع فقالت من روحه بيد غيره من يعلم متى يرجع?مؤمنة بنت بهلول قالت مؤمنة بنت بهلول ما النعيم الا في الانس بالله والموافقة لتدبيره.امة الواحد بنت القاضيكانت بنت المحاملي تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.وحفظت القرآن والفقه على مذهب الشافعي والفرائض وحسابها والنحو وغير ذلك من العلوم وكانت فاضلة في نفسها كثيرة الصدقة مسارعة في الخيرات وحدثت وكتب عنها الحديث.ذكر المصطفيات من العابدات البغداديات المجهولات الأسماءعابدة

(1/175)

قال نوح رأيت امرأة تاتي أبا عبد الله البراثي فتجلس تسمع كلامه ولا تكاد تتكلم ولا تسال عن شيء فقلتت لها ذات يوم لا اراك يرحمك الله تتكلمين ولا تسالين عن شيء فقالت قليل الكلام خير من كثيره الا ماكان من ذكر الله والمنصت افهم للموعظة ولن ينصحك امرؤ لا ينصح نفسه وجملة الامر يا اخي ان اردت الله بطاعة ارادك الله برحمة وان سلكت سبيل المعرضين فلا تلم الا نفسك إذا صرت غدا في زمرة الخاسرين. قال ثم استبكت فقامت وسمعتها تعظ ابنها يوما وتقول: ويحك يا بني احذر بطالات الليل والنهار فتنقضي مهلات الاعمار وانت غير ناظر لنفسك ولا مستعد لسفرك ويحك يا بني ما من الجنة عوض ولا في ركوب المعاصي ثمن من حلول النار ويحك يا بني مهد لنفسك قبل ان يحال بينك وبين ذلك وجد قبل ان يجد الامر بك واحذر سطوات الدهر وكيد الملعون عند هجوم الدنيا بالفتن وتقلبها بالعبر فعند ذلك يهتم التقي كيفي ينجو من مصائبها.ثم قالت بؤسا لك يا بني ان عصيت الله وقد عرفته وعرفت احسانه واطعت ابليس وقد عرفته وعرفت طغيانه.عابدتان بغداديتانبلغني انه كان ببغداد رجل بزاز له ثروة فبينا هو في حانوته اقبلت إليه صبية فالتمست منه شيئا تشتريه فبينا هي تحادثه كشفت وجهها في خلال ذلك فتحير وقال قد والله تحيرت مما رأيت فقالت ما جئت لاشتري شيئا انما لي أيام اتردد إلى السوق ليقع بقلبي رجل اتزوجه وقد وقعت أنت بقلبي ولي مال فهل لك في التزوج بي فقال لها لي ابنة عم وهي زوجتي وقد عاهدتها الا غيرها ولي منها ولد فقالت قد رضيت ان تجيء الي في الاسبوع نوبتين فرضي وقام معها فعقد العقد ومضى إلى منزلها فدخل بها. ثم ذهب إلى منزله فقال لزوجته ان بعض اصدقائي قد سالني ان اكون الليلة عنده ومضى فبات عندها وكان يمضي كل يوم بعد الظهر اليها.

(1/176)

فبقي على هذا ثمانية اشهر فانكرت ابنة عمه احواله فقالت لجارية لها إذا خرج فانظري اين يمضي فتبعته الجارية فجاء إلى الدكان فلما جاءت الظهر قام وتبعته الجارية وهو لا يدري إلى ان دخل بيت تلك المراة فجاءت الجارية إلى الجيران فسالتهم لمن هذه الدار فقالوا لصبية قد تزوجت برجل تاجر بزاز.فعادت إلى سيدتها فاخبرتها فقالت لها اياك ان يعلم بهذا أحد ولم تظهر لزوجها شيئا.فأقام الرجل تمام السنة ثم مرض ومات وخلف ثمانية آلاف دينار فعمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقه الولد من التركة وهو سبعة آلاف دينار فأفردتها وقسمت الألف الباقية نصفين وتركت النصف في كيس وقالت للجارية خذي هذا الكيس واذهبي إلى بيت المرأة واعلميها أن الرجل مات وقد خلف ثمانمائة آلاف دينار وقد أخذ الابن سبعة آلاف بحقه وبقيت آلف فقسمتها بيني وبينك وهذا حقك وسلميه إليها.فمضت الجارية فطرقت عليها الباب ودخلت وأخبرتها خبر الرجل وحدثتها بموته وأعلمتها الحال فبكت وفتحت صندوقها وأخرجت منه رقعة وقالت للجارية: عودي إلى سيدتك وسلمي عليها عني واعلميها أن الرجل طلقني وكتب لي براءة وردي عليها هذا المال فإني ما استحق في تركته شيئا. فرجعت الجارية فأخبرتها بهذا الحديث.ذكر من اصطفي من أهل المدائنشعيب بن حرب قال ابن إسماعيل ذهبنا إلى المدائن، إلى شعيب بن حرب، وكان قاعدا على شط دجلة، وكان قد بنى كوخا، وخبز له معلق في شريط، ومطهرة يأخذ كل ليلة رغيفا يبله في المطهرة ويأكله، فقال بيده هكذا، وإنما كان جلدا وعظما. قال: فقال: أترى ههنا بعد لحما، والله لأعملن في ذوبانة حتى أدخل القبر وأنا عظام تقعقع أريد السمن للدود والحيات? قال: فبلع أحمد بن حنبل قوله فقال: شعيب بن حرب حمل على نفسه الورع.

(1/177)

السري بن المغلس السقطي قال: أربعة كانوا في الدنيا أعملوا أنفسهم في طلب الحلال، ولم يدخلوا أجوافهم إلا الحلال. فقيل له: من هم? قال: وهيب بن الورد، وشعيب بن حرب، ويوسف بن أسباط، وسليمان بن الخواص.عبد الله بن خبيق قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: أكلت في عشرة أيام أكلة وشربت شربة.قال شعيب بن حرب: رأيت النبي في النوم، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فجئت فقال: أوسعوا له فإنه حافظ لكتاب الله عز وجل.جاء رجل إلى شعيب بن حرب وهو بمكة فقال: ما جاء بك? قال جئت أؤنسك. قال: جئت تؤنسني وأنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة.قال شعيب بن حرب: لا تجلس إلا مع أحد رجلين: رجل جلست إليه يعلمك خيرا فتقبل منه، أو رجل تعلمه خيرا فيقبل منك، والثالث: اهرب منه.قال شعيب بن حرب لرجل: إن دخلت القبر ومعك الإسلام فأبشر.قال ا بن الفضل: رأيت شعيب بن حرب بمكة وعليه جبة صوف رقيقة نظيفة، وعليه إزار خفيف إلى الصفرة، وعمامة، وهو حاف وقد صفر لحيته على لون، ووجهه مصفر، وفي كمه دريهمات تكون مقدار ثلاثين درهما، وقال: ما أصبحت أملك شيئا من الدنيا أستطيبه إلا هذه ، ورأيته بكى حتى رأيت دموعه تسيل على لحيته.نزل على شعيب بن حرب أخ له يقال له عبدة. فلما نادوا بالنفير خرج عبدة فتبعه شعيب. فلما أراد مفارقته قال له شعيب: اجعلني في حل. قال: من أي شيء? قال: من أجل الأخوة فإني لم أقم بأخوتك.قال شعيب بن حرب: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل.عبد الوهاب قال: كان ههنا قوم خرجوا إلى المدائن، إلى شعيب بن حرب، فلما رجعوا إلى دورهم ولقد أقام بعضهم يستقي الماء، وكان شعيب يقول لبعضهم الذي يستقي الماء: لو رآك سفيان لقرت عينه.قال المروزي: وقلت لأبي عبد الله: أرويه عنك? فأجازه.قال شعيب بن حرب: لا تحقرن فلسا تطيع الله في كسبه، ليس الفلس يراد إنما الطاعة تراد، عسى أن تشتري به بقلا فلا يستقر في جوفك حتى يغفر لك.

(1/178)

قال شعيب بن الحرب: من طلب الرياسة ناطحته الكباش، ومن رضي أن يكون ذنبا أبى الله إلا أن يجعله رأسا.ذكر المصطفين من أهل واسطمنصور بن زاذانكان الحسن يقعد مع أصحابه ولا يقوم حتى يختم منصور بن زاذان القرآن.قال أبو سعيد: رأيت منصورا توضأ يوما فلما فرغ دمعت عيناه ثم جعل يبكي حتى ارتفع صوته، قلت: رحمك الله ما شأنك? فقال: وأي شيء أعظم من شأني? إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله أن يعرض عني قال: فأبكاني والله بقوله.مكث منصور بن زاذان يصلي الفجر بوضوء عشاء الآخرة عشرين سنة.عن أبي عوانة قال: لو قيل لمنصور بن زاذان: إنك ميت اليوم أو غدا، ما كان عنده مزيد.قال هشيم: لو قيل لمنصور بن زاذان إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل، وذلك أنه كان يخرج فيصلي الغداة في جماعة. ثم يجلس فيسبح حتى تطلع الشمس، ثم يصلي إلى الزوال، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي إلى العصر، ثم يصلي العصر، ثم يجلس فيسبح إلى المغرب، ثم يصلي المغرب، ثم يصلي العشاء ثم ينصرف إلى بيته فيكتب عنه في ذلك الوقت.جنازة منصور بن زاذان الرجال على حدة، والنساء على حدة، واليهود على حدة، والنصارى على حدة.سيار بن دينار، وقيل ابن وردانعن هشيم قال: دخلنا على سيار أبي الحكم وهو يبكي، فقلنا: ما يبكيك? قال: ما أبكى العابدين قبلي.قال سيار: الفرح بالدنيا والحزن بالآخرة لا يجتمعان في قلب عبد، إلا إذ سكن أحدهما القلب خرج الآخر.قال حسين بن زيادة: بعث بعض القضاة إلى سيار بواسط فأتاه فقال له: لم لا تجيء إلينا? فقال له: إن أنت أدنيتني فتنتني، وإن باعدتني غممتني، وليس عندك ما أرجوه ولا عندي ما أخافك عليه. ثم قام.

(1/179)

خرج سيار إلى البصرة، فقام يصلي إلى سارية في المسجد الجامع، وكان حسن الصلاة، عليه ثياب جياد. فرآه مالك بن دينار فجلس إليه فسلم سيار، فقال له مالك: هذه الصلاة وهذه الثياب? فقال له سيار: هذه ترفعني عندك أو تضعني? فقال: تضعك. قال: هذا أردت. ثم قال له: يا مالك إني لأحسب ثوبيك هذين قد أنزلاك من نفسك ما لم ينزلك من الله. فبكى مالك وقال له: أنت سيار? قال: نعم0فعانقه ... 0هشيم بن بشير بن أبي خازمقال أبو إسحاق الحربي: كان هشيم رجلا كان أبوه صاحب صحناة وكواميخ، يقال له بشير. وطلب ابنه هشيم الحديث فاشتهاه، وكان أبوه يمنعه. فكتب الحديث حتى جالس أبا شيبة القاضي، وكان يناظر أبا شيبة في الفقه، فمرض هشيم، فقال أبو شيبة: ما فعل ذلك الفتى الذي كان يجيء إلينا? قالوا: عليل. فقال: قوموا بنا حتى نعوده. فقام أهل المجلس جميعا يعودونه حتى صاروا إلى منزل بشير، فدخلوا إلى هشيم فجاء رجل إلى بشير ويده في الصحناة فقال: الحق ابنك قد جاء القاضي يعوده. فجاء بشير والقاضي في داره. فلما خرج قال لابنه: يا بني قد كنت أمنعك من طلب الحديث فأما اليوم فلا، صار القاضي يجيء إلى بابي، متى أملت هذا.قال الحربي: وكان حفاظ الحديث أربعة، هشيم شيخهم، يزعمون أنه ما رئي له إلا دفتر واحد.عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: لزمت هشيما أربع سنين، أو خمس سنين، ما سألته عن شيء هيبة إلا مرتين. قال لي: وكان هشيم كثير التسبيح بين الحديث، يقول بين ذلك: لا إله إلا الله، يمد بها صوته.محمد بن حاتم المؤدب قال: قيل لهشيم، كم كنت تحفظ يا أبا معاوية? قال: كنت أحفظ في مجلس مائة ولو سئلت عنها بعد شهر لأجبت.

(1/180)

نصر بن بسام وغيره من أصحابنا قالوا: أتينا أبا محفوظ معروفا الكرخي فقال لنا: رأيت النبي في النوم وهو يقول لهشيم: يا هشيم: جزاك الله عن أمتي خيرا. قال ابن بسام: فقلت: يا أبا محفوظ أنت رأيته? قال: نعم، هشيم خير مما نظن، هشيم خير مما نظن، هشيم خير مما نظن رضي الله عن هشيم.عمرو بن عون قال: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء عشاء الآخرة، قبل أن يموت، عشر سنين.يزيد بن هارونعلي بن المديني قال: ما رأيت رجلا قط أحفظ من يزيد بن هارون.قال أبو جعفر أحمد بن سنان: ما رأيت عالما قط أحسن صلاة من يزيد بن هارون يقوم كأنه أسطوانة، وكان يصلي بين المغرب والعشاء والظهر والعصر لم يكن يفتر من صلاة الليل والنهار، هو وهشيم جميعا معروفان بطول الصلاة بالليل والنهار.كان يزيد بن هارون إذا صلى العتمة لا يزال قائما حتى يصلي الغداة بذلك الوضوء نيفا وأربعين سنة.قال رجل ليزيد بن هارون: كم حزبك? فقال: وأنام من الليل شيئا? إذا لا أنام الله عيني.قال يزيد بن هارون: من طلب الرئاسة في غير أوانها حرمه الله إياها في أوانها.قال الحسن بن عرفة: رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان? فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.قال أبو نافع :كنت عند أحمد بن حنبل وعنده رجلان، فقال أحدهما: يا أبا عبد الله رأيت يزيد بن هارون في المنام فقلت له: يا أبا خالد ما فعل الله بك? قال: غفر لي وشفعني وعاتبني. قال: قلت غفر لك وشفعك قد عرفت، ففيم عاتبك? قال: قال لي يا يزيد أتحدث عن حريز بن عثمان? قال: قلت يا رب ما علمت إلا خيرا.قال: يا يزيد إنه كان يبغض أبا الحسن علي بن أبي طالب.

(1/181)

قال: وقال الآخر: وأنا رأيت يزيد بن هارون في المنام? فقلت له: هل أتاك منكر ونكير? قال: إي والله، وسألاني من ربك? وما دينك? ومن نبيك? قال: قلت: ألمثلي يقال هذا وأنا أعلم الناس هذا في دار الدنيا? فقالا لي: صدقت فنم نومة العروس لا بؤس عليك.قال حوثرة: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته بأربع ليال فقلت: ما فعل الله بك? تقبل مني الحسنات، وتجاوز عن السيئات، ووهب لي التبعات. قلت: وما كان بعد ذلك? قال: هل يكون من الكريم إلا الكرم? غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة. قلت: بم نلت? قال: بمجالس الذكر وقول الحق وصدقي في الحديث وطول قيامي في الصلاة وصبري على الفقرذكر المصطفين من أهل الكوفة من التابعين ومن بعدهم من الطبقة الأولىسويد بن غفلة بن عوسجة بن عامررحل إلى رسول الله فوصل إلى المدينة، وقد قبض رسول الله فصحب أبا بكر وعثمان وعليا.وروى عنه الشعبي أنه قال: أنا أصغر من رسول الله بسنة.عن عمران بن مسلم قال: كان سويد بن غفلة إذا قيل له أعطي فلان وولي فلان، قال: حسبي كسرتي وملحي.عن عثمان بن عمران قال: قال سويد بن غفلة: لو استطعت أن أكون مؤذن الحي لفعلت.عن خثيمة عن سويد بن غفلة قال: إذا أراد أن ينسى أهل النار جعل لكل واحد منهم تابوتا من نار على قدره ثم أقفل عليهم بأقفال من نار فلا يضرب فيهم عرق إلا وفيه مسمار من نار. ثم يجعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار، ثم يقفل عليه بأقفال من نار ثم تضرم بينهم نار ثم يجعل ذلك في تابوت آخر من نار ثم يقفل بأقفال من نار ثم تضرم نار فلا يرى أحد منهم أن في النار غيره.عن سويد بن غفلة قال: إن الملائكة تمشي أمام الجنازة وتقول: ما قدم? ويقول الناس: ما ترك? عن الوليد بن علي عن أبيه قال: كان سويد بن غفلة يؤمنا في شهر رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة.عن عاصم قال: تزوج سويد بن غفلة وهو ابن ستة عشرة ومائة سنة، وكان يمشي، يأتي الجمعة ماشيا.

(1/182)

قال حنش: رأيت سويد يمر بنا في المسجد إلى امرأة له من بني أسد وهو ابن سبع وعشرين ومائة سنة.عن عاصم بن كليب قال: تزوج سويد بن غفلة بكرا وهو ابن ست عشرة ومائة سنة وكان يمر بنا إلى الجمعة يمشي وهو ابن ست عشرة ومائة.الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد اللهكان الأسود يختم القرآن في رمضان في ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان، في كل ست ليال.عن أبي إسحق قال: حج الأسود ثمانين من بين حج وعمرة.عن عبد الرحمن بن تروان الأودي قال: كان الأسود بن يزيد يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر: وكان علقمة يقول له: ويحك لم تعذب هذا الجسد? فيقول: إن الأمر جد، إن الأمر جد.عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الأسود بن زيد. وكان يجتهد في العبادة، ويصوم حتى يصفر ويخضر. فلما احتضر بكى. فقيل له ما هذا الجزع? فقال: لا أجزع? ومن أحق بذلك مني? والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه بما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ولا يزال مستحيا منه. قال: لقد حج الأسود ثمانين حجة.حنش بن الحارث قال: رأيت الأسود وقد ذهبت إحدى عينيه من الصوم.عمارة قال: ما كان الأسود إلا راهبا من الرهبان.عن الحكم قال: كان الأسود يصوم الدهر.مسروق بن الأجدع بن مالك أبو عائشة الهمدانيولقي مسروقا عمر بن الخطاب فقال له: ما اسمك? فقال: مسروق بن الأجدع. فقال الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبد الرحمن. فثبت ذلك عليه.عن مسروق قال: بحسب المؤمن من الجهل أن يعجب بعمله، وبحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله.عن مسروق قال: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عز وجل.

(1/183)

قيل لمسروق: لو أنك قصرت عن بعض ما تصنع، أي من العبادة، فقال: والله لو أتاني آت فأخبرني أن الله لا يعذبني لاجتهدت في العبادة. قيل: وكيف ذلك? قال: حتى تعذرني نفسي إن دخلت جهنم لا ألومها، أما بلغك في قوله عز وجل: ولا أقسم بالنفس اللوامة القيامة: 2، إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم واعتقبتهم الزبانية وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني ورفعت عنهم الرحمة وأقبل كل امرئ منهم يلوم نفسه. عن أبي إسحاق قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجدا على وجهه حتى رجع.قالت امرأة مسروق: كان يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه.عن إبراهيم قال: كان مسروق يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم.عن مسروق قال: إني أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيز ولا درهم.عن مسروق قال: إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها، يتذكر ذنوبه يستغفر منها.عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم مسروق بن الأجدع، فإن امرأته قالت: ما كان يوجد إلا وساقاه قد انتفختا من طول الصلاة فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع? قال: ما لي لا أجزع وإنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي? بين يدي طريقان لا أدري إلى الجنة أم إلى النار? عن الشعبي قال: غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت له ابنته: أفطر قال: ما أردت بي? قالت: الرفق. قال: يا بنية إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.علقمة بن قيس بن عبد الله يكنى أبا شبلقال أبو ظبيان: أدركت ما شاء الله من أصحاب النبي يسألون علقمة ويستفتونه.عن إبراهيم عن علقمة قال: كان عبد الله يشبه النبي في هديه ودله وسمته وكان علقمة يشبه بعبد الله.قال مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين. كان علقمة يختم القرآن في كل خمس.

(1/184)

قيل لعلقمة: لو جلست فأقرأت الناس القرآن وحدثتهم قال: أكده أن توطأ عقبي وأن يقال: هذا علقمة،وكان يكون في بيته يعلف غنمه ويقت لهن.قيل لعلقمة: ألا تخرج فتحدث الناس? قال: أخرج? يتبعون عقبي ويقولون: هذا علقمة. قالوا: أفلا تدخل على السلطان فتنتفع? قال: إني لا أصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من ديني مثله. ولا تؤذنوا بي أحدا وأغلقوا الباب ولا تتبعني امرأة ولا تتبعوني بنار، وإن استطعتم أن يكون آخر كلامي لا إله إلا الله.شقيق بن سلمة الأسدي يكنى أبا وائلكان له خص من قصب، وكان يكون فيه هو وفرسه فإذا غزا نقضه وتصدق به وإذا رجع أنشأ بناءه.عن عاصم قال: ما رأيت أبا وائل يلتفت في صلاة ولا في غيرها قط.عن إبراهيم قال: ما من قرية إلا وفيها من يدفع عن أهلها به، وإني لأرجو أن يكون أبو وائل منهم.سعيد بن صالح قال: رأيت أبا وائل يسمع النوح ويبكي.عن أبي وائل قال: إن أهل بيت يضعون على مائدتهم رغيفا حلالا لأهل بيت غرباء.عن مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يذكر في منزل أبي وائل، فكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطير.عن عاصم قال: كان أبو وائل إذا خلا يسبح، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل.عمرو بن قيس قال: كان شقيق بن سلمة يدخل المسجد يصلي ثم ينشج كما تنشج المرأة.كان عطاء أبي وائل ألفين فإذا خرج أمسك ما يكفي أهله سنة وتصدق بما سوى ذلك.قال شقيق بن سلمة وهو ساجد: رب اغفر لي رب اعف عني، إن تعف عني تطولا من فضلك، وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي. قال: ثم يبكي حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.زيد بن وهب الجهنيقال عبد الله بن داود: خبرتنا مولاة لزيد بن وهب قالت: كان زيد قد أثر الرحل بوجهه من الحج والعمرة.قال المصنف: رحل زيد إلى رسول الله فقبض رسول الله وزيد في الطريق.يزيد بن شريك التميمي

(1/185)

قال يزيد: قدمت البصرة فربحت فيها عشرين ألفا، فما أكثرت بها فرحا، وما أريد أن أعود إليها لأني سمعت أبا قالذر: إن صاحب الدرهم يوم القيامة أخف من صاحب الدرهمين.عن الأعمش، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه أنه خرج إلى البصرة فاشترى رقيقا بأربعة آلاف، ثم باعهم فربح أربعة آلاف. فقلت يا أبت لو أنك عدت إلى البصرة فاشتريت مثل هؤلاء فربحت فيهم. فقال: يا بني لم تقول هذا? فوالله ما فرحت بها حين أصبتها ولا أحدث نفسي أن أرجع فأصيب مثلها.زر بن حبيش الأسدي يكنى أبا مريمعن عاصم بن أبي النجود قال: أدركت أقواما كانوا يتخذون هذا الليل جملا، منهم: زر، وأبو وائل.عن سويد أن زر بن حبيش كتب إلى عبد الملك بن مروان كتابا يعظه فيه، فكان في آخر كتابه: ولا يطعمنك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك، فأنت أعلم بنفسك، واذكر ما تكلم به الأولون.إذا الرجال ولدت أولادها وبليت من كبر أسجادهاوجعلت أسقامها تعتادها فذلك زروع قد دنا حصادهافلما قرأ الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق.عمرو بن شرحبيل، أبو ميسرةكان عمرو إذا آوى إلى فراشه قال: وددت أني لم أك شيئا قط.عبد الله بن أبي الهذيل، يكنى أبا المغيرةكنا نجالس عبد الله فإذا جاء إنسان فألقى حديثا من حديث الناس قال: يا عبد الله ليس لهذا جلسنا.عن خالد أبي سنان قال: شكا عبد الله بن أبي الهذيل يوما من ذنوبه، فقال له رجل: يا أبا المغيرة أو لست التقي النقي? فقال: اللهم إن عبدك هذا أراد أن يتقرب إلي وإني أشهدك على مقته.عن العوام بن حوشب عن ابن أبي الهذيل قال: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة.عن العوام بن حوشب قال: ما رأيت ابن أبي الهذيل إلا وكأنه مذعور.مرة بن شراحيل الهمدانيويقال له مرة الطبيب، سمي بذلك لعبادته.

(1/186)

قال حصين: أتينا مرة بن شراحيل نسأل عنه فقالوا: إنه في غرفة له قد تعبد اثنتي عشرة سنة. فدخلنا عليه.عن زبيد اليامي قال: كان مرة الهمداني يصلي في اليوم والليلة ستمائة ركعة.عن عطاء بن السائب قال: كان مرة يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فلما ثقل وبدن صلى أربعمائة ركعة وكنت أنظر إلى مباركه كأنها مبارك الإبل.العلاء بن عبد الكريم الأيامي قال: كنا نأتي مرة الهمداني فيخرج إلينا فنرى أثر السجود في جبهته وكفيه وركبتيه وقدميه، فيجلس معنا هنية ثم يقوم قائما فإنما هو ركوع وسجود.الحارث الغنوي قال: سجد مرة الهمداني، حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه رجل من أهله في منامه كأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدري يلمع قال: فقلت له: ما هذا الذي أرى بوجهك? قال كسي موضع السجود، بأكل التراب له نورا. قال: فما منزلتك في الآخرة? قال: خير منزلة، دار لا ينقل عنها أهلها ولا يموتون.عمرو بن ميمون الأوديكان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد فرئي ذكر الله عز وجل. حج ستين حجة وعمرة.قال أبو المليح: قال عمرو بن ميمون ما يسرني أن أمري يوم القيامة إلى أبوي.همام بن الحارث النخعيكان يدعو: اللهم اشفني من النوم باليسير، وارزقني سهرا في طاعتك، وكان لا ينام إلا هنية وهو قاعد.عن إبراهيم قال: أصبح همام مترجلا فقال بعض القوم: إن جمة همام لتخبركم أنه لم يتوسدها الليلة.عن الأعمش قال: كانوا يأتون همام بن الحارث يتعلمون في هديه وسمته.ربعي بن حراش بن جحش الغطفانيإن ربعي بن حراش لم يكذب كذبة قط وكان له ابنان عاصيان على الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما. قال: أين ابناك? قال: هما في البيت. قال: قد عفونا عنهما بصدقك.عن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن حراش أن لا يضحك حتى يعلم في الجنة هو أو في النار.

(1/187)

قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسما على سريره ونحن نغسله حتى فرغنا من غسله.أخو ربعي بن حراشعن ربعي بن حراش قال: كنا إخوة ثلاثة، وكان أعبدنا وأصومنا وأفضلنا الأوسط منا. فغبت غيبة إلى السواد. ثم قدمت على أهلي فقالوا: أدرك أخاك فإنه في الموت. فخرجت أسعى إليه فانتهيت إليه وقد قضى وسجي بثوب، فقعدت عند رأسه أبكيه، فرفع يده فكشف الثوب عن وجهه وقال: السلام عليكم. قلت: أي أخي أحياة بعد موت? قال: نعم. إني لقيت ربي فلقيني بروح وريحان، ورب غير غضبان، وأنه كساني ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، وإني وجدت الأمر أيسر مما تحسبون، ثلاثا، وإني لقيت رسول الله فأقسم أن لا أبرح حتى آتيه. فعجلوا جهازي. ثم طفئ، فكأنه أسرع من حصاة لو ألقيت في ماء.زياد بن حدير الأسديكان الرجل يأتي زياد بن حدير فيقول له: إني أريد رستاق كذا وكذا. فيقول له: اقطع طريقك بذكر الله.قال زياد بن حدير: وددت أني في حيز من حديد معي فيه ما يصلحني لا أكلم الناس ولا يكلموني حتى ألقى الله.شريح بن الحارث بن قيس القاضي يكنى أبا أميةولاه عمر الكوفة قال شريح،: سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر.عن ابن سيرين قال: سمعت شريحا يحلف بالله ما ترك عبد شيئا لله فوجد فقده.قال ابن سيرين: ولا أرى شريحا حلف إلا على علم.عن الأعمش قال: اشتكى شريح رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس، فدخل عليه عواده فقالوا: كيف تجدك? قال: صالحا. فقالوا: ألا أريتها الطبيب? فقال: قد فعلت. فقالوا: فما قال لك? قال: وعد خيرا.عن شريح أنه قضى على رجل باعترافه، فقال: يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة فقال: أخبرني ابن أخت خالك.

(1/188)

عن عامر: أن ابنا لشريح قال لأبيه: بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم وإن لم يكن لي الحق لم أخاصمهم، فقص قصته عليه فقال: انطلق فخاصمهم فانطلق إليهم فخاصمهم إليه فقضى على ابنه. فقال له لما رجع إلى أهله: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فضحتني. فقال: والله يا بني لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله هو أعز علي منك، أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم.عن الشعبي قال: شهدت شريحا وجاءته امرأة تخاصم رجلا فأرسلت عينيها وبكت فقلت: يا أبا أمية ما أظنها إلا مظلومة. فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون.عن شريح أنه رأى جيرانا له يجولون فقال: ما لكم? قالوا: فرغنا اليوم فقال: ما بهذا أمر الفارغ.كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره ولم يكن لها مثقب شارع إلا في جوف داره اتقاء لأذى المسلمين.خرج شريح من عند زياد فلقيه رجل فقال: كبرت سنك ورق عظمك وارتشى ابنك. قال: فرجع إليه فأخبره فقال: من قال لك? قال: لا أعرفه فأعفني. قال: لا أعفيك حتى تشير علي برجل. فأشار عليه بأبي بردة فولاه القضاء.شبيل بن عوف بن أبي حية أبو الطفيل الأحمسيمن بجيلة أدرك الجاهلية ... عن شبيل بن عوف قال: ما اغبرت رجلاي في طلب دنيا قط.سويد بن شعبة اليربوعيعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: دخلت على سويد بن شعبة، وكان من أصحاب الخطط الذين خط لهم عمر بن الخطاب بالكوفة فإذا هو منكب على وجهه مسجى بثوب، فلولا أن امرأته قالت: أهلي فداؤك، ما نطعمك? ما نسقيك? ما ظننت أن تحت الثوب شيئا - فلما رآني قال: يا ابن أخي دبرت الحراقف والصلب فما من ضجعة غير ما ترى، والله ما أحب أني نقصت منه قلامة ظفر.قال الأصمعي: الحرقفة: مجتمع رأس الورك ورأس الفخذين.معضد بن يزيد العجلي يكنى أبا ذر

(1/189)

معضد قال: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله عز وجل، ما باليت أن أكون يعسوبا.قال همام انتهيت إلى معضد وهو ساجد، فأتيته وهو يقول: اللهم اشفني من النوم باليسير. ثم مضى في صلاته.قال المؤلف: لم يحفظ لمعضد حديث مسند، وإنما كان مشغولا بالتعبد.أويس بن عامر بن جرير ابن مالك القرنيعن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد أهل اليمن سألهم: هل فيكم أويس بن عامر? حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر? قال: نعم. قال: من مراد ثم قرن? قال: نعم. قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم? قال نعم قال: لك والدة? قال نعم. قال: سمعت رسول الله ) يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، وله والدة هو بها بار لو أقسم على الله عز وجل لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل . فاستغفر لي. فاستغفر له.فقال عمر رضي الله عنه ورحمه الله: أين تريد? قال: الكوفة. فقال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك قال: لأن أكون في غبر الناس أحب إلي. قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس: كيف تركته? قال: تركته رث الهيئة قليل المتاع. فقال: سمعت رسول الله ) يقول: يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله عز وجل لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل .فلما قدم الكوفة أتى أويسا فقال: استغفر لي. فقال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح، فاستغفر لي، لقيت عمر? قال: نعم. فاستغفر له. ففطن له الناس فانطلق على وجهه. قال أسير: وكسوته بردافكان إذا رآه إنسان عليه قال: من أين لأويس هذا البرد? انفرد بإخراج هذا الحديث مسلم. ..... ..... ...

(1/190)

عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية منهم أويس القرني، ظن أهله أنه مجنون فبنوا له بيتا على باب دارهم، فكانت تأتي عليه السنة والسنون لا يرون له وجها، وكان طعامه مما يلتقط من النوى فإذا أمسى باعه لإفطاره فإن أصاب حشفة حبسها لإفطاره.فلما ولي عمر بن الخطاب قال بالموسم: أيها الناس قوموا. فقاموا. فقال: اجلسوا، إلا من كان من اليمن: فجلسوا فقال: اجلسوا إلا من كان من مراد. فجلسوا. فقال: إلا من كان من قرن. فجلسوا إلا رجلا، وكان عم أويس القرني. فقال له عمر: أقرني أنت? قال: نعم، قال: أتعرف أويسا? قال: وما تسأل عن ذلك يا أمير المؤمنين? فوالله ما فينا أحمق ولا أجن ولا أحوج منه. فبكى عمر ثم قال: بك لا به، سمعت رسول الله يقول: يدخل الجنة بشفاعته مثل ربيعة ومضر .

(1/191)

قال هرم بن حيان: فلما بلغني ذلك قدمت الكوفة فلم يكن لي هم إلا طلبه، حتى سقطت عليه جالسا على شاطئ الفرات نصف النهار، يتوضأ. فعرفته بالنعت الذي نعت لي: فإذا رجل نحيل آدم شديد الأدمة أشعث محلوق الراس مهيب المنظر، فسلمت عليه فرد علي ونظر إلي، ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك، كيف أنت? وخنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه، لما رأيت من حاله، حتى بكيت وبكى. قال: وأنت، فحياك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي? من دلك علي? قلت: الله. قال: لا إله إلا الله، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا مفعولا سورة الإسراء، آية 108. فقلت: ومن أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم ولا رأيتني? قال: نبأني العليم الخبير، عرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن المؤمنين يعرف بعضهم بعضا ويتحابون بروح الله عز وجل، وإن لم يلتقوا، إن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل. قلت: حدثني رحمك الله عن رسول الله قال: إني لم أدرك رسول الله ، ولم يكن لي معه صحبة بأبي وأمي رسول الله، ولكني قد رأيت رجلا قد رأوه ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب، أن أكون محدثا أو قاضيا أو مفتيا، في نفسي شغل عن الناس. فقلت: أي أخي اقرأ علي آيات من كتاب الله عز وجل أسمعها منك، وأوصني بوصية أحفظها عنك، فإني أحبك في الله. فأخذ بيدي فقال: أعود بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم قال ربي، وأحق القول قول ربي عز وجل، وأصدق الحديث حديث ربي عز وجل، ثم قرأ: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق إلى قوله العزيز الرحيم سورة الدخان، من الآية رقم 38 إلى الآية 42 فشهق شهقة فنظرت إليه وأنا أحسبه قد غشي عليه. ثم قال: يا هرم بن حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت أنت فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء يا بن حيان، ومات نوح نبي الله، ومات إبراهيم خليل الله، ومات موسى نجي

(1/192)

الله، ومات داود خليفة الرحمن، ومات محمد وعلى جميع الأنبياء، ومات أبو بكر خليفة رسول الله، ومات أخي وصديقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.فقلت له: يرحمك الله إن عمر لم يمت. قال: بلى قد نعاه إلي ربي عز وجل، ونعى إلي نفسي، وأنا وأنت في الموتى. ثم صلى على النبي ودعا بدعوات خفاف ثم قال: هذه وصيتي إياك: كتاب الله وتعي المرسلين ونعي صالح المؤمنين، فعليك بذكر الموت ولا يفارقن قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعا، وإياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم، فتدخل النار، وادع لي ولنفسك.ثم قال: اللهم إن هذا زعم أنه يحبني فيك وزارني من أجليك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله على دارك، دار السلام، واحفظه ما دام حيا، وأرضه من الدنيا باليسير، واجعله لما أعطيته من نعمك من الشاكرين واجزه عني خيرا. ثم قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاتهلا أراك بعد اليوم إن شاء الله تعالى رحمك الله فإني أكره الشهرة، والوحدة أحب إلي لأني كثير الغم ما دمت مع هؤلاء الناس، فلا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك وتراني، واذكرني وادع لي فإني سأدعو لك وأذكرك إن شاء الله، فانطلق أنت ها هنا حتى آخذ أنا ههنا. فحرصت على أن أمشي معه ساعةفأبى علي ففارقته أبكي ويبكي، فجعلت أنظر إليه حتى دخل بعض السكك، ثم سألت بعد ذلك وطلبته فلم أجد أحدا يخبرني عنه بشيء، وما أتت علي جمعة إلا وأراه في منامي مرة أو مرتين.عن أسير بن جابر أن أويسا القرني كان إذا حدث يقع حديثه في قلوبنا موقعا ما يقع حديث غيره.عن أسير بن جابر قال: كان محدث بالكوفة يحدثنا، فإذا فرغ من حديثه يقول: تفرقوا. ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحد يتكلم بكلام فأحببته. ففقدته، فقلت لأصحابي: هل تعرفون رجلا كان يجالسنا? فقال رجل من القوم: نعم أنا أعرفه وذاك أويس القرني. قلت: وتعرف منزله? قال: نعم.

(1/193)

قال: انطلقت معه حتى جئت حجرته خرج إلي فقلت: يا أخي ما حبسك عنا? قال: العري. وكان أصحابه يسخرون به ويؤذونه. قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه. قال لا تفعل فإنهم يؤذونني إذا رأوه. قال: فلم أزل به حتى لبسه. فخرج عليهم فقالوا: من ترون خدع عن برد هذا. فجاء فوضعه? فقال: أترى? قال: فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل? قد آذيتموه، الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة. فأخذتهم بلساني أخذا شديدا.قال: فقضي أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوفد رجل ممن كان يسخر به، فقال عمر: قدم علينا أويس فقلت: أنت أخي لا تفارقني. فانملس مني فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة.فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه فقال: سمعت عمر يقول فيك كذا وكذا فاستغفر لي يا أويس. قال لا أفعل حتى تجعل لي عليك ألا تسخر بي فيما بعد، وألا تذكر الذي سمعته عن عمر لأحد.قال أسير: فما لبثنا أن فشا أمره بالكوفة فانملس منهم فذهب.عمرو بن مرة قال: لما لقي عمر أويسا وظهر عليه هرب فما رئي حتى مات.عن الشعبي قال: مر رجل من مراد على أويس القرني فقال: كيف أصبحت? قال: أصبحت أحمد الله عز وجل. قال: كيف الزمان عليك? قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظن أنه لا يمسي، وإن أمسى ظن أنه لا يصبح? فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار.يا أخا مراد إن الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحا، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له فضة ولا ذهبا، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقا.

(1/194)

لحق رجل بأويس القرني فسمعه يقول: اللهم إني أعتذر إليك اليوم من كل كبد جائعة، فإنه ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني، وليس في بيتي من شيء من الرياش إلا ما على ظهري. قال: وعلى ظهره خرقة قد تردى بها وقال: فأتاه رجل فقال له: كيف أصبحت? أو كيف أمسيت? فقال: أصبحت أحب الله، وأمسيت أحمد الله، وما تسأل عن حال رجل إذا هو أصبح ظن ألا يمسي، وإذا أمسى ظن أنه لا يصبح? إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحا، وإن حق الله في مال المسلم، لم يدع له من ماله فضة ولا ذهبا، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدع للمؤمن صديقا، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أدع أن أقوم لله فيهم بحقه، ثم أخذ الطريق.عن قيس بن بشر بن عمرو، عن أبيه قال: كسوت أويسا القرني ثوبين، من العري.عن مغيرة قال: إن كان أويس القرني ليتصدق بثيابه حتى يجلس عريانا لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة.عن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويسا أن يقدم على النبي بره بأمه.كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة السجود فيسجد حتى يصبح، وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به.الحسن بن عمرو، قال: سمعت بشرا يقول: بلغ من عري أويس أنه جلس في قوصرة.كان أويس القرني يلتقط الكسر من المزابل فيغسلها ويتصدق ببعضها ويأكل بعضها، ويقول: اللهم إني أبرأ إليك من كبد جائع.قال هرم بن حيان لأويس القرني: أوصني قال: توسد الموت إذا نمت، واجعله نصب عينيك، وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئا أشد عليك منهما، بينا قلبك معك ونيتك إذا هو مدبر، وبينا هو مدبر إذا هو مقبل، ولا تنظر في صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.زار هرم بن حيان أويسا، فقال له هرم: يا أويس واصلنا بالزيارة.

(1/195)

فقال أويس: قد وصلتك بما هو انفع لك من الزيارة واللقاء: الدعاء بظهر الغيب، لأن الزيارة واللقاء قد يعرض فيهما التزين والرياء.قلت: كان أويس مشغولا بالعبادة عن الرواية، غير أنه قد أرسل الحديث عن النبي.عن عبد الله بن سالم قال: غزونا آذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنا أويس القرني. فلما رجعنا مرض علينا فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا فإذا قبر محفور وماء مسكوب وكفن وحنوط. فغسلناه وكفناه وصلينا عليه.الحارث بن سويد التيميقال: إبراهيم كان الرجل يأتي الحارث بن سويد فيشتمه، فإذا فرغ قال الحارث: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . سورة الزلزلة، الآيتان 7 و8، كفى هذا إحصاء.صحب عبد الله بن مسعود من التيم سبعين رجلا، وكان الحارث بن سويد من أعلاهم نفسا.أبو عبد الرحمن السلميأقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة.قال شمر: أخذ بيدي أبو عبد الرحمن السلمي فقال: كيف قوتك على الصلاة? فذكرت ما شاء الله أن أذكره، فقال أبو عبد الرحمن: كنت مثلك أصلي العشاء، ثم أقوم أصلي، فأنا حين أصلي الفجر أنشط مني أول ما بدأت به.عن أبي عبد الرحمن أنه كان يؤتى بالطعام إلى المسجد. ربما استقبلوه به في الطريق فيطعمه المساكين، فيقولون: بارك الله فيكم. فيقول: وبارك الله فيكم.ويقول: قالت عائشة: إذا تصدقتم فردوا حتى يبقى لكم أجر ما تصدقتم.عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن في مرضه الذي مات فيه. قال: فذهب بعض القوم يرجيه. فقال: أنا لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان? ... 0زاذان، أبو عمر ومولى كندةسالم بن أبي حفصة، عن زاذان، أنه كان يبيع الثياب، فإذا عرض الثوب ناول شر الطرفين عن زبيد قال: رأيت زاذان يصلي كأنه جذع قد حفر له.ابن نمير قال: قال زاذان: يا رب إني جائع فسقط عليه من الروزنة رغيف مثل الرحا.الربيع بن خثيم الثوري

(1/196)

يكنى أبا يزيد عن سعيد بن مسروق قال: قال عبد الله للربيع بن خثيم: لو رآك رسول الله لأحبك.كان عبد الله يقول للربيع: ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين. وكان الربيع إذا أتى عبد الله لم يكن عليه إذن حتى يفرغ كل واحد منهما من صاحبه. وكان الربيع إذا جاء إلى باب عبد الله يقول للجارية: من بالباب? فتقول الجارية ذاك الشيخ الأعمى.عن حماد بن أبي سليمان قال: كان عبد الله بن مسعود إذا نظر إلى الربيع بن خثيم قال: مرحبا قال: أبا يزيد لو رآك رسول الله ) لأحبك ولأوسع لك إلى جبنه. ثم يقول: وبشر المخبتين سورة الحج: الآية 34.عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الربيع بن خثيم.وكان يقول: أما بعد فأعد زادك وخذ في جهازك، وكن وصي نفسك.وقيل له: ألا تذكر الناس? فقال: ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذمها إلى أن أذم الناس، إن الناس خافوا الله في ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم.وقيل له حين أصابه الفالج: لو تداويت. فقال: لقد عرفت أن الدواء حق ولكني ذكرت عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا كانت فيهم الأوجاع وكان لهم الأطباء، فما بقي المداوي ولا المداوى.عن إبراهيم التيمي قال: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب.عن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة.قالت سرية الربيع بن خثيم: كان عمل الربيع كله سرا إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.عن منذر، عن الربيع بن خثيم قال: كل ما لا يبتغى به وجه الله عز وجل يضمحل.أبو حيان التيمي عن أبيه، قال: ما سمعت الربيع بن خثيم يذكر شيئا من أمر الدنيا قط.عن الربيع بن خثيم أنه سرق له فرس أعطي به عشرين ألفا فقالوا له: ادع الله عليه. فقال: اللهم إن كان غنيا فاغفر له، وإن كان فقيرا فأغنه.أصاب الربيع حجر في رأسه فشجه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر له فإنه لم يتعمدني.

(1/197)

كان الربيع بن خثيم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيقول: يا أهل المقابر كنا وكنتم. فإذا أصبح فكأنه نشر من قبر.عن منذر الثوري قال: كان الربيع بن خثيم يقول السرائر التي تختفي على الناس وهي لله بواد، التمسوا دواءهن التمسوا دواءهن. ثم يقول: وما دواءهن? دواءهن أن تتوب فلا تعود.عن الربيع بن خثيم أنه قال لأصحابه: تدرون ما الداء والدواء والشفاء? قالوا: لا. قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود.عن نسير قال: بت بالربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات سورة الجاثية الآية 21 الآية فمكث ليلته حتى أصبح، ما يجوز هذه الآية إلى غيرها، ببكاء شديد.حماد الأصم، عمن حدثه عن بعض أصحاب الربيع قال: ربما علمنا شعره عند المساء، وكان ذا وفرة ثم يصبح والعلامة كما هي، فتعلم أن الربيع لم يضع جنبه ليلته على فراشه.كان ربيع بعد ما سقط شقه يهادي بين رجلين إلى مسجد قومه، وكان أصحاب عبد الله يقولون له يا أبا يزيد لقد رخص الله لك لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون، ولكني سمعته ينادي: حي على الفلاح فمن سمع منكم فليجبه ولو زحفا، ولو حبوا.كان الربيع ابن خثيم إذا سجد كأنه ثوب مطروح فتجيء العصافير فتقع عليه.عن بلال بن المنذر قال: قال رجل للربيع: قتل ابن فاطمة فاسترج ثم تلا هذه الآية: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون سورة الزمر آية 46. قال ما تقول? قال: ما أقول? إلى الله إيابهم وعليه حسابهم.

(1/198)

عن سفيان قال: بلغنا أن أم الربيع كانت تنادي فتقول: يا بني، يا ربيع، ألا تنام، فيقول: يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام. قال: فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني لعلك قتلت قتيلا? فقال: نعم يا والدة، قتلت قتيلا. فقالت: ومن هذا القتيل يا بني نتحمل على أهله فيعفوك والله لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك. فيقول: يا والدتي هي نفسي.قالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام? قال: إن جهنم لا تدعني أنام.قالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه إني أرى الناس ينامون وأنت لا تنام? قال: يا بنية إن أباك يخاف البيات.كان عند الربيع بن حثيم رهط فجاءته ابنته فقال: يا أبتاه أذهب ألعب? فقال: اذهبي فقولي خيرا، غير مرة، قال: فقال القوم: أصلحك الله وما عليك أن تقول لها? قال: وما علي أن لا يكتب هذا في صحيفتي.كانت ابنة الربيع بن خثيم تأتيه فتقول: يا أبتاه ائذن لي ألعب. فيقول: يا بنية، قولي خيرا، قال فتلقنها أمها: قولي: أتحدث فيقول: إني لم أسمع الله رضي لأحد اللعب.عن رجل من بني تيم الله، عن أبيه قال: جالست الربيع بن خثيم سنين فما سألني عن شيء مما فيه الناس إلا أنه قال لي مرة: أمك حية? كم لكم مسجد?

(1/199)

عن سعيد الحارثي قال: ضرب الربيع بن خثيم الفالج فطال وجعه فاشتهى لحم دجاج، فكف نفسه أربعين يوما. ثم قال لامرأته: اشتهيت لحم دجاج منذ أربعين يوما فكففت نفسي رجاء أن تكف فأبت فقالت له امرأته: سبحان الله وأي شيء هذا حتى تكف نفسك عنه? قد أحله لك. فأرسلت امرأته إلى السوق فاشترت له دجاجة بدرهم ودانقين فذبحتها وشوتها واختبزت له خبزا له أصباغ، ثم جاءت بالخوان حتى وضعته بين يديه، فلما ذهب ليأكل قام سائل على الباب فقال: تصدقوا علي بارك الله فيكم، فكف عن الأكل وقال لامرأته: خذي هذا فلفيه وادفعيه إلى السائل، فقالت امرأته: سبحان الله. فقال: افعلي ما آمرك، قالت: فأنا أصنع ما هو خير له وأحب إليه من هذا. قال: وما هو? قالت: نعطيه ثمن هذا وتأكل أنت شهوتك. قال: قد أحسنت ائتيني بثمنه. قال: فجاءت بثمن الدجاجة والخبز والأصباغ فقال: ضعيه على هذا وادفعيه جميعا إلى السائل.قال الربيع لأهله: اصنعوا لي خبيصا. قال: وكان يكاد لا يشتهي عليهم شيئا. قال: فصنعوه. قال: فأرسل إلى جار له مصاب، قال: فجعل يأكل ولعابه يسيل قال: فقال أهله: ما يدري هذا ما يأكل.فقال الربيع: لكن الله عز وجل يدري.عن خوات بن عبيد الله قال: كان السائل إذا أتى الربيع بن خثيم قال: أطعموه مسكرا فإني أحب السكر.عن سعيد بن مسروق، عن ربيع بن خثيم أنه كان يلبس قميصا سنبلانيا أراه ثمن ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم قال: فإذا مد كمه يبلغ ظفره، وإذا أرسله بلغ ساعده، وإذا رأى بياض القميص قال: أي عبيد تواضع لربك، ثم يقول: أي لحميه وأي دميه كيف تصنعان إذا سيرت الجبال ودكت الأرض دكا وجاء ربك والملك صفا صفا.عن بكر بن ماعز قال: كان بالربيع بن خثيم خبل من الفالج، فكان يسيل من فيه لعاب. قال: فمسحته يوما. فرآني كرهت ذلك فقال: والله ما أحب أنه بأعتى الديلم على الله عز وجل.قيل للربيع بن خثيم: لو جالستنا. فقال: لو فارق قلبي ذكر الموت ساعة فسد علي.

(1/200)

قال الربيع بن خثيم: أنا بعصافير المسجد آنس مني بأهلي.كان الربيع يكنس الحش بنفسه. فقيل له: إنك تكفى هذا. فقال: إني أحب أن آخذ نصيبي من المهنة.قال أبي وائل: خرجنا مع عبد الله بن مسعود، ومعنا الربيع فمررنا على حداد، فقام عبد الله ينظر حديدة في النار، فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط، فمضى عبد الله حتى أتينا على أتون على شاطئ الفرات فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية: إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا إلى قوله ثبورا سورة الفرقان، الآيتان: 12 و13 فصعق الربيع فاحتملناه فجئنا به إلى أهله قال: ثم رابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق، ثم رابطه إلى العصر فلم يفق، ثم رابطه إلى المغرب فلم يفق، ثم إنه أفاق، فرجع عبد الله إلى أهله.مر الربيع في الحدادين فنظر إلى كير فصعق. قال الأعمش: فمررت بالحدادين لأتشبه به فلم يكن عندي خير.كان الربيع إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا يزيد? قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.كان الربيع بن خثيم لا يعطي السائل أقل من رغيف، ويقول: إني لأستحي أن يرى في ميزاني أقل من رغيف.كان الربيع بن خثيم إذا أصبح قال: مرحبا بملائكة الله، اكتبوا، بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.صالح بن موسى، عن أبيه قال: قال الربيع بن خثيم لرجل لا تلفظ إلا بخير فغن العبد مسئول عن لفظه يحصى ذلك عليه كله أحصاه الله ونسوه سورة المجادلة آية 6.الفضيل بن عياض قال: كان الربيع بن خثيم يقول في دعائه: أشكو إليك حاجة لا يحسن بثها إلا إليك.أبو سليمان قال: بينما الربيع بن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك وجهه، فقال: لقد وعظت يا ربيع. فقام ودخل وأغلق الباب وما رئي في ذلك المجلس حتى مات.

(1/201)

قال الربيع بن خثيم: إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا هممت فاذكر علمه بك، وإذا نظرت فاذكر نظره إليك، وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك، فإنه يقول تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا سورة الإسراء: آية 36.عن الربيع بن خثيم أنه كان يبكي حتى تبل لحيته من دموعه، ثم يقول: أدركنا أقواما كنا في جنوبهم لصوصا.عمرو بن عتبة بن فرقد السلميعن عبد الله بن ربيعة قال: كنت جالسا مع عتبة بن فرقد ومعضد العجلي وعمرو بن عتبة، فقال عتبة بن فرقد: يا عبد الله بن ربيعة ألا تعينني على ابن أخيك، يعينني على ما أنا فيه من عملي? قال: فقال عبد الله: يا عمرو أطع أباك. قال: فنظر عمرو إلى معضد العجلي، فقال له معضد: لا تطعهم واسجد واقترب. قال عمرو: يا أباه إنما أنا رجل أعمل في فكاك رقبتي فبكى عتبة ثم قال: يا بني إني أحبك حبين حبا لله وحب الوالد ولده، فقال عمرو: يا أبت إنك قد كنت أتيتني بمال بلغ سبعين ألفا فإن كنت سائلي عنه فهو هذا فخذه، أو فدعني فأمضيه. قال يا بني فأمضه. فأمضاه حتى ما بقي منه درهم.قال عمرو بن عتبة بن فرقد: سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين، وأنا أنتظر الثالثة؛ سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها.اشترى عمرو بن عتبة فرسا بأربعة آلاف درهم فعنفوه، يستغلونه، فقال: ما خطوة يخطوها، يقدمها إلى الغزو، إلا وهي أحب إلي من أربعة آلاف.كان لعمرو بن عتبة، كل يوم رغيفان يتسحر بأحدهما ويفطر بالآخر.قال بشر بن الحارث: كان عمرو بن عتبة يصلي والحمام فوق رأسه، والسباع حوله، تحرك أذنابها.

(1/202)

قال مولى لعمرو رآني عمرو بن عتبة وأنا مع رجل وهو يقع في آخر، فقال لي: ويلك - ولم يقلها لي قبلها ولا بعدها - نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغها في وعائك، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها.قال مولى عمرو بن عتبة: استيقظنا يوما حارا في ساعة حارة، فطلبنا عمرو بن عتبة فوجدناه في جبل وهو ساجد، وغمامة تظله وكنا نخرج إلى العدو فلا نتحارس، لكثرة صلاته، ورأيته ليلة يصلي فسمعنا زئير الأسد فهربنا وهو قائم يصلي لم ينصرف. فقلنا له: أما خفت الأسد? فقال: إني لأستحيي من الله أن أخاف شيئا سواه.كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلا فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور، طويت الصحف، ورفعت الأعمال. ثم يبكي، ثم يصف بين قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح.عن علقمة قال: خرجنا ومعنا مسروق وعمرو بن عتبة ومعضد غازين، فلما بلغنا ماسبذان وأميرها عتبة بن فرقد: قال لنا ابنه عمرو بن عتبة: إنكم إن نزلتم عليه صنع لكم نزلا ولعله أن يظلم فيه أحدا، ولكن إن شئتم قلنا في ظل هذه الشجرة وأكلنا من كسرنا ثم رحنا. ففعلنا وقطع عمرو بن عتبة جبة بيضاء فلبسها وقال: والله إن تحدر الدم على هذه حسن فرمي، فرأيت الدم يتحدر على المكان الذي وضع يده عليه فمات.عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجنا في جيش فيهم علقمة ويزيد بن معاوية النخعي وعمرو بن عتبة ومعضد. قال: فخرج عمرو بن عتبة وعليه جبة جديدة بيضاء، فقال: فتحدر عليها الدم ثم مات منها فدفناه. ولما أصابه الحجر فشجه جعل يلمسها بيده ويقول: إنها صغيرة وإن الله ليبارك في الصغير.

(1/203)

عن السدي قال: حدثني ابن عم لعمرو بن عتبة قال: نزلنا في مرج حسن، فقال عمرو بن عتبة: ما أحسن هذا المرج، ما أحسن الآن لو أن مناديا ينادي: يا خيل الله اركبي فخرج رجل، وكان في أول من لقي، فأصيب ثم جيء به فدفن في هذا المرج. قال: فما كان بأسرع من أن نادى مناديا خيل الله اركبي. فخرج عمرو في سرعان الناس في أول من خرج، فأتى عتبة فأخبر بذلك فقال: علي عمرا، علي عمرا. فأرسل في طلبه فما أدرك حتى أصيب، قال: فما أراه دفن إلا في مركز رمحه وعتبة يومئذ على الناس.قال هشام صاحب الدستوائي: لما مات عمرو بن عتبة دخل بعض أصحابه على أخته فقال: أخبرينا عنه فقالت: قام ليلة فاستفتح حم فأتى على هذه الآية وأنذرهم يوم الآزفة سورة غافر آية 18 فما جاوزها حتى أصبح.لا يعرف لعمرو بن عتبة مسند. شغلته العبادة عن الرواية، وهذه الغزاة التي استشهد فيها هي غزاة آذربيجان، وذلك في خلافة عثمان بن عفان.عنبس بن عقبة الحضرميإن كان عنبس ليسجد حتى إن العصافير ليقعن على ظهره وينزلن، ما يحسبنه إلا جذم حائط.كردوس بن عباس الثعلبيكان كردوس يقول: ويقص علينا زمن الحجاج أن الجنة لا تنال إلا بعمل، اخلطوا الرغبة بالرهبة، ودوموا على صالح الأعمال، وألقوا الله بقلوب سليمة وأعمال صادقة، وكان يكثر من أن يقول من خاف أدلج من خاف أدلج.الفضل بن بزوانقيل للفضل بن بزوان: إن فلانا يقع فيك. قال: لأغيظن من أمره، غفر الله له. قيل له: من أمره? قال الشيطان.الحارث بن قيس الجعفيعن الاعمش قال: قال لي خيثمة لقد رؤأيت الحارث بن قيس اجتمع عنده رجلان قام وتركهما.عن الحارث بن قيس الجعفي، قال: إذا كنت في أمر الآخرة فتمكث، وإذا كنت في أمر الدنيا فتوخ، وإذا هممت بخير فلا تؤخره، وإذا أتاك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائي فزدها طولا.أبو صالح، ماهان الحنفي

(1/204)

أمر الحجاج بماهان أن يصلب على بابه، فرأيته حين رفع على خشبته يسبح ويهلل ويكبر، ويعقد بيده حتى بلغ تسعا وعشرين. قال: فطعنه الرجل على تلك الحال. قال: فلقد رأيته بعد شهر معقودا بيده تسعة وعشرين قال: كنا نرى عنده الضوء بالليل شبه السراج.قال الشيباني،: دنوت من ماهان لما أراد أن يصلب فقال: تنح يا بن أخي لا تسأل عن هذا المقام.قال التمار سألت ماهان الحنفي: ما كانت أعمال القوم? قال: كانت أعمالهم قليلة، وكانت قلوبهم سليمة.من الطبقة الثانية عامر بن شراحيل الشعبي يكنى أبا عمروعن ابن سيرين قال: قدمت الكوفة وللشعبي حلقة عظيمة، وأصحاب رسول الله يومئذ كثير.عن أبي مجلز قال: ما رأيت أحدا أفقه من الشعبي.عن ابن شبرمة قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي.عن الشعبي قال: ما أروي شيئا أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شعرا لا أعيده.مكحول قال: ما لقيت أحدا أعلم بسنة ماضية من الشعبي.ابن شبرمة قال: كنت أمشي مع الشعبي إلى أهله فقال لي: احملني أو أحملك، يعني حدثني أو أحدثك.عن داود بن يزيد الأودي قال: قال لي الشعبي: يا أبا يزيد قم معي حتى أفيدك فمشيت معه وقلت: أي شيء تفيدني? قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم به، فإنه علم حسن.قال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره رأيت أن سفره لم يضع.قال الشعبي: العلم أكثر من عدد القطر، فخذ من كل شيء أحسنه.سعيد بن جبيرعن عبد الله بن مسلم قال: كان سعيد بن جبير إذا قام إلى الصلاة كأنه وتد.عن القاسم بن أبي أيوب الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.قال القاسم بن أبي ايوب: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعا وعشرين مرة: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله سورة البقرة آية 281 الآية.

(1/205)

قال عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين.عن هلال بن خباب قال: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج في كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة.قال سعيد لدغتني عقرب فأقسمت علي أمي أن أسترقي، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ، وكرهت أن أحنثها.قال أصبغ بن زيد الواسطي: كان لسعيد بن جبير ديك كان يقوم الليل بصياحه، قال: فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصل سعيد تلك الليلة، فشق عليه فقال: ما له قطع الله صوته? قال: فما سمع له صوت بعدها. فقالت أمه: يا بني لا تدع على شيء بعدها.عن سعيد بن جبير، قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية، والذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.قال خصيف: رأيت سعيد بن جبير صلى ركعتين خلف المقام قبل صلاة الصبح. قال: فأتيته فصليت إلى جنبه وسألته عن آية من كتاب الله فلم يجبني. فلما صلى الصبح قال: إذا طلع الفجر فلا تتكلم إلا بذكر الله حتى تصلي الصبح.قال يحيى: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية: وامتازوا اليوم أيها المجرمون سورة يس 59 حتى تصبح.قال معاوية: لقيت سعيد بن جبير عند الميضأة فرأيته ثقيل اللسان? قال: قرأت القرآن البارحة مرتين ونصفا.عن حماد: أن سعيد بن جبير قرأ القرآن في ركعة في الكعبة، وقرأ في الركعة الثانية بقل هو الله أحد.كثير بن تميم الداري قال: كنت جالسا مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله، وكان به من الفقه فقال: إني لأعلم خير حالاته قالوا: وما هو? قال: أن يموت فأحتسبه.عن جعفر قال: قيل لسعيد: من أعبد الناس? قال: رجل اجترح من الذنوب، فكلما ذكر ذنوبه احتقر عمله.

(1/206)

قال المصنف: كان سعيد بن جبير فيمن خرج على الحجاج من القراء، وشهد دير الجماجم. فلما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة، فبعث به إلى الحجاج.قال أبو حصين: أتيت سعيد بن جبير بمكة فقلت: إن هذا الرجل قادم، يعني خالد بن عبد الله، ولا آمنه عليك، فأطعني واخرج فقال: والله لقد قررت حتى استحييت من الله، قلت: والله إني لأراك، كما سمتك أمك، سعيدا.قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه فأخبرني يزيد بن عبد الله قال: أتينا سعيد بن جبير حين جيء به فإذا هو طيب النفس، وبنية له في حجرة، فنظرت إلى القيد فبكت فشيعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس: أعطنا كفلاء فإنا نخاف أن تغرق نفسك. قال يزيد: فكنت فيمن كفل به.عن داود بن أبي هند قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولا، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الشهادة فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها. فكأنه رآى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.دعا سعيد بن جبير حين دعي ليقتل فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك? ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة.قال ابن ذكوان: إن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله، فقال الرسول: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فاذهب إلى أي طريق شئت. فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه.قال: فذهب به فلما دخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك? قال: سعيد بن جبير. فقال: بل شقي ابن كسير. فقال: أمي سمتني. قال: شقيت. قال: الغيب يعلمه غيرك. قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك نارا تلظى. قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلها غيرك.

(1/207)

ثم قال له الحجاج: ما تقول في رسول الله? قال: نبي مصطفى، خير الباقين وخير الماضين. قال: فما تقول في أبي بكر الصديق? قال: ثاني اثنين غذ هما في الغار أعز الله به الدين، وجمع به بعد الفرقة. قال: فما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه? قال: فاروق وخيرة الله من خلقه، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين، فكان أحقهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان بن عفان? قال: مجهز جيش العسرة، والمشتري بيتا في الجنة والمقتول ظلما. قال: فما تقول في علي? قال: أولهم إسلاما وأكثرهم هجرة، تزوج بنت رسول الله التي هي أحب بناته إليه.قال: فما تقول في معاوية? قال: كاتب رسول الله. قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله إلى الآن? قال: سيجزون بأعمالهم، فمسرور ومثبور ولست عليهم بوكيل. قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان? قال: إن يكن محسنا فعند الله ثواب إحسانه وإن يكن مسيئا فلن يعجز الله.قال: فما تقول في? قال: أنت بنفسك أعلم. قال: بث في علمك. قال: إذا أسوءك ولا أسرك. قال: بث. قال: نعم، ظهر منك جور في حد الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله. قال: والله لأقطعنك قطعا وأفرقن أعضاءك عضوا عضوا. قال: إذا تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك. قال: الويل لك من الله. قال: لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به، فاضربوا عنقه، قال سعيد: إني أشهدك أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة.

(1/208)

فلما ذهبوا به ليقتل تبسم فقال له الحجاج: مم ضحكت? قال: من جرأتك على الله عز وجل. فقال الحجاج: أضجعوه للذبح فأضجع فقال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض . فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة. فقرأ سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله . فقال: كبوه على وجهه. فقرأ سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم : فذبح من قفاه. قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج ، فما بقي إلا ثلاثا حتى وقع في جوفه الدود فمات.عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. ثم قالها الثالثة فلم يتمها.عن يحيى بن سعيد، عن كاتب الحجاج، يقال له يعلى، قال: كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلت عليه يوما بعد ما قتل سعيد بن جبير، وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت ما يلي ظهره فسمعته يقول: ما لي ولسعيد بن جبير? فخرجت رويدا، وعلمت أنه إن علم بي قتلني، فلم ينشب الحجاج بعد ذلك إلا يسيرا.وفي رواية أخرى: عاش بعده خمسة عشر يوما، وفي رواية: ثلاثة أيام وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير? كلما أردت النوم أخذ برجلي.عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه.إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي يكنى أبا عمرانقال الأعمش كان إبراهيم يتوقى الشهرة فكان لا يجلس إلى الأسطوان وكان صيرفي الحديث فكنت إذا سمعت الحديث من بعض أصحابنا عرضته عليه.عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم قال: سألته عن شيء فجعل يتعجب ويقول احتيج إلي، احتيج إلي.قال منصور: ما سألت إبراهيم قط عن مسئلة إلا رأيت الكراهية في وجهه، ويقول: أرجو أن تكون، وعسى.عن إبراهيم، أنه قال: تكلمت ولو وجدت بدا ما تكلمت، فإن زمانا أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء.

(1/209)

عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: لقد أدركت أقواما لو بلغني أن أحدهم توضأ على ظفره لم أعده.عن محمد بن سوقة قال: زعموا أن إبراهيم النخعي كان يقول: كنا إذا حضرنا جنازة أو سمعنا بميت عرف فينا أياما لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمر صيره إلى الجنة أو النار قال: وإنكم في جنائزكم تحدثون بأحاديث دنياكم.عن الأعمش قال: كنت عند إبراهيم وهو يقرأ في المصحف واستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة.عن مغيرة، عن إبراهيم، أنه كان يلبس الثوب المصبوغ بالزعفران أو بالعصفر، وكان من يراه لا يدري أمن القراء هو أم من الفتيان.عن شعيب بن الحبحاب، عن هنيدة امرأة إبراهيم النخعي: أن إبراهيم كان يصوم يوما ويفطر يوما.عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يجلسون فأطولهم سكوتا أفضلهم في أنفسهم.عن إبراهيم قال: إن كانوا ليكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو قال أحسن ما عنده.عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى صلاته، وإلى هديه، وإلى سمته.عن أبي هاشم الرماني، عن إبراهيم قال: لا يستقيم رأي إلا برواية، ولا رواية إلا برأي.عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه.سفيان، عن الأعمش قال: جهدنا بإبراهيم أن يستند إلى سارية فأبى علينا.عن الأعمش قال: كان إبراهيم يتوقى الشهرة، وكان لا يجلس إلى أسطوانة. وكان يجلس مع القوم فيجيء الرجل فيوسع له فإذا اضطره المجلس إلى أسطوانة قام.عن مغيرة قال: كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير.عن زبيد قال: ما سألت إبراهيم عن شيء إلا عرفت منه الكراهية.عن أبي الحصين قال: سألت إبراهيم عن شيء فقال: ما وجدت أحدا تسأله فيما بني وبينك غيري? أبو بكر قال: سألت الأعمش: أخبرني عن أكثر من رأيت عند إبراهيم قط قال: أربعة أو خمسة.

(1/210)

عن مغيرة قال: كان رجل على حال حسنة فأحدث حدثا أو أذنب ذنبا فرفضه أصحابه ونبذوه. فبلغ إبراهيم فقال: مه تداركوه وعظوه ولا تدعوه.عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب فما يمنعني من عيبه إلا مخافة أن أبتلى به.عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون المريض أن يجهد عند الموت.عن منصور، عن إبراهيم أنه قال: كانوا يستحبون شدة النزع.عن عمران الخياط قال: دخلنا على إبراهيم النخعي نعوده وهو يبكي فقلنا له: ما يبكيك أبا عمران? قال: أنتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أم بالنار.عن شعيب بن الحبحاب قال: كنت ممن صلى على إبراهيم النخعي ليلا ودفن في زمان الحجاج، ثم أصبحت فغدوت فقال: دفنتم ذلك الرجل الليلة? قلت: نعم. قال: دفنتم أفقه الناس، قلت: ومن الحسن فقال: أفقه من الحسن، ومن أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل الشام، وأهل الحجاز.إبراهيم بن يزيد بن شريك التيميكان إبراهيم التيمي إذا سجد تجيء العصافير فتنقر على ظهره كأنه جذم حائط.قال الأعمش لإبراهيم: بلغني أنك تمكث شهرا لا تأكل شيئا، قال: نعم وشهرين، ما أكلت منذ أربعين ليلة إلا حبة عنب ناولنيها أهلي فأكلتها ثم لفظتها. فقلت للأعمش أصدقته? فقال: إبراهيم بن يزيد التيمي. يريد أنه صدق.عن أبي حيان، عن إبراهيم التيمي قال: ما عرضت عملي على قولي إلا خشيت أن أكون مكذبا.سفيان قال: قال التيمي: كم بينكم وبين القوم? أقبلت عليهم الدنيا فهربوا وأدبرت عنكم فاتبعوها.قال العوام بن حوشب: ما رأيت رجلا قط خيرا من إبراهيم التيمي رافعا بصره إلى السماء في صلاة ولا في غيرها، وسمعته يقول: إن الرجل ليظلمني فارحمه.عن العوام بن حوشب قال: ما رأيت إبراهيم التيمي رافعا رأسه في الصلاة ولا في غيرها، ولا سمعته يخوض في شيء من أمر الدنيا قط.

(1/211)

عن بكير أو أبي بكير، عن أبي إبراهيم التيمي قال: ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن سورة فاطر آية 34 وينبغي لمن لا يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: إنا كنا في أهلنا مشفقين.قال إبراهيم التيمي: أعظم الذنب عند الله عز وجل أن يحدث العبد بما ستر الله عليه.قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين? قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا. قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.وتوفي في حبس الحجاج في سنة اثنتين وتسعين.كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي. فجاء الذي طلبه فقال: أريد إبراهيم. فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، فأخذه وهو يعلم أنه إبراهيم النخعي. فلم يستحل أن يدله عليه، فجاء به الحجاج فأمر بحبسه في الديماس ولم يكن لهم ظل من الشمس ولا كن من البرد، وكان كل اثنين في سلسلة. فتغير إبراهيم فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها. فمات في السجن. فرأى الحجاج في منامه قائلا يقول: مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة، فلما أصبح قال: هل مات الليلة أحد بواسط? قالوا نعم، إبراهيم التيمي مات في السجن فقال: حلم نزغة من نزغات الشيطان? فأمر به فألقي على الكناسة.خيثمة بن عبد الرحمنعن الأعمش قال: ورث خيثمة بن عبد الرحمن مائتي ألف درهم فأنفقها على القراء والفقهاء.قال الأعمش: كان خيثمة يصنع الخبيص والطعام الطيب ثم يدعو إبراهيم، يعني النخعي، ويدعونا معه فيقول: كلوا ما أشتهيه ما أصنعه إلا من أجلكم.

(1/212)

قال الأعمش: ربما دخلنا على خيثمة فيخرج السلة من تحت السرير، فيها الخبيص والفالوذج، فيقول: ما أشتهيه كلوا، أما إني ما جعلته إلا لكم. وكان موسرا، وكان يصر الدراهم، فإذا الرجل من أصحابه مخرق القميص أو الرداء أو به خلة تحينه فإذا خرج من الباب خرج هو من باب آخر حتى يلقاه فيعطيه فيقول: اشتر قميصا اشتر رداء، اشتر حاجة كذا.قال خيثمة: كان يعجبهم أن يموت الرجل عند خير يعمله، إما حج، وإما عمرة وإما غزاة وإما صيام رمضان.عن الأعمش قال: نفست امرأة المسيب بن رافع وهو غائب، فاشترى لها خيثمة خادما بستمائة.عن الحكم عن خيثمة قال: إذا طلبت شيئا فوجدته، فاسأل الله الجنة فلعله يكون يومك الذي يستجاب فيه.عن الأعمش، عن خيثمة قال: تقول الملائكة: يا رب عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء? قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه فإذا رأوا ثوابه قالوا: يا رب لا يضره ما أصابه في الدنيا. قال: ويقولون: عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا? قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه. قال: فإذا رأوا عقابه قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا.عن محمد بن خالد الضبي قال: لم نكن ندري كيف يقرأ خيثمة القرآن، حتى مرض فثقل، فجاءته امرأة فجلست بين يديه فبكت. فقال لها: ما يبكيك? الموت لا بد منه. فقالت له المرأة: الرجال بعدك علي حرام. فقال لها خيثمة: ما كل هذا أردت منك، إنما كنت أخاف رجلا واحدا وهو أخي محمد بن عبد الرحمن، وهو رجل فاسق يتناول الشراب فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب بعد إذ القرآن يتلى فيه كل ثلاث.عن سفيان، عن رجل، عن خيثمة: أنه أوصى أن يدفن في مقبرة فقراء قومه.عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد.قال محمد بن إسحاق: قدم علينا عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد حاجا فاعتلت إحدى قدميه فقام يصلي حتى أصبح على قدم واحدة قال: وصلى الفجر بوضوء العشاء.قال: وقدم علينا ليث بن أبي سليم فصنع مثلها.

(1/213)

القاسم بن مخيمرة الهمدانيقال القاسم بن مخيمرة: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام واحد، ولا أغلقت بابي ولي خلفه هم.قال القاسم: وأتيت عمر بن عبد العزيز فقضى عني سبعين دينارا وحملني على بغلة وفرض لي في كل سنة خمسين. فقلت: أغنني عن التجارة. فسألني عن حديث،فقلت هيبتني يا أمير المؤمنين. كأنه كره أن يحدثه به على هذا الوجه.من الطبقة الثالثةطلحة بن مصرف بن عمرو بن كعبوكان قارئ أهل الكوفة يقرؤون عليه القرآن فلما رأى كثرتهم عليه كره ذلك فمشى إلى الأعمش وقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحة.سفيان قال: قال الأعمش: ما رأيت مثل طلحة، إن كنت قائما فقعدت قطع القراءة، وإن كنت محتبيا فحللت حبوتي قطع القراءة مخافة أن يكون أملني.ابن أبي غنية قال: حدثني شيخ عمن حدثته قالت: أرسل إلي طلحة بن مصرف: إني أريد أن أوتد في حائطك وتدا. فأرسلت إليه نعم - قالت: ودخلت خادمنا منزل طلحة تقتبس نارا وطلحة يصلي. فقالت لها امرأته: مكانك يا فلانة حتى نشوي لأبي محمد هذا القديد على قصبتك يفطر عليه. فلما قضى صلاته قال: ما صنعت لا أذوقه حتى ترسل إلى سيدتها لحبسك إياها وشوائك على قصبتها.عن حريش بن سليم قال: كان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي رئائي وسمعتي.عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: بلغني عن طلحة أنه ضحك يوما، فوثب على نفسه فقال: فيم تضحك? إنما يضحك من قطع الأهوال وجاز الصراط. ثم قال: آليت أن لا أفتر ضاحكا حتى أعلم بم تقع الواقعة. فما رئي ضاحكا حتى صار إلى الله عز وجل.عن ليث قال: كنت أمشي مع طلحة فقال: لو علمت أنك أسن مني بليلة ما تقدمتك.خطب زبيد إلى طلحة ابنته. فقال: إنها قبيحة. قال: قد رضيت. قال: إن بعقبها أثرا. قال: قد رضيت.عبد الرحمن بن عبد الملك بن الحر عن أبيه قال: ما رأيت طلحة بن مصرف في ملأ إلا رأيت له الفضل عليهم.

(1/214)

قال رجل من تيم: ما رأيت أحدا أملك للسانه من طلحة بن مصرف.قال حريش بن سليم: سألت زبيدا من أعجب من أدركت إليك? قال: ما أدركت أحدا أعجب إلي من طلحة.عن ليث قال: حدثني طلحة في مرضه الذي مات فيه أن طاوسا كان يكره الأنين فما سمع طلحة يئن حتى ماتزبيد بن الحارث الياميكان زبيد قد قسم علينا الليل ثلاثا: ثلثا عليه، وثلثا علي، وثلثا على أخي، فكان زبيد يقوم ثلثه ثم يضربني برجله فإذا رأى مني كسلا قال: من يا بني فأنا أقوم عنك. ثم يجيء إلى أخي فيضربه برجله فإذا رأى منه كسلا قال: من يا بني فأنا أقوم عنك قال: فيقوم حتى يصبح.قال الأشج: وحدثني المحاربي عن سفيان قال: دخلنا على زبيد نعوده فقلنا: شفاك الله فقال: أستخير الله.قال سفيان: كان زبيد إذا كانت الليلة مطيرة أخذ شعلة من النار فطاف على عجائز الحي فقال: أوكف عليكم بيت? أتريدون نارا? فإذا أصبح طاف على عجائز الحي فقال: ألكم في السوق حاجة? أتريدون شيئا? قال وكيع: وحدثني أبي قال: كنت جالسا مع زبيد فأتاه رجل ضرير يريد أن يسأله. فقال له زبيد: إن كنت تريد أن تسأل عن شيء فإن معي غيري.قام زبيد ذات ليلة ليتهجد قال: فعمد إلى مطهرة له قد كان يتوضأ منها فغمس يده في المطهرة. فوجد الماء باردا شديدا كاد يجمد من شدة برده فذكر الزمهرير ويده في المطهرة. فلم يخرجها منها حتى أصبح. فجاءت الجارية وهي على تلك الحال فقالت: ما شأنك يا سيدي لم تصل الليلة كما كنت تصلي وأنت قاعد ها هنا على هذه الحال? قال ويحك أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير، فوالله ما شعرت بشدة برد يدي حتى وقفت علي، فانظري لا تحدثني بها أحدا ما دمت حيا. قال: فما علم بذلك أحد حتى مات.أنبأ سفيان بن زبيد قال: يسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم.قال سعيد بن جبير: لو خيرت عبدا ألقى الله في مسلاخه اخترت زبيدا الأيامي.

(1/215)

قال محمد بن سوقة: لو رأيت طلحة وزبيدا لعلمت أن وجوههما قد أخلقها سهر الليل وطول القيام، وكانا والله ممن لا يتوسد الفراش.عون بن عبد الله بن عتبةقال عون بن عبد الله: ذاكر الله في غفلة الناس، كمثل الفئة المنهزمة يحميها الرجل، لولا ذلك الرجل هزمت الفئة، ولولا من يذكر الله من غفلة الناس هلك الناس.قال عون بن عبد الله: صحبت الأغنياء فلم يكن أحد أطول غما مني إن رأيت أحدا أحسن ثيابا مني وأطيب ريحا مني، فصحبت الفقراء فاسترحت.عن مسعود قال: قال عون بن عبد الله: كفى بك من الكبر أن ترى لك فضلا على من هو دونك.عن أبي هارون قال: كان يحدثنا وللحيته رش بالدموع.عن المسعودي قال: قال عون بن عبد الله: ما أحسب أحدا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه.وقال عون: جالسوا التوابين فإنهم أرق الناس قلوبا.قال عون بن عبد الله : الدنيا والآخرة في قلب ابن آدم ككفتي الميزان ترجح إحداهما بالأخرى وما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه.قال عون بن عبد الله: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.قال عون: إن الله ليكره عبده على البلاء كما يكره أهل المريض مريضهم، وأهل الصبي صبيهم، على الدواء، ويقولون: اشرب هذا، فإن لك في عاقبته خيرا.عن المسعودي، عن عون قال: كان رجل يجالس قوما فترك مجالستهم فأتي في منامه، فقيل له: تركت مجالستهم? لقد غفر لهم بعدك سبعين مرة.عن عون بن عبد الله أنه كان يقول في بكائه وذكر خطيئته: ويح نفسي، بأي شيء لم أعص ربي? ويحي إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي،

(1/216)

ويحي كيف أنسى الموت ولا ينساني? ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي، ويحي كيف أغفل ولا يغفل عني? أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي? أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي? أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري، أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري? أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني? أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي? أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي? أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني? أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي? أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني? أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي? ويحي هل ضرب غفلتي أحدا سواي? أم هل يعمل لي غيري عن ضيعت حظي? ويحي كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم وقفني وسألني، ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني وشغلت بنفسي من غيري، وسارت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل مثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنبا مني، ويحي ما أشد حالي وأعظم خطري، فاغفر لي واجعل طاعتك همتي ولا تعرض عني يوم تعرض، ولا تفضحني بسرائري ولا تخذلني بكثرة فضائحي، بأي عين أنظر إليك وقد علمت سرائري?وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني ونطقت جوارحي بكل الذي كان مني، إلهي أنا الذي ذكرت ذنوبي لم تقرعيني، أنا تائب إليك فاقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي وإيماني برحتمك.قال عون بن عبد الله: ما أحد ينزل الموت حق منزلته إلا عد غدا ليس من أجله، كم من مستقبل يوما لا يستكمله، وراج غدا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.قال عون بن عبد الله: إن تمام التقوى أن تبتغي إلى ما قد علمت منها علم ما لم تعلم، وإن النقص فيما قد علمت ترك ابتغاء الزيادة فيه، وإنما يحمل الرجل على ترك ابتغاء الزيادة قلة الانتفاع بما قد علم.

(1/217)

قال عون بن عبد الله: كان أهل الخير يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات الثلاث ويلقى بها بعضهم بعضا: من عمل لآخرته كفاه الله عز وجل دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الناس، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته.قال عون بن عبد الله: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريعة، وهم إلى الرقة أقرب، فداووا القلوب بالتوبة، فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها، وجالسوا التوابين، فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعيولد في ولاية عثمان، عن مغيرة قال: كنت إذا رأيت أبا إسحاق ذكرت به الصدر الأول.قال إسحاق ذهبت الصلاة مني وضعفت ورق عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران.ضعف أبو إسحاق عن القيام فكان لا يقدر أن يقوم إلى الصلاة حتى يقام، فإذا أقاموه فاستتم قائما قرأ ألف آية وهو قائم.كان أبو إسحاق يقوم ليل الصيف كله، وأما الشتاء فأوله وآخره، وبين ذلك هجعة.عن سفيان قال: قال أبو إسحاق: أما أنا فإذا استيقظت لم أقلها.عمرو بن مرة الجملي، من مرادقال شعبة ما رأيت عمرو بن مرة في صلاته إلا ظننت أنه لا ينصرف حتى يستجاب له.قال سفيان: قلت لمعمر: من أفضل من رأيت? قال: ما يخيل إلي أني رأيت أحدا أفضله على عمرو بن مرة، ما رأيته قط يدعو إلا قلت: يستجاب له.عن عمرو بن مرة قال: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي.قال سعيد بن سنان: قال عمرو بن مرة ما أحب أني بصير، إني أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب.عن عمرو بن مرة قال: نظرت إلى امرأة فأعجبتني فكف بصري فأرجو أن يكون ذلك كفارة.سلام بن سليم قال: كنت أقرأ على عمرو بن مرة، فكنت أسمعه كثيرا يقول: اللهم اجعلني ممن يعقل عنك.

(1/218)

مسعر قال: سمعت عبد الملك بن ميسرة يقول ونحن في جنازة عمرو بن مرة: إني لأحسبه خير أهل الأرض.حبيب بن أبي ثابت الأسديأبو بكر بن عياش قال: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجدا، فلو رأيته قلت ميت، يعني من طول السجود.عن كامل أبي العلاء قال: أنفق حبيب بن أبي ثابت على القراء مائة ألف.قال حبيب ما استقرضت من أحد شيئا أحب إلي من نفسي، أقول لها أمهلي حتى تجيء من حيث أحب.مجمع بن يسار أبو حمزة التيميقال أبو الربيع: سمعت حفص يقول: دخل سفيان الثوري على مجمع التيمي فإذا في إزار سفيان خرق. قال: فأخذ أربعة دراهم فناول سفيان فقال: اشتر به إزارا. فقال سفيان: لا أحتاج إليها. قال مجمع: صدقت، أنت لا تحتاج ولكني أحتاج. قال: فأخذها فاشترى بها إزارا فكان سفيان يقول: كساني مجمع جزاه الله خيرا.وقال سفيان: ليس شيء من عمل أرجو أن يشوبه شيء كحبي مجمعا التيمي.قال سفيان: خلف لنا أبو حيان التيمي وما مر من عمله شيء أوثق في نفسه من حبه مجمعا التيمي.أبو بكر بن عياش قال: رأيت مجمعا التيمي في سوق الغنم فقالوا له: كيف شاتك هذه? قال: ما أرضاها. قال أبو بكر: ومن كان أورع من مجمع? سفيان قال: قال مسعر: جاء مجمع بشاة إلى السوق يبيعها فقال: يخيل إلي أن في لبنا ملوحة.عن الأعمش، عن مجمع، أنه نزل عليه ضيف فما سأله من أين جئت? وما جاء بك? حتى خرج من عنده.وقال أبو حاتم: دعا مجمع ربه عز وجل أن يميته قبل الفتنة. فمات من ليلته، وخرج زيد بن علي من الغد.الربيع بن أبي راشد ويكنى أبا عبد اللهقال عمر بن ذر: كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد كأنه مخمار من غير شراب.

(1/219)

عن خلف قال: كنت مع الربيع في الجبانة قرأ رجل: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث الآية سورة الحج آية 5. فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير من مما أريد من التجارة، فلو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لخشيت أن يفسد علي قلبي، ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت.عن خلف بن حوشب قال: قال الربيع بن أبي راشد: اقرأ علي يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فقرأتها عليه فبكى ثم قال: والله لولا أن تكون بدعة لسحت أو قال لهمت في الجبال.قال الربيع بن أبي راشد، ورأى رجلا مريضا يتصدق بصدقة فقسمها بين جيرانه، فقال: الهدايا إمام الزيارة. فلم يلبث الرجل إلا أياما حتى مات. فبكى عند ذلك الربيع وقال: أحسن والله بالموت وعلم أنه لا ينفعه من ماله إلا ما قدم بين يديه.قال الربيع بن أبي راشد: لولا ما يأمل المؤمنون من كرامة الله عز وجل لهم بعد الموت لانشقت في الدنيا مرائرهم، ولتقطعت أجوافهم.قال سفيان: لم يكن بالكوفة رجل أكثر ذكرا للموت من الربيع بن أبي راشد إن كان الربيع من الموت لعلى حذر.عبدة بن أبي لبابةعن الأوزاعي عن عبدة قال: إن أقرب الناس من الرثاء آمنهم له.قال عبيدة: إذا ختم الرجل القرآن نهارا صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإذا ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح.عقبة بن علقمة قال: سمعت الأوزاعي يقول: كان عبدة إذا كان في المسجد لم يذكر شيئا من أمر الدنيا.محمد بن جحادة الأودي مولى لبني أودكان محمد بن جحادة من العابدين، وكان يقال إنه لا ينام من الليل إلا أيسره.قال: فرأت امرأة من جيرانه كأن حللا فرقت على أهل مسجدهم لما انتهى الذي يفرقها إلى محمد بن جحادة دعا بسفط مختوم أخرج منه حلة صفراء. قالت: فلم يقم لها بصري فكساه إياها وقال له: هذه لك بطول السهر. قالت تلك المرأة: فوالله لقد كنت أراه بعد ذلك فأخالها عليه.من الطبقة الرابعة

(1/220)

منصور بن المعتمر السلمي يكنى أبا عثاب،عن زائدة بن قدامة قال: صام منصور بن المعتمر أربعين سنة قام ليلها وصام نهارها، وكان الليل يبكي فتقول له أمه: يا بني أقتلت قتيلا? فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي قال: فإذا أصبح كحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفتيه وخرج إلى الناس. فأخذه يوسف بن عمر عامل الكوفة يريده على القضاء فامتنع. قال: فجاءه خصمان فقعدا بين يديه فلم يسألهما ولم يكلمهما. وقيل ليوسف بن عمر: إنك لو نثرت لحمه لم يل لك قضاء فخلى عنه.قال أبو بكر بن عياش: ربما كنت مع منصور في منزله جالسا فتصيح به أمه، وكانت فظة غليظة. فتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى عليه? وهو واضح لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها.كان منصور في الديوان قال له إنسان: ناولني الطين أختم به. قال: أرني كتابك حتى أنظر أي شيء فيه.العلاء بن سالم العبدي قال: كان منصور، يعني ابن المعتمر، يصلي في سطحه. فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه. قالت: يا بني ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات.كانت جارة لمنصور بن المعتمر، وكان لها ابنتان لا تصعدان السطح إلا بعد ما ينام الناس، فقالت إحداهما ذات ليلة: يا أمتاه، ما فعلت القائمة التي كنت أراها في سطح فلان? فقالت: يا بنية لم تكن تلك قائمة إنما كان منصور يحيي الليل كله في ركعة لا يسجد فيها ولا يركع.قال أبو الأحوص: إن منصور بن المعتمر كان إذا جاء الليل اتزر وارتدى إن كان صيفا، وإن كان شتاء التحف فوق ثيابه ثم قام إلى محرابه كأنه خشبة منصوبة حتى يصبح.كان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجل قد أصيب بمصيبة منكس الطرف، منخفض الصوت، رطب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع. ولقد قالت له أمه يوما: ما هذا الذي تصنع بنفسك? تبكي الليل عامته لا تكاد تسكت. لعلك يا بني أصبت نفسا لعلك قتلت قتيلا. قال: فيقول: يا أماه أنا أعلم ما صنعت بنفسي.

(1/221)

عن سفيان قال: كانوا يقولون في ذلك الزمان: إن أطول أهل الكوفة تهجدا طلحة وزبيد وعبد الجبار بن وائل.قال الحميدي: فقلت: فمنصور? قال: نعم إنما كان الليل عنده مطية من المطايا متى شئت أصبته قد ارتحله.سفيان بن عيينة، وذكر منصور بن المعتمر، فقال: قد كان عمش من البكاء.عن الثوري قال: لو رأيت منصورا يصلي لقلت يموت الساعة.كان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائما على أطرافه، كل ذلك ليخفي عليهم العمل.سألوا أم منصور بن المعتمر عن عمله، فقالت: كان ثلث الليل يقرأ، وثلثه يبكي وثلثه يدعو.جرير قال: صام منصور وقام فكان يأكل فيرى الطعام في مجراه.قال ابن عيينة: رأيت منصور بن المعتمر في المنام فقلت: ما فعل الله بك قال: كدت ألقى بعمل نبي.قال سفيان: إن منصورا أقام ستين سنة. يقوم ليلها ويصوم نهارها.ضرار بن مرة الشيباني يكنى أبا سنانقال أصحابنا: كان البكاؤون بالكوفة أربعة: ضرار بن مرة، وعبد الملك بن أبجر، ومحمد بن سوقة، ومطرف بن طريف. وكان ضرارا قد حفر قبره قبل موته بخمس عشرة سنة، فكان يأتيه فيختم فيه القرآن.: كان ضرار حفر في بيته قبرا كان يتعبد فيه.كان ضرار بن مرة وا بن سوقة إذا كان يوم الجمعة طلب كل واحد منهما صاحبه، فإذا اجتمعا جلسا يبكيان.كان ضرار بن مرة يقول لنا: لا تجيئوني جماعة ولكن ليجيء الرجل وحده فإنكم إذا اجتمعتم تحدثتم، وإذا كان الرجل وحده لم يخل من أن يدرس جزأه أو يذكر ربه.قال أبو سنان: قال إبليس: إذا استمكنت من ابن آدم ثلاثا أصبت منه حاجتي: إذا نسي ذنوبه، واستكثر عمله، وأعجب برأيه.محمد بن سوقة مولى بجيلة، يكنى أبا بكر وكان سوقة بزازا.قال سفيان: ما بقي أحد يدفع به عن أهل الكوفة إلا ابن سوقة، كانت عنده عشرون ومائة ألف فقدمها.

(1/222)

قال العباس: وسمعت شهاب بن عباد قال: دخل رجل بيت محمد بن سوقة فرأى على الباب ستر مسح، فجعل ينظر إليه، ففطن ابن سوقة فقال: لعلك ترى أني ندمت، لا ما ندمت.نزل محمد بن المنكدر على محمد بن سوقة بالكوفة فحمله على حمار، فسألوه فقالوا: يا عبد الله أي العمل أحب إليك? قال: إدخال السرور على المؤمن. قالوا: فما بقي مما يستلذ? قال: الإفضال على الإخوان.عن مهدي بن سابق قال: طلب ابن أخي محمد بن سوقة منه شيئا فبكى فقال له: والله يا عم لو علمت أن مسألتي تبلغ منك هذا ما سألتك قال: ما بكيت لسؤالك إنما بكيت لأني لم أبتدئك قبل سؤالك.عن محمد بن سوقة قال: أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما لعذاب الله: أحدنا يزاد الشيء من الدنيا فيفرح فرحا ما علم الله أنه فرحه بشيء زاده قط في دينه، وينقص الشيء من الدنيا فيحزن عليه حزنا ما علم أنه حزنه على شيء نقصه قط في دينه.سليمان بن مهران الأعمش الأسديعن عيسى بن يونس قال: ما رأينا في زماننا مثل الأعمش، ما رأيت الأغنياء والسلاطين في مجلس أحد أحقر منهم في مجلس الأعمش وهو محتاج إلى درهم.كان الأعمش قريبامن سبعين سنة لم يفته التكبيرة الأولى،واختلفت إليه قريبا من سبعين فما رأيته يقضي ركعة قال يحيى القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظا على الصلاة في الجماعة وعلى الصف الأول. قال يحيى: وهو علامة الإسلام.قال الأعمش: إني لأحب أن أعافى في إخواني لأنهم إن بلوا بليت معهم إما بالمواساة وفيها مؤونة، وإما بالخذلان وفيه عار.قال سفيان: لو رأيت الأعمش لقلت: مسكين.قال ابن عياش: دخلت على الأعمش في مرضه الذي توفي فيه فقلت: أدعو لك طبيبا? فقال: ما أصنع به? فوالله لو كانت نفسي في يدي لطرحتها في الحش، إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحدا واذهب بي فاطرحني في لحدي.أبو حيان بن سعيد التيمي

(1/223)

سمع من الشعبي وكان ثقة صالحا. عبد الله بن إدريس قال: ما رأيت الليل على أحد من الناس أخف منه على أبي حيان التيمي، صحبناه مرة إلى مكة، فكان إذا أظلم الليل فكأنه مثل هذه الزنابير إذا هيجت من عشها.معروف بن واصل التيميكان معروف إمام مسجد بني عمرو بن سعد، وكان يختم القرآن في كل ثلاث سفرا وحضرا. أم قومه ستين سنة لم يسه في صلاة قط ... 0موسى بن أبي عائشةقال جرير: رأيت موسى بن أبي عائشة، وإذا رأيته ذكرت الله لرؤيته وكان بين عينيه أثر السجود.قال عمرو بن قيس: ما رفعت رأسي بليل قط إلا رأيت موسى بن أبي عائشة قائما يصلي.قال القرشي وقال غير إسحاق: وكان يدعى المتهجد، من شدة تغير لونه.خلف بن حوشبقال عبد السلام بن حرب: ما رأيت أصبر على السهر من خلف بن حوشب، سافرت معه إلى مكة فما رأيته نائما بليل حتى رجعنا إلى الكوفة.كرز بن وبرةمحمد بن فضيل بن غزوان عن أبيه قال: دخلت على كرز بن وبرة بيته فإذا عند مصلاه حفيرة وقد ملأها تبنا وبسط عليها كساء من طول القيام، وكان يقرأ القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات.كان كرز، إذا خرج، يأمر بالمعروف فيضربونه حتى يغشى عليه.قال شبرمة: صحبنا كرزا الحارثي فكنا إذا نزلنا إلى الأرض فإنما هو قائل ببصره هكذا، ينظر، فإذا رأى بقعة تعجبه ذهب فصلى فيها حتى يرتحل.قال ابن شبرمة: سأل كرز بن وبرة ربه عز وجل أن يعطيه اسمه الأعظم على أن لا يسأل به شيئا من الدنيا. فأعطاه ذلك فسأل الله عز وجل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات.خلف بن تميم قال: سمعت أبي يذكر قال: قدم علينا كرز بن وبرة الحارثي من جرجان، فانجفل إليه قراء أهل الكوفة فكنت فيمن أتاه وما سمعت منه إلا كلمتين. قال: صلوا على نبيكم فإن صلاتكم تعرض عليه. وقال: اللهم اختم لنا بخير، وما رأيت في هذه الأمة أعبد من كرز، كان لا يفتر، وكان يصلي في المحمل فإذا أنزل من المحمل افتتح الصلاة.

(1/224)

عن صبيح مولى كرز بن وبرة قال: أخبرني أبو سليمان المكتب قال: صحبت كرزا إلى مكة فكان إذا نزل أدرج ثيابه فألقاها في الرحل ثم تنحى للصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل. قال: فاحتبس يوما عن الوقت وانبث أصحابه في طلبه، فكنت فيمن طلبه، قال فأصبته في وهدة يصلي في ساعة حارة، وإذا سحابة تظله، فلما رآني أقبل نحوي فقال: يا أبا سليمان لي إليك حاجة قلت: وما حاجتك? قال: أحب أن تكتم ما رأيت. قال: قلت: ذلك لك. قال: أوثق لي، فحلفت أن لا أخبر به أحدا حتى يموت.محمد بن فضيل قال: سمعت أبي يقول: لم يرفع كرز بن وبرة رأسه إلى السماء منذ أربعين سنة.عمرو بن حميد قال: أخبرني رجل من أهل جرجان قال: لما مات كرز رأى رجل فيما يرى النائم كأن أهل القبور جلوس على قبورهم، وعليهم ثياب جدد، فقيل لهم: ما هذا? فقالوا، إن أهل القبور كسوا ثيابا جددا لقدوم كرز عليهم.قال أبو داود الحفري: دخلت على كرز بن وبرة بيته فإذا هو يبكي فقيل له ما يبكيك? قال: إن بابي لمغلق، وإن ستري لمسبل، ومنعت جزئي أن أقرأه البارحة، وما هو إلا من ذنب أذنبته.أبو يونس القوي العجليإنما سمي العجلي القوي لقوته على العبادة، صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وصام حتى صار كالحشفة.وقال البخاري: قال أبو عاصم: قدم علينا أبو يونس فطاف في يوم واحد سبعين طوافا.عبد الملك بن سعيد بن أبجر المتطيب.كان ابن أبجر، من شدة التوقي، يقول من لا يعرفه، إنه عيي وما به إلا شدة التوقي.كان ابن أبجر من شدة التوقي إنما يتكلم بالمعاريض.قال أبو السليط لابنه ألزم عبد الملك بن أبجر فتعلم من توقيه في الكلام، فما أعلم بالكوفة أشد حفظا للسانه منه.عن جعفر الأحمر قال: كان أصحابنا البكاؤون أربعة: عبد الملك بن أبجر، ومحمد بن سوقة، ومطرف بن طريف، وضرار بن مرة.قال سفيان: قال سلمة بن كهيل: ما بالكوفة أحد أحب أن أكون في مسلاخه أحب إلي من ابن أبجر.

(1/225)

سفيان الثوري قال: خمسة من أهل الكوفة يزدادون في كل يوم خيرا منهم ابن أبجر.عن عبد الملك بن أبجر قال: ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره أو مبتلى ببلية لينظر كيف صبره.عمرو بن قيس الملائيأقام عمرو بن قيس الملائي عشرين سنة صائما ما يعلم به أهله يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغذائه ويصوم، وأهله لا يدرون.قال: وكان إذا حضرته الرقة يحول وجهه إلى الحائط ويقول لجلسائه: هذا الزكام، وإذا نظر إلى أهل السوق قال: ما أغفل هؤلاء عما أعد لهم.قال عمرو: حديث أرقق به قلبي وأتبلغ به إلى ربي عز وجل أحب إلي من خمسين قضية من قضايا شريح.قال عمرو بن قيس الملائي: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله.عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان قال: أنبأ أبي قال: رأيت سفيان يجيء إلى عمرو بن قيس يجلس بين يديه ينظر إليه لا يكاد يصرف بصره عنه. أظنه يحتسب في ذلك.جاءت امرأة إلى عمرو بثوب فقالت: شتر هذا الثوب واعلم أن غزله ضعيف. قال: فكان إذا جاءه إنسان يعرضه عليه، قال: إن صاحبته أخبرتني أنه كان في غزله ضعف حتى جاء رجل فاشتراه وقال: هذا برأناك منه.لما احتضر عمرو بن قيس الملائي بكى، فقال أصحابه: على ما تبكي من الدنيا? فوالله لقد كنت تبغض العيش أيام حياتك، فقال: والله ما أبكي على الدنيا إنما أبكي خوفا أن أحرم خوف الآخرة.

