Translate

الخميس، 8 يونيو 2023

ج13وج14وج15وج16.كتاب العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي

ج13وج14وج15وج16.كتاب العقد

 الفريد ابن عبد ربه الأندلسي

----

أولا::  ج13.وج14.
ج13. كتاب العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
يومَ لا يُقدر لا أرهبه ... ومِن المقدور لا يَنْجو الحَذِر
وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول:
يا حبذا السير بأرض الكُوفه ... أرضٍ سواءٍ سَهْلة مَعروفه
تعرفها جِمالنا المَعْلوفه وكان عبد الله بن عباس في طريقه من البصرة إلى مكة يحدو الإبل ويقول:
أُولى إلى أهلك يا ربَابُ ... أُولى فقد هان لك الإيابُ
وقال ابن عباس لما كفّ بصره
إن يأخذ الله من عينيّ نُورَهما ... ففي لساني وقَلبي منهما نُورُ
قلبي ذكيّ وعَقلي غير ذي دَخل ... وفي فَمي صَارمٌ كالسيف مَأثور
قولهم في الغزلقال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد، فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال:
وتبرد بَرد رداء العرو ... س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا
وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا
ثم قال: الله أكبر.
وقال العجاّج. دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه. فقلت له: إني إنما أقول:
طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما ... خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما
تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما ... وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما
فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه، وأنشد:
بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ
وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا ... إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول
هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ... لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول
ما إن تَدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغُول
ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت ... إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل
كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُها إلا الأباطيل
ولا يَغُرًنك ما منت وما وَعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل
ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وسلم. فكساه بُرداً، اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود في الغزل:
كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْم ... ولامَك أقوامٌ ولومُهمُ ظُلم
ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا ... عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم
فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي ... عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم
تجنّبت إتيان الحَبيب تأثّما ... ألا إن هِجران الحبيب هو الإثْم
ومن شعر عُروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها، وكان من أرقّ الناس تشبيبا:
قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به ... قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر
ألست تُبصر من حولي فقلتُ لها ... غطَّى هواك وما ألقَى على بَصري
ووقفتْ عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقوله:
إذا وجدتُ أُوار الحُبّ في كَبِدي ... غدوتُ نحو سِقاء الماء أَبتَرِدُ
هبني بردتُ ببرَد الماء ظاهرَه ... فَمن لنار على الأحشاء تَتّقد
والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبتْ عدوةُ الله عليها لعنة اللّه، بل لم يكن مُرائيا ولكنه كان مَصْدورا فنَفث.
وقدم عُروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجِهم فقضاها، ثم التفت إلى عُروة فقال له: ألست القائل:
لقد علمتُ وخيرُ القول أصدَقهُ ... بأنّ رزْقي وإن لم آتِ يَأْتيني
أسعى له فيُعنِّيني تَطَلُّبه ... ولو قعدت أتاني لا يُعَنّيني

قال: بلى. قال: فما أراك إلا قد سَعيت له. قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين، وخَرج عنه، فجعل وجهته إلى المدينة. وكَشف عنه هشام بن عبد الملك، فقيل له: قد توجّه إلى المدينة. فبعَث إليه بألف دينار. فلما قدم عليه بها الرسولُ، قال له أبلغ أميرَ المؤمنين السلام، وقل له: أنا كما قلت، قد سَعيت وعُنيت في طلبه، وقعدتُ عنه فأتاني لا يُعنِّيني.
ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيهاً ناسكاً شاعراً رقيقَ النسيب، مُعجب التَّشْبيب، حيث يقول:
زعموها سألتْ جارتَها ... وتعرّت ذات يوم تَبْتَرِدْ
أكما يَنْعتني تُبصرنني ... عَمْرَكن الله لمْ لا يقتصد
فتضاحَكْن وقد قُلن لها ... حَسَنَ في كُل عَين من تود
حسَداً حُمّلنه مِن شأنها ... وقديماً كان في الحُب الحَسد
وقال شريح القاضي، وكان من جملة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه عليِّ رحمه الله ومُعاوية، وكان تزوج امرأة من بني تميم تسمى زَينب. فنَقم عليها، فضربها ثم نَدِم، فقال:
رأيتُ رجالاً يضربون نساءَهم ... فشُلّت يميني يومِ أَضرب زَيْنبا
أأضربها في غير ذَنْب أتتْ به ... فما العدل منِّي ضرْب مَن ليس أَذْنبا
فزينبُ شْمس والنساء كواكب ... إذا برزت تُبْدِ منهن كوكبا
قولهم في المدحقال شَراحيل بن مَعْن بن زائدة: حجّ الرشيد وزميلُه أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره: فبينما أنا أسايره إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وقَرّظه. فقال له الرشيد: ألم أَنْهك عن مثل هذا في شِعْرك يا أخا بني أسد؟ إذا أنت قلت فقل كما قال مَروان بن أبي حَفصة في أبي هذا، وأشار إليّ، يقول:
بنوِ مَطر يوم اللِّقاء كأنهم ... أُسود لها في غِيل خِفَّان أَشْبُلُ
همً يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهمُ بين السِّماكين منزل
بها ليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُن ... كأوِّلهم في الجاهليّة أول
هم القومُ إن قالوا أصابُواو إن دُعوا ... أجابُواو إنْ أَعطوا أَطابوا وأَجْزلوا
وما يَستطيع الفاعلون فَعالَهم ... وإنْ أَحسنوا في النائبات وأَجملوا
وقال عُتبة بن شمَّاس يَمدح عُمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
إنّ أولى بالحقّ في كل حَقٍّ ... ثُمّ أحرى بأن يكون حَقِيقَا
مَن أبوه عبدُ العزيز بنُ مَرْوا ... ن ومَن كان جَدُّه الفَاروقا
رَدّ أموالنَا علينا وكانت ... في ذُرَا شاهق تَفوت الأَنوقا
مَدحٍ عبّاس بن مِرْداس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكَساه حُلَّة. ومَدحه كَعب بن زهير كَساه بُردا اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألف درهم، وإن ذلك البُرد لعند الخلفاء إلى اليوم.
وقال ابنُ عبّاس: قال لي عُمر بن الخطّاب: أنشدني قول زُهير. فأنشدتُه قولَه في هَرِم بن سِنَان بن حارثة حيثُ يقول:
قومٌ أبوهم سِنان حين تَنْسبهم ... طابُوا وطابَ من الأفلاذ ما ولَدوا
لو كان يُعقد فوق الشّمس من كَرم ... قوم بأولهم أو مَجْدهم قَعدوا
جِنّ إذا فَزِعوا إنْس إذا أمنوا ... مُرَزَّءون بهاليل إذا احتَشدوا
مُحسَّدون على ما كان مِن نِعم ... لا يَنزع الله منهم مالَه حُسدوا
فقال له عمر: ما كان أحبَّ إليّ لو كان هذا الشِّعر في أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. انظُر إلى ضنانة عُمر بالشعر، كيف يرَ أحداً يَستحق مثل هذا المدح إلا أهلَ بيت محمد عليه الصلاة والسلام.
وأسمع رجل عبد الله بنِ عمر بيتَ الحُطيئة:
مَتى تَأْتِه تَعْشو إلى ضوْء ناره ... تَجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِد

فقال ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فلم ير أحداً يَستحق هذا المدح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن نُصيب بن رَبَاح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له، فقال: أعْلموا أميرَ المؤمنين أنِّي قلتُ شعراً، أوله الحمد للّه. فأعلموه. فأَذِن له فأُدخل عليه وهو يقول:
الحمدُ للّه أما بعدُ يا عُمر ... فقد أتتْنا بك الحاجاتُ والقَدرُ
فأَنت رأسُ قريش وابنُ سيِّدها ... والرأسُ فيه يكون السمع والبَصر
فأَمر له بحلْية سَيفه.
ومدَحه جرير بشعره الذي يقول فيه:
هذِي الأراملُ قد قَضِّيت حاجتَها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرمل الذكرِ
فأَمر له بثلثمائة دِرْهم. ومدحه دُكين الرَّاجز، فأَمر له بخَمس عشر ناقة. ومَدح نُصيب بن ربَاح عبد الله بن جعفر، فأَمر له بمال كثير وكُسوة ورَواحل.
فقيل له: تَفعل هذا بمثل هذا العَبدِ الأسود؟ فقال: أمَا والله لئن كان عبداً إنّ شعره لحُر، وان كان أسودَ إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالاً يفَنى، وثياباً تَبلى، ورواحل تَنضى، فأعطى مديحا يُروى، وثَناءه يَبقى.
ودخل ابن هَرِم بن سِنان على عمرَ بن الخطاب، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا ابنُ هرم بن سنان. قال: صاحب زهير؟ قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيُحسن. قال: كذلك كنا نعطيه فنُجزل. قال: ذهب ما أعطيتموه بَقي ما أعطاكم.
وكان طُريح الثًقفي ناسكاً شاعراً، فلما قال في أبي جعفر المَنصور قولَه:
أنت ابنُ مُسْلنِطح البِطاح ولم ... تَعْطِف عليك الحني والولُجُ
لو قلت للسيل دَعْ طريقَك والمو ... جُ عليه كالليل يَعتلج
لهمَّ أو كاد أو لكان له ... في سائر الأرض عنك مُنعرج
طُوبىَ لفرعَيْك من هُنا وهُنا ... طوبَى لأعراقك التي تَشج
قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله، فكيف يقول للسّيل: دع طريقك. فبلغ ذلك طريحاً، فقال: الله يعلم أني إنما أردت: يا رب لو قلت للسيل دع طريقك.
وقال الحطيئة لمّا حَبسه عمرُ بن الخطاب في هجائه للزّبرقان بنَ بدر أبياتاً يمدح فيها عُمر ويسَتعطفه. فلما قرأها عمرُ عَطف له، وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه. والأبيات:
ماذا تقول لأَفراح بذي مَرَخ ... زُغْبٍ الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ
ألقيت كاسبَهم في قَعر مُظلمة ... فاغفر عليك سلامُ الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحِبه ... ألقَى إليك مقاليد النًّهى البَشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكنْ لأنفسهم كانت بها الإثر
ودخل ابن دارَة على عديّ بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مدحتُك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حَسبه، فإنّي أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألفُ شاة وألفُ دِرْهم وثلاثة أَعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حَبيس في سبيل اللّه، فامدَحْني على حَسب ما أخبرتك. فقال:
تحِنّ قَلوصي في مَعدٍّ وإنما ... تُلاقيِ الربيعُ في ديار بني ثُعَلْ
وأبْقى الليالي مِن عَديّ بن حاتم ... حُساماً كنَصل السِّيف سُلَّ من الخِلَل
أبوك جواد لا يُشق غُباره ... وأنت جواد ليس يُعذِر بالعِلل
فإنْ تَفعلوا شرّاً فمثلكُم اتَّقى ... وإنْ تَفعلوا خيراً فمثلكُم فعل
قال عديّ: أمسك لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا.
قولهم في الهجاءقال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: " والشَعَراءُ يَتبِعُهم الغَاوون. آَلمْ تَرَ أَنّهم في كُلِّ وادٍ يَهيمون. وأَنّهم يَقُولون ما لا يفعلونْ. إلا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحات وذَكَرُوا الله كَثيراً وانتصروا مِن بَعد ما ظُلموا وسَيَعْلَم الذين ظَلَموا أيَّ مُنْقَلب يَنْقَلبون " فأرْخَص الله للشعراء بهذه الآية في هِجائهم لمن تعرّض لهم

يزيد بن عمرو بن تميم الخُزاعيّ عن أبيه عن جدّه: أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال. يا رسول اللّه، إن أبا سفيان يهجوك. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللّهم إنه هَجاني وإني لا أقول الشعر، فاهجُه عني. فقام إليه عبد الله بن رَواحة فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه. قال: أنت القائل:
قثبّت الله ما آتاك من حسن.
قال: نعم. قال: وإياك فثبت اللّه. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه. فقال: أنت القائل هممت ؟ قال: نعم. قال: لستَ له. ثم قام حسَّان بن ثابت فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه، وأخرج لسانه فضَرب به أَرْنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيَّل لي أني لو وضعتُه على حجر لفَلقه، أو على شَعر لحَلقه. فقال: أنت له، اذهب إلى أبي بكر يُخبرك بمثالب القوم ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يرد على أبي سفيان:
ألا أبلِغ أبا سفيان عَنِّي ... مغلغَلةً فقد برح الخَفاءُ
هجوت محمداً وأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجَزاء
أتهجوه ولست له بندٍّ ... فشركما لخير كما الفداء
أمن يهجو رسوله الله منكم ... ويطريه ويمدحه سواء
لنا في كُل يوم من مَعدٍّ ... سِباب أو قِتال أو هِجَاء
لساني صارمٌ لا عيبَ فيه ... وبَحْري لا تُكدِّره الدِّلاء
فإنّ أبي ووالدَه وعِرْضى ... لِعْرض محمد منكم وِقَاء
وقال رجل من أهل اليمن: دخلتُ الكوفة فأتيتُ المسجد فإذا بعَمار بن ياسر ورجل يُنشده هِجاء معاوية وعمرو بن العاص، وهو يقول: ألصق بالعجوزَيْن. قلت له: سبحان اللّه!. أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب. فجلست، فقال. أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجانا أهلُ مكة؟ قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت: لقد شكر الله لك بيتاً قلته، وهو:
زعمتْ سَخينة أنْ ستغلب ربَّها ... وليُغلبنّ مُغالب الغلاّب
وسألت هُذيل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُحل لها الزِّنا. فقال حسان في ذلك:
سالت هذيل رسولَ الله فاحشةً ... ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب
وقال عبد الملك بن مروان: ما هجاني أحدٌ بأوجع من بيت هُجي به ابن الزُّبَير وهو:
فإن تُصِبْك مِن الأيام جائحة ... لم نَبك منك على دُنيا ولا دين
وقيل لعَقيل بن علَّقة: ما لك لا تُطيل الهجاء؟ قال: يَكفيك من القِلاَدة ما أحاط بالعنق. وقال رجل من ثَقيف لمحمد بن مُناذر: ما بالُ هجائك أكثر من مَدْحك؟ قال: ذلك مما أغراني به قومُك واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعَفيف الفَرج كثيرُ الصَّدقة فَلِم تَسُب الناس؟ قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمُبتدئ ولكنني مُعتدٍ - يريد أنه يُسْرفِ في القِصاص. ومثله قوله الشاعر:
بني عمّنا لا تَنْطقوا الشعرَ بعدما ... دَفنتم بأفناء العُذَيب القَوافِيا
فَلَسنا كَمن قد كنتمُ تَظْلِمونه ... فيقبل ضَيماً أو يحكم قاضيا
ولكنّ حكم الصيف فيكم مُسلَط ... فنرضى إذا ما اصبح السيفُ راضيا
فإن قلتُم إنّا ظَلمنا فلم نكُن ... ظَلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
وكان عمر بن الخطّاب يقول: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
أبو الحسن المدائني قال: وفد جرير على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا جرير، قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتُك. قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خِزيتك، لقد عرفتُك، لَسِيماك سِيما أهل النار.
ابنُ الأعرابيّ قال: دَخل كُثيّر عَزّة على عبد الملك فانشده، وعنده رجل لا يعرفه. فقال عبدُ الملك للرجل: كيف تَرى هذا الشعر؟ قال. هذا شعر حِجازيّ، دعني أضغَمه لك ضَغْمه. قال كُثِّير: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضَغمتَ الذي يقول:

والتَغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى ... حكّ آستَه وتمثَّل الأمثالاَ
تلقاهُم حُلَماء عن أعدائهم ... وعلى الصَّديق تراهم جُهَّالا
حدّثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحَكم بمصر، قال: كان رجل له صديق يقال له حُصين، فَولى موضعاً يقال له السَّابَيْن، فطلب إليه حاجةً فاعتلّ عليه فيها، فكتب له:
لا أذهبْ إليك فإنّ وُدّكَ طالق ... مني وليس طلاقَ ذات البَيْنِ
فإذا ارْعويتَ فإنها تَطْليقة ... وتُقيم وُدَّك لي على ثِنْتين
وإذا أبيتَ شفعتُها بمثالها ... فيكون تَطليقان في حَيْضين
وإنِ الثلاث أتيك منِّيِ بَتَّةً ... لم تُغن عنك ولايةُ السابَين
لم أَرض أنْ أَهجو حُصيناً وحدَه ... حتى أسود وجهَ كل حُصين
طَلب دِعبلُ بن عليِّ حاجة إلى بعض الملوك فصَرّح بمَنعه. فكتب إليه:
أحسبتَ أرضَ الله ضيّقةً ... عنّي فأرضُ الله لم تَضِقِ
وحَسبْتني فَقْعاً بِقَرْقرةٍ ... فوطِئْتَني وَطْئاً على حَنَقِ
فإِذا سألتُك حاجةً أبدا ... فاضربْ بها قُفْلاً على غَلَق
وأعِدَّ لي غُلاًّ وجامعةً ... فاجمع يديّ بها إلى عُنقي
ثم ارم بي في قَعر مُظلمة ... إن عدتُ بعد اليوم في الحُمُق
ما أطوَلَ الدُّنيا وأوسَعها ... وأدلَّني بمَسالك الطُّرق
ومثل هذا قول أبي زُبيدة:
ليتكَ أَدّبتَني بواحدة ... تجعلها منكَ آخِرَ الأبدِ
تَحِلف ألا تَبرّني أبداً ... فإنّ فيها بَرْداً على كَبِديَ
إن كان رِزْقي إليك فارْم به ... في ناظرَيْ حية على رَصَدِ
وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ من قول الشاعر:
فكِّر ففي ذاك إنْ فكَّرت مُعتَبر ... هل نِلتَ مكْرُمةً إلا بتَأْمير
عاشت سُميّة ما عاشَت وما عَلمت ... أَنّ ابنَها من قُريش في الجماهير
سُبْحان من مُلْك عَبّاد بقُدرته ... لا يَدْفع الخلقُ محتومَ المَقادير
وقال بِلاَل بن جَرير: سألتُ أبي: أيّ شيء أشدُّ عليك؟ قال: قولُ البَعِيث:
ألستَ كُليبياً إذا سِيم خُطّةً ... أقرَّ كإقرار الحَليلة للبَعْل
وكل كُليبيّ صحيفة وجهه ... أذلُّ لأقدام الرّجال من النَعل
وكان بلالُ بن جَرير شاعراً ابنَ شاعر ابنَ شاعر، لأن الخَطفي جدَّه كان شاعراً، وهو القائل:
ما زال عِصيانُنا للّه يُسْلمنا ... حتى دفعنا إلى يَحيى ودينارِ
إلى عُليجين لم تُقْطع ثِمارُهما قد طالما سَجداً للشمس والنّار ومن أخبث الهجاء قولُ جَميل:
أبوك حُباب شارق الضَّيف بُرْدَه ... وجدِّيَ يا شمّاخ فارسُ شَمَّرَا
بنو الصّالحين الصالحون ومَن يَكُن ... لآباء سَوْء يَلْقهم حيث سَيَّرَا
فإن تَغْضبوا من قِسمة الله فيكم ... فَللَهُ إذ لم يُرضِكم كان أبصرا
وقال كُثير في نُصيب، وكان أسودَ ويكني أبا الحَجناء:
رأيت أبا الحَجناء في الناس حائراً ... ولونُ أبي الحَجناء لونُ البهائِم
يراه على ما لاحَه من سَواده ... وإن كان مَظلوماً له وجهُ ظالم
وكان يقال لسعد بن أبي وقَّاص: المُستجاب؟ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سَعد. فقال رجل بالقادسيّة فيه:
ألم تَر أنّ الله أنزل نَصْره ... وسعدٌ بباب القادسيّة مُعْصِم
فأُبْنا وقد آمتّ نساء كثيرة ... ونسْوة سَعد ليس فيهنّ أيَم
فقال سَعد: اللهم اكفني يَده ولسانَه. فَخَرِس لسانُه، وضُربت يدُه فقُطعت.
وذُكر عند المُبرّد محمد بن يزيد النحويّ رجلٌ من الشعراء، فقال: لقد هجاني ببيتين أنضجَ بهما كَبدي. فاستنشدوه. فأَنشدهم هذين البيتين:
سألنا عن ثُمالةَ كُلّ حَيّ ... فكُلّ قد أجاب ومَن ثُماله
فقلتُ محمد بن يزيدَ منهم ... فقالوا الآن زِدْتهما جَهاله