(1/226)

قال المحاربي: قال لي سفيان: عمرو بن قيس هو الذي أدبني، علمني قراءة القرآن وعلمني الفرائض، وكنت أطلبه في سوقه فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته إما يصلي وإما يقرأ في المصحف، كأنه يبادر أمورا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعدا يبكي. فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدا ينوح على نفسه. فلما مات عمرو بن قيس أغلق أهل الكوفة أبوابهم وخرجوا بجنازته. فلما خرجوا إلى الجبان وبرزوا بسريره، وكان أوصى أن يصلي عليه أبو حيان التيمي، تقدم أبو حيان وكبر عليه أربعا، وسمعوا صائحا يصيح: قد جاء المحسن. وإذا البرية مملوءة من طير أبيض لم ير على خلقتها وحسنها. فجعل الناس يعجبون من حسنها وكثرتها. فقال أبو حيان: من أي شيء تعجبون? هذه الملائكة جاءت فشهدت عمرا.حضرنا جنازة عمرو بن قيس فحضره قوم كثير عليهم ثياب بيض، فلما صلي عليه ذهبوا فلم نرهم.مات عمرو بن قيس بناحية فارس، فاجتمع على جنازته ما لا يحصى، فلما دفن نظروا فلم يجدوا أحدا.عطوان بن عمرو التميميكان عطوان بن عمرو التميمي رجلا منقطعا، وكان يلزم الجبان بظهر الكوفة فأتاه قوم يسلمون عليه فوجدوه مغشيا عليه بين القبور، فلم يزالوا عنده حتى أفاق فاستحيا منهم فجعل يقول لهم كهيئة المعتذر: ربما غلب علي النوم، وربما أصابني الإعياء فألقى نفسي هكذا.محمد بن السماك قال: ما رأيت أحدا أشد حذرا للموت من عطوان بن عمرو.داود الطائي قال: سألت عطوان بن عمرو التميمي قلت: ما قصر الأمل? قال: ما بين تردد النفس.قال رستم: فحدثت به الفضيل بن عياض فبكى وقال: يقول: يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، لقد كان عطوان من الموت على حذر.قيس بن مسلم الجدليقال سفيان: كان قيس بن مسلم يصلي حتى السحر، ثم يجلس فيمسح البكاء ساعة بعد ساعة، وهو يقول: لأمر ما خلقنا، لئن لم نعن الآخرة بخير لنهلكن.

(1/227)

قال: وزار قيس بن مسلم محمد بن جحادة ذات ليلة فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء، قال: ومحمد قائم يصلي، فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلي. فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر. وكان قيس بن مسلم إمام مسجده. قال فرجع إلى الحي فأمهم ولم يلتقيا. ولم يعلم محمد مكانه. قال: فقال له بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه. قال: ما علمت بمكانه. قال: فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلا قام إليه فاعتنقه ثم خلوا جميعا فجعلا يبكيان.من الطبقة الخامسة مسعر بن كدام بن ظهيريكنى أبا سلمة سفيان بن عيينة قال: ما لقيت أحدا أفضله على مسعر.قال سفيان الثوري: لم يكن في زماننا مثله، يعني مسعرا.أبو خالد الأحمر قال: لم يكن في أترابه أطول صمتا منه، يعني مسعرا.محمد بن مسعر قال: كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي قد ضل منه شيء فهو يطلبه، فإنما هو السواك والطهور، ثم يستقبل المحراب كذلك إلى الفجر، وكان يجهد على إخفاء ذلك جدا.عن أبي أسامة قال: سمعت مسعرا يقول: أشتهي أن أسمع صوت باكية حزينة.محمد بن كناسة قال: سمعت مسعرا يقول: من أهمته نفسه تبين ذلك عليه.قال رجل لمسعر: أتحب أن يخبرك الرجل بعيوبك? قال: إن كان ناصحا فنعم، وإن كان يريد أن يؤنبني فلا.قال مسعر بن كدام:تفنى اللذاذة ممن نال صوتها من الحرام ويبقى الإثم والعارتبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها الناربكى مسعر فبكت أمه فقال لها مسعر: ما أبكاك يا أماه? فقالت: يا بني رأيتك تبكي فبكيت فقال: يا أماه لمثل ما نهجم عليه غدا فلنطل البكاء. قالت: وما ذاك? فانتحب فقال: القيامة وما فيها. قال: ثم غلبه البكاء فقام.وكان مسعر يقول: لولا أمي لما فارقت المسجد إلا لما لا بد منه، وكان إن دخل بكى، وإن خرج بكى، وإن صلى بكى، وإن جلس بكى.

(1/228)

لما حضرت مسعرا الوفاة دخل عليه سفيان الثوري فوجده جزعا فقال له: تجزع? فوالله لوددت أني مت الساعة فقال مسعر: أقعدوني. فأعاد سفيان الكلام عليه، فقال: إنك إذا لواثق بعملك يا سفيان، لكني والله على شاهقة جبل لا أدري أين أهبط. فبكى سفيان وقال: أنت أخوف لله مني.أحمد بن داود الحراني قال: مصعب بن المقدام يقول: رأيت النبي في المنام، وسفيان الثوري آخذ بيده، وهما يطوفان، فقال الثوري: يا رسول الله مات مسعر بن كدام? قال: نعم، واستبشر به أهل السماء.داود بن نصير الطائييكنى أبا سليمان، سمع الحديث وتفقه، ثم اشتغل بالتعبد.كان داود الطائي يجالس أبا حنيفة فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليمان أما الأداة فقد أحكمناها. قال داود: فأي شيء بقي? قال: بقي العمل به. قال: فنازعتني نفسي إلى العزلة والوحدة، فقلت لها: حتى تجلسي معهم فلا تجيبي في مسئلة. قال: فكان يجالسهم سنة قبل أن يعتزل. قال: فكانت المسئلة تجيء وأنا أشد شهوة للجواب فيها من العطشان إلى الماء فلا أجيب فيها. قال: فاعتزلتهم بعد.أبو أسامة قال: جئت أنا وابن عيينة داود الطائي فقال: قد جئتماني مرة فلا تعودا إلي.مر داود بمقبرة فسمع امرأة وهي تقول: يا حبي ليت شعري بأي خديك بدأ البلى? باليمنى أم باليسرى? قال: فصعق. وكان الثوري إذا ذكره قال: ابصر الطائي أمره.كان بدو توبة الطائي أنه دخل المقبرة فسمع امرأة عند قبر وهي تقول:مقيم إلى أن يبعث الله خلقه لقاؤك لا يرجى وأنت قريبتزيد بلى في كل يوم وليلة وتسلى كما تبلى وأنت حبيبقال داود الطائي: ما أخرج الله عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا بشر.عن بكر بن محمد قال: قال لي داود الطائي: فر من الناس كما تفر من الأسد.

(1/229)

جاء أبو الربيع الأعرج إلى داود الطائي من واسط ليسمع منه شيئا ويراه. فأقام على بابه ثلاثة أيام لا يصل اليد. قال: وكان إذا سمع الإقامة خرج فإذا سلم الإمام وثب فدخل منزله. قال: فصليت في مسجد آخر ثم جئتفجلست على بابه فلما جاء ليدخل الدار قلت: ضيف رحمك الله. قال: إن كنت ضيفا فادخل، فدخلت فأقمت عنده ثلاثة أيام لا يكلمني. فلما كان بعد ثلاث قلت: رحمك الله أتيتك من واسط وإني أحببت أن تزودني شيئا. قال: صم الدنيا واجعل فطرك الموت. قلت: زدني رحمك الله. قال: فر من الناس فرارك من الأسد، غير طاعن عليهم، ولا تارك لجماعتهم. قال: فذهبت أستزيده فوثب إلى المحراب وقال: الله أكبر.عن أبي الربيع الأعرج قال: أتيت داود الطائي، وكان لا يخرج من منزله حتى يقول: قد قامت الصلاة فيخرج فيصلي فإذا سلم الإمام أخذ نعله ودخل منزله. فلما طال ذلك علي أدركته يوما فقلت: يا أبا سليمان على رسلك فوقف لي فقلت له أبا سليمان أوصني قال: اتق الله، وإن كان لك والدان فبرهما. ثم قال: ويحك صم الدنيا واجعل الفطر موتك، واجتنب الناس غير تارك لجماعتهم.قال عبد الله بن إدريس لداود الطائي: أوصني. قال: أقلل من معرفة الناس. قلت: زدني. قال: إرض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا مع فساد الدين. قلت: زدني. قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطرت على الموت.قال إسحاق دخلت أنا وصاحب لي على داود الطائي وهو على التراب، فقلت لصاحبي: هذا رجل زاهد.فقال داود: إنما الزاهد من قدر فترك.الوليد بن عقبة قال: كان يخبز لداود الطائي ستون رغيفا يعلقها بشريط، يفطر كل ليلة على رغيفين بملح وماء. فأخذ ليلة فطره فجعل ينظر إليه. قال: ومولاة له سوداء تنظر إليه، فقامت فجاءته بشيء من تمر على طبق فأفطر ثم أحيا ليلته وأصبح صائما. فلما جاء وقت الإفطار أخذ رغيفيه وملحا وماء.

(1/230)

قال الوليد بن عقبة: فحدثني جار له قال: جعلت أسمعه يعاتب نفسه ويقول: اشتهيت البارحة تمرا فأطعمتك، واشتهيت الليلة تمرا? لا ذاق داود تمرا ما دام في الدنيا.قالت مولاة لداود الطائي: يا داود لو طبخت لك دسما. قال: فافعلي. فطبخت له شحما ثم جاءته به. فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان? قالت: على حالهم. قال: اذهبي به إليهم فقالت له: فديتك إنما تأكل هذا الخبز بالماء? قال: إني إذا أكلته كان في الحش وإذا أكله هؤلاء الأيتام كان عند الله مذخورا.قال صدقة الزاهد: خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، فقعد داود ناحية وهي تدفن فجاء الناس فقعدوا قريبا منه فتكلم فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا أخي أن كل ما يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل القبور إنما يفرحون بما يقدمون ويندمون على ما يخلفون. وأهل الدنيا يقتتلون ويتنافسون فيما عليه أهل القبور يندمون.محمد بن بشر العبدي قال: قال داود يوما لمولاة له في الدار: أشتهي لبنا فخذي رغيفا، فائتي به البقال فاشتري به لبنا ولا تعلمي البقال لمن هو? فذهبت، فجاءت به فأكل وفطن البقال بعد أنها تريد اللبن لداود، فطيبه له. فقال لها: علم البقال لمن تريدين اللبن? فقالت: نعم. قال: ارفعيه. فما عاد فيه.قال: وجاءه فضيل يوما فلم يفتح له، فجلس فضيل خارج الباب وهو داخل فبكى داود من داخل وفضيل من خارج، ولم يفتح له. قلت لمحمد بن بشر: كيف لم يفتح له الباب? قال: قد كان يفتح لهم. وكثروا عليه فغموه فحجبهم كلهم، فمن جاءه كلمه من وراء الباب.وقالت أمه لو اشتهيت شيئا اتخذته لك. فقال أجيدي يا أماه فإني أريد أن أدعو إخوانا لي. قال: فاتخذت وأجادت. قال: فقعد على الباب لا يمر سائل إلا أدخله. قال: فقدم إليهم فقالت له أمه: لو أكلت. قال: فمن أكله غيري.

(1/231)

قال: وإنما جد واجتهد حين ماتت أمه قسم كل شيء تركت حتى لزق بالأرض، وكانت موسرة.إسحاق بن منصور قال: حدثني جنيد يعني الحجام قال: أتيت داود الطائي فإذا قرحة قد خرجت على لسانه فبططتها وأخرجت قليل داوء فوضعته في خرقة. فقلت: إذا كان الليل فضعه عليها. فقال: ارفع ذلك اللبد. فرفعته فإذا دينار فقال: خذه. قلت: يا أبا سليمان ليس هذا ثمن هذا، ثمن هذا دانق فوضعت الدواء في كوة وخرجت ثم غدوت بعد يومين فإذا الدواء على حاله. قلت: يا أبا سليمان سبحان الله، لم لم تعالج بهذا الدواء? فقال لي: إن أنت لم تأخذ الدينار لم أمسه.احتجم داود الطائي فدفع دينارا إلى الحجام فقيل له: هذا إسراف. فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.قيل له لو أمرت بما في سقف البيت من نسج العنكبوت فينظف. فقال: أما علمت أنه كان يكره فضول النظر.الحسن بن عيسى قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي.لقي داود الطائي رجلا فسأله عن حديث، فقال: دعني إني أبادر خروج نفسي.وكان الثوري إذا ذكره قال: أبصر الطائي أمره.قال أبو خالد الأحمر: مررت أنا وسفيان الثوري بمنزل داود الطائي فقال لي سفيان: ادخل بنا نسلم عليه. فدخلنا إليه فما احتفل بسفيان ولا انبسط إليه. فلما خرجنا قلت له: يا أبا عبد الله غاظني ما صنع بك. قال: وأي شيء صنع بي? قلت: لم يحفل بك ولم ينبسط إليك. قال: إن أبا سليمان لا يتهم في مودة، أما رأيت عينيه? هذا في شيء غير ما نحن فيه.قال أبو عمران: حدثني أسود بن سالم أن داود الطائي كان يقول: سبقني العابدون وقطع بي، والهفاه.

(1/232)

قال رجل من أهل داود الطائي له يوما: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه. ثم قال يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تضييعا مني لذلك. ثم قام وتركني.خرج داود الطائي إلى السوق فرأى الرطب فاشتهته نفسه فجاء إلى البائع فقال له: أعطني بدرهم إلى غد. فقال له: اذهب إلى عملك. فرآه بعض من يعرفه فأخرج له صرة فيها مائة درهم وقال: اذهب فإن أخذ منك بدرهم فالمائة لك. فلحقه البائع وقال له: ارجع خذ حاجتك. فقال: لا حاجة لي فيه إنما جربت هذه النفس فلم أرها تساوي في هذه الدنيا درهما وهي تريد الجنة غدا.كان داود الطائي قد ورث عن أمه أربعمائة درهم، فمكت يتقوتها ثلاثين عاما، فلما نفذت جعل ينقض سقوف الدويرة فيبيعها حتى باع الخشب والبواري واللبن، حتى بقي في نصف سقف. وجاء صديق له فقال: يا أبا سليمان لو أعطيتني هذه فأبضعتها لك لعلنا نستفضل لك فيها شيئا ينتفع به. فما زال به حتى دفعها إليه، ثم فكر فيها فلقيه بعد العشاء الآخرة فقال: ارددها علي. فقال: ولم ذاك يا أخي? قال: أخاف أن يدخل فيها شيء غير طيب فأخذها.عثمان بن زفر قال: أخبرني ابن عم لداود الطائي قال: ورث داود الطائي من أبيه عشرين دينارا فأكلها في عشرين سنة، كل سنة دينارا منه يصل ومنه يتصدق، وورث بيتا فكان يكون فيه لا يعمره، كلما خربت ناحية تركها وتحول إلى ناحية أخرى فخرب كله إلا زاوية منه كان يكون فيها.ورث داود الطائي من مولاة له عشرين دينارا كفته عشرين سنة.قال داود: يا بن آدم فرحت ببلوغ أملك وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك ثم سوفت بعملك كأن منفعته لغيرك.

(1/233)

عن قبيصة قال: حدثني صاحب لنا أن امرأة من أهل داود الطائي صنعت ثريدة بسمن ثم بعثت بها إلى داود حين إفطاره مع جارية لها، قالت الجارية: فأتيته بالقصعة فوضعتها بين يديه فسعى ليأكل منها، فجاء سائل فقام إليه فدفعها إليه وجلس معه على الباب حتى أكلها. ثم دخل فغسل القصعة ثم عمد إلى تمر كان بين يديه، قالت الجارية ظننت أنه كان أعده لعشائه، ودفعه إلي وقال: أقرئيها السلام، قالت الجارية: دفع إلى السائل ما جئناه به ودفع إلينا ما أراد أن يفطر عليه. قالت: وأظنه ما بات إلا طاويا. قال قبيصة: فكنت أراه قد نحل جدا.قال ابن زبان: قالت داية الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز? قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قرائة خمسين آية.قال عبد الله العجلي: دخلت على داود الطائي في مرضه الذي مات فيه ليس في بيته إلا دن مقير يكون فيه خبز يابس ومطهرة ولبنة كبيرة على التراب يجعلها وسادة وهي مخدته ليس في بيته بوري ولا قليل ولا كثير.محمد بن بشير قال: قال حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أفلا أدلك على من رضي بأقل من ذلك? من رضي بالدنيا كلها عوضا عن الآخرة.دخل أبو يوسف على داود الطائي فقال له: ما رأيت أحدا رضي من الدنيا بمثل ما رضيت به فقال: يا يعقوب من رضي الدنيا كلها عوضا عن الآخرة فذاك الذي رضي بأقل مما رضيت.الحارث بن إدريس قال: قلت لداود الطائي: أوصني? فقال: عسكر الموتى ينتظرونك.إسحاق بن منصور السلولي قال: حدثتني أم سعيد بن علقمة النخعي وكانت طائية.قالت: كان بيننا وبين داود الطائي حائط قصير فكنت أسمع حسه عامة الليل لا يهدأ.قالت: وربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحالف بين وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك، أوثق مني وحال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب.قالت: وربما ترنم بالآية فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه.

(1/234)

قال ابن السماك: أوصاني أخي داود الطائي بوصية: انظر لا يراك الله حيث نهاك وأن لا يفقدك من حيث أمرك، واستحيه في قربه منك وقدرته عليك.قال محمد بن إشكاب: قال داود الطائي: اليأس سبيل أعمالنا هذه، لكن القلوب تجر إلى الرجاء.عن الحماني قال: قلت لداود الطائي: ما ترى في الرمي فإني أحب أن أتعلمه? فقال: إن الرمي لحسن، ولكن إنما هي أيامك فانظر بما تقطعها.أبو بكر محمد بن أبي داود قال: سمعت شيدويه يقول لداود الطائي: أرأيت رجلا دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر? قال: أخاف عليه السوط قال: إنه يقوى قال: أخاف عليه السيف. قال: إنه يقوى، قال: أخاف عليه الداء الدفين العجب.قال أبو نعيم: رأيت داود الطائي تدور في وجهه نملة عرضا وطولا لا يفطن بها. يعني من الهم.قالت أخت لداود الطائي: لو تنحيت من الشمس إلى الظل. فقال: هذه خطى لا أدري كيف تكتب.قال معاوية بن عمرو: كنا عند داود الطائي يوما، فدخلت الشمس من الكوة فقال له بعض من حضر: لو أذنت لي سددت هذه الكوة. فقال: كانوا يكرهون فضول النظر. وكنا عنده يوما آخر فإذا بفروه قد تخرق وخرج خمله. فقال له بعض من حضر: لو أذنت لي خيطته فقال: كانوا يكرهون فضول الكلام.قال أبو داود الطيالسي: حضرت داود عند الموت فما رأيت أشد نزعا منه، أتيناه من العشي ونحن نسمع نزعه قبل أن ندخل، ثم غدونا إليه وهو في النزع فلم نبرح حتى مات.حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياما وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مرارا في ليلته فأصبح مريضا. فوجده قد مات ورأسه على لبنة.

(1/235)

قال ابن السماك، حين مات داود الطائي: يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن داود الطائي نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر. فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم وماتت من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان حيا وسط موتى، يا داود ما أعجب شأنك ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل، أهنتها وإنما تريد كرامتها وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب، وغيبتها عن الناس كي لا تذكر، وغبت بنفسك عن الدنيا إلى الآخرة، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت. كأن سيماك في عملك وسرك ولم يكن سيماك في وجهك فقهت في دينك ثم الناس يفتون، وسمعت الأحاديث ثم تركت الناس يحدثون ويروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار ولا تقبل من السلطان عطية ولا من الأخوان هدية. آنس ما تكون آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالسا فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون من الطعام والحلاوة ما يأكلون، فأما أنت فإنما هي خبزتك أو خبزتان في شهرك، ترمي بها في دن عندك فإذا أفطرت أخذت منه حاجتك فجعلته في مطهرتك ثم صببت عليه من الماء ما يكفيك، ثم

(1/236)

اصطنعت به ملحا فهذا إدامك وحلواك، فمن سمع بمثلك صبر صبرك أو عزم عزمك، وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين ولا أحسبك إلا قد أتعبت العابدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوسا فيأنس بهم وأما أنت فسجنت نفسك في بيتك وحدك فلا محدث وجليس معك، ولا أدري أي الأمور أشد عليك، الخلوة في بيتك تمر بك الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب، لا ستر على بابك، ولا فراش تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك? مطهرتك قلتك وقصعتك تورك وكل أمرك يا داود عجب. أما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه? بلى، ولكنك زهدت فيه لما بين يديك فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت، وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت، أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل وسعدت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهرة عنك في حياتك لكي لا يدخلك عجبها ولا يلحقك فتنتها فلما مت شهرك ربك بموتك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت اليوم كثرة تعبك عرفت أن ربك قد أكرمك.: لما مات داود الطائي شيع الناس جنازته. فلما دفن قام ابن السماك على قبره فقال: يا داود كنت تسهر ليلك إذ الناس نائمون، قال: وكنت تسلم إذ الناس يخوضون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون فقال الناس جميعا: صدقت حتى عدد فضائله كلها. فلما فرغ، قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم قال:يا رب إن الناس قد قالوا ما عندهم ومبلغ ما علموا، اللهم اغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله.في الطبقة السادسة سفيان بن سعيد الثوريقال: يزيد بن هارون أخذ العلم عن سفيان الثوري وهو ابن ثلاثين سنة.قال سفيان الثوري: لو لم أعلم لكان أقل لحزني.عن محمد بن يوسف الفريابي قال: قلت لسفيان الثوري: أرى الناس يقولون سفيان الثوري، وأنت تنام الليل. فقال لي: اسكت، ملاك هذا الأمر التقوى.قال علي بن ثابت رأيت الثوري في طريق مكة فقومت كل شيء عليه، حتى نعليه: درهما وأربعة دوانيق.

(1/237)

قال يحيى بن أيوب: سمعت علي بن ثابت قال: لو لقيت سفيان في طريق مكة ومعك فلسان تريد أن تتصدق بهما وأنت لا تعرف سفيان ظننت أنك ستضعهما في يده. وما رأيت سفيان في صدر المجلس قط، إنما كان يقعد إلى جانب الحائط ويستند إلى الحائط ويجمع بين ركبتيه.عن علي بن عثام بن علي قال: سمعت أبي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: لقد خفت الله خوفا عجبا لي، كيف لا أموت لكن لي أجل أنا بالغه، ولقد خفت الله خوفا وددت أنه خفف عني منه ما أخاف أن يذهب عقلي.قال سفيان إني لأضع يدي على رأسي من الليل إذا سمعت صيحة فأقول: قد جاءنا العذاب.قام سفيان يصلي قبل الزوال فمر بهذه الآية فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير سورة المدثر آية 8 فخرج نادا فما لحقوه إلا في الحمراء فردوه.عن سفيان: ما من موطن من المواطن أشد علي من سكرة الموت أخاف أن يشدد علي، فاسأل التخفيف فلا أجاب فأفتتن.يوسف بن أسباط قال: قال لي سفيان، وقد صلينا العشاء الآخرة ناولني المطهرة فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده. ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه ويساره على خده، فقلت: يا أبا عبد الله هذا الفجر قد طلع. قال: لم أزل منذ ناولتني هذه المطهر أتفكر في أمر الآخرة حتى الساعة.قال يوسف بن أسباط: كان سفيان الثوري إذا أخذ في الفكر بال الدم.

(1/238)

قال عبد الرحمن بن مهدي ما عاشرت في الناس رجلا أرق من سفيان، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة فما كان ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي: إن الجزع قد أرقني وذلك من نعمتك السابغة علي، إلهي: لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين ثم يقبل على صلاته. وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه. وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه.إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: كنا في مجلس الثوري وهو يسأل رجلا عما يصنع في ليله فيخبره، حتى دار على القوم فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك، فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك? فقال: لها عندي أول الليل نومة تنام ما شاءت لا أمنعها إذا استيقظت فلا أقيلها والله.صالح بن خليفة الكوفي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إن فجار القراء اتخذوا القرآن إلى الدنيا سلما. قالوا: ندخل على الأمراء نفرج عن المكروب ونتكلم في محبوس.قال علي بن حمزة ابن أخت سفيان: ذهبت ببول سفيان إلى الديراني وكان لا يخرج من باب الدير فأريته فقال: ليس هذا بول حنيفي. قلت: بلى والله من أفضلهم. فقال: أنا أجيء معك. فقلت لسفيان: قد جاء بنفسه. فقال: أدخله. فأدخلته فمس وجس عرقه ثم خرج. فقلت: أي شيء رأيت? قال: ما ظننت أن في الحنيفية مثل هذا،هذا رجل قد قطع الحزن كبده.قال ابن مهدي: بات سفيان عندي فلما اشتد به الأمر جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب. فرفع شيئا من الأرض فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت.

(1/239)

عن عبد الرحمن بن مهدي قال ليلة مات سفيان: توضأ تلك الليلة للصلاة ستين مرة فلما كان وجه السحر قال لي: يا ابن مهدي ضع خدي بالأرض فإني ميت يا ابن مهدي ما أشد الموت ما أشد كرب الموت. قال: فخرجت لأعلم حماد بن زيد وأصحابه فإذا هم قد استقبلوني فقالوا: آجرك الله. فقلت: من أين علمتم ذلك? فقالوا: إنه ما منا أحد إلا أتي البارحة في منامه فقيل له: ألا إن سفيان الثوري قد مات،رحمه الله.عن أبي أبجر قال: لما حضرت سفيان الوفاة قال: يا ابن أبجر قد نزل ما بي ماقد ترى فانظر من يحضرني. فأتيتهم بقوم فيهم حماد بن سلمة، وكان حماد من أقربهم إلى راسه. قال: فتنفس سفيان فقال له حماد أبشر فقد نجوت مما كنت تخاف. وتقدم على رب كريم قال: فقال: يا أبا سلمة أترى الله أن يغفر لمثلي? قال: إي والله الذي لا إله إلا هو: قال: فكأنما سري عنه.عن عبد الرحمن بن مهدي قال: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك? قال: لم يكن إلا أن وضعت في اللحد حتى وقفت بين يدي الله عز وجل فحاسبني حسابا يسيرا ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها ولا أسمع حسا ولا حركة، إذ سمعت قائلا يقول: سفيان بن سعيد. قال: تحفظ أنك آثرت الله على هواك يوما، قلت: إي والله. فأخذتني صواني النثار من جميع الجنة.علي والحسن ابنا صالح بن حيكان علي والحسن - إبنا صالح بن حي - وأمهم قد جزؤوا اليل ثلاثة أجزاء، فكان علي يقوم الثلث ثم ينام، ويقوم الحسن الثلث ثم ينام، وتقوم أمهما الثلث. فماتت أمهما. فجزءا الليل بينهما، فكانا يقومان به حتى الصباح ثم مات علي فقام الحسن به كله.عن محمد بن صالح العجلي عن أبيه قال: كان يختم القرآن في بيتهم كل ليلة: أمهم ثلث وعلي ثلث وحسن ثلث، فماتت أمهما فكانا يختمانه. ثم مات علي فكان حسن يختم كل ليلة.

(1/240)

قال الحسن بن حي: قال لي أخي علي في الليلة التي توفي فيها: أخي اسقني ماء. وكنت قائما أصلي. فلما قضيت صلاتي أتيته بماء فقلت: يا أخي. فقال: لبيك. فقلت هذا ماء. قال: قد شربت الساعة. قلت: ومن سقاك وليس في الغرفة غيري وغيرك? قال: أتاني جبريل الساعة بماء فسقاني وقال لي: أنت وأخوك وأبوك من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وخرجت روحه.كان الحسن بن حي إذا أراد أن يعظ أخا له كتبه في لوح وناوله.كان الحسن بن صالح وأخوه علي وكان علي يفضل عليه وكانا وأمهما يتعاونون على العبادة بالليل لا ينامون وبالنهار لا يفطرون. فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما. فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما. وكان يقال للحسن: حية الوادي، يعني أنه لا ينام بالليل. وكان يقول: إني لأستحيي من الله تعالى أن أنام تكلفا حتى يكون النوم هو الذي يصرعني وإذا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني. وكان لا يقبل من أحد شيئا فيجيء إليه صبية وهو في المسجد فيقول: أنا جائع فيعلله بشيء حتى تذهب الخادم إلى السوق فتبيع ما غزلت هي ومولاتها من الليل، ثم تشتري قطنا وتشتري شيئا من الشعير فتجيء به فتطحنه ثم تعجنه فتخبز ما يأكل الصبيان والخادم وترفع له ولأهله لإفطارهما. فلم يزل على ذلك حتى مات ...قال أبو سليمان الدراني ما رأيت أحدا الخوف أظهر على وجهه والخشوع من الحسن بن حي قام ليلة حتى الصباح بعم يتساءلون بآية فيها ثم غشي عليه ثم عاد إليها فغشي عليه فلم يختمها حتى طلع الفجر.عباد أبو عقبة قال: بعنا جارية للحسن بن صالح فقال: أخبروهم أنها تنخمت عندنا مرة دما.قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان.

(1/241)

اشتهى الحسن بن حي سمكا فلما أتي به ضرب بيده إلى سرة السمكة فاضطربت يده وأمر به فرفع ولم يأكل منه شيئا. فقيل له في ذلك فقال: إني ذكرت لما ضربت بيدي إلى بطنها أن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فلم أقدر أن أذوقه.أن حسن بن صالح كان يصلي إلى السحر ثم يجلس فيبكي في مصلاه ويجلي علي فيبكي معه في حجرته. قال: وكانت أمهما تبكي الليل والنهار. قال: فماتت. ثم مات علي. ثم مات حسن قال: فرأيت حسنا في منامي فقلت: ما فعلت الوالدة? قال: بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد. قلت: وعلي? قال: وعلي على خير. قلت: فأنت? فمضى وهو يقول: وهل نتكل إلا على عفوه? عبيد الله بن موسى قال: كان حسن بن صالح إذا صعد إلى المنارة أشرف على المقابر فإذا نظر إلى الشمس تحوم على القبور صرخ حتى يحمل مغشيا عليه فينزل به.قال أبو محمد: ورأيت الحسن ذات يوم شهد جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارفض عرقا. ثم قال: فغشي عليه فحمل على السرير الذي كان عليه الميت فرد إلى منزله.نظر حسن إلى المقابر وهو قائم يؤذن فصرخ وقطع أذانه وسقط مغشيا عليه.قال: حدثني رجل من جيرانه أنه قال: كنا نسمع صراخه ونحيبه إذا صعد إلى الأذان كما نسمع صراخ أهل المصيبة. وقال: وكثيرا ما كان يغشى عليه حتى يؤذن غيره.حمزة بن عمارة الزيات يكنى أبا عمارةوكان صاحب قرآن وسنة وفرائض. كان الأعمش إذا رأى حمزة قد أقبل قال: هذا حبر القرآن.

(1/242)

قال سليم بن عيسى: دخلت على حمزة بن حبيب الزيات فوجدته يمرغ خديه في الأرض ويبكي. فقلت: أعيذك بالله. فقال: لماذا استعذت? رأيت البارحة في منامي كأن القيامة قد قامت وقد دعي بقراء القرآن، فكنت فيمت حضر فسمعت قائلا يقول بكلام عذب: لا يدخل علي إلا من عمل بالقرآن. فرجعت القهقرى فهتف باسمي: أين حمزة بن حبيب الزيات? فقلت: لبيك داعي الله. فبدرني ملك فقال: قل: لبيك اللهم، فقلت: لبيك، كما قال لي. فأدخلني دارا فسمعت فيها ضجيج القرآن فوقفت أرعد فسمعت قائلا يقول: لا بأس عليك ارق واقرأ فأدرت وجهي فإذا أنا بمنبر من در أبيض، دفتاه من ياقوت أصفر، مراقيه من زبرجد أخضر فقال لي: ارق واقرأ فرقيت فقال لي: اقرأ سورة الأنعام، فقرأت وأنا لا أدري على من أقرأ. حتى بلغت الستين آية فلما بلغت وهو القاهر فوق عباده سورة الأنعام آية 18 قال لي: يا حمزة ألست القاهر فوق عبادي? فقلت: بلى. قال: صدقت، اقرأ. فقرأت حتى ختمتها ثم قال لي: اقرأ فقرأت الأعراف حتى بلغت آخرها فأومأت إلى الأرض بالسجود فقال لي: حسبك ما مضى، لا تسجد يا حمزة. من أقرأك هذه القراءة? فقلت: سليمان. قال: صدقت من أقرأ سليمان? قلت: يحيى. قال: صدق يحيى على من قرأ يحيى? فقلت: على أبي عبد الرحمن السلمي. قال: صدق أبو عبد الرحمن السلمي، من أقرأ أبا عبد الرحمن? فقلت: ابن عم نبيك علي. فقال: صدق علي، فمن أقر أ علياأ عليا? قلت: نبيك محمد ). قال: ومن أقرأ نبيي? قال: قلت: جبريل عليه السلام. قال: ومن أقرأ جبريل?

(1/243)

قال: فسكت. فقال لي: يا حمزة قل أنت. قال: فقلت: ما أجسر أن أقول. فقال: فقلت: أنت. قال: صدقت يا حمزة وحق القرآن لأكرمن أهل القرآن لا سيما إذا عملوا بالقرآن، يا حمزة القرآن كلامي وما أحب أحدا كحبي أهل القرآن. ادن يا حمزة فدنوت فضمخني بالغالية وقال: ليس أفعل بك وحدك، قد فعلت ذاك بنظرائك ممن فوقك ومن دونك. ومن أقرأ القرآن كما أقرته لم يرد بذلك غيري وما خبأت لك يا حمزة عندي أكثر فأعلم أصحابك بمكاني من حبي لأهل القرآن وفعلي بهم فهم المصطفون الأخيار، يا حمزة وعزتي وجلالي لا أعذب لسانا تلا القرآن بالنار، ولا قلبا وعاه، ولا أذنا سمعته، ولا عينا نظرته. فقلت: سبحانك سبحانك وأنى ترى? فقال: يا حمزة أين نظار المصاحف? فقلت: يا رب أفحفاظ هم? قال: لا ولكني أحفظه لهم حتى يوم القيامة فإذا لقوني رفعت لهم بكل آية درجة - أفتلومني أن أبكي وأتمرغ في التراب.قال أبو مسحل: رأيت الكسائي في النوم كأن وجهه البدر فقلت: ما فعل الله بك? قال: غفر لي بالقرآن. فقلت: ما فعل بحمزة الزيات? قال: ذاك في عليين، ما نراه إلا كما يرى الكوكب الدري.محمد بن النضر الحارثيقال ابن المبارك: كنت مع محمد بن النضر في سفينة فقلت: بأي شيء أستخرج منه الكلام? فقلت: ما تقول في الصوم في السفينة? فقال: إنما هي المبادرة. قال: فجاء بفتوى غيره، فتوى النخعي والشعبي.قال أبو أسامة: قلت لمحمد بن النضر: كأنك تكره أن تزار? فقال: أجل. قلت: أما تستوحش? قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.قال محمد شغل الموت قلوب المتقين عن الدنيا، والله ما رجعوا منها إلى سرور بعد معرفتهم بكربه وغصصه.قال المبارك: كان محمد بن النضر إذا ذكر الموت اضطربت مفاصله حتى تبين الرعدة فيها.قال رجل من ولد الزبير صحبت محمد بن النضر من عبادان إلى الكوفة فما سمعته يتكلم بكلمة حتى افترقنا.

(1/244)

قال جرير بن زياد الحارثي: كنت مسافرا مع محمد بن النضر إلى مكة، وكان إذا قيل له: الرحيل، تقدم على رأس ميلين فلا يزال يصلي حتى إذا سمع حس الإبل تقدم أيضا فلا يزال كذلك حتى يصلي العصر ثم يركب.قال محمد بن النضر الحارثي: كان يقال: الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر.قال المصنف: كان محمد بن النضر مشغولا بالعبادة عن الرواية وقد أرسل الأحاديث عن النبي ولم يصلها.وراد العجليعمرو بن حفص عن أبيه قال: كنا ذات يوم عند ابن ذر وهو يتكلم فذكر رواجف القيامة وزلزالها. فوثب رجل من بني عجل، يقال له وراد، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب فحمل من بين القوم صريعا: فقال ابن ذر: ما الذي قصر بنا وكلم قلبه حتى أبكاه? والله إن هذا يا أخا بني عجل إلا من صفاء قلبك وتراكم الذنوب على قلوبنا.قال عمر: قال أبي: وكنت أرى ورادا هذا العجلي يأتي إلى المسجد مقنع الرأس فيعتزل ناحية فلا يزال مصليا وباكيا وداعيا ما شاء الله من النهار ثم يخرج فيعود فيصلي الظهر، فهو كذلك بين صلاة وبكاء حتى يصلي العشاء ثم يخرج لا يكلم أحدا ولا يجلس إلى أحد، فسألت عنه رجلا من حيه ووصفته له قلت: شاب من صفته، من هيئته. فقال: بخ يا أبا عمر، أتدري عمن تسأل? ذاك وراد العجلي، ذاك الذي عاهد الله ألا يضحك حتى ينظر إلى وجه رب العالمين. قال أبي: وكنت إذا رأيته بعد هبته.قال رجل من بني عجل كان بيننا وبين ورادقرابة، فسألت أختا كانت له أصغر منه فقلت: كيف كان ليله? قالت: يبكي عامة الليل ويصرخ. قلت: فما كان طعمه? قالت: قرصا في أول الليل وقرصا في آخره، عند السحر. قلت: فتحفظين من دعائه شيئا? قالت: نعم، كان إذا كان السحر أو قريب من طلوع الفجر سجد ثم بكى ثم قال: مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك فأعنه عليها بتوفيقك يا أيها المنال، مولاي عبدك يحب اجتناب سخطك فأعنه على ذلك بمنك أيها المنان، مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك فلا تقطع رجاءه يوم يفرح الفائزون.

(1/245)

قالت: فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح. قال: وكان قد كل من الاجتهاد جدا وتغير لونه.قال سكين: فلما مات وراد فحمل إلى حفرته نزلوا إليه ليدفنوه في حفرته فإذا اللحد مفروش بالريحان، فأخذ بعض القوم الذين نزلوا إلى القبر من ذلك الريحان شيئا فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير. يغدو الناس ويروحون وينظرون إليه: قال: فكثر الناس من ذلك حتى خاف الأمير أن يفتتن الناس، فأرسل إلى الرجل فأخذ ذلك الريحان وفرق الناس. قال: وفقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب?أسيد الضبي بكى أسيد الضبي حتى عمي، وكان إذا عوتب على البكاء قال: الآن حين لا أهدأ وأنا أموت غدا? والله لأبكين ثم لأبكين ثم لأبكين، فإن أدركت بالبكاء خيرا فبمن الله وفضله علي، وإن تكن الأخرى فما بكائي في جنب ما ألقى غدا? قال: فكان ربما بكى حتى يتأذى به جيرانه من كثرة بكائه.من الطبقة السابعة من أهل الكوفةأبو بكر بن عياشعن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجل مرة وأنا شاب. خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدا. قال أبو بكر: فما نسيتها أبدا.قال أبو بكرأتيت زمزم فاستسقيت منها عسلا وأتيتها فاستسقيت منها لبنا وأتيتها فاستسقيت منها ماء.مكث أبو بكر بن عياش عشرين سنة قد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به أهله.كان أبو بكر يقوم الليل في قباء صوف وسراويل وعكازة يضعها في صدره فيتكئ عليها حين كبر فيحيي ليلته.قال ابن عمار: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: صمت ثمانين رمضانا.كان أبو بكر بن عياش لما كبر يأخذ إفطاره ثم يغمسه في الماء في جر كان له في بيت مظلم، ثم يقول: يا ملائكتي طالب صحبتي لكما، فإن كان لكما عند الله شفاعة فاشفعا لي.عن أبي هشام الرفاعي قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول لي: غرفة قد عجزت عن الصعود إليها وما يمنعني من النزول منها إلا أني أختم القرآن كل يوم وليلة منذ ستون سنة.

(1/246)

قال أبو بكر بن عياش: من لم يطلب العلم لم يرزق عقلا،كان أبو بكر بن عياش خيرا فاضلا لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.أبو عيسى النخعي قال: لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة. أحمد بن محمد بن مسروق قال: سمعت الحماني يقول: لما حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال لها: ما يبكيك? انظري إلى تلك الزاوية التي في البيت قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.إبراهيم بن عياش قال: بكيت عند أبي حين حضرته الوفاة فقال: ما يبكيك? أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة، يختم القرآن كل ليلة? الهيثم بن خارجة قال: رأيت أبا بكر بن عياش في النوم، قدامه طبق رطب مسكر. فقلت له: يا أبا بكر ألا تدعونا وقد كنت سخيا على الطعام? فقال لي: يا هيثم هذا طعام أهل الجنة لا يأكله أهل الدنيا. قال قلت: وبم نلت? قال تسألني عن هذا وقد مضت علي ست وثمانون سنة أختم في كل ليلة منها القرآن? ...عبد الله بن إدريسعبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي ذكر ابن إدريس فقال: كان نسيج وحده.وفي رواية أخرى عن أحمد أنه قال: رأيت عبد الله بن إدريس وعليه جبة لبود وقد أتى عليه الدهور والسنون.الحسن بن الربيع قال: كنت عند عبد الله بن إدريس فلما قمت قال لي: سل عن سعر الأشنان. فلما مشيت ردني وقال لي: لا تسأل فإنك تكتب عني الحديث وأنا أكره أن أسأل من يسمع عني الحديث حاجة.

(1/247)

قال حماد حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال: سألت وكيعا عن مقدمه هو ابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فقال: كان أول من دعا به أنا. فقال لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيا وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة. فقال هارون: اللهم غفرا. خذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، والله لئن كنت صادقا إنه لينبغي أن يقبل مني، ولئن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولي القضاء كذابا. فقال: اخرج. فخرجت.ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاما خفيا. فقال له هارون: أتدري لم دعوتك? قال: لا. قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيا، وإنهم سموك لي فيمن سموا. وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض، فقال له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك فخرج.ثم دخل حفص فقبل عهده، فأتى خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف فقال لي: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لكم: قد لزمتكم في شخوصكم مؤونة فاستعينوا بهذه في سفركم.قال وكيع: فقلت له أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل له: قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا مستغن عنها. وأما ابن إدريس فصاح به: مر من ها هنا. وقبلها حفص.وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا: عافانا الله وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا لم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله. فقال للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله. ثم مضينا فلما صرنا إلى الياسرية التفت ابن إدريس إلى حفص فقال: قد علمت أنك ستبلى، والله لا أكلمك حتى تموت فما كلمه حتى مات.

(1/248)

لما قدم شعيب بن حرب على يوسف بن أسباط رأى عنده شابا يكلم يوسف ويغلظ له، أو قال: رفع صوته، فقال له شعيب: ترفع صوتك? فقال له يوسف: يا أبا صالح إنه ابن إدريس، إنه يدري من أين يأكل? أحمد بن إبراهيم قال: حدثني سهل بن محمود، عن عبد الله بن إدريس قال: لو أن رجلا انقطع إلى رجل لعرف ذلك له، فكيف بمن له السموات والأرض.محمد بن المنذر قال: حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون، فدخل الكوفة فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا يحدثونا. فلم يتخلف عنه من شيوخ الكوفة إلا اثنان: عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس.فركب الأمين والمأمون إلى عبد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث. فقال المأمون لعبد الله بن إدريس: يا عم أتأذن لي أن أعيدها عليك من حفظي? قال: افعل. فأعادها عليه. فعجب عبد الله. فقال المأمون: يا عم: إلى جانب مسجدك دار إن أذنت لنا اشتريناها ووسعنا بها المسجد. فقال: ما لي إلى هذا حاجة، قد أجزأ من كان قبلي وهو يجزئني فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ، فقال: إن معنا متطببين وأدوية، أتأذن أن يجيئك من يعالجك? قال: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبدأ. فأمر له بمال فأبى أن يقبله.لما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته فقال: لا تبكي فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة. وجمع بين العلم والزهدوكيع بن الجراح بن مليح يكنى أبا سفيان الرواسيقال لي أحمد بن حنبل: لو رأيت وكيعا لعلمت أنك ما رأيت مثله.أحمد بن حنبل ذكر يوما وكيعا فقال: ما رأت عيناي مثله قط، يحفظ الحديث جيدا ويذاكر بالفقه فيحسن، مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد.قال أحمد بن حنبل: ما رأيت رجلا مثل وكيع في العلم والحفظ والحلم مع خشوع وورع.يحيى بن أكثم قال: صحبت وكيعا في السفر والحضر، وكان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة.قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع بن الجراح، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم.

(1/249)

يحيى بن أيوب قال: حدثني بعض أصحاب وكيع الذين كانوا يلزمونه قالوا: كان وكيع لا ينام حتى يقرأ ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين.إبراهيم بن وكيع قال: كان أبي يصلي الليل فلا يبقى في دارنا أحد إلا صلى حتى إن جارية لنا سوداء لتصلي.أحمد بن محمد قال: أخبرني بعض أصحابنا عن وكيع قال: أغلظ رجل لوكيع بن الجراح، فدخل وكيع بيتا فعفر وجهه في التراب ثم خرج إلى الرجل فقال: زد وكيعا بذنبه فلولاه ما سلطت عليه.سلم بن جنادة قال: جالست وكيع بن الجراح سبع سنين فما رأيته بزق ولا رأيته مس حصاة بيده، وما رأيته جلس مجلسه فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله.الحسين بن أبي زيد قال: صاحبت وكيع بن الجراح إلى مكة فما رأيته متكئا ولا رأيته نائما في محمله.حسين ين علي الجعفي يكنى أبا عبد اللهمن العلماء العباد، وكان سفيان الثوري إذا رآه عانقه وقال: هذا راهب جعفي. وكان سفيان بن عيينة يعظمه.وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت بالكوفة أفضل من حسين الجعفي كان يشبه بالراهب.قال ابن أبي عمر العدني بمكة: قدم علينا هارون قدمة إلى هذا المسجد فأخبرني الخادم الذي كان معه قال: كنت معه ومعه جعفر بن يحيى فخرجنا جميعا حتى صرنا إلى الثنية، فقال لي: سل عن حسين بن علي الجعفي. فلقيت رجلا فقلت: حسين بن علي الجعفي. فقال: ها هو ذا يطلع عليك راكبا حمارا وخلفه أسود يقود أجمالا له، فإذا هو قد طلع فقلت: هذا هو يا أمير المؤمنين. فلما حاذاه قام إليه فقبل يده، أو قال: رجله، فقال له جعفر بن يحيى: يا شيخ تدري من المسلم عليك? أمير المؤمنين هارون. فالتفت إليه حسين فقال له: أنت يا حسن الوجه، أنت مسئول عن هذا الخلق كلهم فقعد يبكي.

(1/250)

وأتانا آت ونحن عند ابن عيينة فقال لسفيان: قدم حسين بن علي الجعفي فقام إليه يتلقاه وخرجنا معه. فلما صار في الطريق إلى باب بني لقيه فضيل بن عياض فقال له: أين تريد يا أبا محمد? فقال: قدم حسين الجعفي فأردت لقاءه. فقال: أنا معك. فخرجا يمشيان جميعا ونحن خلفهما. فلما صرنا في أصحاب اللواء إذا حسين راكب حمارا فتقدم إليه فضيل، فقبل رجله وتقدم سفيان فقبل يده، أو قبل سفيان رجله، وقبل فضيل يده. فقال له فضيل: بأبي رجل تعلمت القرآن على يديه، أو علمني الله القرآن على يده، ثم دخل المسجد فطاف بالكنية وجاء إلى الأسطوانة الحمراء فقعد عندها فأكب الناس عليه.محمد بن صبيح بن السماك يكنى أبا العباسكان ابن السماك يقول: يا ابن آدم إنما تغدو في كسب الأرباح فاجعل نفسك فيما تكسبه فإنك لم تكسب مثلها.قال يحيى بن خالد البرمكي لابن السماك: إذا دخلت على هارون أمير المؤمنين فأوجز ولا تكثر عليه. قال: فلما دخل عليه وقام بين يديه قال: يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي الله تعالى مقاما وإن لك من مقامك منصرفا، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أم إلى النار? قال: فبكى هارون حتى كاد يموت.قال سمعت ابن السماك من امتطى الصبر قوي على العبادة، ومن أجمع اليأس استغنى عن الناس، ومن أهمته نفسه لم يول مرمتها غيره ومن أحب الخير وفق له، ومن كره الشر جنبه، ومن رضي الدنيا من الآخرة حظا فقد أخطأ حظ نفسه.

(1/251)

كتب ابن السماك إلى أخ له: أما بعد، أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعله من بالك على حالك، وخفه بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك، واعلم أن الذنب من العاقل أعظم من الأحمق ومن العالم أعظم من الجاهل وقد أصبحنا أدلاء بزعمنا والدليل لا ينام في البحر، وقد كان عيسى يقول: حتى متى تصفون الطريق للدالجين وأنتم مقيمون في محلة المتحيرين? تصفون البعوض من شرابكم وتسترطون الجمال بأجمالها. أي أخي كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من داع إلى الله فار من الله. وكم تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله. والسلام.قال ابن السماك سبعك بين لحييك تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت ها هنا تنبشهم، إنما نرى أن نبشهم أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك? ولعلك تذكره بأمر، فيك أعظم منه، قذلك أشد استحكاما لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك. أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك? الحسين بن عبد الرحمن قال: كان ابن السماك يقول: من أذاقته الدنيا حلاوتها لميله إليها جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها.قال ا بن السماك: إن استطعت أن تكون كرجل ذاق الموت وعاش ما بعده فسأل الرجعة فأسعف بطلبه وأعطي حاجته فهو متأهب مبادر، فافعل فإن المغبون من لم يقدم من ماله شيئا ومن نفسه لنفسه.لما حضرت ابن السماك الوفاة قال: اللهم إني وإن كنت أعصيك لقد كنت أحب فيك من يطيعك.من الطبقة الثامنة من أهل الكوفة أبو داود الحفري عمر بن سعد

(1/252)

قال أحمد بن حنبل رأيت أبا داود الحفري وعليه جبة مخرقة وقد خرج القطن منها يصلي بين المغرب والعشاء وهو يترجح من الجوع.الحسين بن علي الصدائي قال: جئت إلى أبي داود الحفري فدققت الباب عليه فقال: من هذا? فقلت: رجل من أصحاب الحديث. فقال لي: اصبر علي. فاطلعت من كوة في الباب فإذا هو متزر بمئزر وهو يغزل صوفا يتعيش منه. فأخذ الصوف فوضعه في كوة وأخذ عليه ثوبا وأدخلني الدار إلى مسجد له فقعد معي ولم يكن في الدار سقف غير سقف رأيته على الدهليز فأملى علي حتى فني ورقي. وقال لي: ألك حاجة? أو تكتب شيئا آخر? فما رأيت رجلا يحدث لله عز وجل مثله.قال عباس الدوري حدثنا أبو داود الحفري، ولو رأيت أبا داود لرأيت رجلا كأنه اطلع إلى النار فرأى ما فيها.بهيم العجليقال بهيم: إنما أخاف أن تدفق علي الدنيا دفقة فتعريني.كان بهيم رجلا طوالا شديد الأدمة إذا رأيته رأيت رجلا حزينا.شهاب بن عباد قال: رأيت بهيما العجلي وكان قد بكى حتى سقطت أشفاره، وكان رطب العينين جدا. فقلت لابن أخ له، ما شأنه يمس عينيه كثيرا? قال: قد فسدت من كثرة من يبكي، فهي تحكه وتضرب عليه.لما اتخذت عبادان سكنها قوم نساك فيهم رجل يقال له بهيم وكان رجلا حزينا يزفر الزفرة فتسمع زفيره.فخول قال: جاءني بهيم يوما فقال لي: تعلم لي رجلا من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرفقني? قلت: نعم. فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما وتواطيا على المرافقة.

(1/253)

ثم انطلق بهيم إلى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: يا هذا أحب أن تزوي عني صاحبك وتطلب رفيقا غيري. فقلت: ويحك فلم? فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيرا في حسن الخلق والاحتمال، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيرا. قال: ويحك حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله. قال: قلت: ويحك إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكرة يرق القلب فيبكي الرجل، أو ما تبكي أنت أحيانا? قال: بلى ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جدا من كثرة بكائه. قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. قال: أستخير الله.فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيء بالإبل ووطئ لهما فجلس بهيم في ظل حائط فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض.قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق. قال: قلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق. وسمعها بهيم فقال: يا أخي والله ما هو بذاك وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة. قال: وعلا صوته بالنحيب. قال: يقول لي صاحبي: والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولبهيم? إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام بن الأحوص، حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعا. قال: فلم أزل أرفق به وأقول: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها. قال: وكان طويل الحج رجلا صالحا إلا أنه كان رجلا تاجرا موسرا مقبلا على شأنه، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء،قال: فقال لي: قد وقعت مرتي هذه ولعلها أن تكون الأخيرة.قال: وكل هذا الكلام لا يعلم به بعين ولو علم بشيء منه ما صاحبه.

(1/254)

قال: فخرجا جميعا حتى حجا ورجعا. ما يرى كل واحد منهما أن له أخا غير صاحبه. فلما جئت أسلم على جاري قال لي: جزاك الله يا أخي عني خيرا ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم. قال: فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طويل بكائه? قال: ألفت والله ذاك البكاء وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة. قال: ثم والله ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد? قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي. قال: ثم خرجت من عنده فأتيت بهيما فسلمت عليه وقلت: كيف رأيت صاحبك? قال: كخير صاحب، كثير الذكر لله عز وجل طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة محتمل الهفوات للرفيق، جزاك الله عني خيرا.عرفجةكان يحيي الليل صلاة. فاستزاره بعض إخوانه ليلة فاستأذن أمه في زيارته فأذنت له. قالت العجوز:فلما كان الليل إذا أنا في منامي برجال قد وقفوا علي فقالوا: يا أم عرفجة: لم أذنت لإمامنا الليلة.ذكر المصطفين من عباد الكوفة مجهولي الأسماءعابدأبو سعيد البقال قال: رأيت رجلا بالكوفة قد استعد للموت منذ ثلاثين سنة قال: ما لي على أحد شئ ولا لأحد عندي شيء، وما أريد أن أكلم أحدا ولا يكلمني أحد من الناس إلا بذكر الله تعالى وكان يأوي الجبان والمقابر.قال سفيان الثوري: رأيت شيخا في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي لو أتاني ما أمرته بشيء ولا نهيته عن شيء ولا لي على أحد شيء ولا لأحد عندي شيء.عابدان كوفيان

(1/255)

جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: اشتريت من هذا دارا فوجدت فيها عشرة آلاف درهم فقال: خذها. فقال له: إنما اشتريت الدار. فقال للبائع: فخذها أنت فقال: ولم? وقد بعته الدار بما فيها. فأدار الأمر بينهما فأبيا فأتى زيادا فأخبره فقال: ما كنت أرى أن أحدا هكذا بقي.وقال لشريح: ادخل بيت المال فألق في كل جراب قبضة حتى تكون للمسلمين.عابد آخرقال منصور بن عمار: خرجت ذات ليلة فظننت أني قد أصبحت فإذا علي ليل، فقعدت عند باب صغير فإذا بصوت شاب يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك حين عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، عصيتك بجهلي وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني? وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني? واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحيي من ربي عز وجل.قال منصور: فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد سورة التحريم آية 6 الآية. فسمعت صوتا واضطرابا شديدا فمضيت لحاجتي. فلما أصبحت رجعت وأنا بجنازة على الباب، وعجوز تذهب وتجيء. فقلت لها: من الميت? فقالت: إليك عني لا تجدد علي أحزاني. فقلت: إني رجل غريب. فقالت: هذا ولدي مر بنا البارحة رجل لا جزاه الله خيرا فقرأ آية فيها ذكر النار، فلم يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات.قال منصور: هكذا والله صفة الخائفين.عابد آخر

(1/256)

قال عبد الله بن عمر الكوفي: كان عندنا بالكوفة رجل قد خرج عن دنيا واسعة وتعبد. قال: وكان الفضيل بالكوفة في أيامه. قال: فقدم ابن المبارك فقال له الفضيل: إن ها هنا رجلا من المتعبدين قد خرج عن دنيا فامض بنا إليه ننظر عقله. قال: فجاؤوا إليه وهو عليل وعليه عباء وتحت رأسه قطعة لبنةقال: فسلم ابن المبارك عليه ثم قال: يا أخي بلغنا أنه ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله ما هو أكثر منه، فما عوضك? قال: الرضا بما أنا فيه. فقال ابن المبارك: حسبك. وقاما على ذلك.من عقلاء المجانين بالكوفةنمير المجنونقال ابن نمير كان لي ابن أخت سمته أختي باسم أبي نمير، وكان من نساك أهل الكوفة وقد سمع سماعا حسنا وكان حسن الطهور حسن الصلاة، يراعي الشمس للزوال. قال: فعرض له فذهب عقله فكان لا يأويه سقف بيت: إذا كان بالنهار فهو بالجبانة وإذا كان بالليل ففي السطح قائما على رجليه في البرد والمطر والريح.فنزل يوما مبكرا يريد المقابر فقلت: يا نمير تنام? قال: لا. قلت: أي شيء العلة التي تمنعك من النوم? قال: هذا البلاء الذي تراه. فقلت: يا نمير أما تخاف الله عز وجل? قال: بلى. وقال: أليس يقال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل? قال: قلت له: أنت أعلم مني. قال: كلا ومضى.قال: وصعدت إليه ليلة باردة وهو قائم في السطح وأمه قائمة تبكي فقلت: يا نمير بقي منك شيء لم تنكره? قال: نعم. قلت ما هو? قال: حب الله عز وجل وحب رسوله.

(1/257)

قال: وصعدت إليه ليلة في رمضان فقلت له: يا نمير لم أفطر. قال: ولم? قلت: أحب أن تراك أختي تأكل معي. قال: أفعل. قال: فأصعد إلينا طعام، فجعل يأكل معي حتى فرغت وفرغ. فلما أردت أن أقوم رحمته من أن يراني موليا وهو في الظلمة والريح فبكيت فقال: ما يبكيك رحمك الله? قلت: أنزل إلى الكن والضوء وأدعك في الظلمة والبرد? فغضب وقال لي: إن لي ربا هو أرحم بي منك وأعلم بما يصلحني فدعه يصرفني كيف يشاء، فإني لا أتهمه في قضائه. فقلت له لئن كنت في ظلمة الليل إن جدك في ظلمة اللحد، أريد أن أعزيه وأطيب نفسه. فقال لي ما جعل روح رجل صالح مثل روح رجل متلوث. ثم قال لي: أتاني البارحة أبي وأبوك عبد الله بن نمير فوقف ثم أشار إلى موضع كان أبي يصلي فيه فقال لي: يا نمير أما إنك ستأتينا يوم الجمعة شهيدا.قال: فدعوت أمه فصعدت إلي فأخبرتها بما قال: فقالت: والله ما جربت عليه كذبا وما هذا مما كان يتكلم به وما قال إلا حقا. قال: وقال هذه المقالة عشية الأربعاء. فجعلنا نتعجب ونقول غدا الخميس وبعد غد الجمعة، فهبه مرض غدا ومات بعد غد فأين الشهادة? فلما كانت ليلة الجمعة في وسط الليل سمعنا هدة فإذا هو قد هاج به ما كان يهيج فبادر الدرجة فزلت قدمه فسقط منها فاندقت عنقه فحفرت له إلى جنب أبي ودفنته، وانكببت على قبر أبي فقلت: يا أبت قد أتاك نمير وجاورك. والله ما قلت هذه المقالة إلا لما كان في قلبي من الغم. ثم انصرفت فلما كان الليل رأيت أبي في النوم كأنه قد دخل علي من باب البيت فقال لي: يا بني جزاك الله خيرا لقد آنستني بنمير، اعلم أنه منذ أتيتمونا به إلى أن جئتك يزوج بالحور.ذكر المصطفيات من العابدات الكوفياتأم حسان الكوفيةكان سفيان وابن المبارك وغيرهما يزورونها.

(1/258)

ذكر سفيان الثوري امرأة بالكوفة يقال لها أم حسان ذات اجتهاد وعبادة. فدخلنا بيتها فلم نر فيه شيئا غير قطعة حصير خلق فقال لها الثوري: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك لغيروا من سوء حالك. فقالت: يا سفيان قد كنت في عيني أعظم وفي قلبي أكبر مذ ساعتك هذه، إني ما أسأل الدنيا من يقدر عليها ويملكها ويحكم فيها؛ فكيف أسأل من لا يقدر عليها ولا يقضي ولا يحكم فيها? يا سفيان والله ما أحب أن يأتي علي وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله تعالى بغير الله. فأبكت سفيان. قال عبد الله: فبلغني أن سفيان تزوج بها.أم مسعر بن كدامكانت لمسعر أم عابدة فكان يحمل لها لبدا ويمشي معها حتى يدخلها المسجد فيبسط لها اللبد فتقوم فتصلي ويتقدم هو إلى مقدم المسجد فيصلي ثم يقعد ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم ثم ينصرف إليها فيحمل لبدها وينصرف معها.أم سفيان الثوريقال وكيع: قالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك يمغزلي، وقالت له: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك فإن لم يزدك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.أم الحسن وعلي ابني صالح بن حيكانت أم علي والحسن ابني صالح تقوم ثلث الليل.أن أم الحسن وعلي ابني صالح كانت تبكي بالليل والنهار.قال: فرأيت حسنا بعد موته في المنام فقلت: ما فعلت الوالدة? قال: بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد.أخت فضيل بن عبد الوهابقال محمد بن الحسين: حدثني فضيل بن عبد الوهاب قال: سمعت أختي تقول: الآخرة أقرب من الدنيا، وذلك أن الرجل يهم بطلب الدنيا فلعله أن ينشئ لذلك سفرا يكون فيه تعب بدنه وإنفاق ماله، ثم لعله أن لا ينال بغيته. والرجل يطلب الآخرة فمنتهى طلبته في حسن نيته حيث ما كان من غير أن ينشئ سفرا أو ينفق مالا أو يتعب بدنا، ما هو إلا أن يجمع على طاعة الله فإذا هو قد أدرك ما عند الله.

(1/259)

قال: وسمعتها تقول: ما بيننا وبين أن نرى السرور أو ننادى بالويل والثبور إلا خروج هذه الأرواح من الأبدان، فانظروا أي عبيد تكونون حينئذ? قال: ثم صرخت وغشي عليها.قال فضيل: ما رأيت أحدا قط، رجلا ولا امرأة، أطول حزنا منها.ذكر المصطفيات من العابدات الكوفيات مجهولات الأسماءعابدةأمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم. فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة.فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك? أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين? أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير? فصرخت صرخة فسقطت مغشيا عليها. فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.عابدة أخرىأتى الربيع بن خثيم في منامه فقيل: إن فلانة السوداء زوجتك في الجنة فلما أصبح سأل عنها فدل عليها فإذا هي ترعى أعنزا لها. فقال: لأقيمن عندها فأنظر ما عملها? فأقام عندها ثلاثا لا يراها تزيد على الفريضة، فإذا أمست جاءت إلى عنيزة لها فحلبت ثم شربت، ثم حلبت فسقته. فقال لها في اليوم الثالث: يا هذه لم لا تسقيني من غير هذه العنز? قال: يا عبد الله إنها ليست لي، قال: فلم تسقيني من هذه? قالت: إن هذه منحتها أشرب من لبنها واسقي من شئت. قال: يا هذه فليس لك من العمل أكثر مما أرى? قالت: لا، إلا أني ما أصبحت على حال قط فتمنيت أني على حال سواها، رضا بما قسم الله لي، فقال: يا هذه علمت أني رأيت في المنام أنك زوجتي في الجنة. قالت له: أنت الربيع بن خثيم? قلت لعبد الله بن نافع: كيف علمت هذا? قال: لعلها أن تكون رأت في منامها مثل ما رأى.عابدة أخرى

(1/260)

عن رجل من ولد ابن أبي ليلى قال: دخلت على امرأة وأنا أقرأ سورة هود. فقالت لي: يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود? والله إني لفيها منذ ستة أشهر ما فرغت من قراءتها.عابدة أخرىكانت امرأة مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاث مرة، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة. فقال لها إبراهيم التيمي: صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي، ففعلت فلزمت بيتها فلم تزدد إلا خيرا.عابدتان أختانكانت جارة لمنصور بن المعتمر، وكان لها ابنتان لا تصعدان إلى السطح إلا بعد ما ينام الناس. فقالت إحداهما ذات ليلة: يا أمتاه ما فعلت القائمة التي كنت أراها في سطح فلان? فقالت: يا بنية لم تكن تلك قائمة إنما كان ذاك منصور يحيي الليل كله في ركعة لا يسجد فيها ولا يركع. فقالت: يا أمتاه: بلغ به العبادة والفرق من النار هذا? فما فعل? قالت: مات ودفنوه. قالت: يا أمتاه انطلقي فاشتري لي مدرعة أتعبد فيها فوالله لا يجمع رأس ورأس رجل أبدا رجل لا ينام عشرين سنة فرقا من النار.قال: فاشترت لها مدرعة من شعر فدخلت البنت الأخرى معها في العبادة فتعبدتا بعد ذلك عشرين سنة لا تنامان الليل ولا تفطران النهار.عابدة أخرىعن سفيان أنه ذكر يوما امرأة من أهل الكوفة كانت تتعبد، فذكر عنها فضلا. فقلت: أي شيء تحفظ من كلامها? قال: قالوا إنها كانت تقول: لو نادى مناد من السماء ليمت أعظم الناس جرما لرأيت نفسي أول نفس ذائقة للموت. وكانت تقول: طول الأمل بطأ بي عن سبيل النجاة.عابدة أخرى:كانت امرأة عابدة في غنى، فكانت لا تنام من الليل إلا يسيرا. فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في القبور للمؤمنين رقادا.وكانت تصوم في شدة الحر حتى يسود لونها ويتغير وجهها. فيقال لها في ذلك،فتقول: إنما أدور على طول الري والشبع في الآخرة.

(1/261)

وكانت قد بكت حتى اسود مجاري دموعها من وجهها، فكان يأتيها محمد بن النضر وأصحابه فيحادثها ساعة ثم تقول: قوموا فالحديث هناك يطيب، في دار لا هم فيها ولا موت ولا تعب.ذكر المصطفيات من عقلاء المجانين المتعبدات الكوفياتميمونة السوداءقال عبد الواحد بن زيد: سألت الله عز وجل ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة. فرأت كأن قائلا يقول: يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء. فقلت: وأين هي? فقال: في آل فلان بالكوفة.قال: فخرجت إلى الكوفة وسألت عنها فقيل: هي مجنونة بين ظهرانينا ترعى غنيمات لنا، فقلت: أريد أن أراها. قالوا: اخرج إلى الجبان، فخرجت فإذا بها قائمة تصلي، وإذا بين يديها عكاز لها وعليها جبة من صوف، عليها مكتوب: لا تباع ولا تشترى. وإذا الغنم مع الذئاب، فلا الذئاب تأكل الغنم ولا الغنم تخاف الذئاب.فلما رأتني أوجزت في صلاتها ثم قالت: ارجع يا بن زيد ليس الموعد ها هنا إنما الموعد ثم.فقلت: رحمك الله ومن أعلمك أني ابن زيد? فقالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف? فقلت لها: عظيني? فقالت: واعجبا لواعظ يوعظ ثم قالت: يا بن زيد إنك وضعت معايير القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا بن زيد إنه بلغني أنه ما من عبد أعطي من الدنيا شيئا فابتغى إليه ثانيا إلا سلبه الله حب الخلوة معه، وبدله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة. ثم أنشأت تقول:يا واعظا قام لاحتساب بزجر قوما عن الذنوبننهى وأنت السقيم حقا هذا من المنكر العجيبلو كنت أصلحت قبل هذا عيبك أو تبت من قريبكان لما قلت يا حبيبي موقع صدق من القلوبنتهى عن الغي والتمادي وأنت في النهي كالمريبفقلت لها: أرى هذا الذئاب مع الغنم، فلا الغنم تفزع من الذئاب، ولا الذئاب تأكل الغنم، فأي شيء هذا?فقالت: إليك عني فإني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح بين الذئاب والغنم.بخة

(1/262)

قال يحيى بن إسماعيل كانت لي أخت أسن مني فاختلط عقلها فتوحشت فكانت في غرفة في أقصى سطوحنا. فمكثت بذلك بضع عشرة سنة وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الطهور وتفقد الصلوات وربما غلبت على عقلها الأيام فتحفظ ذلك حتى تقضيه.قال: فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب بيتي يدق في نصف الليل. فقلت: من هذا? قالت: بخة، قلت، أختي? قالت: أختك. قلت: لبيك. وقمت ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثرأ أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أختاه خير. قالت: خير، أتيت الليلة في منامي فقيل لي: السلام عليك يا بخة. فقلت: وعليك السلام. فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة بن كهيل جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل. فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد شفعا لك إلى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما. فقلت: إن كان لا بد من أن أختار أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنة، والله واسع لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: قد جمعهما الله لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. فأذهب الله ما كان بها.ذكر المصطفين من أهل البصرة من التابعين ومن بعدهمالطبقة الأولى الأحنف بن قيسعن الأحنف قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذ لقيني رجل من بني سليم فقال: أبشرك? فقلت: بلى. قال: أتذكر إذ بعثني رسول الله إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى الإسلام، فقلت أنت: ما قال إلا خيرا ولا أسمع إلا حسنا? فإني رجعت وأخبرت النبي بمقالتك فقال: اللهم اغفر لأحنف . قال: فما أنا لشيء أرجى مني لها.

(1/263)

قال أبو معاوية بن هشام لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ? قال: إن شئت حدثتك ألفا وإن شئت حذفت لك الحديث حذفا. قال: احذفه لي حذفا. قال: فإن شئت فثلاثا، وإن شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة. قال: ما الثلاث? قال: كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقا. قال: فما الاثنتان? قال: كان موقفا للخير، معصوما من الشر. قال: فما الواحدة? قال: كان أشد الناس على نفسه سلطانا.كانوا يتكلمون عند معاوية والأحنف ساكت فقالوا ما لك لا تتكلم? قال: أخشى الله إن كذبت وأخشاكم إن صدقت.عن سليمان التيمي قال: قال الأحنف بن قيس: ما ذكرت أحدا بسوء بعد أن يقوم من عندي.عن مولى كان يصحب الأحنف قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء. وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس. ثم يقول: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا? ما حملك على ما صنعت يوم كذا? عن الحسن قال: قال الأحنف بن قيس: والله ما سمعت كلمة إلا طأطأت لها رأسي لما هو أعظم منها.قال الأحنف لا مروءة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا حيلة لبخيل، ولا سؤدد لسيئ الخلق، ولا إخاء لملول.اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد.قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء? قال: فأخرج جرة مكسورة فكبها فإذا كسر. فقال: من كان يجزئه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم? وقال محمد بن سعد: كان الأحنف صديقا لمصعب بن الزبير، فوفد عليه الكوفة ومصعب وإليها يومئذ، فتوفي الأحنف عنده فرئي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء.أبو عثمان النهديقال معتمر بن سليمان، عن أبيه: إني لأحسب أبا عثمان كان لا يصيب ذنبا. كان ليلة قائما ونهاره صائما. وإن كان ليصلي حتى يغشى عليه.كان أبو عثمان إذا دعا ودعونا يقول: والله لقد استجاب الله عز وجل، قال الله: ادعوني أستجب لكم ...حجير بن الربيع العدوي

(1/264)

كان حجير بن الربيع يصلي حتى ما يأتي فراشه إلا زحفا، وما يعدونه من أعبدهم.عامر بن عبد الله من بني تميمأن كعبا رأى عامر بن عبد قيس فقال: من هذا? فقالوا: هذا عامر. فقال: هذا راهب هذه الأمة.عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم: عامر بن عبد الله، إن كان ليصلي فيتمثل إبليس في صورة حية فيدخل تحت قميصه حتى يخرج من جيبه فما يمسه. قيل له: ألا تنحى الحية عنك? فقال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أخاف سواه. فقيل له: إن الجنة لتدرك بدون ما تصنع، وإن النار لتتقى بدون ما تصنع. فقال: والله لأجتهدن. ثم والله لأجتهدن، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن دخلت النار فبعد جهدي.فلما احتضر بكى فقيل له: أتجزع من الموت وتبكي? فقال: ما لي لا أبكي ومن أحق بذلك مني? والله ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على دنياكم، ولكني أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء.وكان يقول: اللهم في الدنيا الهموم والأحزان، وفي الآخرة العذاب والحساب، فأين الروح والفرح.كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه في كل يوم ألف ركعة وكان إذا صلى العصر جلس وقد انتفخت ساقاه من طول القيام فيقول: يا نفس، بهذا أمرت ولهذا خلقت، يوشك أن يذهب العناء. وكان يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوعزة ربك لأزحفن بك زحوف البعير ولئن استطعت أن لا يمس الأرض من زهمك لأفعلن.ثم يتلوى كما تتلوى الحية على المقلى. ثم يقوم فينادي: اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي.عامر بن عبد قيس كان من أفضل العابدين. ففرض على نفسه كل يوم ألف ركعة يقوم عند طلوع الشمس فلا يزال قائما إلى العصر. ثم ينصرف وقد انتفخت ساقاه وقدماه فيقول: يا نفس إنما خلقت للعبادة يا أمارة بالسوء والله لأعملن بك عملا، لا يأخذ الفراش منك نصيبا.

(1/265)

قال: وهبط واديا يقال له وادي السباع وفي الوادي عابد حبشي يقال له حممة. فانفرد عامر في ناحية يصليان، لا هذا ينصرف إلى هذا، ولا هذا ينصرف إلى هذا، أربعين يوما وأربعين ليلة. إذا جاء وقت الفريضة صليا ثم أقبلا يتطوعان. ثم انصرف عامر بعد أربعين يوما إلى حممة فقال: من أنت يرحمك الله? فقال: دعني وهمي. قال: أقسمت عليك. قال: أنا حممة. قال عامر: لئن كنت أنت حممة الذي ذكر لي لأنت أعبد من في الأرض، فأخبرني عن أفضل خصلة. قال: إني لمقصر ولولا مواقيت الصلاة تقطع علي القيام والسجود لأحببت أن أجعل عمري راكعا، ووجهي مفترشا حتى ألقاه، ولكن الفرائض لا تدعني أفعل ذلك فمن أنت يرحمك الله? قال: أنا عامر بن عبد قيس. قال: إن كنت عامرا الذي ذكر لي فأنت أعبد الناس. فأخبرني بأفضل خصلة قال: إني لمقصر ولكن واحدة عظمت هيبة الله في صدري حتى ما أهاب شيئا غيره.واكتنفه السباع فأتاه منها فوثب عليه من خلفه فوضع يديه على منكبيه وعامر يتلو هذه الآية ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود سورة هود آية 103. فلما رأى السبع أنه لا يكترث له ذهب. فقال حممة: وبالله يا عامر ما هالك ما رأيت? قال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أهاب شيئا غيره.قال حممة: لولا أن الله تعالى ابتلانا بالبطن فإذا أكلنا لا بد لنا من الحدث ما رآني ربي إلا راكعا أو ساجدا.وكان يصلي في اليوم والليلة ثمان مائة ركعة. وكان يقول: إني لمقصر في العبادة وكان يعاتب نفسه.عن عامر بن عبد قيس أنه مر بقافلة قد حبسهم الأسد من بين أيديهم على طريقهم، فلما جاء عامر نزل عن دابته فقالوا: يا أبا عبد الله إنا نخاف عليك من الأسد. فقال: إنما هو كل من كلاب الله عز وجل، إن شاء أن يسلطه سلطه وإن شاء أن يكفه كفه. فمشى إليه حتى أخذ بيديه أذني الأسد فنحاه على الطريق وجازت القافلة. وقال إني لأستحيي من ربي تبارك وتعالى أن يرى في قلبي أني أخاف من غيره.

(1/266)

قال عامر :ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، وكان إذا جاء النهار قال: أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسي، وإذا جاء الليل قال: من خاف أدلج، وعند الصباح يحمد القوم السرى.سهيل أخو حزم قال: بلغني عن عامر بن عبد قيس أنه كان يقول: أحببت الله عز وجل حبا سهل علي كل مصيبة ورضاني كل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت.سعيد بن ميمون قال: قيل لامرأة عامر بن عبد قيس، يعني خادمته، كيف كانت عبادة عامر? قالت: ما صنعت له طعاما قط بالنهار، فأكله إلا بالليل، ولا فرشت له فراشا بالليل فاضطجع عليه إلا بالنهار.بعث معاوية إلى عبد الله بن عامر أن انظر إلى عامر بن عبد قيس فأحسن إذنه وأكرمه ومره أن يخطب إلى من شاء وأمهر عنه من بيت المال. قال: فأرسل إليه: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي أن أحسن إذنك وأكرمك.قال: يقول فلان أحوج مني إلى ذلك، يعني رجلا كان أطال الاختلاف إليهم ولا يؤذن له. وأمرني أن آمرك أن تخطب إلى من شئت وأمهر عنك من بيت المال. قال: أنا في الخطبة دائب. قال: إلى من? قال: إلى من يقبل الفلقة والتمرة. قال: ثم أقبل إلى جلسائه وقال: إني سائلكم فأخبروني: هل منكم من أحد إلا له من قلبه شعبة? قالوا: اللهم لا. قال: هل منكم من أحد إلا لأهله من قلبه شعبة? قالوا: اللهم لا. قال: هل منكم من أحد إلا لولده من من قلبه شعبة? قالوا: اللهم لا. قال: فوالذي نفسي بيده لأن تختلف الأسنة في جوانحي أحب إلي من أن أكون هكذا، أما والله لأجعلن الهم هما واحدا. قال الحسن: وفعل.

(1/267)

مر برجل من أعوان السلطان وهو يجر ذميا والذمي يستغيث. فأقبل على الذمي فقال: أديت جزيتك? قال: نعم. فأقبل عليه فقال: ما تريد منه? قال: أذهب به يكسح دار الأمير. قال: فأقبل على الذمي فقال: تطيب نفسك له بهذا? قال: يشغلني عن صنعتي. قال: دعه. قال: لا أدعه. قال له: دعه، قال: لا أدعه. قال: فوضع كساءه فقال: لا يخفر ذمة محمد وأنا حي. قال: ثم خلصه منه. قال فتراقى ذلك حتى كان سبب تسييره.قالت المرأة التي نزل عليها عامر بن عبد الله: مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام? قال: إن ذكر جهنم لا يدعني أن أنام.سأل عامر ربه عز وجل أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء وله بخار. وسأل ربه أن ينزع شهوة النساء من قلبه فكان لا يبالي ذكرا لقي أم أنثى? وسأل ربه أن يحول بين الشيطان وبين قلبه في الصلاة، فلم يقدر على ذلك. وقيل له: هذه الأجمة نخاف عليك منها الأسد. فقال: إني لأستحيي من ربي أن أخشى غيره.قال عامر بن عبد قيس: أربع آيات من كتاب الله تعالى إذا ذكرتهن لا أبالي على ما أصبحت وأمسيت ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده سورة فاطر آية 2، وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو سورة الأنعام آية 17 و سيجعل الله بعد عسر يسرا سورة الطلاق آية 7، وما من دابة إلا على الله رزقها سورة هود آية 6.عن عامر بن عبد قيس أنه كان يقول: إن أشد أهل الجنة فرحا في الجنة أطولهم حزنا في الدنيا.قال عامر بن عبد قيس: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.

(1/268)

عن أبي المتوكل الناجي قال: قال عامر بن عبد قيس: يا أبا المتوكل? قلت: لبيك. قال: عليك بما يرغبك في الآخرة ويزهدك في الدنيا ويقربك إلى لاله عز وجل. قلت: ما هو? فقالك تقصر عن الدنيا همك وتشحذ إلى الآخرة نيتك، وتصدق ذلك بفعلك، فإذا كنت كذلك لم يكن شيء أحب إليك من الموت، ولا شيء أبغض إليك من الحياة. فقلت: يا أبا عبد الله كنت لا أحسبك تحسن مثل هذا. فقال: كم من شيء كنت أحسنه وددت أني لا أحسنه وما يغني عني ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به.عن بلال بن سعد أن عامرا كان يشترط على رفقائه أن ينفق عليهم بقدر طاقته.خرج عامر من البصرة إلى الشام ومعه ركوة فيها ماء يتوضأ منه للصلاة ويشرب منه لبنا إذا شاء.كان عامر بن عبد قيس إذا أصبح قال: اللهم غدا الناس إلى أسواقهم وأصبح لكل امرئ منهم حاجة وحاجتي إليك يا رب أن تغفر لي.عن العلاء بن سالم قال: حدثني من صحب عامر بن عبد قيس أربعة أشهر قال: فما رأيته نام بليل ولا نهار حتى فارقته، وكان له رغيفان قد جعل عليهما ودكا فيتسحر بواحد ويفطر بآخر. وكان إذا أصبح علمنا القرآن حتى إذا أمكنته الصلاة قام يصلي، فلا يزال يصلي حتى يصلي العصر. قال: ثم يعلمنا القرآن حتى يمسي فإذا صلى المغرب فهي ليلته حتى يصبح.كان عامر بن عبد قيس إذا صلى الصبح تنحى في ناحية المسجد فقال: من أقرئه? قال: فيأتيه قوم فيقرئهم، حتى إذا طلعت الشمس وأمكنته الصلاة قام يصلي إلى أن ينتصف النهار ثم يرجع إلى منزله فيقيل، ثم يرجع إلى المسجد إذا زالت الشمس فيصلي حتى يصلي الظهر، ثم يصلي إلى العصر فإذا صلى العصر تنحى في ناحية المسجد ثم يقول: من أقرئه? قال: فيأتيه قوم فيقرئهم حتى إذا غربت الشمس صلى المغرب ثم يصلي حتى يصلي العشاء الآخرة ثم يرجع إلى منزله فيتناول أحد رغيفيه فيأكل ثم يهجع هجعة خفيفة، ثم يقول. فإذا أسحر تناول رغيفه الآخر فأكله ثم شرب عليه شربة من ماء ثم يخرج إلى المسجد.

(1/269)

قال خلف: وحدثني بعض أصحابنا قال: كان منصور بن زاذان يفعل هذا كله ويفضل بخصلة: لا يبيت كل ليلة حتى يبل عمامته بدموعه ثم يضعها.قال ابن أخي عامر بن عبد قيس أن عامرا كان يأخذ عطاءه فيجعله في طرف ردائه فلا يلقى أحدا من المساكين يسأله إلا أعطاه. فإذا دخل إلى أهله رمى به إليهم فيعدونها فيجدونها كما أعطيها.قالوا: ما رأينا عامر بن عبد قيس متطوعا في مسجدهم قط.قال وكان آخر من يدخل المسجد، وأول من يخرج منه.قال ابن الشخير كنا نأتي عامر بن عبد الله وهو يصلي في مسجده فإذا رآنا تجوز في صلاته ثم أقبل علي فقال: أرحني بحاجتك فإني أبادر? قلت: وما تبادر? قال: ملك الموت رحمك الله? قال: فقمت عنه وقام إلى صلاته.لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا له: هل أخذت منه شيئا? فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنا: فقالوا: من أنت? فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.أبو العالية الرياحيأعتقته امرأة من بني رياح. قال أبو العالية: دخلت المسجد معها فوافقها الإمام على المنبر فقبضت على يدي فقالت: اللهم أدخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله. ثم ذهبت فما تراءينا بعد.كان أبو العالية إذا جلس عليه أكثر من أربعة قام.عن أبي العالية قال: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام، فأول ما أتفقده من أمره صلاته، فإن وجدته يقيمها ويتمها أقمت وسمعت منه، وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه وقلت: هو لغير الصلاة أضيع.قال أبي العالية: قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم لا تعمل لغير الله فيكلك الله عز وجل إلى من عملت له.

(1/270)

قال أبوالعالية: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه.قال سيار بن سلامة: دخلت على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه فقال: إن أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.عبد الله بن شقيق البصريكان عبد الله بن شقيق مجاب الدعوى، كانت تمر به السحابة فيقول: اللهم لا تجوز كذا وكذا حتى تمطر.فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر.الفضيل بن زيد الرقاشيغزا سبع غزوات في خلافة عمر، وكان من عباد البصرة.عن فضيل بن زيد الرقاشي، وكان غزا مع عمر سبع غزوات قال: لا يلهينك الناس عن ذات نفسك، فإن الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع النهار بطيت وكيت فإنه محفوظ عليك ما قلت، ولم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم.هرم بن حيان العبدي كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.عن هرم بن حيان قال: ما رأيت كالنار نام هاربها، ولا كالجنة نام طالبها.قال هرم بن حيان: ما آثر الدنيا على الآخرة حكيم ولا عصى الله كريم.قال هرم بن حيان: صاحب الكلام على إحدى المنزلتين: إن قصر فيه حصر، وإن أغرق فيه أثم.قال هرم بن حيان: لو قيل لي إنك من أهل النار لم أترك العمل لئلا تلومني نفسي فتقول: لم فعلت? لم ضيعت? وفي رواية أخرى: تقول لي ألا صنعت? ألا فعلت? عن الحسن قال: خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يؤمان الحجاز، فجعلت أعناق رواحلهما تتخالجان الشجر. فقال هرم لابن عامر أتحب أنك شجرة من هذه الشجر? فقال ابن عامر: لا والله، لما أرجو من ربي عز وجل. فقال هرم: لكني والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر أكلتني هذه الراحلة ثم قذفتني بعرا ولم أكابد الحساب، يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى إما إلى الجنة وإما إلى النار.قال الحسن: وكان هرم أفقه الرجلين وأعلمهما بالله عز وجل.

(1/271)

مطر الوراق قال: بات هرم بن حيان العبدي عند حممة صاحب رسول الله. قال: فبات حممة ليلته يبكي كلها حتى أصبح. فلما أصبح قال له هرم: يا حممة ما أبكاك? قال: ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور فيخرج من فيها.قال: وبات حممة عند هرم بن حيان فبات ليلته يبكي حتى أصبح فسأله حين أصبح: ما الذي أبكاك? قال: ذكرت ليلة صبيحتها تناثر نجوم السماء فأبكاني ذاك. قال: وكانا يصطحبان أحيانا بالنهار فيأتيان سوق الريحان فيسألان الله الجنة ويدعوان ثم يأتيان الحدادين فيعوذان من النار ثم يتفرقان إلى منازلهما.عن أبي نضرة أن عمر رضي الله عنه بعث هرم بن حيان على الخيل، فغضب رجل فأمر به فوجئت عنقه. ثم أقبل على أصحابه فقال: لا جزاكم الله خيرا ما نصحتموني حين قلت ولا كففتموني عن غضبي، والله لا ألي لكم عملا. ثم كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بالرعية فابعث إلي عملك.مات هرم بن حيان في يوم صائف شديد الحر. فما نفضوا أيديهم عن قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره فلم تكن أطول منه ولا أقصر، فرشته حتى روته ثم انصرفت.عن قتادة قال: أمطر قبر هرم بن حيان من يومه، وأنبت العشب من يومه.صلة بن أشيم العدوي يكنى أبا الصهباءكان صلة بن أشيم يخرج إلى الجبان فيتعبد فيها فكان يمر عليه شباب يلهون ويلعبون. فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فحادوا النهار عن الطريق وباتوا بالليل، متى يقطعون سفرهم? قال: فكان كذلك يمر بهم فيعظهم. فيمر بهم ذات يوم فقال لهم هذه المقالة. فقال شاب منهم: يا قوم إنه والله ما يعني بهم غيرنا، نحن بالنهار نلهو وبالليل ننام. ثم اتبع صلة فلم يزل يختلف معه إلى الجبان ويتعبد معه حتى مات.

(1/272)

حماد بن زيد قال: حدثنا ثابت أن صلة وأصحابه مر بهم فتى يجر ثوبه فهم أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا فقال صلة: دعوني أكفكم أمره. فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك? قال أن ترفع إزارك. قال: نعم ونعمى عين. فرفع إزاره. فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، لو شتمتموه لشتمكم.أن أخا لصلة بن أشيم مات فجاء رجل وهو يطعم. فقال: يا أبا الصهباء إن أخاك مات، فقال: هلم فكل قد نعي لنا، ادن فكل. فقالك والله ما سبقني إليك أحد، فمن نعاه? قال: يقول الله عز وجل: إنك ميت وإنهم ميتون ...عن معاذة قالت: كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا.حماد بن جعفر بن زيد أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة. فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ما يذكر الناس من عبادته. فصلى العتمة ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس حتى قلت هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريبا منه ودخلت في أثره فتوضأ ثم قام يصلي.قال: وجاء أسد حتى دنا منه. قال فصعدت في شجرة. قال: فتراه التفت? أو عده جرذا. حتى سجد فقلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم فقال: أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر. فولىوإن له لزئيرا تصدع الجبال منه. فما زال كذلك. فلما كان عند الصبح جلس فحمد الله عز وجل بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله. ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسلك الجنة? ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم.

(1/273)

قال: فلما دنوا من أرض العدو قال الأمير: لا يشذن أحد من العسكر. قال فذهبت بغلته بثقلها فأخذ يصلي. فقالوا له: إن الناس قد ذهبوا فمضى ثم قال: دعوني أصلي ركعتين. فقالوا: الناس قد ذهبوا. قال إنهما خفيفتان. قال: فدعا ثم قال: اللهم إني أقسم عليك أن ترد بغلتي وثقلها. قال: فجاءت حتى قامت بين يديه. قال: فلما لقينا العدو وحمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا وقتلا. فكسر ذلك العدو فقالوا: رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا? فأعطوا المسلمين حاجتهم.عن أبي السليل: أن صلة بن أشيم حدثه قال: كنت أسير على دابة لي إذ جعت جوعا شديدا فلم أجد أحدا يبيعني طعاما وجعلت أتحرج أن أصيب من أحد من الطريق شيئا. فبينما أنا أسير حسبت أنه قال: أدعو ربي عز وجل وأستطعمه. إذ سمعت وجبة من خلفي فالتفت فإذا أنا بمنديل أبيض فنزلت عن دابتي فأخذت الثوب فإذا فيه دوخلة ملأى رطبا. قال: فأخذته وركبت دابتي فأكلت منه حتى شبعت وأدركني المساء فنزلت إلى راهب في دير له فحدثته الحديث. قال: فاستطعمني من الرطب فأطعمته رطبا: ثم إني مررت على ذلك الراهب فإذا نخلات حسان حمال فقال: إنهن لمن رطباتك التي أطعمتني. وجاء بالثوب إلى أهله فكانت امرأته تريه الناس.عن رجل من بني عدي قال: لما أهديت معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتا مطيبا فقام يصلي فقامت فصلت. فلم يزالا يصليان حتى برق الفجر. قال: فأتيته فقلت: أي عم أهديت إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها? فقال: أدخلتني أمس بيتا أذكرتني به النار، ثم أدخلتني بيتا أذكرتني به الجنة، فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت.قال صلة بن أشيم لمعاذة: ليكن شعارك الموت فإنك لا تبالين على يسر أصبحت من الدنيا أم على عسر.قال الحسن: مات أخ لنا فصلنا عليه. فلما وضع في قبره ومد عليه الثوب جاء صلة بن أشيم فأخذ بناحية الثوب ثم نادى: يا فلان ابن فلان:

(1/274)

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا قال: فبكى وأبكى الناس.قال رجل لصلة بن أشيم: ادع الله عز وجل لي قال: رغبك الله عز وجل فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا يسكن إلا إليه ولا يعول في الدين إلا عليه.عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابن له فقال: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فحمل فقاتل حتى قتل رحمه الله. ثم تقدم فقتل. فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: مرحبا، إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحبا بكم وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.أبو رجاء عمران ابن ملحان العطارديدخل رجل على أبي رجاء العطاردي فقال: حدثني أبو رجاء قال: بعث النبي ونحن على ماء لنا وكان لنا صنم مدور. فحملناه على قتب وانتقلنا من ذلك الماء إلى غيره. فمررنا برملة. فانسل الحجر فوقع في الرمل فغاب فيه. فلما رجعنا فقذفنا الحجر فرجعنا في طلبه فإذا هو في رمل قد غاب فيه فاستخرجناه. كان ذلك أول إسلامي فقلت: إن آلها لم يمتنع من تراب يغيب فيه لإله سوء، وإن العنز لتمنع حياءها بذنبها. فرجعنا إلى المدينة وقد توفي رسول الله.عمارة المغولي قال: سمعت أبا رجاء يقول: كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ونحلب عليه فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نلقيه.قال الجعد أبو عثمان اليشكري: سألت أبا رجاء العطاردي قلت: يا أبا رجاء أرأيت من أدركت من أصحاب رسول الله? كانوا يخافون على أنفسهم النفاق قال: أما أني أدركت بحمد الله عز وجل منهم صدرا حسنا. قال أبو عثمان، وكان أدرك عمر بن الخطاب فقال: نعم شديدا نعم شديدا.أبو الأشهب قال: كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام.قال أبورجاء ما آسى على شيء أخلفه بعدي إلا أني كنت أعفر وجهي كل يوم وليلة خمس مرار لربي عز وجل.إياس بن قتادة التميمي

(1/275)

اغتم إياس بن قتادة وهو يريد بشر بن مروان، فنظر في المرآة فإذا بشيبة في ذقنه فقال: افليها يا جارية. ففلتها فإذا هي بشيبة أخرى. فقال: انظروا من بالباب من قومي فأدخلوه فأدخلوا عليه فقال: يا بني تميم إني قد كنت وهبت لكم شبيبتي فهبوا لي شيبتي، ألا أراني حمير الحاجات وهذا الموت يقرب مني. ثم قال: انقضى العمامة فاعتزل يؤذن لقومه ويعبد ربه ولم يغش سلطانا حتى مات.من الطبقة الثانية من أهل البصرةمطرف بن عبد الله بن الشخير يكنى أبا عبد اللهكان مطرف بن عبد الله إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته.قال مطرف: لو أخرج قلبي في يدي هذه اليسار، وجيء بالخير فجعل في هذه اليمنى ما استطعت أن أولج قلبي منه شيئا حتى يكون الله يضعه.كان مطرف يلبس البرانس، ويلبس المطارف، ويركب الخيل ويغشى السلطان غير أنك كنت إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين.عن ثابت البناني قال: كان مطرف يسكن البادية فإذا كان يوم الجمعة يركب فيجيء إلى الجمعة، قال فمر بمقابر فنعس فرأى أهل القبور على أفواه القبور، فقالوا: هذا يذهب إلى الجمعة. قال: وتعرفون يوم الجمعة من غيره? قالوا: نعم، ونعرف ما يقول الطير في جو السماء. قال: ما يقول? قالوا: يقول سلام سلام ليوم صالح.عن ثابت البناني. قال: قال مطرف بن عبد الله: ما مدحني أحد قط إلا تصاغرت إلي نفسي.قال مطرف: لأن يسألني ربي عز وجل يوم القيامة فيقول: يا مطرف ألا فعلت? أحب إلي من أن يقول: لم فعلت.عن ثابت عن مطرف بن عبد الله أنه كان يقول: يا إخوتاه اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كاهنت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديدا كما نخاف ونحاذر لم نقل: ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل سورة فاطر آية 37، نقول قد عملنا فلم ينفعنا ذلك.قال مطرف بن عبد الله وهو بعرفة: اللهم لا ترد الجميع، من أجلي.

(1/276)

مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب مثل هذه مدهنا? قال: فأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك عليها ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها? قال الله عز وجل: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون سورة البقرة آية 156 فأستكين لها بعد هذا? قال ثابت: وقال مطرف: ما من شيء أعطي به في الآخرة قدر كوز من ماء إلا وددت أنه أخذ مني في الدنيا.غيلان قال: سمعت مطرفا يقول: إني وجدت ابن آدم كالشيء الملقى بين يدي الله تعالى وبين الشيطان، فإن أراد الله أن ينعشه اجتره إليه؛ وإن أراد به غير ذلك خلى بينه وبين عدوه.كان إخوان مطرف بن عبد الله عنده، فخاضوا في ذكر الجنة فقال مطرف: لا أدري ما تقولون? حال ذكر النار بيني وبين الجنة.عن ثابت، عن مطرف، أنه أقبل من مبداه فجعل يسير بالليل فأضاء له سوطه.عن أبي العلاء، عن مطرف أنه قال: ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من العقل.وكان مطرف يقول: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه.قال مطرف بن عبد الله: لو علمت متى أجلي لخشيت علي ذهاب عقلي، ولكن الله من على عباده بالغفلة عن الموت، ولولا الغفلة ما تهنأوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق.قال مطرف بن عبد الله: وجدت الغفلة التي ألقاها الله عز وجل في قلوب الصديقين من خلقه رحمة رحمهم بها، ولو ألقى في قلوبهم الخوف على قدر معرفتهم به ما هنأهم العيش.قال مطرف إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله عز وجل هذا عبدي حقا.قال مطرف: اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا، فإن المولى قد يعفو عن عبده وهو عنه غير راض.عن مطرف قال: إذا دخلتم على المريض فإن استطعتم أن يدعو لكم، فإنه قد حرك.قال مطرف: إن أقبح ما طلب به الدنيا عمل الآخرة.

(1/277)

كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء، فكذب على مطرف. فقال له مطرف: إن كنت كاذبا فعجل الله حتفك. فمات الرجل مكانه قال: فاستعدي أهله زيادا على مطرف، فقال لهم زياد: هل ضربه? هل مسه بيده? فقالوا: لا. فقال: دعوة رجل صالح وافقت قدرا. فلم يجعل لهم شيئا.قال مطرف بن الشخير لبعض إخوانه: يا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني فيها ولكن اكتبها في رقعة ثم ادفعها إلي فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال.وقال الشاعر: لا تحسبن الموت موت البلى وإنما الموت سؤال الرجالكلاهما موت ولكن ذا أشد من ذاك لذل السؤالكان مطرف يقول: كأن القلوب ليست منا وكأن الحديث يعنى به غيرنا.صفوان بن محرز المازنيقال صفوان بن محرز: إذا أكلت رغيفا أشد به صلبي، وشربت كوز ماء فعلى الدنيا وأهلها العفاء.كان لصفوان بن محرز سرب يبكي فيه، وكان يقول: قد أرى مكان الشهادة لو تشايعني نفسي.عن الحسن قال: لقيت أقواما كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولقد لقيت أقواما كانوا من حسناتهم أشفق أن لا تقبل منهم من سيآتكم. ولقد صحبت أقواما كان أحدهم يأكل على الأرض وينام على الأرض، منهم صفوان بن محرز المازني.وقال إذا أويت إلى أهلي وأصبت رغيفا أكلته فجزى الله الدنيا عن أهلها شرا. والله ما زاد على رغيف حتى فارق الدنيا، يظل صائما ويفطر على رغيف ويشرب عليه من الماء حتى يتروى ثم يقوم فيصلى حتى يصبح، فإذا صلى الفجر أخذ المصحف فوضعه في حجره يقرأ حتى يترجل النهار، ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار، فإذا انتصف النهار رمى بنفسه على الأرض فنام إلى الظهر فكانت تلك نومته حتى فارق الدنيا.فإذا صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فإذا صلى العصر وضع المصحف في حجره فلا يزال يقرأ حتى تصفر الشمس.عن الحسن قال: كان لصفوان بن محرز سرب لا يخرج منه إلا للصلاة.

(1/278)

غيلان بن جرير قال: كانوا يجتمعون، صفوان وإخوانه، فيتحدثون فلا يرون تلك الرقة. فيقولون: يا صفوان حدث أصحابك. قال فيقول: الحمد لله فيرق القوم وتسيل دموعهم، كأنها أفواه المزاد.أخذ عبيد الله بن زياد ابن أخ لصفوان بن محرز فحبسه في السجن. فلم يدع صفوان شريفا بالبصرة يرجو منفعته إلا تحمل به عليه. فلم ير لحاجته نجاحا. فبات في مصلاه حزينا.قال: فهوم من الليل فإذا آت قد أتاه في منامه فقال: يا صفوان قم فاطلب حاجتك من جهتها. قال: فانتبه فزعا فقام فتوضأ ثم صلى ثم دعا. فأرق ابن زياد فقال: علي بابن أخي صفوان بن محرز.فجاء بالحرس وجيء بالنيران ففتحت تلك الأبواب الحديد في جوف الليل، فقال: ابن أخي صفوان أخرجوه فإني منعت من النوم منذ الليلة، فأخرج فأتي به ابن زياد فقال: انطلق بلا كفيل ولا شيء. فما شعر صفوان حتى ضرب عليه ابن أخيه بابه. قال صفوان: من هذا? قال: أنا فلان. قال: أي ساعة هذه الساعة? فحدثه الحديث.أبو الحلال العتكي اسمه زرارة بن ربيعة، من الأزد.كان أبو الحلال فوق غرفة فيأتي بعض أبوابها فيشرف على شق من ناحية الحي فينادي: يا فلان يا فلان. ثم يقبل على الشق الآخر فينادي: يا فلان يا فلان. ثم يقبل على الشق الآخر فيقول مثله، حتى يأتي على كل الأركان الأربعة. قالت: ثم يقول: هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا سورة مريم آية 98 ثم يقبل على الصلاة. ومات يوم مات وهو ابن عشرين ومائة سنة. وكان يقول: اللهم لا تسلبني القرآن.زرارة بن أوفى الحرشي يكنى أبا حاجبقال بهز بن حكيم: صلى بنا زرارة بن أوفى في مسجد بني قشير فقرأ فإذا نقر في الناقور سورة المدثر آية 8 فخر ميتا فحمل إلى داره فكنت فيمن حمله إلى داره.قال: وكان يقص في داره. وقدم الحجاج وهو يقص في داره.أبو جناب قال: صلى بنا زرارة بن أوفى الفجر فلما بلغ فإذا نقر في الناقور شهق شهقة فمات. رحمه الله.أبو السوار حسان ابن حريث العدوي

(1/279)

قال أبو التياح: سمعت أبا السوار يقول: وقرأ هذه الآية: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه الإسراء آية 13 قال: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثم إذا بعثت نشرت اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا الإسراء آية 15.قال محمد: إن أبا السوار العدوي أقبل عليه رجل بالأذى، فسكت، حتى بلغ منزله. أو دخل. قال حسبك إن شئت.عن هشام قال: كان أبو السوار العدوي يعرض له رجل فيشتمه فيقول: إن كنت كما قلت إني إذا لرجل سوء.خليد بن عبد الله العصريكان خليد العصري يصوم الدهر.قال خليدالعصري: يا إخوتاه هل منكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه ألا فأحبوا ربكم وسيروا إليه سيرا كريما.عن قتادة عن خليد قال: المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة لا بأس بها. عن محمد بن واسع قال: قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا. وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملا، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفا فعلى ما تعرجون، وما عسيتم تنظرون? الموت? فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر. فيا إخواتاه سيروا إلى ربكم سيرا جميلا.مسمون بن سياهعن كهمس بن عبد الله قال: سمعت ميمون ين سياه - وكان أكبر من الحسن - يقول: تذاكروا عندي رجلا من هؤلاء السلاطين فوقعوا فيه ولم أذكر منه خيرا ولا شرا فانقلبت إلى بيتي فرقدت فرأيت فيما يرى النائم كأن بين يدي جيفة زنجي ميت منتفخ منتن، وكأن قائما على رأسي يقول: كل. قلت: يا عبد الله ولم آكل? قال: بما اغتيب عندك فلان قال: قلت ما ذكرت منه خيرا ولا شرا. فقال: ولكنك استمعت ورضيت.كان ميمون بن سياه لا يغتاب ولا يدع أحدا يغتاب عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام عنه.يزيد بن عبد الله بن الشخيرعن بديل بن ميسرة قال: كان مطرف يقول: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر.

(1/280)

وكان أبو العلاء يقول: اللهم أي ذلك كان خيرا لي فعجل لي.قال أبو صالح العقيلي: كان يزيد يقرأ في المصحف حتى يغشى عليه.الحسن بن أبي الحسن البصري يكنى أبا سعيد.وكان أبوه من أهل بيسان فسبي فهو مولى الأنصار ولد في خلافة عمر وحنكه عمر بيده، وكانت أمه تخدم أم سلمة زوج النبي )، فربما غابت فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فيدر عليه ثديها فيشربه. فكانوا يقولون: فصاحته من بركة ذلك.قال إبراهيم اليشكري: ما رأيت أطول حزنا من الحسن، وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.كان الحسن يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئا.قال مسمع: لو رأيت الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك? فقال: أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي.يوسف بن أسباط قال: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح. قال: وقال الحسن: لقد أدركت أقواما ما أنا عندهم إلا لص.بينما الحسن في المسجد تنفس تنفسا شديدا ثم بكى حتى أرعدت منكباه ثم قال: لو أن بالقلوب حياة، لو أن بالقلوب صلاحا لأبكتكم من ليلة صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية ولا عين باكية من يوم القيامة.روى أبو عبيدة الناجي: أنه سمع الحسن يقول: يا ابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيبا إلا وجدت عيبا آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك.

(1/281)

عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: إن المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا. ما لي ولهذا? والله لا أعود لهذا أبدا إن شاء الله. إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم. إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه.مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن وقال له شاب: أعياني قيام الليل. فقال: قيدتك خطاياك.قال الحسن: يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك ويوزن خيره وشره فلا تحقرن من الخير شيئا وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئا فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، رحم الله رجلا كسب طيبا وأنفق قصدا وقدم فضلا ليوم فقره وفاقته. هيهات ذهبت الدنيا بحال بالها وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون? المعاينة فكأن قد. إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا.قال الحسن بن أبي الحسن: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنها تنازع إلى الشر غاية، وإنكم إن لم تقاربوها لم تبق من أعمالكم شيئا فتصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته.

(1/282)

عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين فقال: أفرحتم حمائمكم وفرطحتم نعالكم وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم، أما إنكم لو جلستم ببيوتكم حتى يكونوا هم الذين يرسلون إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم.أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزديقال ابن عباس: لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن زيد لأوسعهم عما في كتاب الله عز وجل علما.وقال عمرو: وما رأيت أحدا أعلم من أبي الشعثاء.عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد قال: نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن. فرأيت الحج أفضل من ذلك كله.جابر بن زيد كان لا يماكس في ثلاث: في الكراء إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها للعتق، وفي الأضحية. وكان لا يماكس في كل شيء يتقرب به إلى الله عز وجل.عن ابن سيرين قال: كان أبو الشعثاء مسلما عند الدينار والدرهم.عن جابر بن زيد قال: لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام.أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرميعن أبي قلابة قال: أي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به ويغنيهم.قال أبو قلابة: إذا أحدث الله عز وجل لك علما فأحدث له عبادة ولا يكن همك ما يحدث به الناس. قال: وقال لي: الزم سوقك فإن الغنى من العافية.عن أبي قلابة قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرا لا أعلمه.كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائدا من قواد عبيد الله بن زياد فسقط على السطح فانكسرت رجلاه. فدخل عليه أبو قلابة يعوده فقال له: أرجو أن تكون لك خيرة. فقال له: يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجلي جميعا? فقال: ما ستر الله عليك أكثر.

(1/283)

فلما كان بعد ثلاث ورد عليه كتاب ابن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين. فقال للرسول: قد أصابني ما ترى فما كان إلا سبعا حتى وافى الخبر بقتل الحسين. فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة لقد صدق، إنه كان خيرة لي.مرض أبو قلابة بالشام، فأتاه عمر بن عبد العزيز يعوده فقال: يا أبا قلابة تشدد لا تشمت بنا المنافقون.مسلم بن يسار يكنى أبا عبد اللهقال ميمون: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاته قط، خفيفة ولا طويلة. لقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدته وإنه لفي المسجد في صلاة فما التفت.عبد الجبار بن النضر السلمي قال: حدثني رجل من آل محمد بن سيرين قال: رأيت مسلم بن يسار رفع رأسه من السجود في المسجد الجامع فنظرت إلى موضع سجوده كأنه قد صب فيه الماء من كثرة دموعه.جعفر بن حيان قال: ذكر لمسلم بن يسار قلة التفاته في الصلاة فقال: وما يدريكم أين قلبي? عن ابن شوذب قال: كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته في بيته: تحدثوا فلست أسمع حديثكم.: كان مسلم إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام، وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا.قال ابن عون: رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنه وتد لا يميل على قدم مرة ولا على قدم مرة ولا يتحرك له ثوب ولا يتروح على رجل.عن حبيب بن الشهيد أن مسلم بن يسار كان قائما يصلي فوقع حريق إلى جنبه فما شعر به حتى طفئت النار.عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: حدثني أبي قال: رأيت مسلما وهو ساجد، وهو يقول في سجوده: متى ألقاك وأنت عني راض? ويذهب في الدعاء ثم يقول: متى ألقاك وأنت عني راض.عن ابن عون قال: كان مسلم بن يسار إذا كان في غير صلاة كأنه في صلاة.ابن المبارك قال: قال مسلم بن يسار لأصحابه يوم التروية: هل لكم في الحج? فقالوا خرف الشيخ. وعلى ذلك لنطيعه. قال: من أراد ذلك فليخرج فخرجوا إلى الجبان برواحلهمفقال: خلوا أزمتها. فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال تهامة.

(1/284)

جاء مسلم بن يسار إلى دجلة وهي تقذف بالزبد، فمشى على الماء ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون شيئا? لقي مسلم بن يسار جماعة من الصحابة.مالك بن دينار قال: رأيت أبا عبد الله مسلم بن يسار في منامي بعد موته بسنة؛ فسلمت عليه فلم يرد السلام فقلت: ما يمنعك أن ترد علي السلام? فقال: أنا ميت فكيف أرد عليك السلام? قال: قلت له فماذا لقيت بعد الموت? قال: فدمعت عينا مالك عند ذلك وقال: لقيت والله أهوالا عظاما شدادا. قال فقلت: فما كان بعد ذلك? قال: وما تراه يكون من الكريم? قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيئات وضمن عنا التبعات.قال: ثم شهق مالك شهقة خر مغشيا عليه. قال: فلبث بعد ذلك أياما مريضا من غشيته ثم مات فيرون أنه انصدع قلبه فمات رحمه الله.محمد بن سيرين يكنى أبا بكر مولى أنس بن مالك. كاتبه أنس.عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك قال: هذه مكاتبة سيرين عندنا: هذا ما كاتب عليه أنس بن مالك فتاه شيرون على كذا وكذا ألفا، وعلى غلامين يعملان عليه.أن أم محمد بن سيرين صفية مولاة أبي بكر بن أبي قحافة طيبها ثلاث من أزواج رسول الله ودعوته لها، وحضر إملاكها ثمانية عشر بدريا منهم أبي بن كعب يدعو، وهم يؤمنون.كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقي شيئا، كأنه يحذر شيئا.قال محمد بن سيرين يحدث رجلا ما رأيت الرجل الأسود، ثم قال: أستغفر الله ما أراني إلا قد اغتبت الرجل.عن ابن عون قال: كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلا بسيئة ذكره محمد بأحسن ما يعلم.طوق بن وهب قال: دخلت على محمد بن سيرين وقد اشتكيت. فقال: كأني أراك شاكيا. قلت: أجل. قال: اذهب إلى فلان الطبيب فاستوصفه، ثم قال: اذهب إلى فلان فإنه أطب منه. ثم قال: أستغفر الله أراني قد اغتبته.قال مورق العجلي ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين.وقال أبو قلابة: اصرفوه حيث شئتم فلتجدنه أشدكم ورعا وأملككم لنفسه.

(1/285)

قال أبو قلابة: وأينا يطيق ما يطيق محمد بن سيرين? يركب مثل حد السنان.أبو عوانة قال: رأيت محمد بن سيرين يمر في السوق فيكبر الناس.قال خلف: كان محمد بن سيرين قد أعطي هديا وسمتا وخشوعا فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله.كان محمد بن سيرين إذا مشى معه رجل قام وقال: ألك حاجة? فإن كان له حاجة قضاها. فإن عاد يمشي معه قام فقال له: ألك حاجة? عن عاصم قال: لم يكن ابن سيرين يترك أحدا يمشي معه.عن ابن سيرين قال: إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه.ابن عون قال: سمعت محمدا يقول في شيء راجعته فيه: إني لم أقل لك ليس به بأس، إنما قلت لك لا أعلم به بأسا.كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من الفقه، الحلال والحرام، تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.أوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين. فقيل له في ذلك، وكان محبوسا. فقال: أنا محبوس. قالوا: قد استأذن الأمير فأذن لك في ذلك. قال: فإن الأمير لم يحبسني إنما حبسني الذي له الحق. فأذن له صاحب الحق فخرج فغسله.قال يونس بن عبيد أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما.أشترىابن سيرين بيعا فأشرف فيه على ثمانين ألفا فعرض في قلبه منه شيء فتركه قال هشام والله ما هوبربا.عن السري بن يحيى قال: لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفا في شيء دخله.قال سري: فسمعت سليمان التيمي يقول: لقد تركه في شيء ما يختلف فيه أحد من العلماء.ترك محمد بن سيرين أربعين ألف درهم في شيء ما ترون به اليوم بأسا.كان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة أو إلى عرس يدخل منزله فيقول: اسقوني شربة سويق. فيقال له: يا أبا بكر أنت تذهب إلى الوليمة أو العرس تشرب سويقا? فيقول: إني أكره أن أحمل حد جوعي على طعام الناس.كان ابن سيرين يصوم يوما ويفطر يوما. وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدى ولا يتعشى، ثم يتسحر ويصبح صائما.

(1/286)

موسى بن المغيرة قال: رأيت محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يكبر ويسبح ويذكر الله عز وجل. فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة? قال: إنها ساعة غفلة.عن حفصة بنت سيرين قالت: كان محمد إذا دخل على أمه لم يكلمها بلسانه كله تخشعا لها.دخل رجل على محمد وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد? يشتكي شيئا? قالوا: لا ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.عن الربيع، عن ابن سيرين قال: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره.أرسل ابن هبيرة إلى ابن سيرين فأتاه فقال له: كيف تركت أهل مصرك? قال تركتهم والظلم فيهم فاش.قال ابن عون: كان محمد يرى أنها شهادة يسأل عنها فكره أن يكتمها.بعث ابن هبيرة إلى ابن سيرين والحسن والشعبي، قال: فدخلوا عليه فقال لابن سيرين: يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا? قال رأيت ظلما فاشيا. قال: فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه ابن سيرين فقال ابن سيرين: إنك لست تسأل إنما أسأل أنا. فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف، وإلى ابن سيرين بثلاث آلاف، وإلى الشعبي بألفين. فأما ابن سيرين فلم يأخذها.عن جعفر بن أبي الصلت قال: قلت لمحمد بن سيرين: ما منعك أن تقبل من ابن هبيرة? قال: فقال لي: يا أبا عبد الله، أو يا هذا، إنما أعطاني على خير كان يظنه بي، ولئن كنت كما ظن بي فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن فبالحري أن لا يجوز لي أن أقبل.عن عمير بن رئاب، عن ابن سيرين قال: العزلة عبادة.قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل به علي الدين ما هو. قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس. فحدثت به أبا سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نؤتى? عن عاصم الأحول قال: كان عامة كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده.عن هشام بن حسان قال: ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في جوف الليل وهو يصلي.

(1/287)

قال أنس بن سيرين: كان لمحمد بن سيرين سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه من النهار.عن هشام قال: كان ابن سيرين يحيي الليل في رمضان.عن دهير قال: كان ابن سيرين إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على حدته.قال مهدي: كنا نجلس إلى محمد فيحدثنا ونحدثه ويكثر غلينا ونكثر إليه فإذا ذكر الموت تغير لونه واصفر وأنكرناه وكأنه ليس بالذي كان.عن ابن عون أن محمد بن سيرين كان إذا نام وجه نفسه.كان الرجل إذا سال ابن سيرين عن الرؤيا قال: اتق الله عز وجل في اليقظة ولا يضرك ما رأيت في المنام.قالت أم عباد نزلنا مع محمد ابن سيرين في الدار، فكنا نسمع بكاءه بالليل وضحكه بالنهار.الصقر، يعني ابن حبيب، قال: مر ابن سيرين برآس قد خرج رأسا فغشي عليه.بكر بن عبد الله المزنيقال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: هذا ذنب أحدثته.وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير، وبكر بن عبد الله المزني بعرفة فقال مطرف: اللهم لا تردهم اليوم من أجلي. وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاء لأجله لولا أني فيهم.عن بكر بن عبد الله قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ فمشى في الناس تظله غمامة. قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه لما آتاه الله عز وجل. قال: فاحتقره صاحب الغمامة، أو قال كلمة نحوها، فأمرت أن تتحول من رأسه إلى رأس الذي عظم أمر الله عز وجل.عن حميد قال: كان بكر مجاب الدعوة.قال بكر بن عبد الله المزني: من مثلك يا ابن آدم? خلي بينك وبين المحراب والماء.كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان.عن بكر بن عبد الله المزني قال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقي الطمع، تقي الغضب.

(1/288)

قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.قال رجل من آل عاصم رأيت عاصما بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد مت? قال: بلى. فقلت: أين أنت? قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا وتفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلاقى في أخباركم، قال: قلت أجسامكم أم أرواحكم? قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.مورق بن المشمرج العجلي يكنى أبا المعتمرعن هشام عن مورق قال: ما تكلمت بشيء من الغضب فندمت عليه في الرضا.عن حفصة بنت سيرين قالت: كان مورق العجلي يأتينا. فسألته عن أهله وولده فقال: هم والله متوافرون. فقلت: رحمك الله لم تقول هذا? قال: إني والله أخشى أن يحبسوني على هلكة.وكان يقول: ما في الأرض نفس في موتها لي أجر إلا وددت أنها قد ماتت.قال مورق العجلي: ما من أمر يبلغني أحب إلي من موت أحب أهلي إلي.قال مورق ما وجدت للمؤمن مثلا إلا مثل رجل في البحر على خشبة فهو يدعو: يا رب يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجيه.قال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة هم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبدا، قالوا: وما هو يا أبا المعتمر? قال: الصمت عما لا يعنين.عن جميل بن مرة قال: مستنا حاجة شديدة، وكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول: أمسكوا هذه لي عندكم. ثم يمضي غير بعيد فيقول: إن احتجتم إليها فأنفقوها.كان مورق يتجر فيصيب المال فلا يأتي عليه جمعة وعنده منه شيء، يلقى الأخ فيعطيه أربعمائة، خمسمائة، ثلثمائة فيقول: ضعها عندك حتى نحتاج إليها. قال: ثم يلقاه بعد ذلك فيقول الأخ: لا حاجة لي فيها. فيقول: إنا والله ما نحن بآخذيها أبدا فشأنك بها. عن عاصم أن مورقا العجلي كان يجد نفقته تحت رأسه.غزوان بن غزوان الرقاشي

(1/289)

قال غزوان بن زيد الرقاشي: لله علي أن لا يراني الله ضاحكا حتى أعلم أي الدارين داري? قال الحسن: فعزم غزوان أن يفعل، فوالله ما رئي ضاحكا حتى لحق بالله عز وجل.قال عثمان الرقاشي: سمعت مشايخنا يذكرون أن غزوان لم يضحك منذ أربعين سنة. وكان غزوان يغزو فإذا أقبلت الرفاق راجعين تستقبلهم أمه فتقول لهم: أما تعرفون غزوان? فيقولون: ويحك يا عجوز ذاك سيد القوم.عبد الواحد بن زيد قال: كان أصحاب غزوان يقولون له: ما يمنعك من مجالسة إخوانك? فيبكي عند ذلك ويقول: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.عن هارون بن رئاب أن غزوان كان في بعض مغازيهم فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت وقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك.ثابتقال مطرف بن عبد الله: إن كان من هذه الأمة أحد ممتحن القلب فإن مذعورا ممتحن القلب.قال سليمان: وأنبأ قتادة قال: قال مطرف إن كان مذعور ليزورنا فيفرح به أهلنا.قال سليمان وأنبأ غيلان بن جرير، قال: قال مطرف ما تحب اثنان في الله إلا كان أشدهما حبا لصاحبه أفضلهما، وأنا لمذعور أشد حبا وهو أفضل مني، فكيف هذا.قال: فلما أمر بالرهط أن يخرجوا إلى الشام أمر مذعور فيهم. قال فلقيني وأخذ بلجام دابتي فجعلت كلما أردت أن أنصرف يحبسني. فقلت: إن المكان بعيد. فجعل يحبسني فقلت: أنشدك الله إلا تركتني فلم تحبسني? فلما ناشدته قال كليمة يخفيها جهده مني: اللهم فيك، فعرفت أنه أشد حبا لي مني له.العلاء بن زياد بن مطر العدوي

(1/290)

كان للعلاء بن زياد مال ورقيق فأعتق بعضهم وباع بعضهم وأمسك غلاما أو اثنين يأكل غلتهما فتعبد فكان يأكل كل يوم رغيفين، وترك مجالسة الناس فلم يكن يجالس أحدا، يصلي في جماعة ثم يرجع إلى أهله ويجمع ثم يرجع إلى أهله، ويشيع الجنازة ويعود المرضى، ثم يرجع إلى أهله فطفئ فبلغ ذلك إخوانه فاجتمعوا فأتاه أنس بن مالك والحسن والناس وقالوا: رحمك الله أهلكت نفسك لا يسعك هذا. فكلموه وهو ساكت، حتى إذا فرغوا من كلامهم قال: إنما أتذلل لله عز وجل لعله يرحمني.عن حميد بن هلال قال: دخلت مع الحسن على العلاء بن زياد العدوي نعوده وقد سله الحزن، وكانت له أخت يقال لها شادة تندف تحته القطن غدوة وعشية. فقال له الحسن: كيف أنت يا علاء? فقال: واحزناه على الحزن. فقال الحسن: قوموا، فإلى هذا والله انتهى استقلال الحزن.كان العلاء بن زياد يحيي كل ليلة جمعه قال: وجد ليلة فترة فقال لامرأته أسماء: إني أجد فترة فإذا مضى كذا وكذا، فأيقظيني. قال: نعم. فأتاه آت في منامه فأخذ بناصيته فقال: يا بن زياد قم فاذكر الله عز وجل يذكرك. قال: فقام فما زالت تلك الشعرات التي أخذ بها منه قائمة حتى مات.عن العلاء بن زياد قال: إنما نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار، فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجنا.عن قتادة قال: حدثنا العلاء بن زياد أن رجلا كان يرائي بعمله فجعل يشمر ثيابه ويرفع صوته إذا قرأ فجعل لا يأتي على أحد إلا سبه ولعنه. ثم رزقه الله تعالى يقينا بعد ذلك فخفض من صوته وجل صلاته فيما بينه وبين ربه عز وجل، فجعل لا يأتي بعد ذلك على أحد إلا دعا له بخير.قال العلاء :ينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه عز وجل فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل.عن قتادة قال: كان زياد بن مطر العدوي قد بكى حتى عمي، وبكى ابنه العلاء بن زياد بعده حتى عشي بصره، وكان إذا أراد أن يتكلم أو يقرأ أجهشه البكاء.

(1/291)

جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يسأل هشام بن حسان العدوي عن هذا الحديث، فحدثناه يومئذ قال: تجهز رجل من أهل الشام وهو يريد الحج فنام فأتاه آت في منامه فقال له: ائت العراق، ثم ائت البصرة، ثم ائت بني عدي فأت العلاء بن زياد فإنه رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة. قال فقال: رؤيا ليست بشيء. قال: حتى إذا كانت الليلة الثانية رقد فأتاه آت فقال: ألا فأتي العراق? ثم تأتي البصرة ثم تأتي بني عدي فتلقى العلاء بن زياد? رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة.قال: فأصبح فأعد جهازه إلى العراق فلما خرج من البيوت إذا الذي أتاه في منامه يسير بين يديه يراه ما سار فإذا نزل فقده فلم يزل يراه حتى دخل الكوفة ثم فقده، قال: فتجهز من الكوفة فخرج فرآه يسير بين يديه حتى قدم البصرة فأتى بني عدي فوقف على باب العلاء فسلم.قال هشام: فخرجت إليه فقال لي: أنت العلاء بن زياد? قلت: لا، إنزل رحمك الله فتضع رحلك ومتاعك، قال: لا. أين العلاء بن زياد? قال: قلت: هو في المسجد. قال: وكان العلاء يجلس في المسجد يدعو بدعوات ويتحدث.قال هشام: فأتيت العلاء فخفف من حديثه وصلى ركعتين ثم جاء فلما رآه العلاء تبسم فبدت ثنيته فقال: هذا والله صاحبي. قال: فقال العلاء: هلا حططت رحل الرجل? ألا أنزلته? قلت: قد قلت له فأبى. فقال العلاء: انزل رحمك الله. قال: فقال أخلني. قال لدخل العلاء منزله وقال: يا أسماء تحولي إلى البيت الآخر. قال: فتحولت ودخل الرجل فبشره برؤياه ثم خرج فركب وقام العلاء فأغلق بابه فبكى ثلاثة أيام، أو قال سبعة أيام، لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا ولا يفتح بابه. قال هشام: فسمعته يقول في خلال بكائه: أنا أنا?

(1/292)

قال: فكنا نهابه أن نفتح بابه، وخشيت أن يموت. فأتيت الحسن فذكرت ذلك له وقلت: لا أراه إلا ميتا لا يأكل ولا يشرب باكيا، فجاء الحسن حتى ضرب عليه بابه وقال: افتح يا أخي. قال: فلما سمع كلام الحسن قام ففتح بابه وبه من الضر شيء الله به عليم. فكلمه الحسن ثم قال: رحمك الله ومن أهل الجنة إن شاء الله. أفقاتل نفسك أنت? قال هشام: حدثنا العلاء، أخي، لي وللحسن بالرؤيا وقال: لا تحدثوا بها ما كنت حيا.معاوية بن قرة بن إياس يكنى أبا إياسقال معاوية بن قرة: أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله ، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم عليه إلا الأذان.قال معاوية بن قرة: من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار? عون بن موسى قال: حدثنا معاوية بن قرة قال: كنا عند الحسن فتذاكرنا أي العمل أفضل? فكلهم اتفقوا على قيام الليل فقلت أنا: ترك المحارم فانتبه لها الحسن فقال: تم الأمر، تم الأمر.قال معاوية إن الله عز وجل يرزق العبد رزق شهر في يوم واحد فإن أصلحه أصلح الله على يديه وعاش هو وعياله بقية شهرهم بخير، وإن هو أفسده أفسد الله تعالى على يديه وعاش هو وعياله بقية شهرهم بشر.قال مسلم: لقيني معاوية بن قرة وأنا جاء من الكلأ فقال لي: ما صنعت? فقلت: اشتريت لأهلي كذا وكذا. قال: وأصبت من حلال? قلت: نعم. قال: لأن أغدو فيما غدوت به أحب إلي من أن أقوم الليل وأصوم النهار.عن خليد بن دعلج قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: إن القوم ليحجون ويعتمرون ويجاهدون ويصلون ويصومون، وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم.أبو الجوزاء أوس بن خالد الربعيقال هشام: حدثني أبي عن أبي الجوزاء قال: صحبت ابن عباس ثنتي عشرة سنة ما بقي من القرآن آية إلا سألته عنها. وفي رواية: جاورت ابن عباس ثنتي عشرة سنة في داره.كان أبو الجوزاء يواصل في الصوم بين سبعة أيام ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها.طلق بن حبيب العنزي

(1/293)

كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم لله حتى أشتكي ظهري. فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ الحجر السورة رقم 15 من سور القرآن الكريم ثم يركع.من الطبقة الثالثة من أهل البصرةقتادة بن دعامة السدوسي يكنى أبا الخطابقال قتادة ما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي.عن قتادة أنه كان يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.عن مطر، عن قتادة قال: من يتق الله يكن الله معه، ومن يكن الله عز وجل معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضلز روى سعيد بن بشير، عن قتادة قال: إن في الجنة كوى إلى النار فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون: ما بال الأشقياء? وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننتهي.عن قتادة قال: باب من العلم، يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل.حميد بن هلال العدوي يكنى أبا نصركان حميد بن هلال من العلماء الفقهاء، ولم يكن يذاكر ولا يسأل؛ إنما كان يعتذر في مكان.قال قتادة: ما كان بالمصرين أعلم من حميد ما أستثني الحسن ولا محمدا.عن الجلد بن أيوب عن حميد بن هلال قال: ذكر لنا أن الرجل إذا دخل الجنة فصور صورة أهل الجنة وألبس لباسهم وحلي حلاهم ورأى أزواجه وخدمه ومساكنه في الجنة يأخذه سوار فرح، لو كان ينبغي أن يموت لمات فرحا. فيقال له: أرأيت سوار فرحتك هذه? فإنها قائمة لك أبدا.ثابت بم مسلم البناني يكنى أبا محمدعن بكر بن عبد الله قال: من سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني، فما أدركنا الذي هو أعبد منه، تراه في يوم معمعاني بعيد ما بين الطرفين يظل صائما ويراوح ما بين جبينه وقدمه.قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.

(1/294)

قال ثابت: ما دعا الله عز وجل المؤمن بدعوة إلا وكل بحاجته جبرائيل عليه السلام فيقول: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمع صوت عبدي المؤمن، وإن الفاجر يدعو الله عز وجل فيوكل جبرائيل بحاجته فيقول: يا جبرائيل أعجل إجابة دعوته فإني أحب أن لا أسمع صوت عبدي الفاجر.قال ثابت البناني عن رجل من العباد أنه قال يوما لإخوانه: إني لأعلم متى يذكرني ربي عز وجل. قال: ففزعوا من ذلك فقالوا: تعلم حين يذكرك ربك? قال: نعم. قالوا: متى? قال: إذا ذكرته ذكرني. قال: وإني لأعلم حين يستجيب لي ربي عز وجل. قال: فعجبوا من قوله، قالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك? قال: نعم. قالوا: وكيف تعلم ذلك? قال: إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيني وفتح لي في الدعاء فثم أعلم أن قد استجيب لي.كان ثابت البناني يصلي كل ليلة ثلاث مائة ركعة، فإذا أصبح ضمرت قدماه فيأخذهما بيده فيعصرهما ثم يقول: مضى العابدون وقطع بي والهفاه.عن شعبة قال: كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم وليلة ويصوم الدهر.قال ثابت البناني كان رجل من العباد يقول: إذا أنا نمت ثم استيقظت ثم أردت أن أعود إلى النوم فلا أنام الله عيني إذا. قال جعفر: كنا نراه يعني نفسه.قال حميد: كنا نأتي أنس بن مالك ومعنا ثابت، فكلما مر بمسجد صلى فيه فكنا نأتي أنسا فيقول: أين ثابت? أين ثابت? إن ثابتا دويبة أحبها.قال عبد الله: وحدثني أبي قال: بلغني أن أنسا قال لثابت: ما أشبه عينك بعيني رسول الله قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه.اشتكى ثابت البناني عينه فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرأ عينك قال: وما هي? قال: لا تبك قال: وما خير في عين لا تبكي?قال حماد بن زيد: رأيت ثابتا البناني يبكي حتى تختلف أضلاعه.

(1/295)

عن هشام قال: ما رأيت قط أصبر على طول المقام والسهر من ثابت البناني، صحبناه مرة إلى مكة فكنا إن نزلنا ليلا فهو قائم يصلي وإلا فمتى شئت أن تراه أو تحس به مستيقظا ونحن نسير إما باكيا وإما تاليا.مبارك بن فضالة قال: كان ثابت البناني يقوم الليل ويصوم النهار.وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل.قال ثابت: ما تركت في المسجد الجامع سارية إلا وقد ختمت القرآن عندها وبكيت عندها.قال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت قل لا إله إلا الله فقال: يا بني خل عني فإني في وردي السادس أو السابع.قال شبان بن جسر عن أبيه: أنا، والله الذي لا إله إلا هو، أدخلت ثابتا البناني لحده ومعي حميد الطويل أو رجل غيره، شك محمد، قال: فلما سوينا عليه اللبن سقطت لبنة فإذا أنا به يصلي في قبره. فقلت للذي معي: ألا ترى? قال: اسكت فلما سوينا عليه وفرغنا أتينا ابنته فقلنا لها: ما كان عمل ثابت? قالت: وما رأيتم? فأخبرناها. قالت: كان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السحر قال في دعائه: اللهم إن كنت أعطيت أحدا من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها. فما كان الله عز وجل ليرد ذلك الدعاء.إياس بن معاوية بن قرة المزني يكنى أبا واثلةكان قاضيا على البصرة غزير العقل والدين.قال إياس بن معاوية: كل رجل لا يعرف عيبه فهو أحمق. قالوا: يا أبا واثلة ما عيبك? قال: كثرة الكلام.قيل لإياس بن معاوية: فيك أربع خصال: دمامة، وكثرة كلام، وإعجاب بنفسك، وتعجيل بالقضاء. قال: أما الدمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام فبصواب أتكلم أم بخطأ? قالوا: بصواب. قال: فالإكثار من الصواب أمثل، وأما إعجابي بنفي أفيعجبكم ما ترون مني? قالوا: نعم.

(1/296)

قال: فإني أحق أن أعجب بنفسي وأما قولكم إنك تعجل بالقضاء فكم هذه? وأشار بيده خمسة فقالوا: خمسة. فقال: أعجلتم ألا قلتم واحدا واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة? قالوا: ما نعد شيئا قد عرفناه. قال: فما أحبس شيئا قد تبين لي فيه الحكم.أبو عمران عبد الملكقال أبوعمران الجوني في قصصه: لا يغرنكم م نربكم عز وجل طول النسيئة وحسن الطلب فإن أخذه أليم شديد، حتى متى تبقى وجوه أولياء الله بين أطباق التراب? وإنما هم محتبسون ببقية آجالكم أيتها الأمة حتى يبعثهم الله عز وجل إلى جنته وثوابه.قال جعفر: وسمعت أبا عمران الجوني يقول: وعظ موسى عليه السلام قومه فشق رجل منهم قميصه، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه ولكن ليشرح لي عن قلبه.جعفر قال: أنبأ أبو عمران الجوني قال: تصعد الملائكة بالأعمال فينادي الملك: ألق تلك الصحيفة: ألق تلك الصحيفة، قال: فتقول الملائكة: ربنا قالوا خيرا وحفظناه عليهم. فيقول تبارك وتعالى: لم يرد به وجهي قال: وينادي الملك: اكتب لفلان كذا وكذا مرتين فيقول: يا رب إنه لم يعمله. فيقول جل وعز إنه نواه نواه.الحارث بن سعيد قال: كان أبو عمران الجوني إذا سمع الأذان تغير لونه وفاضت عيناه.عن خشيش أبي محرز قال: قال أبو عمران الجوني وهبك تنجو بعد كم تنجو.بديل بن ميسرة العقيليبكى بديل العقيلي حتى قرحت مآقيه. فكان يعاتب في ذلك فيقول: إنما أبكي خوفا من طول العطش يوم القيامة.روى السري بن يحيى عن بديل العقيلي قال: من أراد بعلمه وجه الله عز وجل أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقلوب العباد إليه ومن عمل لغير الله عز وجل أقبل الله عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه.عن الوليد بن هشام عن بديل العقيلي قال: الصيام معقل العابدين.قال مهيد بن ميمون: رأيت ليلة مات بديل العقيلي قائلا يقول: ألا إن بديلا أصبح من سكان الجنة.أبو ريحانة عبد الله بن مطر

(1/297)

ركب أبو ريحانة البحر وكان يخيط فيه بإبرة معه فسقطت إبرته في البحر فقال: عزمت عليك يا رب إلا رددت علي إبرتي. فظهرت حتى أخذها.واشتد عليهم البحر ذات يوم وهاج فقال: اسكن أيها البحر فإنما أنت عبد حبشي. فسكت حتى صار كالزيت.محمد بن واسع بن جابر يكنى أبا عبد اللهقال موسى بن بشار: صحبت محمد بن واسع من مكة إلى البصرة فكان يصلي الليل أجمع، يصلي في المحمل جالسا يومئ برأسه إيماء وكان يأمر الحادي يكون خلفه ويرفع صوته حتى لا يفطن له وكان ربما عرس من لاليل فينزل فيصلي فإذا أصبح أيقظ أصحابه.عبد الملك بن قريب قال: حدثني نسيب لهشام القردوسي قال: قال رجل: دخلنا على محمد بن واسع فقالت علجة في داره فذكرت كلمات بالأعجمية معناها: هذا رجل إذا جاء الليل لو كان قتل أهل الدنيا ما زاد.قال ا بن زيد: شهدت حوشبا جاء إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى رأيت البارحة كأن مناديا يقول: يا أيها الناس، الرحيل الرحيل. فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع. قال: فصاح لمالك صيحة وخر مغشيا عليه.قال مضر: كان الحسن يسمي محمد بن واسع زين القرآن.كان محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان صاحب خراسان، وكانت الترك خرجت إليهم فبعث إلى المسجد ينظر من فيه? فقيل له ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعا إصبعه، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف عنان.قال جعفر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى.قال مطر الوراق: ما اشتهيت أن أبكي قط حتى أشتفي إلا نظرت إلى وجه محمد بن واسع، وكنت إذا نظرت إلى وجهه كأنه ثكل عشرة من الحزن.عن ابن شوذب قال: كان إذا قيل: من أفشل أهل البصرة? قالوا: محمد بن واسع، ولم يكن يرى كثير عبادة وكان يلبس قميصا وساجا وكان له علية فإذا كان الليل دخل ثم أغلقها عليه.

(1/298)

قال محمد بن واسع: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني، من نتن ريحي.قال ابن واسع: واصحاباه، ذهب أصحابي. فقلت: يرحمك الله أليس قد نشأ شباب يصومون النهار ويقومون الليل ويجاهدون في سبيل الله عز وجل? قال: بلى ولكن أخ، وتفل، أفسدهم العجب.عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق علي منها فقال: تدري ما لله علي في هذه القرحة من نعمة? قال: فسكت. فقال: حيث لم يجعلها على حدقتي ولا على طرف لساني ولا على طرف ذكري. قال: فهانت علي قرحته.قسم أمير البصرة على أهل البصرة، فبعث إلى مالك بن دينار فقبل وأتاه محمد بن واسع فقال: يا مالك قبلت جوائز السلطان قال: فقال: يا أبا بكر سل جلسائي، فقالوا: يا أبا بكر اشتري بها رقابا فأعتقهم، فقال له محمد بن واسع: أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان قبل أن يجيزك? قال: اللهم لا، قال: ترى أي شيئ دخل عليك? فقال مالك لجلسائه: إنما مالك حمار، إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع.عن محمد بن واسع قال: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله عز وجل أقبل الله عز وجل إليه بقلوب المؤمنين.قال سليمان التيمي: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله عز وجل بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع.قال حماد بن زيد: دخلنا على محمد بن واسع نعوده في مرضه فجاء يحيى البكاء يستأذن فقالوا: يحيى البكاء فقال: إن شر أيامكم يوم نسبتم إلي البكاء.عمران بن خالد قال: سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم.قال مالك بن دينار: إني لأغبط الرجل يكون عيشه كفافا فيقنع به فقال محمد بن واسع: أغبط والله عندي من ذلك أن يصبح جائعا ويمسي جائعا وهو عن الله عز وجل راض.

(1/299)

رأى محمد بن واسع ابنا له وهو يخطر بيده. فقال: ويحك تعال، تدري من أنت? أمك اشتريتها بمائتي درهم، وأبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله تمشي هذه المشية? محمد بن مهزم قال: كان محمد بن واسع يصوم الدهر وخيفي ذلك.قال محمد بن واسع: اللهم إن كان أخلق وجهي كثرة ذنوبي فهبني لمن أحببت من خلقك.قال محمد بن واسع: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة ولا لله عز وجل فيه تبعة.قال الربيع: رأيت محمد بن واسع بسوق مرو يعرض حمارا على لابيع. فقال له رجل: أترضاه لي? قال: لو رضيته لك ما بعته.قاسم الخواص قال: قال محمد بن واسع لرجل: أبكاك قط سابق علم الله عز وجل فيك.? أبو عامر قال: حدثني صاحب لنا قال: لما ثقل محمد بن واسع كثر الناس عليه في العبادة. قال: فدخلت فإذا قوم قيام وآخرون قعود. فأقبل علي فقال: أخبرني ما يغني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غدا وألقيت في النار? ثم تلا هذه الآية يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام الرحمن آية 41.قال يونس بن عبيد: دخلنا على محمد بن واسع نعوده فقال: ما يغني عني ما يقول الناس إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار? عن حزم قال: قال محمد بن واسع وهو في الموت: يا إخوتاه تدرون أي يذهب بي? يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو، إلى النار أو يعفو عني.قال محمد بن عبد الله، دخلنا على محمد بن واسع وهو يقضي. فقال: يا إخوتي يا إخوتاه هبوني وإياكم سألنا الله الرجعة فأعطاكموها ومنعنيها فلا تخسروا أنفسكم.فرقد بن يعقوب السبخي يكنى أبا يعقوب

(1/300)

اجتمع عباد من أهل الكوفة فقالوا: تحدروا بنا إلى البصرة فننظر إلى عبادتهم. فقال بعضهم لبعض: اغدوا بنا إلى فرقد السبخي فدخلوا عليه فحدثهم ساعة ثم قالوا: يا أبا يعقوب، الغداء. قال: إنما طولت حديثي لتجوعوا فتأكلوا ما عندي أنزلوا تلك القفة فأخرجوا منها كسر خبز شعير أسود فقالوا له: ملح يا أبا يعقوب. فقال: قد طرحنا في العجين ملحا مرة لم تعنوني أن أطلب لكم? عن جعفر بن سليمان قال: قال فرقد السبخي: إن ملوك بني إسرائيل كانوا يقتلون قراءهم على الدين وإن ملوككم إنما يقتلونكم على الدنيا فدعوهم والدنيا.قال فرقدا السبخي: قرأت في التوراة: من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه عز وجل، ومن جالس غنيا فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، ومن أصابته مصيبة فشكا إلى الناس فإنما يشكو ربه عز وجل.قال: فرقد السبخي: ما انتهيت من نومي إلا خفت أن أكون قد مسخت.قال فرقدا السبخي: اتخذوا الدنيا ظئرا واتخذوا الآخرة أما. ألم تروا إلى الصبي يلقي نفسه على الظئر فإذا ترعرع وعرف والدته ترك ظئره وألقى نفسه على والدته? وإن الآخرة والدتكم يوشك أن تجركم.قال ابن شوذب: سمعت فرقدا يقول: إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل، ألم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين تقيين? وأنتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل.وشغله التعبد عن حفظ الحديث فلذلك يعرض النقلة عن حديثه 0مالك بن دينار يكنى أبا يحيىكان يكتب المصاحف. قال مالك بن دينار ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله تعالى.

(1/301)

وقال يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم? فإن القرآن ربيع لامؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، وقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش فيكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم? أين أصحاب سورة أين أصحاب سورتين? ماذا عملتم فيهما? قال: وسمعته يقول: يا هؤلاء، جهالكم كثير لولا ذلك للبست المسوح، يا هؤلاء لا تجعلوا بطونكم جربا للشيطان يوعي فيها إبليس ما شاء.و قال: من دخل بيتي فأخذ منه شيئا فهو له حلال، أما أنا فلا أحتاج إلى قفل ولا إلى مفتاح. وكان يأخذ الحصاة من المسجد ويقول: لوددت أن هذه أجزأتني في الدنيا ما عشت، لا أزيد على مصها من الطعام ولا الشراب.وكان يقول: لو صلح لي أن آكل الرماد لأكلته، ولو صلح لي أن أعمد إلى بوري فأقطعه بقطعتين فأتزر بقطعة وأرتدي بقطعة لفعلت.قال مالك بن دينار: لقد هممت أن آمر إذا مت أن أغل فأدفع إلى ربي مغلولا كما يدفع الآبق إلى مولاه.قال مالك بن دينار: ينطلق أحدكم فيتزوج ديباجة الحرم، يعني أجمل الناس، أو ينطلق إلى جارية قد سمنها أبوها كأنها زبدة، فيتزوجها فتأخذ بقلبه فيقول لها: أي شيء تريدين? فتقول: خمار خز، وأي شيء تريدين? فتقول كذا وكذا. قال مالك: فتمرط والله دين ذلك القارئ ويدع أن يتزوجها يتيمة ضعيفة فيكسوها فيؤجر ويدهنها فيؤجر.قال: وسمعت مالكا يقول: كان حبر من أحبار بني إسرائيل قال: فرأى بعض بنيه يوما غمز النساء، فقال: مهلا يا بني. قال: فسقط من سريره، فانقطع نخاعه فأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيش، وأوحى الله تعالى إلى نبيهم أن أخبر فلانا الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقا أبدا ما كان غضبك لي إلا أن قلت: مهلا يا بني مهلا.رياح بن عمرو القيسي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: ما من أعمال البر شيء إلا دونه عقبة فإن صبر صاحبها أفضت به إلى روح، وإن جزع رجع.

(1/302)

قال: مالك بن دينار لرجل من أصحابه: إني لأشتهي رغيفا بلبن رائب. قال: فانطلق فجاء به قال: فجعله على الرغيف. فجعل مالك يقلبه وينظر إليه ثم قال: اشتهيتك منذ أربعين سنة فغلبتك حتى كان اليوم، وتريد أن تغلبني? إليك عني وأبى أن يأكله.قال مالك بن دينار: منذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم. ولم أكره مذمتهم. قيل: ولم ذاك?قال: لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط.قال سلام بن أبي مطيع: دخلنا على مالك بن دينار ليلا وهو في بيت بغير سراج وفي يده رغيف يكدمه. فقلنا له: أبا يحيى ألا سراج? ألا شيء تضع عليه خبزك? فقال: دعوني فوالله إني لنادم على ما مضى.قال مالك بن دينار: مثل قراء هذا الزمان كمثل رجل نصب فخا ونصب فيه برة فجاء عصفور فقال: ما غيبك في التراب? قال: التواضع. قال: لأي شيء انحنيت? قال: من طول العبادة. قال: فما هذه البرة المنصوبة فيك? قال: أعددتها للصائمين. فقال: نعم الجار أنت. فلما كان عند المغرب دنا العصفور ليأخذها فخنقه الفخ. فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم.مر والي البصرة بمالك بن دينار يرفل فصاح به مالك: أقل من مشيتك هذه فهم خدمه به. فقال: دعوه، ما أراك تعرفني. فقال له مالك: ومن أعرف بك مني، أما أولك فنطفة مذرة وأما آخرك فجيفة قذرة، ثم أنت بين ذلك تحمل العذرة. فنكس الوالي رأسه ومشى.عن مالك بن دينار أنه كان يرى يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات.عن مالك بن دينار قال: قدمت من سفر لي فلما صرت بالجسر قام العشار فقال لا يخرجن من السفينة ولا يقوم أحد من مكانه. فأخذت ثوبي فوضعته على عنقي ثم وثبت فإذا أنا على الأرض. فقال لي: ما أخرجك? قلت: ليس معي شيء. قال: اذهب. فقلت في نفسي: هكذا أمر الآخرة.قال مالك بن دينار: عجبا لمن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده كيف تقر بالدنيا عينه? وكيف يطيب فيها عيشه? قال: ثم يبكي مالك حتى يسقط مغشيا عليه.

(1/303)

عن مالك قال: إن لكل شيء لقاحا وإن الحزن لقاح العمل الصالح، إنه لا يصبر أحد على هذا الأمر إلا بحزن، فوالله ما اجتمعا في قلب عبد قط: حزن بالآخرة وفرح بالدنيا، إن أحدهما ليطرد صاحبه.قال مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف.قال: مالك بن دينار: كان الأبرار يتواصون بثلاث: بسجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة.قال أبو الحسن البصري: دخل مالك بن دينار على رجل محبوس قد أخذ بخراج خرج عليه وقيد. فقال: يا أبا يحيى أما ترى ما أنا فيه من هذه القيود? فرفع مالك رأسه فإذا سلة قال: لمن هذه السلة? قال: لي. قال: فمر بها فلتنزل، فأنزلت فوضعت بين يديه فإذا دجاج وأخبصة فقال: هذه وضعت القيود في رجلك لا هم وقام عنه.وكان مالك بن دينار يطوف بالبصرة في الأسواق فينظر إلى أشياء يشتهيها فيرجع فيقول لنفسه: أبشري فوالله ما حرمتك ما رأيت إلا لكرامتك علي.قال جعفر: سمعت مالك بن دينار يقول: إن البدن إذا سقم لا ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة. وكذلك القلب إذا علق حب الدنيا لم ينجع فيه المواعظ. وسمعته يقول: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة فكذلك يخرج هم الدنيا من قلبك.جاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك. فقال: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى.قال عبد العزيز بن سلمان العابد: انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله وأغلق عليه باب الحجرة فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة فنستأذن عليه. فجعل يترنم بشيء لم نفهمه. ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه. ثم جعل يشهق وتنفس حتى غشي عليه.قال: فقال لي عبد الواحد: انطلق ليس لنا مع هذا اليوم عمل، هذا رجل مشغول بنفسه.

(1/304)

قال الحارث بن سعيد: كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ: إذا زلزلت الأرض زلزالها الزلزلة آية 1 فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويصرخون حتى انتهى إلى هذه الآية: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره الزلزلة الآيتان 7 و8 قال: فجعل مالك، والله، يبكي ويشهق حتى غشي عليه. فحمل بين القوم صريعا.أن مالك بن دينار دخل المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن، فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول: مالك، غدا هكذا يصير وليس له شيء يتوسده في قبره. فلم يزل يقول: غدا مالك هكذا يصير، حتى خر مغشيا عليه في جوف القبر فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشيا عليه.قال مالك بن دينار، ورأى إنسانا يضحك، فقال: ما أحب أن قلبي فرغ لمثل هذا وأن لي ما حوت البصرة من الأموال والعقد.قال مالك: إن في بعض الكتب أن الله عز وجل يقول: إن أهون ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه.وقع حريق في بيت مالك بن دينار فأخذ المصحف وأخذ القطيفة فأخرجهما. فقيل له: يا أبا يحيى، البيت. فقال: ما فيه إلا السندانة ما أبالي أن يحترق.قال عبد الله بن المبارك،: وقع حريق بالبصرة فأخذ مالك بن دينار بطرف كسائه وقال هلك أصحاب الأثقال.عن مالك بن دينار أنه كان يقول: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا انتقصه من دنياه وكف عنه ضيعته، ويقول: لا تبرح من بين يدي قال: فهو متفرغ لخدمة ربه عز وجل، وإذا أبغض عبدا دفع في نحره شيئا من الدنيا ويقول: اعزب من بين يدي فلا أراك بين يدي فتراه معلق القلب بأرض كذا وبتجارة كذا.

(1/305)

مر تاجر بعشار فحبسوا عليه سفينته فجاء إلى مالك بن دينار فذكر ذلك له، قال: فقام مالك فمشى إلى العشار فلما رأوه قالوا: يا أبا يحيى ألا تبعث إلينا حاجتك? قال: حاجتي أن تخلوا سفينة هذا الرجل. قالوا: قد فعلنا. قال: وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس من الدراهم قالوا: ادع الله لنا يا أبا يحيى. قال: قولوا للكوز يدعو لكم، كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم? أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف? محمد بن عبد الله، عن قال: مالك: لو أن القوم كلفوا الصحف لأقلوا المنطق.قال مالك بن دينار: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شر من في المسجد، لبادرتكم إليه.قال مالك بن دينار: دخل علي جابر بن زيد وأنا أكتب فقال: يا مالك ما لك عمل إلا هذا? تنقل كتاب الله عز وجل من ورقة إلى ورقة? هذا والله الكسب الحلال.قال المغيرة بن حبيب ختن مالك بن دينار يقول: قلت لنفسي: يموت مالك بن دينار وأنا معه في الدار لا أدري ما عمله? قال: فصليت معه العشاء الآخر ثم جئت فلبست قطيفة في أطول ما يكون من الليل. قال: وجاءه مالك فدخل فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى الصلاة فاستفتح، ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار. قال: فوالله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني، ثم انتبهت فإذا هو قائم على تلك الحال يقدم رجلا ويؤخر رجلا ويقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار. فما زال كذلك حتى طلع الفجر. فقلت في نفسي: والله لئن خرج مالك بن دينار فرآني لا تبلني عنده بالة أبدا. فجئت إلى المنزل وتركته.قال مالك: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة، وكفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع بالصالحين.قال مالك خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها. قالوا: وما هو? قال: معرفة الله عز وجل.

(1/306)

قطر بن حماد بن واقد قال: أنبأ أبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتعنى.قال جعفر: سمعت مالك بن دينار يقول: إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن البيت إذا لم يسكن خرب.قال جعفر: سمعت مالكا يقول: اتقوا السحارة، اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء.قال: وسمعته يقول: لو أعلم أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها.وسمعته يقول: وددت أن الله عز وجل أذن لي يوم القيامة إذا وقفت بين يديه أن أسجد سجدة فأعلم أنه قد رضي عني، ثم يقول لي: يا مالك كن ترابا.وسمعته يقول: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.وسمعته يقول: إنك إذا طلبت العلم لتعمل به كسرك العلم وإذا طلبته لغير العمل به لم يزدك إلا فخرا.قال: وكانت الغيوم تجيء وتذهب ولا تمطر فيقول مالك: أنتم تستبطئون وإنما أستبطئ الحجارة، إن لم تمطر حجارة فنحن بخير.قال مالك بن دينار: لما وقعت الفتنة أتيت الحسن ثلاثة أيام أسأله: يا أبا سعيد ما تأمرني، فلا يجيبني. قال: فقلت يا أبا سعيد أتيتك ثلاثة أيام أسألك وأنت معلمي فلا تجيبني، فوالله لقد هممت أن آخذ الأرض بقدمي وأشرب من أفواه الأنهار وآكل من بقل البرية حتى يحكم الله عز وجل بين عباده. قال: فأرسل الحسن عينيه باكيا ثم قال: يا مالك ومن يطيق ما تطيق، ولكنا والله ما نطيق هذا.قال جعفر: وكنت عند مالك بن دينار فجاء هشام بن حسان، وكان يأتيه هشام ابن حسان وسعيد بن أبي عروبة وحوشب يطلبون قلوبهم، فجاء هشام فقال: أين أبو يحيى? قلنا: عند البقال. قال: قوموا بنا إليه. قال: فحانت منه نظرة إلى هشام فقال: يا هشام إني أعطي هذا البقال كل شهر درهما ودانقين فآخذ منه كل شهر ستين رغيفا كل ليلة رغيفين فإذا أصبتهما سخنا فهو أدمهما، يا هشام إني قرأت في زبور داود: إلهي رأيت همومي وأنت من فوق العلى، فانظر ما همومك يا هشام.

(1/307)

عن مالك بن دينار قال: أخذ السبع صبيا لامرأة فتصدقت بلقمة. فألقاه، فنوديت: لقمة بلقمة.عن مالك بن دينار قال: إن الله جعل الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر فخذوا لمقركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، ففي الدنيا حييتم ولغيرها خلقتم؛ إنما مثل الدنيا كالسم أكله من لا يعرفه واجتنبه من عرفه ومثل الدنيا مثل الحية مسها لين وفي جوفها السم القاتل يحذرها ذوو العقول ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.الحارث بن نبهان قال: قدمت من مكة فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة. قال: فكانت عنده فجئت يوما فجلست في مجلسه. فلما قضاه قال لي: يا حارث تعال خذ الركوة، فقد شغلت علي قلبي. فقلت: يا أبا يحيى إنما اشتريتها لك تتوضأ فيها وتشرب. فقال: يا حارث إني إذا دخلت المسجد جاءني الشيطان فقال لي: يا مالك إن الركوة قد سرقت فقد شغلت علي قلبي.قال جعفر: قلنا لمالك بن دينار، ألا تدعو قارئا? قال: إن الثكلى لا تحتاج إلى نائحة. فقلنا له ألا تستقي? فقال: أنتم تستبطئون المطر لكني أستبطئ الحجارة.قال جعفر: رأيت مالك بن دينار يتقنع بعباء، أو قال بكساء، ثم يقول: إله مالك، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار فأي الدارين دار مالك وأي الرجلين مالك? ثم يبكي.وسمعته يقول: لو استطعت أن لا أنام لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعوانا لفرقتهم ينادون في منار الدنيا كلها يا أيها الناس النار النار.وسمعته يقول: لو كان لأحد أن يتمنى لتمنيت أن يكون لي في الآخرة خص من قصب فأروى من الماء وأنجو من النار. وسمعته يقول للمغيرة بن حبيب، وكان ختنه: يا مغيرة كل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرا فانبذ عنك صحبته.وسمعته يقول: يا إخوتاه بحق أقول لكم: لولا البول ما خرجت من المسجد.

(1/308)

وسمعته يقول: إنما العالم الذي إذا أتيته في بيته فلم تجده قص عليك بيته: رأيت حصيرة للصلاة، ومصحفه ومطهرته في جانب البيت، ترى أثر الآخرة.وسمعته يقول: إن الأبرار لتغلي قلوبهم بأعمال البر، وإن الفجار تغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم رحمكم الله.وسمعته يقول: إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة.وسمعته يقول: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.وسمعته يقول: إن لله تعالى عقوبات فتعاهدوهن من أنفسكم في القلوب والأبدان وضنك في المعيشة ووهن في العبادة وسخطة في الرزق.خرج سليمان بن داود عليه السلام في موكبه فمر ببلبل على غصن شوك يصفر ويضرب بذنبه فقال: أتدرون ما يقول? قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه يقول: قد أصبت اليوم نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء.فضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلا يسيء صلاته فقال: ما أرحمني لعياله. فقيل له: يسيء هذا صلاته وترحم عياله? قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.قال رجل لمالك بن دينار: يا مرائي، قال: متى عرفت اسمي? ما عرف اسمي غيرك.دخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في البيت شيئا فأرادوا الخروج من دارهفقال مالك: ما عليكم لو صليتم ركعتين.قال حزم القطيعي: دخلنا على مالك بن دينار في مرضه الذي مات فيه وهو يكيد بنفسه فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لبطن ولا لفرج.قال أبو عيسى: دخلنا على مالك بن دينار عند الموت فجعل يقول: لمثل هذا اليوم كان دؤوب أبي يحيى.أن مالك لما حضره الموت قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئا لم يصنعه أحد كان قبلي لأوصيت أهلي إذا أنا مت أن يقيدوني وأن يجمعوا يدي إلى عنقي فينطلقوا بي على تلك الحال حتى أدفن كما يصنع بالعبد الآبق.وقال غير أحمد بن محمد: فإذا سألني ربي تعىلى أي رب لم أرض لك نفسي طرفة عين قط.

(1/309)

حصين بن القاسم قال: قلت لعبد الواحد بن زيد ما كان سبب موت مالك بن دينار? قال: أنا كنت سببه، سألته عن رؤيا رأى فيها مسلم بن يسار فقصها علي فانتفضت فجعل يشهق ويضطرب حتى ظننت أن كبده قد تقطعت في جوفه ثم هدأ فحملناه إلى بيته فلم يزل مريضا يعوده إخوانه حتى مات منها. فهذا كان سبب موته.هارون بن رئاب يكنى أبا الحسنكان هارون بن رئاب يخفي الزهدسفيان بن عيينة قال: رأيت هارون بن رئاب وكأن النور على وجهه.عن ابن شوذب قال: كنت إذا رأيت هارون بن رئاب فكأنما أقلع عن البكاء.يزيد بن أبان الرقاشيعن أشعث بن سوار قال: دخلت على يزيد الرقاشي فقال: يا أشعث تعال نبكي على الماء البارد في يوم الظمأ. قال: وجعل يقول: سبقني العابدون وقطع بي والهفاه. وقد صام اثنتين وأربعين سنة.عن هشام قال: قال لي ثابت البناني: ما رأيت أحدا أصبر على طول القيام والسهر من يزيد بن أبان.جوع يزيد نفسه لله عز وجل ستين عاما حتى ذبل جسمه ونهك بدنه وتغير لونه.وكان يقول: غلبني بطني فما أقدر له على حيلة.عن أبي إسحاق الخميسي قال: كان يقول في قصصه: ويحك يا يزيد من يترضى عنك ربك? ومن يصوم لك أو يصلي لك? ثم يقول: يا معشر من القبر بيته والموت موعده ألا تبكون? قال: فبكى حتى سقطت أشفار عينيه.زهير السلولي قال: كان يزيد الرقاشي قد بكى حتى تناثرت أشفاره وأحرقت الدموع مجاريها من وجهه.سلمة بن سعيد قال: قالوا ليزيد الرقاشي: أما تسأم من كثرة البكاء? فبكى وقال: والله لوددت أن أبكي بعد الدموع الدماء وبعد الدماء الصديد.وكان يقول: ابك يا يزيد على نفسك قبل حين البكاء. يا يزيد من يصلي لك بعدك? أو من يصوم? يا يزيد من يضرع لك إلى ربك بعدك ومن يدعو? وكان يقول: يا إخوتاه ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فارحموا كل بكاء.أبو محمد علي بن الحسن قال: قيل لابن يزيد الرقاشي: أكان أبوك يتمثل من الشعر شيئا? قال: كان يتمثل:

(1/310)

إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجلالأسود بن كلثومكان إذا مشى لا يجاوز بصره قدميه، فكان يمر بالنسوة، وفي الجدر يومئذ قصر، ولعل إحداهن أن تكون واضعة ثوبها أو خمارها، فإذا رأينه راعهن. ثم يقلن: كلا إنه الأسود بن كلثوم.فلما قرب غازيا قال: إن نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحب لقاءك، فإن كانت صادقة فارزقها ذلك، وإن كانت كارهة فاحملها عليه وإن كرهت، وأطعم لحمي سباعا وطيرا.فانطلق في خيل فدخلوا حائط فنذر بهم العدو فجاءوا فأخذوا بثلمة الحائط، فنزل الأسود عن فرسه فضربها حتى عادت فخرج وأتى الماء فتوضأ ثم صلى.قال: يقول العجم: هكذا استسلام العرب إذا استسلموا ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال: فمر عظم الجيش بعد ذلك بذلك الحائط فقيل لأخيه لو دخلت فنظرت ما بقي من عظام أخيك ولحمه قال: لا، دعا أخي بدعاء فاستجيب له فلست أعرض في شيء من ذلك.من الطبقة الرابعةأيوب بن أبي تميمة السختيانيقال أيوب: عن قوما يريدون أن يرتفعوا فيأبى الله إلا أن يضعهم وآخرين يريدون أن يتواضعوا ويأبى الله إلا أن يرفعهم.و قال: وكان النساك يومئذ يشمرون ثيابهم وكان أيوب لا يفعل.قال حماد بن زيد: كنت أمشي مع أيوب فيأخذ في طرق إني لأعجب له كيف يهتدي لها فرارا من الناس أن يقال هذا أيوب.ميمون الغزال قال: كنا عند الحسن فجاء أيوب فسلم عليه فلما مضى، وكان حيث لا يسمع، قال: أنا الحسن: هذا سيد الفتيان. وفي رواية أخرى: قال الحسن: أيوب سيد شباب أهل البصرة.قال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب في الحاجة أمشي معه فلا يدعني، فيخرج ههنا وههنا لكي لا يفطن له.وقال شعبة: قال أيوب: ذكرت وما أحب أن أذكر.قال الحميدي: لقي سفيان بن عيينة ستة وثمانين من التابعين، وكان يقول: ما رأيت مثل أيوب.كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه إنما قام تلك الساعة.قال أيوب السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل.

(1/311)

قال بشر بن منصور: كنا عند أيوب فلغطنا وتكلمنا. فقال لنا أيوب: كفوا، لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليوم لفعلت.عن معمر قال: كان في قميص أيوب بعض التذييل فقيل له، فقال: الشهرة اليوم في التشمير.صالح بن أبي الأخضر قال: قلت لأيوب: أوصني، قال: أقل الكلام.قال ا بن بشر: إن الرجل ربما جلس إلى أيوب السختياني فيكون لما يرى منه أشد اتباعا منه لو سمع حديثه.حماد بن زيد قال: لو رأيتم أيوب ثم استسقاكم شربة من ماء على النسك لما سقيتموه، له شعر وافر وشارب وافر وقميص جيد هروي يشم الأرض، وقلنسوة جيدة وطيلسان جيد ورداء عدني.قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.قال أيوب :لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: بالعفة عما في أيدي الناس والتجاوز عما يكون منهم.آذى رجل أيوب السختياني وأصحابه أذى شديدا. فلما تفرقوا قال أيوب: إني لأرحمه أنا نفارقه وخلقه معه.حماد قال: رأيت أيوب لا ينصرف عن سوقه إلا معه شيء يحمله لعياله حتى رأيت قارورة الدهن بيده يحملها. فقلت له في ذلك فقال: إني سمعت الحسن يقول: إن المؤمن أخذ عن الله عز وجل أدبا حسنا فإذا أوسع عليه أوسع وإذا أمسك عنه أمسك.حماد بن زيد قال: ما رأيت رجلا قط أشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب.قال مالك بن أنس كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديث رسول الله بكى حتى نرحمه.عن هشام بن حسان قال: حج أيوب السختياني أربعين حجة.عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب على جراء فعطشت عطشا شديدا حتى رأى ذلك في وجهي فقال: ما الذي أرى بك? قلت: العطش، قد خفت على نفسي: قال تستر علي? قلت: نعم. فاستحلفني فحلفت له أن لا أخبر عنه ما دام حيا. قال: فغمز برجله على حراء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي من الماء. قال: فما حدثت به أحدا حتى مات.عن أبي بكر بن الفضل قال: سمعت أيوب يقول: والله ما صدق عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه.

(1/312)

عن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لأيوب: ألا أكلمك بكلمة? قال: لا، ولا نصف كلمة.عن هشام بن حسان عن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا زاد من الله عز وجل بعدا.قال أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي.كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيمتخط ويقول: ما أشد الزكام.دخل بديل على أيوب السختياني، أظنه قال: يعوده وقد مد على فراشه سبنية حمراء يدفع بها الرياء، فقال له بديل: ما هذا? فقال أيوب: هذا خير من هذا الصوف الذي عليك.يحيى العبدي قال: سمعت حماد بن زيد يقول: كان أيوب يطلب العلم حتى مات.يحيى بن سليم أبو مسلم البكاء.عن معاذ بن زياد قال: كان يحيى بن مسلم البكاء قد اعتم بعمامة فأدارها على حلقه وجعل لها طرفين. فكان يبكي حتى يبل هذا الطرف ثم يبكي حتى يبل الطرف الآخر، ثم يحلها من رأسه ويبكي وينتحب حتى يبل العمامة بأسرها ثم يبكي وينتحب حتى يبل أردانه.سليمان بن طرخان التيمي يكنى أبا المعتمروكان من العباد المجتهدين يصلي الغداة بوضوء العشاء الآخرة. وكان هو وابنه المعتمر يدوران بالليل في المساجد فيصليان مرة في هذا المسجد ومرة في هذا حتى يصبحا.قال يحيى يعني ابن سعيد، وذكرنا التيمي، فقال: ما جلست إلى رجل أخوف لله منه.قال عبد الأعلى قال معتمر بن سليمان التيمي: لولا أنك من أهلي ما حدثتك عن أبي بهذا، مكث أبي أربعين سنة يصوم يوما ويفطر يوما ويصلي الصبح بوضوء العشاء وربما أحدث الوضوء من غير نوم.صلى سليمان التيمي الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة.حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعا فإن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليا، فإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئا أو عائدا مريضا أو مشيعا لجنازة أو قاعدا يسبح في المسجد. قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل.

(1/313)

قال المعتمر مات صاحب لي كان يطلب الحديث فجزعت عليه فرآى أبي جزعي عليه فقال: يا معتمر كان صاحبك هذا على لا سنة? قلت: نعم. قال: فلا تجزع عليه ولا تحزن عليه.قال معتمر بن سليمان التيمي: سقط بيت لنا كان أبي يكون فيه فضرب فسطاطا فكان فيه حتى مات. فقيل له: لو بنيته. فقال: الأمر أعجل من ذاك، غدا الموت.مكث سليمان التيمي في قبة لبود ثلاثين سنة أو نحوا من ثلاثين.كان التيمي عامة زمانه يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد وليس وقت صلاة إلا وهو يصلي، وكان يسبح بعد العصر إلى المغرب، ويصوم الدهر.قال معمر، مؤذن التيمي،: صلى إلى جنبي سليمان التيمي العشاء الآخرة وسمعته يقرأ تبارك الذي بيده الملك الملك آية 1 قال: فلما أتى على هذه الآية: فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا الملك آية 27 جعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا. قال: فخرجت وتركته.قال: وعدت لأذان الفجر فإذا هو في مقامه. قال: فتسمعت فإذا هو لم يجزها وهو يقول: فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا .قيل لسليمان التيمي أنت أنت من مثلك? قال: لا تقولوا هكذا لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل? سمعت الله تعالى يقول: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون الزمر آية 47.كان بين سليمان التيمي وبين رجل شيء فنازعه، فتناول الرجل سليمان فغمز بطنه فجفت يد الرجل.قال معتمر عن أبيه: إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته.قدح سليمان التيمي عينه قال: فنهاه الطبيب أن يمس ماء قال: فمس فرجه قال: وكان يرى الوضوء من مس الفرج. قال: فنزع القطنة عن عينه وتوضأ وأعاد القطنة على حالها. قال: فجاء الطبيب فنظر فلم ير شيئا ينكر. قال: انظر هل ترى شيئا? قال: ما أرى شيئا أنكره. قال: فإني قد توضأت. قال: فإن الله قد رزقك العافية.قال المعتمر: قال لي أبي حين حضره الموت: حدثني بالرخص لعلي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به.

(1/314)

عن رقبة قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: وعزتي لأكرمن مثوى سليمان، يعني التيمي.وبلغنا من طريق آخر عن رقبة أنه قال: رأيت رب العزة تبارك وتعالى في النوم فقال: يا رقبة وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلى أربعين سنة على ظهر العتمة.قال: فجئت إلى سليمان فحدثته فقال: أنت رأيت هذا? قلت: نعم، قال: لأحدثنك بمائة حديث عن رسول الله بما جئتني به من البشارة. قال: فلما كان بعد مديدة مات فرأيته مات في المنام فقلت: ما فعل الله بك? قال: غفر لي وأدناني وقربني وغلفني بيده وقال: هكذا أفعل بأبناء ثلاث وثمانين.داود بن أبي هندصام داود أربعين سنة لا يعلم به أهله. وكان خزازا يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيا فيفطر معهم.قال داود بن أبي هند أصابني يعني الطاعون فأغمي علي فكأن اثنين أتياني فغمز أحدهما عكدة لساني وغمز الآخر أخمص قدمي فقال: أي شيء تجد? فقال: تسبيحا وتكبيرا وشيئا من خطو إلى المسجد وشيئا من قراءة القرآن. قال: ولم أكن أخذت القرآن حينئذ، وكنت أذهب في الحاجة فأقول: لو ذكرت الله حتى آتي حاجتي فعوفيت فأقبلت على القرآن فتعلمته.عاصم بن سليمان الأحول يكنى أبا عبد الرحمنكان قاضيا بالمدائن في خلافة أبي جعفر، وكان على الحسبة في المكاييل والموازين بالكوفة.ربما رئي عاصم الأحول وهو صائم ثم يفطر فإذا صلى العشاء تنحى فصلى فلا يزال يصلي الفجر لا يضع جنبه.يونس بن عبيد يكنى أبا عبد اللهكان يونس بن عبيد خزازا فجاء رجل يطلب ثوبا فقال لغلامه: انشر الرزمة. فنشر الغلام الرزمة وضرب بيده عليها وقال: صلى الله على محمد. ارفعه ارفعه، وأبى أن يبيعه مخافة أن يكون مدحه.

(1/315)

جاء رجل من أهل الشام إلى سوق الخزازين فقال مطرف: بأربعمائة. فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين. فنادى مناد بالصلاة فانطلق يونس إلى بني قشير ليصلي بهم. فجاء وقد باع ابن أخيه المطرف من الشامي بأربعمائة. فقال يونس: ما هذه الدراهم? قال: ذلك المطرف بعناه من هذا الرجل. قال يونس: يا عبد الله المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم، فإن شئت فخذه وخذ مائتين، وإن شئت فدعه. قال: من أنت? قال: رجل من المسلمين. قال: بل أسألك بالله من أنت وما اسمك? قال: يونس بن عبيد. قال: فوالله إنا لنكون في نحر العدو فإذا اشتد الأمر علينا قلنا: اللهم رب يونس فرج عنا. أو شبيه هذا. فقال يونس: سبحان الله سبحان الله.جاءت امرأة بمطرف خز إلى يونس بن عبيد فألقته إليه تعرضه عليه في السوق. فنظر إليه فقال لها: بكم? قالت: بستين درهما. قال: فألقاه إلى جار له: كيف تراه بعشرين ومائة? قال: أرى ذلك ثمنه أو نحوا من ثمنه. قال: فقال لها: اذهبي فاستأمري أهلك في بيعه بخمس وعشرين ومائة. قالت: قد أمروني أن أبيعه بستين. قال: ارجعي إليهم فاستأمريهم.قال يونس بن عبيد: ليس شيء أعز من شيئين: درهم طيب ورجل يعمل على سنة.وقال إنما هما درهمان، درهم أمسكت عنه حتى طال لك فأخذته، ودرهم وجب لله وجل عليك فيه حق فأديته.قال جعفر بن برقان: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح فكتبت إليه: يا أخي بلغني عنك فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه. فكتب إلي: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وأن تكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم، هذا أمري يا أخي والسلام.ما كان يونس بأكثرهم صلاة ولا صوما ولكن لا والله ما حضر حق من حقوق الله عز وجل إلا وهو متهيئ له.

(1/316)

نظر يونس إلى قدميه عند موته فبكى فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الله? قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله ...قال غسان: وحدثنا سعيد بن عامر عن يونس بن عبيد قال: إنك تكاد تعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم.قال يونس لا تجد شيئا من البر واحدا يتبعه البر كله غير اللسان فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام، ويقوم الليل ويشهد بالزور، وذكر شيئا نحو هذا، ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك علمه أبدا.غسان بن المفضل قال: حدثني بعض أصحابنا من البصريين قال: جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقا من حاله ومعاشه واغتماما منه بذلك فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف? قال: لا. قال: فسمعك الذي تسمع به يسرك به مائة ألف? قال: لا. قال: فؤادك الذي تعقل به يسرك به مائة ألف? قال: لا. قال: فيداك يسرك بهما مائة ألف? قال: لا. فرجلاك? قال: فذكره نعم الله عز وجل عليه. فأقبل عليه يونس فقال: أرى لك مئتين ألوفا وأنت تشكو الحاجة.شكا رجل إلى يونس وجعا يجده في بطنه فقال له يونس: يا عبد الله هذه دار لا توافقك، فالتمس دارا توافقك.عن جسر قال: دخلت على يونس بن عبيد فقال: منذ دخلت علينا قد مضى من آجالنا.جاءت يونس امرأة بجبة خز فقالت له: اشترها فقال: بكم تبيعينها? قالت: بخمس مائة. قال: هي خير من ذلك. قالت: بستمائة. قال: هي خير من ذلك. فلم يزل يقول: هي خير من ذلك حتى بلغت ألفا وقد بذلتها بخمس مائة.قال أمية: وكان يونس بن عبيد يشتري الابرسيم من البصرة فيبعث به إلى وكيله بالسوس. فكان وكيله يبعث إليه بالخز. فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبدا حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد.كان يونس إذا طلب المتاع أرسل وكيله بالسوس أن أعلم من تشتري منه أن المتاع يطلب. وكلاما ذا معناه.

(1/317)

غلا الحرير. وقال أحدهما: بالخز في موضع كان إذا غلا هناك غلا بالبصرة. وكان يونس بن عبيد خزازا علم بذلك فاشترى من رجل متاعا بثلاثين ألفا فلما كان بعد ذلك قال لصاحبه: هل كنت قد علمت أن المتاع قد غلا بأرض كذا وكذا? قال: لا ولو علمت لم أبع قال: هلم هلم إلى مالي وخذ مالك. ورد عليه الثلاثين ألفا.قال يونس بن عبيد: لو أصبت درهما حلالا من تجارة لاشتريت به برا ثم صيرته سويقا ثم سقيته المرضى.اجتمع يونس بن عبيد وعبد الله بن عون فتذاكروا الحلال. فكلاهما يقول ما أرى في بيتي درهما حلالا.قال يونس ما أعلم شيئا أقل طيب ينفقه صاحبه في حق، أو أخ يسكن إليه في الإسلام وما يزدادان إلا قلة.عن هشام بن حسان قال: ما رأيت أحدا يطلب بالعلم وجه الله عز وجل إلا يونس بن عبيد.قال يونس بن عبيد: خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما من أمره: صلاته ولسانه.مرض يونس بن عبيد فقال أيوب السخيتاني: ما في العيش بعدك من خير.قال سكن الحرشي: جاءني يونس بن عبيد بشاة فقال: بعها وابرأ من أنها تقلب العلف وتنزع الوتد ولا تبرأ بعد ما تبيع بل قل لمن تبيع.قال يونس بن عبيد: ما أهم رجلا كسبه إلا أهمه أين يضعه.قال يونس بن عبيد: ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد لها وتفوتني الصلاة فلا أجد لها.قال يونس بن عبيد: ما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحا في سائر عمله.عن يونس ابن عبيد قال: ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك إذا انتبه.قال يونس بن عبيد: إني لأعرف مائة خصلة من البر ما في منها واحدة.قال يونس بن عبيد: احفظوا عني ثلاثا مت أو عشت: لا يدخلن أحدكم على سلطان يعظه، ولا يخل بامرأة شابة وإن أقرأها القرآن، ولا يمكن سمعه من ذي الهوى.عبد الله بن عون بن أرطبان

(1/318)

قال بكار: ما رأيت ابن عون بمازح أحدا ولا يماري أحدا. وكان مشغولا بنفسه. وكان إذا صلى الغداة مكث مستقبلا القبلة في مجلسه يذكر الله عز وجل فإذا طلعت الشمس صلى ثم أقبل على أصحابه وما رأيته شاتما أحدا قط عبدا ولا أمة ولا دجاجة ولا شاة ولا رأيت أحدا أملك للسانه منه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما حتى مات. وكان إذا توضأ لا يعينه أحد وكان طيب الريح لين الكسوة وكان إذا خلا في منزله إنما هو صامت لا يزيد على الحمد لله ربنا وما رأيته دخل حماما قط وكان إن وصل إنسانا بشيء وصله سرا، وإن صنع شيئا صنعه سرا يكره أن يطلع عليه أحد وكان له سبع يقرؤه كل ليلة فإذا لم يقرأه بالليلة أتمه بالنهار وكان لا يحفي شاربه وكان يأخذه أخذا وسطا.سعيد بن عامر قال: لم تر بعينيك كوفيا ولا بصريا مثل ابن عون.قال يحيى القطان: ما ساد ابن عون الناس أن كان أتركهم للدنيا ولكن ابن عون إنما ساد الناس بحفظ لسانه.معاذ بن معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال: إني لأعرف رجلا منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فلا يقدر عليه، وليس ذلك أن يسكت رجل يوما لا يتكلم، ولكن يتكلم فيسلم كنا يسلم ابن عون.قال بكار بن محمد: صحبت ابن عون دهرا من الدهر حتى مات وأوصى إلى أبي، فما سمعته حالفا على يمين برة ولا فاجرة حتى فرق بيننا الموت.ابن مهدي قال: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة من ابن عون.أبو بكر بن أصرم قال: قيل لابن المبارك ابن عون بما ارتفع? قال: بالاستقامة.قال خارجة صحبت عبد الله يعني ابن عون أربعا وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.قال روح: ما رأيت رجلا أعبد من ابن عون.قال بكار بن محمد: كان ابن عون لا يغضب وإذا أغضبه الرجل قال: بارك الله فيك.

(1/319)

قال ابن عون: لو أن رجلا انقطع إلى هؤلاء الملوك في الدنيا لانتفع فكيف بمن ينقطع إلى من له السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى? أبو مالك بشر بن الحسن قال: نازع ابن عون رجل فقال: لولا أن يكتب علي لقلت.قال ابن عون: كانت له حوانيت يكريها. فكان لا يكريها من المسلمين. فقيل له في ذلك فقال: إن لهذا إذا جاء رأس الشهر روعة وإني أكره أن أروع المسلم.قال هشام بن حسان: حدثني من لم تر عيناي مثله فقلت في نفسي اليوم يستبين فضل الحسن وابن سيرين. قال: فأشار بيده إلى ابن عون وهو جالس.قال الربالي: فذكرته للخليل بن شبان فقال: سمعت عمر بن حبيب يقول: عثمان البتي يقول: ما رأت عيناي مثل ابن عون.عن ابن عون أن نادته أمه فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.قرة بن خالد قال: كنا نعجب من ورع ابن سيرين فأنساناه ابن عون.قال أبو عاصم: سألت ابن عون فقلت: حدثني بهذا الحديث إن خف عليك. فقال: لا تقل: إن خف. فقلت له: لمه? قال: أكره أن أحدثك ولا يخف علي فيكون على خلاف ما سألت.أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، وذكر ابن عون، فقال: كان لا يكري دوره من المسلمين. قلت: لأي علة? قال: لئلا يروعهم.قال: وكان لابن عون جمل يستقي الماء فإذا غلام ابن عون قد ضرب الجمل فذهب بعينه فجاء الغلام وقد أرعب وظن أنهم قد شكوه. فلما رآه قد أرعب قال: اذهب فأنت حر لوجه الله عز وجل.قال ابن عون: لن يصيب العبد حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك فيه هلكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك? ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا.قدم ابن المبارك قدمة فقيل له: إلى أين تريد? قال: إلى البصرة. قيل له: من بقي? قال: ابن عون آخذ من أخلاقه، آخذ من آدابه.

(1/320)

قال بكار: كان ابن عون في مرضه أصبر من أنت راء، ما رأيته يشكو شيئا من علته حتى مات ... 0هشام بن حسان أبو عبد الله القردوسي من الأزد.قالت فارسية كانت تكون مع هشام في الدار قالت: أي ذنب عمل هذا، من قتل هذا? الليل كله يبكي.عمران بن مسلم القصيركان عمران القصير يقول لجلسائه: ألا حر كريم يصبر أياما قلائل? عبد الله بن مغيث بن سعدان اليشكري قال: حدثتني أمينة بنت عمران من أبيها، وكان قد عاهد الله أن لا ينام بليل أبدا إلا مستغلبا، قالت: قال إني حببت إلي طاعة الله تعالى طول الحياة ولولا الركوع والسجود وقراءة القرآن ما باليت أن لا أعيش في الدنيا فواقا. قالت: فلم يزل مجهودا على ذلك حتى مات رحمه الله. قالت: فرأيته في منامي فقلت: يا أبت إنه لا عهد لي بك منذ فارقتنا قال: يا بنية وكيف تعهدين من فارق الحياة وصار إلى ضيق القبور وظلمتها? قالت: فقلت: يا أبت كيف حالك منذ فارقتنا? قال: خير حال بؤئنا المنال ومهدت لنا المضاجع ونحن ها هنا يغدى ويراح برزقنا من الجنة. قالت: فقلت: فما الذي بلغك هذا? قال: الصبر الصالح وكثرة التلاوة لكتاب الله تعالى.كهمس بن الحسن القيسي يكنى أبا عبيد اللهكان كهمس يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة فإذا مل قال لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله ساعة قط.كان كهمس يعمل في الجص كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه.اشترى كهمس دقيقا بدرهم فأكل منه، فلما طال عليه كاله فإذا هو كما وضعه فجعل بعد لا يأخذ منه شيئا إلا نقص حتى فني.قال كهمس: كان لي جار يشتري هذا التمر والرطب ويسأل لي عن الحوائط فمذ مات تركت التمر.خرج يوما كهمس ومعه دينار فسقط منه وطلبه فوجده. قال: فتركه وقال: لعل هذا الدينار غير ذاك الدينار، وأكل ذات يوم سمكا فأخذ من حائط جاره طينا فغسل به يده فقال: أنا اليوم منذ أربعين سنة أبكي على ذاك الطين لم أخذته بغير علمه.

(1/321)

قال عمارة بن زازان: قال لي كهمس بن الحسن: يا أبا سلمة أذنبت ذنبا وأنا أبكي عليه أربعين سنة. قلت وما هو يا أبا عبد الله? قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكا بدانق فلما أكل قمت إلى حائط جار لي فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة.كان كهمس يقول في جوف الليل: أتراك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه? أحمد بن الفتح قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: كان كهمس يصلي حتى يغشى عليه.قال إسحاق دخلنا على كهمس فقرب إلينا إحدى عشرة بسرة حمراء وقال: هذا الجهد من أخيكم والله المستعان.وكان مشغولا بخدمة أمه مع تعبده، فلما ماتت خرج إلى مكة فأقام إلى أن مات هناك.حبيب أبو محمد الفارسيكان مجاب الدعوى حضر مجلس الحسن فتأثر بموعظته فخرج عما كان يملك.وكان الحسن يجلس في مجلسه الذي يذكر فيه في كل يوم، وكان حبيب أبو محمد يجلس في مجلسه الذي يأتيه فيه أهل الدنيا والتجار وهو غافل عما فيه الحسن لا يلتفت إلى شيء من مقالته. إلى أن التفت إليه يوما فذكره الحسن بالجنة وخوفه من النار فانصرف من عنده فلم يزل في تبديد ماله حتى لم يبق له شيء ثم جعل بعد يستقرض على الله.قال يونس: وجاء رجل إلى أبي محمد فشكا إليه دينا عليه فقال: اذهب فاستقرض وأنا أضمن. فأتى رجلا فأقرضه خمس مائة درهم وضمنها أبو محمد. ثم جاء الرجل فقال: يا أبا محمد دراهمي، فقد أضر بي حبسها. فقال: نعم غدا. فتوضأ أبو محمد ودخل المسجد ودعا الله تعالى. وجاء الرجل فقال له: اذهب فإن وجدت في المسجد شيئا فخذه. فذهب فإذا في المسجد صروة فيها خمس مائة درهم فذهب فوجدها تزيد على خمس مائة فرجع إليه فقال: يا أبا محمد تلك الدراهم تزيد. فقال اذهب فهي لك، من وزنها وزنها راجحة.

(1/322)

جعفر بن سليمان قال: سمعت حبيبا يقول: أتانا سائل وقد عجنت عمرة وذهبت تجيء بنار تخبزه فقلت للسائل: خذ العجين فاحتمله. فجاءت عمرة فقالت: أين العجين? فقلت: ذهبوا به يخبزونه. قال: فلما أكثرت علي أخبرتها فقالت: سبحان الله لا بد لنا من شيء نأكله قال: فإذا رجل قد جاء بجفنة عظيمة مملوءة خبزا ولحما. فقالت عمرة: ما أسرع ما ردوه عليك قد خبزوه وجعلوا معه لحما.كان حبيب أبو محمد رقيقا من أكثر الناس بكاء. فبكى ذات ليلة كثيرا فقالت عمرة بالفارسية: لم تبكي يا أبا محمد? فقال لها حبيب: دعيني فإني أريد أن أسلك طريقا لم أسلكه قبل.قال: وسمعت حبيبا يقول والله إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز. ولو أن الله دعاني يوم القيامة فقال: يا حبيب فقلت: لبيك، فقال: جئني بصلاة يوم أو صوم يوم أو ركعة أو سجدة أو تسبيحة اتقيت عليها من إبليس أن يكون طعن فيها طعنة فأفسدها، ما استطعت.قال حبيب: لا تقعدوا فراغا فإن الموت يليكم.حبيب: إن من سعادة المرء إذا مات ماتت معه ذنوبه.اشترى حبيب الفارسي نفسه من ربه أربع مرات بأربعين ألف درهم. أخرج بدرة فقال: يا رب اشتريت منك نفسي بهذه. ثم أخرج بدرة أخرى فقال: إلهي إن كنت قبلت تلك فهذه شكر لها. ثم أخرج الثالثة فقال: إلهي إن كنت لم تقبل الأولى والثانية فاقبل هذه. ثم أخرج الرابعة فقال: إلهي إن كنت قبلت الثالثة فهذه شكر لها.كان حبيب أبو محمد يأخذ متاعا من التجار يتصدق به فأخذ مرة فلم يجد شيئا يعطيهم فقال: يا رب كأنه، أي ينكسر وجهي عندهم فدخل فإذا هو بجوالق من شعر كأنه نصب من أرض البيت إلى قريب السقف مملوءا دراهم فقال: يا رب ليس أريد هذا، فأخذ حاجته وترك البقية.

(1/323)

قال مسلم بن إبراهيم: إن رجلا أتى حبيبا فقال: إن لي عليك ثلاثمئة درهم قال: من أين? قال: لي عليك ثلاثمئة درهم. قال حبيب: اذهب إلى غد. فلما كان من الليل توضأ وصلى وقال: اللهم إن كان صادقا فأد إليه وإن كان كاذبا فابتله في بدنه. قال: فجيء بالرجل من غد قد حمل وقد ضرب شقه الفالج. فقال: ما لك? قال: أنا الذي جئتك بالأمس، لم يكن لي عليك شيء وإنما قلت يستحيي من الناس فيعطيني. فقال له: تعود? قال: اللهم إن كان صادقا فألبسه العافية. فقام الرجل على الأرض كأن لم يكن به شيء.اشترى أبو محمد حبيب طعاما في مجاعة أصابت الناس فقسمه على المساكين ثم خاط أكيسة فجعلها فإذا هي مملوءة دراهم فوزنها فإذا هي حقوقهم فدفعها إليهم.كان حبيب أبو محمد يرى يوم التروية بالبصرة ويرى يوم عرفة بعرفات.عن حماد قال: شهدت حبيبا الفارسي يوما فجاءته امرأة فقالت: يا أبا محمد. كأنها طلبت منه شيئا. فقال لها: كم لك من العيال? فقالت: كذا وكذا. فقام حبيب أبو محمد إلى وضوئه فتوضأ ثم جاء إلى مصلاه فصلى بخضوع وسكون. فلما فرغ قال: يا رب إن الناس يحسنون ظنهم بي وذاك من سترك علي فلا تخلف ظنهم بي، ثم رفع حصيره فإذا بخمسين درهما فأعطاه إياها. ثم قال: يا حماد اكتم ما رأيت حياتي.قال عبد الواحد بن زيد: كنا عند مالك بن دينار ومعنا محمد بن واسع وحبيب أبو محمد. فجاء رجل فكلم مالكا فأغلظ في قسمة قسمها وقال: وضعتها في غير حقها وتتبعت بها أهل مجلسك ومن يغشاك لتكثر غاشيتك وتصرف وجوه الناس إليك. قال: فبكى مالك وقال: والله ما أردت هذا. قال: بلى والله لقد أردت هذا. فجعل مالك يبكي والرجل يغلظ له. فلما كثر ذلك عليهم رفع حبيب يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت. قال: فسقط والله الرجل على وجهه ميتا فحمل إلى أهله على سرير، وكان يقال: إن أبا محمد مستجاب الدعوة.

(1/324)

قال حبيب أبو محمد: لا قرة عين لمن لم تقر عينه بك، ولا فرح لمن لم يفرح بك. وعزتك إنك لتعلم أني أحبك.كان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت، ومن لم يأنس بك فلا أنس.قال إسماعيل بن زكريا وكان جارا لحبيب أبي محمد،: كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه. فأتيت أهله فقلت: ما شأنه يبكي إذا أمسى ويبكي إذا أصبح. قال: فقالت لي: يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح، وإذا أصبح أن لا يمسي.قالت امرأة حبيب أبي محمد كان يقول: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني وافعلي كذا واصنعي كذا. فقيل لامرأته أرأى رؤيا? قالت: هذا يقوله كل يوم.عن عبد الواحد بن زيد أن حبيبا أبا محمد جزع جزعا شديدا عند الموت فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قط، أريد أن أسلك طريقا ما سلكته قط، أريد أن أزور سيدي ومولاي وما رأيته قط، أريد أن أشرف على أهوال ما شاهدت مثلها قط، أريد أن أدخل تحت التراب فأبقى تحته إلى يوم القيامة ثم أوقف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحة واحدة سبحتني في ستين سنة لم يظفر بك الشيطان فيها بشيء. فماذا أقول وليس لي حيلة أقول: يا رب هو ذا قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي.قال عبد الواحد: هذا عبد الله ستين سنة مشتغلا به ولم يشتغل من الدنيا بشيء قط فأي شيء حالنا? واغوثاه بالله.قال أحمد بن عبد الله: كان حبيب مشغولا بالتعبد ولا نعرف له حديثا مسنداعبد الواحد بن زيدقال حاتم بن سليمان: شهدت عبد الواحد بن زيد في جنازة حوشب فلما دفن قال: رحمك الله يا أبا بشر فلقد كنت حذرا من مثل هذا اليوم رحمك الله يا أبا بشر فلقد كنت من الموت جزعا أما والله لئن استطعت لأعملن رجلي بعد مصرعك هذا. قال: ثم شمر بعد واجتهد.كان عبد الواحد بن زيد يجلس إلى جنبي عند مالك بن دينار فكنت لا أفهم كثيرا من موعظة مالك لكثرة بكاءه

(1/325)

قال زيد بن عمر: شهدت مجلس عبد الواحد بن زيد بعد العصر فكنت أنظر إلى منكبيه ترتعد ودموعه تتحدر على لحيته وهو ساكت والناس يبكون فقال: ألا ستتحيون من طول ما لا تستحيون? وفي القوم فتى فغشي عليه فما أفاق حتى غربت الشمس. فأفاق هو يقول: ما لي ما لي? كأنه يعمي على الناس أمره. ثم خرج فتوضأ.قال مسمع بن عاصم: شهدت عبد الواحد ذات يوم وهو يعظ. قال: فمات يومئذ في ذلك المجلس أربعة أنفس قبل أن يقوم. قال مسمع: فأنا شهدت جنازة بعضهم.قال عبد الواحد بن زيد: إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله عز وجل? ألا إنه من بكي شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه، يا إخوتاه ألا تبكون خوفا من النار? ألا إنه من بكى خوفا من النار أعاذه الله منها. يا إخوتاه ألا تبكون? بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله يسقيكموه في حظائر العرش مع خير الندماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. قال: ثم جعل يبكي حتى غشي عليه.حصين بن القاسم الوزان يقول: لو قسم بث عبد الواحد بن زيد على أهل البصرة لوسعهم فإذا أقبل سواد الليل فطرت إليه كأنه فرس رهان مضمر متحزم. ثم يقوم إلى محرابه كأنه رجل مخاطب.

(1/326)

حبان الأسود قال: حدثني عبد الواحد بن زيد قال: أصابتني علة في ساقي فكنت أتحامل عليها للصلاة. قال: فقمت عليها من الليل فأجهدت وجعا فجلست ثم لففت إزاري في محرابي ووضعت رأسي عليه فنمت فبينما أنا كذلك إذا بجارية تفوق الدمى حسنا تخطر بين جوار مزينات حتى وقفت علي وهن خلفها. فقالت لبعضهن: ارفعنه ولا تهجنه فأقبلن نحوي فاحتملنني عن الأرض وأنا أنظر إليهن في منامي. ثم قالت لغيرهن من الجواري اللائي معها: افرشنه ومهدنه ووطئن له ووسدنه. قال: ففرشن تحتي سبع حشايا لم أر لهن في الدنيا مثلا ووضعن تحت رأسي مرافق خضرا حسانا. ثم قالت للائي حملنني: اجعلنه على الفرش رويدا لا تهجنه. قال: فجعلت على تلك الفرش وأنا أنظر إليها وما تأمر به من شأني. ثم قالت: احففنه بالريحان قال: فأتي بياسمين فحفت به الفرش. ثم قامت إلي فوضعت يدها على علتي التي كنت أجد في ساقي فمسحت ذلك المكان بيدها ثم قالت: قم شفاك الله إلى صلاتك غير مضرور. وقال: فاستيقظت والله كأني قد أنشطت من عقال فما اشتكيت تلك العلة ليلتي تلك ولا ذهبت حلاوة منطقها من قلبي: قم شفاك الله إلى صلاتك غير مضرور.أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان الداراني: أصاب عبد الواحد بن زيد الفالج فسأل الله أن يطلقه في وقت الوضوء. فإذا أراد أن يتوضأ انطلق وإذا رجع إلى سريره عاد عليه الفالج.صلى عبد الواحد بن زيد الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة.عن عبد الواحد بن زيد قال: نمت عن وردي ليلة فإذا أنا بجارية لم أر أحسن وجه منها عليها ثياب حرير خضر وفي رجليها نعلان والنعلان يسبحان والزمامان يقدسان، وهي تقول: يا ابن زيد جد في طلبي فإني في طلبك ثم جعلت تقول: من يشتريني ومن يكن سكني يأمن في ربحه من الغبنفقلت: يا جارية ما ثمنك? فأنشأت تقول:تودد الله مع محبته وطول فكر يشاب بالحزن فقلت: لمن أنت يا جارية? فقالت:

(1/327)

لمالك لا يرد لي ثمنا من خاطب قد أتاه بالثمن فانتبه وآلى على نفسه أن لا ينام الليل.عطاء السليميقالت: عفيرة لم يرفع عطاء رأسه إلى السماء ولم يضحك أربعين حجة. فرفع رأسه مرة ففتق في بطنه فتق.قال بشر بن منصور: كنت أوقد بين يدي عطاء السليمي في غداة باردة. فقلت له: يا عطاء أيسرك الساعة لو أنك أمرت أن تلقي نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب? فقال لي: إي ورب الكعبة قال: والله مع ذلك لو أمرت به لخشيت أن تخرج نفسي فرحا قبل أن أصل إليها.كان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه انتفض وارتعد وبكى بكاء شديدا فقيل له فقيل له في ذلك فقال: إني أريد أن أقدم على أمر عظيم، إني أريد أن أقوم بين يدي الله تعالى.كان عطاء السليمي قد أضر بنفسه حتى ضعف قال: قلت له: إنك قد أضررت بنفسك وأنا متكلف لك شيئا فلا ترد كرامتي، قال: افعل؛ قال: فاشتريت له سويقا من أجود ما وجدت وسمنا فجعلت له شريبة ولينتها وحليتها وأرسلتها مع ابني وكوزا من ماء وقلت له لا تبرح حتى يشربها. فرجع فقال: قد شربها. فلما كان من الغد جعلت له نحوها ثم سرحت بها مع ابني فرجع بها لم يشربها. قال فأتيته فلمته فقلت: سبحان الله رددت علي كرامتي? إن هذا مما يعينك ويقويك على الصلاة وعلى ذكر الله. قال: فلما رآني قد وجدت من ذلك قال: يا أبا بشر لا يسوءك الله قد شربتها أول ما بعثت بها فلما كان الغد راودت نفسي على أن تسيغها فما قدرت على ذلك، إذا أردت أن أشربها ذكرت هذه الآية يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ سورة إبراهيم آية 170 فبكى صالح عند هذا وقال: قلت لنفسي: ألا أراني في واد وأنت في آخر? العلاء بن محمد قال: دخلت على عطاء السليمي وقد غشي عليه فقلت لامرأته أم جعفر: ما شأن عطاء? فقالت: سجرت جارتنا التنور فنظر إليه فخر مغشيا عليه.

(1/328)

قالت: عفيرة العابدة وكانت قد ذهب بصرها من العبادة قالت: كان عطاء إذا بكى بكى ثلاثة أيام وثلاث ليال.قال إبراهيم المحلمي: أتيت عطاء السليمي فلم أجده في بيته. قال: فنظرت فإذا هو في ناحية الحجرة جالس وإذا حوله بلل، قال: فظننت أنه أثر وضوء توضأه. فقالت: لي عجوز معه في الدار: أثر دموعه.قال سوار أبو عبيدة: قالت امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء، فعاتبته فقال لي: يا سوار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي? إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يدها إلى عنقها وتسحب في النار? ألا تصيح فتبكي? وكيف لنفس تعذب ألا تبكي? ويحك يا سوار وما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله.قال بشر بن منصور لعطاء السليمي: يا عطاء لماذا الحزن? قال: ويحك الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي لا أدري ما يصنع بي، ثم تنفس فغشي عليه. فترك خمس صلوات. فلما أفاق أخبرته فقال: ويحك إذا ذهب عقلي تخاف علي شيئا? ثم تنفس فغشي عليه فترك صلاتين.العلاء بن محمد البصري قال: شهدت عطاء السليمي خرج في جنازة فغشي عليه أربع مرات حتى صلي عليه كل ذلك يغشى عليه ثم يفيق فإذا نظر إلى الجنازة خر مغشيا عليه.بشر بن منصور قال: كنت أسمع عطاء السليمي كل عشية بعد العصر يقول: غدا عطاء في القبر.عن إبراهيم بن أدهم قال: كان عطاء يمس جسده بالليل خوفا من ذنوبه مخافه أن يكون قد مسخ.كان عطاء عند حجام والمحاجم على عنقه فمر صبي معه شعلة نار فأصابت النار الريح فسمع ذلك منها فخر مغشيا عليه فحمل إلى منزله ما يعقل.قال رجل لعطاء يوما: ما هذا الذي تصنع بنفسك? قتلت نفسا? أي شيء صنعت? قال: اصطدت حماما لجار لي منذ أربعين سنة، قال: ثم قال: أما إني قد تصدقت بثمنه. كأنه لم يعرفه صاحبه.

(1/329)

كان عطاء إذا جن عليه الليل خرج إلى المقابر فوقف على أهل القبور ثم قال: يا أهل القبور متم فواموتاه. ثم يبكي ويقول: يا أهل القبور عاينتم ما عملتم فواعملاه. فلا يزال كذلك حتى يصبح.قال حماد بن زيد: رجعنا من جنازة فدخلنا على عطاء السليمي فلما رآنا كأنه خائف أن يدخله شيء أي لكثرتنا. فقال: اللهم لا تمقتنا أو اللهم لا تمقتني. ثم قال: سمعت جعفر بن زيد يقول: مر رجل بمجلس فأثنوا عليه خيرا. فلما جاوزهم قام وقال: اللهم إن كان هؤلاء لا يعرفونني فأنت تعرفني.علي بن بكار قال: مكث عطاء السليمي أربعين سنة على فراشه لا يقوم من الخوف ولا يخرج.أبو جعفر بن الطباع قال: سمعت مخلدا يقول: ما رأيت أحدا كان أفضل من عطاء السليمي، ولقد كانت الفاكهة تمر لا يعلم سعرها ولا يعرفها.كان عطاء يقول: التمسوا لي هذه الأحاديث في الرخص عسى الله أن يروح عني بعض ما أنا فيه من الغم.قيل لعطاء السليمي ما تشتهي? قال: أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر على أن أبكي. قال: وكان يبكي الليل والنهار وكانت دموعه الدهر سائلة على وجهه.قال أبو يزيد الهدادي: انصرفت ذات يوم من الجمعة فإذا عطاء السليمي وعمر بن درهم يمشيان، وكان عطاء قد بكى حتى عمش، وكان عمر قد صلى حتى دبر، فقال عمر لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يكف? قال: فصاح عطاء صيحة خر مغشيا عليه فأنشج موضحة واجتمع الناس وعقد عمر عند رأسه فلم يزل على حاله حتى المغرب. ثم أفاق فحمل.انقطع عطاء السليمي قبل موته بثلاثين سنة. قال: وما رأيت عطاء إلا وعيناه تفيضان. قال: وما كنت أشبه عطاء إذا رأيته إلا بالمرأة الثكلى. قال: وكأن عطاء لم يكن من أهل الدنيا.