ولم يَقل أحدٌ في القبيح أحسنَ من قول أبي نُوَاس:
وقائِلةٍ لها في وَجْه نُصْحٍ ... علامَ قتلتِ هذا المُستهامَا
فكان جوابُها في حُسن مَيْسِ ... أأجمع وجهَ هذا والحَراما
وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشَد له:
إذا سَعلتْ فتاةُ بَنى نُمير ... تلقَّمَ بابُ عِصْرِطها التُّرابا
تَرى بَرصاً بمَجمع إسكَتيها ... كعَنْفقَة الفَرزدق حين شَابا
وقوله أيضاً:
وتقول إذ نَزعوا الإزارَ عن استها ... هذي دواةُ مُعلِّم الكُتَّابِ
وقوله أيضاً:
أحين صِرْت سَماماً يا بني لجأ ... وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ
هيأتمُ عُمَرا يحمي دياركم ... كما يُهيَّأ لاست الخارئ الحَجر
وقال عليُّ بن الجهم يهجو محمدَ بن عبد الملك الزيَّات وزيرَ المتوكل:
أحسن من سبعين بيتاً سُدى ... جمعُك إياهنّ في بَيْتِ
ما أحوَج المُلك إلى دِيمَة ... تَغسل عنه وَضَر الزَّيت
وقالوا: أَهجى بيت قالْته العرب قولُ الطرمّاح بن حَكيم:
تميم بطُرْق اللؤمٍ أهدَى من القَطَا ... ولو سَلكتْ سُبْلَ المَكارم ضَلَّت
ولو أنّ بُرْغوثا على ظهر قَملة ... رأتْه تميمٌ يوم زحْفٍ لولّت
ولو أن عُصفوراً يمُد جناحَه ... لقامت تميمٌ تحتَه واستظلّتِ
وقال بعضُهم: قولُ جرير في بني تَغلب:
والتّغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى ... حكّ آستَه وتمثّل الأمثالاَ
ويقال: قولُه:
قومٌ إذا اْستَنْبح الأضيافُ كلبَهُم ... قالوا لأمهم بُولِي على النّار
ومن أخبثَ الهجاء قول زياد الأعجم:
قالوا الأشاقر تَهجوكم فقلتُ لهم ... ما كنتُ أحسبُهم كانوا ولا خُلِقُوا
وهم من الحَسب الذّاكي بمنزلةٍ ... كطُحلب الماء لا أصلٌ ولا وَرَق
لا يكثُرون وإن طالتْ حياتهم ... ولو يَبول عليهم ثَعلب غَرِقوا
وقوله أيضاً:
قَضى الله خلقَ الناس ثم خُلقُتُم ... بَقِيَّةَ خَلْق الله آخرَ آخِر
فلم تَسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تُدركوا إلا مَدَقّ الحَوافر
وقال فيهم:
قَبيلةٌ خَيرُها شرّها ... وأصدقُها الكاذب الآثم
وضيفهُمُ وَسْطَ أبياتِهم ... وان لم يكن صائماً ضائمُ
ونظير هذا قول الطِّرمَّاح:
وما خُلقتْ تَيْم وزَيد مَناتِها وضبَّةُ ... إلا بعد خَلق القَبائل
ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم:
لو حان ورد تَميم ثم قِيل لهم ... حوض الرَّسول عليه الأزْدُ لم تَرِدِ
أو أنزل الله وحياً أن يعذّبها ... إن لم تَعُد لِقتال الأزد لم تَعُد
وكُلّ لُؤْم أباد الله أثلته ... ولُؤم ضبّة لم يَنقُص ولم يَزِد
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خَلْقه خَفِيت عنه بنو أسد
قومٌ أقام بدار الذل أوّلُهم ... كما أقامت عليه جذْمةُ الوَتِد
ومثله قول المُساور بن هِنْد:
ما سرني أنّ قَوْمي من بني أسد ... وأنّ رَبيٍّ يُنْجيني من النارِ
وأنهم زَوّجوني من بناتِهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألفَ دينار
ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع:
بلاد نأَى عني الصديقُ وسبّني ... بها عنزيَّ ثم لم أَتكلّم
وقال عبيد:
يا أبا جعفر كتبتُك سَمْحاً ... فاستطال المِداد فالميم لامُ
لا تلمني على الهِجماء فلم يَه ... جك إلا المدادُ والأقلام
وقال سليمان بن أبي شَيخ: كان أبو سَعيد الرَّاني يُماري أهل الكوفة ويفضل أهلَ المديِنة، فهجاه رجل من أهل الكوفة وسّماه شرْشيراً. وقال: كلب في جهنم يُسمى شرْشيراً. فقال:
عندي مسائلُ لا شَرْشير يَعرفها ... إنْ سِيل عنها ولا أصحاب شَرْشير
وليس يَعرف هذا الدَين معرفةَ ... إلا حنيفية كُوفيةُ الدُّورَ