(1/330)

كان عطاء السليمي لا يكاد يدعو إنما يدعو بعض أصحابه ويؤمن هو، قال: فحبس بعض أصحابه. فقيل له: ألك حاجة? قال: دعوة من عطاء أن يفرج الله عني، قال صالح: فأتيته فقلت: يا أبا محمد أما تحب أن يفرج الله عنك? قال: بلى والله إني لأحب ذلك، قلت: فإن جليسك فلانا قد حبس فادع الله أن يفرج عنه. فرفع يديه وبكى وقال: إلهي قد تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها قاقضها لنا، قال صالح: والله ما برحنا من البيت حتى دخل الرجل.قال صالح المري لعطاء السليمي ما تشتهي? فبكى وقال: أشتهي والله يا أبا بشر أن أكون رمادا لا تجتمع منه سفة أبدا في الدنيا ولا في الآخرة. قال صالح: فأبكاني والله وعلمت أنه إنما أراد النجاة من عسر الحساب.كان عطاء السليمي يقول: رب ارحم في الدنيا عربتي، وفي القبر وحدتي وطول مقامي غدا بين يديك.أدرك عطاء السليمي أيام أنس بن مالك. ولقي الحسن ومالك بن دينار وخلقا ... وشغلته العبادة عن الرواية.لما مات عطاء السليمي حزنت عليه حزنا شديدا فرأيته في منامي فقلت: يا أبا محمد ألست في زمرة الموتى? قال: بلى، قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت? قال: صرت والله إلى خير كثير ورب غفور شكور. قال: فقلت أما والله لقد كنت طويل الحزن في دار الدنيا. فتبسم فقال: أما والله يا أبا بشر لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحا دائما. قلت: ففي أي الدرجات أنت? قال: أنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.أبو جهير مسعود الضريركان أبو جهير رجلا قد انقطع إلى زاوية يتعبد فيها ولم يكن يدخل البصرة إلا يوم الجمعة في وقت الصلاة ثم يرجع من ساعته.

(1/331)

قال فغدوت لموعد مالك إلى الجبان فانتهيت إلى مالك وقد سبقني وإذا معه محمد بن واسع. وإذا ثابت البناني وحبيب فلما رأيتهم قد اجتمعوا قلت: هذا والله يوم سرور. قال: فانطلقنا نريد أبا جهير. قال: فكان مالك إذا مر بموضع نظيف قال: يا ثابت صل ههنا لعله أن يشهد لك غدا. فكان ثابت يصلي، قال: ثم انطلقنا حتى أتينا موضعه فسألنا عنه فقالوا: الآن يخرج إلى الصلاة. فانتظرناه قال: فخرج علينا رجل إن شئت قلت قد نشر من قبره. قال: فوثب رجل فأخذ بيده حتى أقامه عند باب المسجد ثم أمهل يسيرا ثم دخل المسجد فصلى ما شاء ثم أقام الصلاة فصلينا معه. فلما قضى صلاته جلس كهيئة المهموم فتوامر القوم في السلام عليه. فتقدم محمد بن واسع فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت لا أعرف صوتك? قال: أنا من أهل البصرة. قال: ما اسمك يرحمك الله? قال: أنا محمد بن واسع. قال: مرحبا بك وأهلا، أنت الذي يقول هؤلاء القوم - وأومأ بيده إلى البصرة - إنك أفضلهم، لله أنت إن قمت بشكر ذلك. اجلس فجلس، فقام ثابت البناني فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت يرحمك الله? قال: أنا ثابت البناني. قال: مرحبا بك يا ثابت البناني، أنت الذي يزعم أهل هذه القرية أنك من أطولهم صلاة? اجلس فقد كنت أتمناك على ربي.قال: فقام إليه حبيب أبو محمد فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت رحمك الله? قال أنا حبيب أبو محمد. قال: مرحبا بك يا أبا محمد أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل الله شيئا إلا أعطاك فهلا سألته أن يخفي لك ذلك? اجلس يرحمك الله.قال: وأخذ بيده فأجلسه إلى جنبه: قال: فقام إليه مالك بن دينار فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: من أنت يرحمك الله? قال: أنا مالك بن دينار. قال: بخ بخ أبو يحيى، إن كنت كما يقولون، أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك أزهدهم? اجلس فالآن تمت أمنيتي على ربي في عاجل الدنيا.

(1/332)

قال صالح: فمت إليه لأسلم عليه فأقبل علي القوم فقال: انظروا كيف تكونون غدا بين يدي الله في مجمع القيامة. قال: فسلمت عليه فرد علي وقال: من أنت يرحمك الله? قلت أنا صالح المري، قال: أنت الفتى القارئ، أنت أبو بشر? قلت: نعم، قال: اقرأ يا صالح فابتدأت فقرأت فما استتممت الاستعاذة حتى خر مغشيا عليه. ثم أفاق إفاقة فقال عد في قراءتك يا صالح، فعدت فقرأت: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا الفرقان: 23 قال: فصاح صيحة ثم انكب لوجهه وانكشف بعض جسده فجعل يخور كما يخور الثور ثم هدأ فدنونا منه ننظر فإذا هو قد خرجت نفسه كأنه خشبة.قال: فخرجنا فسألنا: هل له أحد? قالوا: عجوز تخدمه تأتيه الأيام فبعثنا إليها فجاءت فقالت: ما له? قرئ عليه القرآن فمات قالت: حق له والله، من ذا الذي قرأ عليه? لعله صالح القارئ? قلنا: نعم وما يدريك من صالح? قالت: لا أعرفه غير أني كثيرا ما كنت أسمعه يقول: إن قرأ علي صالح قتلني. قلنا: فهو الذي قرأ عليه قالت: هو الذي قتل حبيبي فهيأناه ودفناه. رحمه الله.عبد الله بن غالب الحدانيقال عبد الله بن غالب الحداني لما برز للعدو: على ما آسى من الدنيا فوالله ما فيها للبيب جذل، والله لولا محبتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي وافتراش الجبهة لك يا سيدي والمراوحة بين الأعضاء في ظلم الليل رجاء ثوابك وحلول رضوانك لقد كنت متمنيا لفراق الدنيا وأهلها.قال: ثم كسر جفن سيفه ثم تقدم فقاتل حتى قتل، قال: فحمل من المعركة وإن به لرمقا فمات دون العسكر، فلما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك، قال: فرآه رجل من إخوانه في منامه فقال: يا أبا فراس ما صنعت? قال: خير الصنيع قال: إلى ما صرت? قال: إلى الجنة. قال: ثم قال: بحسن اليقين وطول التهجد وظمأ الهواجر. قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك? قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ. قال: قلت أوصني. قال: اكسب لنفسك خيرا لا تخرج عنك الليالي والأيام عطلا.

(1/333)

عن مالك بن دينار قال: نزلت في قبر عبد الله بن غالب فأخذت من ترابه فإذا هو مسك. وقال: فتن الناس به فبعث إلى قبره فسوي.حسان بن أبي سنانخرج حسان إلى العيد فقيل له لما رجع: ما رأينا عيدا أكثر نساء منه. فقال: ما تلقتني امرأة حتى رجعت.خرج حسان يوم العيد فلما رجع قالت له امرأته: كم امرأة حسنة قد نظرت إليها اليوم? فلما أكثرت قال: ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك.كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك. قال: فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه إلا القليل فإذا اشترى ربح ثلاثين ألفا. قال فأتى صاحب السكر فقال: يا هذا إن غلامي كان كتب إلي ولم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك - قال الآخر: قد أعلمتني الآن وطيبته لك. قال: فرجع فلم يحتمل قلبه. قال: فأتاه فقال: يا هذا إني لم آت الأمر من وجهه فأحب أن تسترد هذا البيع. قال: فما زال به حتى رد عليه.لقي حسان بن أبي سنان رجل به رهق وكان مع حسان رجل قال: فسأله حسان مساءلة لطيفة، فقال له الرجل: تساءل هذا مثل هذه المساءلة حتى يظن في نفسه أي شيء? قال: وما يدريك لعله تكون في هذا خصلة يحبها الله وفيك خصلة يبغضها الله عز وجل قال: فقال يا أبا عبد الله وما هذه الخصلة التي فيه يحبها الله عز وجل? وما الخصلة التي في يبغضها الله عز وجل?قال: لعله أن يكون حين رآك حدثته نفسه أنك خير منه ولعلك حين رأيته حدثتك نفسك أنك خير منه.عن جعفر بن سليمان أن رجلا رأى النبي في المنام فقال: لو أن حسانا دعا أن يتحول جبل لحول.جاءت امرأة فسألت حسان بن أبي سنان فقال لشريكه هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى. فذهب شريكه يزن لها درهمين فوزن لها مائتين. فقالوا: يا أبا عبد الله كنت ترضي بهذا كذا وكذا من سائل. فقال: إني ذهبت في شيء لم تذهبوا فيه، إني رأيت بها بقية من الشباب وخشيت أن تحملها الحاجة على بعض ما أكره.

(1/334)

قال مهدي بن ميمون: رأيت حسان بن أبي سنان، أحسبه قال في مرضه، فقيل له: كيف تجدك? قال: بخير عن نجوت من النار. فقيل له: فما تشتهي? قال: ليلة بعيدة ما بين الطرفين أحيي ما بين طرفيها.أبو يحيى الزراد قال: كنت أسمع حسان بن أبي إسحاق يتمثل كثيرا:لا صحة المرء في الدنيا تؤخره ولا يقدم يوما موته الوجعكان حسان بن أبي سنان رجلا من تجار أهل البصرة له شريك بالبصرة وهو مقيم بالأهواز يجهز على شريكه بالبصرة ثم يجتمعان على رأس كل سنة يتحاسبان ثم يقتسمان الربح. فكان يأخذ قوته من ربحه ويتصدق بما بقي، وكان صاحبه يبني الدور ويتخذ الأرضين. قال: فقدم حسان البصرة قدمة ففرق ما أراد أن يفرق فذكر له أهل بيت لم تكن حاجتهم ظهرت. فقال: أما تخبرونا? فاستقرض لهم ثلاث مائة درهم فبعث بها إليهم.موسى بن هلال قال: حدثني رجل كان جليسا لنا وكانت امرأة حسان مولاة له قال: حدثتني امرأة حسان بن أبي سنان قالت: كان يجيء فيدخل معي في فراشي، قالت: ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني قد نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي، قالت: فقلت له يا أبا عبد الله: كم تعذب نفسك? أرفق بنفسك، فقال: اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا.كان حسان يحضر مسجد مالك بن دينار فإذا تكلم مالك بكى حسان حتى يبل ما بين يديه ولا يسمع له صوت.مر حسان بن أبي سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه? ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك? لأعاقبنك بصوم سنة فصامها.كان حسان يفتح باب حانوتة فيضع الدواة وينشر حسابه، ويرخي ستره، ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان في الحساب.كان حسان بن أبي سنان يقول: لولا المساكين ما اتجرت.

(1/335)

يحيى بن سطام الأصفر التميمي - وكان جارا لحسان بن أبي سنان قال: وكان حسان يصوم الدهر، ويفطر على قرص ويتسحر بآخر، فنحل وسقم جسمه جدا حتى صار كهيئة الخيال. فلما مات فأدخل مغتسله ليغسل، كشف الثوب عنه فإذا هو كهيئة الخيط الأسود قال: وأصحابه حوله يبكون.قال حريث: فحدثني يحيى بن مسلم البكاء وإبراهيم بن محمد القيسي قال: لما نظرنا إلى حسان وما قد أبلاه الدؤوب أكبرنا ذلك جدا واستدمع أهل البيت وعلت أصواتهم. ثم هدؤوا. فإنا لكذلك إذ سمعنا قائلا يقول من ناحية البيت: تجوع للإله لكي يراه نحيل الجسم من طول الصيامقال: فوالله ما رأيناه في البيت إلا باكيا. قال حريث: كانوا يرون أن بعض الجن بكاه.شميط بن عجلانقال عبيد الله بن شميط سمعت أبي يقول: بادروا بالصحة السقم وبالفراغ الشغل، وبادروا بالحياة الموت. وسمعته يقول لي: بئس العبد عبد خلق للعاقبة فصدته العاجلة عن العاقبة فزالت عنه العاجلة وشقي في العاقبة وسمعته يقول: أعطيت ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك? لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع، كيف يعمل للآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته? العجب العجب كل العجب لمصدق بدار الحق وهو يسعى لدار الغرور.وسمعته يقول: إن الله عز وجل جعل قوة المؤمن في قلبه ولم يجعلها في أعضائه. ألا ترون أن الشيخ يكون ضعيفا يصوم الهواجر ويقوم الليل والشاب يعجز عن ذلك.وسمعته يقول: يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره وحملها على رأسه فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا لو ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا. فرغبوا في الدنيا وجمعوها.وسمعته يقول: من رضي بالفسق فهو من أهله، ومن رضي أن يعصى الله عز وجل لم يرفع له عمل.

(1/336)

قالت امرأة شميط: يا أبا همام إنا نعمل الشيء فيبرد فنشتهي أن تأكل منه معنا فلا تجيء حتى يفسد ويبرد. فقال: والله إن أبغض ساعاتي إلي الساعة التي آكل فيها.قال شميط رأس مال المؤمن دينه حيثما زال معه لا يخلفه في الرجال ولا يأمن عليه الرجال.قال شميط: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها.قال شميط بن عجلان: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس المطيعين به.و كان يقول في مواعظه: إذا أصبحت آمنا في سربك معافى في بدنك، عندك قوت يومك فعلى الدنيا العفاء وعلى من يحزن عليها، إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي ثلاثة أيام فقد مضى أمس بما فيه وغدا أمل لعلك لا تدركيه، إنما هو يومك هذا فإن كنت من أهل غد برزق غد إن دون غد يوما وليلة تخترم فيه أنفس كثيرة فلعلك المخترم فيه. كفى كل يوم همه ثم حملت على قلبك الضعيف هم السنين والدهور والأزمنة وهم الغلاء والرخص وهم الشتاء قبل أن تجيء وهم الصيف قبل أن يجيء، فماذا أبقيت من قلبك الضعيف للآخرة? ما تطلب الجنة بهذا، متى تهرب من النار? كل يوم ينقص من أجلك ثم لا تحزن. أعطيت ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك، لا بقليل تقنع ولا من كثير تشبع، فكيف لا يستبين للعالم جهله، وقد عجز عن شكر ما هو فيه، وهو مفتن في طلب الزيادة? أم كيف يعمل للآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع عنها رغبته فالعجب كل العجب لمن صدق بدار الحيوان كيف يسعى لدار الغرور.وكان يقول: إن أولياء الله آثروا رضا ربهم تعالى على هوى أنفسه، فأرغموا أنفسهم كثيرا في رضا ربهم فأفلحوا والله وأنجحوا، وإن المنافق عبد هواه وعبد بطنه وعبد فرجه وعبد جلده، عبد الدنيا وعبد أهل الدنيا.

(1/337)

وكان يقول: الناس رجلان، فمتزود من الدنيا ومتنعم فيها فانظر أي الرجلين أنت. إني أراك تحب طول البقاء في الدنيا فلأي شيء تحبه? أن تطيع الله عز وجل وتحسن عبادته وتتقرب إليه بالأعمال الصالحة? فطوبى لك، أم لتأكل وتشرب وتلهو تلعب وتجمع الدنيا وتثمرها وتنعم زوجتك وولدك? فلبئس ما أردت له البقاء.وكان يقول إذا وصف المؤمنين: أتاهم عن الله تبارك وتعالى أمر وقذهم عن الباطل فأسهروا الأعين وأجاعوا البطون وأظمأوا الأكباد وأنفقوا الأموال واهتضموا التالد والطارف في طلب ما يقربهم إلى الله عز وجل وفي طلب النجاة مما خوفهم به.وكان يقول: إن المؤمن اتخذ كتاب الله عز وجل مرآة فمرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المؤمنين، ومرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المغترين، ومرة ينظر إلى الجنة وما وعد الله عز وجل فيها، ومرة ينظر إلى النار وما أعد الله عز وجل فيها. تلقاه حزينا كالسهم المرمى به شوقا إلى ما شوقه الله عز وجل إليه وهربا مما خوفه الله عز وجل منه.وكان يقول: بلغنا أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام، يا داود ألا ترى إلى المنافق كيف يخدعني وأنا أخدعه? يسبحني ويوقر بلسانه وقلبه مني بعيد، يا داود قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا في أضبانهم. ليضعوها ثم ليدعوني أستجب لهم.وكان يقول: اللهم اجعل القليل من الدنيا يكفينا كما يكفي الكثير أهله، اللهم ارفع رغبتنا إليك واقطع رجاءنا ممن سواك، اللهم اجعل طاعتك ألذ عندنا من الطعام عند الجوع، ومن الشراب عند الظمأ، اللهم اجعل غفلة الناس لنا ذكرا ومرح الناس لنا شكرا، اللهم إذا تنعم المتنعمون بالدنيا فاجعلنا نتنعم بذكرك.وكان يقول: بالدراهم والدنانير أزمة المنافقين تقودهم إلى السوءات.

(1/338)

وكان يقول: تلقى أحدهم عنده فضول يغلق بابه دون جاره وذوي رحمه، ثم يخرج على القوم يحدثهم بما أكل وشرب ولعل جاره الفقير وذا رحمه المحتاج يكون في القوم يسمع ما يقول، ويحك ما كفاك أن غلقت بابك دونه فلم تواسه ولم تذكره حتى قعدت فأخبرته بما أكلت وشربت? فإذا أنت قد جمعت إساءة بعد إساءة.وكان يقول: إن المؤمن أبصر الدنيا فأنزلها فإن هي أقبلت عليه قال: لا مرحبا ولا أهلا والله ما أراك جئت بخير وما فيك من خير إلا أن تطلب بك الجنة، ويفتدى بك من النار، فإن هي أدبرت عنه قال: عليك العفاء وعلى من يتبعك، الحمد لله الذي خار لي وصرف عني فتنتك وشغلك.وكان يقول إذا وصف أهل الدنيا: حيارى سكارى فارسهم يركض ركضا وراجلهم يسعى سعيا، لا غنيهم يشبع، ولا فقيرهم يقنع.وكان يقول إذا وصف المقبل على الدنيا: دائب البطنة قليل الفطنة إنما همه بطنه وفرجه وجلده، حتى أصبح فآكل وأشر وألهو وألعب، متى أمسى فأنام، جيفة بالليل بطال بالنهار ويحك ألهذا خلقت? أم بهذا أمرت? أم بهذا تطلب الجنة وتهرب من النار? وكان يقول: إن العافية سترت البر والفاجر، فإذا جاءت البلايا استبان عندها الرجلان فجاءت البلايا إلى المؤمن فأذهبت ماله وخادمه ودابته حتى جاع بعد الشبع ومشى بعد الركوب وخدم نفسه بعد أن كان مخدوما فصبر ورضي بقضاء الله عز وجل، وقال: هذا نظر من الله عز وجل لي، هذا أهون لحسابي غدا. وجاءت البلايا إلى الفاجر فأذهبت ماله وخادمه ودابته فجزع وهلع وقال: والله ما لي بهذا طاقة، والله لقد عودت نفسي عادة ما لي عنها صبر من الحلو والحامض والحار والبارد ولين العيش، فإن هو أصابه من الحلال وإلا طلبه من الحرام والظلم ليعود إليه ذلك العيش.وكان يقول: إنسانان معذبان في الدنيا: غني أعطي دنيا فهو بها مشغول، وفقير زويت عنه فهو يتبعها نفسه فنفسه تقطع عليها حسرات.

(1/339)

وكان يقول: الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا المقرب. ورجل ابتكر عمره بالذنوب وطول الغفلة ثم راجع توبة، فهذا صاحب يمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل فيه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب شمال.و قال :أيها المغتر بطول صحته أما رأيت ميتا قط من غير سقم? أيها المغتر بطول المهلة أما رأيت مأخوذا قط من غير عدة، أبالصحة تغترون? أم بطول العافية تمرحون? أم بالموت تأمنون? أم على ملك تجترئون? إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك ثروة مالك ولا كثرة احتشادك. أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب شديد وغصص وندامة على التفريط? ثم يقول: رحم الله عبدا عمل لساعة الموت. رحم الله عبدا عمل لما بعد الموت، رحم الله عبدا نظر لنفسه قبل نزول الموت.خويل بن محمد الأزديعن الهيثم بن عدي قال: سمعت خويل بن محمد، وكان عابدا يقول: كأن خويلا قد وقف للحساب فقيل له: يا خويل قد عمرناك ستين سنة، فما صنعت فيها فجمع نوم سنة مع قائلة النهار فإذا قطعة من عمري نوم وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل وجمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيه، ثم نظر في صلاتي فإذا صلاتي منقوصة وصوم مخرق. فما هو إلا عفو الله أو الهلكة.من الطبقة الخامسة من أهل البصرةهشام بن أبي عبد اللهكان هشام بن أبي عبد الله قد أظلم بصره من طول البكاء، وكنت تراه ينظر إليك فلا يعرفك إلا أن تكلمه.بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه فكانت مفتوحة وهو لا يكاد يبصر بها.كان هشام إذا فقد السراج من بيته تململ على فراشه. وكانت امرأته تأتيه بالسراج فقالت له في ذلك فقال: إذا فقدت السراج ذكرت ظلمة القبر.شعبة بن الحجاج بن وردقال أبو بحر البكراوي ما رأيت أعبد من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه ليس بينهما لحم.كان شعبة يصوم الدهر كله لا يرى عليه. وكان سفيان الثوري يصوم ثلاثة من الشهر ترى عليه.

(1/340)

أبو قطن قال: ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه قد نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه قد نسي.قال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة قط إلا رأيته يصليز سليمان بن حرب قال: لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تساوي عشرة دراهم: إزاره وقميصه ورداءه، وكان كثير الصدقة.قال أبو قطن: كانت ثياب شعبة لونها لون التراب، وكان كثير الصلاة، كثير الصيام سخي النفس.أبو حميد عبد الله بن محمد المصيصي قال: سمعت حجاجا يقول: ركب شعبة حمارا له فلقيه سليمان بن المغيرة فشكا إليه شعبة، والله ما أملك إلا هذا الحمار. ثم نزل عنه ودفعه إليه.قال قراد أبو نوح: رأى شعبة علي قميصا فقال: بكم أخذت هذا? قلت بثمانية دراهم. قال لي: ألا اشتريت قميصا بأربعة دراهم وتصدقت بأربعة? ... 0صالح بن بشير أبو بشر المرئيقال عبد الرحمن بن مهدي: كنت أذكر صالحا المري لسفيان فيقول القصص القصص، كأنه يكرهه. فكان إذا كانت له حاجة بكر فيها. فبكر يوما وبكرت معه فجعلت طريقنا على مسجد صالح المري فقلت: يا أبا عبد الله ندخل فنصلي في هذا المسجد. فدخل فصلينا وكان يوم مجلس صالح، فلما صلوا ازدحم الناس فبقينا لا نقدر أن نقوم، وتكلم صالح فرأيت سفيان يبكي بكاء شديدا، فلما فرغ وقام قلت له: يا أبا عبد الله كيف رأيت هذا الرجل? فقال: ليس هذا بقاص هذا نذير قوم.عفان بن مسلم قال: كنا نأتي مجلس صالح المري نحضره وهو يقص، وكان إذا أخذ في قصصه كأنه رجل مذعور يفزعك أمره، من حزنه وكثرة بكائه كأنه ثكلى، وكان شديد الخوف من الله كثير البكاء.أحمد بن إسحاق الحضرمي قال: سمعت صالحا المري يقول: للبكاء دواع: الفكرة في الذنوب فإن أجابت على تلك القلوب وإلا نقلتها إلى الموقف وتلك الشدائد والأهوال، فإن أجابت على ذلك وإلا فاعرض عليها التقلب في أطباق النيران. قال: ثم صاح وغشي عليه وتصايح الناس من نواحي المسجد.

(1/341)

قال الأصمعي: شهدت صالحا المري عزى رجلا على ابنه فقال: لئن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة في نفسك فمصيبتك بابنك جلل في مصيبتك في نفسك، فإياها فابك.الربيع بن عبد الرحمنقال الربيع بن برة: ابن آدم إنما أنت جثة منتنة طيب نسيمك ما ركب فيك من روح الحياة فلو قد نزع منك روحك ألقيت جثة ملقاة وجيفة منتنة وجسدا خاويا. قد جيف بعد طيب رائحة واستوحش منه بعد الأنس بقربه أي الخليفة منك أعجب إذ كنت تعلم أن هذا مصيرك وأن التراب مقيلك ثم أنت بعد هذا الطول جهلك تقر بالدنياعينا. أسمعته يقول فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور سورة سبأ آية 19، أما والله ما حداك على الصبر والشكر إلا لعظم ثوابهما عنده لأوليائه فمن أعظم منك غفلة أو من أطول في القيامة منك حسرة إذ كنت ترغب عما رغب لك فيه مولاك وأنت تقرأ في الليل والنهار نعم المولى ونعم النصير الأنفال آية 40.قال الربيع بن برة: عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمر حق تراه عيونهم وتشهد عليه معاقد قلوبهم إيمانا وتصديقا بما جاء به المرسلون? ثم ها هم في غفلة عنه سكارى يلعبون. ثم يقول: وأيم الله ما تلك الغفلة إلا رحمة من الله لهم ونعمة من الله عليهم. ولولا ذلك لألفي المؤمنون طائشة عقولهم طائرة أفئدتهم منخلقة علوبهم لا ينتفعون مع ذكر الموت بعيش أبدا.داود بن المحبر عن أبيه قال: مر بنا الربيع بن برة ونحن نسوي نعشا لميت فقال: من هذا الغريب الذي بين أظهركم? قلنا ليس بغريب بل هو قريب حبيب. قال: فبكى وقال: من أغرب من الميت بين الأحياء? قال: فبكى القوم جميعا.قال الربيع بن عبد الرحمن: رضيت لنفسك، وأنت الحول القلب، أن تعيش عيش البهائم، نهارك هائم وليلك نائم والأمر أمامك جد.

(1/342)

كان الربيع بن برة يقول: نصب المتقون الوعيد من الله أمامهم فنظرت إليه قلوبهم بتصديق وتحقيق فهم والله في الدنيا منغصون، ووقفوا ثواب الأعمال الصالحة خلف ذلك فمتى سمت أبصار القلوب إلى ثواب الأعمال تشوقت القلوب وارتاحت إلى حلول ذلك، فهم والله إلى الآخرة متطلعون بين وعيد هائل ووعد حق صادق لا ينفكون من خوف وعيد إلا رجعوا إلى شوق موعود. فهم كذلك وعلى ذلك في الموت جعلت لهم الراحة. ثم بكى.عاصم الخلقاني قال: قال الربيع بن عبد الرحمن: إن لله عبادا أخمصوا له البطون عن مطاعم الحرام، وغضوا له الجفون عن مناظر الآثام، وأهملوا له العيون لما اختلط عليهم الظلام رجاء أن ينير لهم قلوبهم إذا تضمنتهم الأرض بين أطباقها، فهم في الدنيا مكتئبون وإلى الآخرة متطلعون، نفذت أبصار قلوبهم بالغيب إلى الملكوت فرأت فيه ما رجت من عظيم ثواب الله فازدادوا لله بذلك جدا واجتهادا عند معاينة أبصار قلوبهم ما انطوت عليه آمالهم فهم الذين لا راحة لهم في الدنيا وهم الذين تقر أعينهم غدا بطلعة ملك الموت عليهم. قال: ثم يبكي حتى يبل لحيته بالدموع.محمد بن سلام الجمحي قال: سمعت الربيع بن عبد الرحمن يقول في كلامه: قطعتنا غفلة الآمال عن مبادرة الآجال فنحن في الدنيا حيارى لا ننتبه من رقدة إلا أعقبتنا في أثرها غفلة، فيا إخوتاه نشدتكم بالله هل تعلمون مؤمنا بالله أغر ولنقمته أقل حذرا من قوم هجمت بهم العبر على مصارع النادمين فطاشت عقولهم وضلت حلومهم مما رأوا العبر والأمثال، ثم رجعوا عن ذلك إلى غير قلعة ولا نقلة? فبالله لتبلغن من طاعة الله ورضاه أو لتنكرن به ماتعرفون من حسن بلائه وتواتر نعمائه - إن تحسن أيها المرء يحسن إليك وإن تسيء فعلى نفسك بالعتب فارجع فقد بين وحذر وأعذر فما للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما.الحجاج العابد

(1/343)

محمد بن صالح التميمي قال: قال أبو عبد الله مؤذن مسجد بني جدار: جاورني شاب فكنت إذا أذنت للصلاة وأقمت كأنه في نقرة قفاي. فإذا صليت صلى ثم لبس نعليه فدخل منزله. فكنت أتمنى أن يكلمني أو يسألني حاجة. فقال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله عندك مصحف تعيرني أقرأ فيه? فأخرجت إليه مصحفا فدفعته إليه فضمه إلى صدره ثم قال: ليكونن اليوم لي ولك شأن. ففقدته ذلك اليوم فلم أره يخرج. فأقمت المغرب فلم يخرج. وأقمت العشاء الآخرة فلم يخرج. فساء ظني فلما صليت العشاء الآخرة جئت إلى الدار التي هو فيها فإذا فيها دلو ومطهرة وإذا على بابه ستر فدفعت الباب فإذا به ميت والمصحف في حجرة. فأخذت المصحف من حجرة واستعنت بقوم على حمله حتى وضعناه على سريره.وبقيت ليلتي أفكر من أكلم حتى أكفنه فأذنت الفجر بوقت ودخلت المسجد لأركع، فإذا بضوء في القبلة فدنوت منه فإذا كفن ملفوف في القبلة فأخذته وحمدت الله عز وجل وأدخلته البيت وخرجت فأقمت الصلاة فلام سلمت إذا عن يميني ثابت البناني ومالك بن دينار وحبيب الفارسي وصالح المري، فقلت لهم يا إخواني ما غدا بكم? قالوا: مات في جوارك الليلة أحد? قلت: مات شاب كان يصلي معي الصلوات. فقالوا لي: أرناه. فلما دخلوا عليه كشف مالك بن دينار الثوب عن وجهه قبل موضع سجوده ثم قال: بأبي أنت يا حجاج إذا عرفت في موضع تحولت منه إلى موضع غيره حتى لا تعرف، خذوا في غسله. وإذا مع كل واحد منهم كفن، فقال كل واحد منهم: أنا أكفنه، فلما طال ذلك منهم قلت لهم: إني فكرت في أمره هذه الليلة فقلت: من أكلم حتى يكفنه. فأتيت المسجد فأذنت ثم دخلت لأركع فإذا كفن ملفوف لا أدري من وضعه? فقالوا: يكفن في ذلك الكفن فكفناه وأخرجناه، فما كدنا نرفع جنازته، من كثرة من حضره من الجمع.ضيغم بن مالكقال ضيغم ليلة: لو أعلم أن رضاه أن أقرض لحمي لدعوت بالمقراض فقرضته.

(1/344)

قال: قال سيار رأيت ضيغما صلى نهاره أجمع وليله حتى بقي راكعا لا يقدر أن يسجد فرأيته رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قرة عيني، ثم خر ساجدا فسمعته يقول وهو ساجد: إلهي كيف عزفت قلوب الخليقة عنك? قال: وربما أصابته الفترة فإذا وجد ذلك اغتسل ثم دخل بيتا فأغلق بابه وقال: إلهي إليك جئت. قال: فيعود إلى ما كان من الركوع والسجود.قال: وسمعت سيار بن حاتم يقولك كان ورد ضيغم كل يوم أربعمائة ركعة.عبيد الله بن عمر قال: أتيت صاحبا لي يقال له عمران بن مسلم فأراني موضعين مبتلين في مسجده أحدهما بحذاء الآخر فقلت: ما هذا? قال: هذا والله من دموع ضيغم البارحة بين المغرب والعشاء وهو راكع.أزهر بن مروان الرقاشي قال: رأيت ضيغما العابد وكنت إذا رأيته رأيت رجلا لا يشبه الناس من الخشوع والضر وطول الحزن.عن سعيد البكاء قال: قال رجل لأم ضيغم: ما أطول حزن ضيغم. فبكت وقالت: لمثل ما ندب إليه فليحزن، ذهب الحسن وأصحابه بالحزن وهل رأيت يا بني محزونا.قال مالك بن ضيغم: قالت أمه، يعني ضيغما، ذات يوم: ضيغم قال: لبيك يا أماه. قالت: كيف فرحك بالقدوم على الله? قال: فحدثني غير واحد من أهله أنه صاح صيحة لم يسمعوه صاح مثلها قط وسقط مغشيا عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت ما نستطيع أن نذكر بين يديك شيئا من أمر ربك.قال: وقالت له يوما: ضيغم قال: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت? قال: نعم يا أماه. قالت: ولم يا بني? قال: رجاء خير ما عند الله قال: فبكت العجوز وبكى فتسامع أهل الدار فجلسوا يبكون لبكائهم.قال: وقالت له يوما آخر: ضيغم قال: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت? قال: لا أماه. قالت: لم يا بني? قال: لكثرة تفريطي وغفلتي عن نفسي، قال: فبكت العجوز وبكى ضيغم واجتمع أهل الدار وجعلوا يبكون، وكانت أمه عربية كأنها من أهل البادية.

(1/345)

قال مالك بن ضيغم: حدثني الحكم بن نوح قال: بكى أبوك ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها سجدة ولم يركع فيها ركعة ونحن معه في البحر، فلما أصبحنا قلنا: يا مالك لقد طالت ليلتك لا مصليا ولا داعيا، قال: فبكى ثم قال: لو يعلم الخلائق ما يستقبلون غدا ما لذوا بعيش أبدا، والله إني لما رأيت الليل وهوله وشدة سواده ذكرت به الموقف وشدة الأمر هناك، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه: و لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا سورة لقمان آية 33 قال: ثم شهق ولم يزل يضطرب ما شاء الله.مالك بن ضيغم قال: حدثتني خالتي حبابة بنت ميمون العتكية قالت: رأيت أباك ضيغما نزل ذات ليلة من فوق البيت بكوز وقد برد له حتى صبه ثم اكتاز من الحب ماء حارا فشرب فقلت له بعد ذلك: بأبي أنت قد رأيت الذي صنعت فمم ذاك? قال: حانت مني مرة نظرة إلى امرأة فجعلت على نفسي أن لا تذوق الماء البارد أيام الدنيا. فقلت: أنغص عليها الحياة.محمد بن مالك بن ضيغم قال: حدثني مولانا أيوب قال: قال لي أبو مالك يوما: يا أبا أيوب احذر نفسك على نفسك فإني رأيت هموم المؤمنين في الدنيا لا تنقضي، وأيم الله لئن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هم الدنيا وشقاء الآخرة. قال قلت: بأبي أنت وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو ينصب لله في دار الدنيا ويدأب? قال: يا أبا أيوب فكيف بالقبول وكيف بالسلامة? ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همته، قد أصلح عمله، يجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه.يحبى بن بسطام قال: قلت لجار ضيغم: هل سمعت أبا مالك يذكر من الشعر شيئا? قال: ما سمعته يذكر إلا بيتا واحدا. قلت: ما هو? قال:قد يخزن الورع التقي لسانه حذر الكلام وإنه لمفوهحماد بن سلمةعبد الرحمن بن مهدي قال: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا.

(1/346)

قال مقاتل بن صالح الخراساني: دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في البيت إلا حصير، وهو جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه، وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ منها، فبينما أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا? فقالت: رسول محمد بن سليمان. قال: قولي له يدخل وحده. فدخل فناوله كتابا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها والسلام .قال: يا صبية هلمي الدواة. ثم قال لي: اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا فإن كانت وقعت مسألة فإتنا واسألنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك، ولا أنصح نفسي والسلام .فبينا أنا عنده دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا? فقالت: محمد بن سليمان. قال: قولي له ليدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا فقال حماد: سمعت ثابتا البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله يقول: إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله عز وجل هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكتنز به الكنوز هاب من كل شيء فقال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه? قال: قال ارددها على من ظلمته بها. قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته. قال: لا حاجة لي فيها ازوها عني زوى الله عنك أوزارك. قال: فتقسمها. قال: فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك.قال موسى بن إسماعيل: لو قلت لكم إني رأيت حماد بن سلمة ضاحكا قط صدقتكم كان مشغولا بنفسه، إما أن يحدث وإما أن يقرأ وإما أن يسبح، وإما أن يصلي. كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.

(1/347)

سوار بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: كنت آتي حماد بن سلمة في سوقه فإذا ربح في ثوب حبة أو حبتين شد جونته فلم يبع شيئا. فكنت أظن أن ذلك يقوته. فإذا وجد قوته لم يزد عليه شيئا.قال يونس بن محمد: مات حماد بن سلمة في المسجد وهو يصلي.قال التميمي: رأيت حماد بن سلمة في النوم فقلت: ما فعل بك ربك? قال: خيرا. قلت: وماذا? قال: قيل لي طال ما كددت نفسك فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين في الدنيا، بخ بخ ماذا أعددت لهم.الحسن بن أبي جعفرقال أبو عمران التمار: غدوت يوما قبل الفجر إلى مسجد الجفري فإذا باب المسجد مغلق وإذا حسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد وجماعة يؤمنون على دعائه وحسن يدعو. قال: فجلست على باب المسجد حتى فرغ من دعائه فقام فأذن وفتح باب المسجد فلم أر في المسجد أحدا، فلما أصبح وتفرق عنه الناس قلت له: يا أبا سعيد إني والله رأيت عجبا. قال: ما رأيت? فأخبرته بالذي رأيت وسمعت. فقال: أولئك جن من أهل نصيبين يجيئون فيشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة ثم ينصرفون.شداد المجذومأصابه الجذام فتقطع فدخل عليه عواده من أصحاب الحسن فقال: كيف تجدك? قال: بخير: أما إنه ما فاتني جزئي بالليل، وقد سقطت وما بي إلا أني لا أقدر أن أحضر صلاة الجماعة.من الطبقة السادسة من أهل البصرةحماد بن زيد بن درهمقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت أحدا أعرف بالسنة من حماد بن زيد.قال يزيد بن زريع يوم مات حماد بن زيد: مات اليوم سيد المسلمين.يزيد بن زريعتنزه يزيد بن زريع عن خمس مائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه.وقال المروزي: وسمعت أمية بن بسطام ابن عم يزيد بن زريع يقول: كان يزيد يعمل الخوص، وكان يكون في هذا البيت، وأشار إلى بيت لطيف في المسجد، وسمعت أبا الخطاب يذكر أن زريعا كان واليا.قال أحمد بن حنبل: يزيد بن زريع كان يعمل الخوص وكان أبوه زريع والي البصرة، ولم يكن يأكل من ماله شيئا وما أتقنه وما أحفظه، صدوق متقن.

(1/348)

يحيى بن سعيد القطانعبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: حدثني يحيى القطان: وما رأت عيناي مثله.كان يحيى يختم القرآن في يوم وليلة ما بين المغرب والعشاء.أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط.قال عمرو بن علي: قلت ليحيى في مرضه الذي مات فيه، يعاقبك الله. فقال: أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.علي بن عبد الله قال: كنا عند يحيى بن سعيد فقال لرجل: اقرأ. فقرأ حم الدخان فلما أخذ في القراءة نظرت إلى يحيى بن سعيد يتغير فلما بلغ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين صعق يحيى وغشي عليه وارتفع صدره من الأرض وتقوص وانقلب فأصاب الباب فقار ظهره وسال الدم وصرخ النساء. فخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا. ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول: إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين الدخان آية 40 قال علي: فما زالت به تلك القرحة حتى مات رحمه الله.قال علي بن المديني: سنح لي ليلة خالد بن الحارث فقلت له: ما فعل بك ربك? قال: غفر لي، إن الأمر شديد. قلت: فما فعل يحيى بن سعيد القطان? قال: نراه كما ترون، الكوكب الدري في أفق السماء.رياح بن عمرو القيسيقال ذو قرابة لرياح: كنت أدخل عليه المسجد وهو يبكي وأدخل عليه البيت وهو يبكي وآتيه في الجبان وهو يبكي، فقلت له يوما: أنت دهرك في مأتم، فبكى ثم قال: يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا.قال معاذ بن عون الضرير: كنت أكون قريبا من الجبان فكان يمر بي رياح القيسي بعد المغرب إذا خلت الطريق فكنت أسمعه وهو يتشنج بالبكاء وهو يقول: إلى كم يا ليل يا نهار تحطان من أجلي وأنا غافل عم يراد بي? إنا لله إن الله. فهو كذلك حتى يغيب عن وجهه.قال رياح القيسي: لي نيف وأرعون ذنبا قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.

(1/349)

قال رياح كما لا تنظر الأبصار إلى شعاع الشمس، كذلك لا تنظر قلوب محبي الدنيا إلى نور الحكمة أبدا.مالك بن ضيغم قال: جاء رياح القيسي يسال عن أبي بعد العصر فقلنا هو نائم. فقال: أنوم في هذه الساعة? أهذا وقت نوم? ثم ولى منصرفا. فأتبعناه رسولا فقلنا: قل له ألا نوقظه لك? قال: فأبطأ علينا الرسول. ثم جاء وقد غربت الشمس فقلنا: أبطأ جدا. فهل قلت له? قال: هو كان أشغل من أن يفهم عني شيئا، أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: قلت: نوم هذه الساعة? أفكان هذا عليك? ينام الرجل متى شاء. وقلت: هذا وقت نوم? وما يدريك أن هذا ليس بوقت نوم? تسألين عما لا يعنيك وتتكلمين بما لا يعنيك، أما إن لله علي عهدا لا أنقضه أبدا. ألا أوسدك الأرض لنوم حولا إلا لمرض حائل أو لذهاب عقل زائل، سوءة لك سوءة لك، أما تستحيين? كم توبخين وعن غيك لا تنتهين.قال وجعل يبكي وهو لا يشعر بمكاني، فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته.قال محمد بن عبد الله: صليت مع رياح القيسي الظهر، فصليت إلى جانبه فجعلت دموعه تقع على البواري مثل الوكف: طق طق. قال وكان رياح ربما أخذ حفنة من تراب ثم يضعها على البوري ويسجد عليها. وربما وجد رياح في بعض السكك، وقد غشي عليه فيحمل إلى أهله مغشيا عليه.كان لرياح القيسي غل من حديد قد اتخذه وكان إذا جنه الليل وضعه في عنقه وجعل يتضرع ويبكي حتى يصبح.قالت مخة وكانت إحدى العوابد قالت: رأيت رياح بن عمرو القيسي ليلة خلف المقام فذهبت فقمت خلفه حتى أزحفت ثم اضطجعت وهو قائم، وأنا أنظر إليه، فقلت بصوت حزين: سبقني العابدون وبقيت وحدي، والهف نفساه، فإذا رياح قد شهق وانكب على وجهه مغشيا عليه. فامتلأ فمه رملا، فما زال كذلك حتى أصبحنا ثم أفاق.

(1/350)

قال الحارث أخذ بيدي رياح فقال: هلم يا أبا محمد حتى نبكي على مر الساعات ونحن على هذه الحال. قال وخرجت معه إلى المقابر، فلما نظر إلى القبور صرخ ثم خر مغشيا عليه، قال: فجلست والله عند رأسه أبكي فأفاق فقال: ما يبكيك? قلت: لما أرى بك. قال: لنفسك فابك. ثم قال: وانفساه، وانفساه، ثم غشي عليه.قال: فرحمته والله مما نزل به فلم أزل عند رأسه حتى أفاق فوثب وهو يقول: تلك إذا كرة خاسرة - تلك إذا كرة خاسرة النازعات آية 12 ومضى على وجهه وأنا أتبعه لا يكلمني حتى انتهى إلى منزله فدخل وأصفق بابه ورجعت إلى أهلي ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى مات.عتبة الغلام وهو عتبة بن أبان بن صمعةبكى عتبة الغلام في مجلس عبد الواحد بن زيد تسع سنين لا يفتر بكاء من حين يبتدئ عبد الواحد في الموعظة إلى أن يقوم لا يكاد يسكت عتبة. فقيل لعبد الواحد إنا لا نفهم كلامك من بكاء عتبة. قال: فأصنع ماذا? يبكي عتبة على نفسه وأنهاه أنا، لبئس واعظ قوم أنا.قال سليم الحنيف: رمقت عتبة ذات ليلة بساحل البحر فما زاد ليلته تلك حتى أصبح على هذه الكلمات وهو قائم يقول: إن تعذبني فإني لك محب وإن ترحمني فإني لك محب، فلم يزل يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.أبو توبة قال: كان عتبة الغلام يأكل خبزا وملحا ويقول: العرس في الدار الأخرى.كان عتبة يعجن دقيقه ويجففه في الشمس ثم يأكله ويقول: كسرة وملح حتى نهنأ في الدار الأخرى الشواء والطعام الطيب.كان عتبة الغلام من نساك أهل البصرة وكان من أصحاب الفلق. وكان قد قوت لنفسه ستين فلقة يتعشى كل ليلة بفلقة ويتسحر بأخرى، وكان يصوم الدهر ويأتي السواحل والجبابين.كان عتبة يجالسنا فقال لنا يوما: إنه لا يعجبني رجل لا يكون في يده حرفة. فقلنا: ما نراك تحترف. فقال: بلى رأس مالي طسوج أشتري به خوصا أعمله وأبيعه بثلاثة طساسيج فطسوج رأس مالي وقيراط خبزي.

(1/351)

قال عتبة لرياح إن كنت كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمت فبئس الناظر لها أنا. يا رياح إن لي موقفا تغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول.كان عتبة الغلام يزورني فربما بات عندي. قال ذات ليلة فبكى من السحر بكاءا شديدا فلما أصبح قلت له: قد فزعت قلبي الليلة ببكائك. فمم ذاك يا أخي? قال: يا عنبسة إني والله ذكرت يوم العرض على الله. ثم مال ليسقط فاحتضنته فجعلت أنظر إلى عينيه تتقلبان قد اشتدت حمرتهما. قال: ثم أزبد وجعل يخور فناديته: عتبة عتبة فأجابني بصوت خفي: قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين.قال: ثم جعل يحشرج بالبكاء ويردد حشرجة الموت ويقول: تراك مولاي تعذب محبيك وأنت الحي الكريم? قال: فلم يزل يرددها حتى والله أبكاني.قال ا بن زيد: ربما سهرت مفكرا في طول حزن عتبة، وقد كلمته ليرفق بنفسه فبكى وقال: إنما أبكي تقصيري.قال مهدي بن ميمون: خرجت في بعض الليالي إلى الجبان فإذا عتبة الغلام، فقال لي جئت? قد دعوت الله أن يجيء بك. قلت: أطعمنا رطبا. قال: فدعا فإذا دوخلة رطب بين أيدينا فأكلنا منه.زيدان قال: قال عتبة الغلام: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.عبد الله بن مبشر قال: دعا عتبة الغلام ربه أن يهب له ثلاث خصال في دار الدنيا: دعا الله أن يمن عليه بصوت حزين، ودمع غزير، وغذاء من غير تكلف. قال: فكان إذا قرأ بكى وأبكى، وكانت دموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب قوته لا يدري من أين يأتيه.قال ابن دعامة رأيت عتبة الغلام إذا استحسن الطير دعاه فيجيء حتى يسقط على فخذه فيمسه ثم يسيبه فيطير.قال عبد الواحد بن زيد: انطلقت أنا وعتبة الغلام في حاجة حتى إذا كنا برحبة القصابين جعلت أنظر إلى عتبة يعرق عرقا شديدا حتى رشح وذلك في يوم شات شديد البرد فقلت: عتبة ترشح عرقا في مثل هذا اليوم الشديد البرد? فسكت ولم يخبرني فقلت: بالذي بيني وبينك، ولم أزل به، فقال: ذكرت ذنبا أذنبته في هذا الموضع.

(1/352)

إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت يوسف بن عطية فقلت له: ما كان لباس عتبة? قال: كان يلبس كساءين يأتزر بواحد ويرتدي بآخر، إذا رأيته قلت بعض الأكرة.قال إبراهيم: كان عتبة عربيا شريفا من عوذ.قال رجل لعبد الواحد تعلم أحدا يمشي في الطريق مشتغلا بنفسه? قال: ما أعرف إلا رجلا واحدا الساعة يدخل عليكم. فدخل عتبة. قال: وطريقه على السوق فقال له: يا عتبة من تلقاك في الطريق? قال: ما رأيت أحدا.قال عبد الواحد: وكان عتبة يسجد السجدة الطويلة على الحصا يوم الجمعة فما أراه يعقل بحره.ركب عتبة في زورق مع قوم فأراد الملاح أن يعدل ببعضهم السفينة فلم يجد أحدا منهم أحقر في عينيه من عتبة: فضرب جنبه فقال: استو فقال عتبة: الحمد لله الذي لم ير فيهم أحقر في عينه مني.كان عتبة يبيت عندي. فقلت له: ما كانت عبادته? قال: كان يستقبل القبلة فلا يزال في فكر وبكاء حتى يصبح، وربما جاءني مساء فيقول: أخرج إلي شربة من ماء وتمرات أفطر عليها فيكون لك مثل أجري.عبد الخالق العبدي قال: كان لعتبة بيت يتعبد فيه فلما خرج إلى الشام أقفله وقال: لا تفتحوه إلى أن يبلغكم موتي، فلما بلغهم قتله فتحوه فأصابوا فيه قبرا محفورا وغلا حديدا.اشتغل عتبة بالعبادة عن الرواية وقتل شهيدا في بعض الغزوات.قال قدامة بن أيوب وكان من أصحاب عتبة،: رأيت عتبة الغلام في المنام فقلت: ما صنع الله بك? قال: يا قدامة دخلت الجنة بتلك الدعوات المكتوبة في بيتك، فلما أصبحت أتيت إلى بيتي فإذا خط عتبة في الحائط مكتوب: يا هادي المضلين وراحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين، ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا مع الأحياء المرزوقين، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين رب العالمين.بشر بن منصور السليمي

(1/353)

قال العباس بن الوليد: أتينا بشر بن منصور بعد العصر فخرج إلينا وكأنه متغير. فقلت له: يا أبا محمد لعلنا شغلناك عن شيء? فرد ردا ضعيفا ثم قال: ما أكتمكم، أو كلمة نحوها، كنت أقرأ في المصحف فشغلتموني. ثم قال: ما أكاد ألقى أحدا فأربح عليه شيئا.كان بشر بن منصور من الذين إذا رؤوا ذكر الله وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة، رجل منبسط ليس بمتماوت ذكي فقيه، وكان بشر رجلا من العرب وعلم بنيه عمل الخوص.قال ابن أخي بشر: ما رأيت عمي بشر بن منصور ما فاتته التكبيرة الأولى قط ولا رأيته قام في مسجدنا سائل قط فلم يعط شيئا إلا أعطاه.قال بشر بن منصور: ما جلست إلى أحد ولا جلس إلي فقمت من عنده أو قام من عندي إلا علمت أني لو لم أقعد إليه أو يقعد إلي كان خيرا لي.قال بشر بن منصور لرجل: أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما يكون، فإن كان شيء، يعني فضيحة في القيامة، كان من يعرفك قليلا.قال بشر بن منصور: إني لأذكر الشيء من أمر الدنيا ألهي به نفسي عن ذكر الآخرة أخاف على عقلي.عن ابن عيينة قال: قال رجل لبشر بن منصور: عظني، قال: عسكر الموتى ينتظرونك.عبيس بن مرحوم قال: حدثتني عبدة بنت أبي شوال قالت: رأيت رابعة في المنام فقلت: ما فعل ضيغم: قالت: يزور الله عز وجل متى شاء. فقلت: ما فعل بشر بن منصور? قالت: بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يأمل.عبد العزيز بن سلمانكان عبد العزيز بن سلمان إذا ذكر القيامة والموت صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الخائفون من جوانب المسجد. قال: وربما رفع الميت والميتان من جوانب مجلسه.قال مسمع: بت أنا وعبد العزيز بن سلمان وكلاب وسلمان الأعرج على ساحل من بعض السواحل فبكى حتى خشيت أن يموت، ثم بكى عبد العزيز لبكائه. ثم بكى سلمان لبكائهما. وبكيت والله لبكائهم لا أدري ما أبكاهم.

(1/354)

فلما كان بعد سألت عبد العزيز فقلت: أبا محمد ما الذين أبكاك ليلتك? قال: إني نظرت والله إلى أمواج البحر تموج فذكرت أطباق النيران وزفراتها فذاك الذي أبكاني. ثم سألت كلابا وسلمان فقالا لي نحوا من ذلك.قال مسمع: ما كان في القوم شر مني، ما كان بكائي إلا لبكائهم رحمة لما يصنعون بأنفسهم.عن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كان أبي إذا قام من الليل ليتهجد سمعت في الدار جلبة شديدة واستسقاء للماء الكثير. قال فنرى أن الجن كانوا يستيقظون للتهجد فيصلون معه.قال محمد بن عبد العزيز سلمان العابد: سمعت دهثما، وكان من العابدين، يقول: اليوم الذي كنت لا آتي فيه عبد العزيز كنت مغبونا فأبطأت عليه ذات يوم ثم أتيته فقال: ما الذي أبطأ بك? قلت: خير. قال: على حال. قلت: شغلنا العيال، كنت ألتمس لهم شيئا. قال: فوجدته لهم? قلت: لا. قال: هلم فلندع، قال: فدعا وأمنت ودعوت وأمن. ثم نهضنا لنقوم فإذا والله الدنانير والدراهم تتناثر في حجورنا. فقال: دونكها ومضى ولم يلتفت إلي.قال: فأخذتها فإذا مائة دينار ومائة درهم. قال محمد: فقلت له: ما صنعت بها? قال: احتبست قوت عيالي جمعة حتى لا يشغلني عن عبادته وشكره وخدمته فكر في شيء من عرض الدنيا، ثم أمضيتها والله في سبيل الله.قال محمد: يحق والله أن يرزقوا بغير حساب.قال عبد العزيز ما للعابدين وما للنوم? لا نوم والله في دار الدنيا إلا نوم غالب. قال: فكان والله لا يكاد ينام إلا مغلوبا.دعا عبد العزيز بن سلمان يوما لمقعد كان في مجلسه وأمن إخوانه، قال: فوالله ما انصرف المقعد إلى أهله إلا ماشيا على رجليه.مطهر السعدي

(1/355)

عبد العزيز بن سلمان العابد، وكان يرى الآيات والأعاجيب، قال: حدثني مطهر السعدي، وكان قد بكى شوقا إلى الله تعالى ستين عاما، قال: أريت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر، حافتاه شجر لؤلؤ وقضبان الذهب، فإذا أنا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد: سبحان المسبح بكل لسان، سبحانه، سبحان الموجود بكل مكان، سبحانه، سبحان الدائم في كل الأزمان، سبحانه.قال: فقلت: من أنتن? فقلن: خلق من خلق الرحمن سبحانه فقلت: ما تصنعن ههنا فقلن:ذرانا إله الناس رب محمد لقوم على الأطراف بالليل قوميناجون رب العالمين إلههم فتسري هموم الدنيا والناس نومقال: فقلت: بخ بخ لهؤلاء، من هؤلاء? لقد أقر الله أعينكم بكن، فقلن: أو ما تعرفهم? قلت: لا والله ما أعرفهم. قلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.كلاب بن جريحكيم بن جعفر قال: كان مسمع يحدثني بحالات كلاب بن جري فأسمع شيئا ما كنت أرى أن يكون في هذه الأمة مثله، من شدة الخوف وطرب الشوق، فقلت له: يا أبا سيار فكيف كان ليله? قال: شهدته ليلة في بعض السواحل وهو يصرخ من أول الليل إلى آخره. فلما كان بعد ذلك قلت له: رحمك الله لقد أويت لك من طول ما كنت فيه ليلتك. قال: فبكى ثم قال: يا أبا سيار فبمن أستغيث إذا? قال: فأبكاني والله.عبد الله بن ثعلبة الحنفيمحمد بن علي الهاشمي قال: قال عبد الله بن ثعلبة الله يحفظك بأحراسه فإذا أصبحت غدوت على معاصيه خلافا له? فإذا أمسيت أعاد حراسه عليك لا يمنعه ما كان منك.يوسف بن أبي عبد الله قال: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول: تضحك? ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار.عن حامد بن عمرو البكراوي قال: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد واحزنا على الحزن. فقال سفيان: هل حزنت قط لعلم الله فيك، فقال عبد الله: آه آه تركتني لا أفرح أبدا.

(1/356)

أبو الحسن البصري قال: أنا أبو عروة، وكان جارا لعبد الله بن ثعلبة الحنفي حتى انمحق خداه من الدموع، وكان يقول:لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيدوما إن تزال دار حي قد أخرجت وبيت لميت بالفناء جديدفهم جيرة الأموات أما مزارهم فدان وأما الملتقى فبعيد ... 0ناشرة بن سعيد الحنفيقال مسمع انطلقت أنا وعبد العزيز بن سلمان إلى ناشرة بن سعيد الحنفي؛ وكان قد بكى حتى أظلمت عيناه، فاستأذنا عليه فأذن لنا فدخلنا فسلم عليه عبد العزيز، فقال له ناشرة: أبو محمد? قال: نعم. قال: ما جاء بك? قال: نبكي معك على ما تقدم من سالف الذنوب. قال: فشهق شهقة خر مغشيا عليه، وجلس عبد العزيز يبكي عند رأسه. قال: وتنادى أهله فجعلوا يبكون حوله وهو صريع بينهم. فلما رأيت البكاء قد كثر انسللت فخرجت.من الطبقة السابعة من أهل البصرةعبد الرحمن بن مهدي يكنى أبا سعيد العنبريكان عبد الرحمن بن مهدي يختم في كل ليلتين، وكان ورده في كل ليلة نصف القرآن.أملي علي عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث حفظا.قال عبد الرحمن بن مهدي: كان يقال إذا لقي الرجل من فوقه في العلم: كان يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه. ولا يكون إماما في العلم في العلم من يحدث بكل ما سمع ولا يكون إماما في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إماما في العلم من يحدث بالشاذ من العلم والحفظ والإتقان.قال عبد الرحمن بن مهدي: لولا أني أكره أن يعصى الله تمنيت أن لا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع في واغتابني، فأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها.

(1/357)

قال عبد الرحمن بن مهدي ، وأراد أن يبيع أرضا له فقال الدلال: أعطيت بالجريب خمسين ومائتي دينار ولكن نظر إلى أرض خراب ونخل بادية العروق، فلولا كانت مسمدة رجوت أن أبيع الجريب بفضل خمسين دينارا وهذا كثير أربعة آلاف دينار? أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب سورة المائدة آية 1 ... لا ولا كذا. أظنه قال: ولا مائة ألف. قال عبد الرحمن بم عمر: وحدثني يحيى بن عبد الرحمن بن مهري أن أباه كان يحيى الليل كله قال عبد الرحمن بن عمر: وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا مالا كثيرا فدخل قلبي من ذلك شيء فتركته لله وخرجت منه فما خرجت من الدنيا حتى رد الله علي ذلك المال عامة إلي وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بنات من بني وزوجت ابنتي من ابنه، ومات أخي فورثه أبي، ومات أبي فورثنه أنا، فرجع ذلك كله إلي وإلى ولدي في الدنيا.عفان بن مسلم أبو عثمان الصفارجمع بين العلم والتقى .....ثقة ثبت، صاحب سنة جعل له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل ولا يقول: عدل ولا غير عدل. فأبى وقال: لا أبطل حقا من الحقوق.قال عفان: دعاني إسحاق بن إبراهيم فقرأ علي الكتاب الذي كتب به المأمون وإذا فيه: امتحن عفان وادعه إلى أن يقول: القرآن كذا وكذا. فإن قال ذلك فأقرأه على أمره وإن لم يجبك فاقطع عنه الذي يجري عليه وكان يجري عليه خمسمائة درهم كل شهر. قال عفان: فقال لي: ما تقول? قرأت قل هو الله أحد سورة الإخلاص آية 1 حتى ختمتها وقلت: مخلوق هذا? فقال: إن أمير المؤمنين يقول إن لم تجبه يقطع عنك ما يجرى عليك فقلت يقول الله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون سورة الذاريات آية 22 فسكت عني، فانصرفت.زهير بن نعيم الباني

(1/358)

قال زهير بن نعيم: عن هذا الأمر لا يتم إلا بشيئين: الصبر واليقين، فإن كان يقين ولم يكن معه صبر لم يتم، وإن كان صبر ولم يكن معه يقين لم يتم، وقد ضرب لهما أبو الدرداء مثلا فقال: مثل اليقين والصبر مثل فدادين يحفران الأرض فإذا جلس واحد جلس الآخر.قال أحمد بن عصام: وسمعت خالي عبد العزيز بن يوسف يقول: أردت الخروج من البصرة فبدأت بيحيى بن سعيد فودعته ثم ودعت عبد الرحمن بن مهدي، ثم ودعت زهيرا فقلت: هل من حاجة? فقال: نعم إلا أنها مهمة. قال: ففرحت. فقال: إتق الله، فوالله لأن يتقيه عبد أحب غلي من أن تتحول هذه السواري كلها ذهبا.قال عبد الرحمن بن عمر: انتهى إلينا يوما رجل من هؤلاء الخبثاء القدرية فقال له: يا أبا عبد الرحمن بلغني انك رجل زنديق. فقال له زهير: أما زنديق فلا، ولكني رجل سوء.قال زهير بن نعيم الباني: لوددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق أطاع الله.قال عبد الله الكرماني: دخلت على زهير بن نعيم الباني وقد سقط من سطح، وقد تهشم وجهه، وهو مكفوف فقلت: يا أبا عبد الرحمن كيف خبرك قال: هو ذا تراني كيف أنا وهي الدنيا فليجهد جهدها.قال: زهير بن نعيم الباني. وقال له رجل: توصي بشيء? قال: نعم إحذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة.أبو عبد الله الحربي الزاهدقال إبراهيم بن شيبة: كنا نتجالس في الجمعة فأتى رجل عليه ثوب واحد ملتحف به فجلس إلينا فألقى مسألة فما زلنا نتكلم في الفقه حتى انصرفنا. ثم جاءنا في الجمعة المقبلة فأحببناه وسألناه عن منزله فقال: أنزل الحربية فسألناه عن كنيته فقال: أبو عبد الله. فرغبنا في مجالسته ورأينا مجلسنا مجلس فقه.

(1/359)

فمكثنا بذلك زمانا ثم انقطع عنا فقال بعضنا لبعض: ما حالنا? قد كان مجلسنا عامرا بأبي عبد الله وقد صار موحشا فوعد بعضنا بعضا إذا أصبحنا أن نأتي الحربية فنسأل عنه. فأتينا الحربية وكنا عددا فجعلنا نستحي أن نسأل عن أبي عبد الله فنظرنا إلى صبيان قد انصرفوا من الكتاب فقلنا: أبو عبد الله. فقالوا: لعلكم تعنون الصياد? قلنا نعم. قالوا هذا وقته الآن يجيء. فقعدنا ننتظره فإذا هو قد أقبل مؤتزرا بخرقة وعلى كتفه خرقة ومعه أطيار مذبحة وأطيار أحياء. فلما رآنا تبسم إلينا وقال:ما جاء بكم? فقلنا: فقدناك وقد كنت غمرت مجلسنا فما غيبك عنا? قال: إذا أصدقكم: كان لنا جار كنت أستعير منه كل يوم ذاك الثوب الذي كنت آتيكم فيه وكان غريبا فخرج إلى وطنه فلم يكن لي ثوب آتيكم فيه هل لكم أن تدخلوا المنزل فتأكلوا مما رزق الله عز وجل? فقال بعضنا لبعض: ادخلوا منزله فجاء إلى الباب فسلم ثم صبر قليلا ثم دخل فأذن لنا فدخلنا فإذا هو قد أتى بقطع من البواري فبسطها لنا فقعدنا فدخل إلى المرأة فسلم إليها الأطيار المذبحة وأخذ الأطيار الأحياء ثم قال: أنا آتيكم إن شاء الله عن قريب فأتى السوق فباعها واشترى خبزا فجاء وقد صنعت المرأة ذلك الطير وهيأته فقدم إلينا خبزا ولحم طير فأكلنا فجعل يقوم فيأتينا بالملح والماء فكلما قام قال بعضنا لبعض: رأيتم مثل هذا? ألا تغيرون أمره وأنتم سادة أهل البصرة? فقال أحدهم: علي خمسمائة. وقال الآخر: علي ثلثمائة. وقال هذا وقال هذا، وضمن بعضهم أن يأخذ له غيره. فبلغ الذي جمعوا في الحساب خمسة آلاف درهم فقالوا: قوموا بنا نذهب فنأتيه بهذا ونسأله أن يغير بعض ما هو فيه فقمنا فانصرفنا على حالنا ركبانا فمررنا بالمربد فإذا محمد بن سليمان أمير البصرة قاعد في منظرة له فقال: يا غلام ائتني بإبراهيم بن شبيب بن شيبة من بين القوم. فجئت فدخلت عليه فسألني عن قصتنا ومن أين أقبلنا فصدقته الحديث. فقال: أنا أسبقكم إلى بره. يا

(1/360)

غلام ائتني ببدرة دراهم فجاء بها فقال: ائتني بغلام فراش فجاء فقال: احمل هذه البدرة مع هذا الرجل حتى تدفعها إلى من أمرنا.ففرحت ثم قمت مسرعا فلما أتيت الباب سلمت فاجابني أبو عبد الله ثم خرج إلي. فلما رأى الفراش والبدرة على عنقه كأني سفيت في وجهه الرماد وأقبل علي بغير الوجه الأول فقال: ما لي ولك يا هذا? أتريد أن تفتنني? فقلت: يا عبد الله اقعد حتى أخبرك أنه من القصة كذا وكذا، وهو الذي تعلم أحد الجبارين، يعني محمد بن سليمان، ولو كان أمري أن أضعها حيث أرى لرجعت إليه فأخبرته إني قد وضعتها. فالله الله في نفسك. فازداد علي غيظا وقام فدخل منزله وأصفق الباب في وجهي، فجعلت أقدم وأؤخر ما أدري ما أقول للأمير. ثم لم أجد بدا من الصدق فجئت فأخبرته الخبر فقال: حروري والله، يا غلام علي بالسيف. فجاء بالسيف فقال له: خذ بيد هذا الغلام حتى يذهب بك إلى هذا الرجل فإذا أخرجه إليك فاضرب عنقه وائتني برأسه.قال إبراهيم: فقلت أصلح الله الأمير، الله الله، فوالله لقد رأينا رجلا ما هو من الخوارج ولكني أذهب فآتيك به وما أريد بذلك إلا افتداء منه. قال فضمننيه فمضيت حتى أتيت الباب فسلمت فإذا المرأة تحن وتبكي، ثم فتحت الباب وتوارت فأذنت لي فدخلت فقالت: ما شأنكم وشأن أبي عبد الله? فقلت: ما حاله? قالت: دخل فمال إلى الركى فنزع منها ماء فتوضأ ثم سمعته يقول: اللهم اقبضني إليك ولا تفتني. ثم تمدد وهو يقول ذلك.فلحقته وقد قضى فهو ذاك ميت. فقلت: يا هذه إن لنا قصة عظيمة فلا تحدثوا فيه شيئا. فجئت محمد بن سليمان وأخبرته الخبر فقال: أنا أركب فأصلي على هذا.قال: وشاع خبره بالبصرة فشهده الأمير وعامة أهل البصرة. رحمة الله عليه.أبوا الحسن البصري

(1/361)

كان أبو الحسن المكي يسف الخوص وكان لا يملك إلا دارا فلما ضعف عن سف الخوص باعها على شرط أن يكريه المشتري إياها وأودع الثمن عند المشتري، وكان يأخذ منه في كل شهر خمسة دراهم لنفقته ويعطي المشتري أجرة الدار. فمات قبل أن ينفذ الثمن، وكانت له جبة صوف بيضاء أقامت معه عشرين سنة شتاء وصيفا ما لبس غيرها، وكانت في نهاية الحسن والنقاء والنظافة والصحة. وكان موته حوالي سنة خمسين وثلثمائة وكانت جنازته عظيمة.ذكر المصطفين من عباد البصرة المجاهيل الأسماءعابدعن الحسن قال: احترقت أخصاص بالبصرة وبقي في وسطها خص لم يحترق وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري. فخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص فأتي به فإذا شيخ فقال: يا شيخ ما بال خصك لم يحترق? قال: إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسى: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون في أمتي رجال طلس رؤوسهم، دنس ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم .عابد آخرقيل للحسن: ههنا رجل لم نره قط جالسا إلى أحد إنما هو أبدا خلف سارية وحده. فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني به. قال فمر به ذات يوم ومعهم الحسن فأشاروا له إليه فقالوا: ذلك الرجل الذي أخبرناك. فقال: امضوا حتى آتيه. فلما جاءه قال: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مخالطة الناس? قال: ما أشغلني عن الناس. قال: فيأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه. قال ما أشغلني عن الحسن وعن الناس. قال: له الحسن: فما الذي شغلك - يرحمك الله - عن الناس وعن الحسن? قال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار للذنب والشكر لله على النعمة. فقال له الحسن: أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن، الزم ما أنت عليه.عابد آخر

(1/362)

عطية بن سليمان قال: صليت الجمعة ثم انصرف فجلست إلى يونس بن عبيد حتى صلينا العصر فقال: هل لكم في جنازة فلان? فمشينا إلى ناحية بني سعد فصلينا على الجنازة ثم قال: هل لكم في فلان العابد نعوده فأتينا رجلا قد وقعت في فيه الخبيثة حتى أبدت عن أضراسه فكان إذا أراد أن يتكلم دعا بعقب من ماء وبقطنة فيبل لسانه حتى يبتل ثم يتكلم بكلمات يحسن فيهن.فلما دخلنا عليه دعا بالقدح ليفعل ما كان يفعل، فبينا هو يبل لسانه سقطت حدقتاه في القدح فأخذهما فمر بهما بيده ثم قال: إني لأجد فيهما دسما وما كنت أظنه بقي فيهما. ثم استقبل القبلة فقال: الحمد لله الذي أعطانيهما وأمتعني بهما شبابي وصحتي حتى إذا أفنيت أيامي وحضر أجلي أخذهما مني ليبدلني بهما إن شاء الله خيرا منهما. فقال له يونس: قد كنا تهيأنا لنعزيك فنحن الآن نهنئك فقال خيرا ودعا. ثم خرجنا من عنده.عابد آخر

(1/363)

كانوا بالبصرة في شدة قحط الناس فيها وغلا سعرهم واحتبس عنهم المطر فخرجوا يستسقون، وخرجت اليهود والنصارى، فاعتزلت اليهود معهم التوراة، واعتزلت النصارى معهم الإنجيل، واعتزل المسلمون، كلهم يدعون وانصرفوا يومهم ذلك. قال: فبينا أنا بعد ذلك أمشي في طريق المريد نظرت فإذا بين يدي فتى عليه أطمار، تقيلة النفس فهو يمشي وأنا خلفه حتى خرج إلى الجبان فدخل بعض تلك المساجد التي بالقرب من المقابر ودخلت خلفه تحول بيني وبينه أركان المسجد فصلى ركعتين ثم رفع يديه يدعو، وقال في دعائه: يا رب استغاث بك عبادك فلم تسقهم، يا رب الآن شمتت بنا اليهود والنصارى، أقسمت عليه يا رب إلا سقيتنا الساعة ولم تردني. قال: فما برح يدعو حتى جاءت السحابة ومطرنا فخرج وخرجت في أثره لأعرف موضعه فجاء إلى دار فيها أخصاص وأكواخ فيها سكان فدخل بيتا منها فعرفت موضعه. فانصرفت عنه وهيأت دراهم في صرة ثم جئت فاستأذنت عليه فدخلت فإذا ليس في البيت إلا قطعة حصير ومطهرة فيها ماء وإذا هو قاعد يعمل الخوص فسلمت فرحب بي وبش فتحدثت ساعة ثم أخرجت الصرة وقلت: رحمك الله انتفع بهذه فتبسم وقال: جزاك الله خيرا أنا في غنى عنها. فألححت عليه فجعل يدعو ويأبى أن يأخذها. فلما أكثرت عليه تنكر لي وقال: حسبك الآن ليس بي إليها حاجة. قال: فأقبلت عليه وقلت: رحمك الله إن لي عليك حقا قال: وما هو رحمك الله? قلت: كنت أسمع دعاءك حين خرجت إلى الجبان. قال: فاصفر وجهه حتى أنكرته وساءه ما قلت له. ثم خرجت من عنده. فلما كان بعد ذلك بأيام أتيته فلما دخلت الدار جعل سكان الدار يصيحون بقيم الدار: هو ذا هو قد جاء. فجاء إلي فتعلق بي وقال: يا عدو نفسه ما صنعت بذاك الفتى الذي جئته اليوم الأول? أي شيء أسمعته? قلت: لا تعجل حتى أخبرك بالحديث، فقال: إنك لما خرجت من عنده قام في الحال فأخذ حصيره ومطهرته وودعنا وخرج ولم يعد إلينا إلى الساعة لا ندري أين توجه?عابد آخر

(1/364)

عن مالك بن دينار قال: احتبس علينا المطر بالبصرة فخرجنا يوما بعد يوم نستسقي فلم نر أثرا لإجابة. فخرجت أنا وعطاء السليمي وثابت البناني ومحمد بن واسع وحبيب الفارسي وصالح المرب وآخرين حتى صرنا إلى المصلى بالبصرة فاستسقينا فلم نر أثرا لإجابة. وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت في المصلى فلما أظلم الليل إذا بأسود دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم ترد عبادك فيما لا ينقصك أنفد ما عندك? أقسمت عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعة الساعة.فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القرب فما خرجنا حتى خضنا الماء. فتعجبنا من الأسود فتعرضت له فقلت: أما تستحيي ما قلت? قال: وما قلت? قلت قولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك? قال: تنح عن همتي يا من اشتغل عنه بنفسه أين كنت أنا حين خصني بتوحيده ومعرفته? أتراه بدأني بذلك إلا لمحبته لي? ثم بادر يسعى. فقلت: ارفق بنا. قال: أنا مملوك علي فرض من طاعة مالكي الصغير. فدخل دار نحاس فلما أصبحنا أتيت النحاس فقلت له: عندك غلام تبيعنيه للخدمة? قال: نعم عندي مائة غلام فجعل يخرج إلى واحدا بعد واحد وأنا أقول غير هذا. إلى أن قال: ما بقي عندي أحد فلما خرجنا إذا الأسود قائم في حجرة خربة فقلت: يعني هذا. قال: هذا غلام مشؤوم لا همة له إلا بالبكاء فقلت: ولذلك أريده فدعاه وقال لي: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه. فاشتريته بعشرين دينارا. فلما خرجنا قال: يا مولاي لماذا اشتريتني? قلت: لنخدمك نحن. قال: ولم ذاك? قلت: أليس أنت صاحبنا البارحة في المصلى? قال: وقد اطلعت على ذلك فجعل يمشي حتى دخل مسجدا فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي سر كان بيني وبينك أظهرته للمخلوقين، أقسمت عليك إلا قبضت روحي الساعة. فإذا هو ميت .....عابد آخر

(1/365)

قال حصين الوزان: كنا عند عبد الواحد وهو يعظ فناداه رجل من ناحية المسجد كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي فلم يلتفت عبد الواحد ومر في الموعظة. فلم يزل الرجل يقول: كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي وعبد الواحد يعظ ولا يقطع وموعظته حتى والله حشرج الرجل حشرجة الموت، ثم خرجت نفسه.قال: فأنا والله شهدت جنازته يومئذ فما رأيت بالبصرة يوما أكثر باكيا من يومئذ.عابد آخرعن يزيد الرقاشي قال: دخلت على عابد بالبصرة وإذا أهل بيته حوله فإذا هو مجهود قد أجهده الاجتهاد. قال: فبكى أبوه فنظر إليه ثم قال: أيها الشيخ، ما الذي يبكيك? قال: يا بني أبكي فقدك وما أرى من جهدك. قال: فبكت أمه. فقال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك? قال: يا بني أبكي فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.قال: فبكى أهله وصبيانه. فنظر إليهم ثم قال: يا معشر اليتامى بعد قليل، ما الذي يبكيكم? قالوا: يا أبانا نبكي فراقك وما نتعجل من اليتم بعدك. قال: فقال: أقعدوني أقعدوني ألا أرى كلكم يبكي لدنياي أما فيكم من يبكي لآخرتي? أما فيكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي? أما فيكم من يبكي لمساءلة منكر ونكير وإياي? أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي? قال: ثم صرخ صرخة فمات.عابد آخرقال عبد الواحد: خرجت إلى ناحية الحربية فإذا إنسان أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام وعمي وأقعد وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه. فرأيته يحرك شفتيه فدنوت منه لأسمع ما يقول فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض ونشرت عظامي بالمناشير ما ازددت لك إلا حبا فاصنع بي ما شئت.عابد آخرفضيل أبو حاتم قال: لما كان حريق عرماز، كان رجل في خص له يسف خوصا، والنار قد أحدقت به فلم يضره. فقيل له في ذلك فقال: إني عزمت على رب النار أن لا يحرقني بالنار. قيل له فاعزم عليه أن يطفئها. قال: ففعل. فلم تلبث النار أن طفئت.عباد سبعة

(1/366)

عن صالح المري قال: قدم علينا ابن السماك مرة فقال لي: أرني بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فدخلنا، فإذا رجل يعمل خوصا له فقرأت إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون سورة غافر آية 71 فشهق الرجل فإذا هو قد يبس مغشيا عليه. فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فاستأذنا عليه فقال: ادخلوا إن لم تشغلونها عن ربنا. فدخلنا فإذا رجل جالس في مصلى له فقرأت ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد سورة إبراهيم آية 14 فشهق شهقة بدر الدم من منخريه ثم جعل يتشحط في دمه حتى يبس.فخرجنا من عنده وتركناه على حاله، حتى أدرته على ستة أنفس، كل نخرج من عنده وهو على هذه الحالة.ثم أتيت به السابع فاستأذنت فإذا امرأة له من وراء الخص تقول: ادخلوا. فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاة مسلمنا فلم يعقل سلامنا. فقلت بصوت عال: إن للخلق غدا مقاما. فقال الشيخ بين يدي من ويحك? ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره يصيح بصوت له ضعيف حتى انقطع. فقالت امرأته: اخرجوا عنه فإنكم ليس تنتفعون به الساعة.فلما كان بعد ذلك سألت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله عز وجل، وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي فرضا فلما كان بعد ثالثة عقل.عابدانقال ابن سماك: دخلت البصرة فقلت لرجل كنت أعرفه دلني على عبادكم. فأدخلني على رجل عليه لباس الشعر، طويل الصمت لا يرفع رأسه إلى أحد. قال فجعلت أستنطقه الكلام فلا يكلمني. فخرجت من عنده فقال لي صاحبي: ههنا ابن عجوز هل لك فيه? قال: فدخلنا عليه فقالت العجوز: لا تذكروا لابني شيئا من ذكر جنة ولا نار فتقتلوه علي فإنه ليس لي غيره.

(1/367)

قال: فدخلنا على شاب عليه من اللباس نحو مما على صاحبه منكس الرأس طويل الصمت فرفع رأسه فنظر إلينا ثم قال: أما إن للناس موقفا لا بد أن يقفوه قال: فقلت بين يدي من رحمك الله? قال: فشهق شهقة فمات.قال ابن السماك فجاءت العجوز فقالت: قتلتم ولدي. قال: فكنت فيمن صلى عليه.ذكر المصطفيات من عابدات البصرةمعاذة بنت عبد الله العدوية وتكنى أم الصهباءكانت معاذة العدوية إذا جاء النهار قالت: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تنام حتى تمسي وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وإذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم.قالت امرأة كانت تخدم معاذة قالت: كانت تحيي الليل صلاة فإذا غلبها النوم قامت فجالت في الدار وهي تقول: يا نفس، النوم أمامك لو قدمت لطالت رقدتك في القبر على حسرة أو سرور. قالت: فهي كذلك حتى تصبح.كانت معاذة العدوية تصلي في كل يوم وليلة ستمائة ركعة وتقرأ جزءها من الليل تقوم به. وكانت تقول عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور.قال أبو السور العدوي: بنو عدي أشد أهل هذه البلدة اجتهادا، هذا أبو الصهباء لا ينام ليله ولا يفطر نهاره، وهذه امرأته معاذة ابنة عبد الله لم ترفع رأسها إلى السماء أربعين عاما.عن زهير السلولي، عن رجل من بني عدي، عن امرأة منهم أرضعتها معاذة ابنة عبد الله قالت: قالت لي معاذة: يا بنية كوني من لقاء الله عز وجل على حذر ورجاء، وإني رأيت الراجي له محقوقا بحسن الزلفى لديه يوم يلقاه، ورأيت الخائف له مؤملا للأمان يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم بكت حتى غلبها البكاء.

(1/368)

كان صلة بن أشيم في مغزى له ومعه ابن له، فقال: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فحمل فقاتل حتى قتل ثم تقدم فقتل فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: مرحبا، إن كنتن جئتن لتهنئتي، فمرحبا بكن وإن كنتن جئتن بغير ذلك فارجعن. قال الحسن أن معاذة لم توسد فراشا بعد أبي الصهباء حتى ماتت.عمران بن خالد قال: حدثتني أم الأسود بنت زيد العدوية وكانت معاذة قد أرضعتها قالت: قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها والله يا بنية ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيش ولا لروح نسيم، ولكن والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.قال عفيرة العابدة: بلغني أن معاذة العدوية لما احتضرها الموت بكت ثم ضحكت. فقيل لها: مم بكيت ثم ضحكت فمم البكاء ومم الضحك? قالت: أما البكاء الذي رأيتم فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر فكان البكاء لذلك، وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضراوان وهو في نفر والله ما رأيت لهم في الدنيا شبها فضحكت إليه ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضا.قال فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة.حفصة بنت سيرينقال عاصم: كنا ندخل على حفصة وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال الله والقواعد من النساء اللائي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة سورة النور آية 60 وهو الجلباب. قال فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك? فنقول: وأن يستعففن خير لهن فتقول هو إثبات الجلباب.كانت حفصة تقول لنا: يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.قال: قرأت القرآن وهي ابنة اثنتي عشرة سنة وماتت وهي ابنة تسعين.

(1/369)

كانت حفصة تدخل في مسجدها فتصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ثم لا تزال فيه حتى يرتفع النهار وتركع ثم تخرج فيكون عند ذلك وضوءها ونومها، حتى إذا حضرت الصلاة عادت إلى مسجدها إلى مثلها.مكثت حفصة في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة أو لقائلة.عن هشام أن ابن سيرين كان إذا أشكل عليه شيء من القراءة قال: اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ.كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب. فيفلقه قالت حفصة: وكنت أجد قرة فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذاك القصب المفلق وقودا لا يؤذي دخانه ويدفئني. نمكث بذلك ما شاء الله. قالت: وعند من يكفيه لو أراد ذلك.قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.قالت حفصة: فلما مات رزق الله عليه من الصبر ما شاء أن يرزق غير أني كنت أجد غصة لا تذهب، قالت: فبينا أنا ذات ليلة أقرأ سورة النحل إذ أتيت على هذه الآية ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون سورة النحل آية 95 و96 قالت: فأعدتها فأذهب الله ما كنت أجد.قال هشام: وكانت له لقحة. قالت حفصة: كان يبعث إلى بحلبة بالغداة فأقول: يا بني إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة. فيقول: يا أم الهذيل إن أطيب اللبن ما بات في ضروع الإبل، اسقيه من شئت.اشترت حفصة جارية أظنها سندية فقيل لها: كيف رأيت مولاتك? فذكر إبراهيم كلاما بالفارسية تفسيره أنها امرأة صالحة إلا أنها أذنبت ذنبا عظيما فهي الليل كله تبكي وتصلي.عن حفصة أنها كانت تقرأ نصف القرآن في كل ليلة وكانت تصوم الدهر وتفطر العيدين وأيام التشريق.عن هشام بن حسان قال: قد رأيت الحسن وابن سيرين وما رأيت أحدا أرى أنه أعقل من حفصة.

(1/370)

عن هشام عن حفصة قال: كان لها كفن معد فإذا حجت وأحرمت لبسته وكانت إذا كانت العشر الأواخر من رمضان قامت من الليل فلبسته.عن هشام قال: حدثتني أم سليم بنت سيرين قالت: ربما نور لحفصة بنت سيرين بيتها.كانت حفصة تسرج سراجها من الليل ثم تقوم في مصلاها فربما طفئ السراج فيضيء لها البيت حتى تصبح.كريمة بنت سيرين، أخت حفصةمكثت كريمة بنت سيرين أخت حفصة بنت سيرين خمس عشرة سنة ما تخرج من مصلاها إلا لقضاء حاجة.منيبة البصرية وابنتهاكانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها. فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على حداثتها.فبينا الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت فوثب الحسن فدخل عليها فلما نظرت الجارية إليه بكت. فقال لها يا حبيبتي ما يبكيك? قالت له: يا أبا سعيد التراب يحثى على شبابي ولم أشبع من طاعة ربي يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لا بنتي قبرا واسعا وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، كيف أنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود?رابعة العدويةقال عبد الله بن عيسى: دخلت على رابعة العدوية بيتها فرأيت على وجهها النور وكانت كثيرة البكاء فقرأ رجل عندها آية من القرآن فيها ذكر النار فصاحت ثم سقطت.ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء فجعلت أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوكف، ثم اضطربت وصاحت فقمنا وخرجنا.

(1/371)

مسمع بن عاصم ورياح القيسي قالا: شهدنا رابعة وقد أتاها رجل بأربعين دينارا فقال لها: تستعينين بها على بعض حوائجك. فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء فقال: هو يعلم أني أستحيي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن آخذها ممن لا يملكها? محمد بن عمرو قال: دخلت على رابعة وكانت عجوزا كبيرة بنت ثمانين سنة كأنه الشن تكاد تسقط ورأيت في بيتها كراخة بواري ومشجب قصب فارسي طوله من الأرض قدر ذراعين، وستر البيت جلد وربما كان بوريا، وحب وكو ولبد هو فراشها وهو مصلاها. وكان لها مشجب من قصب عليه أكفانها وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة وإذا مرت بقوم عرفوا فيها العبادة.وقال لها رجل: ادعي، فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله? أطع ربك وادعه فإنه يجيب المضطرين.سجف بن منظور قال: دخلت على رابعة وهي ساجدة فلما أحست بمكاني رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها. فسلمت فأقبلت علي فقالت: يا بني ألك حاجة? فقلت: جئت لأسلم عليك، قال: فبكت وقالت: سترك اللهم سترك ودعت بدعوات ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت.العباس بن الوليد قال: قالت رابعة: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي، أستغفر الله.دخل على رابعة القيسي، وصالح وكلاب، فتذاكروا الدنيا فأقبلوا يذمونها فقالت رابعة: إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم. قالوا: ومن أين توهمت علينا? قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه.قيل لرابعة: هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك? قالت: إن كان فمخافتي أن يرد علي.

(1/372)

قال جعفر: أخذ بيدي سفيان الثوري وقال: مر بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها. فلما دخلنا عليها رفع سفيان يده وقال: اللهم إني أسألك السلامة فبكت رابعة. فقال لها: ما يبكيك? قالت: أنت عرضتني للبكاء. فقال: وكيف? قالت: أما علمت أن السلامة من الدنيا ترك ما فيها فكيف وأنت متلطخ بها? وقال الثوري بين يدي رابعة: واحزناه، فقالت: لا تكذب. قل: واقلة حزناه، لو كنت محزونا ما هناك العيش.قالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم، فاعمل.قالت عبدة بنت أبي شوال، وكانت تخدم رابعة. قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين? وإلى كم تقومين? يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.قالت: فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت. فلما حضرتها الوفاة دعتني قالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحدا وكفنيني في جبتي هذه، جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.

(1/373)

قالت: فكفناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه. قالت عبدة: رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة إستبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم أر شيئا قط أحسن منه. فقلت: يا رابعة: ما فعلت الجبة التي كفناك فيها والخمار الصوف? قالت: إنه والله نزع عني وأبدلت به هذا الذي ترينه علي. وطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين لكيل لي بها ثوابها يوم القيامة. قالت: فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا? قالت: وما هذا من كرامة الله عز وجل لأوليائه. قالت فقلت: فما فعلت عبدة بنت أبي كلاب? فقالت: هيهات هيهات، سبقتنا والله إلى الدرجات العلى. قالت قلت: وبم وقد كنت عند الناس? أي أكثر منها. قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حالة أصبحت من الدنيا وأمست. قالت: فقلت: فما فعل أبو مالك? تعني ضبغما. قالت: يزور الله متى شاء. قالت قلت: فما فعل بشر بن منصور? قالت: بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يأمل.قالت قلت: فمريني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل. قالت عليك بكثرة ذكره، أوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك.عجردة العميةكانت تحيي الليل صلاة ..... تقوم من أول الليل إلى السحر فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي بتبكير الدلج إلى ظلم الأسحار يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك إلهي لا بغيرك أسألك أن تجعلني في أول زمرة السابقين إليك، وأن ترفعني إليك في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء، وأعظم العظماء، يا كريم. ثم تخر ساجدة فلا تزال تبكي وتدعو في سجودها حتى يطلع الفجر فكان ذلك دأبها ثلاثين سنة.كانت عجردة العمية تغشانا فتظل عندنا اليوم واليومين. قالت: فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر.

(1/374)

قالت: فقلت لها، أو قال لها بعض أهل الدار: لو نمت من الليل شيئا. فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام.عجردة العمية في يوم عيد عليها جبة صوف، وقناع صوف، وكساء صوف. قالت: فنظرت فإذا هي جلد وعظم. و يذكرون عنها أنها لم تفطر ستين عاما.حبيبة العدويةكانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح فشدت عليها درعها وخمارها. فقالت: إلهي غارت النجوم، ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها، وبابك مفتوح، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.فإذا كان السحر قالت: اللهم وهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري هل قبلت مني ليلتي فأهنى أم رددتها علي فأعزى، فوعزتك لهذا دأبي ودأبك أبدا ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني ما برحت من بابك ولا وقع في قلبي غير جودك وكرمك.أم الأسود بنت زيد العدويةكانت معاذة العدوية أرضعت أم الأسود. وقالت أم الأسود: قالت لي معاذة العدوية: لا تفسدي رضاعي بأكل الحرام، فإني جهدت جهدي حين أرضعتك حتى أكلت الحلال فاجتهدي أن لا تأكلي إلا حلالا لعلك أن توفقي لخدمة سيدك والرضا بقضائه. فكانت أم الأسود تقول: ما أكلت شبهة إلا فاتتني فريضة أو ورد من أورادي.مريم البصرية كانت تخدم رابعة العدوية، وكانت إذا سمعت علوم المحبة طاشت فحضرت بعض المذكرين فتكلم في المحبة. فماتت في المجلس.قامت مريم البصرية من أول الليل فقالت: الله لطيف بعباده سورة الشورى آية 19. ثم لم تجره حتى أصبحت.وقالت مريم: ما اهتممت بالرزق ولا تعبت في طلبه منذ سمعت الله يقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون ...عفيرة العابدةقال روح بن سلمة الوراق لعفيرة العابدة: بلغني أنك لا تنامين بالليل؛ فبكت، ثم قالت: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف ينام أو كيف يقدر على النوم، من لا ينام عنه حافظاه ليلا ولا نهارا? قال: فأبكتني والله، وقلت في نفسي: أراني في شيء وأراك في شيء.

(1/375)

قال يحيى: دخلت مع نفر من أصحابنا على عفيرة، وكانت قد تعبدت وبكت حتى عميت. فقال بعض أصحابنا لرجل إلى جنبه: ما أشد العمى على من كان بصيرا. فسمعت عفيرة فقالت له: يا عبد الله عمى القلب، والله، عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا، والله وددت أن الله وهب لي كنه محبته وأنه لم تبق مني جارحة إلا أخذها.قال محمد بن عبيد: دخلنا على امرأة بالبصرة يقال لها عفيرة، فقيل لها: ياعفيرة ادعي الله لنا. فقالت: لو خرس الخاطئون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من بيتي الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال.قالت عفيرة عصيتك بكل جارحة مني على حدتها،والله لئن أعنت لأطيعنك ما استطعت بكل جارحة عصيتك بها.قال محمد بن الحسين: وحدثني سعيد العمي قال: قلت لعفيرة: أما تسأمين من طول البكاء قال: فبكت ثم قالت: يا بني كيف يسأم ذو داء من شيء يرجو أن له فيه من دائه شفاء قال: ثم بكت. فقمت فخرجت وتركتها.بلغني عن يحيى بن راشد أنه قال: كنا عند عفيرة العابدة فقدم ابن أخ لها كانت طالت غيبته فبشرت به، فبكت فقيل لها: ما هذا البكاء? اليوم يوم فرح وسرور، فازدادت بكاء ثم قالت: والله ما أجد للسرور في قلبي مسكنا مع ذكر الآخرة، ولقد أذكرني قدومه يوم القدوم على الله، فمن بين مسرور ومثبور. ثم غشي عليها.عبيدة بنت أبي كلاببكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها.قال سلمة لعبيدة بنت أبي كلاب ما تشتهين? قالت: الموت. قلت: ولم? قالت: لأني والله في كل يوم أصبح أخشى أن أجني على نفسي جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة.

(1/376)

عبد العزيز بن سلمان قال: اختلفت عبيدة وأبي إلى مالك بن دينار عشرين سنة. قال أبي: فما سمعتها تسأل مالكا عن شيء قط إلا مرة، قالت: يا أبا يحيى متى يبلغ المتقي الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة? قال مالك: بخ بخ يا عبيدة إذا بلغ المتقي تلك الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة لم يكن شيء أحب إليه من القدوم على الله. قال: فصرخت عبيدة صرخة سقطت مغشيا عليها.قال البراء الغنوي يوم ماتت عبيدة بنت أبي كلاب: ما خلفت بالبصرة أفضل منها.قال عبد الله السعدي ،: رأيت الشيوخ والشباب والرجال والنساء من المتعبدين فما رأيت امرأة ولا رجلا أفضل ولا أحسن عقلا من عبيدة بنت أبي كلاب.قال عبيس بن مرحوم: حدثتني عبدة بنت أبي شوال قالت: رأيت رابعة في المنام فقلت: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب? فقالت: هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العلى؛ قلت: وبم وقد كنت عند الناس? أي أكثر منها. قالت: إنها لم تكن تبالي على ما أصبحت من الدنيا أو أمست.عمرة امرأة حبيب العجميقالت امرأة حبيب أبي محمد، وانتبهت ليلة وهو نائم؛ فأنبهته في السحر وقالت له: قم يا رجل فقد ذهب الليل وجاء النهار وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.كانت عمرة، اشتكت عينها فقيل لها: كيف تجدينك? قالت: وجع قلبي أشد من وجع عيني.بردة الصريميةكانت إذا قيل لها: كيف أصبحت? تقول: أصبحنا أضيافا منتجعين بأرض غربة ننتظر إجابة الداعي.أشرس أبو شيبان، وكان عابدا من البكائين، عن ثابت البناني أن امرأة من الصدر الأول كان يقال لها بردة، وكانت تكثر البكاء حتى فسد بصرها. فقيل لها: اتقي الله، أما تخافين على بصرك أن يذهب? قالت: دعوني فإن أكن من أهل النار فأبعدني الله وأبعد بصري، وإن أكن من أهل الجنة فسيبدلني الله عينين خيرا من عيني.

(1/377)

عن موسى بن سعيد، أو غيره، قال: قيل للحسن: يا أبا سعيد إن ههنا امرأة يقال لها بردة قد فسدت عيناها من البكاء، فدخل عليها فقال لها: يا بردة إن لبدنك عليك حقا، وإن لبصرك عليك حقا. قالت: يا أبا سعيد إن أكن من أهل الجنة فسيبدلني الله بصرا خيرا من بصري، وإن أكن من أهل النار فأبعد الله بصري.كانت بالبصرة امرأة جليلة متعبدة يقال لها بردة، وكانت تقوم الليل، فإذا سكنت الحركات وهدأت العيون نادت بصوت لها حزين: هدأت العيون وغارت النجوم وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك يا محبوبي أفتراك تعذبني وحبك في قلبي? لا تفعل يا حبيباه. ..... ..... وكانت تبكي حتى يرحمها من رآها.ذكر سفيان يوما بردة فقال: رحمها الله ما كان ههنا من أولئك النساء المجاورات أشد اجتهادا منها بكت حتى ذهب بصرها.قال سفيان: كانت إذا سمعت صوت الصواعق صرخت ولم تزل تصيح حتى يغشى عليها.أم طلقكانت تصلي في كل يوم وليلة أربعمائة ركعة، وتقرأ من القرآن ما شاء الله.كانت أم طلق تقول: ما ملكت نفسي ما تشتهي منذ جعل الله لي عليها سلطانا.قالت أم طلق لطلق: ما أحسن صوتك بالقرآن فليته لا يكون عليك وبالا يوم القيامة. فبكى حتى غشي عليه.كانت أم طلق تقول: النفس ملك إن أتبعتها ومملوك إن أتعبتها.أم حيان السلميةعن أبي خلدة قال: ما رأيت رجلا قط ولا امرأة أقوى ولا أصبر على طول القيام من أم حيان السلمية، إن كانت لتقوم في مسجد الحي كأنها نخلة تصفقها الرياح يمينا وشمالا.كانت أم حيان تقرأ القرآن في كل يوم وليلة، وكانت لا تتكلم إلا بعد العصر فإنها تأمر بالحاجة والشيء تريده.أم إبراهيم العابدةضربت أم إبراهيم دابة فكسرت رجلها، فأتاها قوم يعزونها. فقالت: لولا مصائب الدنيا وردنا الآخرة مفاليس.

(1/378)

قال أبو موسى الشواء: كنت مع أم إبراهيم العابدة. فلما صرنا عند الجمار رأت الناس قد أقبلوا على الشراء والبيع، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: حبيبي أقبلوا على الدنيا وتركوك. قال: ثم صاحت واجتمع الناس فغطيتها بثوبي. ثم قلت للناس: أصابها شيء وأوهمتهم أن بها علة. قال: ثم أقمت عليها حتى أفاقت فرفعت رأسها فقلت لها: يا أم إبراهيم أي شيء هذه الشهرة? فقالت: يا بطال إذا كان هو يقسم الثناء فلمن يتصنع?بحرية العابدةبحرية العابدة تبكي وتقول تركتك وأنا رطبة، وأتيتك وأنا حشفة فاقبل الحشفة على ما كان منها.وكان بها مسحة من جمال، وكان الجرع قد أضر بها ومكثت أربعين يوما لم تأكل فيها شيئا إلا شيئا من حمص وكانت مجتهدة وكان لها مجلس تذكر فيه، وكانت إذا تكلمت اضطربت واقشعرت.قالت بحرية: إذا ترك القلب الشهوات ألف العلم واتبعه واحتمل كل ما يرد عليه.أم الحريشقال رياح بن الجراح: رأيت أم الحريش، وكانت من عباد الناس، وابتليت بزوج من الجند، فكانت لا تأكل من طعامه، تعد لنفسها شيئا تأكله، وكان ربما لم يقبل منها حتى تأكل معه، فكانت تقعد تريه أنها تأكل فتضع أصابعها خارج القصعة.حسنة العابدةعن محمد بن قدامة قال: بلغنا أن امرأة كان يقال لها حسنة تركت نعيم الدنيا فأقبلت على العبادة فكانت تصوم النهار وتحيي الليل وليس في بيتها شيء، كلما عطشت خرجت إلى النهر فشربت بكفيها.وكانت جميلة فقالت لها امرأة: تزوجي فقالت: هات رجلا زاهدا لا يكلفني من أمر الدنيا شيئا وما أظنك تقدرين عليه، فوالله ما في نفسي أن أعبد الدنيا ولا أتنعم مع رجال الدنيا، فإن وجدت رجلا يبكي ويبكيني، ويصوم ويأمرني، ويتصدق ويحضني عليها، فبها ونعمت، وإلا فعلى الرجال السلام.زجلة العابدة مولاة معاوية

(1/379)

دخل على زجلة العابدة نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها فقالت: ما لي وللرفق بها? فإنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدا. والله يا إخوتاه لأصلين له ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي. ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه? عباد بن عباد، أبو عتبة الخواص، قال: دخلنا على زجلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وصلت حتى أقعدت، وكانت صلاتها قاعدة. فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئا من العفو، أردنا أن نهون عليها الأمر هناك. فشهقت ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي، وكلم قلبي. والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئا مذكورا. ثم أقبلت على صلاتها وتركناها فخرجنا من عندها.كانت زجلة لا ترفع بصرها إلى السماء، وكانت تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين.قال كليب: وسمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من زجلة.غضنة وعاليةقال أبو الوليد العبدي: ربما رأيت غضنة وعالية تقوم إحداهما من الليل فتقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف في ركعة.مطيعة العابدةبكت مطيعة أربعين عاما، فعوتبت على كثرة البكاء فقالت: لا أزال أبكي حتى أعلم على أي الحالين أنا عند الله? محمد بن الحسين قال: دخلنا على مطيعة العابدة في الجبان بالبصرة فجعلنا نذاكرها شيئا من الخير فلا نستبين كثيرا من كلامها، من كثرة بكائها. فلما رأينا ذلك خرجنا من عندها وتركناها.قال محمد: وسألت مطيعة قلت: منذ كم أنت ههنا في الجبان? فبكت ثم قالت: يا بني منذ أربع وخمسين سنة.كردوية بنت عمرو البصريةكانت كردوية تخدم شعوانة. فقيل لها: ما الذي أصابك من بركات خدمة شعوانة? قالت: ما أحببت الدنيا منذ خدمتها، ولا اهتممت لرزقي، ولا عظم في عيني أحد من أرباب الدنيا لطمع لي فيه،وما استصغرت أحدا من المسلمين قط.راهبة عثمان بن سودة الطفاوي

(1/380)

وكانت أمه من العابدات، يقال لها راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخري وذخيرتي، ويا من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري.قال: فماتت. فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور. قال: فرأيتها ذات ليلة في منامي فقلت: يا أماه كيف أنت? قالت: أي بني إن للموت لكربة شديدة وأنا بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان ونتوسد فيه السندسي والإستبرق إلى يوم النشور فقلت: ألك حاجة? قالت: نعم. قالت: لا تدع ما أنت عليه من زيارتنا والدعاء لنا فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من عند أهلك، يقال لي: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل من أهله زائرا لك فأسر بذلك ويسر ذلك من حولي من الأموات.سلمىقالت سلمى، إلهي علمي بشدة عقوبتك ونكالك قطع عني لذاذة الدنيا ونعيمها، ومعرفتي بسعة رحمتك وسعت علي خلقي فيما بيني وبين عبادك.مسكينة الطفاويةقال عمار الراهبرأيت مسكينة الطفاوية في منامي وكانت من المواظبات على حلق الذكر، فقلت: مرحبا يا مسكينة مرحبا. فقالت: هيهات يا عمار ذهبت المسكنة وجاء الغنى الأكبر. قلت: هيه.. قالت: ما تسأل عمن أبيح الجنة بحذافيرها يظل منها حيث يشاء. قال: قلت: وبم ذاك يرحمك الله? قالت: بمجالس الذكر والصبر على الحق. قال عمار: وكانت تحضر معنا مجلس عيسى بن زاذان بالأبلة، تنجدر من البصرة حتى تأتيه قاصدة. قال عمار: قلت يا مسكينة ما فعل عيسى? فضجت ثم قالت: كسي حلة البهاء، وطافت بأباريق حوله الخدام، ثم حلي وقيل: يا قارئ ارق فلعمري لقد برأك الصيام، وكان عيسى قد صام حتى انحى وانقطع صوته.غنضكةالعابدة تصلي عامة الليل، ثم تقول: أعوذ بالله من ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا قضت صلاتها قالت: هذا الجهد مني وعليك التكلان.ذكر المصطفيات من عابدات البصرة المعروفات بغيرهنامرأة أبي عمران الجوني

(1/381)

كانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق فيقول لها أبو عمران الجوني: دون هذا يا هذه، فتقول: هذا عند طول القيام في الموقف قليل فيسكت عنها.امرأة رياح القيسيتزوج رياح القيسي امرأة فبنى بها. فلما أصبح قامت إلى عجينها. فقال: لو نظرت إلى امرأة تكفيك هذا. فقالت: إنما تزوجت رياحا القيسي ولم أرني تزوجت جبارا عنيدا. فلما كان الليل نام ليختبرها. فقامت ربع الليل ثم نادته: قم يا رياح. فقال: أقوم. فقامت الربع الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح. فقال: أقوم. فلم يقم. فقامت الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح فقال أقوم. فقالت: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم، ليت شعري من غرني بك يا رياح. قال: وقامت الربع الباقي.تزوج رياح القيسي امرأة. فبينا هو قاعد معها إذ نظرت إلى السماء فشهقت شهقة فخرت مغشيا عليها.وقال رياح: اغتممت مرة في شيء من أمر الدنيا. فقالت أراك تغتم لأمر الدنيا غرني منكم شميط. ثم أخذت هدبة من مقنعتها فقالت: الدنيا أهون علي من هذه.قال رياح: ذكرت لي امرأة فتزوجتها، فكانت إذا صلت العشاء الآخرة تطيبت وتدخنت ولبست ثيابها ثم تأتيني فتقول: ألك حاجة? فإن قلت: نعم، كانت معي، وإن قلت: لا، قامت فنزعت ثيابها ثم صفت بين قدميها حتى تصبح. قال رياح: ففحتني والله.ابنة أم حسان الأسدية

(1/382)

عن سفيان الثوري قال: دخلت على بنت حسان الأسدية وفي جبهتها مثل ركبة العنز من أثر السجود. فقلت لها: يا بنة أم حسان ألا تأتين عبد الله بن شهاب بن عبد الله? فلو رفعت إليه رقعة فلعله أن يعطيك من زكاة ماله ما تغيرين به بعض الحاجة التي أراها بك. فدعت بمعجر فاعتجرت به وقال: يا سفيان قد كان لك في قلبي رجحان كثير فقد أذهب الله برجحانك من قلبي، يا سفيان تأمرني أن أسأل الدنيا من لا يملكها? قال سفيان: وكان إذا جن عليها الليل دخلت محرابا لها وأغلقت عليها ثم نادت: إلهي خلا كل حبيب بحبيبه، وأنا خالية بك يا محبوب، فما كان من سخن يسخن من عصاك إلا جهنم، ولا عذاب إلا النار.قال سفيان، فدخلت عليها بعد ثلاث فإذا الجوع قد أثر في وجهها. فقلت لها: يا بنت أم حسان إنك لن تؤتي أكثر مما أوتي موسى والخضر عليهما السلام، إذ أتيا أهل قرية استطعما أهلها.فقالت: يا سفيان قل الحمد لله. فقلت: الحمد لله. فقالت: اعترفت له بالشكر? قلت: نعم. قالت: وجب عليك من معرفة الشكر شكر وبمعرفة الشكرين شكر لا ينقضي أبدا.قال سفيان: فقصر، والله علمي وفه لسانه فوليت أريد الخروج. فقالت: يا سفيان كفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه، وكفى بالمرء علما أن يخشى الله. اعلم أنه لن تنقى القلوب من الردى حتى تكون الهموم كلها في الله هما واحدا. قال سفيان فقصرت إلي والله نفسي.مملوكة لإبراهيم النخعي كانت مولاة لإبراهيم تعمد إلى اليوم الشديد الحر فتصومه. فقيل لها: إنك تعمدين إلى أشد الأيام حرا فتصومينه? فقالت: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد.جارية عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة

(1/383)

قال عبد الله العنبري: كانت عندي جارية أعجمية وضيئة، وكنت بها معجبا. فكانت ذات ليلة نائمة إلى جنبي فانتبهت فلم أجدها. فالتمستها فإذا هي ساجدة تقول: بحبك لي اغفر لي. فقلت: يا جارية لا تقولي بحبك لي، قول: بحبي لك اغفر لي. فقالت: يا بطال، حبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، فأيقظ عيني وأنام عينك. فقلت: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. قالت: يا مولاي أسأت إلي، كان لي أجران فصار لي أجر واحد.جارية خالد الوراققال خالد الوراق: كانت لي جارية شديدة الاجتهاد فدخلت عليها يوما فأخبرتها برفق الله وقبوله يسير العمل. فبكت ثم قالت يا خالد إني لأؤمل من الله تعالى آمالا لو حملتها الجبال لأشفقت من حملها كما ضعفت عن حمل الأمانة وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثا لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السباق? قال: قلت: وما حسرة السباق? قالت: غداة الحشر إذا بعثر ما في القبور وركب الأبرار نجائب الأعمال فاستبقوا إلى الصراط. وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهدا أبدا، ولو حبا المجد حبوا. أم كيف لي بموت الحزن والكمد إذا رأيت القوم يتراكضون وقد رفعت أعلام المحسنين وجاز الصراط المشتاقون ووصل إلى الله المحبون وخلفت مع المسيئين المذنبين? ثم بكت وقالت: يا خالد انظر لا يقطعك قاطع عن سرعة المبادرة بالأعمال فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون?الماورديةكانت عجوز صالحة زاهدة بالبصرة تعرف بالماوردية قاربت ثمانين سنة، بقيت خمسين سنة لم تفطر ولم تنم بالليل، ولم تأكل خبزا ولا رطبا ولا تمرا وإنما تطحن لها باقلا وتخبز لها خبزا تقتات به، وتأكل التين اليابس دون الرطب، وتنال من الزيت والعنب واللحم الشيء اليسير، وكانت تكتب وتقرأ وتعظ النسوان وكانت كثيرة الخير والبركة. وتوفيت ..... وتبع جنازتها أكثر الناس.

(1/384)

ذكر المصطفيات من عابدات البصرة المجهولاتعابدةقال سعيد بن جبير: ما رأيت أرعى لحرمة هذا البيت ولا أحرص عليه من أهل البصرة، ولقد رأيت جارية منهم ذات ليلة تعلقت بأستار الكعبة فجعلت تدعو وتبكي وتتضرع حتى ماتت.عابدة أخرىقال أبو محرز: شكوت إلى جارية لنا ضيق المكسب علي وأنا شاب فقالت لي: يا بني استعن بعز القناعة عن ذل المطالب، فكثيرا، والله ما رأيت القليل عاد سليما. قال: ما زلت بعد أعرف بركة كلامها في قنوعي.عابدة أخرىعن عبد الواحد قال: أتينا امرأة متعبدة في ناحية البصرة لنسلم عليها فقيل لنا لا تصلون إليها. قلنا: ولم ذاك? قالوا: قد غلقت عليها الباب منذ ثلاث تبكي. قلنا: ولم ذاك? قالوا: قتلت نملة.عابدة أخرىعن سعيد بن عطارد قال: ذكرت لي امرأة بالبصرة متعبدة فأتيتها فوجدتها تصلي فانصرفت. فقالت: ما اسمك? فقلت: سعيد. قالت: يا سعيد، كل شيء شغلك عن الله فهو عليك مشوم. ثم أقبلت على صلاتها وتركتني.عابدة أخرىعلي بن الحسن قال: كانت امرأة بالبصرة تقول لقلبها. فقدتك من قلب، ما أنساك أصبحت لعظمة الله ناسيا إلهي كيف لي بالقرب منك غدا وقاسي القلب منك بعيد?عابدة أخرىعن صالح بن عبد الكريم قال: رأيت امرأة سوداء بالبصرة، والناس مجتمعون عليها، ثم قامت فدخلت دارا فدخلوا معها وأحدقوا بها، فدنوت منها فقلت: يا هذه أما تخافين العجب? فرفعت رأسها فنظرت إلي ثم قالت: كيف يعجب بعمله من لا يدري لعله قد رد عليه?عابدة أخرىقال جعفرصليت العيد في الجبان ثم انفردت فإذا أنا بعجوز رافعة يديها وهي تقول: انصرف الناس ولم أشعر قلبي اليأس، يا صاحب الصدقة ها أناذه منصرفة، فليت شعري ما زودتني? رب ارحم ضعفي وكبر سني، خرجت أرجوك فلا تخيب حسن ظني بك. وهي تبكي فما انتفعت بنفسي يومي.عابدة أخرى

(1/385)

*- قال حماد بن سلمة: خرجت في ليلة ظلماء ذات برد وريح ومطر ومعي شوي، قلت: أقسمه في جيراني. قال: فإذا أنا بامرأة قد خرجت وهي تقول: يا رفيق ارفق بنا.قال، قلت: ما لك رحمك الله? قالت: يا حماد إنه دخل هذا المطر على يتامى تحت فرشهم فقلت: يا رفيق ارفق بنا، فدخلت فوجدته أيبس مما كان. فقلت: هاك رحمك الله هذا الشيء فأنفقيه على نفسك وعلى أيتامك. فقالت: إليك عني يا حماد فإني إنما أسأل أجود الأجودين.* قال عفان بن مسلم: قال لي حماد بن سلمة: ألح المطر علينا سنة من السنين، وفي جواري امرأة من المتعبدات، لها بنات أيتام، فوكف السقف عليهم فسمعتها تقول: يا رفيق ارفق بي. فسكن المطر؛ فأخذت صرة فيها عشرة دنانير وقرعت بابها. فقالت: اجعله حماد بن سلمة. فقلت: أنا حماد، سمعتك وقد تأذيت بالمطر فقلت يا رفيق ارفق بنا، فما بلغ من رفقه بك? فقالت: سكن المطر وأدفأ الصبيان وجفف البيت.قال فأخرجت الدنانير وقلت: انتفعي بهذه. فإذا صبية عليها مدرعة من صوف تستبين خروقها، قد خرجت علي وقالت: ألا تسكت يا حماد تعترض بيننا وبين ربنا ومولانا? ثم قالت: يا أماه قد علمنا أنا لما شكونا مولانا أنه سيبعث إلينا بالدنيا ليطردنا من بابه ألصقت خدها بالتراب ثم قالت: أما أنا وعزتك لا زايلت بابك وإن طردتني. ثم قالت: يا حماد رد عافاك الله دنانيرك إلى الموضع الذي أخرجتها منه فإنا رفعنا حوائجنا إلى من يقبل الودائع ولا يبخس المعاملين.* كانت امرأة من عباد أهل البصرة، وكان لها أولاد فأصابها مطر في بعض الليل فوكف عليها البيت، فجعلت تنقل أولادها من موضع إلى موضع، فلا يزداد الوكف إلا شدة. فلما أذلقها ذلك قالت: يا رفيق ارفق بي.قال: فما أصابها من ذلك المطر قطرة واحدة.من المصطفيات من عاقلات المجانين بالبصرةجارية

(1/386)

عن عبد الواحد قال: قال عتبة الغم: خرجت من البصرة فإذا أنا بخباء أعراب قد زرعوا، وإذا أنا بخيمة، وفي الخيمة جارية مجنونة عليها جبة صوف عليها مكتوب: لا تباع ولا تشترى. فدنوت فسلمت عليها فلم ترد علي السلام، ثم وليت. فسمعتها تقول:زهد الزاهدون والعابدونا إذ لمولاهم أجاعوا البطوناأسهروا الأعين القريحة فيه فمضى ليلهم وهم ساهروناحيرتهم محبة الله حتى علم الناس أن فيهم جنوناهم ألبا عقول ولكن قد شجاهم جميع ما يعرفوناقال: فدنوت إليها فقلت: لمن الزرع? فقالت: لنا إن سلم.فتركتها وأتيت بعض الأخبية فأرخت السماء كأفواه القرب. فقلت: والله لآتينها فأنظر قصتها في هذا المطر، فإذا أنا بالزرع قد غرق وإذا هي قائمة وهي تقول: والذي أسكن قلبي من طرف صفاء مودة محبته إن قلبي ليوقن منك بالرضا. ثم التفتت إلي فقالت: يا هذا إنه زرعه فأنبته وأقامه فسنبله وركبه فشققه وأرسل عليه غيثا متغطمطا فسقاه، واطلع عليه فحفظه فلما دنا حصاده أهلكه. ثم رفعت رأسها نحو السماء فقالت: العباد عبادك، وأرزاقهم عليك، فاصنع ما شئت فقلت لها: كيف صبرك? فقالت: اسكت يا عتبة:إن إلهي لغني حميد في كل يوم منه رزق جديدالحمد لله الذي لم يزل يفعل بي أكثر مما أريد قال عتبة: فوالله ما ذكرت كلامها إلا هيجتنيذكر المصطفين من أهل الأبلةعابدقال أبو إسحاق الهروي: كنت مع ابن الخروطي بالبصرة فأخذ بيدي وقال: قم حتى نخرج إلى الأبلة، فلما قربنا ونحن نمشي على شاطئ الأبلة في الليل والقمر طالع، إذ مررنا بقصر لجندي فيه جارية تضرب بالعود، فوقفنا في فناء القصر نستمع وفي جانب القصر الآخر في ظل القمر فقير بخرقتين واقف، فقالت الجارية:كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

(1/387)

فصاح الفقير وقال: أعيديه فهذا حالي مع الله تعالى، فنظر صاحب الجارية إلى الفقير فقال لها: اتركي العود وأقبلي عليه فإنه صوفي فأخذت تقول، والفقير يقول: هذا حالي مع الله تعالى، والجارية تردد إلى أن زعق الفقير زعقة خر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت فقلنا: مات الفقير.فلما سمع صاحب القصر بموته نزل فأدخله القصر فاغتممنا وقلنا: هذا يكفنه من غير وجهه، فصعد الجندي وكسر كل ما كان بين يديه فقلنا: ما بعد هذا إلا خير ومضينا إلى الأبلة وبتنا وعرفنا الناس.فلما أصبحنا رجعنا إلى القصر وإذا الناس مقبلون من كل وجه إلى الجنازة كأنما نودي في البصرة حتى خرج القضاة والعدول وغيرهم، وإذا الجندي يمشي خلف الجنازة حافيا حاسرا حتى دفن.فلما هم الناس بالانصراف قال الجندي للقاضي والشهود: اشهدوا أن كل جارية لي حرة لوجه الله تعالى وكل ضياعي وعقاري حبس في سبيل الله وفي صندوق لي أربعة آلاف دينار وهي في سبيل الله. ثم نزع الثوب الذي كان عليه فرمى به وبقي بسراويله، فقال القاضي: عندي مئزران من وجههما تقبلهما فقال: شأنك. فحملهما إليه فاتزر بواحد واتشح بالآخر، وهام على وجهه فكان بكاء الناس عليه أكثر من بكائهم على الميت.ذكر المصطفيات من عابدات الأبلةشعوانةبكت شعوانة حتى خفنا عليها العمى، فقلنا لها في ذلك، فقالت: أعمى والله في الدنيا من البكاء أحب إلي من أن أحب أحأعمى في الآخرة من النار.

(1/388)

قال مالك بن ضيغم: كان رجل من أهل الأبلة يأتي أبي كثيرا فيذكر له شعوانة وكثرة بكائها فقال له أبي يوما: صف لي بكاءها? فقال: يا أبا مالك أصف لك، هي والله تبكي الليل والنهار لا تكاد تفتر قال: ليس عن هذا أسألك، كيف تبتدئ بالبكاء? قال: نعم يا أبا مالك تسمع الشيء من الذكر فترى الدموع تنحدر من جفونها كالقطر. قال: فمجاري الدموع من المآق الذي على الأنف أكثر أم مؤخر العين مما يلي الصدغ? قال يا أبا مالك إن دموعها أكثر من أن يعرف هذا من هذا، ما هي إلا أن تسمع الذكر فتجيء عيناها بأربع نجوما متبادرة جدا.فبكى أبي وقال: ما أرى الخوف إلا قد أحرق قلبها كله، ثم قال: كان يقال إن كثرة الدموع وقلتها على قدر احتراق القلب، حتى إذا احترق القلب كله لم يشأ الحزين أن يبكي إلا بكى، والقليل من التذكرة يحزنه.قال مالك بن ضيغم: وقال لي أبي يوما انطلق مع منبوذ حتى تأتي هذه المرأة الصالحة فتنظر إليها، يعني شعوانة، فانطلقت أنا وأبو همام إلى الأبلة ثم غدونا عليها فدخلنا فسلم علياه منبوذ وقال: هذا ابن أخيك ضيغم. فرحبت بي وتحفت وقالت مرحبا بابن من لم نره ونحن نحبه، أما والله يا بني إني لمشتاقة إلى أبيك وما يمنعني من إتيانه إلا أني أخاف أن أشغله عن خدمة سيده، وخدمة سيده أولى به من محادثة شعوانة.قال: ثم قالت: ومن شعوانة? وما شعوانة? أمة سوداء عاصية.قال: ثم أخذت في البكاء فلم تزل تبكي حتى خرجنا وتركناها.

(1/389)

قال يحيى بن بسطام: كنت أشهد مجلس شعوانة كثيرا فكنت أرى ما تصنع بنفسها، فقلت لصاحب لي يقال له عمران بن مسلم: لو أتيناها إذا خلت. قال: فانطلقنا أنا وهو إلى الأبلة فاستأذنا عليها فأذنت لنا فإذا منزل رث الهيئة أثر الجدب عليه بين. فقال لها صاحبي: لو رفقت بنفسك فقصرت عن هذا البكاء شيئا كان أقوى لك على ما تريدين. قال: فبكت ثم قالت: والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي الدماء حتى لا تبقى في جسدي جارحة فيها قطرة من دم، وأنى لي البكاء? قال: فلم تزل تردد ذلك حتى انقلبت حدقتاها، ثم مالت ساقطة مغشيا عليها. فقمنا فخرجنا وتركناها على تلك الحال.قال مضر: ما رأيت أحدا أقوى على كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتا قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشجت ثم نادت: يا موتى وبني الموتى وأخوة الموتى.قال محمد: وقلت لأبي عمر الضرير: أتيت شعوانة? قال: قد شهدت مجلسها مرارا ما كنت أفهم ما تقول من كثرة بكائها. قلت: فهل تحفظ من كلامها شيئا? قال: ما حفظت من كلامها شيئا أذكره الساعة إلا شيئا واحدا، قلت: وما هو? قال: سمعتها تقول: من استطاع منكم أن يبكي فليبك وإلا فليرحم الباكي فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.عن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين:يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية قبل الأملحثيثا يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجلقال الحسن بن يحيى: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتبكي النساك معها، تقول:لقد أمن المغرور دار مقامه ويوشك يوما أن يخاف كما أمنعن فضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها فشكوت إليها وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك? قال: فشهق الفضيل وخر مغشيا عليه.قال محمد بن سلمان: كانت شعوانة قد كمدت حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة فأتاها آت في منامها فقال:

(1/390)

أذري جفونك إما كنت شاجية إن النياحة قد تشفي الحزينيناجدي وقومي وصومي الدهر دائبة فإنما الدوب من فعل المطيعينافأصبحت فأخذت في الترنم والبكاء وراجعت العمل.قدمت شعوانة وزوجها لمكة فجعلا يطوفان فإذا أكل أو أعيا جلس وجلست خلفه فيقول هو في جلوسه: أنا العطشان من حبك لا أروى. وتقول هي بالفارسية: أنبت لكل داء دواء في الجبال، ودواء المحبين في الجبال لم ينبت. رضي الله عنها.خشة الأبليةقالت خشة الأبلية: إن الذنوب أقل في جودك من أن لا تغفرها، من ثم خلا قلبي من الذنوب لمحبتك.من عقلاء المجانين بالأبلةريحانة قال صالحا المري رأيت ريحانة المجنونة فسلمت عليها فقالت لي: يا صالح اسمع:بوجهك لا تعذبني فإني أؤمل أن أفوز بخير داروأنت مجاور الأبرار فيها ولولا أنت ما طاب المزارعن الربيع قال: بت أنا ومحمد بن المنكدر وثابت البناني عند ريحانة بالأبلة فقامت أول الليل وهي تقول:قام المحب إلى المؤمل قومة كاد الفؤاد من السرور يطير فلما كان جوف الليل سمعتها تقول أيضا: لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلامواجهد وكد وكن في الليل ذا شجن يسقيك كأس وداد العز والكرمقال: ثم نادت: واحرباه واسلباه. فقلت: مم ذا? فقالت: ذهب الظلام بأنسه وبألفه ليت الظلام بأنسه يتجدد.ذكر المصطفين من عباد عبادان رضي الله عنهمقال بشر بن الحارث: عبادان ميدان العباد.قال المروزي: وقال لي أبو عبد الله بن حنبل: ما زال العباد يأتونها وقد رأيت بها هدابا العابد.قال بشر بن الحارث: من أراد الزهد والعمل فليأت عبادان، وددت أني في زاوية من زوايا عبادان في عافية ...سعيد بن عطارد رضي الله عنهسمع سعيد بن عطارد ضجة في مسجد أبي عاصم بالليل، فقام فقال: تذهب بهذا الدرهم السوق تلقيه في هذه الجياد لعل الله عز وجل يتجاوز به.عبد الصمد قال: كان سعيد بن عطارد بكاء. رضي الله عنه.عابد من بني سعد

(1/391)

كان رجل من بني سعد يقدم علينا في أول مااتخذت عبادان فكانت إذ ذاك وبيئة قال: فكان يصلي الليل والنهار لا يكاد يفتر، فإذا كان السحر احتبى واستقبل البحر فجعل يبكي وينوح على نفسه.قال: فإذا أحس بإنسان أمسك. قال: فخرجت ذات ليلة إلى الساحل فإذا أنا بصوته وإذا هو يبكي ويقول في بكائه: ألا يا عين ويحك أسعديني بطول الدمع في ظلم اللياليلعلك في القيامة أن تفوزي بخير الدهر في تلك العلاليقال فلما أحس أمسك فرجعت وتركته.عابد آخرشيخ بعبادان له عبادة وفضل، قال: ملح الماء عندنا منذنيف وستين سنة وكان ههنا رجل من أهل الساحل له فضل قال: ولم يكن في الصهاريج شيء وحضرت المغرب فهبطت لأتوضأ للصلاة من النهر، وذلك في رمضان وحر شديد فإذا أنا به وهو يقول: سيدي أرضيت عملي حتى أتمنى عليك أم رضيت طاعتي حتى أسألك? سيدي غسالة الحمام لمن عصاك كثير، سيدي لولا أني أخاف غضبك لم أذق الماء ولقد أجهدني العطش. قال: ثم أخذ بكفيه فشرب شربا صالحافتعجبت من صبره على ملوحته فأخذت من الموضع الذي أخذ فإذا هو بمنزلة السكر فشربت حتى رويت.قال أبو المرضي: فقال لي هذا الشيخ يوما: رأيت فيما يرى النائم كأن رجلا يقول لي: قد فرغنا من بناء دارك لو رأيتها قرت عيناك وقد أمرنا بنجدها والفراع منها إلى سبعة أيام واسمها السرور، فأبشر بخير فلما كان اليوم السابع وهو يوم الجمعة بكر للوضوء فنزل في النهر وقد مد فزلق فغرق فأخرجناه بعد الصلاة فدفناه.قال أبو المرضي فرأيته بعد ثالثة في النوم وهو يجيء إلى القنطرة وهو يكبر وعليه حلل خضر فقال لي: يا أبا المرضي أنزلني الكريم دار السرور فما أعد لي فيها? فقلت: صف لي فقال: هيهات يعجز الواصفون عن أن تنطق ألسنتهم بما فيها، فاكتسب مثل الذي اكتسبت وليت أن عيالي يعلمون أن قد هيئ لهم منازل معي، فيها كل ما اشتهت أنفسهم، نعم وإخواني وأنت معهم إن شاء الله. ثم انتبهت.عابد آخر

(1/392)

قال بشر بن الحارث رأيت رجلا على ساحل عبادان قد قطع الجذام يديه ورجليه وقد ذهب بصره فجعلت أنظر إليه وأقول في نفسي: مجذوم مكفوف قال: فصاح وقال: من ذا المتكلف الذي يدخل بيني وبين مولاي قال بشر فأدبني قوله.عابد آخرعلي بن سعيد العطار قال: مررت بعبادان بمكفوف مجذوم وإذا الزنبور يقع عليه فيقطع لحمه فقلت الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفتح من عيني ما أغلق من عينك.قال: بينما أنا أردد الحمد إذ صرخ، فبينا هو يتخبط نظرت إليه فإذا هو مقعد فقلت مكفوف يصرع مقعد مجذوم. قال: فما استتممت حتى صاح: يا متكلف ما دخولك فيما بيني وبين ربي? دعه يفعل بي ما شاء. ثم قال: وعزتك وجلالك لو قطعتني إربا إربا أو صببت علي البلاء صبا ما ازددت لك إلا حبا رضي الله عنه.عابد آخرعابد بعبادان قال: مكثت ستة أيام لم أطعم شيئا. قال: قلت أجرب نفسي على الصبر. فلما كانت الليلة السابعة دخل في قلبي من ذلك سرور، ورأيت أني قد صبرت وعملت شيئا فإذا بقائل يقول: لم تبلغ كنه الصابرين، إنما الصابرون المستقلون لأعمالهم، الخائفون عليها من فسادها، الوجلون من ردها عليهم، فأولئك هم الصابرون.عابد آخرقال أحمد البزاز: كنت بعبادان وكانت ليلة عاشوراء، فدخلت إلى دار السبيل فرأيت فقيرا جالسا يأكل خبز الشعير وملحا جريشا فاحترق قلبي عليه وكان معي ألف دينار للتفرقة بعبادان فسألت عنه فقيل: هو أفضل من ههنا في الزهد ومنازلة الفقر فقلت في نفسي: أعطيه الدنانير التي معي فإني لا أعرف المستحقين.فلما أصبحنا قصدته وسلمت عليه وجلست إليه وباسطني وباسطته فقلت له: رأيت الشيخ البارحة يأكل خبز الشعير وملحا جريشا وأعلم أنه كان صائما فحملت إليه شيئا ليتحكم فيه. وقدمت إليه الكيس وقلت له: هو ألف دينار فشدد النظر وقال: خذه فإن هذا جزاء من أفشى سره إلى الناس.عابد آخر

(1/393)

قال عباد بن كليب: كنت بعبادان فرأيت شابا من قريش عليه جبة صوف فسمعته يقول: إن لله عبادا يستروحون إلى الغموم فقلت: يرحمك الله تلبس الصوف? فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت لبست فذكرت ذلك لشريك فقال: ما أكره الصوف لمثل هذا، ما خرج هذا الكلام إلا من كنز.ذكر مجنون بمهرجان قذققال أبو همام كان بمهرجان قذق رجل يقال له سابق وكان معتوها ذاهب العقل قد توحش فكان مأواه الخربات والغياض والمقابر قال: وكنت أحب أن أكلمه وأسمع جوابه. فقيل لي يوما: هو في المقابر. فقمت حافيا فدخلت المقابر فإذا أنا به منكس رأسه في قبر، فلم يعلم حتى سلمت فرفع رأسه فقال: وعليكم السلام.قال: وهبته فانقطعت ولم أتكلم، فرأى ذلك في فقال: يا إسرائيل خف الله خوفا لا يشغلك عن الرجاء فإنك إن ألزمت قلبك الرجاء شغلته عن الخوف، وفر إلى الله ولا تفر منه فإنه مدركك ولن تعجزه، ولا تطع المخلوق في معصية الخالق واعلم أن لله تعالى يوما تشخص فيه القلوب والأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.قال: ثم قام فتخطى حائطا ومضى في الخرابات فقلت للذي يحفر القبور: إذا جاء فأتني فأعلمني.فمكث شهرا أو أكثر. قال: وأتاني الرجل فقال: قد دخل الساعة المقابر فقمت إليه في غير نعل ولا رداء، فلما بصر بي ولى وأسرعت فقلت: يا سابق لا أعود إليك بعد اليوم. فوقف فقلت: علمني كلمات أدعو بهن فقال: إن آخذ الكلام للقلوب ما جاء من القلوب وإن أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس. ثم قال: قل اللهم اجعل نظري عبرة، وسكوتي فكرة، وكلامي ذكرا ثم ولى مسرعا.ذكر من اصطفي من أهل تسترسهل بن عبد الله بن يونس التستري يكنى أبا محمد رضي الله عنهقال سهل بن عبد الله آلة الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سره، وأداء فرضه، وصيانة فقره.

(1/394)

قال سهل بن عبد الله: ليس كل من عمل بطاعة الله صار حبيب الله، ولكن من اجتنب ما نهى الله عنه صار حبيب الله ولا يجتنب الآثام إلا صديق مقرب وأما أعمال البر فيعملها البر والفاجر.قال سهل بن عبد الله: من دق الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دق له في الآخرة.قال سهل بن عبد الله: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر، واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزين لله بالصدق في كل الأحوال، وإياك والتسويف فإنه يغرق الهلكى، وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.قال سهل بن عبد الله: أول الحجاب الدعوى فإذا أخذوا في الدعوى حرموا.أبو بكر أحمد بن محمد السائح قال: سمعت القاسم بن محمد صاحب سهل يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب إليه من الافتقار.قال سهل بن عبد الله، وقيل له: أي شيء أشد على النفس? فقال: الإخلاص، لأنه لها فيه نصيب.قال سهل بن عبد الله: أمس قد مات، واليوم في النزع، وغد لم يولد.أبو العباس الخواص، جارنا بالدور، قال: كنت عند سهل بن عبد الله وكنت أحب شيئا من أمره الذي كان يسره، وقد كنت سألت جماعة من أصحابه: من أين يقتات? فلم يقف أحد منهم على شيء فيخبرني به، فجئت ليلة إلى مسجده وهو قائم يصلي فوقفت طويلا وهو لا يرجع حتى جاءت شاة فزحمت باب المسجد وأنا أراها، فلما سمع سهل حركة الباب ركع وسجد وسلم وخرج إلى باب المسجد ففتحه وقدم الشاة إليه ومسح يده عليها، وقد كان أخرج معه قدحا أخذه من طاق في المسجد فحلب وشرب ثم مسح يده عليها وكلمها بالفارسية فذهبت في الصحراء، ودخل هو إلى المسجد وقام في محرابه.

(1/395)

محمد بن الحسن بن الصباح قال: قال سهل بن عبد الله التستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء ويجيء الرجل فيقول: يا فلان أي شيء تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا? فيقول: طلقت امرأته، ويجيء آخر فيقول: بم تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا? فيقول: ليس يحنث بهذا القول. وليس هذا إلا لنبي أو لعالم فاعرفوا لهم ذلك.ومن المصطفين من أهل شيراز أبوإسحاقورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له: يا شيخ فكان يفرح ويقول سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخا.وقال: كنت أعيد كل درس مائة مرة وإذا كان في المسئلة بيت يستشهد به حفظت القصيدة كلها لأجله، وكان عاملا بالعلم وصابرا على خشونة العيش.وقال يوما لبعض أصحابه: وكلتك في أن تشتري لي دبسا بهذا القرص على وجه الآخر. فمضى واشترى وجاء به وشك بأي القرصين اشترى? فما أكل الشيخ، وقال: لا أدري هل اشتريت بالقرص الذي وكلتك فيه أم بالآخر? وكان يوما يمشي ومعه بعض أصحابه فعرض في الطريق كلب فزجره الصاحب، فنهاه أبو إسحاق وقال: لم طردته عن الطريق? أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك.وقال أبو الوفاء بن عقيل: شاهدت شيخنا أبا إسحاق لا يخرج شيئا إلى فقير إلا أحضر النية. ولا يتكلم في المسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التحسن للخلق، ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعات، فلا جرم شاع اسمه وانتشرت تصانيفه شرقا وغربا هذه بركات الإخلاص..ورئي في المنام وعليه ثياب بيض وعلى رأسه تاج فقيل له: ما هذا البياض? فقال: شرف الطاعة. قيل: والتاج? قال عز العلم.من المصطفين من أهل كرمان شاه بن شجاع الكرمانييكنى أبا الفوارس كان من أبناء الملوك فتزهد رضي الله عنه.أبا عمرو بن نجيد يقول: كان شاه بن شجاع حاد الفراسة. وقيل: ما أخطأت فراسته.

(1/396)

وكان يقول: من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخط له فراسة.قال شاه الكرماني: من صحبك ووافقك على ما يحب، وخالفك فيما يكره، فإنما يصحب سواه، ومن صحب هواه فهو يطلب راحة الدنيا. قال: شاه بن شجاع الكرماني: لأهل الفضل فضل ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولاية ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية يهم.من المصطفين من أهل أرجانعابدةكان بأرجان امرأة فارسية تقول: يا مولاي تدبرت حكمتك في خلقك فإذا العدل منك يقصمهم، ثم رجعت بعد إلى معرفتي بسعة رحمتك. فعلمت أن عفوك يسعهم، مولاي أخرت الخاطئين فلم تعجل عليهم بالعقوبة فلقد أطمعهم حسن إنظارك لهم في حسن عفوك عن جرائم الخاطئين، وما يمنعهم من ذلك وقد تقدم إلى الأمم إحسانك قبل ذلك? وكانت تنوح على نحو هذا الكلام وتبكي رضي الله عنها.ومن المصطفين من أهل سجستانأبو داود السجستاني سليمان بن الأشعث بن إسحاقكان من أكبر أئمة المحدثين وعلمائهم بالنقل وعلله، ولم يسبقه أحد إلى مثل تصنيفه كتاب السنن، وعرضه على أحمد بن حنبل فاستحسنه.وقال إبراهيم الحربي: ألين الحديث لأبي داود كما ألين الحديد لداود، وجمع مع علمه الورع والتقوى.قال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة ألف حديث وانتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، يعني كتاب السنن، جمعت فيه أربعة ألف وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث؛ أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات الحديث.

(1/397)

كان لأبي داود كم واسع وكم ضيق، فقيل له: يرحمك الله ما هذا? قال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه.قال أبو علي القوهستاني: كان وكيع يشبه بسفيان. وكان أحمد بن حنبل يشبه بوكيع، وكان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل رضي الله عنهم.أبو بكر بن أبي داود قال: سمعت أبي يقول: الشهوة الخفية حب الرياسة.ذكر المصطفين من عباد البحرين خليفة العبديكان يقوم إذا هدأت العيون فيقول: اللهم إليك قمت أبتغي ما عندك من الخيرات. ثم يعمد إلى محرابه لا يزال يصلي حتى يطلع الفجر.و قالت عجوز كانت تكون معه في الدار: كنت أسمعه يدعو في السجود يقول: هب لي إنابة إخبات وإخبات منيب وزيني في خلقك بطاعتك، وحببني لديك بحسن خدمتك، وأكرمني إذا وقد إليك المتقون فأنت خير مسؤول وخير معبود وخير مشكور وخير محمود.وقالت: كنت أسمعه إذا دعا في السحر يقول: قام البطالون وقمت معهم، قمنا إليك ونحن متعرضون لجودك، فكم من ذي جرم عظيم قد صفحت له عن جرمه، وكم من ذي كرب عظيم قد فرجت له عن كربه، وكم من ذي ضر كثير قد كشفت له عن ضره، فبعزتك ما دعانا إلى مسألتك بعد ما انطوينا عليه من معصيتك إلا الذي عرفتنا من جودك وكرمك، فأنت المؤمل لكل خير، والمرجو عند كل نائبة.قال خليفة العبدي، وكان ممن ينظر بنور الله وينطق بحكمته: أصبح الخلق على خطر من الله عظيم، وهم عن ذاك معرضون فإنا لله وإنا إليه راجعون.قال: وكان خليفة قد أخلقه الدؤوب والكلال. قال ضيغم صلى خليفة العبدي حتى انشقت قدماه.

(1/398)

عابد آخر قال اليشكري: دخلت على رجل بالبحرين قد اعتزل الناس وتفرغ لنفسه فذاكرته شيئا من أمر الآخرة وذكر الموت، قال: فجعل والله يشهق حتى خرجت نفسه وأنا أنظر إليه قال: فدخل الناس عليه فقالوا: يا عبيد الله ما أردت إلى هذا? لعلك أن تكون ذاكرته بشيء من أمر الموت. قال: قلت أجل والله لقد كان ذلك. قال: فبكى رجل من جيرانه وقال: رحمك الله لقد خفت أن يقتلك ذكر الموت حتى والله لقد قتلك، قال: ثم جهزناه ودفناه ...عابد آخر قال مسمع: سمعت عابدا من أهل البحرين يقول في جوف الليل، ونحن على بعض السواحل، قرة عيني، وسرور قلبي، ما الذي أسقطني من عينك يا مانح العصم قال: ثم صرخ وبكى ثم نادى طوبى لقلوب ملأتها خشيتك واستولت عليها محبتك فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك، والاجتهاد في خدمتك، وخشيتك قاطعة لها عن كل معصية خوفا لحلول سخطك، ثم بكى وقال: يا إخوتاه ابكوا على خوف فوت الآخرة حيث لا رجعة ولا حيلة.ذكر المصطفيات من عابدات البحرينمنيفة بنت أبي طارق كانت بالبحرين امرأة عابدة يقال لها منيفة، فكانت إذا هجم الليل عليها قالت: بخ بخ يا نفس قد جاء سرور المؤمن، فتتحزم وتلبس وتقوم إلى محرابها فكأنها الجذع القائم حتى تصبح؛ فإذا أصبحت وأمكنت الصلاة فإنما هي في صلاة حتى ينادى بالعصر، فإذا صلت العصر هجعت إلى غروب الشمس هذا دأبها، قيل لها: لو جعلت هذه النومة في الليل كان أهدأ لبدنك، فقالت: لا والله لا أنام في ظلمة الليل ما دمت في الدنيا.قال أبو سفيان فحدثني رجل من أهلها قال: فمكثت كذلك أربعين سنة ثم ماتت.

(1/399)

قال عامر بن مليك رأيت منيفة بعد موتها في منامي فقلت: يا منيفة ما حال الناس هناك? فأقبلت علي وقالت: عن أي حالهم تسأل? الدار واحدة لأهل الطاعة يتعالون فيها بالأعمال، ولا تسأل عن حال أهل النار. قال: فبكيت والله من قولها لا تسأل عن حال أهل النار. ثم وليت فأتبعتني صوتا: يا عامر عليك بالجد والاجتهاد لعلك أن تجري في مساعي السابقين غدا. قال عامر: فمرضت والله من هذه الرؤيا شهرا.و عن أمة قالت: بت ذات ليلة عند منيفة ابنة أبي طارق فما زادت على هذه الآية من أول الليل إلى آخره ترددها وتبكي وتقول وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم سورة آل عمران آية 101.ماجدة القرشيةقالت طوىأملي طلوع الشمس وغروبها، فما من حركة تسمع ولا من قدم توضع إلا ظننت أن الموت في أثرها.وكانت تقول: سكان دار أوذنوا بالنقلة وهم حيارى يركضون في المهلة كأن المراد غيرهم، أن التأذين ليس لهم والمعني بالأمر سواهم، آه من عقول ما أنقصها، ومن جهالة ما أتمها بؤسا لأهل المعاصي ماذا غروا به من الإمهال والاستدراج.وكانت تقول: بسطوا آمالهم فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال وطووا الآمال خفت عليهم الأعمال.وكانت تقول: لم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان لله والقيام لله بحقه في المنشط والمكره.وكانت تقول: كفى المؤمنين طول اهتمامهم بالمعاد شغلا.وكانت تقول: لو رأت أعين الزاهدين ثواب ما أعد الله لأهل الإعراض عن الدنيا لذابت أنفسهم شوقا إلى الموت لينالوا من ذلك ما أملوا من تفضله تعالى .....ذكر المصطفيات من عابدات البحرين المجهولات الأسماء

(1/400)

عابدة عن عبد الواحد بن زيد قال: رأيت امرأة بالبحرين تنشج على الآخرة نشيجا، كلما نشجت نشجة قلت: نفسها خارجة معها، قال: فحرصت على أن أجاريها شيئا من الخير فلم أقدر على ذلك فكان أول ما حفظت عنها وآخره أن قالت: تشاغل أيها المرء بنفسك، فوالله ما هممت قط بموعظة أعظ بها غيري إلا حال تقصيري فيما بيني وبين ذلك، ولئن كان المرء لا يعظ أحدا حتى يتعظ، لقد أمكن إبليس من نفسه يقوده حيث يشاء، والله ما أنا بحامدة لنفسي في ذلك ولود إبليس أنه قدر على ذلك من جميع الخلق كما قدر عليه مني، فلم يكن أحد يحض على طاعة الله ولكن مر أيها المرء بالبر وإن لم تستطعه، واحذر أن تنهى عن الشر وتأتيه.من المصطفين من أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير مولى لطيئيقال وهيب: سمعت أيوب يقول: ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير.قال عبد الله بن يحيى بن أبي كثير: سمعت أبي يقول: لا يأتي العلم براحة الجسد.و قال ميراث العلم خير من الذهب، والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ.قال يحيى بن أبي كثير: تعلم الفقه صلاة، وقراءة القرآن ودراسته صلاة. و قال العالم من يخشى الله عز وجل.يحيى بن عبد الله قال: أنبأ يحيى بن أبي كثير قال: يقول الناس: فلان الناسك، وإنما الناسك الورع.عن أبي عمرو، عن يحيى بن أبي كثير قال: ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله.قال يحيى بن أبي كثير: إن ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة.عن الأوزاعي عن يحيى أنه قال له رجل: إني أحبك، قال: قد عرفت ذلك من نفسي.كان يحيى بن أبي كثير حسن اللباس حسن الهيئة، ومات ولم يترك إلا ثلاثين درهما كفنوه بها.عابدة من البحرين أو اليمامة

(1/401)

عن ابن يسار قال: قدمت البحرين أو اليمامة في تجارة فإذا أنا بالناس مقبلين ومدبرين نحو منزل، فقصدت إليه فإذا أما بامرأة جالسة في مصلى لها، عليها ثياب غليظة وإذا هي كئيبة محزونة قليلة الكلام، وإذا كل ما رأيت ولدها وخولها وعبيدها والناس إليها بالبياعات والتجارات. فقضيت حاجتي ثم أتيتها فودعتها فقالت: حاجتنا إليك أن تأتينا إن عدت إلينا لحاجة فتنزل بنا حاجتك. قال: فانصرفت فلبثت حينا ثم إني توجهت إلى بلدها في حاجة فلما قدمتها لم أر دون منزلها شيئا مما كنت رأيت، فأتيت منزلها فلم أر أحدا. فأتيت فاستفتحت فإذا أنا بضحك امرأة وكلامها ففتح لي فدخلت فإذا بها جالسة في بيت وإذا عليها ثياب حسنة رقيقة وإذا الضحك الذي سمعت ضحكها وكلامها، وإذا امرأة معها في بيتها فقط، فاستنكرت وقلت: لقد رأيتك على حالين فيهما عجب: حالك في قدمتي الأولى وحالك هذه قالت: لا تعجب فإن الذي رأيت من حالي الأولى أني كنت فيما رأيت من الخير والسعة، وكنت لا أصاب بمصيبة في ولد ولا في خول ولا مال ولا أوجه في تجارة إلا سلمت، ولا يبتاع لي شيء إلا أربح فيه فتخوفت أن لا يكون لي عند الله عز وجل خير، فكنت مكتئبة لذلك، وقلت: لو كان لي عند الله خير ابتلاني. فتوالت علي المصائب في ولدي الذي رأيت، وخولي ومالي، فما بقي لي منه شيء، ورجوت أن يكون الله عز وجل قد أراد بي خيرا فابتلاني، وذكرني ففرحت لذلك وطابت نفسي.ذكر المصطفين من أهل الدينور ممشاد الدينوريأبو بكر الرازي قال: قال ممشاد: طريق الحق بعيد والصبر مع الحق شديد.وقال: ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برك، وعن ذكر من لا يغفل عن ذكرك.وقال: صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح، وصحبة أهل الفساد تورث فيه الفساد.أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الصائغ الدينوري

(1/402)

قال ممشاد: خرجت ذات يوم إلى الصحراء فبينما أنا مار إذا أنا بنسر قد فتح جناحه فتعجبت منه فاطلعت فإذا بأبي الحسن الصائغ الدينوري قائم يصلي والنسر يظله.أبو عثمان المغربي قال: لم أر فيمن رأيت من المشايخ أكثر هيبة من أبي الحسن الصائغ.من المصطفين من أهل همذان يوسف بن أيوب الهمذاني رضي الله عنهتفقه على أبي إسحاق الشيرازي حتى برع في الفقه والنظر، ثم اشتغل بالتعبد فاجتمع في رباطه بمر وخلق زائد على الحد من المنقطعين إلى الله تعالى.وكان يقول: دخلت جبل زر لزيارة الخوني فوجدت ذلك الجبل كثير المياه والشجر معمورا بالأولياء، على رأس كل عين واحد من الرجال مشتغل بالمجاهدة، فطفت عليهم ولا أعلم في ذلك الجبل حجرا لم تصبه دمعتي.ثم عاد يوسف ودخل بغداد في سنة ست وخمسمائة ووعظ بها ووقع له القبول التام، فقام إليه رجل متفقه يقال له ابن السقاء، فآذاه في مسألة فقال له: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ولعلك تموت على غير دين الإسلام. فاتفق بعد مدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم وتنصر.وقام يومئذ إلى يوسف شابان فقيهان فقالا له: إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فلا تتكلم. فقال: اجلسا لا متعكما بشبابكما. فماتا ولم يبلغا الشيخوخة.من المصطفين من أهل قزوين والان بن عيسى، أبو مريم القزويني رضي الله عنه

(1/403)

روى السري بن يحيى بعبادان، عن والان بن عيسى أبي مريم، عن رجل من أهل قزوين كان من الصالحين قال: غرني القمر ليلة فخرجت إلى المسجد فصليت لما قضى الله لي وسبحت ودعوت. فغلبتني عيناي، فرأيت جماعة أعلم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة ببياض الثلج، فوق كل رغيف در أمثال الرمان، فقالوا: كل. قلت: أريد الصوم، قالوا: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل. فأكلت وجعلت آخذ ذلك الدر لأحتمله فقيل لي: دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا. فقلت: أين? فقيل: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رضى وغنى وقرة العين أزواج وضيئات مرضيات راضيات، لا يغرن ولا يغرن، عليك بالانكماش فيما أنت فيه، فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار.فما مكث إلا جمعتين حتى توفي. قال السري بن يحيى، فرأيته في الليلة التي توفي فيها وهو يقول لي: لا تعجب من شيء غرس لي يوم حدثتك وقد حمل. قلت: حمل بماذا? قال: لا تسأل بما لا يقدر على صفته أحد، لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع.ذكر المصطفين من أهل أصبهانمحمد بن يوسف بن معدان أبو عبد الله الأصبهانيكان ابن المبارك يسميه عروس الزهاد قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت رجلا أفضل من محمد بن يوسف الأصبهاني. وسمعت ابن مهدي يقول: ما رأيت مثل محمد بن يوسف الأصبهاني.قال يحيى بن سعيد القطان: كنت إذا نظرت إلى محمد بن يوسف رأيت رجلا كأنه قد عاين الموت.قال الدورقي: وسمعت رجلا من أهل أصبهان يحدث عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كتب أخو محمد بن يوسف إلى محمد بن يوسف يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه: يا أخي بلغني كتابك تذكر ما أنتم فيه وإنه ليس ينبغي لمن عمل بالمعصية أن ينكر العقوبة وما أرى ما أنتم فيه إلا شؤم الذنوب.

(1/404)

كان محمد الأصبهاني يختلف إلي عشرين سنة لم أعرفه، يجيء إلى الباب فيقول: رجل غريب يسأل حتى رأيته يوما في المسجد فقيل لي: هذا محمد بن يوسف الأصبهاني، فقلت: هذا يختلف إلي منذ عشرين سنة لم أعرفه.أبو حاتم قال: بلغني عن ابن المبارك قال: قلت لابن إدريس: أريد الثغر، فدلني على أفضل رجل به. فقال: عليك بمحمد بن يوسف الأصبهاني. فقلت فأين يسكن? قال: المصيصة ويأتي السواحل.فقدم عبد الله بن المبارك المصيصة فسأل عنه فلم يعرف فقال ابن المبارك: من فضلك لا تعرف. يوسف بن زكريا قال: كان محمد بن يوسف لا يشتري زاده من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وقال: لعلهم يعرفوني فيحابوني فأكون ممن يعيش بدينه.قال سعيد لمحمد بن يوسف: أوصني. فقال: إن استطعت أن لا يكون شيء أهم إليك من ساعتك فافعل.أيوب بن معمر قال: حدثوني بالبصرة أن محمد بن يوسف كان يأوي بالليل إلى دار امرأة. قالت: فكان يدخل بعد العشاء ثم يخرج عند طلوع الفجر فلا ينصرف إلى العشاء. قالت: وكان يدخل بيتا في الدار ويرد على نفسه الباب. قالت: فذهبت ليلة فاطلعت في البيت فرأيت عنده سراجا يزهر قالت: ولم يكن في البيت سراج قالت: ففطن محمد أنا اطلعنا عليه فخرج من الغد ولم يعد إلينا.قال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت محمد بن يوسف في الشتاء والصيف، فلم يكن يضع جنبه.روى محمد بن أبي رجاء ومحمد بن قتيبة أو أحدهما: أن محمد بن يوسف خرج في جنازة بالمصيصة فنظر إلى قبر أبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين، وبينهما موضع قبر. فقال لو أن رجلا مات فدفن بينهما.قال: فما أنت عليه إلا عشرة أيام أو نحوها حتى دفن في الموضع الذي أشار إليه.أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الأصبهاني

(1/405)

كانت عبادته تشبه عبادة الملائكة: قليلة يقوم إلى قريب الفجر ثم يركع ويتمها ركعتين، وليلة يركع إلى قريب الفجر ثم يسجد ويتمها ركعتين، وليلة يسجد إلى قريب الفجر ثم يركع ويتمها ركعتين، ثم يدعو في آخر الليل لجميع الناس، ولجميع الحيوان والبهائم والوحش، ويقول: في اليهود والنصارى: اللهم اهدهم، ويقول في التجار: اللهم سلم تجاراتهم.أبو عبيد الله محمد بن يوسف البناءكان يفتي الناس بالأجرة فيأخذ منها دانقا لنفقته ويتصدق بالباقي، ويختم كل يوم ختمة. ولقي ستمائة شيخ، وكتب الحديث الكثير.قال محمد بن يوسف: كنت بمكة فكنت أدعو الله عز وجل وأقول: يا رب إما أن تدخل قلبي المعرفة أو اقبضني إليك، فلا حاجة لي في الدنيا والحياة بلا معرفة. قال: فرأيت في النوم كأن قائلا يقول: إن أردت هذا فصم شهرا ولا تكلم أحدا من الناس فيه، ثم ادخل قبة زمزم وسل الحاجة. ففعلت ذلك وختمت كل يوم ختمة. فلما انقضى الشهر على ذلك دخلت قبة زمزم ورفعت يدي ودعوت الله عز وجل، وسألته الحاجة فسمعت من البئر هاتفا يقول: يا ابن يوسف اختر أيما أحب إليك: العلم مع الغنى والدنيا أم المعرفة مع الفقر والقلب? فقلت: المعرفة مع الفقر والقلب. فسمعت من البئر، قد أعطيت، قد أعطيت.أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستمكان أحمد ذا مال كثير نحو ثلثمائة ألف درهم، فأنفقه كله على العلم، وذكر أنه لم يعرف له فراش أربعين سنة.

(1/406)

قال أحمد بن مهدي: جاءتني امرأة ببغداد ليلة من الليالي فذكرت أنها من بنات الناس، وأنها امتحنت بمحنة وسألك بالله أن تسترني. فقلت: وما محنتك? فقالت: أكرهت على نفسي، وأنا حبلى، وذكرت للناس أنك زوجي وأن ما بي من الحبل منك، فلا تفضحني، استرني سترك الله. فسكت عنها ومضت. فلم أشعر حتى وضعت وجاء إمام المحلة في جماعة الجيران يهنئوني بالولد فأظهرت لهم التهلل ووزنت في اليوم الثاني دينارين ودفعتهما إلى الإمام فقلت: أبلغ هذا إلى تلك المرأة لتنفقه على المولود فإنه سبق ما فرق بيني وبينها. فكنت أدفع كل شهر دينارين وأوصله إليها بيد الإمام وأقول: هذه نفقة المولود إلى أن أتى على ذلك سنتان ثم توفي المولود فجاءني الناس يعزوني، فكنت أظهر لهم التسليم والرضا فجاءتني المرأة ليلة من الليالي بعد شهر ومعها تلك الدنانير التي كنت أبعث بها بيد الإمام فردتها وقالت: سترك الله كما سترتني. فقلت: هذه الدنانير كانت صلة مني للمولود، وهي لك فإنك ربيته فاعملي فيها ما تريدين.علي بن سهل بن الأزهر أبو الحسن الأصبهانيكان من المترفين فتزهد فكان يبقى الأيام الكثيرة لا يأكل.قال علي بن سهل: استولى علي الشوق فألهاني عن الأكل.قال علي بن سهل بن الأزهر يقول: المبادرة إلى الطاعات من علامات التوفيق، والتقاعد عن المخالفات من علامات حسن الرعاية، ومراعاة الأسرار من علامات التيقظ، وإظهار الدعاوى من رعونات البشرية، ومن لم تصح مبادي إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه.عابد أصبهاني قال عبد الواحد خرجت أنا و جماعة نزور أخاص لنا بأرض فارس. فلما جاوزنا مهرمز إذا نحن برجل مجذوم متفطر قيحا ودما. فقال له بعضنا: يا هذا لو دخلت هذه المدينة فتداويت وتعالجت من بلائك هذا. فرفع طرفه إلى السماء ثم قال: إلهي أتيت بهؤلاء ليسخطوني عليك? لك الكرامة والعتبى بأن لا أخالفك أبدا.ذكر المصطفين من أهل الري جرير بن عبد الحميد بن جرير الرازي

(1/407)

كان جرير بن عبد الحميد الرازي صاحب ليل، وكان له رسن يقولون: إذا أعيا تعلق به. يريد أنه كان يصلي.سفيان بن عيينة قال: قال لي ابن شبرمة: عجبا لهذا الرازي، يعني جرير بن عبد الحميد، عرضت عليه مائة درهم في الشهر من الصدقة فقال: يأخذ المسلمون كلهم مثل هذا? قلت: لا. قال: فلا حاجة لي فيها.المعلى بن منصور الرازييحيى بن معين قال: كان المعلى بن منصور الرازي يوما يصلي فوقع على رأسه كور الزنابير فما التفت ولا انفتل حتى أتم صلاته فنظروا فإذا رأسه قد صار هكذا من شدة الانتفاخ.أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازيكان من كبار الحفاظ وسادات أهل التقوى.عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أحفظ من أبي زرعة.قال أحمد بن حنبل: صح من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتى - يعني أبا زرعة - قد حفظ ستمائة ألف.قال محمد بن إسحاق الصاغاني في حديث ذكره من حديث الكوفة فقال: هذا أفادنيه أبو زرعة. فقال له بعض من حضر: يا أبا بكر أبو زرعة من أولئك الحفاظ الذين رأيتهم، وذكر جماعة من الحفاظ منهم الفلاس. فقال: أبو زرعة أعلاهم لأنه جمع الحفظ مع التقوى والورع، وهو يشبه بأحمد بن حنبل.سئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل حنث? فقال: لا. ثم قال أبو زرعة: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد سورة الإخلاص آية 1. وفي المذاكرة ثلثمائة ألف.صلى أبو زرعة في مسجده عشرين سنة بعد قدومه من السفر، كان يوم من الأيام قدم عليه قوم من أصحاب الحديث، فنظروا فإذا في محرابه كتابة، قالوا له: كيف تقول في الكتابة والمحاريب? فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. قالوا له: هو ذا في محرابك كتابة أو ما علمت به? قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله تعالى ويدري ما بين يديه.

(1/408)

قال أبو جعفر التستري: حضرنا أبا زرعة وكان في السوق، وعنده أبو حاتم ومحمد بن مسلم والمنذر بنشاذان وجماعة من العلماء، فذكروا حديث التلقين، وقوله عليه السلام لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فاستحيوا من أبي زرعة وهابوا أن يلقنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث فقال محمد بن مسلم أنبأ الضحاك بن مخلد عن عبد الحميد بن جعفر بن صالح ولم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زرعة وهو في السوق: ثنا بندار قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وتوفي رحمه الله .وجالس أحمد بن حنبل وذاكره. وكان أحمد إذا ذاكره يترك الشغل ويشتغل بمذاكرته.قال المرادي: رأيت أبا زرعة في المنام فقلت يا أبا زرعة ما فعل الله بك? فقال: لقيت ربي عز وجل فقال لي: يا أبا زرعة إني أوتي بالطفل فآمر به إلى الجنة فكيف بمن حفظ السنن على عبادي? تبوأ من الجنة حيث شئت.يحيى بن معاذ بن جعفر الرازيوكانوا ثلاثة أخوة: إسماعيل ويحيى وإبراهيم، .....وكانوا كلهم زهادا.قال محمد السمرقندي: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: الكلام الحسن حسن، وأحسن من الحسن معناه وأحسن من معناه استعماله وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من يعمل له.قال يحيى : إلهي حجتي حاجتي وعدتي فاقتي، وسيلتي إليك نعمتك علي، وشفيعي إليك إحسانك إلي.طاهر بن إسماعيل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة.دعا يحيى بن معاذ: اللهم لا تجعلنا ممن يدعو إليك بالأبدان ويهرب منك بالقلوب، يا أكرم الأشياء علينا لا تجعلنا أهون الأشياء عليك.

(1/409)

قال يحيى بن معاذ: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب? هيهات، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك.قال: يحيى بن معاذ الرازي: كيف أمتنع بالذنب من الدعاء ولا أراك تمتنع بذنبي من العطاء? أبو بكر بن طاهر قال: كان ليحيى بن معاذ أخ يقال له إسماعيل، وكان أكبر منه، فقال رجل: مع من يريد أن يعيش أخوك يحيى وقد هجر الخلق? قال: فذكر ذلك ليحيى فقال له يحيى: ألا قلت له: مع من هجرهم فيه?قال يحيى بن معاذ : ذنب أفتقر به إليه أحب إلي من طاعة أفتخر بها عليه.قال يحيى ليكن حظ المؤمن منك ثلاثا: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.قال يحيى على قناطر الفتن جاوزوا إلى خزائن المنن.وقال إلهي كيف أفرح وقد عصيتك? وكيف لا أفرح وقد عرفتك? وكيف أدعوك وأنا خاطئ? وكيف لا أدعوك وأنت كريم? جامع بن أحمد قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: ليكن بيتك الخلوة وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة فإما أن تموت بدائك أو تصل إلى دوائك.قال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما: في ماله عند موته. قيل ما هما? قال يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.قال يحيى بن معاذ الكيس من عمال الله يلهج بتقويم الفرائض والجاهل يعني بطلب الفضائل وتقويم الأعمال في تصحيح العزائم.قال يحيى: هلم يا ابن آدم إلى دخول جوار الله تعالى بلا عمل ولا نصب ولا عناء، أنت بين ما مضى من عمرك وما بقي، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم وليس شيئا عملته بالأركان فإذا أنت إنما هو أمر نويته وتمتنع فيما بقي من الذنوب وامتناعك إنما هو شيء نويته وليس شيئا عملته بالأركان فإذا أنت نجوت بغير عمل مع القيام بالفرائض وهذا ليس بعمل وهو أكبر الأعمال لأنه عمل القلب والجزاء لا يكون إلا على عمل القلب.

(1/410)

قال يحيى بن معاذ: دواء القلب خمسة أشياء، قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.وقال إذا كنت لا ترضى عن الله كيف تسأله الرضا عنك.قال يحيى بن معاذ: لولا أن العفو من أحب الأشياء إليه ما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.قال يحيى بن معاذ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم. ثم قال يحيى: هذا أستغفر الله وقلبه فاجر، وهذا سكت وقلبه ذاكر.قال يحيى بن معاذ الرازي: حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء.قال: يحيى بن معاذ: الناس ثلاثة: رجل شغله معاده عن معاشه، ورجل شغله معاشه عن معاده ورجل مشتغل بهما جميعا، فالأولى درجة الفائزين، والثانية درجة الهالكين، والثالثة درجة المخاطرين.قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من ربه العفو.قال يحيى بن معاذ: الزاهدون غرباء الدنيا والعارفون غرباء الآخرة.قال يحيى بن معاذ: يا بن آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها فاعقل شأنك.قال يحيى بن معاذ: مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب - وسمعته يقول: يا ابن آدم لا يزال دينك متمزقا ما دام قلبك بحب الدنيا متعلقا.وقيل له من أي شيء دوام غمك? قال: من شيء واحد قيل: ما هو? قال: خلقني ولا أدري لم خلقني.وقال لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة.وقال من سعادة المرء أن يكون خصمه فهما وخصمي لا فهم له. قيل له: ومن خصمك? قال: نفسي تبيع الجنة بما فيها من النعيم المقيم بشهوة ساعة.وقال: للتائب فخر لا يعادله فخر، فرح الله بتوبته.قال يحيى بن معاذ الرازي: لا تستبطئ الإجابة إذا دعوت وقد سددت طرقاتها بالذنوب.وقال: إلهي إن كانت ذنوبي عظمت في جنب نهيك فإنها قد صغرت في جنب عفوك.

(1/411)

وقال: لو سمع الخلق صوت النياحة على الدنيا في الغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا، ولو رأت العقول بعيون الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا، ولو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولها، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشا، سبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء.قال يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والنهار نقي فلا تدنسه بآثامك.قال: يحيى بن معاذ: حفت الجنة بالمكاره وأنت تكرهها، وحفت النار بالشهوات وأنت تطلبها، فما أنت إلا كالمريض الشديد الداء، إن صبر نفسه على مضض الدواء اكتسب بالصبر عافية وإن جزعت نفسه مما يلقى طالت به علة الضنا.قال: يحيى بن معاذ: ألا إن العاقل المصيب من عمل ثلاثا: ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه.وقال الدنيا خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها.وقال أخوك من عرفك العيوب، وصديقك من حذرك من الذنوب.وقال عجبت ممن يحزن على نقصان ماله كيف لا يحزن على نقصان عمره.وقال على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بالله يشتغل الخلق بأمرك.قال يحيى بن معاذ: إن قال لي يوم القيامة: عبدي، ما غرك بي? قلت: إلهي برك بي.وقال، وسئل: أرنا عارفان قال: وأين أنتم فأريكم? عجبا لقوم عموا عن العرفاء يطلبون الخلفاء.وقال: استسلم القوم عندما فهموا.وقال: من قوة اليقين ترك ما يرى لما لا يرى.وقال: أيها المريدون إن اضطررتم إلى طلب الدنيا فاطلبوها ولا تحبوها، وأشغلوا بها أبدانكم وعلقوا بغيرها قلوبكم، فإنها دار ممر وليست بدار مقر، الزاد منها والمقيل في غيرها.وقال رضي الله عن قوم فغفر لهم السيئات، وغضب على قوم فلم يقبل منهم الحسنات.

(1/412)

وقال: يا ابن آدم، ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت? وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت? وسمعته يقول: التوحيد في كلمة واحدة، ما تصور في الأوهام فهو بخلافه.وقال: طاعة لا حاجة بي إليها لا تمنعني مغفرة لا غناء بي عنها.وقال: هو ألقاهم في الذنب يوم سمى نفسه العفو الغفور.وقال: ذنب أفتقر به إليه أحب إلي من عمل أدل به عليه.وقال: إلهي كيف لا أرجوك تغفر لي ذنبا رجاؤك ألقاني فيه?وقال: إن الحكيم يشبع من ثمار فيه.وقال: كيف أحب نفسي وقد عصتك? وكيف لا أحبها وقد عرفتك? وسمعته يقول: إن وضع علينا عدله لم تبق لنا حسنة، وإن أتى فضله لم تبق لنا سيئة.وقال: إن غفرت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم.وقال إلهي ضيعت بالذنب نفسي، فارددها بالعفو علي.وقال: إلهي ارحمني لقدرتك علي أو لحاجتي إليك.وقال: مسكين من علمه حجيجه ولسانه، وفهمه القاطع لعذره.وقال: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة. ثم قال: إلهي سلامة إن لم تكن كرامة.وقال: وسئل ما العبادة? فقال: حرفة حانوتها الخلوة وربحها الجنة.وقال: ما من رباني في الطريق ينعمه، وأشار لي في الورود إلى كرمه معرفتي بك دليلي عليك، وحبي لك شفيعي إليك.وقال ما من أعطانا خير ما في خزائنه الإيمان به قبل السؤال، لا تمنعنا عفوك مع السؤال.وقال: إلهي إن إبليس لك عدو وهو لنا عدو، وإنك لا تغيظه بشيء هو أنكأ له من عفوك، فاعف عنا يا أرحم الراحمين.وقال: يا من يغضب على من لا يسأله، لا تمنع من قد سألك.وقال: لا تقع للمؤمن سيئة إلا وهو خائف أن يؤخذ بها، والخوف حسنة فيرجو أن يعفى عنها والرجاء حسنة.وقال إلهي لا تنس لي دلالتي عليك وإشارتي بالربوبية إليك، رفعت إليك يدا بالذنوب مغلولة، وعينا بالرجاء مكحولة، فاقبلني لأنك ملك لطيف، وارحمني لأني عبد ضعيف.

(1/413)

وقال: هذا سروري بك خائفا، فكيف سروري بك آمنا? هذا سروري بك في المجالس فكيف سروري بك في تلك المجالس، هذا سروري بك في دار الفناء فكيف يكون سروري بك في دار البقاء? عبد الله بن سهل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: من أحب زينة الدنيا والآخرة فلينظر في العلم ومن أحب أن يعرف الزهد فلينظر في الحكمة، ومن أحب أن يعرف مكارم الأخلاق فلينظر في فنون الآداب، ومن أحب أن يستوثق من أسباب المعاش فليستكثر من الإخوان، ومن أحب أن لا يؤذي فلا يؤذين، ومن أحب رفعة الدنيا والآخرة فعليه بالتقوى.وسمعته يقول: من خان الله عز وجل في السر هتك سره في العلانية.أبو محمد الإسكاف قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب - ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل.قال يحبى بن معاذ: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه، ويم حشره ميزانه.قال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لا يفيق إلا في عسكر الموتى نادما بين الخاسرين.قال يحيى بن معاذ ، وقال له بعض الملحدين: أخبرني عن الله ما هو? قال: إله واحد. قال كيف هو? قال: ملك قادر. قال: أين هو? قال: بالمرصاد. قال ليس عن هذا سألتك. قال يحيى: فذاك إذا صفة المخلوقين، وأما صفة الخالق فما أخبرتك به.إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص

(1/414)

أبو مسلم السقاء قال: سمعت بعض أصحابنا يحكي عن إبراهيم الخواص أنه قال: كان لي وقت فترة، فكنت أخرج كل يوم إلى شط نهر كبير كان حواليه الخوص، وكنت أقطع شيئا من ذلك وأسفه قفافا وأطرحه في ذلك النهر فأتسلى بذلك وكأني كنت مطالبا به، فجرى وقتي على ذلك أياما كثيرة فتفكرت يوما وقلت: أمضي خلف ما أطرحه من الماء من القفاف لأنظر أين تذهب فمضيت على شاطئ النهر ساعات ولم أعمل ذلك اليوم فإذا عجوز قاعدة على شط النهر تبكي، قلت: ما لك تبكين? فقالت: لي خمسة من الأيتام مات أبوهم فأصابني الفقر والشدة فأتيت يوما هذا الموضع فجاء على رأس الماء قفاف من الخوص فأخذتها وبعتها وأنفقت عليهم، وأتيت اليوم الثاني والثالث والقفاف تجيء على رأس الماء فكنت آخذها وأبيعها، واليوم ما جاءت. قال إبراهيم: فرفعت يدي إلى السماء وقلت: اللهم لو علمت أن لي خمسة من العيال لزدت في العمل. وقلت للعجوز: لا تغتمي فإني الذي كنت أعمل ذلك. فمضيت معها فكانت فقيرة فقمت بأمرها وبأمر عيالها سنين. أو كما قال.محمد بن زياد المقيم بكلواذي وكان قد بكى حتى ذهبت عيناه. قال: سألت إبراهيم الخواص عن أعجب ما رآه في البادية فقال: كنت ليلة من الليالي في البادية فنمت على حجر فإذا أنا بشيطان قد جاء وقال: قم من ها هنا. فقلت: اذهب. فقال: إني أرفسك فتهلك. فقلت: افعل ما شئت. فرفسني فوقعت رجله علي كأنها خرقة، فقال: أنت ولي الله، من أنت? قلت: أنا إبراهيم الخواص. قال: صدقت. ثم قال: يا إبراهيم معي حلال وحرام، فأما الحلال فرمان من الجبل المباح، وأما الحرام فحيتان، مررت على صيادين وهما يصطادان فتخاونا فأخذت الخيانة فكل أنت الحلال ودع الحرام.

(1/415)

حامد الأسود قال: كنت مع إبراهيم الخواص في سفر فدخلنا إلى بعض الغياض فلما أدركنا الليل إذا بالسباع قد أحاطت بنا فجزعت لرؤيتها وصعدت إلى شجرة، ثم نظرت إلى إبراهيم وقد استلقى على قفاه فأقبلت السباع تلحسه من قرنه إلى قدميه، وهو لا يتحرك. ثم أصبحنا وخرجنا إلى منزل آخر وبتنا في مسجد فرأيت بقة وقعت على وجه إبراهيم فلسعته، فقال: أخ. فقلت: يا أبا إسحاق أي شيء هذا التأوه? أين أنت من البارحة? فقال: ذاك حال كنت فيه بالله، وهذا حال أنا فيه بنفسي.كان إبراهيم الخواص جالسا في مسجد الري وعنده جماعة إذ سمع ملاهي من الجيران، فاضطرب من ذلك من كان في المسجد وقالوا: يا أبا إسحاق ما ترى? فخرج إبراهيم من المسجد نحو الدار التي فيها المنكر فلما بلغ طرف الزقاق إذا كلب رابض فلما قرب منه إبراهيم نبح عليه وقام في وجهه. فرجع إبراهيم إلى المسجد وتفكر ساعة ثم قام مبادرا وخرج فمر على الكلب فبصبص الكلب له فلما قرب من باب الدار خرج إليه شاب حسن الوجه وقال: أيها الشيخ لم انزعجت? كنت وجهت ببعض من عندك فأبلغ كل ما تريد، وعلي عهد الله وميثاقه لا شربت أبدا وكسر الجميع ما كان عنده من الشراب وآلته وصحب أهل الخير ولزم العبادة.ورجع إبراهيم إلى مسجده فلما جلس سئل عن خروجه في أول مرة ورجوعه، ثم خروجه في الثانية وما كان من أمر الكلب، فقال: نعم، إنما نبح علي الكلب لفساد كان قد دخل علي في عقد بيني وبين الله لم أنتبه له في الوقت، فلما رجعت إلى الموضع ذكرته فاستغفرت الله عز وجل منه. ثم خرجت الثانية فكان ما رأيتم، وهكذا كل من خرج لإزالة منكر فتحرك عليه شيء من المخلوقات فلفساد عقد بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقع الأمر على الصحة لم يتحرك عليه شيء.قال: الخواص: من لم يصبر لم يظفر، وإن لإبليس وثاقين ما أوثق بنو آدم بأوثق منهما: خوف الفخر والطمع.

(1/416)

قال إبراهيم الخواص: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.وقال: على قدر إعزاز المرء الله يلبسه الله من عزه، ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.قال إبراهيم الخواص: من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه.مرض إبراهيم الخواص بالري في مسجد الجامع وكان به علة القيام وكان إذا قام يدخل الماء ويغتسل ويعود إلى المسجد فيركع ركعتين. فدخل مرة ليغتسل فخرجت روحه وتوفي وسط الماء.يوسف بن الحسين الرازي يكنى أبا يعقوبقال ا بن الحسين: علم القوم أن الله يراهم، واستحيوا من نظره أن يراعوا شيئا سواه.وقال: يتولد الإعجاب بالعمل من نسيان رؤية المنة.فارس البغدادي قال: سمعت يوسف بن الحسين يقول: على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك لله عز وجل يحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل الخلق بأمرك.قال الخناقاباذي: حضرنا يوسف بن الحسين الرازي وهو يجود بنفسه، فقيل له: يا أبا يعقوب قل شيئا. فقال: اللهم إني نصحت خلقك طاهرا وغششت نفسي باطنا، فهب لي غشي لنفسي لنصحي لخلقك. ثم خرجت روحه.حكى أبو خلف الوزان عن يوسف بن الحسين أنه رئي في المنام فقيل له: ماذا فعل الله بك? قال: غفر لي ورحمني. فقيل: بماذا? قال: بكلمة أو كلمات قلتها عند الموت: قلت: اللهم إني نصحت الناس قولا وخنت نفسي فعلا فهب خيانة فعلي لنصح قولي.أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيريقال أبو عمرو بن نجيد: كنت أختلف إلى أبي عثمان مدة في وقت شبابي، وكنت قد حظيت عنده. فقضي من القضاء أني اشتغلت بشيء مما يشتغل به الفتيان، فنقل ذلك إلى أبي عثمان وانقطعت عنه بعد ذلك. وكنت إذا رأيته في الطريق اختفيت فدخلت يوما سكة من السكك فخرج علي أبو عثمان من عطفة فلم أجد عنه محيصا، فتقدمت إليه وأنا دهش متشور. فقال لي: يا أبا عمرو لا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوما.

(1/417)

قالت مريم امرأة أبي عثمان: كنا نؤخر اللعب والضحك والحديث إلى أن يدخل أبو عثمان في ورده من الصلاة فإنه كان إذا دخل الخلوة لم يحس بشيء من الحديث وغيره.قالت مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها فقلت: يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك? فقال: يا مريم لما ترعرت وأنا بالري كانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، فجاءتني امرأةفقالت: يا أبا عثمان قد أحببتك حبا أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتول به إليك أن تتزوج بي. قلت: ألك والد? قالت: نعم، فلان الخياط في موضع كذا وكذا فراسلت أباها أن يزوجها مني ففرح بذلك وأحضرت الشهود فتزوجتها. فلما دخلت بها وجدتها عوراء عرجاء شوهاء الخلق. فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي. وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك وأزيدها برا وإكراما إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها. فتركت حضور المجالس إيثارا لرضاها وحفظا لقلبها. ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة وكأني في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها شيئا من ذلك، إلى أن ماتت فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي.قال أبو عثمان الحيري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لقوله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا سورة النور آية 54.قال أبو عثمان: الخوف من الله يوصلك إليه، والعجب يقطعك عنه، واحتقار الناس في نفسك مرض لا يداوى.وقال أبو عثمان: حق لمن أعزه الله بالمعرفة أن لا يذل نفسه بالمعصية.

(1/418)

قال أبو عثمان وقد سئل عن الصحبة، فقال: الصحبة مع الله عز وجل بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، ولزوم ظاهر الحكم، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة، والصحبة مع الأهل والولد بحسن الخلق، والصحبة مع الإخوان بدوام البشر والانبساط ما لم يكن إثما، والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة عليهم ورؤية نعمة الله عليك إذ عافاك مما ابتلاهم به.قال أبو عثمان: الذكر الكثير أن تذكر في ذكرك أنك لا تصل إلى ذكره إلا به وبفضله.قال أبو عثمان يقول: منذ اربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته.أبو عمرو بن مطر قال: حضرت مجلس أبي عثمان الخيري فخرج ثم قعد على موضعه الذي كان يقعد فيه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته فناداه رجل: ترى أن تقول في سكوتك شيئا? فأنشا يقول:وغير تقي بأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.لما تغيرت الحال على عثمان وقت وفاته، مزق ابنه أبو بكر قميصا كان عليه ففتح أبو عثمان عينه وقال: يا بني خلاف السنة في الظاهر من رياء في باطن القلب الباطن.ومن عباد دامغان فاطمة بنت عمرانكانت كثيرة الاجتهاد.قدم الرملي فلقي فاطمة فقال هذه زاهدة وقتها وكانت مستجابة الدعوة مقيمة على تعهد الفقراء إلى أن ماتت.ذكر المصطفين من أهل بسطام أبو يزيد البسطاميوكان سروشان مجوسيا فأسلم وكان لعيسى ثلاثة أولاد: أبو يزيد وهو أوسطهم، وآدم، وهو أكبرهم، وعلي وهو أصغرهم، وكانوا كلهم عبادا زهادا.وقال أبو يزيد: لا يعرف نفسه من صحبته شهوته.وسئل أبو يزيد البسطامي، ما علامة العارف? قال: أن لا يفتر من ذكره، ولا يمل من حقه، ولا يستأنس بغيره.وقال: إن الله أمر العباد ونهاهم فأطاعوا فخلع من خلعه فاشتغلوا بالخلع عنه، وإني لا أريد من الله إلا الله.وقال أبو يزيد: لو صفت لي تهليلة ما بليت بعدها بشيء.

(1/419)

قال أبو يزيد: هذا فلاحي بك وأنا أخافك فكيف فرحي بك إذ أمنتك? وسئل بما نالوا المعرفة? قال: بتضييع مالهم والوقوف مع ما له.قال أبو يزيد البسطامي: ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير؛ بل إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير.وقال أبو يزيد: لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت أن أذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالا لله أن أذكره.وقال أبو يزيد: إن في الطاعات من الآفات ما لا يحتاجون إلى أن يطلبوا في المعاصي.وقال أبو يزيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر.وقال أبو يزيد أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة، أولهم: الزاهد بزهده، والثاني: العابد بعبادته، والثالث: العالم بعلمه. ثم قال: مسكين الزاهد، لو علم أن الله عز وجل سمى الدنيا كلها قليلا فكم ملك من الدنيا? وفي كم زهد مما ملك? وأما العابد فلو رأى منه الله عليه في العبادة عرف عبادته في المنة، وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله عز وجل من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ فكم علم هذا العالم من ذلك السطر? وكم عمل مما علم? قال: سمعت أبا يزيد يقول: ما ذكروه إلا بالغفلة ولا خدموه إلا بالفترة.قال أبو يزيد: قعدت ليلة في محرابي فمددت رجلي فهتف بي هافت من يجالس الملوك فينبغي أن يجالسهم بحسن الأدب.قال أبا يزيد: دعوت نفسي إلى الله فأبت علي واستعصت، فتركتها ومضيت إلى الله عز وجل.قال أبو يزيد: رأيت رب العزة تبارك وتعالى في المنام، فقلت: يا بار خدا، كيف الطريق إليك?قال: اترك نفسك ثم تعال.كان أبو يزيد يعظ نفسه فيصيح عليها فيقول: يا مأوى كل سوء، المرأة إذا حاضت طهرت بثلاثة أيام أو أكثره بعشرة، أنت يا نفس قاعدة منذ عشرين وثلاثين سنة بعد ما طهرت فمتى تطهرين? إن وقوفك بين يدي طاهر ينبغي أن يكون طاهرا.قال أبا يزيد: عرج قلبي إلى السماء فطاف ودار ورجع، فقلت: بأي شيء جئت معك? قال: المحبة والرضا.

(1/420)

عن أبي يزيد قال: نظرت فإذا الناس في الدنيا متلذذون بالنكاح والطعام والشراب، وفي الآخرة بالمنكوح والملذوذ، فجعلت لذتي في الدنيا ذكر الله عز ول وفي الآخرة النظر إلى الله عز وجل. ..... ..... .....ذكر المصطفين من أهل نيسابور يحيى بن يحيى النيسابوريذكر أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوما ابن المبارك فقال: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له، ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك، ولا بعد ابن المبارك، مثل يحيى بن يحيى.قال المروزي: سمعت بعض الخراسانية يقول: إن يحيى بن يحيى شرب شربة دواء، فقالت له امرأته: لو قمت فترددت في الدار. فقال يحيى: ما أدري ما هذه المشية أنا أحارب نفسي منذ أربعين سنة.كان يحيى يحضر مجلس مالك فانكسر قلمه فناوله المأمون قلما من ذهب أو مقلمة ذهب. فامتنع عن قبوله، فقال له المأمون: ما اسمك? قال: يحيى النيسابوري. فقال: تعرفني? قال: نعم، أنت المأمون ابن أمير المؤمنين. قال: فكتب المأمون على ظهر جزئه ناولت يحيى بن يحيى النيسابوري قلما في مجلس مالك فلم يقبله.فلما أفضت الخلافة إليه بعث إلى عامله بنيسابور وأمره أن يولي يحيى بن يحيى القضاء فبعث إليه يستدعيه فقال بعض الناس: إنه يمتنع من الحضور وليته أذن للرسول، فأنفذ إليه كتاب المأمون فقرئ عليه فامتنع من القضاء فرد إليه ثانيا وقال: إن أمير المؤمنين يأمرك بشيء وأنت من رعيته وتأبى عليه? فقال: قل لأمير المؤمنين ناولتني قلما وأنا شاب فلم أقبله فتجبروني الآن على القضاء وأنا شيخ? فرفع الخبر إلى المأمون.قال: قد علمت امتناعه ولكن ول القضاء رجلا تختاره. فبعث إليه العامل في ذلك فاختار رجلا فولي القضاء، ودخل على يحيى وعليه سواد فضم يحيى فراشا كان جالسا عليه كراهية أن يجمعه وإياه. فقال: أيها الشيخ ألم تخترني? قال: إنما قلت: اختاروه، وما قلت لك: تقلد القضاء.إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم أبو يعقوب الحنظلي ويقال له ابن راهويه

(1/421)

أحد أئمة الإسلام، رحل إلى العراق والحجاز واليمن والشام وعاد فاستوطن نيسابور.قال محمد بن أسلم الطوسي: حين مات إسحاق الحنظلي: ما أعلم أحدا كان أخشى لله من إسحاق، وكان أعلم الناس، ولو كان سفيان الثوري في الحياة لاحتاج إلى إسحاق.قال محمد بن عبد السلام: فأخبرت بذلك محمد بن يحيى الصفار فقال: والله لو كان الحسن البصري في الحياة لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة.قال إسحاق بن إبراهيم: أحفظ سبعين ألف حديث كأنها نصب عيني.قال أحمد بن حنبل، وذكر إسحاق، فقال: لا أعلم ولا أعرف لإسحاق بالعراق نظيرا.قال أحمد بن حنبل: لم يعبر الجسر مثل إسحاق.قال الفضل: سألت أحمد بن حنبل عن رجال خراسان فقال: أما إسحاق بن راهويه فلم ير مثله.أبو يحيى الشعراني قال: ما رأيت بيد إسحاق كتابا قط، ما كان يحدث إلا حفظا، وقال: كنت إذا ذاكرت إسحاق العلم وجدته فيه فردا فإذا جئت إلى أمر الدنيا رأيته لا رأي له.محمد بن رافع بن أبي يزيد أبو عبد الله النيسابوري القشيريزكريا بن دلويه قال: بعث طاهر بن عبد الله إلى محمد بن رافع بخمسة آلاف درهم على يد رسوله، فدخل عليه بعد صلاة العصر وهو يأكل الخبز مع الفجل، فوضع الكيس بين يديه فقال: بعث الأمير طاهر بهذا المال إليك لتنفقه على أهلك. فقال: خذ، خذ، لا أحتاج إليه، فإن الشمس قد بلغت رءوس الحيطان إنما تغرب بعد ساعة وقد جاوزت الثمانين، إلى متى أعيش? فرد المال ولم يقبل. فأخذ الرسول المال وذهب فدخل عليه ابنه فقال: يا أبة ليس لنا الليلة خبز. قال: فذهب بعض أصحابه خلف الرسول ليرد المال إلى حضرة صاحبه فزعا من أن يذهب ابنه خلف الرسول فيأخذ المال.قال زكريا: ربما يخرج إلينا محمد بن رافع في الشتاء الشاتي وقد لبس لحافه الذي يلبسه بالليل.أبو حفص النيسابوري عمرو بن سلم

(1/422)

قال محمش الجلاب: صحبت أبا حفص اثنتين وعشرين سنة ما رأيته ذكر الله عز وجل على حد الغفلة والانبساط، ما كان يذكر إلا على سبيل الحضور والتعظيم والحرمة. وكان إذا ذكر الله تعالى تغيرت عليه حاله حتى كان يرى ذلك منه جميع من حضره.كان أبو حفص إذا غضب تكلم في حسن الخلق حتى يسكن غضبه، ثم يرجع إلى حديثه.كان أبو حفص يقول: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال.أبو أحمد بن عيسى قال: سمعت أبا حفص يقول: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه .وسئل من الرجال? قال: القائمون مع الله بوفاء العهود، قال الله تعالى: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه سورة الأحزاب آية 23.قال أبا حفص النيسابوري: ما استحق اسم السخاء من ذكر العطاء ولا من لمحه بقلبه، وإنما يستحقه من نسيه حتى كأنه لم يعط.علي بن شعيب السقاءحج نيفا وخمسين حجة. أحرم في كل حجة من نيسابور، وكان يصلي في البادية عند كل ميل ركعتين، ثم يقول: قال اله عز وجل ليشهدوا منافع لهم سورة الحج آية 28 وهذه منافع حجي.أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصارقيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا? قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.وقال: كفايتك تساق إليك من غير تعب ولا نصب، وإنما التعب في الفضول.سفه رجل على حمدون، فسكت حمدون عنه وقال: يا أخي لو نقصتني كل نقص لم تنتقصني كنقصي عندي. ثم قال: سفه رجل على إسحاق الحنظلي فاحتمله وقال: لأي شيء تعلمنا العلم? عبد الله الحجام قال: قال حمدون: إذا رأيت سكرانا فتمايل لئلا تنعي عليه فتبتلى بمثل ذلك. قال السلمي: وقال حمدون: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.وقال: لا تفش على أحد ما تحب أن يكون مستورا منك.

(1/423)

وقال: من استطاع منكم أن لا يعمى عن نقصان نفسه فليفعل.أبو بكر عبد الله بن محمد بن زيد بن واصل النيسابوريجمع بين علم الحديث والفقه والتقوى، وسمع من محمد بن يحيى الذهلي والحسن بن محمد الزعفراني وعباس الدوري، في خلق كثير، وكان من الحفاظ المتقنين.كان الدارقطني يقول: ما رأينا في مشايخنا أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ.قال أبو بكر النيسابوري: أعرف من أقام أربعين سنة لم ينم الليل ويتقوت كل يوم بخمس حبات، ويصلي صلاة الغداة على طهارة عشاء الآخرة. ثم قال: أنا هو وهذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن، أي شيء أقول لمن زوجني? ثم يقول في اثر هذا: ما أراد إلا الخير.ذكر المصطفين من عابدات نيسابور فاطمة النيسابوريةمحمد بن الحسن بن علي بن خلف قال: سمعت ابن ملوك وكان شيخا كبيرا رأى ذا النون المصري قال: وسألته من أجل من رأيت? قال: ما رأيت أجل من امرأة رأيتها بمكة يقال لها فاطمة النيسابورية وكانت تتكلم في فهم القرآن، وتعجبت منها، فسألت ذا النون عنها فقال لي: هي ولية من أولياء الله عز وجل وهي أستاذي. فسمعتها تقول: من لم يكن الله عز وجل منه على بال فإنه يتخطى في كل ميدان ويتكلم لكل لسان، وما كان الله منه على بال أخرسه إلا عن الصدق وألزمه الحياء منه والإخلاص.قالت فاطمةالصادق المقرب في بحر تضطرب عليه أمواج، يدعو ربه دعاء الغريق يسأل ربه الخلاص والنجاة.وقالت فاطمة: من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص.كانت فاطمة النيسابورية من قدماء نساء خراسان أتى إليها أبو يزيد البسطامي، وسألها ذو النون عن مسائل، وكانت مجاورة بمكة، وربما دخلت إلى بيت المقدس ثم رجعت إلى مكة.وقال أبو يزيد البسطامي: ما رأيت في عمري إلا رجلا وامرأة، والمرأة فاطمة النيسابورية، ما أخبرتها عن مقام من المقامات إلا وكان الخبر لها عيانا.

(1/424)

وقال لها ذو النون: عظيني، وقد اجتمعا ببيت المقدس، قالت له: الزم الصدق وجاهد نفسك في أفعالك.عائشة بنت أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري النيسابوريكانت عائشة بنت أبي عثمان من أزهد أولاد أبي عثمان وأورعهم وأحسنهم حالا ووقتا. وكانت مجابة الدعوة، سمعت ابنتها أم أحمد بنت عائشة تقول: قالت لي أمي: لا تفرحي بفان، ولا تجزعي من ذاهب، وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل.وقالت: قالت لي أمي: الزمي الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا ولا أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا.وقالت عائشة: من استوحش من وحدته فذاك لقلة أنسه بربه.وقالت من تهاون بالعبد فهو من قلة معرفته بالسيد فمن أحب الصانع أحب صنعته.ذكر المصطفين من أهل طوس محمد بن أسلم، أبو الحسن الطوسيقال إسحاق بن راهويه: لم أسمع بعالم منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم.قال أبو عبد الله وكتب إلي احمد بن نصر أن اكتب إلى بحال محمد بن أسلم فإنه ركن من أركان الإسلام.قال أبو عبد الله: وقال لي محمد بن أسلم: يا أبا عبد الله ما لي ولهذا الخلق? كنت في صلب أبي وحدي، ثم صرت في بطن أمي وحدي ثم دخلت الدنيا وحدي، ثم يقبض روحي وحدي، ثم أدخل في قبري وحدي، ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي فإن صرت إلى خير صرت وحدي، ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي، وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي، وإن بعثت إلى النار بعثت وحدي فما لي وللناس? ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط. وصحبته نيفا وعشرين لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع إلا يوم الجمعة، ولا يسبح ولا يقرأ حيث أراه ولم يكن أحد أعلم بسره وعلانيته مني.

(1/425)

وسمعته يحلف كذا كذا مرة: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، ولكني لا أستطيع ذلك خوفا من الرياء. وكان يدخل بيتا ويغلق بابه ويدخل معه كوزا من ماء فلم أدر ما يصنع? حتى سمعت ابنا له صغيرا يحكي بكاءه فنهته أمه فقلت لها: ما هذا البكاء? فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه.وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل ولا يرى عليه أثر البكاء.وكان يصل قوما ويعطيهم ويكسوهم فيبعث إليهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعلموا من بعثه إليهم? ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم، ويخفي نفسه فربما بليت ثيابهم ونفذ ما عندهم ولا يدرون من الذي أعطاهم? ولا أعلم منذ صحبته وصل أحدا بأقل من مائة درهم إلا أن لا يمكنه ذلك، وكنت أخبز له فما نخلت له دقيقا إلا أن أعصيه. وكان يقول لي: اشتر شعيرا أسود قد تركه الناس فإنه يصير إلى الكنيف، ولا تشتري لي إلا ما يكفيني يوما بيوم.وكان يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت نفسا تصلي إلى القبلة شرا عندي من نفسي. ودخلت عليه قبل موته بأربعة أيام بنيسابور، فقال: يا أبا عبد الله تعال أبشرك بما صنع الله بأخيك من الخير، قد نزل بي الموت قد من الله علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، وقد علم ضعفي فإني لا أطيق الحساب فلم يدع عندي شيئا يحاسبني عليه. ثم قال: أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثا غير كسائي ولبدي وإنائي الذي أتوضأ فيه، وكتبي.وكانت معه صرة فيها نحو ثلاثين درهما فقال: هذا لابني أهداه إليه قريب له ولا أعلم شيئا أحل له منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنت ومالك لأبيك فكفنوني منها فإن أصبتم لي بعشرة دراهم ما يستر عورتي فلا تشتروا بخمسة عشر، وابسطوا على جنازتي لبدي وغطوا علي بكسائي، وتصدقوا بإنائي، أعطوه مسكينا يتوضأ منه. ثم مات اليوم الرابع. وتوفي فصلى عليه ألف ألف تقريبا.

(1/426)

أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق الطوسيقال أبو العباس بن مسروق: قدم علينا شيخ فكان يتكلم علينا بكلام حسن، وكان عذب اللسان جيد الخاطر، فقال لنا في بعض كلامه: كل ما وقع لكم في خواطركم فقولوا لي. فوقع في قلبي أنه يهودي وكان الخاطر يقوى ولا يزول فذكرت ذلك للحريري فكبر عليه ذلك فقلت: لا بد من أن أخبر الرجل بذلك. فقلت له: تقول كل ما وقع في خاطركم فقولوه لي: إنه يقع لي أنك يهودي. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: صدقت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وقال: قد مارست جميع المذاهب، فأنتم على الحق وحسن إسلامه.جعفر بن محمد بن نصير قال: سئل ابن مسروق ما التوكل? قال: اعتماد القلب على الله.قال السلمي: وقال ابن مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه.وقال: أنت في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك.ذكر المصطفين من أهل هراة إبراهيم بن طهمانرحل في طلب العلم، وكان حسن الخلق سخيا واسع النفس، مطعم الطعام كل من أتاه من أهل العلم.قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر عنده إبراهيم بن طهمان، وكان متكئا من علة فاستوى جالسا وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون، فيتكأ. ثم قال أحمد: حدثني رجل من أصحاب ابن المباركقال: رأيت ابن المبارك في المنام، ومعه شيخ مهيب فقلت: من هذا معك? قال: أما تعرف هذا? هذا سفيان الثوري، فقلت: من أين أقبلتم? قال: نحن نزور في كل يوم إبراهيم بن طهمان. قلت: فأين تزورونه? قال: دار الصديقين دار يحيى بن زكريا.أبو عبيد القاسم بن سلامرحل في طلب العلم .....، وكان عالما بالقراءات واللغة والغريب، وصنف الكتب الكثيرة في فنون، وكان ذا فضل ودين وورع وجود.قال أحمد بن حنبل: عرضت كتاب غريب الحديث لأبي عبيد على أبي فاستحسنه وقال جزاه الله خيرا.

(1/427)

كان طاهر بن عبد الله ببغداد، فطمع في أن يسمع من أبي عبيد وطمع في أن يأتيه في منزله. فلم يفعل أبو عبيد حتى كان هو يأتيه. فقدم علي بن المديني وعياش العنبري فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما به.كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا: فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتب ثلثه.قال أبو عبيد القاسم بن سلام: مثل الألفاظ الشريفة والمعاني الظريفة مثل القلائد اللائحة في الترائب الواضحة.قال إسحاق الحظلي أبو عبيد أوسعنا علما وأكثرنا أدبا وأجمعنا جمعا وإنا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا.قال ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجبا.كان أبو عبيد القاسم بن سلام فاضلا في دينه وعلمه ربانيا متفننا في أصناف علوم الإسلام، من القرآن والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية صحيح النقل لا أعلم أحدا من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه.عبد الله بن طاهر قال: كان الناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه.قال الحربي أدركت ثلاثة لن يرى مثلهم أبدا تعجز النساء أن يلدن مثلهم رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام ما مثلته إلا بجبل نفخت فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث، ما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا، ورأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك عما شاء.ذكر المصطفين من أهل مرو عبد الله بن المبارك يكنى أبا عبد الرحمن

(1/428)

وكانت دار ابن المبارك بمرو كبيرة صحن الدار نحو خمسين ذراعا في خمسين ذراعا، فكنت لا تحب أن ترى في داره صاحب علم أو صاحب عبادة أو رجلا له مروءة وقدر بمرو إلا رأيته في داره، يجتمعون في كل يوم خلقا يتذاكرون حتى إذا خرج ابن المبارك انضموا إليه. فلما صار ابن المبارك بالكوفة نزل في دار صغيرة وكان يخرج إلى الصلاة ثم يرجع إلى منزله لا يكاد يخرج منه ولا يأتيه كثير أحد، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن ألا تستوحش ها هنا مع الذي كنت فيه بمرو? فقال: إنما فررت من مرو من الذي تراك تحبه، وأحببت ما ها هنا للذي أراك تكرهه لي، فكنت بمرو لا يكون أمر إلا أتوني فيه ولا مسألة إلا قالوا: اسألوا ابن المبارك، وأنا ها هنا في عافية من ذلك.قال: وكنت مع ابن المبارك يوما فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس فزحموه ودفعوه فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا. يعني حيث لم نعرف ولم نوقر.قال: وبينا هو بالكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك، انتهى إلى حديث وفيه: قال عبد الله وبه نأخذ. فقال: من كتب هذا من قولي? قلت: الكاتب الذي كتبه. فلم يزل يحكه بيده حتى درس. ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي? قال الحسن وكنا على باب سفيان بن عيينة يوما وأصحاب الحديث وهم يرون أن عنده بعض هؤلاء الكبار يحدثه. فقال رجل: أعياني أن أرى رجلا يسوي بين الناس في علمه. فقال له آخر: هذا عبد الله بن المبارك. قال: نعم هات غيره، أتعرف غيره? فلما قدمت الكوفة ذكرت لابن المبارك قول الرجل وأنه فلان ولم أعلمه أنهم سموه. فقال أفلا قالوا الفضيل بن عياض? قال الحسن: ورأيت في منزل ابن المبارك حماما طيارة. فقال ابن المبارك: قد كنا ننتفع بفراخ هذه الحمام فليس ننتفع بها اليوم قلت: ولم ذلك? قال: اختلطت بها حمام غيرها فتزاوجت بها فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها من أجل ذلك.

(1/429)

قال الحسن: وصحبت ابن المبارك من خراسان إلى بغداد فما رأيته أكل وحده.قال عطاء بن مسلم: يا عبيد رأيت عبد الله بن المبارك? قلت: نعم قال: ما رأيت مثله ولا يرى مثله.عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأت عيناي مثل سفيان ولا أقدم على عبد الله بن المبارك أحدا.قال ا بن عبيد الله: كنا عند الفضيل فنعي إليه ابن المبارك فقال: رحمه الله أما أنه ما خلف بعده مثله.قال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأت عيناي أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.نعيم بن حماد قال: كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش? فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم? شقيق بن إبراهيم قال: قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لم تجلس معنا? قال: أذهب أجلس مع الصحابة والتابعين. قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون? قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، ما أصنع معكم? أنتم تغتابون الناس، فإذا كانت سنة مائتين فالبعد من كثير من الناس أقرب إلى الله، وفر من الناس كفرارك من أسد، وتمسك بدينك يسلم لك.قال عبد الله بن المبارك: كن محبا للخمول كراهية الشهرة ولا تظهر من نفسك أنك تحب الخمول فترفع نفسك فإن دعواك الزهد من نفسك هو خروجك من الزهد لأنك تجر إلى نفسك الثناء والمدحة.قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة وأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فلما رأيت الناس قالت: ما هذا? قالوا: عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له ا بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.قال سويد بن سعيد: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منها ثم استقبل الكعبة فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ماء زمزم لما شب له وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه.

(1/430)

كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق فكأنه بقرة منحورة، من البكاء، لا يجترئ أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء.قال سفيان: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام.جاء رجل فسأل سفيان الثوري عن مسألة، فقال له من أين أنت? قال: من أهل المشرق. قال: أوليس عندكم أعلم أهل المشرق? قال: ومن هو يا أبا عبد الله? قال: عبد الله بن المبارك. قال: وهو أعلم أهل المشرق? قال: نعم وأهل المغرب.قال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه.حبان بن موسى قال: عوتب ابن المبارك فيما يقري من المال في البلدان ولا يفعل في أهل بلده كذلك، فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث وأحسنوا الطلب، فاحتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.قيل لعبد الله بن المبارك: إلى متى تكتب هذا الحديث? فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد.قال ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له: وما أطيب ما فيها? قال: المعرفة بالله عز وجل.ما أفطر ابن المبارك ولا رئي نائما قط.قال ابن المبارك لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف، حتى بلغ ستمائة ألف.قال عبد الله بن خبيق: قيل لابن المبارك: ما التواضع? قال: التكبر على الأغنياء.

(1/431)

عياش بن عبد الله قال: قال عبد الله بن المبارك: لو أن رجلا أبقى مائة شيء ولم يبق شيئا واحدا لم يكن من المتقين. ولو تورع عن مائة شيء ولم يتورع عن شيء واحد لم يكن ورعا ومن كان فيه خلة من الجهل كان من الجاهلين. أما سمعت الله تعالى قال لنوح عليه السلام لما قال: إن ابني من أهلي سورة هود آية 45 فقال الله تعالى إني أعظك أن تكون من الجاهلين سورة هود آية 46? علي بن الحسن قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لا يقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل.قال عبد الله السرخسي: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخا في الله عز وجل.قال سليمان بن داود: سألت ابن المبارك من الناس? قال: العلماء، قلت: فمن الملوك? قال: الزهاد. قلت: فمن الغوغاء? قال: خزيمة وأصحابه. قلت: فمن السفلة? قال: الذين يعيشون بدينهم.قيل لعبد الله بن المبارك: إن إسماعيل بن علية قد ولي الصدقات. فكتب إليه ابن المبارك:يا جاعل العلم له بازيا يصطاد أموال المساكيناحتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدينفصرت رواياتك في سردها عن ابن عون وابن سيرين?أين رواياتك والقول في لزوم أبواب السلاطين?إن قلت أكرهت فماذا كذا زل حمار العلم في الطين فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى.

(1/432)

كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك يا أبا عبد الرحمن فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم. فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلواء. ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صاروا إلى المدينة قال لكل رجل منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة، من طرفها? فيقول: كذا. ثم يخرجهم إلى مكة فإذا وصلوا إلى مكة فقضوا حوائجهم قال لكل رجل منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة? فيقول: كذا وكذا. فيشتري لهم ويخرجهم من مكة. فلا يزال ينفق عليهم حتى يصيروا إلى مكة فإذا وصلوا إلى مرو جصص أبوابهم ودورهم. فإذا كان بعد ثلاثة أيام صنع لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وشربوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته بعد أن كتب عليها اسمه.قال أبي: أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة فقدم إلى الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذجا.قال: وبلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت.قال أبي: وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث. قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب وكان مستعجلا، فخرج في النفير فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه. فقال عبد الله: وكم مبلغ دينه? قالوا عشرة آلاف درهم فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال فدعا به ليلا ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحدا ما دام عبد الله حيا. وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس.

(1/433)

وأدلج عبد الله وأخرج الفتى من الحبس، وقيل له: عبد الله بن المبارك كان ها هنا وكان يذكرك، وقد خرج. فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال: يا فتى أين كنت? لم أرك في الخان? قال: نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين. قال: وكيف كان سبب خلاصك? قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس. فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك. فلم يخبر ذلك الرجل أحدا إلا بعد موت عبد الله.جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فسأله أن يقضي دينا عليه، فكتب إلى وكيل له. فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك? قال: سبعمائة درهم، فكتب إلى عبد الله: إن هذا الرجل سألك أن تقضي سبعمائة درهم فكتبت له بسبعة آلاف، وقد فنيت الغلات. فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني فأجر له ما سبق به قلمي.قال معاذ بن خالد: تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك فقال إسماعل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وجعلها في عبد الله بن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص، وهو الدهر صائم.عبد الله بن حبيق قال: قال رجل لابن المبارك: أوصني، فقال: اعرف قدرك.قال رجل لابن المبارك: هل بقي من ينصح? قال فقال: وهل تعرف من يقبل?قال عبدة بن سليمان: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم آخر فقتله؛ ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله؛ فازدحم عليه الناس وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا.

(1/434)

مر ابن المبارك برجل أعمى فقال: أسألك أن تدعو الله أن يرد بصري. قال: فدعا الله فرد عليه بصره وأنا أنظر.قال الحسن بن عرفة: قال لي ابن المبارك: استعرت قلما بأرض الشام فذهب على أن أرده إلى صاحبه فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت يا أبا علي إلى أرض الشام حتى رددته على صاحبه.قال شريح بن مسلمة: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: كاد الأدب أن يكون ثلثي الدين.قال ابن المبارك: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا.قال عبد الله بن المبارك: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره فينبغي لنا أن نكرهها.عن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة? إن كان يصلي إنا نصلي، ولئن يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج.قال: فكنا في بعض مسيرتنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هينهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع. فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.قال المروزي: وسمعت أبا عبد الله بن حنبل قال: ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له.كان ابن المبارك عند أبي الأحوص فجاء رسول فلان الهاشمي بعض الولاة فقال: يقرئك السلام ويقول: يا أبا الأحوص هذا شهر رمضان وقد وسعنا على عيالنا وهذه ألف درهم توسع بها عليهم في هذا الشهر. قال أبو الأحوص: فعل الله به وفعل به. وقال: قل له يدعها عنده حتى إذا احتجنا إليها بعثنا فأخذناها.

(1/435)

قال: وانسل ابن المبارك إلى منزله فجاء بألف فقال: يا أبا الأحوص هذه الألف تنفقها فإني لا آمن أن يكون قد بلغ أهلك فيخاصمونك، وهذه من وجه أرجو أن تكون أطيب فقبلها.قال ابن المبارك حين حضرته الوفاة وأقبل نصير: يا أبا عبد الرحمن، قل لا إله إلا الله. فقال له: يا نصير قد ترى شدة الكلام علي فإذا سمعتني قلتها فلا تردها علي حتى تسمعني قد أحدثت بعدها كلاما، فإنما كانوا يستحبون أن يكون آخر كلام العبد ذلك. وكان أحد أئمة المسلمين.قال محمد بن فضيل بن عياض: رأيت عبد الله بن المبارك في المنام فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل? قال: الأمر الذي كنت فيه. قلت: الرباط والجهاد? قال: نعم - قلت: فأي شيء صنع بك ربك? قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة وكلمتني امرأة من أهل الجنة أو امرأة من الحور العين.أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الفقيهقال ابو محمد: جالست أبا عبد الله المروزي أربع سنين فلم أسمعه طول تلك المدة يتكلم في غير العلم.قال أبو بكر أحمد بن إسحاق: ما رأيت أحسن صلاة من أبي عبد الله المروزي، ولقد بلغني أن زنبورا قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك.قال محمد بن نصر: خرجت من مصر ومعي جارية لي، فركبت البحر أريد مكة، فغرقت وذهب مني ألفا جزء، وصرت إلى جزيرة أنا وجاريتي ما رأينا فيها أحدا، وأخذني العطش فلم أقدر على الماء، فأجهدت فوضعت رأسي على فخذ جاريتي مستسلما للموت فإذا رجل قد جاءني ومعه كوز. فقال لي: هاه. فأخذت وشربت وسقيت الجارية. ثم مضى فما أدري من أين جاء ولا أين ذهب.عبد الله بن أحمد الرباطي المروزيوكان الجنيد يمدحه ويقول: هو رأس فتيان خراسان.

(1/436)

قدم أبو محمد المروزي إلى بغداد يريد مكة، وكنت أحب أن أصحبه، فأتيته واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر. فقلت أنت الأمير. فقال: لا بل أنت فقتل: أنت أسن وأولى. فقال: لا تعصني. فقلت: نعم. فخرجت معه وكان إذا حضر الطعام يؤثرني فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك أن لا تخالفني? فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يلحق نفسه من الضرر.فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير فقال لي: يا أبا أحمد اطلب الميل. ثم قال لي: اقعد في أصله فأقعدني في أصله وجعل يديه على الميل وهو قائم قد حنا علي، وعليه كساء قد تجلل به يظلني من المطر حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر. فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه.عبد الله بن المنير المروزيقال: وكان عبد الله بن منير إذا قام من المجلس يخرج إلى البرية مع قوم مع أصحابه يجمع شيئا مثل الأشنان وغيره فيدخل السوق فيبيع ذلك فيتعيش به.قال: فخرج يوما مع أصحابه فإذا هو بالأسد رابض على الطريق، فقيل له: هذا الأسد فقال لأصحابه: قفوا. ثم تقدم هو وحده إلى الأسد فلا ندري ما قال له، فمر الأسد، فقال لأصحابه مروا. انتهى ذكر أهل مرو.عطاء بن أبي مسلموكان من أهل العلم والصلاح. قال عبد الرحمن بن يزيد: كنا نغازي عطاء الخراساني فكان يحيي الليل كله صلاة فإذا ذهب من الليل ثلثه أو نصفه نادانا وهو في فسطاطه يسمعنا: يا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، يا يزيد بن يزيد، يا هشام بن الغاز يا فلان بن فلان، قوموا فتوضؤا وصلوا فإن قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من شرب الصديد ومقطعات الحديد، الوحي الوحي النجاء النجاء ثم يقبل على صلاته.

(1/437)

عن عطاء الخراساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم، أنتم بها مستوصون، وأنتم عليها حراص، وإنما أوصيكم بآخرتكم فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الدنيا كشيء فارقتموه، فوالله لتفارقنها، واجعلوا الموت كشيء ذقتموه، فوالله لتذوقنه، واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزلنها، وهي دار الناس كلهم ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يصلحه اغتبط، ومن خرج إلى سفر له أهبته ندم فإذا ضحي لم يجد ظلا، وإذا ظمي، لم يجد ماء يتروى به، وإنما سفر الدنيا منقطع، وأكيس الناس من قام يتجهز لسفر لا ينقطع.يزيد بن سمرة أنه سمع عطاء الخراساني يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام.الأوزاعي قال: حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت.عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: إن أوثق عملي في نفسي نشري للعلم.عمر بن أبي خليفة قال: سمعت عطاء الخراساني، وصلى معنا المغرب فأخذ بيدي حين انصرفنا، فقال: ترى هذه الساعة ما بين المغرب والعشاء? فإنها ساعة الغفلة وهي صلاة الأوابين.إبراهيم بن أدهم يكنى أبا إسحاقكان إبراهيم بن أدهم من الأشراف وكان أبوه كثير المال والخدم، فخرج إبراهيم يوما في الصيد مع الغلمان والخدم والجنائب والبزاة. فبينا إبراهيم في ذلك وهو على فرسه يركضه، إذا هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم ما هذا العبث? أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون سورة المؤمنون آية 115 اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة. قال: فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.

(1/438)

قال بشير بن المنذر: كنت إذا رأيت إبراهيم بن أدهم كأنه ليس فيه روح لو نفخته الريح لوقع قد اسود متدرع بعباء.إبراهيم بن بشار قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما كان لي مؤونة قط على أصحابي ولا على غيرهم إلا في شيء واحد. فقلت: أي شيء يا أبا إسحاق? فقال: ما كنت أحس أكري نفسي في الحصادين، فيحتاجون إلى أن يكروني، ويأخذون لي الأجرة، فهذه كانت مؤونتي عليهم.قال ابن بشار: ومضيت مع إبراهيم بن أدهم إلى مدينة يقال لها طرابلس ومعي رغيفان ما لنا شيء غيرهما وإذا سائل يسأل، فقال لي: ادفع إليه ما معك فتلبثت. فقال لي: ما لك? أعطه، فأعطيته وأنا متعجب من فعله، فقال لي: يا أبا إسحاق إنك تلقى غدا ما لم تلقه قط واعلم أنك تلقى ما أسلفت ولا تلقى ما خلفت. فمهد لنفسك فإنك لا تدري متى يفجؤك أمر ربك. قال: فأبكاني كلامه وهون علي الدنيا. فلما نظر إلي أبكي، قال: هكذا فكن.قال ابن بشار: وخرجت أنا وإبراهيم بن أدهم، وأبو يوسف الغسولي، وأبو عبد الله السنجاري، نريد الإسكندرية فمررنا بنهر يقال له نهر الأردن فقعدنا تستريح وكان مع أبي يوسف كسيرات يابسات. فألقاها بين أيدينا فأكلناها وحمدنا الله عز وجل. فقمت أسعى أتناول ماء لإبراهيم فبادر إبراهيم فدخل النهر حتى بلغ الماء إلى ركبتيه. فقال بكفيه في الماء فملأهما ثم قال: بسم الله، وشرب الماء ثم قال: الحمد لله، ثم إنه خرج من النهر فمد رجليه ثم قال: يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيام الحياة، فقلت: يا أبا إسحاق طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم. فتبسم وقال: من أين لك هذا الكلام?

(1/439)

قال ابن بشار: مررنا مع إبراهيم بن أدهم بمقبرة فتقدم إلى قبر فوضع يده عليه ثم قال: رحمك الله يا فلان، ثم تقدم إلى آخر فقال مثل ذلك، فعل ذلك بسبعة من القبور ثم قام قائما بين تلك القبور فنادى يا فلان يا فلان، بأعلى صوته، لقد متم وخلفتمونا ونحن بكم سريعا لاحقون. ثم بكى وغرق في فكره ثم رجع بعد ساعة فأقبل إلينا بوجهه، ودموعه تنحدر كاللؤلؤ الرطب وقال: إخوتي، عليكم بالمبادرة والجد والاجتهاد، سارعوا وسابقوا فإن نعلا فقدت أختها سريعة اللحاق بها.

(1/440)

قال شقيق بن إبراهيم: بينا نحن ذات يوم عند إبراهيم بن أدهم إذ مر به رجل فقال إبراهيم: أليس هذا فلان? فقيل: نعم. فقال لرجل: أدركه فقل له قال لك إبراهيم: لما لم تسلم? فقال له، فقال: والله إن امرأتي وضعت وليس عندي شيء، فخرجت شبه المجنون، قال: فرجعت إلى إبراهيم فقلت له، فقال؛ إنا لله، كيف غفلنا عن صاحبنا حتى نزل به هذا الأمر? وقال: يا فلان إيت صاحب البستان فاستسلف منه دينارين، فادخل السوق فاشتر له ما يصلحه بدينار، وادفع الدينار الآخر.فدخلت السوق فأوقرت بدينار من كل شيء وتوجهت إليه فدققت الباب فقالت امرأته: من هذا? قلت: أنا، أردت فلانا. قالت: ليس هو ههنا. قلت: فمري بفتح الباب وتنحي. قال: ففتحت الباب فأدخلت ما على البعير وألقيته في صحن الدار وناولتها الدينار. فقالت: على يدي من بعث هذا? فقلت: قولي على يد أخيك إبراهيم بن أدهم. فقالت: اللهم لا تنس هذا اليوم لإبراهيم.قال شقيق: وقلت لإبراهيم: يا إبراهيم تركت خراسان. فقال: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس، ومن يراني يقول: هو جمال، ثم قال لي: يا شقيق لم ينبل عندنا من نبل بالحج والجهاد إنما نبل من كان يعقل ما يدخل جوفه، يعني الرغيفين، من حله، يا شقيق ماذا أنعم الله على الفقراء? لا يسألهم يوم القيامة لا عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل هؤلاء المساكين، يعني الأغنياء.قال علي بن بكار: كنا جلوسا بالمصيصة وعندنا إبراهيم بن أدهم، فقدم رجل من خراسان فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم? فقال القوم: هذا، قال: إن إخوتك بعثوني إليك فلما سمع ذكر إخوته قام فأخذ بيديه فنحاه فقال: ما جاء بك? فقال: أنا مملوكك، معي فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها إليك إخوتك. فقال: إن كنت صادقا فأنت حر، وما معك لك، اذهب فلا تخبر أحدا. فذهب.

(1/441)

كان إبراهيم بن أدهم أجيرا في بستان لي سنة أبتذله فيما يبتذل الأجير. فزارني إخوان لي في بستاني فقلت لإبراهيم: إيتنا برمان حلو. فجاء برمان لم نحمده. فقلت له: أنت في هذه البستان منذ سنة لا تعرف موضع الجيد الحلو من الحامض? قال: فأي موضع هو من البستان? فوصفته له فأنكرت أمره، وإذا رجل قد أقبل على نجيب يسأل عن إبراهيم بن أدهم. فأخبر بمكانه عندي. فنزل إليه فرأيته قد قبل يديه وعظمه. فقال له إبراهيم: ما جاء بك? فقال: مات بعض مواليك فجئتك بميراثه ثلاثين ألف ردهم. فقال: ما لكم وأتباعي? فقال الرجل: قد تعنيت من بلخ فاقبلها مني. فقال للرجل: ابسط إزارك، وصب عليه ما معك. ففعل، فقال إبراهيم: اقسمه ثلاثة أقسام. فقسمه. فقال: ثلث لك لعنائك من بلخ إلى ها هنا وثلث اقسمه على المساكين ببلخ، وثلث أنت يا يحيى اقسمه في مساكين أهل عسقلان.أبو سليمان الداراني قال: صلى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد.عن مخلد بن الحسين قال: ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله فأغتم ثم أتعزى بهذه ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء سورة المائدة آية 54.قال إبراهيم بن أدهم: أعربنا الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.قال الفرج: اطلعت على إبراهيم بالشام في بستان وهو نائم وعند رأسه أفعى في فيها طاقة نرجس تذب عنه.ركب إبراهيم بن أدهم البحر فأخذتهم ريح عاصف فأشرفوا على الهلكة فلف إبراهيم رأسه في عباءة ونام. فقالوا له: ما ترى ما نحن فيه من الشدة? فقال: ليس ذا شدة. قالوا: ما الشدة? قال: الحاجة إلى الناس. ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فصار البحر كأنه قدح زيت.

(1/442)

قال خلف بن تميم: كنت عند أبي رجاء الهروي في مسجده فأتى رجل على فرس فنزل فسلم عليه وودعه. فأخبرني أبو رجاء عنه أنه كان مع إبراهيم بن أدهم في سفينة في غزاة في البحر، فعصفت عليهم الريح وأشرفوا على الغرق فسمعوا في البحر هاتفا يهتف بأعلى صوته: تخافون وفيكم إبراهيم?عن إبراهيم بن أدهم قال: وجدت يوما راحة فطاب قلبي لحسن صنيع الله بي فقلت: اللهم إن كنت أعطيت أحدا من المحبين لك ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك لفقد أضر بي القلق، قال إبراهيم: فرأيت الله تعالى في النوم، فوقفني بين يديه وقال لي: يا إبراهيم ما استحييت مني? تسألني أن أعطيك ما تسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه? أم هل يستريح الحب إلى غير من اشتاق إليه? فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول.شقيق بن إبراهيم البلخيكان له ثلثمائة قرية ولم يكن له كفن يكفن فيه، قدم ذلك كله بين يديه .....وكان قد خرج إلى بلاد الترك لتجارة وهو حدث فدخل إلى بيت أصنامهم، فقال لعاملهم: إن هذا الذي أنت فيه باطل، ولهذا الخلق خالق ليس كمثله شيء رازق كل شيء. فقال له الخادم: ليس يوافق قولك فعلك، فقال له شقيق: كيف? قال: زعمت أن لك خالقا قادرا على كل شيء، وقد تعنيت إلى ها هنا لطلب الرزق. قال شقيق: فكان سبب زهدي كلام التركي، فرجع فتصدق بجميع ما ملك وطلب العلم.قال أبو عبد الله: سمعت شقيق بن إبراهيم يقول: خرجت من ثلثمائة ألف درهم وكنت مرابيا ولبست الصوف عشرين سنة وأنا لا أعلم، حتى لقيت عبد العزيز بن أبي رواد، فقال لي: يا شقيق ليس الشأن في أكل الشعير، ولا لباس الصوف والشعر، الشأن في المعرفة، وأن تعبد الله فلا تشرك به. فقتل: فسر لي هذا? قال: يكون جميع ما تعمله لله خالصا. ثم تلا: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا سورة الكهف آية 110.

(1/443)

قال حاتم الأصم: كنا مع شقيق البلخي ونحن مصافوا الترك في يوم لا أرى فيه إلا رؤوسا تندر، وسيوفا تقطع، فقال لي شقيق ونحن بين الصفين: يا حاتم كيف ترى نفسك في هذا اليوم? تراها مثلها في الليلة التي زفت إليك امرأتك? فقلت: لا والله. فقال: لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثلها في الليلة التي زفت فيها امرأتي. قال: ثم نام بين الصفين ودرقته تحت رأسه، حتى سمعت غطيطه.قال حاتم الأصم قال لي شقيق البلخي: إصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك.قال شقيق: مثل المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكا ومثل المنافق كمثل رجل زرع شوكا وهو يطمع أن يحصد تمرا هيهات كل من عمل حسنا فإن الله لا يجزيه إلا حسنا، ولا ينزل الأبرارمنازل الفجار0حاتم الأصم يكنى أبا عبد الرحمنقال عمران: سمعت حاتما الأصم، وسأله رجل على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله? قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه.مر عاصم بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فقال: يا حاتم كيف تصلي? قال حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالسكينة، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأسلم بالسنة وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل، وأخاف أن لا تقبل مني. قال تكلم فأنت تحسن تصلي.

(1/444)

قال عبد الله بن سهل: سمعت حاتما الأصم يقول: اختلفت إلى شقيق ثلاثين سنة، فقال لي يوما: أي شيء تعلمت? فقتل: رأيت رزقي من عند ربي فلم أشتغل إلا بربي، ورأيت أن الله تعالى وكل بي ملكين يكتبان علي كل ما تكلمت به فلم أنطق إلا بالحق، ورأيت أن الخلق ينظرون إلى ظاهري والرب تعالى ينظر إلى باطني، فرأيت مراقبته أولى وأوجب، فسقطت عني رؤية الخلق، ورأيت أن الله مستحثا يدعو الخلق إليه فاستعددت له متى جاءني لا أحتاج يقتلني، يعني ملك الموت. فقال لي: يا حاتم ما خاب سعيك.قال حاتم لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك لاحترزت منه، وكلامك يعرض على الله تعالى فلا تحترز.قال حاتم لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد، ما طمع الشيطان أن يوسوس لي في شيء من أرزاقهم.قال حاتم الأصم: ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل? وما تلبس? وأين تسكن? فأقول: آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.وقال رجل لحاتم ما تشتهي? قال: أشتهي عافية يوم إلى الليل، فقيل له: أليست الأيام كلها عافية? قال: إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه.قال: وقال حاتم: تعهد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك.قال حاتم: لقينا الترك وكان بيننا جولة فرماني تركي بوهق فقلبني عن فرسي ونزل عن دابته فقعد على صدري وأخذ بلحيتي هذه الوافرة وأخرج من خفه سكينا ليذبحني. فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه،إنما كان قلبي عند سيدي أنظر ماذا ينزل به القضاء منه. فقلت: سيدي قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين، إنما أنا لك وملكك فبينا أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري آخذ بلحيتي ليذبحني،إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه، فسقط عني فقمت أنا إليه فأخذت السكين من يده فذبحته، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لم تروا من الآباء والأمهات ..... ...

(1/445)

أحمد بن الخضروهو المعروف بابن خضرويه البلخي يكنى أبا حامدوقال أبو حفص: ما رأيت أحدا أكبر همة ولا أصدق حالا من أحمد بن خضرويه.قال أحمد بن خضرويه: القلوب جوالة إما أن تجول حول العرض وإما أن تجول حول الحش.قال أحمد بن خضرويه: الصبر زاد المضطرين، والرضا درجة العارفين.وقال رجل لأحمد بن خضرويه، أوصني. فقال: أمت نفسك حتى تحييها.وقال أحمد: لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة.وسئل أحمد: أي الأعمال أفضل? فقال: رعاية السر عن الالتفات إلى شيء غير الله عز وجل.قال محمد بن حامد: كنت جالسا عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع الأخير، وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة فسئل عن مسألة فدمعت عيناهوقال: يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح لي الساعة، لا أدري أيفتح لي بالسعادة أو بالشقاوة أنى لي أوان الجواب?وكان قد ركبه من الدين سبعمائة دينار، وحضره غرماؤه فنظر إليهمفقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم فأد عني. فدق داق الباب وقال: هذه دار أحمد بن خضرويه? فقالوا: نعم. قال: أين غرماؤه? قال: فخرجوا فقضى عنه ثم خرجت روحه.محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخيقال محمد بن الفضل: العجب ممن يقطع الأودية والمفاوز والقفار ليصل إلى بيته وحرمه لأن فيه آثار أنبيائه كيف لا يقطع نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه لأن فيه آثار مولاه?قال ا بن الفضل أنزل نفسك منزلة من لا حاجة له فيها ولا بد له منها، فإن من ملك نفسه عز، ومن ملكته ذل.قال محمد بن الفضل: ما خطوت أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل، وما نظرت أربعين سنة في شيء أستحسنه حياء من الله عز وجل، وما أمليت على ملكي ثلاثين سنة شيئا، ولو فعلت ذلك لاستحييت منهما.أبو بكر الوراق

(1/446)

قال أبو بكر الوراق يقول: لو قيل للطمع من أبوك? قال: الشك المقدور، ولو قيل: ما حرفتك? قال: اكتساب الذل ولو قيل: ما غايتك? قال: الحرمان.دخل رجل على أبي بكر فقال: إني أخاف من فلان. فقال: لا تخف منه فإن القلب من تخافه بيد من ترجوه.قال محمد بن حامد لأبي بكر الوراق: علمني شيئا يقربني إلى الله، ويقربني من الناس. فقال: أما الذي يقربك من الله فمسألته، وأما الذي يقربك من الناس فترك مسألتهم.عابدة بلخيةقال أبو بلال الأسود: خرجت حاجا فلما صرت في بعض الطريق إذا أنا بامرأة ليس معها زاد ولا إداوة. فقلت لها: من أين أنت? قالت: من بلخ. فقلت لها: ما أرى معك زادا ولا تحملين فيه الزاد.فقالت: لي: خرج معي من بلخ عشرة دراهم وقد بقي بعضها، فقلت لها: إذا نفذت ما تصنعين? فقالت: علي هذه الجبة أبيعها وآخذ دونها وأنفق ما بين ذلك. قلت: إذا فني ما تصنعين? قالت: أبيع هذا الخمار وآخذ دونه وأنفق ما بين ذلك. قلت: فإذا فني ما تصنعين? قالت: يا بطال أسأله فيعطيني. قلت: ألا سألته قبل ذلك? قالت، ويحك إني أستحيي أن أسأله شيئا من الدنيا ومعي فضل من عرضها. قلت: اعقبي على هذا الحمار عقبة.فقالت: دعه. فتركته معها وتخلفت لحاجة. فلما قضيت حاجتي أسرعت في أثرها فإذا أنا بالحمار واقف والخرج مملوء فرآني حواري لم أر بحسنه فطلبتها بعد ذلك فما رأيتها.انتهى ذكر أهل بلخ بحمد الله ومنه.ذكر المصطفين من أهل ترمذمحمد بن علي بن الحسين الترمذي يكنى أبا عبد اللهمن كبار مشايخ خراسان، له التصانيف المشهورة.وكان يقول ما صنفت شيئا لينسب إلي لكن كنت إذا اشتد علي وقتي أتسلى بمصنفاتي.قال محمد بن علي الترمذي ليس في الدنيا حمل أثقل من البر لأن من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك.قال محمد بن علي الترمذي: من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل.

(1/447)

قال محمد الترمذي: المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، والمنافق حزنه في وجهه وبشره في قلبه.وقال اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع عنك نعمته، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. انتهى ذكر أهل ترمذ بحمد الله ومنه.ذكر المصطفين من أهل بخارىمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري يكنى أبا عبد اللهقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدو أمرك في طلب الحديث? قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوما، فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له: يا أبا فلان إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك. فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام? قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم مني فأحكم كتابه وقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: أبن كم كنت إذ رددت عليه? قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في سن ست عشرة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة فلما حججت رجع أخي وتخلفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم،وصنفت كتاب التاريخ عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة.قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم من أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر.قال محمد بن إسماعيل أخرجت هذا الكتاب، يعني الصحيح، من زهاء ستمائة ألف حديث.قال محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.

(1/448)

كان حمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه فلان. فاجتمع التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم. فقال لهم: انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إليهم بما طلبوا، يعني الذين طلبوا أول مرة، ففعل وقال: لا أحب أن أنقض نيتي.كان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان في أول ليلة من رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم فيقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، ويقول عند كل ختمة: دعوة مستجابة.علي بن محمد بن منصور قال: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله محمد بن إسماعيل، فرفع إنسان من لحيته قذاة فطرحها على الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه. فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها فطرحها على الأرض.قال محمد بن أبي حاتم: كنت أرى أبا عبد الله يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه.وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بواحدة.قال محمد بن إسماعيل: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا.قلت: فضائل البخاري كثيرة، وحفظه للحديث حفظ غزير قد شهد له الأكابر به حتى قال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل. وكان نحيف الجسم ليس بالطويل ولا بالقصير.عابد بخاري

(1/449)

إبراهيم بن أحمد الخواص قال: سلكت البادية ستة عشر طريقا على غير الجادة، فأعجب ما رأيت رجل ليس له يدان ولا رجلان، وعليه من البلاء أمر عظيم وهو يزحف زحفا فتحيرت منه وسلمت عليه، فقال لي: وعليك السلام يا إبراهيم. قال: فقلت له: بم عرفتني ولم ترني قبلها? فقال: الذي جاء بك عرف بيني وبينك. فقلت: صدقت، إلى أين تريد? فقال: إلى مكة، قلت: ومن أين أنت? قال: من بخارى فبقيت متعجبا أنظر إليه. فنظر إلي شزرا وقال: يا إبراهيم تعجب من قوي يحمل ضعيفا ويرفق به? ثم دمعت عيناه وأرسل الدموع فقلت: لا يا حبيبي، فتركته على حاله ومضيت أنا. فلما دخلت مكة رأيته يطوف وهو يزحف زحفا.انتهى ذكر أهل بخارى.من المصطفين من فرغانة أبو بكر بن إسماعيل الفرغانيوكان ممن يظهر الغنى في الفقر، يلبس قميصين أبيضين ورداء وسراويل ونعلا لطيفة وعمامة، وفي يده مفتاح كبير حسن، وليس له بيت، ينطرح في المساجد، ويطوي الخمس والست دائما.من المصطفين من أهل منجوران وهي قري ببلخ علي بن محمد المنجورانيمات أبو علي المنجوراني فخرجنا نعزي ابنه علي بن محمد فلما رجعنا من دفن أبيه نزع ثيابه ودخل الماء في نهر، وقال: اشهدوا أني لا أملك اليوم شيئا مما ورثت عن أبي، لأنه يتخالج في صدري، فإن واسيتموني بقميص حتى أخرج من الماء فعلتم قال وكان لنا صديقا مؤانسا فألقوا إليه قميصا فخرج من الماء. وكان أبوه ترك مالا لا يحصى.ذكر المصطفين من عباد خراسان والمشرق الذين لم تعرف بلادهم ولا أسماؤهم.عابدقال صالح بن عبد الكريم: أتى رجل من إخوان فضيل من أهل خراسان فجلس إلى فضيل في المسجد الحرام فحدثه قال: فقام الخراساني يطوف، فسرقت منه دنانير، ستين أو سبعين، قال: فخرج الخراساني يبكي، فقال له فضيل: مالك? قال: سرقت الدنانير، قال: عليها تبكي? قال: لا، قال الخراساني: مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرفت على إدحاض حجته فبكيت رحمة له.عابد آخر

(1/450)

قال صالح بن أحمد: جئت يوما إلى المنزل فقيل لي: قد وجه أبوك أمس في طلبك. فقلت: وجهت في طلبي? فقال: جاءني رجل أمس كنت أحب أن تراه، بينا أنا قاعد في نحر الظهيرة إذا أنا برجل يسلم بالباب وكأن قلبي ارتاح فقمت ففتحت الباب فإذا أنا رجل عليه فروة وعلى أم رأسه خرقة، ما تحت فروته قميص ولا معه ركوة ولا جراب ولا عكاز، قد لوحته الشمس، فقلت: ادخل. فدخل الدهليز فقلت: من أين أقبلت? قال: من ناحية المشرق، أريد بعض هذه السواحل ولولا مكانك ما دخلت هذا البلد إلا نويت السلام عليك. قال: قلت: على هذه الحال? قال نعم، ما الزهد في الدنيا? قلت: قصر الأمل.قال: وجعلت أعجب منه، فقلت في نفسي: ما عندي ذهب ولا فضة، فدخلت البيت فأخذت أربعة أرغفة وخرجت إليه فقلت: ما عندي ذهب ولا فضة وإنما هذا من قوتي. قال: أويسرك أن أقبل ذلك يا أبا عبد الله? قلت: نعم. فأخذها فوضعها تحت حضنه وقال: أرجو أن تكفيني هذه زادي إلى الرقة. أستودعك الله. فلم أزل قائما أنظر إليه إلى أن خرج. وكان يذكره كثيرا.قال إبراهيم: فرجعت إلى بلدي أسير سير الضعفى منزلا بعد منزل حتى رجعت إلى بلخ فكان أول أمري.قلت: قد انتهينا بحمد الله ومنه إلى نهاية المشرقونحن نعود إلى مركزنا وهو مدينة السلام بغداد فنرتقي إلى ديار الشام والمغرب والله الموفق.من المصطفين من أهل عكبراء أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطةلما رجع أبو عبد الله بن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة فلم ير يوما منها في السوق ولا رئي مفطرا إلا في يومي الأضحى والفطر، وكان أمارا بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيره. أو كما قال.وكان شيخا صالحا مستجاب الدعوة.ذكر المصطفين من أهل الموصل المعافى بن عمران أبو مسعود الأزديجمع العلم والتقوى والورع.

(1/451)

علي بن خشرم قال: سمعت بشرا الحافي، وقال له رجل: ألا أراك عاشقا للمعافى بن عمران، فقال: ما لي لا أعشقه، وكان الثوري يسميه الياقوتة.وقال: حضرته يوما فنعي إليه ابناه، فما حل حبوته قال: ظالمين أو مظلومين? قيل: مظلومين. فحل حبوته وخر ساجدا، ثم رفع رأسه وقال: كيف كانت قصتهما?بشر بن الحارث قال: قتل للمعافى بن عمران ابنان في وقعة الموصل فجاء إخوانه يعزونه من الغد فقال لهم: إن كنتم جئتم لتعزوني فلا تعزوني ولكن هنئوني. قال فهنئوه، قال: فما برحوا حتى غداهم وغلفهم بالغالية.كان المعافى صاحب كمد، أصيب بابنين له قتلا وأصيب بماله، فما رئي عليه أثر حزن ولا سمع في داره صوت.قيل لمعافى بن عمران: ما ترى في الرجل يقرض الشعر ويقوله? قال: هو عمرك فأفنه بما شئت.قال المعافى بن عمران: عز المؤمن استغناؤه عن الناس، وشرفه قيامه بالليل.سأل عمرو بن إسماعيل، رجل من أصحاب الحديث، المعافى بن عمران فقال له: يا أبا عمران أي شيء أحب إليك: أسهر وأصلي، أو أكتب الحديث? فقال: كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة.وأكثر ملازمة الثوري وتأدب بآدابه وصنف كتبا في السنن والزهد والأدب .....فتح بن سعيد الموصلي يكنى أبا نصرقال بشر بن الحارث: بلغني أن بنتا لفتح الموصلي عريت فقيل له: ألا تطلب من يكسوها? فقال: لا، أدعها حتى يرى الله عز وجل عريها وصبري عليها. قال: فكان إذا كان ليالي الشتاء جمع عياله وقال بكسائه عليهم ثم قال: اللهم أفقرتني وأفقرت عيالي، وجوعتني وجوعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي؛ فبأي وسيلة توسلتها إليك، وإنما تفعل هذا بأوليائك وأحبائك، فهل أنا منهم حتى أفرح.رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة وكان صائما فقال: عشوني، فقالوا: ما عندنا شيء نعشيك به. قال: فما لكم جلوسا في الظلمة? قالوا ما عندنا شيء نسرج ولا سراج? بأي يد كانت مني? فما زال يبكي إلى الصباح.

(1/452)

عن فتح الموصلي أنه كان يتجزأ بفلس في اليوم يشتري به نخالة.صدع فتح الموصلي، ففرح وقال: يا رب ابتليتني ببلاء الأنبياء، فشكر هذا أن أصلي الليلة أربعمائة ركعة.قال فتح الموصلي: من أدام النظر بقلبه ورثه ذلك الفرح بالمحبوب، ومن آثره على هواه ورثه ذلك حبه إياه، ومن اشتاق إليه وزهد فيما سواه ورعى حقه وخافه بالغيب، ورثه ذلك النظر إلى وجهه الكريم.قال أبو جعفر، ابن أخت بشر بن الحارث،: كنت يوما واقفا ببابنا إذا أقبل شيخ ثائر الشعر ملتف بالعباء فقال لي: بشر في البيت? قلت: نعم فقال: ادخل فقل: فتح بالباب. قال: فخرج مسرعا فصافحه واعتنقه فقال له الشيخ: يا أبا نصر إني ذكرتك البارحة فاشتقت إلى لقائك. قال: فدفع إلي درهما فقال: خذ بأربعة دوانيق خبزا، ويكون جيدا، وبدانقين تمرا. قال الشيخ: قل له يكون شهريزا فجئته به. فقال الشيخ: قل له يأكل معنا. فقال: كل معنا فأكلت معهم. فلما أكلنا أخذ ما فضل في طرف العباء ومضى، فخرج خالي معه يشيعه إلى حرب. فلما رجع قال لي: يا بني. تدري من هذا? قلت لا، قال: هذا فتح الموصلي.محمد بن الصلت قال: كنت عند بشر بن الحارث فجاء رجل فسلم على بشر، فقام بشر غليه فقمت لقيامه، فمنعني. فلما سكن الرجل أخرج بشر درهما صحيحا وقال: أخرج واشتر خبزا وزبدا وتمر برني.قال: فخرجت واشتريت وحملته فوضعته بين يديه، فأكل الرجل وحمل الباقي وقام فخرج، فلما خرج قال لي بشر: يا بني تدري لم منعتك عن القيام له? قلت لا. قال: لأنه لم يكن بينك وبينه معرفة فكان قيامك لقيامي فأردت أن لا يكون قيامك إلا لله خالصا، وتدري لماذا دفعت إليك الدرهم وقلت اشتر كذا وكذا? قلت: لا. قال: إن طيب الطعام يستخرج خالص الشكر لله تعالى، وتدري لم حمل الباقي? قلت لا - قال: عندهم إذا صح التوكل لم يضر الحمل، وهذا فتح الموصلي جاءنا زائرا.

(1/453)

عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال: سمعت شيخا من أصحاب فتح الموصلي قال: كانت لفتح الموصلي بضاعة عند أخ له يعمل بها في البر والبحر، فبعث فتح فاستردها وأنفقها وقال: رأيت قلبي يميل إليها فكرهت أن تكون ثقتي سواه.إبراهيم بن موسى قال: رأيت فتحا الموصلي يوم عيد وقد رأى على الناس الطيالس والعمائم. قال: فقال لي: يا إبراهيم إنما ترى ثوبا وجسدا يأكله الدود غدا، هؤلاء أنفقوا خزائنهم على بطونهم وظهورهم ويقدمون على ربهم مفاليس.عبد الله بن الفرج قال: قال فتح الموصلي: كبرت على خطاياي وكثرت حتى لقد آيستني من عظيم عفو الله عز وجل قال: ثم قال: وإني آيس منك وأنت الذي جدت على السحرة بعد أن غدوا كفرة فجرة? وإني آيس منك وأنت ولي كل نعمة وأني آيس منك وأنت المؤمل لكل فضل ومعروف، وأني آيس منك وأنت المغيث عند الكرب ولم يزل يقول: آيس منك، حتى سقط مغشيا عليه. عمران بن موسى الطرسوسي قال: مر فتح الموصل بصبيين مع أحدهما كسرة عليها عسل ومع الآخر كسرة عليها كامخ. فقال الذي معه الكامخ للذي معه العسل: أطعمني من خبزك قال: إن كنت كلبا لي أطعمتك. قال: نعم. فأطعمه من خبزه وجعل في فمه خيطا وجعل يقوده فقال فتح: لو رضيت بخبزك ما كنت كلبا لهذا.قال أبو موسى فهكذا الدنيا.

(1/454)

قال عثمان بن عمارة : غبت غيبة فلما قدمت لقيت فتحا الموصلي في حانوت سالم الدورقي. فقال لي: يا بصري أي شيء رأيت في غيبتك? فقلت: رأيت عجائب كثيرة وأخبارا مختلفة. فصاح صيحة. فقلت: أنت تصيح من الخبز، فكيف لو شاهدت القيامة أو شاهدت صاحب القيامة? فشهق شهقة ووثب من الحانوت فخر مغشيا عليه فحملناه فأدخلناه الحانوت فما زال مغشيا عليه إلى العصر، فلما صليت العصر تنفس ثم فتح عينيه.رياح بن الجراح العبدي قال: جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده في المنزل، فقال للخادمة: أخرجي إلى كيس أخي، فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الجارية بمجيء فتح وأخذه الدرهمين فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة. فنظر فإذا هي مصادفة فعتقت.محمد بن عبد الرحمن بن حبيب الطفاوي قال: دخلت على فتح الموصلي وهو يوقد بالآجر. وكان فتح رجلا من العرب، وكان شريفا زاهدا.عبد الله بن الفرج العابد قال: كان بالموصل رجل نصراني يكنى أبا إسماعيل؛ قال: فمر ذات ليلة برجل وهو يتهجد على سطحه وهو يقرأ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون سورة آل عمران: آية 83 قال: فصرخ أبو إسماعيل صرخة غشي عليه فلم يزل على حاله تلك حتى أصبح فلما أصبح أسلم ثم أتى فتحا الموصلي فاستأذنه في صحبته فكان يصحبه ويخدمه.قال: وبكى أبو إسماعيل حتى ذهبت إحدى عينيه وعشي من الأخرى، فقلت له ذات يوم: حدثني ببعض أمر فتح الموصلي، قال فبكى ثم قال: أخبرك عنه: كان والله كهيئة الروحانيين، معلق القلب بما هناك، ليست له في الدنيا راحة. قلت: على ذاك قال: شهدت العيد ذات يوم بالموصل ورجع بعد ما تفرق الناس ورجعت معه فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة فبكى ثم قال: قد قرب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب? ثم سقط مغشيا عليه.فجئت بماء فمسحت به وجهه، فأفاق ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة رفع رأسه إلى

(1/455)

السماء ثم قال: قد علمت طول غمي وحزني وتردادي في أزقة الدنيا، فحتى متى تحبس أيها المحبوب? ثم سقط مغشيا عليه فجئت بماء فمسحت على وجهه فأفاق. فما عاش بعد ذلك إلا أياما حتى مات رحمه الله.إبراهيم بن موسى قال: رأيت فتحا الموصلي في يوم عيد أضحى وقد شم ريح القتار، فدخل إلى زقاق فسمعته يقول: تقرب المتقربون بقربانهم وأنا أتقرب إليك بطول حزني يا محبوب، كم تتركني في أزقة الدنيا محبوسا? ثم غشي عليه وحمل فدفناه بعد ثلاث.عن بعض أصحاب فتح الموصلي قال: دخلت عليه يوما وقد مد كفيه يبكي، حتى رأيت الدموع من بين أصابعه تنحدر. فدنوت منه لأنظر إليه فإذا دموعه قد خالطتها صفرة. فقلت: بالله يا فتح بكيت الدم? فقال: لولا أنك حلفتني بالله عز وجل ما أخبرتك، بكيت دما. فقلت: على ماذا بكيت الدموع? وعلى ماذا بكيت الدم? فقال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله عز وجل، وبكيت الدم على الدموع خوفا أن تكون ما صحت لي الدموع.قال الرجل: فرأيت فتحا بعد موته في المنام. فقلت: ما صنع الله بك? فقال غفر لي، قلت: فما صنع في دموعك? فقال: قربني ربي عز وجل وقال لي: يا فتح؛ الدمع على ماذا? قلت: يا رب على تخلفي عن واجب حقك. قال: فالدم لم بكيت? فقلت: يا رب على دموعي خوفا أن لا تصح لي فقال لي: يا فتح ما أردت بهذا كله? وعزتي لقد صعد إلي حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة.سباع الموصليقال المضاء لسباع الموصلي يا أبا محمد إلى أي شيء أفضى بهم الزهد? قال: إلى الأنس به.أحمد الموصلي

(1/456)

عن أحمد الميموني قال: قدم علينا أحمد الموصلي فأتيته فقال لي: يا أحمد إن تعمل فقد عمل العاملون قبلك، وإن تعبد فقد تعبد المتعبدون قبلك، أولئك الذين قربوا الآخرة وباعدوا الدنيا، أولئك الذين ولي الله إقامتهم على الطريق فلم يأخذوا يمينا ولا شمالا، فلو سمعت نغمة من نغماتهم المختمرة في صدورهم، المتغرغرة في حلوقهم لغيبت عليك عيشك، ولطردت عنك البطالة أيام حياتك.ذكر المصطفيات من عابدات الموصلألوف الموصلية خطب رجل امرأة من أهل الموصل يقال لها ألوف فقالت للرسول: قل له ما يسرني أنك لي عبد وجميع ما تملكه لي، وأنك شغلتني عن الله عز وجل طرفة عين.أمية بنت أبي المورع كانت من الخائفين، وكانت إذا ذكرت النار قالت: أدخلوا النار، وأكلوا من النار، وشربوا من النار، وعاشوا. ثم تبكي، وكان بكاؤها أطول من ذلك، وكانت كأنها جبة على مقلي، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت دما وما رأيت أحدا أشد خوفا ولا أكثر بكاء منها.موافقة عثرت فسقط ظفر إبهامها، فضحكت، فقيل لها يا موافقة يسقط إبهامك وتضحكين? فقالت: إن حلاوة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.راهبة الموصلية قالت لامرأة: هل تدرين ما معنى إلا من أتى الله بقلب سليم سورة الشعراء: آية 89? فقالت لا قالت: القلب السليم الذي يلقى الله عز وجل وليس فيه شيء غير اله عز وجل ... 0ذكر المصطفين من أهل الرقة ميمون بن مهران، يكنى أبا أيوبقال خلف بن حوشب: تكارينا مع ميمون بن مهران دواب إلى مكان فقال ميمون: لولا أن الدواب بكراء لمررنا على آل فلان.قال ميمون: يا جعفر قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.قال ميمون: لا تضرب المملوك في كل ذنب، ولكن احفظ ذلك له فإذا عصى الله عز وجل فعاقبه على معصية الله، وذكره الذنوب التي أذنب بينك وبينه.

(1/457)

قال أبو المليح: ما رأيت أحدا أفضل من ميمون بن مهران، قال له رجل يوما: يا أيوب أي شيء تشتكي أراك مصفرا? قال: نعم لما يبلغني في أقطار الأرض.عبد الملك الميموني قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمي عمر يقول: ما كان أبي يكثر الصيام ولا الصلاة ولكنه كان يكره أن يعصي الله عز وجل.قال: وسمعت أبي يقول: وددت أن إصبعي قطعت من ها هنا وأني لم أل. فقلت: ولا لعمر? قال: لا لعمر ولا لغيره.أبو المليح قال: سمعت ميمونا يقول: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل نائب، ورجل يعمل في الدرجات.قال ميمون بن مهران: إن العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجلوا مثل المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فلا يزال ينكت في قلبه حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من حيث يأتيه.قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه? ومن أين ملبسه? ومن أين مشربه? أمن حل ذلك أم من حرام?عن ميمون قال: الصبر صبران، والذكر ذكران: فذكر الله عز وجل باللسان حسن، وأفضل منه أن تذكر الله عز وجل عندما تشرف عليه من معاصيه، والصبر عند المصيبة حسن وافضل منه أن تصبر نفسك على ما تكره من طاعة الله عز وجل وإن ثقل عليك0قال ميمون: وأدركت من لم يتكلم إلا بحق أو يسكت، وقد أدركت من لم يكن يتكلم بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس إلا بما يصعد، وقد أدركت من لم يملأ عينيه من السماء فرقا من ربه عز وجل، ولو أن بعض من أدركت نشر حتى يعاينكم ما عرف منكم شيئا إلا قبلتكم.قال عيسى الأسدي: مشيت مع ميمون بن مهران حتى إذا أتى باب داره ومعه ابنه عمرو، فلما أردت أن أنصرف قال له عمرو: يا أبة ألا تعرض عليه العشاء? قال ليس ذلك من نيتي.حناذ القلاء

(1/458)

قال المرعشي: مررت بالرقة بأصحاب السويق، ورجل يبيع السويق عليه بتة وهو مقبل على غلامين، وعلى رأسه كمة دنسة فقلت: لو ألقيت هذه الكمة.فقال: أصبت قلبي يصلح عليها. قلت: أراك مقبلا على الغلامين أفمن حبهما? قال: إني أجل الله عز وجل أن أشغل قلبي بحب أحد مع حبه، ولكن أرحمهما.حذيفة العابد، صاحب يوسف بن أسباط، قال: لما اصطلح الروم والعرب قلت: فما أصنع الآن في الرباط? فخرجت حتى أتيت الرقة فجئت إلى قوم قلائين، فقلت أعمل معكم فتنظرون إلى عمل فتجزون من الكراء بقدر ما أستحقه. قالوا نعم. فجعلت أعمل معهم. وكان ثم شيخ جالس بين يديه زنبيل سويق يبيع، على رأسه قلنسوة سوداء مخرقة وفرو مخرق وبين يديه صبيان يلعبان ويقتتلان، وهو متشاغل بهما يزجرهما وينهاهما.قال: فقلت له: أني أحسبك تحبهما. قال: لا والله ما أحبهما، ولكن أرحمهما، وما أحد أحب إلي من الله عز وجل.قال: فأعجبني قوله وأنست به، وكان ثم شباب رفث بعضهم على بعض فقلت له: ألا تنهى هؤلاء الشباب? فقال: إني لأجل الله عز وجل أن أذكره عند مثل هؤلاء، قال: فأعجبتني مقالته فقلت: كيف حبك لمدحة الناس? قال: ما أحب أن لي ملء بيت دنانير وأنه يقع في قلبي حب مدحة الناس لي، فقلت: فما هذه القلنسوة على رأسك? قال: وجدت قلبي يصلح عليهازقال حذيفة: فلم أر أحدا إن شاء الله كان أصدق منه. قيل له: أين كان من يوسف بن أسباط? قال: ما كان يوسف بن أسباط يصلح إلا شاكردا لذلك.قال أبو عمر: فذكرت ذلك لبعض الرقيين فقال: ذاك حناذا القلاء.توبة بن الصمةكان بالرقة وكان محاسبا لنفسه، فحسب فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتا: ألقى المليك بأحد وعشرون ألف ذنب، كيف? وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت. فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى رضي الله عنه.إبراهيم بن داود القصار أبو إسحاق الرقي

(1/459)

قال إبراهيم القصار: المعرفة إثبات الرب عز وجل خارجا عن كل موهوم.وقال إبراهيم: الأبصار قوية والبصائر ضعيفة.وقال: من اكتفى بغير الكافي افتقر من حيث استغنى.وقال: الكفايات تصل إليك بلا تعب والأشغال والتعب في الفضول.وقال: أضعف الخلق من ضعف عن رد شهواته، وأقوى الخلق من قوي على ردها.: سأل رجل إبراهيم القصار فقال: هل يبدي المحب حبه? أو هل ينطق به? أو هل يطيق كتمانه? فأنشأ يقول متمثلا: ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم بكتمان عين دمعها الدهر يذرفحملتم جبال الحب فوقي وإنني لأعجز عن حمل القميص وأضعفقال السلمي: إبراهيم بن داود من جلة مشايخ الشام، .....0 وكان لازما للفقر مجردا فيه، محبا لأهله.ذكر المصطفيات من عابدات الرقةعبيد الله بن الخالق قال: سبى الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر الرقة وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين، فقيل لمنصور بن عمار: لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين فحرضت الناس على الغزو، ففعل، فبينا هو يذكرهم ويحرض إذا نحن بخرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور، وإذا كتاب مضموم إلى الصرة ففك الكتاب فقرأه فإذا فيه: إني امرأة من أهل البيوتات من العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وسمعت تحريضك الناس على الغزو، وترغيبك في ذلك، فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهمنا ذؤابتاي فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله، فعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال نظرة فيرحمني بها.قال: فبكى وأبكى الناس، وأمر هارون أن ينادى بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى فيهم وفتح الله عليهم.قلت: هذه امرأة حسن قصدها وغلطت في فعلها، لأنها جهلت أن ما فعلت منهي عنه، فلينظر إلى قصدها.عابدة أخرى

(1/460)

بلغنا عن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميرا على الجيش في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس إلى الغزو ورغبتهم في الثواب، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها. ثم تفرق الناس وركبت فرسي وسرت إلى منزلي فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس تنادي: يا أبا قدامة، فقلت: هذه مكيدة من الشيطان. فمضيت ولم أجب. ما هكذا كان الصالحون، فوقفت، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية.فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها مكتوب: إنك دعوتنا إلى الجهاد ورغبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما في، وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك، لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.فلما كانت صبيحة القتال فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل فتقدمت إليه وقلت: يا فتى غلام غر راجل ولا آمن أن تجول الخيل فتطأك بأرجلها فارجع عن موضعك هذا فقال: أتأمرني بالرجوع? وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير سورة الأنفال: الآيتان 15 و16.فحملته على هجين كان معي فقال: يا أبا قدامة أقرضني ثلاثة أسهم فقلت: أهذا وقت قرض? فما زال يلح علي حتى قلت بشرط: إن من الله بالشهادة أكون في شفاعتك، قال: نعم. فأعطيته ثلاثة أسهم فوضع سهما في قوسه وقال: السلام عليك يا أبا قدامة. ورمى به فقتل روميا. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك يا أبا قدامة فقتل روميا. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك سلام مودع.فجاءه سهم فوقع بين عينيه فوضع رأسه على قربوس سرجه. فتقدمت إليه وقلت: لا تنسها. فقال: نعم ولكن لي إليك حاجة: إذا دخلت المدينة فأت والدتي وسلم خرجي إليها وأخبرها فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك، وسلم عليها فإنها العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي ثم مات.

(1/461)

فحفرت له ودفنته. فلما هممنا بالانصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها. فقال أصحابي: إنه غلام غر ولعله خرج بغير إذن أمه. فقتل: إن الأرض لتقبل من هو شر من هذا. فقمت وصليت ركعتين ودعوت الله عز وجل فسمعت صوتا يقول: يا أبا قدامة اترك ولي الله. فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته، فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته فلما قرعت الباب خرجت أخته إلي فلما رأتني عادت وقالت: يا أماه هذا أبو قدامة ليس معه أخي، فقد أصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي.فخرجت أمه إلي فقالت: أمعزيا أم مهنئا? فقلت: ما معنى هذا? فقالت: إن كان مات فعزني، وإن كان استشهد فهنئني. فقلت: لا بل مات شهيدا. فقالت: له علامة فهل رأيتها? قلت: نع لم تقبله الأرض ونزلت الطيور فأكلت لحمه وتركت عظامه فدفنتها فقالت: الحمد لله. فسلمت إليها الخرج ففتحته فأخرجت منه مسحا وغلا من حديد، وقالت: إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح وغل نفسه بهذا الغل وناجى مولاه، وقال في مناجاته: أحشرني من حواصل الطيور. فقد استجاب الله دعاءه.ذكر المصطفين من أهل الشام من الطبقة الأولى من التابعين ومن بعدهمعمرو بن الأسود السكونيقال عمر بن الخطاب: من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود.قال عمرو بن الأسود: لا ألبس مشهورا أبدا ولا أملأ جوفي من طعام بالنهار أبدا حتى ألقاه.كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر، وكان إذا خرج من بيته إلى المسجد قبض يمينه على شماله مخافة الخيلاء.أن عمرو بن الأسود يشتري الحلة بمائتين ويصبغها بدينار ويخمرها النهار كله، ويقوم فيها الليل كله.يزيد بن الأسود يكنى أبا الأسود الجرشي

(1/462)

أن الشام قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي? فناداه الناس، فأقبل يتخطى، فأمره معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه. فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك إلى الله. فرفع يديه ورفع الناس، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم.أصاب الناس قحط بدمشق، وعلى الناس الضحاك بن قيس الفهري، فخرج بالناس يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي? فلم يجبه أحد، ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي? فلم يجبه أحد، ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي? فلم يجبه أحد ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي? عزمت عليه إن كان يسمع كلامي إلا قام وعليه برنس فاستقبل الناس بوجهه ورفع جانبي برنسه على عاتقيه ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم يا رب إن عبادك تقربوا إليك فاسقهم. قال: فانصرف الناس وهم يخوضون الماء. فقال: اللهم إنه قد شهرني فأرحني منه. قال: فما أتت عليه جمة حتى قتل الضحاك.شرحبيل بن السمط بن الأسود أبو يزيد الكنديبكر بن سوادة قال: كان رجل يعتزل الناس، إنما هو وحده، فجاءه أبو الدرداء فقال: أنشدك الله عز وجل ما يحملك على أن تعتزل الناس? قال: إني أخشى أن أسلب ديني وأنا لا أشعر. فحدثت بذلك رجلا من أهل الشام فقال: ذاك شرحبيل بن السمط.كعب الأحبار بن ماتع يكنى أبا إسحاقوهو من حمير من آل ذي رعين كان يهوديا فأسلم وقدم المدينة ثم خرج إلى الشام فسكن حمص.قال كعب الأحبار: ما كرم عبد على الله عز وجل إلا زاد البلاء عليه شدة، وما أعطى رجل زكاة فنقصت من ماله، ولا حبسها فزادت في ماله، ولا سرق سارق إلا حسب له من رزقه.

(1/463)

قال كعب: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، دويا حول العرش كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن.عن كعب قال: ما استقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر في السماء.عن كعب الأحبار، قال: جاء رجلان فوقفا بباب المسجد فدخل أحدهما ولم يدخل الآخر وقال: مثلي لا يدخل بيت الله وقد عصيته، فأوحى الله إلى نبي من أنبياء إسرائيل أنني قد جعلته صديقا بإزرائه على نفسه.قال كعب: مؤمن عالم أشد على إبليس وجنوده من مائة ألف مؤمن عابد، لأن الله يعصم بهم من الحرام.عن كعب قال: لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا، والذي نفس كعب بيده ما بكى عبد من خشية الله حتى تقع قطرة من دموعه إلى الأرض فتمسه النار أبدا حتى يعود قطر السماء الذي وقع إلى الأرض من حيث جاء، ولن يعود أبدا.قال كعب: من يعبد الله عز وجل حيث لا يراه أحد يعرفه خرج من ذنوبه كما يخرج من ليلته.عن كعب: قال: المتخلق إلى أربعين يوما ثم يعود إلى خلقه الذي هو خلقه.وقال :إن الملائكة ينظرون من السماء إلى الذين يصلون بالليل في بيوتهم كما تنظرون أنتم إلى نجوم السماء.يزيد بن مرثد أبو عثمان الهمدانيقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف? قال: وما مسألتك عنه? قلت: عسى الله عز وجل أن ينفعني به. قال: يا أخي إن الله عز وجل قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتواعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين.

(1/464)

قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك? قال: وما مسألتك عنه? قلت: عن الله عز وجل أن ينفعني به. قال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكانا? ولربما أضجر ذلك امرأتي فتقول: يا ويحها ما خصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا، ما تقر لي معك عين.أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيفا وعرقا وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل. فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط. وأخبر بما فعل فتركه.عبد الله بن محيريز، أبو محيريزدخل ابن محيريز حانوتا بدانق وهو يريد أن يشتري ثوبا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا.عن رجاء بن حيوة قال: أتانا نعي ابن عمر، ونحن في مجلس ابن محيريز فقال ابن محيريز: والله إن كنت لأعد بقاء ابن عمر أمانا لأهل الأرض.وقال رجاء بن حيوة بعد موت ابن محيريز: وأنا والله إن كنت لأعد بقاء ابن محيريز أمانا لأهل الأرض.كان ابن محيريز يجيء بالكتاب إلى عبد الملك فيه النصيحة فيقرئه إياه ثم لا يقره في يده.عبد الملك بن مروان بعث إلى ابن محيريز بجارية، فترك ابن محيريز منزله فلم يكن يدخله، فقيل له: يا أمير المؤمنين تغيب ابن محيريز عن منزله. قال: ولم? قيل: من أجل الجارية التي بعثت بها إليه. قال: فبعث عبد الملك فأخذها.كان ابن محيريز إذا مدح قال: وما يدريك? وما علمك?عن عمر بن عبد الرحمن بن محيريز قال: كان جدي ابن محيريز يختم في كل سبع.عن عبد الله بن عوف القارئ قال: لقد رأيتنا برودس وما في الجيش أحد أكثر صلاة من ابن محيريز في العلانية ثم أقصر عن ذلك حين شهر وعرف.

(1/465)

كان ابن زكريا يقدم فلسطين فيلقى ابن محيريز فتتقاصر إليه نفسه لما يرى من فضل ابن محيريز.قال ابن محيريز: اللهم إني أسألك ذكرا خاملا.كانت في ابن محيريز خصلتان ما كانتا في أحد ممن أدركت في هذه الأمة: كان أبعد الناس أن يسكت عن حق بعد أن يتبين له، يتكلم فيه غضب من غضب، ورضي من رضي، وكان من أحرص الناس أن يكتم من نفسه أحسن ما عنده.قال ابن محيريز: من مشى بين يدي أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو بكنيته فقد عقه إلا أن يقول: يا أبه.أبو مسلم الخولاني واسمه عبد الله بن ثوبطرحه الأسود العنسي المتنبي باليمن في النار فلم تضره فكان يشبه بالخليل عليه السلام.تنبأ الأسود بن قيس العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله? قال: نعم، قال: فتشهد أني رسول الله? قال: ما أسمع قال: أتشهد أن محمدا رسول الله? قال: نعم. قال: فتشهد أني رسول الله? قال: ما أسمع. قال: فأمر بنار عظيمة فأججت وطرح فيها أبو مسلم فلم تضره فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك. فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر. فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي فبصر به عمر بن الخطاب، فقال: من أين الرجل? قال: من اليمن - قال: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره? قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله عز وجل أنت هو? قال: اللهم نعم. قال: فقبل ما بين عينيه، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن، عليه السلام.

(1/466)

قال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم أبو مسلم الخولاني، فإنه لم يكن يجالس أحدا يتكلم في شيء من أمر الدنيا إلا تحول عنه، فدخل ذات يوم المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا فرجا أن يكونوا على ذكر الله تعالى، فجلس إليهم وإذا بعضهم يقول: قدم غلامي فأصاب كذا وكذا. وقال آخر: جهزت غلامي، فنظر إليهم وقال: سبحان الله أتدرون ما مثلي ومثلكم? كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل فالتفت فإذا هو مبصراعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب هذا المطر، فدخل فإذا البيت لا سقف له.جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكر وخير فإذا أنتم أصحاب دنيا.قال: وقال له قائل، حين كبر ورق: لو قصرت عن بعض ما تصنع. فقال: أرأيتم لو أرسلتم الخيل في الحلبة ألستم تقولون لفارسها دعها وارفق بها حتى إذا رأيتم الغاية لم تستبقوا منها شيئا? قالوا: بلى - قال: فإني قد أبصرت الغاية وإن لكل ساعة غاية، وغاية كل ساعة الموت، فسابق ومسبوق.قال عطية بن قيس: أن ناسا من أهل دمشق أتوا أبا مسلم الخولاني في منزله وهو غاز بأرض الروم، فوجدوه قد احتقر في فسطاطه جوبة ووضع في الجوبة نطعا وأفرغ فيه ماء يتصلق فيه وهو صائم، فقالوا له: ما يحملك على الصيام وأنت مسافر وقد رخص لك في الفطر في السفر? فقال: لو حضر قتال لأفطرت وتقويت للقتال، إن الخيل لا تجري إلى الغايات وهي بدن إنما تجري وهي ضمر، إن بين أيدينا أياما لها نعمل.عن شرحبيل بن مسلم أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني في منزله فقال بعض أهله: هو في المسجد، فأتياه فوجداه يركع فانتظرا انصرافه وأحصيا ركوعه، فأحصى أحدهما أنه ركع ثلثمائة والآخر أربعمائة قبل أن ينصرف فقالا له: يا أبا مسلم كنا قاعدين خلفك ننتظرك، قال أما إني لو علمت مكانكما لانصرفت إليكما، وما كان لكما أن تحفظا علي صلاتي، فأقسم لكما إن كثرة السجود خير ليوم القيامة.

(1/467)

قال أبو مسلم الخولاني: ما عملت عملا أبالي من رآه إلا أن يخلو الرجل بأهله أو يقضي حاجة غائط.عن أبي مسلم أنه كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا بسم الله. قال: ويمر بين أيديهم. قال: فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، أو بعض ذلك أو قريبا من ذلك، فإذا جازوا قال للناس: هل ذهب لكم من شيئ? من ذهب له شيء فأنا له ضامن. قال: فألقى بعضهم مخلاة عمدا فلما جازوا قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر. قال له: اتبعني، فإذا المخلاة تعلقت ببعض أعواد النهر.قالت امرأة أبي مسلم يعني الخولاني: يا أبا مسلم ليس لنا دقيق. قال: عندك شيء? قالت: درهم بعنا به عزلا، قال: ابغينيه وهاتي الجراب، فدخل السوق فوقف على رجل يبيع الطعام. فوقف عليه سائل فقال: يا أبا مسلم تصدق علي، فهرب منه فأتى حانوتا آخر فتبعه السائل فقال: يا أبا مسلم، فهرب منه فأتى حانوتا آخر فتبعه السائل فقال: تصدق علي، فلما أضجره أعطاه الدرهم، ثم عمد إلى الجراب فملأه نجارة النجارين مع التراب ثم أقبل إلى باب منزله فنقر الباب وقلبه مرعوب من أهله، فلما فتحت الباب رمى بالجراب وذهب، فلما فتحته إذا هي بدقيق حواري، فعجنت وخبزت. فلما ذهب من الليل الهوي جاء أبو مسلم لنقر الباب فلما دخل وضعت بين يديه خوانا وأرغفة. فقال: من أين لكم هذا? قالت له يا أبا مسلم من الدقيق الذي جئت به، فجعل يأكل ويبكي.

(1/468)

عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبر على باب منزله فتكبر امرأته فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته، فإذا بلغ إلى باب بيته كبر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد، فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد، فلما كان في باب بيته كبر فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه قال: فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة منكسة تنكت بعود معها. فقال لها مالك? فقالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا وأعطاك، فقال: اللهم من أفسد امرأتي فأعم بصره، قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت: زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية أن يخدمه ويعطيه عشتم، قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت: ما لسراجكم طفئ? قالوا: لا. فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها يرد عليها بصرها.قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل لها فرد عليها بصرها.قال أبو مسلم الخولاني، وكان ذا أمثال: أرأيتم نفسا إذا أكرمتها وودعتها ونعمتها ذمتني غدا عند الله وإن أنا أهنتها وأنصبتها وأعملتها مدحتني عند الله غدا? قالوا: من تيك يا أبا مسلم? قال تيك والله نفسي.عن أبي مسلم الخولاني، أنه كان إذا وقف على خربة قال: يا خربة أين أهلك? ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوة، وبقيت الخطيئة، ابن آدم ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.قال أبو مسلم الخولاني: ما طلبت شيئا من الدنيا قط فولي لي، حتى لقد ركبت مرة حمارا فلم يمش فنزلت عنه وركبه غيري فعدا. قال: فأريت في منامي كأن قائلا يقول لي: لا يحزنك ما زوي عنك من الدنيا وإنما يفعل ذلك بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته. قال: فسري عني.

(1/469)

عن عمير بن سيف، أنه سمع أبا مسلم الخولاني يقول: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إلي، قبضه مني، أحب إلي من أن تكون لي الدنيا وما فيها.كان من أمر أبي مسلم الخولاني أن علق سوطا في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوط من الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطا أو سوطين.وكان يقول: لو رأيت الجنة عيانا ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عيانا ما كان عندي مستزاد.ربما قال الصبيان لأبي مسلم الخولاني: ادع الله أن يحبس علينا هذا الطائر، فيدعو الله عز وجل فيحبسه، فيأخذوه بأيديهم.من الطبقة الثالثة رجاء بن حيوة أبو المقدام الكنديعن مطر الوراق قال: ما رأيت شاميا أفضل من رجاء بن حيوة.أبو أسامة قال: كان ابن عون إذا ذكر من يعجبه ذكر رجاء بن حيوة.قال ابن عون: ثلاثة لم أر مثلهم كأنهم التقوا فتواصوا: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.عبيد بن السائب قال: أنبأ أبي قال: ما رأيت أحدا أحسن اعتدالا في صلاته من رجاء بن حيوة.عن عبد الرحمن بن عبد الله أن رجاء بن حيوة قال لرجلين وهو يعظهما: انظرا الأمر الذي تحبان أن تلقيا الله عز وجل عليه، فخذا فيه الساعة، وانظرا الأمر الذي تكرهان أن تلقيا الله عز وجل عليه فدعاه الساعة.وكان يصحب الخلفاء ويأمرهم بالمعروف. فلما مات عمر بن عبد العزيز انقطع عن صحبتهم. فسأله يزيد بن عبد الملك أن يصحبه فأبى واستعفاه. فقيل له: نخاف عليك من هؤلاء. فقال: يكفينهم الذي تركتهم له.عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية

(1/470)

كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلا لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك بن مروان وتصدع الناس عن قبره وقف عليه فقال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من ملكك غر ثوبيك، وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين. ثم انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن بال فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره فقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه? قال: نعم. قال: أخبرني عن حالتك التي أنت عليها أترضاها للموت? قال: اللهم لا، قال: أفعزمت على انتقال منها إلى غيرها? قال: ما انتصحت رأيي في ذلك، قال: أفتأمن من أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها? قال: اللهم لا، قال: حال ما أقام عليها عاقل. ثم انكفأ إلى مصلاه.خالد بن معدان الكلاعي. يكنى أبا عبد اللهقال خالد بن معدان: إياكم والخطران فإنه قد تنافق يد الرجل من سائر جسده. قيل: وما الخطران? قال: ضرب الرجل بيده إذا مشى.عن خالد بن معدان قال: ما من عبد إلا وله أربع أعين: عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب. قال: وهما غيب فآمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه ما هو عليه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالهاكان خالد بن معدان إذا عظمت حلقته قام فانصرف. قلت لصفوان: ولم كان يقوم? قال: كان يكره الشهرة.مات خالد وهو صائم0عبادة بن نسي الكنديعن رجاء قال: كان بين رجل وبين عبادة بن نسي منازعة فأسرع إليه الرجل فلقي رجاء بن حيوة عبادة فقال: بلغني أن فلانا كان منه إليك فأخبرني، فقال: لولا أن تكون غيبة مني لأخبرتك بما كان منه.عبد الله بن أبي زكريا الخزاعيكان صاحب غزو من أهل دمشق عن الأوزاعي قال: لم يكن بالشام رجل يفضل على عبد الله بن أبي زكريا. قال: عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي.

(1/471)

قال عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن اقدر منه على ما أريد. قال: وكان لا يدع أحدا يغتاب في مجلسه أحدا. يقول: إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم.أن عبد الله بن أبي زكريا كان يقول: لو خيرت بين أن أعمر مائة سنة في طاعة الله أو أن أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه لاخترت أن أقبض شوقا إلى الله عز وجل وإلى رسوله وإلى الصالحين من عباده.وكان إذا خاض جلساؤه في غير ذكر الله كأنه ساه، وإذا خاضوا في ذكر الله كان من أحسن الناس استماعا.من الطبقة الرابعة بلال بن سعدعبد الله بن المبارك قال: كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر كمحل الحسن بالبصرة.قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: واحزناه على أني لا أحزن. الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا أهلها وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة.عن الأوزاعي قال: سمعت بلالا يقول: لا تكن وليا لله تعالى في العلانية وعدوه في السر.قال: وسمعت بلالا يقول في مواعظه: يا أهل الخلود ويا أهل البقاء، إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للخلود والأبد، ولكنكم تنقلون من دار إلى دار.قال بلال بن سعد: إن الله يغفر الذنوب، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يقفه عليها يوم القيامة وإن تاب.قال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة.هلك ابن لبلال بن سعد فجاء رجل يدعي عليه ببضعة وعشرين دينارا فقال له بلال: ألك بينة? قال: لا. قال: فلك كتاب? قال: لا. قال: فتحلف? قال: نعم. قال: فدخل منزله فأعطاه الدنانير، فقال: إن كنت صادقا فقد أديت عن ابني، وإن كنت كاذبا فهي عليك صدقة.قال بلال: رب مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وقد حق له في كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار.قال بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا.

(1/472)

قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر من عصيت.قال بلال بن سعد: الذك رذكران: ذكر لله عز وجل باللسان حسن جميل، وذكر الله أحل وحرم أفضل.قال بلال بن سعد: يا أولي الألباب ليتفكر متفكر فيما يبقى له وينفعه، أما ما وكلكم الله عز وجل به فتضيعون، وأما ما تكفل لكم به فتطلبون، ما هكذا نعت الله عباده المؤمنين، أذوو عقول في طلب الدنيا وبله عما خلقتم له? فكما ترجون الله بما تؤدون من طاعته فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصيه.قال بلال بن سعد: عباد الله، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد، ومن لم يعمل على اليقين فلا يتعن، عباد الرحمن، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم تقبل منكم أو شيئا من أعمالكم تغفر لكم? عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهبانا.عمير بن هانئ أبو الوليد الشاميقال سعيد لعميرأرى لسانك لا يفتر من ذكر الله عز وجل فكم تسبح كل يوم? قال مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابعأبو عبد رب واسمه عبيدة بن المهاجر

(1/473)

كان أبو عبد رب من أكثر أهل دمشق مالا فخرج إلى أذربيجان في تجارة فأمسى إلى جانب مرعى ونهر فنزل به. قال: فسمعت صوتا يكثر حمد الله عز وجل في ناحية فاتبعه فرأيت رجلا في حفير من الأرض، ملفوفا في حصير، فسلمت عليه وقلت: من أنت? قال: رجل من المسلمين. فسألته أن يقوم معي إلى المنزل فأبى، فانصرفت وقد تقاصرت إلي نفسي ومقتها أني لم أخلف بدمشق رجلا في العين يكاثرني وأنا ألتمس الزيادة فقلت: اللهم إني أتوب إليك من سوء ما أنا فيه، فبت ولم يعلم إخواني بما قد أجمعت عليه فلما كان السحر رحلوا فركبت دابتي وضربتها إلى دمشق فقال: ما أنا بصادق التوبة إن مضيت في متجري. قال ابن جابر: فلما قدم تصدق بصامت ماله وجهز به في سبيل الله عز وجل. قال ابن جابر فحدثني بعض إخواني قال: ما كست صاحب عباء بدانق من عباء أعطيته ستة وهو يقول: سبعة. فلما أكثرت قال: ممن أنت? قلت: من أهل دمشق. قال ما تشبه شيخا وفد علي أمس يقال له أبو عبد رب اشترى مني سبعمائة كساء بسبعة سبعة ما سألني أن أضع له درهما وما زال يفرقها بين فقراء الجيش فما دخل إلى منزله منها بكساء.قال ابن جابر: وكان أبو عبد رب تصدق بصامت ماله وباع عقدة فتصدق بها، إلا دارا بدمشق ثم باعها بمال وفرقه. ثم مات فما وجدوا من ثمنها إلا قدر الكفن. وكان يقول: والله لو أن نهركم هذا سال ذهبا وفضة، من شاء خرج إليه فأخذ، ما خرجت إليه، ولو قيل: من مس هذا العود مات لسرني أن أقوم إليه شوقا إلى الله عز وجل وإلى رسوله.من الطبقة الخامسة أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغسانيقال بقية: خرجنا إلى أبي بكر بن أبي مريم نسمع منه في ضيعته، وكانت كثيرة الزيتون، فخرج علينا نبطي من أهلها فقال لي: من تريدون? فقلنا: نريد أبا بكر بن أبي مريم فقال: الشيخ? فقلنا: نعم، فقال: ما في هذه القرية شجرة من زيتون إلا وقد قام إليها ليلته جمعاء.

(1/474)

وكان أ من العباد المجتهدين، فحضره الموت وهو صائم، فلم يزل يجهد حتى قشروا له تفاحة فأفطر عليها وقيل لامرأته ألا تفلين ثيابه? قالت: أية ساعة أفليها? ما يلقيها عنه ليلا ولا نهارا. تقول لاشتغاله بالصلاة.كان لأبي بكر بن أبي مريم في خديه مسلكان من الدموع.قال يزيد بن عبد ربه: عدت أبا بكر بن أبي مريم وهو في النزع فقلت له: رحمك الله لو جرعت جرعة ماء. فقال بيده: لا ثم جاء الليل فقال: أذن? فقلت: نعم. فقطرنا في فمه قطرة ماء ثم مات.حسان بن عطية يكنى أبا بكرعن الأوزاعي قال: ما رأيت أحدا أكثر عملا منه في الخير. يعني حسان بن عطية.كان حسان بن عطية يتنحى إذا صلى العصر في ناحية المسجد، فيذكر الله عز وجل حتى تغيب الشمس.عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: من أطال قيام الليل يهون عليه طول القيام يوم القيامة.قال حسان: يعذب الله الظالم بالظالم ثم يدخلهما النار جميعا. وحدثني حسان قال: إن العبد إذا عمل سيئة وقف الملك فلم يكتبها ثلاث ساعات، فإن لم يستغفر كتبت وإن استغفر لم تكتب .....أمية الشاميعن سفيان بن عيينة قال: كان أمية رجلا من أهل الشام يقوم فيصلي هناك مما يلي باب بني سهم، فينتحب ويبكي حتى يعلو صوته وحتى تسيل دموعه على الحصى. قال: فأرسل إليه الأمير: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك وارتفاع صوتك، فلو أمسكت قليلا. فبكى ثم قال: إن حزن يوم القيامة ورثني دموعا غزارا، فأنا أستريح إلى ذريها أحيانا. وكان أمية يقول: ألا إن المطيع لله ملك في الدنيا والآخرة. وكان يدخل الطواف فيأخذ في البكاء والنحيب، وربما سقط مغشيا عليه.من الطبقة السادسة أبو سليمان الداراني واسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي

(1/475)

قال أبو سليمان عبد الرحمن العنسي: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله، وإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة، ولا يعطي إلا من أحب خاصة، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها وأقوم أول الليل إلى آخره.قال أبو سليمان: لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار.قال أبو سليمان: سمعت أبا جعفر يبكي في خطبته يوم الجمعة، فاستقبلني الغضب وحضرتني نية أن أقوم فأعظه بما أعرف من فعله إذا نزل. قال: فتفكرت أن أقوم إلى الخليفة فأعظه والناس جلوس يرمقوني بأبصارهم. فيعرض لي تزين فيأمر بي فأقتل على غير تصحيح. فجلست وسكت. قال أحمد: وسمعت أبا سليمان يقول: كنت بالعراق أعمل، وأنا بالشام أعرف. قال أحمد: فحدثت به ابنه سليمان فقال: إنما معرفة أبي بالله تعالى بالشام لطاعته بالعراق، ولو ازداد لله بالشام طاعة لازداد لله معرفة.قال أبو سليمان: كل ما شغلك عن الله عز وجل من أهل ومال أو ولد فهو عليك مشوم.قال أبو سليمان: كلما ارتفعت منزلة القلب كانت العقوبة إليه أسرع.قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سليمان: من أي وجه أزال العاقل اللائمة عمن أساء إليه? قلت: لا أدري، قال: من أنه قد علم أن الله تعالى هو الذي ابتلاه به.أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول كنت ليلة باردة في المحراب فأفاقني البرد فخبأت إحدى يدي من البرد وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيني فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها ما أصابها. فآليت لا أدعو إلا ويداي خارجتان.

(1/476)

أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان الداراني: يا أحمد إني محدثك بحديث فلا تحدث به أحدا حتى أموت: نمت ذات ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تنبهني وتقول: يا أبا سليمان تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام? أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا أنا بها، يعني الحوراء، قد ركضتني برجلها فقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم? بؤسا لعين آثرت لذة النوم على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد? حبيبي وقرة عيني، أترقد عيناك وأنا أربي لك في الخدور منذ كذا وكذا? فوثبت فزعا وقد عرقت استحياء من توبيخها إياي وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: ما ضرك في غرك إذا أعقبك ما سرك.قال أبو سليمان الداراني: إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت ورويت عمي القلب.قال أبو سليمان الداراني: ما يسرني أن لي من أول الدنيا إلى آخرها أنفقه في وجوه البر وأني أغفل عن الله عز وجل طرفة عين.قال سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها في لقمة ثم جاءني أخ لي لأحببت أن أضعها في فيه.أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة.قال أبو سليمان الداراني: من حسن ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع.قال أبو سليمان الداراني: أرجو أن أكون قد رزقت من الرضا طرفا لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا.قال محمد بن هشام: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: يوحي الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: اسلب عبدي ما رزقته من لذة طاعتي فإن افتقدها فردها عليه، وإن لم يفتقدها فلا تردها عليه أبدا.

(1/477)

أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول في مناجاته: إنك إن طالبتني بشري طالبتك بكرمك، وإن أخذتني بذنوبي أتيتك بتوحيدك، وإن أسكنتني النار بين أعدائك لأخبرنهم بحبي لك.قال أبو سليمان: كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهرا.وقال أبو سليمان: إنما الأخ الذي تعظك رؤيته قبل أن يعظك بكلامه.بات أبو سليمان ذات ليلة فلما انتصف الليل قام ليتهيأ، فلما أدخل يده في الإناء بقي على حالته حتى انفجر الصبح، وكان وقت الإقامة. فخشيت أن تفوته الصلاة فقلت: الصلاة يرحمك الله. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قال: يا أحمد أدخلت يدي في الإناء فعارضني معارض من سري: هب أنك غسلت بالماء ما ظهر منك فبماذا تغسل قلبك? فبقيت متفكرا حتى قلت بالغموم والأحزان فيما يفوتني من الأنس بالله عز وجل.قال أبو سليمان: ما يسر العاقل أن الدنيا له منذ خلقت إلى أن تفنى، يتنعم فيها حلالا لا يسأل عنه يوم القيامة وأنه حجب عن الله عز وجل ساعة واحدة، فكيف بمن حجب أيام الدنيا وأيام الآخرة? أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها وكيف تهنئ الدنيا من كانت هذه صفته? وسمعته يقول: إنما ارتفعوا بالخوف، فإن ضيعوا نزلوا وينبغي لعاقل وإن بلغ أعلى درجة أن يفزع قلبه بأسفل درجة من ذكر الموت والمقابر والبعث.وقلت لأبي سليمان إني قد غبطت بني إسرائيل. قال: بأي شيء ويحك? قلت: بثمانمائة سنة بأربعمائة ينن حتى يصيروا كالشنان البالية وكالأوتار. قال: ما ظننت إلا أنك قد جئت بشيء، لا والله لا يريد الله عز وجل منا أن تيبس جلودنا على عظامنا ولا يريد منا إلا صدق النية فيما عنده، هذا إذا صدق في عشرة أيام نال ما نال ذاك في عمره.

(1/478)

وسمعت أبا سليمان، وذكر له رجل، فقال: لقد وقع على قلبي ولكن صف لي حاله. فقلت: إنه نشأ في الصوف والقرآن وأكل الملة. فقال: قد كنت أحب أن يكون ممن وجد طعم الدنيا ثم تركها، لأنه إذا وجد طعمها ثم تركها لم يغتر بها، وإذا كان ممن لم يجد طعمها لم آمن عليه إذا وجد طعمها أن يرجع إليها.وقال أبو سليمان: لأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا اللل ما أحببت البقاء في الدنيا.وقال أبو سليمان: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على لذة ما فاته من الطاعة فيما مضى، كان ينبغي له أن يبكيه حتى يموت.قال أبو سليمان: ما عمل داود عليه السلام عملا قط كان أنفع له من خطيئته، ما زال منها خائفا هاربا حتى لحق بربه عز وجل.و أراد أبا سليمان أن يلبي فغشي عليه. فلما أفاق قال: يا أحمد بلغني أن الرجل إذا حج من غير حله فقال: لبيك اللهم لبيك، قال له الرب: لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك، فما يؤمنني أن يقال لي هذا? ثم لبى.قال أبا سليمان: أقمت عشرين سنة لم أحتلم. فدخلت مكة فأحدثت بها حدثا، فما أصبحت حتى احتلمت. فقلت له: فأي شيء كان ذلك الحدث? قال: تركت صلاة العشاء في المسجد الحرام في الجماعة، والاحتلام عقوبة.وقال: حيل بيني وبين قيام الليلقال أحمد: كان الذكر يغلب عليه - وإني لأمرض فأعرف الذنب الذي أمرض به.وسمعته يقول: ما حجوا ولا رابطوا ولا جاهدوا إلا فرارا من البيت، وما يرون ما تقر به أعينهم إلا في البيت.قال أبو سليمان: لو اجتمع الخلق جميعا على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا على ذلك.أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو سليمان الداراني: من صفي صفي له ومن كدر كدر عليه.قال أبو سليمان: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له.

(1/479)

قال أبو سليمان: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.قال أبو سليمان: وقد دخلت عليه وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك? فقال لي: يا أحمد ولم لا أبكي، وإذا جن الليل ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه، فنادى جبريل عليه السلام بعيني من تلذذ بكلامي، فلم لا ينادي فيهم ما هذا البكاء? هل رأيتم حبيبا يعذب أحبابه? أم كيف يجمل بي أن أعذب قوما إذا جنهم الليل تملقوني، فبي حلفت إذا وردوا علي القيام لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم.قال أبو سليمان: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يفت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد، ولا خير في قلب يتوقع قرع الباب يتوقع إنسانا يجيئه يعطيه شيئا.قال: وقلت لأبي سليمان: سهرت ليلة في ذكر النساء إلى الصباح. قال: فتغير وجهه وغضب علي وقال: ويحك أما استحييت منه? يراك ساهرا في ذكر النساء? ولكن كيف تستحيي ممن لا تعرف.قال: وسمعت أبا سليمان يقول: إذا لذت لك القراءة فلا تركع ولا تسجد، وإذا لذ ت السجود فلا تركع ولا تقرأ، الزم الأمر الذي يفتح لك فيهوسمعت أبا سليمان يقول: من كان يومه مثل أمس فهو في نقصان وسمعت أبا سليمان يقول: ما أتي من إبليس وقارون وبلعم إلا أن أصل نياتهم غش فرجعوا إلى الغش الذي في قلوبهم، والله أكرم من أن يمن على عبد بصدق ثم يسلبه إياه.قال أبو سليمان الداراني: إذا ذكرت الخطيئة لم أحب الموت وقلت: أبقى لعلي أتوب.

(1/480)

قال أبو سليمان رد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الخوف، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، والتمس باب الحزن بدوام الفكرة، والتمس وجوه الفكرة في الخلوات، وتحرز من إبليس بمخالفة هواك، وتزين الله بالإخلاص والصدق في الأعمال، وتعرض للعفو بالحياء منه والمراقبة، واستجلب زيادة النعم بالشكر، واستدم النعم بخوف زوالها، ولا عمل كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كرد الغضب،ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغار الدنيا، ولا معرفة كمعرفة النفس، ولا نعمة كالعافية من الذنوب، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا تقوى كاجتناب المحارم، ولا عدم كعدم العقل، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة النفس، ولا ذل كالطمع، ومن لم يحسن رعاية نفسه أسرع به هواه إلى الهلكة، ولا ينفع الهالك نجاة المعصوم، ومرارة التقوى اليوم حلاوة في ذلك اليوم، والهالك من هلك في آخر سفره وقد قارب المنزل، والخاسر من أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد.قال أبو سليمان: وسأله رجل فقال: يا أبا سليمان ما أقرب ما تقرب به إليه? ثم قال: مثلي يسأل عن هذا? أقرب ما تقرب به إليه أن يطلع من قلبك على أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو.وسمعت أبا سليمان يقول: ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال ولولا أني أدع الفكر فيها ما جزتها أبدا ولربما جاءت الآية من القرآن تطير العقل فسبحان الذي رده إليهم.قال أحمد: وقلت لأبي سليمان: إن فلانا وفلانا لا يقعان على قلبي. قال: ولا على قلبي، ولكن لعلنا أتينا من قلبي وقلبك فليس فينا خير وليس نحب الصالحين.

(1/481)

قال أبو سليمان: إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت وعادت بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما. سمع أبو سليمان الداراني الحديث الكثير ... 0ولكنه اشتغل بالتعبد عن الرواية ... 0عبد العزيز بن عميرقال عبد العزيز بن عمير: ترى نور الجلال عليهم وأثر الخدمة بين أعينهم. ثم قال عبد العزيز: إن الرجل لينقطع إلى بعض ملوك أهل الدنيا فيرى أثره عليه، فكيف بمن ينقطع إلى الله عز وجل كيف لا يرى أثره عليه.قال عبد العزيز بن عمير: الصيام سجن المؤمن عن الدنيا.قال عبد العزيز: النفس أمارة بالسوء، فإذا جاء العزم من الله عز وجل كانت هي التي تنازعك إلى الخير.مروان بن محمدقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت مروان بن محمد يقول: إني أخبرك بشيء يا أحمد ما كلمت به أحدا قط قبلك: ما أنا لشيء أخوف مني من أن يختم لي بكفر.من الطبقة السابعة مضاء بن عيسىقال مضاء بن عيسى: خف الله يلهمك، واعمل له لا يلجئك إلى دليل.قال مضاء بن عيسى: إذا وصلوا إليه لم يرجعوا عنه، إنما رجع من رجع من الطريق.قال مضاء بن عيسى: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، ومن أحب شيئا آثره على غيره.أبو كريمة العبديقال أبو كريمة، وكان من عباد أهل الشام،: ابن آدم ليس لما بقي من عمرك ثمن.بشير الطبريسكن الشام أبو عمرو الكندي قال: أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري نحوا من أربعمائة جاموس، فركبت معه أنا وابن له فلقينا عبيده الذين كانت معهم الجواميس معهم عصيهم فقالوا: يا مولانا ذهبت الجواميس فقال: وأنتم أيضا اذهبوا معها فأنتم أحرار لوجه الله تعالى. فقال له ابنه: يا أبه أفقرتنا.قال: اسكت إن ربي اختبرني فأردت أن أزيده.

(1/482)

من الطبقة الثامنة القاسم بن عثمان الجوع قال القاسم: شبع الأولياء بالمحبة عن الجوع ففقدوا لذاذة الطعام والشهوات ولذات الدنيا لأنهم تلذذوا بلذة ليس فوقها لذة فقطعتهم عن كل لذة، وإنما سميت قاسما الجوعي لأن الله تعالى قواني على الجوع، فلو تركت ما تركت ولم أوت بالطعام لم أبال رضت نفسي حتى لو تركت شهرا وما زاد لم تأكل ولم تشرب، لم تبال، أنا عنها راض أسوقها حيث شئت، اللهم أنت فعلت بي ذلك فأتمه علي.كان القاسم يقول: حب الرياسة أصل كل موبقة، وقليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة، ورأس الأعمال الرضا عن الله عز وجل والورع عماد الدين، والجوع مخ العبادة، والحصن الحصين ضبط اللسان.قال: قاسم الجوعي: أصل الدين الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأفضل طرق الجنة سلامة الصدر.عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: دخلت دمشق على كتبة الحديث فمررت بحلقة قاسم الجوعي فرأيت نفرا جلوسا حوله وهو يتكلم عليهم، فهالني منظرهم، فتقدمت إليه فسمعته يقول: اغتنموا من زمانكم خمسا: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفتقدوا، وإن شهدتم لن تشاوروا وإن قلتم شيئا لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئا لم تعطوا به. أوصيكم بخمس أيضا، إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ندمتم لم تجزعوا، وإن كذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا. قال: فجعلت هذا فائدتي في دمشق.أحمد بن أبي الحواريسكن دمشق وكان له ابن يقال له عبد الله من الزهاد، وأخ يقال له محمد يشبهه في الورع والزهد. وأبوه أبو الحواري من أهل الورع أيضا. فبيتهم بيت الورع والزهد.وكان الجنيد يقول: أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام.يحيى بن معين، وذكر أحمد بن أبي الحواري فقال: أظن أهل الشام يسقيهم الله الغيث به.محمود بن خالد، وذكر أحمد بن أبي الحواري فقال: ما أظنه بقي على وجه الأرض مثله.

(1/483)

قال أحمد بن أبي الحواري: من أحب أن يعرف بشيء من الخير أو يذكر به فقد أشرك في عبادته، ومن عبد على المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه. وقال: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية فيحار عقلي فيها فأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن? أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما رزقوا.قال أحمد بن أبي الحواري: كلما ارتفعت منزلة القلب كانت العقوبة إليه أسرع.محمد بن سمرة السائحقال يوسف بن أسباط: كتب إلي محمد بن سمرة السائح بهذه الرسالة: أي أخي، إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك فإنه محل الكلال وموئل التلف، وبه تقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك فاجتمع وهواك عليك فغلبا واسترجعا من بدنك من السآمة ما قد ولي عنك، فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة، وبادر يا أخي فإنك مبادر بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجد فإن الأمر جد، وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك، وتذكر ما أسلفت وقصرت، وأفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصي، وكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبطت بما قدمت وندمت على ما فرطت، فعليك بالحياء والمراقبة والاعتزال وقلة الملاقاة. فإن السلامة في ذلك موجودة - وفقنا الله وإياك لأرشد الأمور ولا قوة بنا وبك إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد نبينا وعلى آله الطاهرين.أبو عباد الشامي

(1/484)

إبراهيم بن منصور بن عمار قال: سمعت أبي يقول: قال لي رجل بالشام: يا أبا السري عندنا رجل من العباد من أهل واسط العراق لا يأكل إلا من كد يديه، وقد دبرت من سف الخوص صفحة يديه ولو رأيته لوقذك النظر إليه، فهل لك أن تمضي بنا إليه? قلت: نعم فأتيناه فدققنا عليه بابه فخرج إلى الباب فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن جاء ليشغلني عما أتلذذ به من مناجاتك، ثم فتح الباب فدخلنا فإذا رجل ترى به الآخرة، وإذا قبر محفور ووصيته قد كتبها في الحائط، وكساؤه قد أعده لكفنه. فقلت أي موقف لهذا الخلق? فقال: بين يدي من? قال: ثم صاح وخر لوجهه. ثم أفاق من غشيته فقال له صاحبي: يا أبا عباد هذا أبو السري منصور بن عمار، فقال لي: مرحبا يا أخي ما زلت إليك مشتاقا. أعلمك أن بي داء قد أعيا المتطببين قبلك قديما، فهل لك أن تتأتى له برفقك وتلصق عليه بعض مراهمك لعل الله أن ينفع بك? قال: قلت: وكيف يعالج مثلي مثلك وجري أنغل من جرحك? قال: وإن كان كذلك فإني مشتاق إلى ذلك. قال: قلت: إن كنت تمسكت باحتفار قبرك في بيتك وبوصية رسمتها بعد وفاتك وبكفن أعددته ليوم موتك، فإن لله عز وجل عبادا اقتطعهم خوفه عن النظر إلى قبورهم. قال: فصاح صيحة ووقع في قبره، وجعل يفحص برجليه، وبال فعرفت ذهاب عقله. فخرجت إلى طحان على بابه فقلت ادخل فأعنا على هذا الشيخ، فاستخرجناه من قبره وهو في غشيته فقال لي الطحان: ويحك ما صنعت? فخرجت وتركته صريعا، فلما كان الغد عدت إليه فإذا بسلخ في وجهه، وإذا بشريط قد شد به رأسه لصداع وجده. فلما رآني قال: يا أبا السري المعاودة رحمك الله، فقلت له: أين بلغت أيها المتعبد من أحزانك بالله? لكأني أنظر إلى آكل الفطير والصابر على خبز الشعير، يأكل ما اشتهى ويسعى عليه بلحم طير، ويسقى من الرحيق المختوم فشهق شهقة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا.

(1/485)

علي بن الفتح الحلبي خرج علي بن الفتح الحلبي يوم النحر، فرأى الناس يتقربون إلى الله تعالى. فقال: يا رب أرى الناس يتقربون إليك بألوان الذبائح وإني تقربت إليك بحزني، ثم غشي عليه فأفاق، ثم قال: إلهي، إلى متى ترددني في دار الدنيا محزونا? فاقبضني إليك. فوقع من ساعته ميتا.أبو عبيد البسريعن محمد، غلام أبي عبيد، قال: ودعت أبا عبيد حين أردت الحج. فقال لي: معك شيء? قلت: لا، ليس معي غير هذه الركوة. فقال: إذا أردت شيئا أو جعت أو عطشت فصل ركعتين واجعلها على يمينك، فإذا سلمت رأيت كل ما تحب، قال: فجئت إلى بعض المنازل وليس فيه ماء، والناس يصيحون: العطش. فقلت في نفسي: قد قال أبو عبيد ما قال وهو صادق. فأخذت الركوة فرميت بها في مصنع وصليت ركعتين، فما سلمت إلا والرياح تذهب بها وتجيء على رأس الماء. فنزلت فأخذت الركوة ثم صحت بالناس فجاءوا واستقوا حتى رووا.أبو بكر بن معمر قال: سمعت ابن أبي عبيد البسري يحدث عن أبيه أنه غزا سنة من السنين، فخرج في السرية. فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرنا إياه حتى نرجع إلى بسرى يعني قريته. فإذا المهر قائم. قال: فلما غزا ورجع إلى بسرى، قال: يا بني خذ السرج عن المهر. قال: قلت يا أبه هو عرق. فقال لي: يا بني هو عارية فلما أخذت السرج وقع المهر ميتا.كان أبو عبيد البسري بعرفة وإلى جانبه ابنه. فقال له: يهنئك الفارس، فقال له: يا أبه وأي فارس? فقال له: ولد لك الساعة غلام، فلما صرنا إلى بسرى وجدت زوجتي قد ولدت غلاما يوم عرفة.

(1/486)

قال عبد الله غلام لأبي عبيد: كنت معه يوما قاعدا بدمشق أنا وجماعة من إخوانه، إذ مر رجل على دابة وخلفه غلام له يعدو، وقدامه بيده غاشية. فلما حاذى أبا عبيد قال: اللهم أعتقني وأرحني منه. ثم قال: ادع الله عز وجل لي. فقال أبو عبيد: اللهم أعتقه من النار ومن الرق. فعثرت الدابة بمولاه فسقط إلى الأرض. فالتفت إلى الغلام وقال له: أنت حر لوجه الله عز وجل. قال: فرمى بالغاشية إليه وقال: يا مولاي أنت لم تعتقني وإنما أعتقني هؤلاء. فصحب أصحابنا وتوفي بينهم.قال ابن أبي حسان: قال لي أبو عبيد يوما: ما غمي ولا أسفي إلا أن يجعلني مما عفا عنه. فقلت: يا أخي، الخلق على العفو تذابحوا. فقال: أجل. ولكن أي شيء اقبح بشيخ مثلي يوقف غدا بين يدي الله عز وجل، فيقال له: شيخ سوء كنت، اذهب فقد عفوت عنك? إنما أنا أملي في الله عز وجل أن يهب لي كل من أحبني.أبو بكر الهلاليقال أبو بكر الهلالي: من عني بمجاهدة الأسرار اشتغل عن الحكايات والأخبار.وقال رموا بهممهم إلى أعلى الفضائل، وضيعوا الفرائض، فلا إلى هممهم وصلوا، ولا قاموا بقليل ما به وكلوا، ومن قام بقليل ما وكل به اؤتمن على الكثير، ومن لم يقم بقليل ما وكل به لم يؤتمن على قليل ولا كثير.ذكر المصطفين من عباد بيت المقدس إدريس بن أبي خولة الأنطاكي

(1/487)

عمر بن واصل، عن سهل بن عبد الله قال: مرض رجل من أولياء الله عز وجل مرضا مشكلا. فكان الناس إذا رأوه قالوا: به جنة فأكثر عليه القول فلما عظم كلام من تكلم في أمره قالوا له: نعالجك? فقال لهم: يا قوم اعلموا أن لي طبيبا إن سألته داوى كل عليل، لكني أنا لا أسأله أن يداويني، فقيل له: ولم ذاك وأنت تحتاج إلى الدواء? فقال: أخشى إن برأت من هذه العلة طغيت. فقيل له: فإن لنا مجنونا فسل طبيبك هذا أن يداويه. فقال: نعم إيتوني به، فأتوه برجل في عنقه غل عظيم ويداه مشدودة إلى عنقه في قيد ثقيل، قد استمكنت منه العلة. فقال لهم: خلوني معه. فعمد جهال القوم إلى يده فحلواها وأدخلوه معه في البيت الذي كان فيه، وأغلقوا عليه الباب وهم يظنون أن سيفضي إليه بمكروه، فلما كان بعد ساعة صاحوا به فأجابهم وخرج إليهم وكلمهم كلام عاقل وهو يبكي بكاء شديدا. فقالوا له: خبرنا بقصتك وما كان، فقال: دخلت على هذا الرجل وأنا على ما قد علمتم من علتي لا أعقل شيئا كما رأيتموني، فقربني منه وأدناني وجعل يده على صدري والأخرى على رأسي، فأحسست بطعم البرء يدب في جسمي حتى زال ما بي. فقالوا له: ادخل معنا إليه فسله يدعو الله عز وجل لنا، فدخل مع القوم إليه فلم يجدوه في البيت وستره الله عز وجل عنهم، فمن عقل منهم عظمت ندامته وكثر أسفه. قال سهل: وهذا الرجل من بيت المقدس يقال له إدريس بن أبي خولة الأنطاكي.عبد العزيز المقدسيقال عبد العزيز المقدسي: لما بلغت الحلم أخذت على نفسي أن أروضها وأمنعها من الآثام واستوفقت الله تعالى فوفقني، واستعنت به فأعانني. ولقد حاسبت نفسي من يوم بلوغي إلى يومي هذا فإذا زلاتي لا تجاوز ستة وثلاثين زلة. ولقد استغفرت الله عز وجل لكل زلة مائة ألف مرة، وصليت لكل زلة ألف ركعة، ختمت في كل رجعة منها ختمة، وإني مع ذلك غير آمن سطوة ربي عز وجل أن يأخذني بها وأنا على خطر قبول التوبة.

(1/488)

ذكر المصطفين من العباد المقدسيين المجهولين الأسماءعباد ثلاثةبشر بن بشار المجاشعي، وكان من العابدين، قال: لقيت عبادا ثلاثة ببيت المقدس، فقلت لأحدهم: أوصني قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك، فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقل همك، وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت منه في غفلة لا تشعر به. وقلت للآخر: أوصني، قال: ما أنا بمستوص فأوصيك - قلت: على ذاك عسى الله عز وجل أن ينفع بوصيتك. قال: أما إذ أبيت إلا الوصية فاحفظ عني: التمس رضوانه في ترك مناهيه فهو أوصل لك إلى الزلفى لديه. قال: فقلت للآخرة: أوصني فبكى واستحر سفحا للدموع ثم قال: أي أخي لا تبتغ من أمرك تدبيرا غير تدبيره فتهلك فيمن هلك، وتضل فيمن يضل.عابد آخرقال كلاب رأيت شابا ببيت المقدس قد عمش من طول البكاء، فقلت له: يا فتى كم تكون العين سليمة على هذا البكاء? قال: فبكى ثم قال: كما شاء ربي فلتكن، وإذا شاء سيدي فلتذهب فليست أكرم علي من بدني، إنما أبكي رجاء السرور والفرح في الآخرة، وإن تكن الأخرى فهو والله شقاء الدهر وحزن الأبد والأمر الذي كنت أخافه وأحذره على نفسي، وإني احتسبت على الله عز وجل غفلتي عن نفسي وتقصيري عن حظي، ثم غشي عليه.عابد آخرقال أبو عتبة الخواص،: رأيت شيخا في مسجد بيت المقدس كأنه قد احترق بالنار، عليه مدرعة سوداء، وعمامة سوداء، طويل الصمت، كريه المنظر، كثير الشعر، شديد الكآبة. فقلت: رحمك الله لو غيرت لباسك هذا، فقد علمت ما في البياض. فبكى ثم قال: هذا أشبه بلباس أهل المصيبة، فإنما أنا وأنت في الدنيا في حداد، وكأني بي وبك قد دعينا. قال: فما تم كلامه حتى غشي عليه.عابد آخر

(1/489)

جاء رجل إلى بيت المقدس فمد كساءه في ناحية المسجد فكان فيه الليل والنهار، طعيمه خلف ذلك الكساء الذي قد مده. قال: فيبيت ليله أجمع يصلي فإذا طلع الفجر مد بصوت له: عند الصباح يغبط القوم السرى. قال: وكان يقال له: ألا ترفق بنفسك? فيقول: إنما هي نفسي أبادرها أن تخرج.عابد آخرذو النون قال: نظرت إلى رجل في بيت المقدس قد استفرغه الوله فقلت له: ما الذي أثار منك ما أرى? قال: ذهب الزهاد والعباد بصفو الإخلاص وبقيت في كدر الانتقاص، فهل من دليل مرشد أو من حكيم موقظ?عابد آخرقال سمنون: كنت ببيت المقدس في برد شديد، وعلي جبة وكساء، وأنا أجد البرد والثلج يسقط، فرأيت شابا عليه خرقتان في الصحن يمشي، فقلت: يا حبيبي لو استترت ببعض هذه الأروقة فيكنك من البرد. فقال لي: يا أخي سمنون: ويحسن ظني أنني في فنائه وهل أحد في كنه يجد البردامن عقلاء المجانين ببيت المقدسشاب بلغنا عن أبي الجوال المغربي قال: كنت ببيت المقدس جالسا مع رجل صالح وإذا قد طلع علينا شاب والصبيان حوله يقذفونه بالحجارة ويقولون: مجنون فدخل المسجد وهو ينادي اللهم أرحني من هذه الدار. فقلت له: هذا كلام حكيم فمن أين لك هذه الحكمة? فقال: من أخلص له في الخدمة أورثه طرائف الحكمة وأيده بأسباب العصمة، وليس بي جنون وولق؛ بل قلق وفرق. ثم جعل يقول:هجرت الورى في حب من جاد بالنعم وعفت الكرى شوقا إليه فلم أنموموهت دهري بالجنون عن الورى لأكتم ما بي من هواه فما انكتمفلما رأيت الشوق والحب بائحا كشفت قناعي ثم قلت: نعم نعمفإن قيل مجنون فقد جنني الهوى وإن قيل مسقام فما بي من سقموحق الهوى والحب والعهد بيننا وحرمة روح الأنس في حندس الظلملقد لامني الواشون فيك جهالة فقلت لطرفي أفصح العذر فاحتشمفعاتبهم طرفي بغير تكلم وأخبرهم أن الهوى يورث السقمفبالحلم يا ذا المن لا تبعدنني وقرب مزاري منك يا بارئ النسم

(1/490)

فقلت له: أحسنت لقد غلظ من سماك مجنونا، فنظر إلي وبكى وقال: أو لا تسألني عن القوم كيف وصلوا فاتصلوا? فقلت: بلى أخبرني? فقال: طهروا له الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق، وهاموا من محبته في الآفاق، وائتزروا بالصدق، وارتدوا بالإشفاق، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي، وركضوا في ميدان السباق، وشمروا تشمير الجهابذة الحذاق، حتى اتصلوا بالواحد الرزاق، فشردهم في الشواهق وغيبهم عن الخلائق، لا تؤويهم دار ولا يقرهم قرار، فالنظر إليهم اعتبار، ومحبتهم افتخار، وهم صفوة الأبرار، ورهبان أخيار، مدحهم الجبار ووصفهم النبي المختار، إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن ماتوا لم يشهدوا.ذكر المصطفيات من عابدات بيت المقدسطافية كانت تأتي بيت المقدس تتعبد فيه، وكان وهب بن منبه يقول: يا طافية ما أشد العمل عليك? فتقول: ما أجدني أجد شيئا أشد علي من طول الفكر. قال: وكيف ذلك? قالت: إني إذا تفكرت في عظمة الله عز وجل وأمر الآخرة طاش عقلي وأظلم علي بصري، واسترخت لذلك مفاصلي. فقال لها وهب بن منبه: إذا أنت وجدت ذاك فافزعي إلى قراءة القرآن في المصحف.لبابة قالت لبابة المتعبدة في بيت المقدس: إني لأستحي منه أن يراني مشتغلة بغيره.قالت لبابة المتعبدة: ما زلت مجتهدة في العبادة حتى صرت أستروح بها، وإذا تعبت من لقاء الخلق آنسني بذكره، وإذا أعياني الخلق روحني التفرغ لعبادة الله عز وجل والقيام إلى خدمته.وقال لها رجل: هو ذا أريد الحج فماذا أدعو بالموسم? فقالت: سل الله تعالى شيئين: أن يرضى عنك ويبلغك منزل الراضين عنه، وأن يجعل ذكرك فيما بين أوليائه.ذكر المصطفيات من المجهولات الأسماءعابدة

(1/491)

عن أبي جعفر السائح قال: رأيت عجوزا في بيت المقدس تقول: حججت ماشية اثنتي عشرة حجة ما ركبت فيها، أشتري كل سنة بأربعة دراهم سقطا فيكون زادي في ذهابي ومنصرفي. قال: فقلت لها: في بيت المقدس مثلك من المتعبدات? قال فذكرت نسوة يفعلن مثل ما تفعل. قالت: فإذا رجعنا حملنا مغازلنا إلى المسجد فلا نخرج منه إلا لحدث أو لحاجة. قلت: وكم بقي اليوم من هذه الصفة? قالت: نحو من عشرة. قلت: فمن أعبدكن? قالت: امرأة من قريش ما نراها تكلم أحد إنما هي في الصلاة قائمة وراكعة وساجدة يأتيها أهلها بما يصلحها.عابدة أخرىقال سعيد الإفريقي: كنت ببيت المقدس مع أصحاب لي في المسجد فإذا أنا بجارية عليها درع شعر وخمار من صوف، فإذا هي تقول: إلهي وسيدي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله وأوحش خلوة من لم تكن أنيسه. فقلت: يا جارية ما قطع الخلق عن الله عز وجل? قالت: حب الدنيا إلا أن لله عز وجل عبادا أسقاهم م نحبه شربة فولهت قلوبهم فلم يحبوا مع الله عز وجل غيره. ثم قالت تنشد:تزود قرينا من فعالك إنما قرين الفتى في القبر ما كان يعملألا إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلا عندهم ثم يرحلعابدة أخرىقال أبي جعفر السائح: رأيت امرأة في بيت المقدس في متعبد لها عليها مدرعة من شعر وخمار من شعر، وسوار من حديد، وكان لها سلسلة تعلق بها نفسها بالليل. فقلت لها: منذ متى أخذت فيما أنت فيه? قالت: منذ ثماني سنين. قال: ورأيت نسوة كثيرة عليهم مدارع صوف وخمر، معتكفات في المسجد لا يتكلمن بالنهار.عابدة أخرى

(1/492)

قال عثمان الرجاني: خرجت من بيت المقدس أريد بعض القرى في حاجة فلقيتني عجوز عليها جبة صوف وخمار صوف. فسلمت عليها فردت علي السلام. ثم قالت: يا فتى من أين أقبلت? فقلت: من هذه القرية. قالت: وأين تريد? قلت: إلى بعض القرى في حاجة. قالت: كم بينك وبين أهلك ومنزلك? قلت: ثمانية عشر ميلا. قالت: ثمانية عشر ميلا في حاجة? إن هذه لحاجة مهمة، قلت: أجل. قالت: فما اسمك? قلت: عثمان. فقالت: يا عثمان ألا سألت صاحب القرية أن يوجه إليك بحاجتك ولا تتعنى? قال: ولم أعلم الذي أرادت، قلت: يا عجوز ليس بيني وبين صاحب القرية معرفة، قالت: يا عثمان وما الذي أوحش بينك وبين معرفته وقطع بينك وبين الاتصال به? فعرفت الذي أرادت فبكيت، فقالت: من أي شيء تبكي? من شيء كنت فعلته ونسيته أو من شيء أنسته وذكرته? قلت: لا بل من شيء كنت أنسيته وذكرته. قالت: يا عثمان أحمد الله عز وجل الذي لم يتركك في حيرتك، أتحب الله عز وجل? قلت: نعم. قالت: فاصدقني، قلت: إي والله إني لأحب الله عز وجل. قالت: فما الذي أفادك من طرائف حكمته إذ أوصلك إلى محبته? قالت: فبقيت لا أدري ما أقول? فقالت: يأبى الله عز وجل أن يدنس طرائف حكمته وخفي معرفته ومكنون محبته بممارسة قلوب البطالين. قلت: رحمك الله لو دعوت الله عز وجل أن يشغلني من محبته. فنفضت يديها في وجهي. فأعدت القول أقتضي الدعاء. فقالت: يا عبد الله امض لحاجتك، فقد علم المحبوب ما ناجاه الضمير من أجلك. ثم ولت وقالت: لولا خوف السلب لبحث بالعجب. ثم قالت أوه من شوق لا يبرأ إلا بك، ومن حنين لا يسكن إلا إليك، فأين لوجهي الحياء منك? وأين لعقلي الرجوع إليك? قال عثمان: فوالله ما ذكرت إلا بكيت وغشي علي.ذكر المصطفين من أهل العواصم والثغور أبو عمرو الأوزاعي واسمه عبد الرحمن بن عمرو

(1/493)

كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد، فإنه قد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به والسلام.قال الأوزاعي: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يوما فيوما وساعة فساعة، ولا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم إلى يوم? عن ضمرة عن الأوزاعي قال: الناس عندنا أهل العلم.وعظ الأوزاعي فقال في موعظته: أيها الناس، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل وأنتم فيها مؤجلون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها فهم كانوا أ ول منكم أعمارا وأمد أجساما وأعظم آثارا فخددوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منازلهم وأنست ذكرهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا، كانوا بلهو الأمل آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله عز وجل فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة وزوال نعمة ومساكن خاوية فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى، وأصبحتم من بعدهم من أجل منقوص ودينا مقبوضة في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه فلم تبق منه إلا حمة شر وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير وأرسال فتن، وتتابع زلازل ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر، فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الأمل وغر بطول الأجل وتبلغ بالأماني. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعي نذره وانتهى، وعقل سراه فمهد لنفسه.قال الأوزاعي: يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك فأما إذ صرنا يهتدي بنا ما أرى يسعنا التبسم.

(1/494)

بشر بن الوليد قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.كان الأوزاعي لا يكلم أحدا بعد صلاة الفجر حتى يذكر الله فإن كلمه أحد أجابه.نصراني أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل وقال له: يا أبا عمرو، تكتب إلى والي بعلبك، فقال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك وإلا قبلت الجرة ولم نكتب لك. قال: فرد الجرة وكتب له فوضع عنه ثلاثين دينارا.عن الأوزاعي. قال: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها صمت، وجزء منها الهرب من الناس.مروان بن محمد قال: قال الأوزاعي: من أطال قيام الليل هون عليه موقفه يوم القيامة.قال مروان: ما أحسب الأوزاعي أخذه إلا من هذه الآية: ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إلى قوله يوما ثقيلا سورة الإنسان آية 26 - 27.عن الأوزاعي قال: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه.قال الأوزاعي: رأيت رب العزة في المنام، فقال لي: يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر? قلت: بفضلك يا رب. فقلت: يا رب أمتني على الإسلام. فقال: وعلى السنة.قال الأوزاعي: كان يقال يأتي على الناس زمان أقل شيء في ذلك الزمان أخ مؤنس أو درهم من حلال أو عمل في سنة.عن الأوزاعي قال: كان السلف إذا صدع الفجر أو قبله بشيء كأنما على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حميما لأحدهم غاب عنه حينا ثم قدم ما التفت إليه، فلا يزالون كذلك حتى يكون قريبا من طلوع الشمس ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، وأول ما يفيضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه ثم يتحلقون إلى الفقه والقرآن.عن يزيد بن مذكور قال: رأيت الأوزاعي في منامي فقلت: يا أبا عمرو دلني على أمر أتقرب به إلى الله تعالى. فقال لي: ما رأيت ما رأيت هناك درجة أرفع من درجة العلم. فقلت: ثم من بعدها? قال: درجة المحزونين.أبو إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد بن الحارثكان صاحب سنة وغزو.

(1/495)

قال الفضيل: رأيت رسول الله في المنام وإلى جنبه فرجة، فذهبت لأجلس فيها. فقال: هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري. فقلت لأبي أسامة: أيهما كان أفضل? فقال: كان فضيل رجل نفسه وكان أبو إسحاق رجل عامة.قال الفراء: لقيت الفضيل ابن أبي عياض فعزاني في أبي إسحاق وقال: لربما اشتقت إلى المصيصة ما بي فضل الرباط إلا أرى أبا إسحاق.قال أبو إسحاق الفزاري: إن من الناس من يحسن عليه الثناء، وما يساوي عند الله جناح بعوضة.قال أبو إسحاق: من قال: الحمد لله على كل حال فإن كانت نعمة كان لها كفاء وإن كانت مصيبة كان لها عزاء.لما مات أبو إسحاق بكى عطاء ثم قال: ما دخل على الإسلام من موت أحد ما دخل عليه من أبي إسحاق.عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي يكنى أبا عمرووهو من الكوفة تحول إلى الثغر فنزل الحديث.عن جعفر بن يحيى بن خالد قال: ما رأينا في القراء أحدا مثل عيسى بن يونس، أرسلنا إليه فأتانا بالرقة فاعتل قبل أن يرجع. فقلت: يا أبا عمرو قد أمر لك بعشرة آلاف فقال: هي، فقلت: هي خمسون ألفا. قال: لا حاجة لي فيها. فقلت: لم? أما والله لأهنئنكها هي والله مائة ألف. قال: لا والله لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا، ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إلي? فأما على الحديث فلا والله ولا شربة ماء ولا هليلجة.أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، وذكر ورع عيسى بن يونس، فحدثهما. فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم. فأبى أن يقبلها فظن أنه استقلها. فأمر له بعشرين ألفا. فقال عيسى: لا والله ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله ولو ملأت لي هذا المسجد ذهبا إلى السقف.يوسف بن أسباط من قرية يقال لها الشيح

(1/496)

عبد الله بن حبيق قال: قال لي يوسف بن أسباط: عجبت كيف تنام عين مع المخافة، أو يغفل قلب مع اليقين بالمحاسبة? من عرف وجوب حق الله عز وجل على عباده لم تستحل عيناه أبدا إلا بإعطاء المجهود من نفسه، خلق الله تعالى القلوب مساكن الذكر فصارت مساكن للشهوات، الشهوات مفسدة للقلوب وتلف للأموال، وإخلاق للوجوه، ولا يمحو الشهوات من القلوب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.قال يوسف بن أسباط: الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا.قال يوسف بن أسباط: لي أربعون سنة ما حك في صدري شيء إلا تركته.قال يوسف بن أسباط: تعلموا صحة العمل من سقمه فإني تعلمته في اثنتين وعشرين سنة.وقال يوسف، خرجت من شيح راجلا حتى أتيت المصيصة، وجرابي على عنقي، فقام ذا من حانوته يسلم علي، وذا يسلم، فطرحت جرابي ودخلت المسجد أصلي ركعتين فأحدقوا بي، واطلع رجل في وجهي، فقلت في نفسي: كم بقاء قلبي على هذا? فأخذت جرابي ورجعت بعرقي وعنائي إلى شيح فما رجع إلي قلبي إلى سنتين.قال يوسف بن أسباط: إني أخاف أن يعذب الله الناس بذنوب العلماء. وقال: الأشياء ثلاثة، حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فالمؤمن إذا لم يجد الحلال تناول من الشبهات ما يقيمه.قال يوسف بن أسباط: كان يقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا كتب له.وقال يوسف: لي أربعون سنة ما ملكت قميصين.وقال يوسف: لا يقبل الله عز وجل عملا فيه مثقال حبة من رئاء.وكان يوسف يقول: اللهم عرفني نفسي، ولا تقطع رجاءك من قلبي.وقال أبو جعفر الحذاء: كتبت إلى يوسف بن أسباط أشاوره في التحويل إلى الحجاز. فكتب إلي: أما ما ذكرت من تحويلك إلى الحجاز فليكن همك خبزك، وما أرى موضعك إلا أضبط للخبز من غيره، وما أحسب أحدا يفر من شر إلا وقع في أشر منه، وإنما يطيب الموضع بأهله، فقد ذهب من يؤنس به ويستراح إليه، وإذا علم الله منك الصدق رجوت أن لا يضيع لك، وإن كان الصدق قد رفع من الأرض.

(1/497)

قال حذيفة المرعشي: كتب إلي يوسف بن أسباط: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله عز وجل، والمراقبة حيث لا يراك أحدا إلا الله عز وجل، والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة، ولا تنفع الندامة عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى، وشمر للسباق غدا فإن الدنيا ميدا المتسابقين، ولا تغتر بمن أظهر النسك، وتشاغل بالوصف، وترك العمل بالموصوف واعلم يا أخي أنه لا بد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل، يسألنا فيه عن الدقيق الخفي وعن الجليل الجافي، ولست آمن أن يسألني وإياك عن وساوس الصدور، ولحظات العيون، وإصغاء الأسماع، وما عسى أن يعجز مثلي عن صفته، واعلم أنه مما وصف به منافقو هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدنيا بأبدانهم وطابقوهم عليها بأهوائهم، وخضعوا لما طمعوا من نائلهم، وداهن بعضهم بعضا في القول والفعل، فأشر وبطر قولهم، ومر خبيث فعلهم، تركوا باطن العمل بالتصحيح فحرمهم الله تعالى بذلك الثمن الربيح، واعلم يا أخي أنه لا يجزي من العمل القول، ولا من البذل العدة، ولا من التقوى ولا من التوقي التلاوم، وقد صرنا في زمان هذه صفة أهله فمن كان كذلك فقد تعرض للمقت وصد عن سواء السبيل. وفقنا الله عز وجل وإياك لما يحب ويرضى.قال يوسف بن أسباط: يرزق الصادق ثلاث خصال: الحلاوة والملاحة والمهابة.قدم ابن المبارك فاستأذن على يوسف فلم يأذن له، فقلت له: ما لك لم تأذن له?قال: إني إن أذنت له أردت أن أقوم بحقه ولا أفي به.قال يوسف بن أسباط: إذا رأيت الرجل قد أشر وبطر فلا تغبطه فليس للعظة فيه موضع.أتى يوسف بن أسباط بباكورة ثمرة فقبلها ثم وضعها بين يديهوقال: إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها وإنما خلقت لينظر بها إلى الآخرة.

(1/498)

قال أبو جعفر: سألت شعيب بن حرب عن يوسف بن أسباط فقال: ما أقدم عليه أحدا من هذه الأمة. البر عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال وسائر البر في جزء واحد، وقد أخذ يوسف التسعة وشرك الناس في العاشر.قال تميم بن سلم: قلت ليوسف بن أسباط: ما غاية الزهد? قال: لا تفرح بما أقبل، ولا تأسف على ما أدبر، قلت: فما غاية التواضع? قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدا إلا رأيت أنه خير منك.قال يوسف بن أسباط: خرجت سحرا لأؤذن، فإذا علي ليل. فقعدت فإذا أسود مقبل وفي يده حجر يريد أن يضربني ووراءه شيء أبيض، بيده حجر يريد أن يصرفه عني فصرفه. فقلت: هذان شيطانان يريدان أن يرياني أني رجل صالح. فقلت: كلاكما شيطانان. فطارا.كان يقول: أشتهي من ربي ثلاث خصال. قلت: وما هن? قال: أشتهي أن أموت حين أموت وليس في ملكي درهم، ولا يكون علي دين، ولا على عظمي لحم. قالت: فأعطي ذلك كله. ولقد قال لي في مرضه: أبقي عندك نفقة? فقلت: لا. قال: فماذا ترين? قلت: أخرج هذه الخابية للبيع. فقال: يعلم الناس بحالنا ويقولون ما باعوها إلا وثم حاجة شديدة. فأخرج إلي شيئا كان أهداه إليه بعض إخوانه فباعه بعشرة دراهم، وقال: اعزلي منها درهما لحنوطي وأنفقي باقيها. فمات وما بقي غير الدرهم.مخلد بن الحسين يكنى أبا محمدقال مخلد بن الحسين: ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها، منذ خمسين سنة.ذكر عند مخلد بن الحسين أخلاق من أخلاق الصالحين فقال:لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدقال مخلد بن الحسين: ما ندب الله تعالى العباد إلى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرين ما يبالي بأيهما ظفر: إما غلوا فيه وإما تقصيرا عنه.علي بن بكار البصري يكنى أبا الحسنسكن المصيصة مرابطا وكان فقيها.كانت الجارية تفرش لعلي بن بكار، فيلمسه بيده ويقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فكان يصلي الغداة بوضوء العتمة.

(1/499)

قال رجل: أتينا علي بن بكار فقلنا له: حذيفة المرعشي يقرأ عليك السلام، فقال: عليكم وعليه السلام، إني لأعرفه يأكل الحلال منذ ثلاثين سنة، ولأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقاه. قلت له في ذلك، فقال: أخاف أن أتصنع له فأتزين لغير الله فأسقط من عين الله عز وجل.بكى علي بن بكار حتى عمي، وكان قد أثرت الدموع في خديه.قال فيض بن إسحاق: جئت إلى علي بن بكار وأنا أريد الخروج فقلت: أوصني فقال: اتق الله وألزم بيتك، وأمسك لسانك، واترك مخالطة الناس تنزل عليك الحكمة من فوقك.قال يحيى: كنا عند علي بن بكار فمرت سحابة. فسألته عن شيء? فقال اسكت أما تخشى أن تكون فيها حجارة.خرج أبو إسحاق الفزاري وعلي بن بكار يحتطبان. فأبطأ علي بن بكار على أبي إسحاق فدار أبو إسحاق في الجبل خلفه فجاء فنظر إليه وهو متربع وفي حجره رأس سبع وهو نائم يذب عنه، فقال له أبو إسحاق: ما قعودك ههنا? فقال: لجأ إلي فرحمته فأنا أنتظره لينتبه فألحقك.عن علي بن بكار أنه طعن في بعض مغازيه فخرجت أمعاؤه على قربوس سرجه فردها إلى بطنه وشدها بالعمامة وقاتل حتى قتل ثلاثة عشر علجا.حذيفة بن قتادة المرعشيقال حذيفة: إن لم تخش أن يعذبك الله على أفضل عملك فأنت هالك.قال حذيفة: لو نزل علي ملك من السماء يخبرني أني لا أرى النار بعيني، وأني أصير إلى الجنة إلا أني أقف بين يدي ربي تعالى يسائلني ثم أصير إلى الجنة، لقلت: لا أريد الجنة ولا أقف ذلك الموقف، ولو جاءني رجل فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما عملك عمل من يؤمن بيوم الحساب لقلت له: يا هذا لا تكفر عن يمينك فإنك لم تحنث.قال حذيفة: إني لأستغفر الله من كلامكم إذا خرجتم من عندي خمسين مرة.

(1/500)

وقال حذيفة: إنما هي أربعة، عيناك، ولسانك، وهواك، وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانك لا تقل به شيئا يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فيه غل ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئا، فما لم تكن فيك هذه الأربع الخصال فالرماد على رأسك.قال حذيفة: يا موسى، ثلاث خصال إن كن فيك لم ينزل من السماء خير إلا كان لك فيه نصيب: يكون عملك لله عز وجل وتحب للناس ما تحب لنفسك، وهذه الكسرة تحر فيها ما قدرت.قال حذيفة: هل لك أن أجمع لك الخير كله في حرفين? قتل: ومن لي بذلك? قال: مداراة الخبز من حله وإخلاص العمل لله عز وجل حسبك.قال حذيفة بن قتادة المرعشي: لو أصبت من يبغضني على حقيقة في الله لأوجبت على نفسي حبه.قال حذيفة المرعشي: ما أصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه.وقال حذيفة: كان يقال: إذا رأيتم الرجل قد جلس وحده فانظروا لأي شيء جلس? فإن كان جلس ليجلس إليه فلا تجلسوا إليه.قال المعافي بن عمران: كان عشرة ممن مضى من أهل العلم ينظرون في الحلال النظر الشديد لا يدخلون بطونهم إلا ما يعرفون من الحلال، وإلا استفوا التراب، منهم حذيفة المرعشي.قال الفيض بن إسحاق: ذكر عند حذيفة المرعشي الوحدة وما يكره منها. فقال: إنما يكره ذلك للجاهل، فأما عالم يعرف ما يأتي فلا. وقال: ما أعلم من أعمال البر أفضل من لزومك بيتك، ولو كانت لك حيلة لهذه الفرائض لكان ينبغي لك أن تحتال لها.قال حذيفة المرعشي إياكم وهدايا الفجار والسفهاء فإنكم إن قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتم فعلهم.كتب حذيفة إلىا بن أسباط: يا أخي إني أخاف أن يكون بعض محاسننا أضر علينا في القيامة من مساوئنا.وكتب إليه أيضا: لا حتى تكون في موضع إذا جئت إلى البقال فقلت أعطني مطهرتك قال: هات كساءك.

(2/1)

ابن أبي الدرداء قال: قلت لحذيفة: أوصني، قال: انظر خبزك من أين تأكل، ولا تجالس من يرخص لك ويعطيك، ثم قال: إن أطعت الله في السر أصلح قلبك، شئت أو أبيت.لا نحفظ لحذيفة مسندا، وكان مشغولا بالرعاية عن الرواية.أبو معاوية الأسود اليمانقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني. قيل له: وكيف ذلك يا أبا معاوية? قال: كلهم يرى الفضل لي على نفسه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني.غزا أبو معاوية الأسود. فحصر المسلمون حصنا فيه علج لا يرمي بحجر ولا نشاب إلا أصاب. فشكوا إلى أبي معاوية فقرأ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى سورة الأنفال آية 17. ثم قال: استروني منه. فلما وقف قال: أين تريدون بإذن الله? قالوا: المذاكير قال: يا رب سمعت ما سألوني فأعطني ما سألوني. بسم الله، ثم رمى فمر السهم حتى إذا قرب من الحائط ارتفع حتى أخذ العلج مذاكيره فوقع. فقال: شأنكم به.

(2/2)

قال أبا معاوية الأسود وهو على سور طرسوس، من جوف الليل، يبكي ويقول: ألا من كانت الدنيا من أكبر همه طال في القيامة غدا همه. ومن خاف ما بين يديه ضاق في الدنيا ذرعه. ومن خاف الوعيد، لهي من الدنيا عما يريد، يا مسكين إن كنت تريد لنفسك الزيل، فأقلل نومك بالليل إلا القليل، أقبل من اللبيب الناصح، إذا أتاك بأمر واضح، لا تهتمن بأرزاق من تخلف، فلست أرزاقهم تكلف، وطن نفسك للمقال، إذا وقفت بين يدي رب العزة للسؤال، قدم صالح الأعمال، ودع عنك كثرة الأشغال، بادر ثم بادر، قبل نزول ما تحاذر، إذا بلغ روحك التراقي، وانقطع عنك من أحببت أن تلاقي، كأني بها وقد بلغت الحلقوم، وأنت في سكرات الموت مغموم، وقد انقطعت حاجتك إلى أهلك، وأنت تراهم حولك. وبقيت مرتهنا بعملك، الصبر ملاك الأمر، وفيه أعظم الأجر، فاجعل ذكر الله من جل شأنك، واملك فيما سوى ذلك لسانك. ثم بكى أبو معاوية بكاء شديدا. ثم قال: أوه من يوم يتغير فيه لوني، ويتلجلج فيه لساني، ويجف فيه ريقي، ويقل فيه زادي. فقيل له: يا أبا معاوية من قال هذا الكلام? فقال لحكيم.قال خادم لأبي معاوية الأسود: كان أبو معاوية قد ذهب بصره، فكان إذا أراد أن يقرأ فتش المصحف وفتحه فيرد الله عليه بصره، وإذا أطبق المصحف ذهب بصره.قال أبو الزاهرية: قدمت طرسوس، فدخلت على أبي معاوية الأسود وهو مكفوف البصر، وفي منزله مصحف معلق. فقلت: رحمك الله مصحف وأنت لا تبصر? قال: تكتم علي يا أخي حتى أموت? قال: قلت: نعم. قال: إني إذا أردت أن أقرأ القرآن فتح لي بصري.استطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال له رجل: مه. فقال أبو معاوية: دعه يشتفي. ثم قال: اللهم اغفر الذنب الذي سلطت علي به هذا.أبو موسى المغازلي قال: كنت أسمع أبا معاوية الأسود إذا قام من الليل يستقي الماء، يقول: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا. جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة.

(2/3)

قال يحيى بن المعين: رأيت معاوية السود وهو يلتقط الخرق من المزابل فيلفقها ويغسلها، فقيل له: يا أبا معاوية إنك تكسي. فقال: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا، جبر الله عز وجل لهم بالجنة كل مصيبة. قال أبو علي فرأيت يحيى يبكي.سليمان الخواصمر سليمان الخواص بإبراهيم بن أدهم، وهو عند قوم قد أضافوه وأكرموه فقال: نعم الشيء هذا يا إبراهيم إن لم تكن تكرمة على دين.قال سليمان الخواص: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة. ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.دخل سعيد بن عبد العزيز على سليمان الخواص فقال له: أراك في ظلمة، قال: ظلمة القبر أشد من هذا، قال: أراك وحدك، قال: إن للصاحب على الصاحب حقا فخفت أن لا أقوم بحق صاحبي، قال: فأخرج سعيد صرة فيها شيء، فقال له: تنفق هذا وأنا أحلف لك بين يدي الله تعالى أنه حلال، قال: لا حاجة لي فيها. فقال له يرحمك الله ما ترى ما الناس فيه دعوى قال: فصرخ سليمان صرخة ثم قال: ما لك يا سعيد فتنتني بالدنيا وتفتنني بالدين? ما لي والدعاء? من أنا? فخرج سعيد فأخبر بما كان الأوزاعي.فقال الأوزاعي: دعوا سليمان، لو كان سليمان من الصحابة كان مثلا.لا نعلم لسليمان مسندا، كان مشغولا بالعبادة.سلم بن ميمون الخواصإسماعيل بن أبي سلمة قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن مناديا ينادي: ألا ليقم السابقون. فقام سفيان الثوري ثم نادى الثانية: ألا ليقم السابقون فقام سلم الخواص. ثم نادى الثالثة: ألا ليقم السابقون. فقام إبراهيم بن أدهم.أحمد بن ثعلبة قال: سمعت سلما الخواص يقول: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة. فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعته من رسول الله. قال: فجاءت حلاوة قليلة، ثم قلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعته من جبريل يخبر النبي فازددت الحلاوة. قال: ثم قلت لها اقرئيه كأنك سمعته منه حين يتكلم به. فجاءت الحلاوة كلها.

(2/4)

قال قاسم الجوعي: جئت سلما الخواص فقدم إلي نصف بطيخة ونصف رغيف وقال لي: كل يا قاسم، نزلت على أخ لي فقدم لي نصف خيارة ونصف رغيف وقال لي: كل يا سلم فإن الحلال لا يحتمل السرف، ومن درى من أين يكسب دري كيف ينفق.أبو عبيدة الخواص واسمه عباد بن عبادكتب بن عباد الخواص إلى إخوانه يعظهم: إنكم في زمان قد رق فيه الورع وقل فيه الخشوع، وحمل العلم مفسدوه فأحبوا أن يعرفوا بحمله، وكرهوا أن يعرفوا بإضاعة العمل به، فنطقوا فيه بالهوى ليزينوا ما دخلوا فيه من الخطر، فذنوبهم ذنوب لا يستغفر منها، وتقصيرهم تقصير لا يعترف به. أحبوا الدنيا وكرهوا منزلة أهلها فشاركوهم في العيش وزايلوهم بالقول..أبو عبيدة الساحلي لم يضحك أربعين سنة. فقيل له: لم لا تضحك? فقال: كيف أضحك أنا وفي أيدي المشركين من المسلمين أحد.قال عبد الأعلى بن سليمان: رأيت أبا عبيدة الخواص على سرته خرقة، وعلى رقبته خرقة وهو يمشي في طريق البصرة. وهو يقول واشوقاه إلى من يراني ولا أراه.دخل عباد الخواص على إبراهيم بن صالح وهو أمير فلسطين، فقال له: يا شيخ عظني? فقال: بم أعظك أصلحك الله? بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله من عملك. فبكى حتى سالت الدموع من لحيته.عن بشر بن الحارث قال: رأيت على جبال عرفة رجلا قد ولع به الوله وهو يقول:سبحان من سجدنا بالعيون له على شبا الشوك والمحمى من الإبرلم نبلغ العشر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشرا من العشرهو الرفيع فلا الأبصار تدركه سبحانه من مليك نافذ القدرسبحان من هو أنسي إذ خلوت به في جوف ليلي، وفي الظلماء والسحرأنت الحبيب وأنت الحب يا أملي من لي سواك ومن أرجوه يا ذخري ثم أنشد أيضا:كم قد زللت فلم أذكرك في زللي وأنت يا سيدي في الغيب تذكرنيكم اكشف الستر جلا عند معصيتي وأنت تلطف بي حقا وتسترنيلأبكين بدمع العين من أسف لأبكين بكاء الوله الحزن

(2/5)

قال: ثم غاص من خلال الناس فلم أره فسألت عنه فقيل: هذا أبو عبيدة الخواص ..... ...عقبة بن فضالة قال: سمعت أبا عبيدة الخواص بعد ما كبروا هو آخذ بلحيته يبكي ويقول: قد كبرت فأعتقني.أبو يوسف الغسوليجنيد قال: سمعت سريا يذكر أن أبا يوسف الغسولي كان يلزم الثغر ويغزو، وكان إذا غزا مع الناس ودخلوا بلاد الروم أكل أصحابه من ذبائح الروم ومن فواكههم، وكان أبو يوسف لا يأكل فيقال له: يا أبا يوسف تشك أنه حلال? فيقول هو حلال. فيقال له: فكل من الحلال. فيقول: إنما الزهد في الحلال.حرمي بن يونس قال: سمعت أبا يوسف الغسولي يقول: أنا أتفقه في مطعمي من ستين سنة.قال أبو يوسف الغسولي: إنه ليكفيني في السنة اثنا عشر درهما، في كل شهر درهم، وما يحملني على العمل إلا ألسنة هؤلاء القراء. يقولون: أبو يوسف من أين يأكل?قال المروزي: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: أبو يوسف قد خلف ابن إدريس. يعني في الورع.أحمد بن عاصم الأنطاكي يكنى أبا عليمن متقدمي مشائخ الثغور وكان يقال له جاسوس القلوب.قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا صارت المعاملة إلى القلب استراحت الجوارح.قال: وسمعته يقول: هاه غنيمة باردة أصلح فبما بقي يغفر لك ما قد مضى.وسمعته يقول: ما أغبط أحدا إلا من عرف مولاه واشتهى أن لا أموت حتى أعرفه معرفة العارفين الذي يستحبونه لا معرفة التصديق.

(2/6)

قال أحمد بن عاصم: أنفع اليقين ما عظم في عينيك ما به أيقنت وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فات، وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك، وأنفع الصدق أن تقر لله عز وجل بعيوب نفسك، وأنفع الحياء أن تستحيي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره، وأنفع الصبر ما قواك على خلاف هواك وأفضل الجهاد مجاهدتك نفسك لتردها إلى قبول الحق، وأوجب الأعداء منك مجاهدة أقربهم منك دنوا وأخفاهم عنك شخصا وأعظم لك عداوة وهو إبليس. قلت: فما ترى في الأنس بالناس? قال: إن وجدت عاقلا مأمونا فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع. قلت: فما أفضل ما أتقرب به إلى الله عز وجل? قال: ترك معاصيه الباطنة - قلت: فما بال الباطنة أولى من الظاهرة? قال: لأنك إذا اجتنبت الباطنة بطلت الظاهرة والباطنة، قلت: فما أضر الطاعات لي? قال: ما نسيت بها مساوئك، وجعلتها نصب عينيك إدلالا بها وأمنا.قال: وسمعته يقول: استكثر من الله عز وجل لنفسك قليل الرزق تخلصا إلى الشكر، واستقلل من نفسك لله عز وجل كثير الطاعة إزراء على النفس وتعرضا للعفو، واستجلب شدة التيقظ بشدة لاخوف؛ وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس؛ وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بدوام مجالسة أهل الذكر، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، وأحذرك سوف.أبو عبد الله النباجي واسمه سعيد بن يزيدقال أبو عبد الله النباجي من خطرت الدنيا بباله لغير القيام بأمر الله حجب عن الله.صلى أبو عبد الله النباجي يوما بأهل طرسوس فصيح النفير، فلم يخفف الصلاة، فلما فرغوا قالوا: أنت جاسوس. قال: ولم? قالوا: صيح بالنفير وأنت في الصلاة فلم تخفف. قال: ما حسبت أن أحدا يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطبه الله عز وجل.

(2/7)

عن أبي عبد الله النباجي قال: قال لي قائل في منامي: أو يحسن بالحر المريد أن يتذلل للعبيد، وهو واجد عند مولاه كل ما يريد? أحمد بن أبي الحواري عن أبي عبد الله النباجي قال: إن في خلق الله عز وجل خلقا يستحيون من الصبر لو يعلمون أقداره تلقفوها تلقفا.قال أبو عبد الله النباجي: اطلبوا النظر في الرضا عن الله عز وجل وتساءلوا عنه بينكم إنكم إن ظفرتم منه بشيء علوتم به الأعمال كلها.وقال: لا تستكثروا الجنة للمؤمن، فإنه قد وافى بأعظم قدر عنده من الجنة: معرفة الله والإيمان به.وقال: الذي جعل الله عز وجل المعرفة عنده يتنعم مع الله عز وجل في كل أحواله.قال: أبو عبد الله النباجي: إذاكان عندك ما أعطى الله عز وجل نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا لا تراه شيئا وإنما تريد ما أعطى الله نمرود وفرعون وهامان فمتى تفلح?لا نعرف للنباجي مسندا، وإنما كان مشغولا بالزهد والتعبد،عبد الله بن خبيق بن سابققال عبد الله بن خبيق: أنت لا تطيع من يحسن إليك فكيف تحسن إلى من يسيء إليك.قال عبد الله بن خبيق: لا تغتم إلا من شيء يضرك غدا، ولا تفرح بشيء لا يسرك غدا، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكرة في بقية عمرك.أبو الحارث الأولاسي فيض بن الخضركان شابا يغني في أول أمره وقال: بينا أنا في غفلتي رأيت عليلا مطروحا على قارعة الطريق، فدنوت منه فقلت: هل تشتهي شيئا? قال: نعم رمانا. فجئته برمان فلما وضعته بين يديه رفع بصره وقال: تاب الله عليك. فما أمسيت حتى تغير قلبي عما كنت عليه، وخرجت إلى الحج وأنا أسير بالليل إذا بقوم يشربون، فما رأوني ذهلوا فأجلسوني وعرضوا علي الطعام والشراب. فقلت: أحتاج إلى البول فذهبت فوقعت في غابة فإذا سبع. فقلت: اللهم إنك تعلم ما تركت ومماذا خرجت وفيما ذا خرجت فاصرف عني شر هذا السبع، فولى السبع ودخلت مكة فلقيت بها من انتفعت به، منهم إبراهيم بن سعد العلوي.

(2/8)

قال أبو الحارث الأولاسي فيض بن الخضر: رأيت إبليس له جمة شعر فأقبلت أتملقه واقول: ويحك ما أنا في هذا الخلق? خلني وربي. فقال: هيهات هيهات، كيف أخليك وفيك وفي أبيك هلكت، لا أو تهلكوا معي.قال: فأخذت برأسه فجعلته على حجر وأخذت بحلقه أخنقه ثم قلت: كيف أقدر على قتله وقد أخره الله عز وجل إلى يوم القيامة? ولكن أرفق به فجعلت أتملقه وهو يأبى. فقلت له: دلني على ما ينفعني?فقال: أدلك على السكر والحملان والجوذابات والدنانير والدراهم أن تكثر منها.فقلت له: يا ملعون أنا أسألك أن تدلني على شيء ينفعني في أمر آخرتي، تدلني على الدنيا وما أصنع أنا بهذا وما حاجتي إليه?فقال: من ههنا صار رأسي وحلقي في يدك تقلبه كيف شئت وتلعب به. قلت: أفدتني علما، لا جرم إني لأرجو أن لا أنال منها شيئا إلا ما لا غنى بي عنه فقال: إن تركتك فاصعد العقبة وسأستعين عليك بولد جنسك الذين زينت في أعينهم ما قبح في عينك فأجابوني إليه فبهم أستعين عليك فيأتوك من مأمنك.ذكر المصطفين من عباد الثغور المجهولي الأسماءعابد قال رجل: لأمتحنن أهل البلاء. قال: فدخلت على رجل بطرسوس وقد أكلت الآكلة أطرافه. فقلت له: كيف أصبحت? قال: أصبحت والله وكل عرق وكل عضو يألم على حدته من الوجع، وإن ذلك لبعين الله أحبه إلي أحبه إلى الله، وما قدر ما أخذ ربي مني? وددت أن ربي قطع مني الأعضاء التي اكتسبت بها الإثم، وأنه لم يبق مني إلا لساني يكون له ذاكرا. قال: فقال له رجل: متى بدأت بك هذه العلة? فقال: الخلق كلهم عبيد الله وعياله، فإذا نزلت بالعباد علة فالشكوى إلى الله ليس يشتكى إلى العبيد.عابد مصيصي كان رجل بالمصيصة ذاهب نصفه الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، ضرير على سرير مثقوب فدخل عليه داخل فقال له: كيف أصبحت يا أبا محمد? قال: ملك الدنيا، منقطع إلى الله عز وجل ما لي إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام.

(2/9)

عابد من أهل بيروت قال أبو عبد الرحمن الأزدي: كنت أدور على حائط بيروت فمررت برجل متدلي الرجلين في البحر وهو يكبر. فاتكأت على الشرافة التي إلى جنبه فقلت: يا شاب مالك جالسا وحدك? قال: اتق الله ولا تقل لي إلا حقا، ما كنت قط وحدي منذ ولدتني أمي، إن معي ربي حيث ما كنت، ومعي ملكان يحفظان علي، وشيطان ما يفارقني فإذا عرضت لي حاجة إلى ربي عز وجل سألته إياها ولم أسأله بلساني، فجاءني بها.من المصطفيات من عابدات الثغور زينب الطبريةقال سلم الخواص: كانت عندنا جارية يقال لها زينب، وكانت تحسن خدمة مولاها، فذهبت أسلم عليها فقالت: يا أبا محمد كنت منذ ليال قائمة أخدم مولاي فغلبتني عيني فسمعت قائلا يقول:صلاتك نور والعباد رقود قومي فصلى للغفور الودود قال: وخرجت يوما في حاجة فعثرت فانقطع إصبع من أصابعها قال: فاجتمعنا رجالا ونساء نعزيها في إصبعها، فقالت: يا إخوتي وأخواتي أنساني لذة ثوابها وجعها فوهب الله لي ولكم الرضا والعفو عما مضى، قوموا حتى نخدم من الطريق عليه غدا.ذكر المصطفين من عباد أهل الشام المجهولي الأسماءعابد يقال له الديلميغزا المسلمون غزوة فيهم الديلمي، فأسرته الروم وصلبوه على الدقل، لما رآه المسلمون مصلوبا حملوا على الروم حملة فأخذوا المركب الذي فيه الشيخ فأنزلوه عن الدقل. فقال لهم: أعطوني ماء أصب علي. فقالوا: لم تصب عليك? فقال: إني جنب، لأنهم لما صلبوني أخذتني نعسة فرأيت نفسي كأني على نهر فيه وصائف فمددت يدي إلى واحدة منهن فافترعتها فأصابتني جنابة.عابد آخرشابان كانا يتعبدان بالشام، سميا الصبيح والمليح لحسن عبادتهما، قالا: جعنا أياما،

(2/10)

فقلت لصاحبي، أو قال لي: أخرج بنا إلى الصحراء، لعلنا نرى رجلا نعلمه بعض دينه، لعل الله عز وجل أن ينفعنا به. فلما أصحرنا استقبلنا أسود على رأسه حزمة حطب. فدنونا منه فقلنا له: يا هذا - من ربك? فرمى الحزمة عن رأسه وجلس عليها وقال: لا تقولا لي من ربك? ولكن قولا لي: أين محل الإيمان من قلبك فنظرت إلى صاحبي ونظر إلي صاحبي، ثم قال: سلا، سلا، فإن المريد لا تنقطع مسائله، فلما رآنا لا نحير جوابا قال: اللهم إن كنت تعلم أن لك عبادا كلما سألوك أعطيتهم فحول حزمتي هذه ذهبا، فرأيناها قضبان ذهب تلتمع، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم لك عبادا الإخمال أحب إليهم من الشهرة فردها حطبا. فرجعت والله حطبا.ثم حملها على رأسه ومضى فلم نجترئ أن نتبعه.عابد آخركان عابد من أهل الشام قد حمل على نفسه في العبادة. فقالت له أمه: يا بني عملت ما لم يعمل الناس أما تريد أن تهجع? فأقبل يردد عليها ويقول: ليتك كنت لي عقيما، إن لبنيك في القبر حبسا طويلا.من عقلاء مجانين الشامعابد قال عبد الواحد بن زيد: خرجت إلى الشام في طلب العباد فجعلت أجد الرجل بعد الرجل شديد الاجتهاد حتى قال لي رجل: قد كان ها هنا رجل من النحو الذي تريد، ولكنا فقدنا من عقله، فلا ندري، يريد أن يحتجب من الناس بذلك أم هو شيء أصابه? قلت: وما أنكرتم منه? قال: إذا كلمه أحد قال: الوليد وعاتكة، لا يزيده عليه. قال: قلت فكيف لي به? قال: هذه مدرجته. فانتظرته فإذا برجل واله، كريه الوجه، كريه المنظر، وافر الشعر، متغير اللون وإذا الصبيان حوله وخلفه وهو ساكت يمشي، وهم خلفه سكوت يمشون وعليه أطمار دنسة. قال: فتقدمت إليه فسلمت عليه، فالتفت إلي فرد علي السلام. فقلت: يرحمك الله إني أريد أن أكلمك.فقال: الوليد وعاتكة. قلت: قد أخبرت بقصتك. فقال الوليد وعاتكة.

(2/11)

ثم مضى حتى دخل المسجد ورجع الصبيان الذين كانوا يتبعونه فاعتزل إلى سارية فركع فأطال الركوع ثم سجد، فدنوت منه فقلت: رحمك الله، رجل غريب يريد أن يكلمك ويسألك عن شيء، فإن شئت فأطل وإن شئت فأقصر، فلست ببارح حتى تكلمني. قال وهو في سجوده، يدعو ويتضرع، ففهمت عنه، وهو يقول: سترك سترك، قال: فأطال السجود حتى سئمت فدنوت منه فلم أسمع له نفسا ولا حركة. قال: فحركته فإذا هو ميت كأنه قد مات من دهر طويل. قال فخرجت إلى صاحبي الذي دلني عليه فقلت: تعال فانظر إلى الذي زعمت أنك أنكرت من عقله. وقصصت عليه قصته. قال فهيأناه ودفناه.ذكر المصطفيات من عابدات الشام أم الدرداءواعلم أن أم الدرداء اثنتان: فالكبرى تسمى خيرة بنت أبي حدرد، زوجة أبي الدرداء، لها صحبة ورواية عن النبي ويقال إنها ماتت قبل أبي الدرداء.وأم الدرداء الصغرى: اسمها هجيمة بنت حيي الوصابية، قبيلة من حمير، وهي زوجة أبي الدرداء أيضا.ويقال فيها جهيمة وهي التي خطبها معاوية بعد موت أبي الدرداء فأبت أن تتزوجه.قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: الكبرى لها صحبة، وروت عن النبي ) ثلاثة أحاديث، والصغرى لا صحبة لها، روت عن أبي الدرداء وكلتاهما زوجة أبي الدرداء.قلت: وكان لأبي الدرداء بنت تسمى الدرداء، وليست من هذه ولا من هذه، بل من امرأة أخرى على ما ذكر محمد بن سعد. قلت: فإذ قد كشفنا عن هاتين الكنيتين على ما يوجبه النظر في النقل فالأخبار التي نوردها عن الصغرى لا عن الكبرى والله أعلم.عن عون بن عبد الله قال: كنا نجلس إلى أم الدرداء فنذكر الله عندها فقالوا: لعلنا قد أمللناك قال: تزعمون أنكم قد أمللتموني? فقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الذي أريد من مجالس الذكر.

(2/12)

عن عون بن عبد الله قال كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها. قال: فاتكأت ذات يوم. فقيل لها: لعلنا أن نكون قد أمللناك يا أم الدرداء، فجلست فقالت: رعمتم أنكم قد أمللتموني? فقد طلبت العبادة بكل شيء فما وجدت أشفى لصدري ولا أحرى أن أدرك منه ما أريد من مجالسة أهل الذكر.عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: قلت لأم الدرداء ادعي لنا قالت: أو بلغت أنا ذلك? عن ميمون بن مهران قال: ما دخلت على أم الدرداء في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية.قال يونس بن ميسرة بن حلبس: كنا نحضر أم الدرداء وتحضرها نساء متعبدات يقمن الليل كله حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.شيخ من بني تميم قال: حدثني هزان قال: قالت لي أم الدرداء: يا هزان هل تدري ما يقول الميت على سريره? فقلت: لا. قالت: فإنه يقول يا أهلاه ويا جيراناه وياحملة سريراه، لا تغرنكم الدنيا كما غرتني، ولا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي فإن أهلي لا يحملون عني من وزري شيئا، ولو حاجوني عند الجبار لحجوني. ثم قالت أم الدرداء الدنيا أسحر لقلوب العابدين من هاروت وماروت، وما آثرها عبد قط إلا أضرعت خده.عن أبي عمران الأنصاري قال: كنت أقود دابة أم الدرداء فيما بين بيت المقدس ودمشق فقالت لي: يا سليمان أسمع الجبال وما وعدها الله عز وجل فأرفع صوتي بهذه الآية ويوم نسير الجبال سورة الكهف آية 47.أشرفت أم الدرداء على وادي جهنم ومعها إسماعيل بن عبيد الله فقالت: يا إسماعيل اقرأ فقرأ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون سورة المؤمنون آية 115 فخرت أم الدرداء على وجهها وخر إسماعيل على وجهه فما رفعا رؤوسهما حتى ابتل ما تحت وجوههما من دموعهما.أن ابنة لأبي الدرداء توفيت فصلت عليها أم الدرداء ثم رجعت فدعت بالمجمر فوضعته تحت ثيابها ثم ناولتنيه.ماتت الدرداء قبل أم الدرداء، فلام دفنتها قالت: اذهبي إلى ربك وأذهب إلى ربي. فدخلت المسجد.

(2/13)

خطب معاوية أم الدرداء فأبت أن تزوجه وقالت سمعت أبا الدرداء يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرأة في آخر أزواجها أو قال لآخر أزواجها أو كما قال ولست أريد بأبي الدرداء بدلا.عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب ابن آدم كاحتراق السعفة، أما تجد لها قشعريرة? قال: بلى. قالت: فادع الله إذا وجدت ذلك، فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.عثامةعن محمد بن سليمان أن عثامة كف بصرها. وكانت متعبدة.قال الجروي: حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما نعلم أحدا أحنث في مشي فمشى إلا عثامة فإنها حنثت فمشت إلى مكة فأنفقت خمسمائة دينار.محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء أن أمه عثامة كف بصرها فدخل عليها ابنها يوما وقد صلى، فقالت: أصليتم أي بني? قال: نعم. فقالت:عثام مالك لاهيه حلت بدارك داهيةأبكي الصلاة لوقتها إن كنت يوما باكيةوأبكي القرآن إذا تلي قد كنت يوما تاليةتتلينه بتفكر ودموع عينك جاريةفاليوم لا تتلينه إلا وعندك تاليهلهفي عليك صبابة ما عشت طول حياتيهأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمرقالت أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان تقول: أف للبخل، لو كان قميصا ما لبسته، ولو كان طريقا ما سلكته.كانت أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان تبعث إلى نسائها فيجتمعن ويتحدثن عندها وهي قائمة تصلي ثم تنصرف إليهن فتقول: أحب حديثكم فإذا قمت في صلاتي لهوت عنكن ونسيتكن.وكانت تكسوهن الثياب الحسنة وتعطيهن الدنانير وتقول: الكسوة لكن والدنانير اقسمنها بين فقرائكن. وكانت تقول: جعل لكل قوم نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للصلة والمواساة أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، ومن الشراب البارد على الظمأ، وكانت تقول: وهل ينال الخير إلا باصطناعه? وكانت تقول: ما حسدت أحدا قط على شيء، إلا أن يكون ذا معروف فإني كنت أحب أن أشركه في ذلك.

(2/14)

كانت أم البنين تعتق في كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل.دخلت عزة على أم البنين. فقالت لها: يقول كثير:قضى كل ذي دين علمت غريمه وعزة ممطول معنى غريمها ما كان هذا الدين يا عزة? فاستحيت. فقالت: علي ذلك. قالت: كنت وعدته قبلة فتحرجت منها.فقالت أم البنين: أنجزيها له وإثمها علي.أن أم البنين أعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة وكانت إذا ذكرتها بكت وقالت: ليتني خرست ولم أتكلم بها.قالت أم البنين: ما تحلى المتحلون بشيء أحسن عليهم من عظم مهابة الله في صدورهم.عبدة أخت أبي سليمان الدارانيقال أبو سليمان: وصفت لأختي عبدة قنطرة من قناطر جهنم، فأقامت يوما وليلة في صيحة واحدة ما تسكت. ثم انقطع عنها بعد. فكلما ذكرت لها صاحت. قلت: من أي شيء كان صياحها? قال: مثلت نفسها على القنطرة وهي تكفأ بها.عن أبي سليمان قالت أختي: الفقراء كلهم أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة والرضا بفقره.وذكر السلمي أنه كان لأبي سليمان أختان: عبدة وآمنة قال: وكانتا من العقل والدين بمحل عظيم.رابعة بنت إسماعيل زوجة أحمد بن أبي الحواريأحمد بن أبي الحواري قال: قلت لرابعة، وهي امرأتي وقد قامت بليل: قد رأينا أبا سليمان وتعبدنا معه، ما رأينا من يقوم من أول الليل. فقالت: سبحان الله مثلك يتكلم بهذا? إنما أقوم إذا نوديت. قال: وجلست آكل وجعلت تذكرني. فقلت لها: دعينا يهنينا طعامنا. قالت: ليس أنا وأنت ممن يتبغص عليه الطعام عند ذكر الآخرة.أحمد بن أبي الحواري قال: قالت لي رابعة: أي أخي أعلمت أن العبد إذا عمل بطاعة الله أطلعه الجبار على مساوئ عمله فيتشاغل به دون خلقه?عن أحمد بن أبي الحواري قال: كانت لرابعة أحوال شتى فمرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها الأنس، ومرة يغلب عليها الخوف فسمعتها تقول في حال الحب:حبيب ليس يعدله حبيب ولا لسواه في قلبي نصيب

(2/15)

حبيب غاب عن بصري وشخصي ولكن عن فؤادي ما يغيب وسمعتها في حال الأنس تقول:ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسيفالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وسمعتها في حال الخوف تقول:وزادي قليل ما أراه مبلغي أللزاد أبكي أم لطول مسافتي?أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك? أين محبتي?قالت رابعة: إني لأضن باللقمة الطيبة أن أطعمها نفسي، وإني لأرى ذراعي قد سمن فأحزن. قال: وربما قلت لها: أصائمة أنت اليوم? فتقول: ما مثلي يفطر في الدنيا. قال: وربما نظرت إلى وجهها ورقبتها فيتحرك قلبي على رؤيتها ما لا يتحرك مع مذاكراتي أصحابنا من أثر العبادة.وقالت لزوجها: لست أحبك حب الأزواج إنما أحبك حب الإخوان، وإنما رغبت فيك رغبة في خدمتك، وإنما كنت أحب وأتمنى أن يأكل ملكي ومالي مثلك ومثل إخوانك.قال أحمد: وكانت لها سبعة آلاف درهم فأنفقتها علي. فكانت إذا طبخت قدرا قالت: كلها يا سيدي فما نضجت إلا بالتسبيح. وقالت لي: لست أستحل أن أمنعك نفسي وغيري، اذهب فتزوج. قال: فتزوجت ثلاثا، وكانت تطعمني اللحم وتقول: اذهب بقوتك إلى أهلك. وكنت إذا أردت جماعها نهارا قالت: أسألك بالله لا تفطرني اليوم، وإذا أردتها بالليل قالت: أسألك بالله لما وهبتني لله الليلة.أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة تقول: ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي القيامة، ولا رأيت الثلج إلا رأيت تطاير الصحف، ولا رأيت جرادا إلا ذكرت الحشر.قال أحمد بن أبي الحواري: قالت لنا رابعة: نحوا عني ذلك الطست، فإنما عليه مكتوب: مات أمير المؤمنين هارون الرشيد. قال أحمد: فنظروا فإذا هو مات ذلك اليوم.أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة تقول: ربما رأيت الجن يذهبون ويجيئون، وربما رأيت الحور العين يستترن مني بأكمامهن. وقالت بيدها على رأسها.

(2/16)

قال أحمد: ودعوت رابعة فلم تجبني، فلما كان بعد ساعة أجابتني وقالت: إنما منعني من أن أجيبك أن قلبي قد كان امتلأ فرحا بالله، فلم أقدر أن أجيبك.أم هارونقالت أم هارون، وكانت من الخائفين العابدين: قد أنزلت الدنيا منزلتها. وكانت تأكل الخبز وحده. قالت: بأبي الليل لما أطيبه، إني لأغتم بالنهار حتى يجيء الليل، فإذا جاء الليل قمت أوله، فإذا جاء السحر دخل الروح قلبي.وخرجت أم هارون من قريتها تريد موضعها. فصاح صبي بصبي خذوه. فسقطت أم هارون فوقعت على حجر فدميت، فظهر الدم من مقنعتها.قال أبو سليمان: من أراد أن ينظر إلى صعق صحيح فلينظر إلى أم هارون. وقال أبو سليمان: ما كنت أرى أنه يكون بالشام مثلها.قالت رابعة: ما دهنت أم هارون رأسها منذ عشرين سنة. فإذا كشفنا رؤوسنا كان شعرها أحسن من شعورنا.وبلغني عن القاسم الجوعي قال: مرضت أم هارون فأتينا نعودها أنا وصاحب لي، فدخلنا عليها وهي على طرف الدرجة فسألناها عن حالها. فقلت لها: أم هارون أيكون من العباد من يشغله خوف النيران عن الشوق إلى الجنان? فقالت: آه وسقطت عن الدرجة مغشيا عليها.قال قاسم: وكانت أم هارون تأتي بيت المقدس من دمشق كل شهر مرة على رجليها. فدخلت عليها فقالت: يا قاسم كنت أمشي ببيسان فإذا قد عرض لي هذه الكلب الأسد فمشى نحوي. فلما قرب مني نظرت إليه فقتل: تعال يا كلب، إن كان لك رزق فكل. فلما سمع كلامي أقعى ثم ولى راجعا.أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأم هارون: أتحبين الموت? قالت: لا. قلت: ولم? قالت: لو عصيت آدميا ما أحببت لقاءه، فكيف أحب لقاء الله وقد عصيته.ثويبة بنت بهلولوكانت زاهدة دمشق، تقول قرة عيني ما طابت الدنيا والآخرة إلا بك فلا تجمع علي فقدك والعذاب.البيضاء بنت المفضل

(2/17)

قالت أسماء الرملية، وكانت من العابدات، تقول: سألت البيضاء بنت المفضل، فقلت: يا أختي هل للمحب لله دلائل يعرف بها? قالت: يا أختي والمحب للسيد يخفى? لو جهد المحب للسيد أن يخفى ما خفي. قلت: صفيه لي. قالت: لو رأيت المحب لله عز وجل لرأيت عجبا عجيبا من واله ما يقر على الأرض، طائر مستوحش أنسه في الوحدة، قد منع الراحة، طعامه الحب عند الجوع، وشربه الحب عند الظمأ، لا يمل من طول الخدمة لله تعالى.آمنة الرمليةاعتل بشر بن الحارث فعادته آمنة الرملية من الرملة. فإنها لعنده إذ دخل أحمد بن حنبل يعوده. فقال: من هذه? فقال: هذه آمنة الرملية. بلغها علتي فجاءت من الرملة تعودني. قال: فسلها تدعو لنا. فقالت: اللهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيرانك من النار فأجرهما. قال أحمد: فانصرفت فلما كان من اللي لطرحت إلي رقعة مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم قد فعلنا ولدينا مزيدذكر المصطفيات من عابدات الشام المجهولات الأسماءمولاة لأبي أمامة - شامية

(2/18)

قالت مولاة أبي أمامة : كان أبو أمامة يحب الصدقة ويجمع لها، ولا يرد سائلا ولو ببيضة، ولو بتمرة أو بشيء مما يؤكل، فأتاه سائل ذات يوم وقد أقفر من ذلك كله وما عنده إلا ثلاثة دنانير. فسأله فأعطاه دينارا. ثم أتاه سائل فأعطاه دينارا. ثم أتاه سائل فأعطاه دينارا. قالت: فغضبت وقلت: لم تترك لنا شيئا. قالت: فوضع رأسه للقائلة. قالت: فلما نودي الظهر أيقظته فتوضأ ثم راح إلى مسجده. قالت: فرققت عليه وكان صائما، فاقترضت ما جعلت له عشاء وسرجت له سراجا وجئت إلى فراشه لأمهد له فإذا بذهب فعددتها فإذا ثلثمائة دينار. قالت قلت: ما صنع الذي صنع إلا ولقد وثق بما خلف. فأقبل بعد العشاء فلما رأى المائدة والسراج تبسم وقال: هذا خير من غيره. قالت: فقمت على رأسه حتى تعشى، فقلت: رحمك الله خلفت هذه النفقة في سبيل مضيعة ولم تخبرني فأرفعها? قال: وأي نفقة? ما خلفت شيئا. قالت: فرفعت الفراش فلما أن رآه فرح واشتد تعجبه. قالت: فقمت فقطعت زناري وأسلمت. قال ابن جابر: فأدركتها في مسجد حمص وهي تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقههن في الدين.عابدة أخرى

(2/19)

أحمد بن أبي الحواري يقول: بينا أنا ذات يوم في بلاد الشام في قبة من قباب المقابر ليس عليها باب، إلا كساء قد أسبلته. فإذا أنا بامرأة تدق الحائط، فقلت: من هذا? قالت: امرأة ضالة، دلني على الطريق رحمك الله، قلت: عن أي الطريق تسألين? فبكت ثم قالت: عن طريق النجاة، قلت: هيهات، إن بيننا وبين طريق النجاة عقابا وتلك العقاب لا تنقطع إلا بالسير الحثيث، وتصحيح المعاملة، وحذف العلائق الشاغلة من أمر الدنيا والآخرة. قال: فبكت بكاء شديدا ثم قالت: يا أحمد سبحان من أمسك عليك جوارحك فلم تنقطع، وحفظ عليك فؤادك فلم يتصدق، ثم خرت مغشيا عليها. فقلت لبعض النساء: انظرن أي شيء حال هذه الجارية? فقمن إليها ففتشنها فإذا وصيتها في جيبها: كفنوني في أثوابي هذه فإن كان لي عند الله خير فهو أسور لي، وإن كان غير ذلك فبعدا لنفسي. وحركوها فإذا هي ميتة. فقلت: لمن هذه الجارية? قالوا جارية قرشية كانت تشكو إلينا وجعا بجوفها فكنا نصفها لمتطيبي الشام، فكانت تقول: خلوا بيني وبين الطبيب الراهب، تعني أحمد بن أبي الحواري، أشكو إليه بعض ما أجد من بلائي، لعله يكون عنده شفائي.عابدة أخرىقال التيمي: رأيت جارية سوداء في بعض مدن الشام وبيدها خوص تسفه، وهي تقول مع سفها: لك علم بما يجن فؤادي فارحم اليوم ذلتي وانفرادي فقلت: يا سوداء ما علامة المحب? فإذا رجل قد صرع بالقرب منها. فنظرت إلي وإلى الرجل وقالت: يا بطال، علامة المحب الصادق لله في حبه أن يقول لهذا المجنون قم فيقوم. فإذا الرجل قد قام وإذا الجنية تقول لها على لسانه: وحق صدق حبك لربك لا رجعت إليه أبدا.ومن المصطفين من أهل عسقلان آدم بن أبي إياس العسقلاني ويكنى أبا الحسنطلب العلم ببغداد، وكتب عن شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة والحجاز والشام واستوطن عسقلان فعرف بالعسقلاني، وكان من الصالحين متمسكا بالسنة.

(2/20)

لما حضرت آدم بن أبي إياس الوفاة ختم القرآن وهو مسجى، ثم قال: بحبي لك رفقت بي في هذا المصرع كنت آملك لهذا اليوم كنت أرجوك. ثم قال: لا إله إلا الله. ثم قضى نحبه.ذكر المصطفين من أهل مصرحيوة بن شريح، أبو يزيد النجيبيكان حيوة بن شريح دعاء، من البكائين، وكان ضيق الحال جدا. فجلست إليه ذات يوم وهو متخل وحده يدعو. فقلت: رحمك الله لو دعوت الله عز وجل فوسع عليك في معيشتك. قال: فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض فقال: اللهم اجعلها ذهبا. قال: فإذا هي والله تبرة في كفه، ما رأيت أحسن منها. قال: فرمى بها إلي وقال: ما خير في الدنيا إلا الآخرة. ثم التفت إلي فقال: هو أعلم بما يصلح عباده. فقلت: ما أصنع بهذه? قال: استنفقها. فهبته والله أن أراده.سليم بن عترعن الحارث بن يزيد أن سليم بن عتر كان يقرأ القرآن كل ليلة ثلاث مرات.الليث بن سعد يكنى أبا الحارث واستقل بالفتوى والكرم بمصر.قال أبو صالح: كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا. فقلنا: ليس يشبه صاحبنا قال: فسمع مالك كلامنا فأدخلنا عليه فقال لنا: من صاحبكم? قلنا: الليث بن سعد.فقال: تشبهوني برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا وثياب جيراننا فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا وبعنا الفضلة بألف دينار?

(2/21)

قال منصور بن عمار: تكلمت في جامع مصر يوما فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث. فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد? قلت: نعم: قال رد علي الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه. فرق وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك? قلت: منصور، قال: ابن من? قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السري? قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئي بكيس كذا وكذا فجاءت بكيس فيه ألف دينار فقال: يا أبا السري خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحدا من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها. فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلي وأنعم. قال: لا ترد علي شيئا أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علي، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته فقال لي: اذكر شيئا فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثني هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار. فقلت: عهدي بصلتك بالأمس. قال: لا تردن علي شيئا أصلك به. متى رأيتك? قلت: الجمعة الداخلة. قال: كأنك فتت عضوا من أعضائي. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعا فقال لي: خذ في شيء أذكرك به، فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه. ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثني الوسادة، إذا ثلثمائة دينار قد أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيه أربعون ثوبا. قلت: رحمك الله أكتفي بثوبين. فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك.قال منصوردخلت على الليث بن سعد يوما فإذا على رأسه خادم، فغمزه فخرج، ثم ضرب الليث بيده إلى مصلاة فاستخرج من تحته كيسا فيه ألف دينار، ثم رمى بها إلي. ثم قال: يا أبا السري لا تعلم ابني فتهون عليه.

(2/22)

اشترى قوم من الليث استغلوها فاستقالوه فأقالهم. ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسين دينارا، فقال له الحارث ابنه في ذلك، فقال: اللهم غفرا إنهم كانوا قد أملوا فيها أملا فأحببت أن أعوضهم عن أملهم بهذا.قال سعيد الآدم مررت بالليث بن سعد فتنحنح لي فرجعت إليه، فقال لي يا سعيد خذ هذا الفنداق، فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له ولا غلة. قال: فقلت: جزاك الله خيرا يا أبا الحارث. وأخذت منه الفنداق ثم صرت إلى المنزل، فلما صليت أوقدت السراج وكتبت بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قلت: فلان بن فلان. ثم قلت: فلان. فبينا أنا على ذلك إذ أتاني آت فقال: ها الله يا سعيد تأتي إلى قوم عاملوا الله عز وجل سرا فتكشفهم لآدمي? مات الليث ومات شعيب بن الليث، أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه? قال فقمت ولم أكتب شيئا، فلما أصبحت أتيت الليث بن سعد فلما رآني تهلل وجهه فناولته الفنداق فنشره فأصاب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. ثم ذهب ينشره. فقلت له: ما فيه غير ما كتبت فقال لي: يا سعيد وما الخبر? فأخبرته بصدق عما كان. فصاح صيحة، فاجتمع عليه الخلق فقالوا: يا أبا الحارث أليس خيرا? فقال: ليس إلا خير. ثم أقبل علي فقال: يا سعيد تبينتها وحرمتها صدقت - مات الليث أليس مرجعهم إلى الله? .....وصل الليث بن سعد ثلاثة أنفس بثلاثة آلاف دينار: احترقت دار ابن لهيعة فبعث إليه بألف دينار، وحج فأهدى إليه مالك بن أنس رطبا على طبق فرد إليه على الطبق ألف دينار، ووصل منصور بن عمار بألف دينار، وقال: لا يسمع بهذا ابني فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث فوصله بألف دينار إلا دينارا، وقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في العطية.كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار وما وجب الله تعالى عليه زكاة قط.كان الليث بن سعد يستغل في كل سنة خمسين ألف دينار فيحول عليه الحول وعليه دين.المفضل بن فضالة القتباني

(2/23)

وقتبان من اليمن. قاضي مصر سمع عقيل بن خالد - كذا ذكره البخاري.قال ابن رغبة كان مفضل بن فضالة قاضيا علينا، وكان مجاب الدعوة، وكان مع ضعفه طويل القيام، وحدثني من أثق به أنه دعا الله عز وجل أن يذهب عنه الأمل، فذهب عنه فلم يصبر فدعا الله أن يرده عليه.ومن الطبقة التي تلي هؤلاء عبد الله بن وهب مولى لقريشدخل ابن وهب الحمام فسمع قارئا يقرأ: وإذ يتحاجون في النار سورة غافر آية 47 فسقط مغشيا عليه فغسلت عنه النورة وهو لا يعقل.قرئ على عبد الله بن وهب كتاب أهوال القيامة فخر مغشيا عليه. فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد ذلك بأيام ... 0أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطيقال ابن أبي الجارود: كان أبو يعقوب جاري. قال: فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي.كان أبو يعقوب أبدا يحرك شفتيه، يذكر الله عز وجل أو نحو ما قال.قال الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول: والله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت إليه لأصدقنه. يعني الواثق.وكان قد جمع بين الفقه والتقوى وامتحن فلم يجب.حمل البويطي من مصر أيام الفتنة والمحنة بالقرآن إلى العراق فأرادوه على الفتنة فامتنع فسجن ببغداد وقيد وأقام مسجونا إلى أن توفي في السجن والقيد ببغداد .....ذو النون المصري ابن إبراهيم، أبو الفيضابن الجلاء قال: لقيت ستمائة شيخ ما لقيت فيهم مثل أربعة: أحدهم ذو النون.أبو بكر محمد بن خلف المؤدب قال: رأيت ذا النون المصري على ساحل البحر فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء فقال: سبحان الله ما أعظم شأنكما، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما.وقال: بصحبة الصالحين تطيب الحياة والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك، وإن ذكرت أعانك.

(2/24)

قال إسرافيل: حضرت ذا النون في الحبس، وقد دخل الجلواز بطعام له فقام ذو النون فنفض يده فقيل له: إن أخاك جاء به. فقال: إنه على يدي ظالم. قال: وسمعت رجلا سأل ذا النون فقال: رحمك الله ما الذي أنصب العباد وأضناهم? فقال له: ذكر المقام، وقلة الزاد، وخوف الحساب. ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله أمامهم وقراءة كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار? ثم قال: مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم.وسأل رجل ذا النون: متى تصح عزلة الخلق? فقال: إذا قويت على عزلة النفس.يوسف بن الحسين قال: قلت لذي النون في وقت مفارقتي له: من أجالس? قال: عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقة، ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.قال ذوالنون سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب. وسمعته يقول: من لم يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم.يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: ما خلع الله عز وجل على عبد من عبيده خلعة من العقل، ولا قلده قلادة أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك كله التقوى.قال ذو النون: إلهي لو أصبت موئلا في الشدائد غيرك، أو ملجأ في النوازل سواك لحق لي أن لا أعرض إليه بوجهي عنك، ولا أختاره عليك لقديم إحسانك إلي وحديثه، وظاهر منتك علي وباطنها، ولو تقطعت في البلاء إربا إربا أو انصبت علي الشدائد صبا صبا ولا أجد مشتكى لبثي غيرك ولا مفرجا لما بي سواك، فيا وارث الأرض ومن عليها، ويا باعث جميع من فيها ورث آملي فيك مني أملي، وبلغ همتي فيك منتهى وسائلي.

(2/25)

قال ذو النون: احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعا. قلت: فكيف ذلك? قال: لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه. ثم قال: تعلق الناس بالأسباب تعلق الصديقون بولي الأسباب.ثم قال: علامة تعلق قلوبهم بالعطايا طلبهم منه العطايا، ومن علامة تعلق قلب الصديق بولي العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها به. ثم قال: ليكن اعتمادك على الله عز وجل في الحال، لا على الحال مع الله.ثم قال: اعقل فإن هذا من صفة التوحيد.قال ذو النون ، وقد سألته عند الفراق أن يوصيني فقال: لا يشغلنك عيوب الناس عن عيب نفسك، لست عليهم برقيب. ثم قال: إن أحب عباد الله إلى الله عز وجل أعقلهم عنه، وإنما يستدل على تمام عقل الرجل وتواضعه في عقله بحسن استماعه للمحدث إن كان به عالما وسرعة قبوله للحق وإن كان ممن هو دونه، وإقراره على نفسه بالخطأ إذا جاء منه.قال ذو النون: من ذكر الله على حقيقة نسي في جنبه كل شيء، ومن نسي في جنب الله كل شيء حفظ الله عز وجل عليه كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء.و قال: أكثر الناس إشارة إلى الله في الظاهر أبعدهم من الله.قال: وسمعته يقول: إلهي إن كان صغر في جنب طاعتك عملي فقد كبر في جنب رجائك أملي.وسئل عن الآفة التي يخدع بها المريد عن الله عز وجل فقال: برؤية الكرامات. قيل فبم يخدع قبل وصوله إلى هذه الدرجة? قال: بوطء الأعقاب وتعظيم الناس له. قال: وسمعته يقول: من ذبح الحنجرة الطمع بسيف اليأس، وردم خندق الحرص؛ ظفر بكيمياء الخدمة، ومن استقى بحل الزهد على دلو المعروف؛ استقى من جب الحكمة، ومن سلك أودية الكمد جنى حياة الأبد، ومن حصد عشب الذنوب بمنجل الورع أضاءت له روضة الاستقامة، ومن قطع لسانه بشفرة الصمت وجد عذوبة الراحة، ومن تدرع درع الصدق قوي على مجاهدة عسكر الباطل، ومن فرح بمدحة الجاهل ألبسه الشيطان ثوب الحماقة.

(2/26)

قال ذو النون: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته.قال ذو النون: دوام الفقر إلى الله تعالى مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب.محمد بن عبد الملك قال: سمعت ذا النون يقول: ما أعز الله وجل عبدا بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عز وجل عبدا بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه.قال ذو النون: من تطأطأ لقط رطبا ومن تعالى لقي عطبا.قال ذو النون: لا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوما. وقال: من صحبك ووافقك على ما تحب، وخالفك فيما تكره فإنما يصحب هواه، ومن صحب هواه فإنما هو طالب راحة الدنيا.وقال كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش، وكل محب ذليل، وكل خائف هارب، وكل راج طالب.يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: أنت ملك مقتدر وأنا عبد مفتقر، أسألك العفو تذللا فأعطنيه تفضلا. وسمعته يقول: من المحال أن يحسن منك الظن ولا يحسن منه المن.قال ذو النون: لم أر شيئا أبعث لطلب الإخلاص مثل الوحدة، لأنه إذا خلا لم ير غير الله، فإذا لم ير غير الله لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص.الحسن بن الخليل بن مرةقال: عبد الله بن وهب، وذكر الحسن بن الخليل بن مرة، فقال: ذاك رجل صدق قد شغلته العبادة.قال عبد الله بن صالح: ما رأيت بمصر من أفضله على الحسن بن الخليل في زهده وورعه، ولقد رأيته يحمل دقيقا في جراب للناس بأجرة يتقوت بها في كل جمعة يحمل يوما، ثم زاد أمره فلم يكن يدخر لوقت يأتي، وعليه مدرعة قيمتها أقل من درهم، وأجمع أهل مصر أنه مستجاب الدعوة.قال محمد بن رمح: أتيت الحسن لأسمع منه شيئا فإذا هو يقرأ سورة ق ويبكي. ثم غشي عليه. فتركته وقمت وكان قد شغلته العبادة عن الحديث. وعدت إليه غير مرة فلم يكن فيه فضل، وكان مصفر اللون كثير البكاء.

(2/27)

اعتل الحسن بن الخليل فجاء الليث يعوده ونحن معه فقرأ على رأسه ثم قمنا من عنده فقال هذا أعبد من رأيت.أبو علي الحسن بن أحمد المعروف بابن الكاتب من كبار الصالحين من مشايخ المصريينقال أبو علي الكاتب: إذا انقطع العبد إلى الله تعالى بالكلية فأول ما يفيده الله عز وجل الاستغناء به عمن سواه. وكان يقول: قال الله عز وجل: من صبر علينا وصل إلينا.وكان يقول: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه.أبو القاسم المصري قال: قال أبو علي ابن الكاتب إن الله عز وجل يرزق العبد حلاوة ذكره، فإن فرح به وشكره آنسه بقربه، وإن قصر في الشكر أجرى الذكر على لسانه وسلبه حلاوته.عابد آخر

(2/28)

حكيم من الحكماء قال: مررت بعريش من مصر وأنا أريد الرباط، فإذا أنا برجل في مظلة قد ذهبت عيناه ويداه ورجلاه، وبه أنواع البلاء وهو يقول: الحمد لله حمدا يوافي محامد خلقك بما أنعمت علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا. فقلت: لأنظرن أشيء علمه أم ألهمه الله إلهاما? فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده? أم على أي فضيلة تشكره? فوالله لو أرسل السماء علي نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدكدتني، وأمر البحار فغرقتني ما ازددت له إلا حمدا وشكرا وإن لي إليك حاجة: بنية لي كانت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري انظر هل تحس بها? وقال عبد الوهاب بني كان لي فقلت: والله إني لأرجو أن يكون لي في قضاء حاجة هذا العبد الصالح قربة إلى الله عز وجل. فخرجت أطلبها بين تلك الرمال فإذا السبع قد أكلها. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من أين آتي هذا العبد الصالح أخبره بموت ابنته? فأتيته فقلت له: أنت أعظم عند الله منزلة أم أيوب عليه السلام? ابتلاه الله في ماله وولده وأهله وبدنه حتى صار عرضا للناس? فقال: لا بل أيوب. قلت: فإن ابنتك التي أمرتني أن أطلبها أصبتها وإذا السبع قد أكلها. فقال: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا وفي قلبي منها شيء. فشهق شهقة فمات. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من يعينني على غسله ودفنه? فإذا أنا بركب يريدون الرباط، فأشرت إليهم فأقبلوا إلي فأخبرتهم بالذي كان من أمره فغسلناه وكفناه ودفناه في مظلته تلك، ومضى القوم. وبت ليلتي في مظلته آنسا به حتى إذا مضى من الليل قد ثلثه إذا أنا به في روضة خضراء، وإذا عليه حلتان خضراوان، وهو قائم يتلو القرآن. فقلت ألست صاحبي بالأمس? فقال: بلى. فقلت: فما صيرك إلى ما أرى? قال: وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.عابد آخر

(2/29)

كان في خرابات القبائل بمصر رجل مجذوم وكان شاب من أهل مصر يختلف إليه ويتعاهده ويغسل خرقه ويخدمه. فتقرأ فتى من أهل مصر فقال للذي كان يخدمه: إنه بلغني أنه يعرف اسم الله الأعظم فأنا أحب أن أجيء معك إليه فأتاه فسلم عليه وقال: يا عم إنه بلغني أنك تعرف اسم الله الأعظم فلو سألته أن يكشف ما بك? فقال: يا بن أخي، هو الذي أبلاني فأنا أكره أن أراده.من عقلاء المجانين بمصر رجل من أصحاب ذي النونقال أبو الحسن الفارسي: بلغنا أن رجلا من أصحاب ذي النون أصيب بعقله فكان يطوف ويقول: آه أين قلبي? أين قلبي? من وجد قلبي? من وجد قلبي? والصبيان قد أولعوا به يرمونه من كل جانب.فقضي أنه دخل يوما بعض سكك مصر وقد هرب من الصبيان فجلس يستريح ساعة إذ سمع بكاء صبي تضربه والدته ثم أخرجته من الدار وأغلقت دونه الباب. فجعل الصبي يلتفت يمينا وشمالا لا يدري أين يذهب? وإلى أين يقصد? فلما سكن ما به عاد ناكصا على عقبيه حتى رجع إلى باب دار والدته فوضع رأسه على عتبة الدار فذهب به النوم. ثم انتبه فجعل يبكي ويقول: يا أماه من يفتح لي الباب إذا أغلقت عني بابك? ومن يدنيني من نفسه إذا طردتني من نفسك? ومن الذي يربيني بعد أن غضبت علي? قال: فرحمته أمه فقامت فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع على خديه متمعكا في التراب. ففتحت الباب وأخذته حتى وضعته في حجرها وجعلت تقبله وتقول: يا قرة عيني ويا عزيز نفسي، أنت الذي حملتني على نفسك، وأنت الذي تعرضت لما حل بك، لو كنت أطعتني لم تلق مني مكروها. قال: فتواجد الفتى وصاح حتى اجتمع عليه الخلق فقالوا: ما الذي أصابك? فقال: قد وجدت قلبي، قد وجدت قلبي. فلما بصر بذي النون قال: يا أبا الفيض قد وجدت قلبي في سكة كذا وكذا عند فلانة. وسماها. ثم لم يزل إذا تواجد يقول ذلك.ذكر المصطفيات من عابدات مصر

(2/30)

فاطمة بنت عبد الرحمن بن عبد الغفار الحراني وطال عمرها حتى جاوزت الثمانين، وكانت تعرف بالصوفية لأنها أقامت تلبس الصوف ولا تنام إلا في مصلاها بلا وطاء فوق ستين سنة.أم أيمن بنت علي امرأة أبي علي الروذباري واسمها عزيزةكانت عزيزة امرأة أبي علي تقول: كيف لا أرغب في تحصيل ما عندك وإليك مرجعي? وكيف لا أحبك وما لقيت خيرا إلا منك? وكيف لا أشتاق إليك وقد شوقتني إليك? وحكي عنها أنها قالت: لا ينتفع العبد بشيء من أفعاله كما ينتفع بطلب قوته من حلال. قال: وخرجت يوما من مصر وقت خروج الحاج والجمال تمر بها وهي تبكي وتقول: واضعفاه. وتنشد على أثره وتقول:فقلت: دعوني وأتباعي ركابكم أكن طوع أيديكم كما يفعل العبدوما بال رغمي لا يهون عليهم وقد علموا أن ليس لي منهم بد وتقول: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف ترى حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت?تحية النوبيةقال الماليني: دخلت على تحية زائرا فسمعتها من داخل البيت وهي تناجي وتقول في مناجاتها: يا من يحبني وأحبه. فدخلت إليها وسلمت عليها وقلت: يا تحية إنك تحبين الله تعالى فمن أين تعلمين أنه يحبك? فقالت: نعم إني كنت في بلد النوبة وأبواي كانا نصرانيين، وكانت أمي تحملني إلى الكنيسة وتجيء بي عند الصليب وتقول: قبلي الصليب، فإذا هممت بذلك أرى كفا تخرج فترد وجهي حتى لا أقبله. فعلمت أن عنايته بي قديمة.عابدة

(2/31)

قال أبو عبد الله كنت بمصر أيام سياحتي فتاقت نفسي إلى النساء فذكرت ذلك لبعض إخواني فقال لي: ههنا امرأة صوفية لها ابنة مثلها جميلة قد ناهزت البلوغ. قال: فخطبتها وتزوجتها، فلما دخلت إليها وجدتها مستقبلة القبلة تصلي. قال: فاستحييت أن تكون صبية في مثل سنها تصلي وأنا لا أصلي. فاستقبلت القبلة وصليت ما قدر لي حتى غلبتني عيني فنمت في مصلاي ونامت في مصلاها. فلما كان في اليوم الثاني كان مثل ذلك أيضا، فلما طال علي قلت: يا هذه ألاجتماعنا معنى? قال: فقالت لي: أنا في خدمة مولاي ومن له حق فما أمنعه. قال: فاستحييت من كلامها وتماديت على أمري نحو الشهر. ثم بدا لي في السفر، فقلت لها: يا هذه. قالت: لبيك. قلت: إني قد أردت السفر. قالت: مصاحبا بالعافية. فقمت فلما صرت عند الباب قامت فقالت لي: يا سيدي كان بيننا في الدنيا عهد لم يقض بتمامه عسى في الجنة إن شاء الله. فقلت لها: عسى. فقالت لي: أستودعك الله خير مستودع. قال: فتودعت منها وخرجت.قال: ثم عدت إلى مصر بعد سنين فسألت عنها فقيل لي: هي على أفضل مما تركتها عله من العبادة والاجتهاد.ذكر المصطفين من عباد الإسكندرية أسلم بن زيد الجهني

(2/32)

إبراهيم بن أدهم قال: لقيت رجلا بالإسكندرية يقال له أسلم بن زيد الجهني. فقال: من أنت يا غلام? فقلت: شاب من أهل خراسان. قال: ما حملك على الخروج من الدنيا? فقلت: زهدا فيها ورجاء ثواب الله تعالى. فقال: إن العبد لا يتم رجاؤه لثواب الله تعالى حتى يحمل نفسه على الصبر. فقال له رجل ممن كان معه: وأي شيء الصبر? فقال: إن أدنى منازل الصبر أن يروض العبد نفسه على احتمال مكاره الأنفس. قال: قلت ثم مه? قال: إذا كان محتملا للمكاره أورث الله عز وجل قلبه نورا، قلت: فماذا النور? قال: سراج يكون في قلبه يفرق بين الحق والباطل والمتشابه. ثم قال: يا غلام إياك إذا صحبت الأخيار وجاريت الأبرار أن تغضبهم عليك، لأن الله تعالى يغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم، وذلك أن الحكماء هم العلماء، هم الراضون عن الله إذا سخط الناس. يا غلام احفظ عني واعقل واحتمل، ولا تعجل، إياك والبخل. قلت: وما البخل? قال: أما البخل عند أهل الدنيا فهو أن يكون الرجل ضنينا بماله، وأما عند أهل الآخرة فهو الذي يضن بنفسه عن الله. ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله أورث الله قلبه الهدى والتقى، وأعطي السكينة والوقار والحلم الراجح والعقل الكامل.عابد آخرقال العباس الشكلي: دخلت الإسكندرية فسألت: هل بها أحد من الزهاد? فقالوا: فتى قد كان يصوم النهار ويقوم الليل فإذا أفطر على الشهوات، فرأى رؤيا هالته فأخذ في التقلل وصار فطره في خمسة عشر يوما مرة. فقلت فعلى أي شيء يفطر إذا أفطر? فقيل لي: على شيء من الكسب وتمرات يعجنها فهي فطره من الوقت إلى الوقت. فقلت: فما الرؤيا التي رآها? قالوا: رأى فتى وقف عليه فقال له:تجوع فإن الجوع يورث أهله مصادر بر خيرها الدهر دائمولا تك ذا بطن رغيب وشهوة فتصبح في الدنيا وقلبك هائمعابدة

(2/33)

عن حجاج بن ربان قال: دخلت أنا ابن أبي رفاعة مسجد الإسكندرية فإذا أنا بامرأة قد اعتزلت عن النساء وجعلت حولها حظيرة من حجارة، فتقدم إليها ابن أبي رفاعة فقال لها: ما لي أراك قد اعتزلت النساء وجعلت حولك هذه الحجارة? فقالت: يا أبا عبد الرحمن كلمة من هذه، وكلمة من هذه، وقد ذهب الصيام قال: فالتفت إلي ابن أبي رفاعة فقال: أترى هذه سمعت من مالك بن أنس شيئا? يعني أن الله تعالى هو الذي بصرها.من المصطفين من أهل أبلة أبو صخر يزيد بن أبي سمية الأبليكان أبو صخر من العباد، وكان يصلي ليله أجمع ويبكي. وكانت معه في الدار امرأة يهودية ساكنة تبكي رحمة له، فقال ليلة في دعائه: اللهم إن هذه اليهودية قد بكت رحمة لي ودينها مخالف لديني فأنت أولى برحمتي.ذكر المصطفين من أهل المغربعابد قال ذو النون: بينا أنا سائر في بلاد المغرب إذا أنا برجل على عريش من البلوط وعنده عين ماء تجري فأقمت عليه يوما وليلة أريد أن أسمع كلامه. فأشرف علي بوجهه، فسمعته يقول: شهد قلبي لله بالنوازل، وكيف لا يشهد قلبي بذلك? هيهات هيهات لقد خاب لديك المقصرون، سيدي ما أحلى ذكرك، أليس قصدك مؤملوك فنالوا ما أملوا، وجدت لهم بالزيادة على ما طلبوا? فقلت له: يا حبيبي إني مقيم عليك منذ يوم وليلة أريد أن أسمع كلامك. فقال لي: قد رأيتك يا بطال حين أقبلت، ولكن ما ذهب روعك من قلبي إلى الآن. فقلت له: ولم ذلك? وما الذي أفزعك مني فقال: بطالتك يوم عملك وتركك الزاد ليوم معادك، ومقامك على المظنون. فقلت له: يا حبيبي ما ها هنا فتية تستأنس بهم، فقال: بلى، ها هنا فتية متفرقون في رؤوس الجبال. قلت: فما طعامهم في هذا المكان? قال: أكلهم الفلق من خبز البلوط، ولباسهم الخرق من الثياب، قد يئسوا من الدنيا ويئست الدنيا منهم، أعطوا المجهود من أنفسهم، فلما دبرت المفاصل من الركوع وقرحت الجباه من السجود وتغيرت الألوان من السفر ضجوا إلى الله عز وجل بالاستغاثة.

(2/34)

عابد آخرقال ذو النون، وصف لي رجل بالمغرب وذكر لي من حكمته وكلامه ما حملني على لقائه، فرحلت إليه إلى المغرب فأقمت على بابه أربعين صباحا على أن يخرج من منزله إلى المسجد ويقعد، فكان يخرج وقت كل صلاة يصلي، ويرجع كالواله لا يكلم أحدا فقلت له يوما: يا هذا إني مقيم ها هنا منذ أربعين صباحا لا أراك تكلمني. فقال لي: يا هذا لساني سبع إن أطلقته أكلني. فقلت له: عظني رحمك الله بموعظة أحفظها عنك. قال: وتفعل? قلت: نعم إن شاء الله، قال: لا تحب الدنيا وعد الفقر والغنى والبلاء من الله نعمة، والمنع من الله عطاء، والوحدة مع الله أنسا، والذل عزا والطاعة حرفة والتوكل معاشا والله تعالى لكل شديدة عدة.ثم مكث بعد ذلك شهرا لا يكلمني، فقلت له: رحمك الله إني أريد الرجوع إلى بلدي فإن رأيت أن تزيدني في الموعظة فقال: اعلم أن الزاهد في الدنيا قوته ما وجد ومسكنه حيث أدرك ولباسه ما ستر الخلوة مجلسه، والقرآن حديثه، والله الجبار العزيز أنيسه والذكر رفيقه، والصمت جنته، والخوف سجيته، والشوق مطيته، والنصيحة نهمته والصبر وساده، والصديقون إخوانه والحكمة كلامه، والعقل دليله، والجوع أدمه والبكاء دأبه، والله عز وجل عدته. قلت بما تتبين الزيادة من النقصان? قال: عند المحاسبة للنفوس.عابدة من أهل إفريقيةقال محمد بن حفص: مررت على أخ لي من أهل مصر ونحن بالثغر، فأخرج إلي شكالا. فقال: انظر من أي شيء هذا الشكال? فنظرت فإذا شكال من شعر، كأنه من صفائه وشدة سواده قد دهن بالدهن. فقلت: هذا عندي من أعراف الخيل العتاق الكرام. فقال: لا. والله، ولكنه من شعر امرأة من أهل إفريقية جعلت منه شكالا، ثم أرسلت به إلي فقالت: اجعله شكال فرس غاز في سبيل الله عز وجل فإني طالما تمتعت به في غير طاعة الله قلت: إنما ينظر إلى ذل هذه المرأة لله تعالى وقصدها لا إلى صورة فعلها لأنها جهلت أن هذا الفعل لا يجوز.ذكر المصطفين من عباد الجبال

(2/35)

إسحاق بن إبراهيم الجمالكان ينزل جبل اللكام عبد الله بن محمد الزنجاني قال: دخلت جبل اللكام فغلطت فوقعت على شيخ متزر بجلد متشح بمسح فقال: الله أكبر، جني أم إنسي? قلت: بل إنسي. قال: ضللت الطريق? قلت: نعم. قال: فعلمني كليمات. ودفع إلي عصا وقال: خذ هذه العصا فإنها تدلك على الطريق فإذا بلغت مرادك فألق العصا، فمشيت قليلا فإذا أنا على باب أنطاكية فألقيت العصا. فلا أدري كيف كان ذلك? فرآني قوم فقالوا: من أين? قلت: من اللكام، ضللت الطريق فوقعت على شيخ فدلني وعلمني كلمات وقال لي: منذ ثلاثين سنة ما رأيت إنسيا. قالوا: نعم، كان ها هنا أخوان يقطعان الطريق فوقعا على هذا الشيخ فدعا لهما فتابا فليس اليوم في هذه النواحي أصلح منهما. وهذا الشيخ إسحاق بن إبراهيم الجمال.عابدقال أبو سليمان الداراني: مررت في جبل اللكام في جوف الليل فسمعت رجلا يقول في دعائه: يا سيدي وأملي ومؤملي ومن به تم عملي أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، وأعوذ بك من قلب لا يشتاق إليك، وأعوذ بك من دعاء لا يصل إليك، وأعوذ بك من عين لا تبكي عليك فعلمت أنه عارف فقلت له: يا فتى إن للعارفين مقامات، وللمشتاقين علامات. قال: وما هي? قلت: كتمان المصيبات، وصيانة الكرامات، فقال لي عظني. فقلت: اذهب فلا ترد الدنيا، واتخذ الفقر غنى، والبلاء من الله عز وجل شفاء، والتوكل معاشا، والجوع جرفة، واتخذ الله لكل شدة ثم صعق صعقة فتركته.عابد آخر

(2/36)

قال ذو النون: بينا أنا سائر في جبل اللكام مررت على واد كثير الأشجار والنبات. فبينا أنا واقف أتعجب من حسن زهرته ومن خضرة العشب في جنباته إذ سمعت صوتا أهطل مدامعي وهيج بلابل حزني، فاتبعت الصوت حتى وقفني بباب مغار في سفح ذلك الوادي، فإذا الكلام يخرج من جوف المغار فاطلعت فيه فإذا أنا برجل من أهل التعبد والاجتهاد. فسعته يقول: سبحان من أخرج قلوب المشتاقين في رياض الطاعة بين يديه، سبحان من أوصل الفهم إلى عقول ذوي البصائر فهي لا تعتمد إلا عليه، سبحان من أورد حياض المودة نفوس أهل المحبة فهي لا تحن إلا إليه. ثم أمسك فقلت: السلام عليك يا حليف الأحزان وقرين الأشجان. فقال: وعليك السلام، ما الذي أوصلك إلي من قد أفرده خوف المسألة عن الأنام، واشتغل بمحاسبة نفسه من التنطع في الكلام? قلت: أوصلني إليك الرغبة في التصفح والاعتبار. فقال: يا فتى إن لله عز وجل عبادا قدح في قلوبهم زندا الشغف نار الومق فأرواحهم لشدة الاشتياق تسرح في الملكوت، وتنظر إلى ما ذخر لها في حجب الجبروت.قلت: صفهم لي. قال: أولئك قوم آووا إلى كنف رحمته. ثم قال: يا سيدي بهم فألحقني. ولأعمالهم فوفقني. قلت: ألا توصيني بوصية? قال: أحب الله عز وجل شوقا إلى لقائه فإن له يوما يتجلى فيه لأوليائه. وأنشأ يقول:قد كان لي دمع فأفنيته وكان لي جفن فأدميتهوكان لي جسم فأبليته وكان لي قلب فأضنيتهوكان لي يا سيدي ناظر أرى به الجو فأعميتهعبدك أضحى سيدي موثقا لو شئت قبل اليوم داويتهعابد آخر

(2/37)

قال أبو إبراهيم الزهري: كنت جائيا من المصيصة، فمررت باللكام فأحببت أن أراهم، يعني المتعبدين، هناك فقصدتهم ووافيت صلاة الظهر، وأحسبه رآني فيهم إنسان عرفني. فقلت له: فيكم رجل تدلوني عليه? فقالوا: هذا الشيخ الذي يصلي بنا. فحضرت معهم صلاة الظهر والعصر. فقال له ذلك الرجل: هذا رجل من ولد عبد الرحمن بن عوف وجده أبو أمه سعد بن معاذ. قال: فبش بي وسلم علي كأنه كان يعرفني قال: فقلت له: من أين تأكل? فقال لي: أنت مقيم عندنا قلت: أما الليلة فأنا عندكم. قال: ثم مضيت معه فجعل يحدثني ويؤانسني حتى جاء إلى كهف جبل فقعدت ودخل فأخرج قعبا يسع رطلا ونصفا، قد أتى عليه الدهور. فوضعه وقعد يحدثني حتى إذا كادت الشمس تغرب اجتمعت حواليه ظباء فاعتقل منها ظبية فحلبها حتى ملأ ذلك القدح، ثم أرسلها. فلما سقط القرص حساه. ثم قال: ما هو غير ما ترى، وربما احتجت إلى الشيء من هذا فتجتمع حولي هذه الظباء فآخذ حاجتي وأرسلها.عابد آخرأبو صالح الدمشقي قال: كنت أدور في جبل اللكام أطلب الزهاد والعباد فرأيت رجلا عليه مرقعة جالسا على حجر مطرقا إلى الأرض، فقلت له: يا شيخ ما تصنع ها هنا? قال أنظر وأرعى. فقلت له: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى? قال: فتغير لونه ثم نظر إلي مغضبا وقال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي وبحق الذي أظهرك علي إلا جزت عني. فقلت: كلمني بشيء أنتفع به حتى أمضي. فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الذنوب أكثر من الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم. ثم تركني ومضى.عابد آخرقال بعض السلف: مضيت إلى جبل اللكام فما رأيت أعبد من شاب أصفر اللون، كان يصف قدميه فيصلي ركعتين من أول الليل إلى آخره فيختم فيها القرآن ثم يجلس فيعتذر إلى الصباح.ومن عقلاء المجانين بجبل لبنانشيبان المصاب

(2/38)

قال سالم: بينا أنا سائر مع ذي النون في جبل لبنان إذا قال لي: مكانك يا سالم حتى أعود إليك. فغاب عني في الجبل ثلاثة أيام وأنا أنتظره، إذا هاجت علي النفس أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران، فلما كان بعد الثالث رجع إلي متغير اللون ذاهب العقل، فقلت له بعد أن رجعت إليه نفسه: يا أبا الفيض أسبع عارضك? فقال: لا. دعني من تخويف البشرية، إني دخلت كهفا من كهوف هذا الجبل فرأيت رجلا أبيض الرأس واللحية أشعث أغبر نحيفا نحيلا كأنما أخرج من قبره، ذا منظر مهول وهو يصلي، فسلمت عليه بعد ما سلم. فرد علي السلام وقام إلى الصلاة فما زال راكعا وساجدا حتى صلى العصر واستند إلى حجر حذاء المحراب يسبح، لا يكلمني. فبدأته بالكلام فقلت له: رحمك الله توصيني بشيء، ادع الله عز وجل لي بدعوة? فقال: يا بني آنسك الله تعالى بقربه. ثم سكت. فقلت: زدني. فقال: يا بني من آنسه الله بقربه أعطاه أربع خصال: عزا من غير عشيرة، وعلما من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنسا من غير جماعة.ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت، فلما كان بعد ثلاثة أيام قام فتوضأ من عين ماء إلى جنب الكهف وقال لي: يا بني كم فاتني من الفرائض? صلاة أو صلاتان أو ثلاث?قلت: قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن فقال:إن ذكر الحبيب هيج شوقي ثم حب الحبيب أذهب عقليوقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين، وقد أنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام. فقلت له: يرحمك الله وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة. وبكيت فقال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلا، فالمحبون لله تعالى هم تيجان العباد وعلم الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه.

(2/39)

ثم صرخ صرخة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا. فما كان إلا هنية وإذا بجماعة من العباد منحدرين من الجبل حتى واروه تحت التراب. فسألت: ما اسم هذا الشيخ? قالوا: شيبان المصاب. قال سالم: فسألت أهل الشام عنه فقالوا: كان مجنونا خرج من أذى الصبيان. قلت: تعرفون من كلامه شيئا? قالوا: نعم، كلمة واحدة كان يغني بها إذا ضجر: إذا بك لم أجن يا حبيبي فبمن? قال سالم: فقلت عمي والله عليكم.ومن عابدات جبال بيت المقدسمحمد المبارك الصوري قال: بينما أنا أجول في بعض جبال بيت المقدس إذا أنا بشخص منحدر من جبل، فإذا هي امرأة عليها مدرعة من صوف وخمار من صوف. فسلمت فردت فقالت: يا هذا من أين أقبلت? فقلت: رجل غريب. قالت: يا سبحان الله، وهل تجد مع سيدك وحشة الغربة وهو مؤنس الغرباء ومحدث الفقراء? فبكيت، فقالت: مم بكاؤك، ما أسرع ما وجدت طعم الدواء? فقلت: أو لا يبكي العليل إذا وجد طعم العافية? قالت: لا. قلت: لم? قالت: لأنه ما خدم القلب خادم هو أحب إليه من البكاء، ولا خدم البكاء خادم هو أحب إليه من الشهيق والزفير في البكاء. قلت: علميني رحمك الله فإني أراك حكيمة. فأنشأت تقول:دنياك غرارة فذرها فإنها مركب جموحدون بلوغ الجهول منها منيته، نفسه تطيحلا تركب الشر واجتنبه فإنه فاحش قبيحوالخير فاقدم عليه ترشد فإنه واسع فسيحفقلت: زيديني. فقالت: أحبب ربك شوقا إلى لقائه، فإن له يوما يتجلى فيه لأوليائه.زهراء الوالهة

(2/40)

قال ذو النون: بينا أنا في بعض أودية بيت المقدس إذ سمعت صوتا يقول: يا ذا الأيادي التي لا تحصى، ويا ذا الجود والبقاء متع بصر قلبي من الجولان في بساتين جبروتك، واجعل همتي متصلة بجود لطفك يا لطيف، وأعذني من مسالك المتحيرين بجلال بهائك يا رؤوف، واجعلني لك في جميع الحالات خادما وطالبا، وكن لي يا منور قلبي وغاية طلبي في الفضل صاحبا. قال ذا النون: فطلبت الصوت حتى ظهر لي، فإذا امرأة كأنها العود المحترق، وعليها درع من الصوف، وخمار من الشعر أسود قد أضناها الجهد وأفناها الكمد وذوبها الحب، وقتلها الوجد. فقلت لها: السلام عليك. فقالت: وعليك السلام يا ذا النون فقلت: لا إله إلا الله كيف عرفت اسمي ولم تريني? قالت: كشف عن سري الحبيب فرفع عن قلبي حجاب العمى فعرفني اسمك. فقلت: ارجعي إلى مناجاتك. فقالت: أسألك يا ذا البهاء أن تصرف عني شر ما أجد فقد استوحشت من الحياة. ثم خرت ميتة. فبقيت متحيرا متفكرا. فأقبلت عجوز كالوالهة فنظرت إليها ثم قالت: الحمد لله الذي كرمها. قلت: من هذه? فقالت: ألم تسمع بزهراء الوالهة? هذه ابنتي توهم الناس منذ عشرين سنة أنها مجنونة وإنما قتلها الشوق إلى ربها.من عباد جبل الأقرعقال بشر بن الحارث: كنت مارا في جبال الشام فأتيت على رجل يقال له الأقرع، فإذا أنا بشاب قد نحل جسمه ورق جلده، وعليه ثوب من صوف، فسلمت عليه فرد علي. فقلت في نفسي: أقول له عظني وأبلغ. فقال لي قبل أن أكلمه فأجاب عن سري: عظ نفسك بنفسك، وفك نفسك من حبسك، ولا تشتغل بموعظة غيرك من جنسك، واذكر الله في الخلوات يقك السيئات، وعليك بالجد والاجتهاد. ثم بكى وجعل يقول:شغلت النفوس بالقليل الفاني ونحبت الأبدان بالتسويف والأماني. ثم قال إن لله عبادا خالط قلوبهم الحزن، فأسهر ليلهم وأظمأ نهارهم، وأبكى عيونهم، كما وصفهم ربهم في كتابه كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون سورة الذاريات آية 17 و18.

(2/41)

ذكر المصطفين من عباد جبال الشام المجهولة الأسماءحميد بن جابر، الأمير الشاميقال إبراهيم بن بشار: كنت يوما مارا مع إبراهيم بن أدهم في صحراء إذ أتينا على قبر مسنم فترحم عليه وبكى، فقلت: من هذا? فقال: هذا قبر حميد بن جابر أمير هذه المدن كلها، كان غرقا في بحار الدنيا ثم أخرجه الله عز وجل منها فاستنقذه. لقد بلغني أنه سر ذات يوم بشيء من ملاهي ملكه ودنياه وغروره وفتنته. قال: ثم نام في مجلسه ذلك مع من يخصه من أهله. قال: فرأى رجلا واقفا على سريره وبيده كتاب فناوله ففتحه فإذا فيه كتاب بالذهب مكتوب: لا تؤثرن فانيا على باق، ولا تغترن بملكك وقدرتك وسلطانك وخدمك وعبيدك ولذاتك وشهواتك، فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم، وهو ملك لولا أن بعده هلك وهو فرح وسرور لولا أنه لهو وغرور، وهو يوم لو كان يوثق له بغد، فسارع إلى أمر الله عز وجل فإن الله قال: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين سورة آل عمران آية 133. قال: فانتبه فزعا وقال: هذا تنبيه من الله عز وجل وموعظة. فخرج من ملكه لا يعلم به، وقصد هذا الجبل فتعبد فيه. فلما بلغتني قصته وحدثت بأمره قصدته فسألته فحدثني ببدو أمره وحدثته ببدو أمري، فما زلت أقصده حتى مات ودفن ههنا.عابد آخر

(2/42)

قال بشر بن الحارث: استقبلني رجل في طريق الشام وعليه عباءة قد عقدها مستوفزا كأنه وحشي. فقلت له: رحمك الله من أين جئت? قال لي: جئت من عنده. فقلت: وإلى أين تذهب? فقال: غليه فقلت له: ففيم النجاة رحمك الله? قال: في التقوى والمراقبة لمن أنت له مبتغ، قلت: فأوصني. قال: لا أراك تقبل. قلت: أرجو أن أقبل إن شاء الله. قال: فر منهم ولا تأنس بهم واستوحش من الدنيا فإنها تعرضك للعطب. ثم قال: من عرف الدنيا لم يطمئن إليها ومن أبصر ضررها أعد لها دواءها، ومن عرف الآخرة ألح في طلبها، ومن توهمها اشتاق إلى ما فيها فهان عليه العمل. ثم قال: فكيف لو توهمت من يملكها ومن زخرفها ومن قال لها: فكانت وتزيني فتزينت? والتشوق إلى مالكها أولى بقلوب المشتاقين، وأطيب لعيش المستأنسين.ثم قال: قد أنسوا بربهم فالأمر فيما بينهم سليم، صافوه بالعقول، ودققوا له الفطن، فسقاهم من كأس حبه شربة فظلوا في عطشهم أروياء، وفي ربهم عطاشا.

(2/43)

ثم قال: يا هذا أتفهم ما أقول وإلا فلا تتبعني? قلت: بلى رحمك الله إني أفهم جميع ما قلت. قال: الحمد لله الذي فهمك. قال: ورأيت في وجهه السرور ثم قال: خذ إليك نعم هم الذين لا يملون كاساته من تحفه، فالحكمة إلى قلوبهم سائلة متواصلة، لأنهم الأكياس الذين لم تدنسهم المطامع ولم تقطعهم عن الله عز وجل القواطع، ليوث في تعززهم، أغنياء في توكلهم، أقوياء في تقلبهم، قد قطعتهم الخشية وولهتهم الغربة، نعيمهم اليقين، وروحهم السكون، ألين الخلق عريكة وأشده حياء، وأشرفه مطلبا. لا يركنون إلى الدنيا جزعا. ولا يتطاولون ولا يتماوتون، فهم صفوة الله عز وجل من خلقه، وضائن من خالص عباده. ثم قال لي أن القلوب الحية من دون هذا لها مقنع. نفعنا الله وإياك بما علمنا وسلمنا وإياك بما علمنا، السلام عليك ورحمة الله. قال بشر: فطلبت إليه فأبى علي وقال: لست أنساك فلا تنسني. ثم مضى وتركني. قال بشر: فلقيت عيسى بن يونس فحدثته بقصته فقال لي: لقد أنس بك ذلك الرجل الصالح، إنه رجل من خيار الناس يأوي في الجبل وإنما يدخل إلى المدينة في كل جمعة لصلاة الجمعة ويبيع في ذلك اليوم حطبا يكفيه إلى الجمعة الأخرى، وعجبا له كيف كلمك? لقد حفظت عنه كلاما حسنا.عابد آخر

(2/44)

قال سري: بينا نحن نسير في بلاد الشام ملنا عن الطريق ناحية جبل عليه عابد، فقال رجل من القوم: إنا قد ملنا عن الطريق، وها هنا عابد فميلوا بنا إليه نسأله، لعل الله عز وجل يوفقه يكلمنا. فملنا إليه فوجدناه يبكي. قال سري: فقلت له ما أبكى العابد? قال: ما لي لا أبكي? وقد توعرت الطرق وقل السالكون فيها، وهجرت الأعمال وقل الراغبون فيها، وقل الحق ودرس هذا الأمر فلا أراه إلا في لسان كل بطال ينطق بالحكمة، ويفارق الأعمال، قد افترش الرخصة وتمهد التأويل، واعتل بزلل العاصين ثم صاح صيحة وقال: كيف سكنت قلوبهم إلى روح الدنيا، وانقطعت عن روح ملكوت السماء? ثم جعل يقول: واغماه من فتنة العلماء، واكرباه من حيرة الأدلاء. وجال جولة ثم قال: أين الأبرار من العلماء? بل أين الأخيار من الزهاد? ثم بكى وقال: شغلهم والله ذكر طول الوقوف،وهم الجواب عن ذكر الجنة والنار والثواب. ثم قال: أنا أستغفر الله من شهوة الكلام. تنحوا عني. فخليناه يبكي وقد ملئنا منه غما وهما.عابد آخرقال ذو النون: بينا أنا سائر بين جبال الشام إذا بشيخ على تلعة من الأرض قد تساقطت حاجباه على عينيه كبرا. فتقدمت إليه فسلمت عليه فرد علي السلام ثم جعل يقول: يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريبا، ويا من قصده الزاهدون فوجدوه حبيبا، ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه مجيباعابد آخرقال ذو النون: بينا أنا أسير في بلاد الشام فإذا أنا بعابد قد خرج من بعض الكهوف فلما نظر إلي استتر بين تلك الأشجار. ثم قال: أعوذ بك سيدي ممن يشغلني عنك، يا حبيب التوابين، ومعين الصادقين، وغاية أمل المحبين، ثم صاح: واغماه من طول البكاء وطول الحزن واكرباه من طول المكث في الدنيا. ثم قال: سبحان من أذاق قلوب العارفين به حلاوة الانقطاع إليه، فلا شيء ألذ عندهم من ذكره والخلوة بمناجاته. ثم مضى ... 0

(2/45)

ومن عابدات جبال الشام قال ذو النون: كنت سائرا في بعض جبال الشام فإذا أنا بكوخ فقصدته فإذا أنا بعجوز قد عميت من البكاء. فدنوت منها فسلمت وقلت: يا عجوز حدثيني ما الغنى? قالت: الزهد في الدنيا. قلت: فما الزهد في الدنيا? قالت ترك طلب المفقود حتى يفقد الموجود.ذكر المصطفين من عباد جبال غير معروفة المكانعابد في جبلأن عابدا كان يتعبد في جبل، يؤتى بقوته كل يوم قرصين. قال سفيان: وقال غير مسعر: كان يأتيه طير أبيض. قال فأتاه ذات يوم بقوته فجاءه سائل فأعطاه أحد القرصين. ثم أتاه سائل آخر فكسر القرص الثاني نصفين فأعطاه النصف وبقي النصف لنفسه، ثم قال والله: ما هذا النصف بالذي يغني عن هذا شيئا، ولا هذا النصف بالذي يكفيني، ولأن يشبع واحد خير من أن يجوع اثنان. فسلم القرص كله للسائل وبات طاويا، فأتي في منامه فقيل له: سل. فقال: أسأل المغفرة. فقيل له: هذا شيء قد أعطيته فسل. قال أسأل أن يغاث الناس. قال: وكان عام جدب فأغيثوا.عابد آخر على جبلقال رجل من أهل الشام أنه دخل كهف جبل في ناحية عن طريق الناس. فإذا هو بشيخ مكتوب على وجهه، وإذا هو يقول: إن كنت تطيل جهدي في دار الدنيا وتطيل شقائي في الآخرة فلقد أهملتني وأسقطتني من عينك أيها الكريم، قال: فسلمت فرفع رأسه فإذا دموعه قد بلت الأرض. فقال: ألم تكن الدنيا لكم واسعة وأهلها لكم أناسا? فلما رأيت من عقله ما رأيت قلت له: رحمك الله اعتزلت الناس واغتربت في هذا الموضع? فقال: وأنت يا أخي، فحيثما ظننت أنه أقرب لك إلى الله عز وجل فابتغ إلى ذلك سبيلا فلن يجد مبتغوه من غيره عوضا. قال: قلت: فالمطعم? قال: أقل ذلك عند الحاجة إليه إذا أردنا ذلك: فنبت الأرض وقلوب الشجر. قال: فقلت: ألا أخرجك من هذا الموضع فآتي بك أرض الريف والخصب? قال: فبكى ثم قال: إنما الريف والخصب حيث يطاع الله عز وجل، وأنا شيخ كبير أموت الآن، لا حاجة لي بالناس.عابد آخر في جبل

(2/46)

قال قاسم الجرعن: خرجت حاجا على طريق الشام، فبينا أنا أسير في الليل إذ غلطت الطريق فسمعت صيحة فإذا أنا بجماعة قد مسهم من الغلط مثل الذي مسني، وقد وقفوا على رجل من المتعبدين في جبل وهو يبكي ويقول في بكائه: أترى بكائي نافعي عندك ومنقذ رقبتي من حكمك? أتراك آخذا من نفسي بحقك وموبخها على رؤوس الأشهاد بما ضيعت من أمرك? ثم صاح: آوه لكشف سترك عني، آوه لوقوفي بين يديك يا سيداه، فقال له بعض القوم: إنا غلطنا الطريق. فقال: وأنا أيضا قد غلطت الطريق، فمن لي ولكم بالاستقامة على وجهها? ثم قال: يا دليل الأدلاء دلني ودلهم ولا تحيرني وإياهم.قال: فكشف لنا عن الطريق فسلكناها وتركناه واقفا في صومعته.عابد آخر في جبلعن بعض السلف أنه قال: رأيت في بعض الجبال شابا أصفر اللون غائر العينين، مرتعش الأعضاء، لا يستقر على الأرض، كأن به وخز الأسنة، ودموعه تتحادر. فقلت له: من أنت? فقال: آبق من مولاه. قلت: فتعود وتعتذر. فقال: العذر يحتاج إلى إقامة حجة فكيف يعتذر المقصر? فقلت: تتعلق بمن يشفع فيك. فقال: كل الشفعاء يخافون منه? قلت: فمن هو قال: مولاي رباني صغيرا فعصيته كبيرا، شرط لي فوفاني، وضمن لي فأعطاني، فخنته في ضماني، وعصيته وهو يراني، فواحيائي من حسن صنعه وقبيح فعلي. فقلت: أين هذا المولى? فقال: أين توجهت لقيت أعوانه، وأيت استقرت ف قدمك ففي داره. فقلت: ارفق بنفسك فربما أحرقك هذا الخوف. فقال: الحريق بنار خوفه - لعله يرضى - أحق وأولى. ثم أنشأ يقول:لم يبق خوفك لي دمعا ولا جلدا لا شك أني بهذا ميت كمداعبد كئيب أتى بالعجز معترفا وناره تحرق الأحشاء والكبداضاقت مساكنه في الأرض من وجل فهب لي منك لطفا إن لقيت غدا

(2/47)

فقلت: يا غلام، الأمر أسهل مما تظن. فقال: هذا من فتنة البطالين، هبه تجاوز وعفا، أين آثار الإخلاص والصفاء? ثم صاح صيحة، فخرجت عجوز من كهف الجبل، عليها ثياب رثة. فقالت: من أعان على البائس الحيران? فقلت: يا أمة الله دعوته إلى الرجاء? فقالت: قد دعوته إلى ذلك فقال: الرجاء بلا صفاء شرك. قلت: من أنت منه? قالت: والدته. فقلت: أقيم عندك أعينك عليه? فقالت: خله ذليلا بين يدي قاتله عساه يراه بعين معين فيرحمه. فلم أدر مما ذا أعجب? من صدق الغلام في خوفه أو من قول العجوز وصدقها.ذكر المصطفين من عباد الجزائرقال ا بن أبي نوح: لقيت رجلا من العباد في بعض الجزائر منفردا فقلت: يا أخي ما تصنع ها هنا وحدك? أما تستوحش? قال: الوحشة في غير هذا الموضع أعم. قلت: مذ كم أنت ها هنا? قال: منذ ثلاثون سنة. قلت: فمن أين المطعم? قال: من عند المنعم. قلت: فها هنا في القرب منك شيء تعول عليه إذا احتجت إليه من المطعم رجعت إليه. قال: ما أكرثك بما قد كفيته وضمن لك. قلت: أخبرني بأمرك. قال: ما لي أمر غير ما ترى، غير أني أظل في هذا الليل والنهار متكلا على كرم من لا تأخذه سنة ولا نوم.قال: ثم صاح صيحة أفزعني فوثبت وسقط مغشيا عليه. فتركته على تلك الحال ومضيت.

(2/48)

عابد آخر قال عبد الواحد بن زيد: ركبنا في مركب فطرحتنا الريح إلى جزيرة، فإذا فيها رجل يعبد صنما، فقلنا له: من تعبد? فأومأ إلى الصنم. فقلنا: إن معنا في المركب من يسوي مثل هذا. ليس هذا بإله يعبد. قال: فأنتم لمن تعبدون? قلنا: الله عز وجل قال: وما الله? قلنا: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه فقال: كيف علمتم به? قلنا: وجه هذا الملك إلينا رسولا كريما فأخبرنا بذلك. قال: فما فعل الرسول? قلنا: لما أدى الرسالة قبضه الله. قال: فما ترك عندكم علامة? قلنا: بلى ترك عندنا كتاب الملك. قال: أروني كتاب الملك، فينبغي أن تكون كتب الملوك حسانا. فأتيناه بالمصحف فقال: ما أعرف هذا. فقرأنا عليه سورة من القرآن فلم نزل نقرأ ويبكي حتى ختمنا السورة. فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى. ثم أسلم وحملناه معنا وعلمناه شرائع الإسلام وسورا من القرآن. فلما جن علينا الليل وصلينا العشاء أخذنا مضاجعنا. فقال لنا: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا جن عليه الليل ينام? قلنا: لا يا عبد الله، هو عظيم قيوم لا ينام. قال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام. فأعجبنا كلامه. فلما قدمنا عبادان قلت لأصحابي: هذا قريب عهد بالإسلام فجمعنا له دراهم وأعطيناه فقال: ما هذه? قلنا: تنفقها، قال لا إله إلا الله، دللتموني على طريق ما سلكتموها، أنا كنت في جزائر البحر أعبد صنما من دونه ولم يضيعني - يضيعني وأنا أعرفه. فلما كان بعد أيام قيل لي: إنه في الموت. فأتيته فقلت: هل من حاجة? فقال: قضى حوائجي من جاء بكم إلى جزيرتي. قال عبد الواحد: فحملتني عيني فنمت عنده. فرأيت مقابر عبادان روضة وفيها قبة وفي القبة سرير عليه جارية لم نر أحسن منها. فقالت: سألتك بالله إلا ما عجلت به فقد اشتد شوقي إليه، فانتبهت فإذا به قد فارق الدنيا فغسلته وكفنته وواريته. فلما جن الليل نمت فرأيته في القبة مع الجارية وهو يقرأ

(2/49)

والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار سورة الرعد آية 23 و24.ذكر المصطفين من عباد السواحل عابد بسيرافقال سعيد الوراق: بينا أنا ذات ليلة مع رجل من العابدين على الساحل بسيراف فأخذ في البكاء، فلم يزل يبكي حتى خفنا طلوع الفجر، ولم يتكلم بشيء. ثم قال: جرمي عظيم، وعفوك كثير، فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم. قال: فتصارخ الناس من كل ناحية.عابد آخرقال رجل ببلاد الشام في بعض تلك السواحل: لو بكى العابدون على الإشفاق حتى لم يبق في أجسادهم جارحة إلا أدت ما فيها من الدم والودك دموعا جارية، وبقيت الأبدان يبسا خالية تتردد فيها الأرواح إشفاقا ووجلا من يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. لكانوا محقوقين بذلك. ثم غشي عليه.عابد آخرقال بعض المتعبدين بساحل بحرالشام: إن لله تعالى عبادا عرفوه بيقين من معرفته فشمروا وقصدوا إليه احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب، صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوما ذبلا شفاههم، خمصا بطونهم، حزينة قلوبهم، ناحلة أجسامهم، باكية أعينهم، لم يصحبهم التعليل والتسويف وقنعوا من الدنيا بقوات طفيف، لبسوا من اللباس أطمارا بالية، وسكنوا من البلاد قفرا خالية، وهربوا من الأوطان، واستبدلوا الوحدة من الأخدان، فلو رأيتهم لرأيت قوما قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمصا لطول السرى، شعثا لفقد الكرى، قد وصلوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والارتحال.عابد آخر

(2/50)

محمد بن إبراهيم الأخرم قال: خرجت من مصر وأنا على ساحل البحر، فرأيت امرأة خرجت من برية. فقلت: إلى أين يا أمة الله? قالت: إلى صومعة ها هنا لي فيها ابن، فمشيت معها فسمعت صوتا من صومعة يقول:ومشتاق وليس له قرار نفور ليس يملكه العذارومؤنس قلبه ليل طويل يلذ به ويوحشه النهارقضى وطرا به فأفاد علما فنهمته التعبد والفرارألا صبرا على دنياك صبرا فكل أمورها فيها اعتبارفقلت لها: منذ كم صار ابنك ها هنا? قالت: منذ وهبته منه وقبله مني.ذكر المصطفيات من عابدات السواحلعابدةقال ذو النون بينا أنا أسير على ساحل البحر إذ بصرت بجارية عليها أطمار شعر وإذا هي ذابلة ناحلة، فدنوت منها لأسمع ما تقول، فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان، وعصفت الرياح فاضطربت المواج فصرخت، ثم سقطت إلى الأرض فلما أفاقت نحبت ثم قالت: يا سيدي بك تفرد المتفردون في الخلوات، ولعظمتك سبحت النينان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك اصطفقت الأمواج المتلاطمات، أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، وكل شيء عندك بمقدار.يا مؤنس الأبرار في خلوتهم يا خير من حطت به النزالفقلت: زيدينا من هذا. فقالت: إليك عني، ثم رفعت طرفها نحو السماء وقالت:أحبك حبين حب الوداد وحب لأنك أهل لذاكافأما الذي هو حب الوداد فحب شغلت به عن سواكاوأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكافما الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكاثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا. فبقيت أتعجب مما رأيت منها فإذا أنا بنسوة قد أقبلن عليهن مدارع الشعر فاحتملنها فغيبنها عني فغسلنها ثم أقبلن بها في أكفانها فقلن لي: تقدم فصل عليها. فتقدمت فصليت عليها وهن خلفي ثم احتملنها ومضين.ذكر المصطفين من عباد البوادي والفلواتشيبان الراعي

(2/51)

كان شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا ربه فجاءت سحابة فأظلته فاغتسل منها. وكان يذهب إلى الجمعة فيخط على غنمه فيجيء فيجدها على حالتها لم تتحرك.لما حج هارون الرشيد قيل له: يا أمير المؤمنين قد حج شيبان العام. قال: اطلبوه لي، فطلبوه فأتوه به فقال له: يا شيبان عظني? قال: يا أمير المؤمنين أنا رجل ألكن لا أفصح بالعربية فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه، فأتي برجل يفهم كلامه فقال له بالنبطية: قل له: يا أمير المؤمنين إن الذي يخوفك قبل أن تبلغ المأمن أنصح لك من الذي يؤمنك قبل أن تبلغ الخوف.فقال: قل له: أي شيء تفسير هذا? قال: قل له: الذي يقول لك: يا هذا اتق الله عز وجل فإنك رجل من هذه الأمة، استرعاك الله عليها وقلدك أمورها وأنت مسئول عنها فاعدل في الرعية واقسم بالسوية، وانفر في السرية، واتق الله في نفسك، هذا الذي يخوفك فإذا بلغت المأمن أمنت، هو أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم وفي شفاعته، فلا يزال يؤمنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت.قال: فبكى هارون حتى رحمه من حوله. ثم قال: زدني. قال: حسبك. ثم خرج.عبد الله بن عبد الرحمن قال: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي فعرض لهم سبع، فقال له سفيان الثوري: أما ترى هذا السبع? قال: فقال: لا تخف. قال: فلما سمع السبع كلام شيبان بصبص، فأخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه.قال سفيان: ما هذه الشهرة? قال: أو هذه شهرة? لولا مكان الشهرة ما وضعت زادي إلا على ظهره.قال سيار: قرأ رجل على شيبان الراعي: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سورة الزلزلة آية 7 و8 قال: فذهب على وجهه فلم ير سنة. فلما كان بعد الحول لقيه رجل فقال له: من أين? فقال: من ذلك الحساب الدقيق فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .

(2/52)

عابد حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعا بالغداء فقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي وأسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل فإذا هو بأعرابي بين شملتين من شعر، نائم. فضربه برجله وقال: إيت الأمير. فأتاه فقال له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته. قال: ومن هو? قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصوم فصمت. قال: في هذا الحر الشديد? قال: نعم صمت ليوم أشد حرا من هذا اليوم. فقال: فأفطر وصم غدا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذاك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه? قال: إنه طعام طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.عابد آخر نزل روح بن زنباع منزلا بين مكة والمدينة في حر شديد. فانقض عليه راع من جبل. فقال: يا راعي هلم إلى الغداء. قال: إني صائم. قال: وإنك لتصوم في هذا الحر الشديد? قال: أفأدع أيامي تذهب باطلا? قال روح: لقد ضنت بأيامك يا راع إذ جاد بها روح بن زنباع.عابد آخر قال عبد الله بن عبيد بن عمير: خرجت مع أبي فكنا في أرض فلاة. فرفع لنا سواد فظنناه شجرة. فلما دنونا إذا رجل قائم يصلي، فانتظرناه لينصرف فيرشدنا إلى القرية التي نريد، فلما لم ينصرف قال له أبي: إنا نريد قرية كذا وكذا فأوم لنا قبلها بيدك. قال ففعل. قال: فإذا له حوض محوض يابس ليس فيه ماء وإذا قربه يابسة. فقال له أبي: إنا نراك بأرض فلاة وليس عندك ماء، أفنجعل في قربتك من هذا الماء الذي عندنا? فأومأ أن لا، فلم نبرح حتى جاءت سحابة فمطرت فامتلأ حوضه ذلك. فلما أن دخلنا القرية ذكرناه لهم فقالوا: نعم ذاك فلان لا يكون في موضع إلا سقي. قال: فقال أبي: كم من عبد لله عز وجل صالح لا نعرفه.

(2/53)

عابد آخر قال شبيب بن شيبة: كنا بطريق مكة وبين أيدينا سفرة لنا نتغدى في يوم قائظ، فوقف علينا أعرابي ومعه جارية له زنجية. فقال: يا قوم أفيكم أحد يقرأ كلام الله عز وجل حتى يكتب لنا كتابا? قال: قلت له: أصب من غدائنا حتى نكتب حتى نكتب لك ما تريد. قال: إني صائم. فعجبنا من صومه في البرية، فلما فرغنا من غدائنا دعونا به فقلنا: ما تريد? فقال: أيها الرجل إن الدنيا قد كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها. وإني أردت أن أعتق جاريتي هذه لوجه الله عز وجل ثم ليوم العقبة، تدري ما يوم العقبة? قول الله تعالى فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة سورة البلد الآيات 11 - 13اكتب ما أقول لك، ولا تزيدن علي حرفا: هذه فلانة خادم فلان قد أعتقها لوجه الله عز وجل ليوم العقبة. قال شبيب: فقدمت البصرة وأتيت بغداد فحدثت بهذا الحديث المهدي فقال: مائة نسمة تعتق على عهد الأعرابي.عابد آخرقال بهيم العجلي: ركب معنا شاب من بني مرة من أهل البدو في البحر، فجعل يبكي الليل والنهار. فعاتبه أهل المركب على ذلك وقالوا: إرفق بنفسك قليلا. فقال: إن أقل ما ينبغي أن يكون لنفسي عندي أن أبكيها وأبكي عليها أيام الدنيا لعلمي بما يمر عليها غدا. قال: فما بقي في المركب أحد إلا بكى.عابد آخر من بني تيم الله.كان في بني تيم الله شيخ متعبد يجتمع إليه فتيان الحي ونساكهم قال: فيذكرهم، فإذا أرادوا أن يتفرقوا قال: يا إخوتاه قوموا قيام قوم قد يئسوا من المعاودة لمجلسهم خوفا من خطفات الموكل بالنفوس. قال: فيبكي والله ...عابد آخر

(2/54)

قال الأصمعي: كنت بالبادية أعلم القرآن فإذا أنا بأعرابي بيده سيف يقطع الطريق، لما دنا مني ليأخذ ثيابي قال لي: يا حضري، ما أدخلك البدو? قلت: أعلم القرآن، قال: وما القرآن? قلت: كلام الله. قال: ولله كلام? قلت: نعم. قال: فأنشدني منه بيتا فقلت: وفي السماء رزقكم وما توعدون سورة الذاريات آية 22 قال: فرمى بالسيف من يده وقال: أستغفر الله، رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، ثم لقيته بعد سنة في الطواف فقال: ألست صاحبك بالأمس? قلت: بلى. قال: فأنشدني بيتا آخر فقلت: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون قال: فوقف وبكى وجعل يقول: ومن ألجأه إلى اليمين? فلم يزل يرددها حتى سقط ميتا.عابد آخرقال الأصمعي: قال أعرابي إني لبمضلة من الأرض إذ بصرت بأعرابي قد افترس الأسد ابنه ونفر به بعيره فدق فخذه وذلك بعد أن نازل الأسد فجد له فسمعته يقول: لله درك من مصيبة جللت فلطفت وكبرت فصغرت، لئن كنت أحللت قلبي ترحا لقد أورثتني فرحا، وكيف لا تكونين كذلك وقد زوي بك عني عظيم وقد أورثتني صبرا جسيما? فقلت: الله يا أعرابي ما رأيت أربط منك جأشا ولا أصعب منك مراسا. فقال: يا هذا إن الصبر والجزع ضدان أحدهما بصيرة بنجدة والآخر تهور بغرة، وليس بحزم تتبع ما فات تطلبه وعزت أوبته.ثم أنشأ يقول: وكذا أشتهي لحادث ريب الد هر إذ كان أن يكون عظيماعابد آخر

(2/55)

عبد الرحمن بن أبي نوح قال: ذكر لي عن رجل من العرب فهم وخير، فقصدت له في بعض البوادي حتى أصبته يسنو على بعير له. فقلت: قل لي كلاما أحفظه عنك يرحمك الله. قال: لا تطلق لسانك فإن الفعل أولى بك من القول. قلت: رحمك الله إن دليل العمل القول ومفتاحه المعرفة. فأعجب بقولي. ثم أقبل علي فقال: يا أخي إن الشفقة لم تزل بالمؤمن حتى أوفدته على خير حال، وإن الغفلة لم تزل بالفاجر حتى أسلمته إلى شر حال، وما خير عمر امرئ لا يدري ما عاقبة أمره، وما خير عيش لا يكمل ما حفظ منه، ولئن كانت الرغبة في الدنيا هي المستولية على قلوبنا كما استولت على أبداننا لقد خبنا غدا في القيامة وخسرنا.عابد آخر حجازيقال المغازلي: دخلت على رجل مبتلى بالحجاز فقلت: كيف تجدك? قال: أجد عافيته أكثر مما ابتلاني به، وأجد نعمه علي أكثر من أن أحصيها. قلت: أتجد لما أنت فيه ألما شديدا? فبكى ثم قال: سلي نفسي ألم ما بي: ما وعد عليه سيدي أهل الصبر من كمال الأجور في شدة يوم عسير. قال: ثم غشي عليه. فمكث مليا ثم أفاق فقال: إني لأحسب أن لأهل الصبر غدا في القيامة مقاما شريفا لا يتقدمه من ثواب الأعمال شيء، إلا ما كان من الرضا0ذكر المصطفيات من عابدات العرب وأهل الباديةخنساء بنت عمرو النخعيةلما اجتمع الناس بالقادسية دعت خنساء بنت عمرو النخعية بنيها الأربعة فقالت: يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم والله ما نبت بكم الدار ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم؛ ولا غيرت نسبكم ولا أوطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم فإذا كان غدا إن شاء الله، فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين الله، مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب قد أبدت ساقها وقد ضربت رواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا خميسها، تظفروا بالمغنم والسلامة، والفوز والكرامة في دار الخلد والمقامة.

(2/56)

فانصرف الفتية من عندها وهم لأمرها طائعون، وبنصحها عارفون فلما لقوا العدو شد أولهم وهو يقول:يا إخوتا إن العجوز الناصحة قد أشربتنا إذ دعتنا البارحةنصيحة ذات بيان واضحة فباكروا الحرب الضروس الكالحةفإنما تلقون عند الصائحة من آل ساسان كلابا نابحةقد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحة أو ميتة تورث غنما رابحةثم شد الذي يليه وهو يقول:والله لا نعصي العجوز حرفا قد أمرتنا حدبا وعطفامنها وبرا صادقا ولطفا فباكروا الحرب الضروس زحفاحتى تكفوا آل كسر كفا وتكشفوهم عن حماكم كشفاإنا نرى التقصير عنهم ضعفا والقتل فيهم نجدة وعرفا ثم شد الذي يليه وهو يقول:لست لخنساء ولا للأخزم ولا لعمرو ذي السناء الأقدمإن لم تزر في آل جمع الأعجم جمع أبي ساسان جمع رستمبكل محمود اللقاء ضيغم ماض على الهول خضم خضرمإما لقهر عاجل أو مغنم أو لحياة في السبيل الأكرم نفوز فيها بالنصيب الأعظمثم شد الذي يليه وهو يقول:إن العجوز ذات حزم وجلد والنظر الأوفق والرأي السددقد أمرتنا بالصواب والرشد نصيحة غنها وبرا بالولدفباكروا الحرب نماء في العدد إما لقهر واحتياز للبلدأو ميتة تورث خلدا للأبد في جنة الفردوس في عيش رغدفقاتلوا جميعا حتى فتح الله عز وجل للمسلمين، وكانوا يعطون ألفين يجيئون بها فيصبونها في حجرها فتقسم ذلك بينهم حفنة حفنة، فما يغادر واحد من عطائه درهما.منفوسة بنت زيد الفوارسقال رجل من بني ثعل: كنت ببعض نواحي نجد فرفعت لي فيه قبة من أدم فقصدتها فإذا أصوات نساء معولات، فدنوت منهن وسألتهن عن شأنهن? فقلن: منفوسة بنت زيد الفوارس أصيبت بابنها، وإذا هو في حجرها وهي تقول: والله لتقدمك أمامي أحب إلي من تأخرك ورائي، ولصبري عنك أجدى من جزعي عليك، وما حظ مصيبة تحل من التلف محلك، وتورث من العطب مثل مضجعك، ولئن كان فراقك حسرة إن توقع أجرك لخيرة.ثم قالت: لله در عمرو بن معدي كرب حيث يقول:

(2/57)

وإنا لقوم لا تفيض دموعنا على هالك منا وإن قصم الظهراعاتكة المخزوميةبكت حتى ذهب بصرها. فعوتبت في ذلك وقيل لها: ما بعد ذهاب البصر شيء? فقالت: ما ينبغي للمخوف بالنار أن تجف له دمعة حتى يعرف موقع الأمان من ذلك. فلم تزل على ذلك البكاء حتى ماتت عليه.منيرة السدوسيةكانت عجوز في الحي فكانت تقول إذا جاء الليل: قد جاء الهول، قد جاءت الظلمة، قد جاء الخوف ما أشبه هذا بيوم القيامة. ثم تقوم فلا تزال تصلي حتى تصبح.طلحة العدويةبين يديها زنبيلان أحدهما فيه زبيب ونبق وباقلي، فقيل لي: إنها تسبح به وتأكل منه أحيانا.أم سالم الراسبيةقال رجل من الأزد،: أتيت أم سالم بين الظهر والعصر، فاستأذنت عليها فأذنت لي، فدخلت عليها وإذا هي تصلي قائمة فلم تنفتل من صلاتها ولم تلتفت إلي حتى نودي بصلاة العصر فخرجت فصليت ثم دخلت عليها فقالت: إذا كانت لك حاجة فلا تأتني في هذا الوقت فإن الذي يدع الصلاة في هذا الوقت فإنما يضيع حظ نفسه.أم نهار العدويةعن عتبة بن صالح الهلالي قال: شهدت أعرابية بالجفر، جفر بني عدي، يقال لها أم نهار العدوية واقفة على قبر رجل ونحن ندفنه. فقالت: أيها الناس إنكم من الله عز وجل في نعمة ستر، ومن الناس بمحل تزكية، فإياكم ومصاداة زخاريف الرخاء فإنها ليست من صفة الألباء فأجلوا شماذير الغفلة عن قلوبكم، وتأملوا أهل هذه العرصات الخرس والربوع الصموت وارجعوها صورا بوهمكم: تتنسمون روح الحياة فنادوهم يسمعوا واسألوهم يخبروا. فاحيوا بموتهم وتيقظوا لغفلاتهم وخذوا خوفكم من أمنهم، وحذركم من غرورهم، وانظروا بهم إلى أثر البلى في أجسامكم، والخراب في مساكنكم، وكيف حكم فيهم التراب إذ ولي الحكم فيهم، فأبدلهم بالنطق خرسا وبالسمع صمما وبالحركات سكونا. رحم الله امرءا أبصر فتدبر، واتعظ فاعتبر، وعمل ليوم الحساب وخشي وقت العقاب. ثم قالت:الموت يفني ولا يبقي على أحد ما أحسب الموت يبقي جدة الأبد

(2/58)

يا موت كم من كريم قد فجعت به من أقربيه ومن أهل ومن ولدثم قالت: تغمدكم الله بالرحمة وبلغ بكم شرف الهمة.عاتكة الغنويةقال ضرار الطفاوي،: لقيتني امرأة من غني عابدة يقال لها عاتكة. فقالت: يا ضرار توسل إلى مولاك بجميع ما يمكنك من الوسائل، فإنك تجد ذلك لك موفرا عند حلول الأمور الجلائل، وانقطع إليه في حوائجك لديه يأت لك عليها على غير تعب منك ولا نصب. واعلم أنه لن ينال المطيعون في الدنيا لذة أحلى في صدورهم من الازدياد لله في طاعته بقربه، ولحلاوة ساعة من مطيع ألذ في قلوب المريدين من جميع ما أخرج إلى الدنيا من زهرة ولذة، ولن يجد المريد? فقد شيء تركه رجاء ثواب الله. فجد أي أخي قبل أن لا يمكنك الجد، وبادر قبل فوات المبادرة فإن الدنيا لا تطيب لعارفها وإنما تورطها أهل الغرة وعما قليل فسوف يعلمون. قال: أمسكت فقامت.عليلة بنت الكميتأبو خالد القرشي قال: استأذنا على عليلة بنت الكميت وكانت من العابدات قال: وذلك وقت الظهر. فقالوا: هي تصلي فلم نزل ننتظرها إلى العصر فلما صلت العصر أذنت لنا، فدخلنا عليها فقلنا: رحمك الله لم نزل عقودا منذ الظهر ننتظرك. قالت: سبحان الله قعودا لم تصلوا بين الظهر والعصر? قلنا لا. قالت: ما ظننت أن أحدا لا يصلي بين الظهر والعصر. قال: وانقبضت عنا انقباضا شديدا.هنيدةقال عامر بن أسلم عن أبيه: كانت لنا جارية في الحي يقال لها هنيدة فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه فتوقظ ولدها وزوجها وخدمها فتقول لهم قوموا فتوضأوا وصلوا فستغتبطون بكلامي هذا، فكان هذا دأبها معهم حتى ماتت. فرأى زوجها في منامه: إن كنت تحب أن تزوجها هناك فاخلفها في أهلها بمثل فعلها، فلم يزل دأب الشيخ حتى مات، فأتى أكبر ولده في منامه فقيل له: إن كنت تحب أن تجاور أبويك في درجتهما من الجنة فاخلفهما في أهلهما بمثل عملهما. قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات. فكانوا يدعون القوامين.

(2/59)

ذكر المصطفيات من عابدات العرب وأهل الباديةالمجهولات الأسماءعابدة من بني عبد القيسكانت عجوز متعبدة. فكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر ستره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء لثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.فكان إذا جاء الليل تحرمت ثم قامت إلى المحراب. وكانت تقول المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، فإذا جاء النهار خرجت إلى القبور. فعوتبت في كثرة إتيانهاالمقابر،فقالت: إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى، وإني لآتي القبور فكأني أنظر وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفرة وإلى تلك الأجسام المتغيرة وإلى تلك الأكفان الدسمة. فيا له من منظر كريه لو أشربه العباد قلوبهم ما أثكل مرارته للأنفس وأشد إتلافه للأبدان.عابدة أخرىامرأة من أهل البادية توصي ابنا لها وأراد سفرا فقالت: يا بني أوصيك بتقوى الله، فإن قليلها أجدى عليك من كثير عقلك وإياك والنمائم فإنها تزرع الضغائن وتفرق بين المحبين، ومثل لنفسك ما تستحسنه من غيرك مثالا ثم اتخذه إماما واعلم أنه من جمع بين الحياء والسخاء فقد استجاد الحلة إزارها ورداءها.عابدة أخرىأن نفرا وردوا على عجوز في بعض البوادي يسألونها بيع شاة. فقالت: ما كنت لأبيع ابن السبيل شيئا، ولكن خذوها على ما عند الله، ثم بكى أبو العباس يعني ابن السماك، وقال: رحمها الله فقهت في بدوها.عابدة أخرى

(2/60)

قال الشيرازي: تهت في بادية العراق أياما كثيرة فلم أجد شيئا أرتفق به، فلما كان بعد أيام رأيت في الفلا خباء شعر مضروبا فقصدته فإذا بيت وعليه ستر مسبل، فسلمت فردت علي عجوز من داخل الخباء وقالت: يا إنسان من أين أقبلت? قلت: من مكة قالت: وأين تريد? قلت: الشام. فقالت: أرى شبح إنسان بطال ألا لزمت زاوية تجلس فيها إلى أن يأتيك اليقين? ثم تنظر هذه الكسرة من أين تأكلها? ثم قالت: تقرأ القرآن? قلت: نعم فقالت: اقرأ علي آخر سورة الفرقان فقرأتها فشهقت وأغمي عليها فلما أفاقت بعد هوي قرأت هي الآيات فأخذت مني قراءتها أخذا شديدا. ثم قالت: يا إنسان اقرأها ثانية فقرأتها فلحقها مثل ما لحقها في الأول، وصبرت أكثر من ذلك ولم تفق، فقلت: أستكشف حالها ماتت أم لا? فتركت البيت على حاله ومشيت أقل من نصف ميل فأشرفت على واد فيه أعراب فأقبل إلي غلامان معهما جارية، فقال أحد الغلامين: يا إنسان أتيت البيت في الفلاة? قلت: نعم، قال: وتقرأ القرآن? قلت: نعم. قال: قتلت العجوز ورب الكعبة. فمشيت مع الغلامين حتى أتينا البيت فدخلت الجارية فكشفت عنها فإذا هي ميتة. فأعجبني خاطر الغلام فقلت للجارية: من هذان الغلامان? فقالت: هذان جعافرة وهذه أختهم منذ ثلاثين سنة ما تستأنس بكلام الناس، إذا نزلنا تواري بيتها في الفلاة .....عابدة أخرىعن هشام قال خرجنا حجاجا فنزلنا منزلا في بعض الطريق فقرأ رجل كان معنا هذه الآية لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم سورة الحجر آية 44 فسمعت امرأة فقالت: أعد رحمك الله. فأعادها. فقالت: خلفت لي في البيت سبعة أعبد أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد منهم.عابدة أخرى قالت امرأة من العرب ذات عقل ودين: سبحانك إلهي، إمهالك المذنبين أطمعهم في حسن عفوك عنهم، سبحانك إلهي، لم يزل قلبي يشهد برضاك لمن نال عفوك، سبحانك إلهي تفضلا منك وامتنانا على خلقك.عابدة أخرى

(2/61)

قال ابن عائشة: نظرت أعرابية إلى فتى حسن الوجه بضه فقالت إني لأرى وجها ما غضنه بدد وضوء السحر.عابدة أخرى قال أعرابي: خرجت في ليلة ظلماء فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها فقالت: ويلك أما لك زاجر من عقل إذ لم يكن لك ناه من دين? فقلت: إيها والله ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها?عابدة أخرىقال رجل: هويت امرأة من الحي فكنت أتبعها إذا خرجت إلى المسجد فعرفت ذلك مني فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة? قلت: نعم. قالت: وما هي? قلت: مودتك قالت: دع ذلك ليوم التغابن قال: فأبكتني والله فما عدت إلى ذلك.عابدة أخرىقال أبان بن تغلب: رأيت أعرابية تمرض ابنا لها وهو لما به. فلما فاظ أغمضته ثم تنحت عن مقعدها عند رأسه ورجعت إلى مجلسها تجاهه فقالت: يا فلان ما حق من ألبس العافية وأسبغت عليه النعمة وأطيلت له النظرة أن يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوبته، والحيال بينه وبين نفسه قال: فأجابها أعرابي: إنا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء فلا يجز عن رجل بمصيبة بعدك ولقد كرم صبرك، وما أشبهت النساء. فأقبلت عليه بوجهها ثم قالت: ما ميز رجل بين الصبر والجزع إلا أصاب بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حاليهما، أما الصبر فحسن العلانية محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوض مع مأثمه، ولو كانا رجلين في صورة، كان أولاهما بالغلبة وحسن الصورة مع كرم الطبيعة في عاجله من الدين وآجله من الثواب، وكفى ما وعد الله عز وجل فيه لمن ألهمه إياه.ذكر المصطفين من العباد الذين لم يعرف لهم مستقر وإنما لقوا في أماكنذكر المصطفين ممن لقي منهم في طريق مكةعابد

(2/62)

قال أبو يوسف صحبت شيخا في بعض طريق مكة فأعجبتني هيئته. فقلت: إني أحب أن أصحبك. قال: أنت وما أحببت. قال: فكان يمشي بالنهار فإذا أمسى أقام في منزل كان أو غيره، قال: فيقوم الليل يصلي، وكان يصوم في شد ذلك الحر فإذا أمسى عمد إلى جريب معه فأخرج منه شيئا فألقاه إلى فيه مرتين أو ثلاثا. وكان يدعوني فيقول هلم فأصب من هذا فأقول في نفسي والله ما هذا بمجزيك أنت، فكيف أشركك فيه? فلم يزل على ذلك ودخلت له في قلبي هيبة عندما رأيت من اجتهاده وصبره. قال: فبينا نحن في بعض المنازل إذ نظر إلى رجل يسوق حمارا فقال لي: انطلق فاشتر ذلك الحمار، فانطلقت وأنا أقول في نفسي: والله ما معي ثمنه ولا أعلم معه ثمنه فكيف أشتريه? قال: فأتيت صاحب الحمار فساومته به فأبى أن ينقصه من ثلاثين دينارا، قال: فجئت إليه وقلت: قد أبى أن ينقصه من ثلاثين دينارا قال خذه. واستخر الله قلت: الثمن? قال: سم الله ثم أدخل يدك في الجراب فخذ الثمن فأعطه. قال: فأخذت الجراب ثم قلت: بسم الله وأدخلت يدي فيه فإذا صرة فيها ثلاثون دينارا لا تزيد ولا تنقص. قال: فدفعتها إلى الرجل وأخذت الحمار وجئت به فقال لي: اركب فقلت له: أنت أضعف مني فاركب أنت. قال فلم يرادني الكلام، وركب فكنت أمشي مع حماره فحيث أدركه الليل أقام. فإنما هو راكع وساجد حتى أتينا عسفان، فلقيه شيخ فسلم عليه ثم خلوا فجعلا يبكيان. فلما أراد أن يتفرقا قال صاحبي للشيخ: أوصني، قال: نعم، ألزم التقوى قلبك وانصب دكر المعاد أمامك. قال: زدني. قال: استقبل الآخرة بالحسنى من عملك، وباشر عوارض الدنيا بالزهد من قلبك، واعلم أن الأكياس هم الذين عرفوا عيب الدنيا حين عمي على أهلها والسلام عليكم ورحمة الله. قال: ثم افترقا فقلت لصاحبي: من هذا الشيخ رحمك الله، فما رأيت أحسن كلاما منه? فقال: عبد من عبيد الله. قال فخرجنا من عسفان حتى أتينا مكة فلما انتهينا إلى الأبطح نزل عن حماره وقال لي: اثبت مكانك

(2/63)

حتى أنظر إلى بيت الله نظرة ثم أعود إليك إن شاء الله. قال: فانطلق وعرض لي رجل فقال: تبيع الحمار? قلت: نعم. قال: بكم? قلت: بثلاثين دينارا. قال: قد أخذته منك. قلت: يا هذا والله ما هو لي وإنما هو لرفيق لي وقد ذهب إلى المسجد ولعله أن يجيء الآن قال: فإني لأكلمه إذ طلع الشيخ فقمت إليه فقلت: إني قد بعت الحمار بثلاثين دينارا. قال أما إنك لو كنت استزدته لزادك إن شاء الله فأما إذا بعت فأوجر. فأخذت من الرجل ثلاثين دينارا ودفعت الحمار إليه وجئت بالدنانير فقلت: ما أصنع بها? قال: هي لك فأنفقها. قلت: لا حاجة لي بها، قال: فألقها في الجراب. قال: فألقيتها في الجراب. قال: فطلبنا منزلا بالأبطح فنزلناه فقال أبغني دواة وقرطاسا. فأتيته بدواة وقرطاس. قال: فكتب كتابين ثم شدهما إلي وقال: انطلق به إلى عباد بن عباد وهو نازل في موضع كذا وكذا فادفعه إليه وأقرئه مني السلام ومن المسلمين. ثم دفع الآخر إلي وقال: ليكن هذا معك فإذا كان يوم النحر فاقرأه إن شاء الله. قال: فأخذت الكتاب فأتيت به عباد بن عباد وهو قاعد يحدث وعنده خلق كثير، فسلمت ثم قلت: رحمك الله، كتاب بعض إخوانك إليك، فأخذ الكتاب فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا عباد فإني أحذرك الفقر يوم يحتاج الناس إلى الذخر، فإن فقر الآخرة لا يسده غنى وإن مصاب الآخرة لا تجبر مصيبته أبدا، وأنا رجل من إخوانك وأنا ميت الساعة إن شاء الله فاحضرني لتليني وتول الصلاة علي وإدخالي حفرتي وأستودعك الله وجميع المسلمين، واقرأ السلام على رسول الله وعليكم جميعا السلام ورحمة الله. قال فلما قرأ عباد الكتاب قال: يا هذا أين هذا الرجل? قلت: بالأبطح. قال: فمريض هو? قلت: لا، تركته الساعة صحيحا قال: فقام وقام الناس معه حتى دخل عليه فإذا هو مستقبل القبلة ميت مسجى، عليه عباءة. فقال لي عباد: وهذا صاحبك? قلت: نعم. تركته الساعة صحيحا? قال: فجلس يبكي عند رأسه ثم أخذ في جهازه

(2/64)

وصلى عليه ودفنه. قال: واحتشد الناس في جنازته، فلما كان يوم النحر قلت: والله لأقرأن الكتاب كما أمرني ففتحته فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: وأنت يا أخي فنفعك الله بمعروفك يوم يحتاج الناس إلى صالح أعمالهم، وجزاك عن صحبتنا خيرا فإنصاحب المعروف تجده لجنبه يوم القيامة مضطجعا وأن حاجتي إليك إذا قضى الله نسكك أن تنطلق إلى بيت المقدس فتدفع ميراثي إلى وارثي والسلام عليك ورحمة الله. قال: فقلت في نفسي كل أمرك رحمك الله عجب وهذا من أعجب أمرك. كيف آتي بيت المقدس ولم تسم لي أحدا ولم تصف لي موضعا، ولا أدري إلى من أدفعه? قال: وخلف قدحا وجرابه ذلك وعصا كان يتوكأ عليها، قال: وكفناه في ثوبي إحرامه ولففنا العباء فوق ذلك. قال: فلما انقضى الحج قلت: والله لأنطلقن حتى أتيت بيت المقدس، فدخلت المسجد، وثم حلق قوم فقراء مساكين. قال؛ فبينا أنا أدور لأتصفح الناس، لا أدري عمن أسأل، إذ ناداني رجل من بعض تلك الحلق باسمي: يا فلان. فالتفت إليه فإذا شيخ كأنه صاحبي قال: هات ميراث فلان. قال: فدفعت إليه العصا والقدح والجراب ثم وليت قال: فوالله ما خرجت من المسجد حتى قلت لنفسي: تضرب من مكة إلى بيت المقدس وقد رأيت من الشيخ الأول ما رأيت، ورأيت من هذا الشيخ الثاني ما رأيت، ولا تسأل هؤلاء القوم أي شيء قصتهم وتسألهم عن أمرهم ومن هم? قال: فرجعت ومن رأيي أن لا أفارق هذا الشيخ الآخر حتى يموت أو أموت. قال: فجعلت أدور الحلق وأجهد على أن أعرفه أو أقع عليه فلم أقع عليه. قال: وجعلت أسأل عنه، وأقمت أياما ببيت المقدس أطلبه وأسأل عنه، فلم أجد أحدا يدلني عليه. فرجعت منصرفا إلى العراق.بالمعروف تجده لجنبه يوم القيامة مضطجعا وأن حاجتي إليك إذا قضى الله نسكك أن تنطلق إلى بيت المقدس فتدفع ميراثي إلى وارثي والسلام عليك ورحمة الله. قال: فقلت في نفسي كل أمرك رحمك الله عجب وهذا من أعجب أمرك. كيف آتي بيت المقدس ولم تسم لي أحدا

(2/65)

ولم تصف لي موضعا، ولا أدري إلى من أدفعه? قال: وخلف قدحا وجرابه ذلك وعصا كان يتوكأ عليها، قال: وكفناه في ثوبي إحرامه ولففنا العباء فوق ذلك. قال: فلما انقضى الحج قلت: والله لأنطلقن حتى أتيت بيت المقدس، فدخلت المسجد، وثم حلق قوم فقراء مساكين. قال؛ فبينا أنا أدور لأتصفح الناس، لا أدري عمن أسأل، إذ ناداني رجل من بعض تلك الحلق باسمي: يا فلان. فالتفت إليه فإذا شيخ كأنه صاحبي قال: هات ميراث فلان. قال: فدفعت إليه العصا والقدح والجراب ثم وليت قال: فوالله ما خرجت من المسجد حتى قلت لنفسي: تضرب من مكة إلى بيت المقدس وقد رأيت من الشيخ الأول ما رأيت، ورأيت من هذا الشيخ الثاني ما رأيت، ولا تسأل هؤلاء القوم أي شيء قصتهم وتسألهم عن أمرهم ومن هم? قال: فرجعت ومن رأيي أن لا أفارق هذا الشيخ الآخر حتى يموت أو أموت. قال: فجعلت أدور الحلق وأجهد على أن أعرفه أو أقع عليه فلم أقع عليه. قال: وجعلت أسأل عنه، وأقمت أياما ببيت المقدس أطلبه وأسأل عنه، فلم أجد أحدا يدلني عليه. فرجعت منصرفا إلى العراق.عابد آخرقال ابن سهل: كنت أمشي في طريق مكة إذ رأيت رجلا مغربيا على بغل، وبين يديه مناد ينادي: من أصاب هميانا له ألف دينار قال: وإذا إنسان أعرج عليه أطمار رثة خلقان يقول للمغربي: أي شيء علامة الهميان? قال: كذا وكذا. وفيه بضائع لقوم وأنا أعطي من مالي ألف دينار. فقال الفقير: من يقرأ الكتابة? قال ابن عسكر: فقلت: أنا. فقال: إعدلوا بنا ناحية من الطريق. فعدلنا فأخرج الهميان فجعل المغربي يقول: حبتان لفلانة ابنة فلان بخمسمائة دينار، وحبة لفلانة بمائة دينار وجعل يعدد فإذا هو كما قال: فحل المغربي هميانة وقال: خذ ألف الدينار التي وعدت على وجادة الهميان. فقال الأعرج: لو كانت قيمة الهميان الذي أعطيتك عندي بعرتين ما كنت تراه، فكيف آخذ منك ألف دينار على ما هذا قيمته? وقام ومضى ولم يأخذ منه شيئا.عابد آخر

(2/66)

قال أبو الحسن اللؤلؤي: كنت في البحر فانكسر المركب وغرق كل ما فيه، وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار. وقربت أيام الحج وخفت الفوات، فلما سلم الله عز وجل روحي ونجاني مشيت، فقال لي جماعة كانوا في المركب: لو توقفت عسى يجيء من يخرج شيئا فيخرج لك من رحلك شيئا. فقلت: قد علم الله عز وجل ما م رمني، وكان في وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار وما كنت بالذي أوثره على وقفة بعرفة. فقالوا: وما الذي ورثك هذه المنزلة? فقلت: أنا رجل مولع بالحج، أطلب الربح والثواب، حججت في بعض السنين وعطشت عطشا شديدا فأجلست عديلي في وسط المحمل، ونزلت أطلب الماء والناس معطشون أيضا. فلم أزل أسأل رجلا رجلا ومجمعا مجمعا: أمعكم ماء? والناس شرع واحد حتى صرت في ساقة القافلة بميل أو ميلين فمررت بمصنع مصهرج وإذا رجل فقير جالس في أرض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع، والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب فنزلت إليه وشربت حتى رويت وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا، فأخرجت قربة ومضيت فملأتها ورجعت. فلما رآني الناس والقربة على كتفي مملوءة فكأنه نودي فيهم أن الماء وراءكم فتبادروا إليه بالقرب. فلما روي الناس عن آخرهم وسارت القافلة جئت لأنظر فإذا البركة ملأى تلتطم بأمواجها والناس يرمون الدلاء ويرتجزون عليه فموسم يحضره مثل هؤلاء، يقولون: اللهم اغفر لمن حضر الموقف ولجماعة المسلمين أوثر عليه أربعة آلاف دينار? لا والله ولا الدنيا بأسرها وترك اللؤلؤ وجميع ما فيه، قال الشيخ: فبلغني أن قيمة ما كان غرق له خمسون ألف دينار.عابد آخر

(2/67)

قال أبو الأشهب السائح: رأيت بين الثعلبية والخزيمية غلاما قائما يصلي عند بعض الأميال. قد انقطع عن الناس. فانتظرته حتى قطع صلاته ثم قلت له: ما معك مؤنس? قال: بلى. قلت: وأين هو? قال: أمامي وخلفي ومعي وعن يميني وعن شمالي وفوقي. فعلمت أن عنده معرفة. قلت: أما معك زاد? قال: بلى. قلت: وأين هو? قال: الإخلاص لله عز وجل والتوحيد والإقرار بنبيه وإيمان صادق، وتوكل واثق. قلت: هل لك في مرافقتي? قال: الرفيق يشغل عن الله عز وجل ولا أحب أن أرافق أحدا فأشتغل به عنه طرفة عين فيقطعني عن بعض ما أنا عليه. قلت: أما تستوحش في هذه البرية وحدك? قال: إن الأنس بالله عز وجل قطع عني كل وحشة حتى لو كنت بين السباع ما خفتها ولا استوحشت منها. قلت: فمن أين تأكل? فقال: الذي غذاني في ظلم الأحشاء والأرحام صغيرا قد تكفل برزقي كبيرا. قلت: ففي أي وقت تجيئك الأسباب? قال: لي حد معلوم ووقت مفهوم إذا احتجت إلى الطعام أصبته في أي موضع كنت، وقد علم ما يصلحني وهو غير غافل عني. قلت: ألك حاجة? قال: نعم. قلت: وما هي? قال: إن رأيتني فلا تكلمني ولا تعلم أحدا أنك تعرفني. قلت: لك ذلك، فهل حاجة غيرها? قال: نعم. قلت: وما هي? قال: إن استطعت أن لا تنساني في دعائك عند الشدائد إذا نزلت بك فافعل، قلت: كيف يدعو مثلي لمثلك وأنت أفضل مني خوفا وتوكلا? قال: لا تقل هذا إنك قد صليت لله عز وجل وصمت قبلي ولك حق الإسلام والمعرفة الإيمان. قلت: فإن لي أيضا حاجة. قال: وما هي? قلت: ادع الله لي. فقال: حجب الله طرفك عن كل معصية، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه حتى لا يكون لك هم إلا هو. قلت: يا حبيبي متى ألقاك? وأين أطلبك? فقال: أما في الدنيا فلا تحدث نفسك بلقائي فيها وأما الآخرة فإنها مجمع المتقين فإياك أن تخالف الله فيما أمرك وندبك إليه، وإن كنت تبتغي لقائي فاطلبني مع الناظرين إلى الله تبارك وتعالى في زمرتهم. قلت: وكيف علمت ذاك? قال: بغض طرفي له عن كل

(2/68)

محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه. ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري.عابد آخرقال ذو النون: حججت سنة إلى بيت الله الحرام فضللت عن الطريق ولم يكن معي ماء ولا زاد فأشرفت على الهلكة، فلاحت لي أشجار كثيرة ومحراب، فطرحت نفسي في ظل شجرة. فلما غربت الشمس إذا أنا بشاب متغير اللون نحيل يؤم المحراب، فركل برجله ربوة من الأرض فظهرت عين تبض بماء عذب. فشرب وتوضأ وقام في محرابه فقمت إلى العين فشربت ماء عذبا وتوضأت وقمت أصلي بصلاته، حتى برق عمود الصبح، فلما رأى الصبح وثب قائما على قدميه ونادى بأعلى صوته: ذهب الليل بما فيه، وأقبل النهار بدواهيه ولم أقض من خدمتك وطرا، آه، خسر من أتعب، لغيرك بدنه، وألجأ إلى سواك هممه. فلما أراد أن يمضي ناديته: بالذي منحك لذيذ الرغب وأذهب عنك ملال التعب إلا خفضت لي جناح الرحمة فإني غريب أريد البيت الحرام وقد ضللت. فقال: يا بطال وهل قطع بوفده دون البلوغ إليه? ثم قال: اتبعني فرأيت الأرض تطوى من تحت أرجلنا حتى رأيت المحجة وسمعت ضجة فقال: ها قومك. ثم أنشأ يقول:من عامل الله بتقواه وكان في الخلوة يرعاهسقاه كأسا من صفا حبه يسلبه لذة دنياهفأبعد الخلق وأقصاهم وانفرد العبد بمولاهومن المصطفين الذين لقوا عند الإحرامعابدقال ا بن الجلاء: كنت بذي الحليفة وأنا أريد الحج والناس يحرمون، فرأيت شابا قد صب عليه الماء يريد الإحرام وأنا أنظر إليه. فقال: يا رب أريد أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن تجيبني لا لبيك ولا سعديك.وبقي يردد هذا القول مرارا كثيرا وأنا أتسمع عليه. فلما أكثر قلت له: ليس لك بد من الإحرام فقل فقال: يا شيخ أخشى إن قلت لبيك اللهم لبيك أجابني بلا لبيك ولا سعديك. فقلت له: أحسن ظنك وقل معي: لبيك اللهم لبيك. فقال: لبيك اللهم. وطولها، وخرجت نفسه مع قوله اللهم، فسقط ميتا.ذكر المصطفين من العباد الذين لقوا بعرفة

(2/69)

قال سفيان الثوري: سمعت أعرابيا وهو متعلق بعرفة، وهو يقول: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني، وقد خلقتني ضعيفا? من أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق، وأمرك بي محيط? أطعتك بإذنك والمنة لك علي، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي، وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني، ولم أسيء حتى قضيت علي. اللهم إنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك. شهادة أن لا إله إلا الله ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك، الشرك بك، فاغفر لي ما بينهما، اللهم سري إليك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا صببت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك، علما بأن أزمة الأمور بيدك وأن مصدرها عن قضائك.عابد آخر قال أبو الأديان: ما رأيت خائفا إلا رجلا واحدا: كنت بالموقف فرأيت شابا مطرقا منذ وقف الناس إلى أن سقط القرض فقلت: يا هذا ابسط يديك بالدعاء. فقال لي: ثم وحشة. قلت له: فهذا يوم العفو عن الذنوب. قال: فبسط يده، ففي بسط يده وقع ميتا.عابدة لقيت بعرفة

(2/70)

قال ا بن داود الواسطي: بينا أنا واقف بعرفات إذ أنا بامرأة وهي تقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فما له من هاد. فقلت: امرأة ضالة. فنزلت عن بعيري وقلت لها: يا هذه ما قصتك? فقالت: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا سورة الإسراء آية 36 فقلت في نفسي: حرورية لا ترى كلامنا: فقلت لها: من أين أنت? فقرأت سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى سورة الإسراء آية 1. فأركبتها بعيري وقفلت بها أريد رحال المقدسيين. فلما توسطت قلت لها: يا هذه لمن أصوت? فقرأت يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض سورة ص آية 36، يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى سورة مريم آية 7. يا يحيى خذ الكتاب بقوة سورة مريم آية 12. فناديت: يا زكريا، يا يحيى، يا داود. فخرج غلي ثلاثة فتيان من بين الرجال فقالوا: أمنا ورب الكعبة ضلت منذ ثلاث، وأنزلوها وأكرموني. فقلت لهم: ما لها لا تتكلم? قالوا: ما تكلمت، منذ ثلاثين سنة مخافة أن تزل. قلت: هذه امرأة صالحة المقصد إلا أنها لقلة علمها لم تدر أن هذا الفعل منهي عنه لأنها استعملت القرآن فيما لم يوضع له. قال ابن عقيل: لا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما وضع له، كما لو أراد استعمال المصحف في الوزن به أو توسده. قال: ويكره الصمت إلى الليل لأن النبي نهى عن صمت يوم إلى الليل.ذكر المصطفين من عباد لقوا في الطواف

(2/71)

قال قاسم بن عثمان: رأيت في الطواف رجلا لا يزيد على قوله: إلهي قضيت حوائج المحتاجين وحاجتي لم تقض، فقلت له: ما لك لا تزيد على هذا الكلام? فقال: أحدثك، كنا سبعة أنفس من بلدان شتى، ترافقنا وغزونا أرض العدو. فاستؤسرنا كلنا. فاعتزل بنا بطريق إلى موضع ليضرب رقابنا، فنظرت إلى السماء فإذا سبعة أبواب مفتوحة في السماء، عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية. فقدم رجل منا فضربت عنقه. فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض حتى ضربت أعناق الستة وبقيت أنا وبقي باب واحد فلما قدمت لتضرب رقبتي استوهبني بعض رجاله فوهبني له. فسمعتها هي تقول: أي شيء فاتك يا محروم? وأغلقت الباب. فأنا يا أخي متحسر على ما فاتني. قال قاسم الجوعي: أراه أفضلهم لأنه رأى ما لم يروا وترك يعمل على الشوق.عابد آخرعمار بن عثمان قال: سمعت هدابا يقول: رأيت رجلا يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول في بكائه:تمن على ذي العرش ما شئت إنه غني كريم لا يخيب سائلاقال: ثم شهق شهقة حتى ظننت أن نفسه ستخرج. قال: فقلت له: ما شأنك رحمك الله?قال أعظم الشأن شأني، إني ندبت إلى أمر فقصرت عنه. قال: ثم غشي عليه.عابد آخر

(2/72)

قال محمد بن صالح: بينا أنا في الطواف إذ نظرت إلى أعرابي بدوي متعلق بأستار الكعبة، وقد شخص بصره نحو السماء، وهو يقول: يا خير من وفد الأنام إليه، ذهبت أيامي، وضعفت قوتي، وقد وردت إلى بيتك المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ولا تغسلها البحار، مستجيرا بعفوك منها، وحططت رحلي بفنائك، وأنفقت مالي في رضاك، فماذا الذي يكون من جزائك يا مولاي? ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: يا معشر الناس ادعوا لمن وكزته الخطايا وغمرته البلايا. ارحموا أسير ضر وغريب فاقة. سألتكم بالذي عمتكم الرغبة إليه، إلا سألتم الله تعالى أن يهب لي جرمي ويغفر لي ذنوبي. ثم عاود فتعلق بأستار الكعبة وقال: إلهي وسيدي، عظيم الذنب مكروب، وعن صالح الأعمال مردود، وقد أصبحت ذا فاقة إلى رحمتك يا مولاي. قال محمد بن صالح: ثم رأيته بعرفات وقد وضع يساره على أم رأسه يصرخ ويبكي ويشهق ويقول: إلهي وسيدي ومولاي أضحكت الأرض بالزهر، وأمطرت السماء بالرحمة، والذي أعطيت الموحدين إن نفسي لواثقة لي ولهم منك بالرضا، وكيف لا يكون كذلك، وأنت حبيب من تحبب إليك، وقرة عين من لاذ بك وانقطع إليك? يا مولاي حقا حقا أقول؛ لقد أمرت بمكارم الأخلاق فاجعل وفودي إليك عتق رقبتي من النار.عابد آخرقال إبراهيم الخواص: رأيت شابا في الطواف متزرا بعباءة، متشحا بأخرى كثير الطواف والصلاة. فوقع في قلبي محبته ففتح علي بأربعمائة درهم فجئت بها إليه وهو جالس خلف المقام فوضعتها على طرف عبائه وقلت له: يا أخي اصرف هذه القطيعات في بعض حوائجك. فقام وبددها في الحصا وقال: يا إبراهيم اشتريت هذه الجلسة من الله تعالى بسبعين ألف دينار عين، تريد أن تخدعني عن الله عز وجل بهذا الوسخ? قال إبراهيم: فما رأيت أعز منه وهو ينظر، وأذل مني وأنا أجمعها من بين الحصى. ثم قام وذهب.عابد آخرأبو عبد الله بن طاهر قال: رأيت في الطواف شيخا أعجميا والناس يتضرعون ويدعون وهو ساكت.

(2/73)

فقلت له: ألا تدعو? فمد يده ورفع بها شيبته قال: يا خداه شيخ، ولم يزد على ذلك.ومن عقلاء المجانين الذين لقوا في الطوافولهان المجنون قال في الطواف ولهان المجنون: حبك قتلني، وشوقك أيقظني، والاتصال بك أسقمني، فعدمت قلبا يحب غيرك وثكلت خواطر أنست بسواك.ذكر المصطفيات من عابدات رئين في الطوافقال مالك بن دينار: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرية متعبدة، فإذا هي تقول: يا رب كم شهوة قد ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، يا رب ما كان لك عقوبة ولا أدب إلا النار. قال: فوالله ما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر. قال مالك، فوضعت يدي على رأسي ثم صرخت وجعلت أقول: ثكلت مالكا أمه وعدمته، جويرية منذ الليلة قد بطلته.عابدة أخرىقال وهيب بن الورد: بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب سبحانك، وعزتك إنك لأرحم الراحمين: يا رب مالك عقوبة إلا النار. فقالت صاحبة لها كانت معها: يا أخية دخلت بيت ربك اليوم? قالت: والله ما أرى هاتين القدمين، وأشارت إلى قدميها، أهلا للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلا أطأ بهما بيت ربي? وقد علمت حيث مشتا وإلى أين مشتا?عابدة أخرى عن الحسن قال: رأيت بدوية دخلت الطواف فقالت: يا حسن الصحبة، جئتك من بعيد، أقبلت أسألك سترك الذي لا تخرقه الرماح ولا تزيله الرياح.عابدة أخرىدخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي? فيقولون: الساعة ترينه. فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه? فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي بيت ربي حتى وضعت جبهتها على البيت. فوالله ما رفعت إلا ميتة.عابدة أخرى

(2/74)

وقفت امرأة متعبدة في جوف الليل فتعلقت بأستار الكعبة: ثم بكت وقالت: يا كريم الصحبة، ويا حسن المعونة، أتيتك من شقة بعيدة متعرضة لمعروفك الذي وسع خلقك، فأنلني من معروفك معروفا تغنيني به عن معروف من سواك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة. قال: ثم صرخت صرخة سقطت لوجهها فحملت مغشيا عليها.عابدة أخرىقال سعيد: دخلت الطواف ليلا، فبينا أنا أطوف وإذا بامرأة في الحجر ملتزمة للبيت قد علا نشيجها، فدنوت منها وهي تقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الأوهام والظنون، ولا تغيره الحوادث ولا يصفه الواصفون، يا عالما بمثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، وورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل ما في وعر، ولا بحر ما في قعره، أسألك أن تجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك، وخير ساعاتي مفارقة الأحياء من دار الفناء إلى دار البقاء التي تكرم فيها من أحببت من أوليائك، وتهين فيها من أبغضت من أعدائك أسألك إلهي عافية جامعة لخير الدنيا والآخرة منا منك علي وتطولا يا ذا الجلال والإكرام. ثم صرخت وغشي عليها.

(2/75)

عابدة أخرى قال أبو الأشهب السائح: بينا أنا في الطواف إذا بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول: يا وحشتي بعد الإنس، ويا ذلي بعد العز، ويا فقري بعد الغنى. فقلت لها: ما لك? أذهب لك مال أو أصبت بمصيبة? قالت: لا ولكن كان لي قلب ففقدته، قلت: هذه مصيبتك? قالت: وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب? فقلت لها: إن حسن صوتك قد عطل على من سمع الكلام الطواف. فقالت: يا شيخ، البيت بيتك أم بيته? قلت: بل بيته. قالت: فالحرم حرمك أم حرمه? فقلت: بل حرمه، قالت: فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزارنا إليه. ثم قالت: بحبك لي إلا رددت علي قلبي. قال: فقلت من أين تعلمين أنه يحبك? فقالت: جيش من أجلي الجيوش وأنفق الأموال وأخرجني من دار الشرك وأدخلني في التوحيد، وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل هذا إلا لعناية، قلت: كيف حبك له? قالت: أعظم شيء وأجله، قلت: وتعرفين الحب? قالت: فإذا جهلت فأي شيء أعرف? إنه الحلو المجتنى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلا، أو فسادا معطلا، وهو شجرة غرسها كريه ومجناها لذيذ. ثم ولت.من المصطفين الذين لقوا عند المقامقال أبو عبد الرحمن العجلي أنه رأى رجلا قائما خلف المقام يصلي. فافتتح القرآن فلم يزل يقرأ حتى أتى على آخر القرآن ونودي النداء الأول فجلس فسلم ثم قام فركع ركعة، قال: حسبتها وتره. ثم قال وهو يرى أنه لا يسمعه أحد: عند ورود المنهل يغبط الركب الدلجة. قال: ثم تنحى من مكانه فاختلط بالناس.من المصطفين الذين لقوا بين مكة والمدينةقال الخلدي: حج عبد الله الأقطع على فرد قدم. قال: فلما بلغت بين المسجدين وقع في سري أنه لم يحج مثلي فإذا أنا بمقعد يحبو فوقفت عليه أعجب منه. فقال لي: ما لك تتعجب من قوي يحمل ضعيفا.ذكر المصطفين ممن لقي في طريق الغزاة

(2/76)

قال أبو أمية: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم، فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا? فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت? ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت? والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم. فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتكم ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم. قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعا. فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.عابد آخر عن شقيق قال: خرجنا في غزاة لنا في ليلة مخوفة، فإذا رجل نائم فأيقظناه، فقلنا: تنام في مثل هذا المكان? فرفع رأسه فقال: إني لأستحيي من ذي العرش أن يعلم أني أخاف شيئا دونه، ثم ضرب برأسه فنام.عابد آخرشيخ في بعض المغازي، فكان يحيي الليل حيث كان على ظهر دابته أو على الأرض وكان إذا نظر إلى الفجر قد لمع ضوؤه نادى: يا إخوتاه عند بلوغ الماء يفرح الواردون بتعجيل الرواح، هنالك تنقطع كل همة.عابد آخر اسمه سعيدعباس بن يوسف قال: قال ميسرة الخادم: غزونا في بعض الغزوات فصادفنا العدو، فإذا بفتى إلى جانبي مقنع في الحديد، فحمل على الميمنة حتى ثناها، وحمل على الميسرة حتى ثناها، وحمل على القلب حتى ثناه. ثم أنشأ يقول: أحسن بمولاك سعيد ظنا هذا الذي كنت له تمنىتنح يا حور الجنان عنا ما لك قاتلنا ولا قتلنالكن إلى سيدنا اشتقنا قد علم السر وما أعلناقال: فحمل فقاتل فقتل منهم عددا، ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فإذا به قد حمل على الناس وأنشأ يقول: قد كنت أرجو، ورجائي لم يخب أن لا يضيع اليوم كدي والتعبيا من ملا تلك القصور باللعب لولاك ما طابت ولا طاب الطرب

(2/77)

فحمل فقتل منهم عددا ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فحمل الثالثة وأنشأ يقول:يا لعبة الخلد قفي ثم اسمعي ما لك قاتلنا فكفي واربعيثم ارجعي إلى الجنان فأسرعي لا تطمعي، لا تطمعي، لا تطمعي قال: فحمل فقاتل حتى قتل.ذكر المصطفين من عباد لقوا في طريق سفر وطريق سياحةأن أبا عبد رب كان أكثر أهل دمشق مالا، فخرج إلى أذربيجان في تجارة فأمسى إلى جانب مرعى ونهر فنزل به، قال أبو عبد رب: فسمعت صوتا يكثر حمد الله في ناحية فاتبعته فرأيت رجلا في حفير من الأرض ملفوفا في حصير فسلمت عليه وقلت: من أنت يا عبد الله? قال: رجل من المسلمين. قلت: وما حالك هذه? قال: حال نعمة يجب علي حمد الله عز وجل فيها، قال: قلت: وكيف وإنما أنت في حصير? قال: ومالي لا أحمد الله أن خلقني فأحسن خلقي، وجعل مولدي ومنشئي في الإسلام، وألبسني العافية في أركاني وستر علي ما أكره نشره? فمن أعظم نعمة ممن أمسى في مثل ما أنا فيه قلت: رحمك الله إن رأيت أن تقوم معي إلى المنزل فإنا نزول على النهر ها هنا. قال: ولمه? قال: قلت: لتصيب من الطعام، ونعطيك ما يغنيك عن لبس الحصير. قال: فأبى. قال الوليد: فحسبت أنه قال: إن لي في أكل العشب كفاية. قال أبو عبد رب: فأردته أن يتبعني فأبى وقال: ما لي به من حاجة. فانصرفت وقد تقاصرت إلي نفسي. فذكر أنه رجع من تجارته وتصدق بماله.

(2/78)

عابدة أخرى قال ذو النون بن إبراهيم: كنت في تيه بني إسرائيل ومعي صاحب لي، فرأيت امرأة عليها مدرعة من شعر وخمار من صوف، وفي كفها عكاز من حديد فقلت: السلام عليك ورحمة الله. فقالت: وعليك السلام، ما للرجال وخطاب النساء عافاك الله? فقلت: أخوك ذو النون المصري. فقالت: مرحبا حياك الله بالسلام. قلت: ما تصنعين ها هنا? قالت: كلما أتيت إلى بلدة يعصى فيها الحبيب ضاق علي ذلك البلد، فأنا أطلب بقعة طاهرة أخر عليها ساجدة أناجيه بقلب ذاب من شدة الشوق إلى لقائه. فقلت: ما سمعت أحدا يذكر الحبيب أحسن من ذكرك، فأي شيء المحبة? قالت: سبحان الله أنت الحكيم الواعظ وتسألني? أول المحبة يبعث على الكد الدائم، حتى إذا وصلت أرواحهم إلى أعلى الصفا جرعهم من محبته لذيذ الكؤوس، ثم صرخت وخرت مغشيا عليها فأفاقت وهي تقول: أحبك حبين حب الرضا وحب لأنك أهل لذاكافأما الذي هو حب الرضا فذكر شغلت به عن سواكاوأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكافما الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكاذكر المصطفين من عباد لم يعرفوا باسم ولا مكانقال مضر القاري: كان رجل من العباد قلما ينام من الليل قال: فغلبته عينه ذات ليلة فنام عن جزئه، فرأى فيما يرى النائم كأن جارية وقفت عليه، كأن وجهها القمر المستتم قال ومعها رق فيه كتاب. فقالت: أتقرأ أيها الشيخ? قلت: نعم. قالت: فاقرأ هذا الكتاب. قال فأخذته من يدها ففتحته فإذا فيه مكتوب:ألهثك لذة نومة عن خير عيش مع الخيرات في غرف الجنانتعيش مخلدا لا موت فيها وتنعم في الجنان مع الحسانتيقظ من منامك إن خيرا من النوم التهجد بالقرآنقال: فوالله ما ذكرتها قط إلا ذهب عني النوم.عابد آخركان رجل يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة حتى أعقد من رجليه. وكان يصلي جالسا ألف ركعة فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ويقول: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبهم بذكر سواك.

(2/79)

عابد آخرعن ميمون بن سياه قال: كنت أنا وخالد الربعي ونفر من أصحابنا نذكر الله، فوقف علينا رجل أسود فقال: هل ذكرتم الموت فيما كنتم فيه? قلنا: إنا لنذكره كثيرا وما ذكرناه يومنا هذا. قال: فبكى وقال: لقد أغفلتم ما لا يغفلكم، ونسيتم ما تحصى عليكم الأنفاس لقدومه عليكم. قال: ثم مال ليسقط وسانده رجل من القوم فخرجت نفسه وإنا لننظر إليه. قال: فنظرنا لم نجد أحدا يعرفه. قال: فغسلناه وحنطناه وكفناه ودفناه.عابد آخركان مملوك لامرأة فكان يصلي الليل كله، فقالت له: ليس تدعنا ننام الليل? فقال لها: لك النهار ولي الليل، إذا ذكرت النار طار نومي، وإذا ذكرت الجنة طال حزني.عابد آخرقال ممشاد: رأيت شيخا توسمت فيه الخير. فقلت له: يا سيدي كلمة تزودني بها. قال: همتك فاحفظها فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراءها من الأعمال والأحوال.عابد آخرحيدرة بن عبيد قال: دخلنا على رجل من العباد نعوده فقلنا له: كيف تجدك? فقال: ذنوب كثيرة ونفس ضعيفة وحسنات قليلة وسفرة طويلة وغاية مهولة، قال: فقلنا: ما معك من الزاد لما ذكرت? قال: معي الأمل في السيد الكريم. ثم قال: اللهم لا تقطع يمؤملك في تلك الغمرات، وارحمه في تلك الحيرة والحسرات إذا انخلعت القلوب يوم الندامات. وجعل يتشهد حتى مات.ذكر المصطفيات من العابدات اللواتي لم يعرفن باسم ولا مكانإخوة ثلاثة من بني قطيعة شهدوا يوم تستر فاستشهدوا. فخرجت أمهم يوما إلى السوق لبعض شأنها فتلقاها رجل قد حضر أمر تستر فعرفته فسألته عن بنيها فقال: استشهدوا. فقالت: أمقبلين أم مدبرين? فقال: مقبلين. فقالت: الحمد لله نالوا الفوز وحاطوا الذمار، بنفسي هم وأبي وأمي.عابدة أخرى

(2/80)

عن القاسم بن معن أنه أتته امرأة فقالت: أنا امرأة فلان ما أتيك حتى خفت أن يضيق علي أن لا آتيك، فقال القاسم لبعض أصحابه: بقي من ذلك المال شيء? قال: مائتي درهم. قال: ادفعه إليها، فأخذته وانصرفت، وقال له: إذا جاءني شيء فأذكرنيها. قال: فجاءه مال ففرقه فذكرها وقد بقي منه سبعمائة درهم. فقال: اذهب به إليها وسل عنها أهل المسجد الذي خلف منزلها والمسجد الذي دونه، ففعل فأخبر بعفاف عنها وعن بنات لها. قال: فأتيتها فقلت: رسول القاسم بن معن. فقالت: مرحبا بالقاسم وبرسوله. حاجتك قلت: هذه السبعمائة درهم أرسل بها إليك القاسم. فقالت: أقرئه السلام وقله له: قد أخذنا تلك المائتين فنحن نغزل منها ونبيع وقد عشنا بها واستغنينا فلا حاجة لنا في هذه. فأتيت القاسم فأخبرته فقال: ويحك ألا سيبتها في باب الدار? وقال بيده هكذا. ثم حول وجهه إلى القبلة وقال: اللهم إن بلوتني بخلف فاجعله هكذا.عابدة أخرى امرأة متعبدة كانت تصلي الضحى مائة ركعة كل يوم، وكانت تقرأ قل هو الله أحد سورة الإخلاص بالنهار عشرة آلاف مرة. وكانت تصلي بالليل لا تستريح. وكانت تقول لزوجها: قم ويحك إلى متى تنام? قم يا غافل قم يا بطال، إلى متى أنت في غفلتك? أقسمت عليك أن لا تكسب معيشتك إلا من حلال، أقسمت عليك أن لا تدخل النار من أجلي، بر أمك، صلا رحمك، لا تقطعهم فيقطع الله بك.عابدة أخرىقال ابن جعفر: سمعت أبي قال: صليت العيد في الجبان ثم تفردت، فإذا أنا بعجوز رافعة يديها وهي تقول: انصرف الناس ولم أشعر قلبي اليأس يا صاحب الصدقة، ها أناذه منصرفة فليت شعري ما زودتني، رب ارحم ضعفي وكبر سني، خرجت أرجوك فلا تخيب ظني بك. وهي تبكي فما انتفعت بنفسي يومي كله.عابدة أخرى

(2/81)

كان ملك كثير المال وكانت له ابنة لم يكن له ولد غيرها، وكان يحبها حبا شديدا. وكان يلهيها بصنوف اللهو. فمكث كذلك زمانا، وكان إلى جانب الملك عابد، فبينا هو ليلة يقرأ إذ رفع صوته وهو يقول يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة سورة التحريم آية 6 فسمعت الجارية قراءته فقالت لجواريها: كفوا. فلم يكفوا وجعل العابد يردد الآية والجارية تقول لهم: كفوا. فلم يكفوا. فوضعت يدها في جبيها فشقت ثيابها فانطلقوا إلى أبيها فأخبروه بالقصة. فأقبل إليها فقال: يا حبيبتي ما حالك منذ الليلة? ما يبكيك? وضمها إليه. فقالت: أسألك بالله يا أبه، لله عز وجل دار فيها نار وقودها الناس والحجارة? قال: نعم. قالت: وما يمنعك يا أبه أن تخبرني? والله لا أكلت طيبا ولا نمت على لين حتى أعلم أين منزلي في الجنة أو النار?عابدة أخرى نظر رجل إلى امرأة فقال: ما رأيت مثل هذا الحسن وهذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن. فقالت: يا عبد الله، والله إني ليذبحني الحزن ما يشركني فيه أحد. قال: وكيف? قالت: ذبح زوجي شاة مضحيا، ولي صبيان يلعبان، فقال أكبرهما للأصغر: أريك كيف صنع أبي بالشاة? فعلقه فذبحه فما شعرنا به إلا متشحطا، فلما استعلت الضجة هرب الغلام ناحية الجبل فرهقه ذئب، فأكله، ونحن لا نعلم، وابتعه أبوه يطلبه فمات عطشا، فأفردني الدهر، قال: فكيف صبرك? قالت: لو رأيت في الجزع مدركا ما اخترت عليه.عابدة أخرىأبو بكر بن عبيد قال: حدثني عبيد الله بن محمد أنه سمع امرأة من المتعبدات تقول وبكت: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقا إلى الله وحبا للقائه. قال: قلت لها: أفعلى ثقة أنت من عملك? قالت: لا والله، ولكن لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه?عابدة أخرى

(2/82)

عن الحسن بن جعفر أنه سمع أباه يقول: مررت بدار فإذا أنا بعجوز مكفوفة تبكي وتقول: يا حليم تقرب الناس إليك بالأعمال يدعونك بها، فكيف أدعوك بالذنوب ولا عمل أرضاه? يا رب هب لي من حلمك ما تكفيني به وتنجيني من عذابك. قال: فوقفت عليها فوعظتها وقلت: هل لك ولد? قالت: لا. قلت: من معك في دارك? قالت: سبحان الله. معي من أناجيه، فهل علي وحشة معه وهو أنيسي? قال: فأبكتني، فقلت لها: ما معاشك? قالت: دع عنك ما لا تحتاج إليه بلغت السن فما أحوجني إليك ولا إلى غيرك، أما تقرأ القرآن: والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين سورة الشعراء آية 79 و80 فقلت: إيذني لي في زيارتك. فقالت: أعزم عليك إن فعلت أو ذكرت لي اسما. ثم أجافت الباب.عابدة أخرى امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يدها من العجين وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.عابدة أخرى امرأة أتاها نعي زوجها والسراج يقد فأطفأت السراج وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شريك.عابدة أخرىقال رجل من ولد عبد الرحمن بن أبي ليلى،: دخلت على امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت لي: يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود? والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.عابدة أخرىقالت: فقدتك من قلب أصبحت قاسيا ولعظمة الله ناسيا كيف تقر عيني وقد أخبرني أن قاسي القلب مني بعيد?عابدة أخرىامرأة كانت إذا قامت من الليل قالت: اللهم إن إبليس عبد من عبيدك، ناصيته بيدك، يراني من حيث لا أراه، وأنت تراه من حيث لا يراك، اللهم إنك تقدر على أمره كله، وهو لا يقدر من أمرك على شيء، اللهم إن أرادني بشر فأرده، وإن كادني فكده، أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره. ثم بكت حتى ذهبت إحدى عينيها، فقيل لها: اتقي الله لا تذهب الأخرى. فقالت: إن كانت عيني من عيون أهل الجنة فسيبدلني بها ما هو أحسن منها، وإن كانت من عيون أهل النار فأبعدهما الله تعالى.عابدة أخرى

(2/83)

كانت امرأة متعبدة، فكانت إذا أمست قالت: يا نفس، الليلة ليتلك لا ليلة لك غيرها، فاجتهدي. فإذا أصبحت قالت: يا نفس اليوم يومك لا يوم لك غيره فاجتهدي.ذكر المصطفيات من بنيات صغار تكلمن بكلام العابدات الكبارقال أسلم،: بينا أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس المدينة إذ عيي فاتكأ إلى جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أماه أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم? قالت: وما كان من عزمته يا بنية? قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء.صبية أخرىقال حماد بن سلمة: ألح علينا المطر سنة من السنين وفي جواري امرأة من المتعبدات لها بنات أيتام، فوكف السقف عليهم، فسمعتها تقول: يا رفيق ارفق بي. فسكن المطر فأخذت صرة فيها دنانير وقرعت بابها. فقالت: اللهم اجعله حماد بن سلمة. قلت: أنا حماد بن سلمة، وأخرجت الدنانير وقلت لها: انتفعي بهذه، فإذا صبية عليها مدرعة من صوف تستبين خروقها قد خرجت علي وقالت: ألا تسكت يا حماد? تعترض بيننا وبين ربنا? ثم قالت: يا أماه قد علمنا أنا لما شكونا مولانا أنه سيبعث إلينا بالدنيا ليطردنا عن بابه. ثم ألصقت خدها على التراب وقالت: أما أنا وعزتك لا زايلت بابك وإن طردتني، ثم قالت: يا حماد رد دنانيرك عافاك الله إلى الموضع الذي أخرجتها منه فإنا رفعنا حوائجنا إلى من يقبل الودائع ولا يبخس العاملين.صبية أخرى

(2/84)

أن أمير بلدة حاتم الأصم اجتاز على باب حاتم فاستسقى ماء فلما شرب رمى إليهم شيئا من المال، فوافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سوى بنية صغيرة فإنها بكت. فقيل لها: ما يبكيك? قالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى?بنيات جماعةقال بنات رجل لأبيهن: يا أبه لا تطعمنا إلا الحلال فإن الصبر على الجوع أيسر من الصبر على النار.فبلغ ذلك سفيان الثوري فقال: ما لهن رحمهن الله?ذكر المصطفين من عباد الجن* قال سهل: كنت ناحية ديار عاد إذ رأيت مدينة من حجر منقور، في وسطها قصر من حجارة، منقورة سقوفه وأبوابه تأويه الجن، فدخلت معتبرا فإذا شيخ عظيم الخلق يصلي نحو الكعبة وعليه جبة صوف فيها طراوة، فلم أتعجب من عظم خلقه كتعجبي من طراوة جبته، فسلمت عليه فرد علي السلام وقال: يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب وإنما تخلقها روائح الذنوب ومطاعم السحت، وإن هذه الجبة علي منذ سبعمائة سنة بها لقيت عيسى بن مريم ومحمدا فآمنت به. فقلت له: من أنت? قال: أنا الذي نزلت في قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن سورة الجن آية 1.*قال سلمة بن شبيب: عزمت على النقلة إلى مكة فبعت داري، فلما فرغتها وسلمتها وقفت على بابها فقلت: يا أهل الدار جاورناكم فأحسنتم جوارنا جزاكم الله خيرا، وقد بعنا الدار ونحن على النقلة إلى مكة فعليكم السلام ورحمة الله. قال: فأجابني من الدار مجيب فقال: وأنتم جزاكم الله خيرا ما رأينا منكم إلا خيرا ونحن على النقلة أيضا، فإن الذي اشترى الدار رافضي يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.*أن صفوان المازني كان إذا قام إلى تهجده من الليل قام معه سكان داره من الجن، فصلوا بصلاته واستمعوا لقراءته. قال السري فقلت ليزيد: وأنى علم? قال: كان إذا قام سمع لهم ضجة فاستوحش لذلك فنودي: لا ترع أبا عبد الله فإنما نحن إخوانك نقوم للتهجد كما تقوم فنصلي بصلاتك، قال: فكأنه أنس بعد ذلك إلى حركتهم.

(2/85)

قال خليد عن خليد: كنت قائما أصلي فقرأت هذه الآية كل نفس ذائقة الموت سورة آل عمران الآية 185، وسورة الأنبياء آية 35، وسورة العنكبوت آية 57 فرددتها مرارا، فناداني مناد من ناحية البيت: كم تردد هذه الآية? فلقد قتلت بها أربعة نفر من الجن لم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء حتى ماتوا من تردادك هذه الآية.قالت: فوله خليد بعد ذلك ولها شديدا. وأنكرناه حتى كأنه ليس الذي كان.* كان واصل مولى أبي عيينة جارا لي، وكان يسكن في غرفة، فكنت أسمع قراءته من الليل، وكان لا ينام من الليل إلا يسيرا، قال: فغاب غيبة إلى مكة وكنت أسمع القراءة من غرفته على نحو من صوته كأني لا أنكر من الصوت شيئا. قال: وباب الغرفة مغلق، فلم يلبث أن قدم من سفره فذكرت له ذلك، فقال: وما أنكرت من ذلك? هؤلاء سكان الدار يصلون بصلاتنا ويسمعون لقراءتنا. قال: قلت: أفتراهم? قال لا. ولكني أحس بهم وأسمع تأمينهم عند الدعاء، وربما غلب علي النوم فيوقظوني.*كان فتى من أهل الكوفة متعبدا يقال له عرفجة، وكان يحيي الليل صلاة. قال: فاستزاره بعض إخوانه ذات ليلة فاستأذن أمه في زيارته فأذنت له: قالت العجوز: فلما كان الليل إذا أنا في منامي برجال قد وقفوا علي فقالوا: يا أم عرفجة لم أذنت لإمامنا الليلة?*قال أبو عمران التمار: غدوت يوما قبل الفجر إلى مسجد الحسن الحفري فإذا باب المسجد مغلق، وإذا الحسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد وجماعة يؤمنون على دعائه، فجلست على باب المسجد حتى فرغ من دعائه ثم قام فأذن وفتح باب المسجد فدخلت فلم أجد في المسجد أحدا، فلما أصبح وتفرق من عنده قلت له: يا أبا سعيد إني والله رأيت عجبا، قال: وما رأيت? فأخبرته بالذي رأيت وسمعت. فقال: أولئك جن من أهل نصيبين يجيئون يشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة ثم ينصرفون.

(2/86)

قال محمد بن سلمان العابد: كان أبي إذا قام من الليل يتهجد سمعت في الدار جلبة شديدة واستسقاء للماء كثيرا. قال: فنرى أن الجن كانوا يتيقظون لتهجده فيصلون معه.*قال الدقاق: كنت بنيسابور مقيما للوعظ فظهر بي رمد فاشتقت إلى أولادي فرأيت ليلة من الليالي في المنام كأن شخصا دخل علي فقال: أيها الشيخ ما يمكنك الرجوع بهذه السرعة فإن جماعة من شباب الجن يحضرون مجلسك ويستمعون منك، وهم بعد في بدو الإرادة فما لم ينتهوا إلى إرادتهم لا يمكنك أن تفارقهم فلعل الله عز وجل أن يحييهم فأصبحت وكأنه ما بعيني رمد.ومن متعبدات الجنقال صالح بن عبد الكريم: كنت أحب أن ألقى شيئا من الجن فأكلمه، فرأيت امرأة فتعلقت بها فقلت: عظيني. قالت: اكتب: تقول غزالة: اشتغل بأولى الأمور بك ولا تغفل عن ساعة إن فاتتك لم تدركها.آخر كتاب صفة الصفوة، والحمد لله وحده، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبهوالحمد لله وحده، وسلام على عباده الذين اصطفى. انتهى البريد الألكترونى الجديد

ahmdmotaz@hotmail.comأما البريد القديم فقد تم الغاءه

ahmedmotaz@hotmail.comاعداد: أبوأحمدمعتز أحمد عبد الفتاح 18-3-1426هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...