لا تسألنَّ مَدينيّا فتُكْفِرهْ ... إلا عن البَمّ والمَثْنى أو الزِّير
فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة: إنكم قد هُجيتم فرُدُّوا. فَرَد عليه رجل من أهل المدينة يقول:
لقد عجبت لغَاوٍ ساقَه قدر ... وكُل أمر إذا ما حُمّ مَقدورُ
قالوا المدينة أرضَ لا يكون بها ... إلاّ الغِناء وإلاِّ البمّ والزّير
لقد كذبتَ لعمر الله إنّ بها ... قَبرَ النبي وخير الناس مَقْبور
قال: فما انتَصر ولا انتُصر به، فليته لم يَقُل شيئاَ.
وقال: فساور الوراق في أهل القِياس:
كُنا من الدّين قبل اليوم في سَعِةٍ ... حتى بُلِينا بأصحاب المقاييس
قامُوا من السُوق إذ قلّت مكاسبُهم ... فاستعمَلوا الرأيَ بعد الجَهد والبوس
أمِّا العُرَيْب فأمَسوْا لا عطَاءَ لهم ... وفي المَوالي علاماتُ المفاليس
قال: فلقيه أبو حَنيفة، فقال له: هجوْتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم، فَكفَّ عنه وقال:
إذا ما الناسُ يوماً قايسُونا ... بمسألة من الفُتيا طريفَهْ
أتيناهم بمقْياس صَحيح ... بَديع من طِراز أبي حَنِيفة
إذا سَمع الفقيه بها وَعاها ... وأثبتَها بِحِبْرٍ في صَحيفه
ومن خبيث الهجاء قولُ الشاعر:
عَجِبْت لعبدانٍ هَجوْني سَفاهةً ... أَن اصطَبحوا من شائِهم وتَقيَّلُوا
بِجَاد وَرَيْسان وفِهْر وغالب ... وعَون وهِدْم وابن صِفْوة أَخيلُ
فأمّا الذي يُحصيهم فمُكَثِّر ... وأمّا الذي يطريهم فمُقلِّل
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن مَعن بن زائدة:
قال ابنُ مَعْنِ وجَلَى نَفسه ... على القَرابات مِن الأَهل
هَل في جَوارِي الحَيّ من وائل ... جاريةٌ واحدة مِثْلي
أُكْنَى أبا الفضل فيا مَن رأى ... جاريةً تُكنى أبا الفَضْل
قد نقطت في خدِّها نُقطةً ... مخافةَ العَين من الكُحل
مداراة الشعراء وتَقيتهم
أبو جعفر البَغداديّ قال: مَدح قومٌ من الشعراء بن سُليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس، فماطلهم بالجائزة، وكان الخليلُ بن أحمد صدَيقه، وكان وقتَ مَدْحهم إياه غائباً فلمّا قَدِمَ الخليلُ أَتَوْه فأخبروه، واستعانوا به عليه، فكتب إليه:
لا تَقبلنّ الشعر ثم تَعُقه ... وتَنام والشعراءُ غيرُ نيام
واعلم بأنهمُ إذا لم يُنصَفوا ... حَكموا لأنفسهم على الحُكّام
وجنايةُ الجاني عليهم تَنْقضي ... وعقابُهم باقٍ على الأيّام
فأجازهم وأحسن إليهم.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لمّا مدحه عبّاس بن مِرْداس: اقطعوا عنّي لسانَه. قالوا: بماذا يا رسولَ اللّه؟ فأمر له بحُلة قَطع بها لسانَه. ومَدح ربيعةُ الرقيّ يزيدَ بنَ حاتم، وهو والي مصر فتشاغل عنه ببعض الأمور، واستبطأه ربيعةُ فشخص من مصر، وقال:
أُراني ولا كُفران للّه راجعاً ... بخُفَّيْ حُنين من نَوال ابنِ حاتِم
فبلغ قولُه يزيدَ بن حاتم، فأرسل في طلبه وردّه. فلمّا دخل عليه قال له: أنت القائل:
أُراني ولا كفران للّه راجعاً ... بخُفيّ حُنين من نَوَال بن حاتم
قال: نعم. قال: هل قُلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعنّ بِخُفيِّ حُنين مملوءتين مالاً، فأمر بخَلْع خُفيه، وأن تُملا له مالاً. ثمّ قال: أَصْلح ما أفسدت من قولك. فقال فيه، لما عُزل من مصر ووُلّي مكانَه يزيدُ بن حاتم السُّلمي:
بَكى أهلُ مصر بالدموع السَّواجِم ... غداة غدا منها الأغر ابن حاتم
لشتّان ما بيت اليَزيدين في النّدى ... يزيد سليمٍ والأغرِّ ابن حاتم
فَهَمُّ الفَتى القَيْسيّ إنفاقُ مالِه ... وهَمُّ الفَتى العَبْسيّ جَمْعُ الدَّراهم
فلا يَحسب التَّمتامُ أنّي هجوته ... ولكنًني فضّلتُ أهل المَكارم

وأعلم أنّ تقيّةَ الشعراء من حِفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها. وقد وضعنا في هذا الكتاب باباً فيمن وضعه الهجاء، ومَن رفعه المدح.
وكان لزياد عامل على الأهوازِ يقال له: تَيم. فمدحه رجلٌ من الشعراء فلم يعطه شيئاً. فقال له الشاعر: أما إني لا أهجوك، ولكنّني سأقول فيك ما هو شرّ عليك من الهجاء فدخل على زياد فأسمعه شعراً مدحه فيه، وقال في بَعضه:
وكائن عند تَيْم مِن بُدُور ... إذا ما صُفِّدتْ تدعو زِياداً
دعَتْه كي يُجيب لها وشيكاً ... وقد مُلئت حناجرُها صِفاداً
فقال زياد: لبّيك يا بُدور. ثم أرسل فيه، فأَغرمه مائة ألف.
باب في رواة الشعرقال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب.
وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده.
قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه:
طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا ... بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها
أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة، فدخلتُ المسجد الجامع، فتصفَحت الحَلَق، فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي، فجلستُ إليه، فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر، وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم، وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك، فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي، إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر، فإذا حَضر فأسْمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه، ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر، بل أنت أشعرُ منه حيث يقول:
رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا ... غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا
وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن، وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً، وهو:
إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع ... لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ
لخلَف الأحمر، وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية، يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ ... من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا
وقال حمّاد الراوية: أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك، فلبستُ أكفاني ومضيتُ. فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي، ثم قال لي: ما شِعر فيه أوتاد؟ قلت: من قائله أصلح اللّه الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقتُ حيناً أفكر فيه، حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول:
لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ... ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا
والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ... ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد
فإنّ تَجمَّع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت: هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات. فقال: صدقتَ، انصرفْ إذا شئتَ. فقمتُ، فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة، فصَحِبوني إلى الباب. فلما أردتُ أن اقبضها منهم، قالوا: لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك. فدخلوا معي، فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير.
الأصمعيّ قال: أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جِئنا نتحدّث إليك. قال: كذبتم يا خُبثاء، ولكنْ قُلتم: كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة، قال: فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو.
وقال الأصمعي: فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين.
وقال الشَّعبي: لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر، ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً.
وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً. وكذلك كان الأصمعي.

وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نَظري لجيِّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده؟ والذي أجده منه لا أريده.
وقيل لآخر: ما لك تَروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع. وقال الحسنُ بن هانئ: رويتُ أربعَةَ آلاف شعر، وقلت أربعَة آلاف شعر، فما رزَأت الشعراء شيئاً.
القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال: حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال: أخبرني الأصمعيِّ قال: تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر، بما كان في الهِمَّة دفيناً، أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً. فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم. فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة. فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي. وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة، غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة، وقلتُ في ذلك:
وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب ... وساع ما تَضِيق به المَعاني
تجاذبه المواهبُ عن إباء ... ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي
فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى ... عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان
وأيّ فتى أناف على سُموّ ... مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان
بغير توسُّع في الصَّدرماض ... على العَزمات كالعَضْب اليَماني
فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق، وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه، فقال: هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام. أنا صاحبُك، إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن، أو حَفِظ فأَتقن. فأَخذ بيدي، ثم قال: ادخل، إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب، فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى. قلت: بَشرك الله بالخير. قال: ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً، والفضلُ بن يحيى إلى جانبه، والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر، والخَدم فوق فَرشه وُقوف. فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي، ثم قال: سَلِّم. فسلّمت. فردّ، ثم قال: يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً. فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً، ثم أقدمتُ، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كَرمك، وبَهاء مجدك، مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدئ فأصيب، بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله؟ قال: فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار، وأسهلّ به المُفاتحة، وأجْدر به أن يكون محسناً. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة، وأرجو أن يكون مُمْتعاً. قال: أرجو. ثم قال: ادْنُ. فدنوتُ. فقال: أشاعرٌ أم راوية؟ قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذى جِدٍّ وهَزْل، بعد أن يكون محسناً. قال: والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك. ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً. قلت: أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين، فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه. قال: قد أنصف القارةَ مَن راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً؟ قلت: ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق، وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق، بأيديهم الأسورةُ، وفي أعناقهم الأطواق، تُسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته، قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح: أين رُماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة مَن راماها. والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً؟ قلت: هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي، وإن غابا عنك بالأشخاص. فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها، ثم قال: اسْمعني:
ارقني طارقُ هّم طَرَقا

فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه، تَهْدِرُ بها أشداقي، حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله.
قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه
قال: أعن حَيْرة أمِ عن عَمد؟ قلت: بل عن عمد، تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنتَ بارك الله فيك، مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ. فقال الفَضل: ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب؟ صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتْك من دارك، وأَزعجتك من قَرارك، وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت، فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد، ثم قهقه. ثم قال: لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره. فقال الفضل: لقد عُوقبتُ على غير ذنب، والحمد للّه. قال الرشيد: أخطأتَ في كلامك يرحمك اللّه، لو قلتَ: وأستغفر اللّه، قلتَ صواباً، وإنما يُحمد الله على النعم. ثم صَرف وجهه إليّ، وقال: ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت؟ أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك:
عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب، لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب، وقلّما يُعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم. وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق، وأعنتُك على التّوْق. ثم التفتَ إليّ الفضلِ، فقال: أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً، هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً، فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً. قال الرشيد: أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً. قال الرشيد: ولا أجعله وَعيداً. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها، إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي. فمررتُ في سنن الإنشاد، حتى إذا بلغتُ إلى قوله:
تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة ... قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها
فاستوى جالساً، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عَدي:
تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة
قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً؟ فقال جرير:
قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها
فما رجع الجواب حتى قال عديّ:
قَلم أصاب من الدَّواة مدادها
فقلت لجرير: ويحك! لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت، شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام. ثم قال الرشيد: مُرَّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها
قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت: ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه. قال: مُرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً ... عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها
قال الرشيد: لقد وصفه بحَزم وعزم، لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال.
قال: فماذا صَنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء اللّه. قال: أحسبك وَهمت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهِداية، فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاّكها ... من أُمة إصلاحَها ورشادَها
ثمّ قال: والله ما قلت هذا عن سَمع، ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا. قال الأصمعيّ: وهو والله الصواب. ثم قال: مُرَّ في إنشادك. فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله:

وعلمتُ حتى لا أسائل واحداً ... عن حَرف واحدةٍ لكي أزدادَها
وقال: وكان من خَبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى واللّه، وعشر مِئين. قال عديّ: وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يُحسنِ عديّ أن يقول:
شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا
قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد:
لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ... ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم
ثمّ التفت إليَّ فقال: ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال:
أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت ... نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا
قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك، ثم قال: الحمد للّه على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان، وما كان هذا عليك، ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة، فإن وَقع عن عِرْفانك شيء، فلا ضيق عليك بذلك عِندي، فما ذا أراد بقوله:
مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة ... يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع
قلت: وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عُروقه، من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد، ثم في الذَراع منه. قال: أصبتَ. أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم، إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله؟ أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون؟ فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم. قال: قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب. فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها، ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويتَ للشّماخ شيئاً؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤِمنين. قال: يُعجبني منه قولُه:
إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له ... جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج
قلت: يا أمير المؤمنين، هي عَروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه؟ قلت: الرائيّة، وأنشدتُه أبياتاً منها. قال: أمسك، ثمّ قال: أستغفر الله ثلاثاً، أَرِحْ قليلاً واجلس، فقد أمتعتَ مُنشداً، ووجدناك مُحسناً في أدبك، مُعبراً عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكَلام هؤلاء، ومَن تقدّم من الشعراء، دِيباجُ الكلام الخُسْرواني، يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً. فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع، جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب، يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رَوْنق صَوَاب، وَعَته الأسماع، ولَذّ في القلوب، ولكن في الأقل منه. ثم قال: يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته، مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم، حيث قال:
أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ ... كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر
صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة ... كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر

أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها؟ ثم التفت إليّ، فقال: أجدُ ملالة، ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقِم معه مُسامراً له، ثم نَهض. فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه، ثم قُدّمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله. فقال له: ارفُق ويحك، حَسْبك قد عَقرتني. قال الفضل: لله دَرُّ العَجم، ما أحكم صَنعتهم، لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نَعلك ونعل آبائك. لا تزال تُعارضني في الشيء، ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك، ثم قال: يا غلام، عليّ بصالح الخادم. فقالت: يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء اللّه. قال الأصمعيّ: فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي:
يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه ... وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه
وقال أيضاً:
إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ... ومَن يقال له، والبيتُ لم يَمُتِ
باب مَن استعدى عليه من الشعراء
لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه:
دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها ... واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي
إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب، وأنشده البيتَ. فقال: ما أرى به بأساً. قال الزِّبرقان: والله يا أمير المؤمنين، ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه. فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال: انظُر إن كان هجاه. فقال: ما هَجاه، ولكن سَلح عليه. ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس، وقال: يا خَبيث! لأشغلّنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحَبس يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ ... زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ
ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة ... فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر
أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه ... أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر
ما آثروك بها إذ قدَّموك لها ... لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً.
ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل، استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أميرَ المؤمنين، إنّه هجانا. قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال:
إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة ... فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل
قال عمر: هذا رجل دعا، فإن كان مظلوماً استُجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا:
قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ... ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل
قال عمر: ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
ولا يَردون الماءَ إلا عشية ... إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل
قال: فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن. قَالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم ... خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل
قال عمر: سيِّد القوم خادمُهم، فما أرى بهذا بأساً.
ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري، وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل، فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه. فقال فيه عُقَيبة الأسديّ:
لا يَصرم الله اليمينَ التي لها ... بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ
قال: فاستعدى عليه مُعاوية وقال: إنّه هَجاني. قال: وما قال فيك؟ فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل ... وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ
قال معاوية: وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم.
قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ قال قال:

وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ... ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ
قال: إنما قال: ما أنا من حدَاث أمك، فلو قال: إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب.
والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين؟ قال قال :
مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ ... فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ
أكلتُم أرضَنا وجَردتموها ... فهل من قاَئم أو من حَصِيد
فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً ... يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ
أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا ... وليس لنا ولا لك مِن خُلود
ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا ... وتأميرَ الأرازل والعَبيد
قال: فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه؟ قال: أو خَيْر من ذلك؟ قال: وما هو؟ نجتمع أنا وأنت فنَرفع أيدينا إلى السماء ونَدعو عليه. فما زاد على أن أزرى به.
استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق، وزعموا أنه هَجاهم. فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه. فهرب منه وأنشده:
دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن ... لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا
وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا
فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا
نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها ... سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا
يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له ... لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا
ثم لحق بَسعيد بن العاص، وهو والي المدينة، فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه:
إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ... ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً
فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي ... فقد قُلنا لشاعركم وقَالا
ترى الغُر السوابق من قريش ... إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا
قِياماً يَنْظرون إلى سعيد ... كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا
ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية إلى كَعب بن جُعيل، فقال له: إنّ عبد الرحمن بن حَسَّان قد فضح عبدَ الرحمن بن أُم الحكم، فاهْج الأنصار. فقال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان؟ لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم، ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ. فدلّه على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار، وقال فيهم:
ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها ... والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ
قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم ... حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار
وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه ... كالجَحش بين حِمارة وحِمار
فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها ... وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار
وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ، فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حَسر العِمامة عن رأسه، وقال: يا معاوية، هل تَرى من لؤم؟ قال: ما أرى إلا كَرَماً. قال: فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم:
ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها ... واللؤمُ تحت عمائم الأنصار
قال: قد حكّمتك فيه. قال: والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه. ثم قال:
مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف ... لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ
أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة ... وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم
مالي ثأر دون قَطْع لِسَانه ... فدُونك مَن تُرضيه عنك الدَراهم
قال معاوية: قد وهبتُك لسانَه. وبلغ الأخطلَ. فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية. فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه. فوَهبه له.
ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم:
وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا ... فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي
ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر ... هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي

وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق ... كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج
وقال يزيد لأبيه: إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال: وما يقول فيها؟ قال: يقول:
هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ ... اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ
قال: صدق. قال: ويقول:
إذا ما نسبتها لم تَجِدْها ... في سَناء من المَكارم دونِ
قال: صدق أيضاً. قال: ويقول:
تجعل المسك واليَلَنْجو ... ج صِلاءً لها على الكانون
قال: وصدق. قال: فإنه يقول:
ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض ... راء تَمشي في مَرمر مَسْنون
قال: كذب. قال: وِيقول:
قُبّة من مَراجل ضربوها ... عند بَرْد الشتاء في قَيْطون
قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بُني، لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك؟ لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره، فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد، اضرب عن هذا صفحا، واطودونه كَشْحا.
ومن قول عبد الله بن قيس، المَعروف بالرُّقيات. يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية:
أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا ... أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا
تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ ... كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا
يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ... ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا
إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى ... سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا
وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم ... طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا
فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه ... يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا
فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة.
تحدَثت الرواة أن الحَجاج، رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي، وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج، فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال:
فِدَاك أبي ضاقت بي الأرضُ رُحْبُها ... وإن كنتُ قد طوّفتُ كُل مَكان
وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ... ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني
فقال له: لا عليك، فوالله إن قُلتَ إلا خيراً، إنما قلت هذا الشعرَ:
يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ... ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ
ولكن اخبرني عن قولك:
ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت ... وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات
في كم كنت؟ قال: والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل، معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له. والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف:
ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه ... خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات
مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً ... يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات
تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ ... به زينب في نسْوة خَفِرات
ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ ... وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات
دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً ... نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات
فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها ... حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات
أجل الذي فوق السَّموات عرشُه ... أوانسَ بالبَطْحاء مُعْتجرات
يُخَبِّئْن أطراف البَنان من التُقي ... ويخْرُجن وسطَ الليل مُخْتمرات
وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره. والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه:
يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة ... مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها
فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه، فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق. فقال له هشام: أوَ مَا يسُرك ما أخزاه اللّه؟ قال: ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ. فأمر بإطلاقه.
أي بيت تقوله العرب أشعر

قيل لأبي عمرو بن العلاء: أيّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي إذا سمعه سامعُه سَوّلت له نفسه أن يقول مثله، ولأن يخدَش أنفه بظفر كلْبٍ أهونَ عليه من أن يقول مثلَه.
وقيل للأصمعيّ: أيّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: الذي يُسابق لفظه معناه.
وقيل لخليل: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البَيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيتُ الذي لا يَحْجبه عن القلب شيء.
وأحسن من هذا كله قول زُهير:
وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائُله ... بيت يُقال إذا أَنشدتَه صَدَقا
أحسن ما يجتلب به الشعرقالت الحكماء: لم يُستدع شارد الشعر بأَحسنَ من الماء الجاري، والمكان الخالي، والشرف العالي. وتأول بعضهم الحالي بالحاء. يريد الحالي بالنوَّار، يعني الرياض، وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسنَ بن هانئ، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤتى بالرّياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا؟ قال: أما إني أقوله على الكَنيف. قال: ولذلك توجد فيه الرائحة.
وقال عبد الملك بن مَروان لأرطاة بن سُهيّة: هل تقول الآن شعراً؟ قال: ما أَشرب ولا أَطرب ولا أضرب، فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه.
وقيل للحُطيئة: مَن أشعر الناس؟ فأخرج لساناً رقيقاً، كأنه لِسان حَيّة وقال: هذا إذا طَمِع.
وقيل لكُثير عَزّة: لمَ تركتَ الشعر؟ قال: ذهب الشَّباب فما أَعجب، وماتت عَزّة فما أطرب، ومات ابن أبي ليلى فما أرغب. يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا: أشعر الناس النابغة إذاَ هب، وزُهير إذا غضب، وجَرير إذا رَغب.
وقال عمرو بن هند لِعَبيد بن الأبرص، ولَقيه في يوم بُؤسه: أَنْشِدني من شعرك. قال: حال الجَريض دون القَريض.
وقد يَمتنع الشعر على قائله ولا يَسلس حتى يَبعثه خاطر يطربه، أو صوت حَمامة.
وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي عليّ الحِين وقَلْع ضِرْس عندي أهون من قول بيت شِعر. وقال الراجز:
إنما الشِّعر بناءٌ ... يبتنيه المُتنونَا
فإذا ما نسقوه ... كان غَثاً أو سمينا
رُبما وأتاك حِينا ... ثم يستصعب حِينا
واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكَرى، وأول النهار قبل الغداء، وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر. وأقوى ما يكون الشعر عندي على قَدر قُوة أسباب الرغبة أو الرهبة.
قيل للخُريمي: ما بال مدائحك لمحمد من مَنصور بن زياد أحسنُ من مَراثيك؟ قال: كُنا حينئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نَعمل على الوفاء، وبينهما بَوْن بعيد.
والدليل على صحة هذا المعنى وصِدْق هذا القياس، أنّ كُثيرَ عزّة والكُميت ابن زيد كانا شِيعيّين غاليين في التشيع، وكانت مدائحهما في بني أمية أشرفَ وأجود منها في بني هاشم، وما لذلك علّة إلا قوة أسباب الطمع.
وقيل لكُثير عزّة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أَطوف في الرّباع المُحيلة، والرِّياض المُعشبة، فإن نفرت عنك القوافي، وأعيت عليك المعاني، فروّح قلبك، وأجمّ ذهنك، وارتصد لقولك فراغَ بالك وسعة ذِهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يَمتنع عليك يومَك الأطول، وليلك الأجمع.
من رفعه المدح ووضْعه الهجاء
قال بلال بن جرير: سألتُ أبي جريراً فقلت له: إنك لم تَهجُ قوماً قط إلا وضعتَهم، غير بني لجأ؟ قال: يا بُني، إنّي لم أجد شرفاً فأضعه، ولا بناء فأهدمه.
وقد يكون الشيء مدحاً فيجعله الشَعر ذمّا، ويكون ذمَّا فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى:
ولولا خِلال سَنها الشِّعْر ما دَرى ... بُغاةُ النَّدَى من أين تُؤتى المَكارمُ
تُرى حكمة ما فيه وهو فُكاهة ... وَيقضي بما يقضي به وهْو ظالم
ألا تَرى إلى بني عبد المَدان الحارثيِّين كانوا يَفخرون بطُول أجسامهم وقديم شرفهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأسَ بالقَوم مِن طُول ومن غِلَظ ... جِسْم البِغال وأحلامُ الصَافير
فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تَركْتَنا ونحن نَسْتحي من ذكر أَجسامنا بعدَ أن كُنَّا نَفخر بها. فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:

وقد كُنا نقول إذا رَأينا ... لِذي جِسْم يُعدّ وذِي بَيانِ
كأنك أيها المُعطَى لِساناً ... وجِسْماً من بني عَبد المَدان
وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم: بنوِ أنف الناقة، يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة، وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيّاً، فجعل يجره. فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحُطيئة:
سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا
قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ ... ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا
فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم.
وكان بنو نمير أشرافَ قيس وذوائبهَا حتى قال جريرِ فيهم:
فغُضَّ الطَّرفَ إنك من نُمير ... فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا
فما بقي نُميريّ إلا طأطأ رأسه. وقال حَبيب الطَّائي: وقد كان المحلق بن حَنْتَم بن شدَّاد خاملاً لا يذكر، حتى طَرقه الأعشى في فِتْية وليس عنده إلا ناقة. فأتى أمه، فقال: إنّ فتية طَرقونا الليلة، فإنْ رأيتِ أن تأذني في نَحر الناقة؟ قالت: نعم يا بُني. فنَحرها واشترى لهم ببعض لحمها شراباً وشَوى لهم بعضَ لحمها. فأصبح الأعشى ومَن معه غادِين. فلم يَشْعر المحلّق حتى أتته القصيدةُ التي أولها:
أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المُؤرّقُ ... وما بِيَ من سُقْم وما بي مَعشَقُ
وفيها يقول:
لَعْمري لقد لاحتْ عيون كثيرة ... إلى ضَوء نار في يَفاع تَحرَّقُ
تُشَبّ لمَقْرورَيْن يَصْطليانها ... وبات على النار النَدىِ والمحلق
رَضِيعي لَبانٍ ثَدْىَ أمّ تقَاسما ... بأسْحمَ داجٍ عوْضُ لا نتَفرّق
ترى الجُود يَسْرِي سائلاً فوق وَجهه ... كما زان مَتْن الهُنْدوانيّ رَونق
فلما أتته القصيدةُ جَعلت الأشراف تخطب إليه، ويقول القاتل:
وبات على النّار النَّدى والمُحلَّق
وقوله تقاسما بأسحم داج . يقول: تحالقا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفُرس لئلا يفترقوا أبداً. والعرض: الدهر.
ما يعاب من الشعر وليس بعيبقال الأصمعي: سمعتُ حمّاداً الراوية، وأَنشده رجل بيتَ حَسّان:
يُغْشَون حتى ما تَهِرّ كلابُهم ... لا يَسْألون عن السواد المُقبل
فقال: ما يُعرف هذا إلا في كلاب الحَانات. وأنشده آخر قولَ الشاعر:
لِمنْ مَنزل بين المَذانب والجِسْر
فقال: ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين.
ومما يُعاب من الشعر وليس بعيب قولُ الفرزدق:
أيابنةَ عبد الله وابنةَ مالك ... ويا بِنت ذي البُردين والفَرس الوَرْدِ
فقال مَن جهل المَعنى ولم يعرف الخبر: ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بُردين، وركوب فرس ورْد. وإنما معناه: ما قال أبو عُبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم برُدي مُحرِّق. وقاد لهم: ليقُم أعزّ العرب قَبيلةً فَليلْبِسْهما. فقال عامر بن أحيمر بن بَهدلة، فائترز بأحدهما وتَردّى بالآخر. فقال له النُّعمان: بم أنت أعزُ العرب قبيلةً؟ قال: العِزّ والعدد من العرب في مَعدّ، ثم في نِزار، ثم في مُضَر، ثم في خِنْدف، ثم في تَميم، ثم في سَعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بَهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فَلْينافرني، فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عَشيرتك فكيف أنت كما تَزعم، في نَفسك وأهل بَيتك؟ فقال: أنا أبو عشرة وعَم عشرة وخال عشرة، وأمّا أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وَضع قَدمَه في الأرض، وقال: مَن أزالها فله مائة من الإبل. فلَمْ يتعاطَ ذلك أحدٌ. فذهب بالبُردين. فسُمَّي: ذا البُردين، وفيه يقول الفرزدق:
فما تمِّ في سَعد ولا آل مالك ... غُلام إذا ما سِيل لم يَتبهدل
لهمْ وهَب النعمانُ بُردَي مُحَرِّق ... بمَجْد مَعَدّ والعديد المُحصّل
ومما يُعاب من الشعر وليس بعَيْب قولُ الأعشى في فرس النُّعمان، وكان يُسمَى اليحموم:
ويأمر لليَحموم كُلّ عشيَّة ... بقَت وتَعْليق فقد كاد يَسْنَقُ

فقالوا ما هذا مما يُمدح به أحد من السُّوقة فضلاً عن الملوك. إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كادَ يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عُبيدة: إن ملوك العرب بلغ من حَزمها ونَظرها في العواقب أنّ أحدهم لا يبيت إلا وفرسُه مَوقوف بسَرجه، ولجامه بين يديه، قريباً منه، مخافة عدو يفجؤه، أو حال تنقلب عليه: فكان للنعمان فرس يقال له اليَحموم، يتعاهده كُلّ عشية. وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأَفنية البيوت.
ومما عابوه، وليس بعَيب، قولُ زُهير:
قِفْ بالديار التي لم يَعْفُها القِدَم ... بلَى وغيَّرها الأرياح والدِّيمُ
فنَفى ثم حقّق في معنى واحد. فنَقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لأنه زعم أنَّ الديار لم يَعْفُها القِدَم. ثم إن انتبه من مَرْقده، فقال: بلى عفاها وغيْرها أيضاً الأرياح والدِّيم. وليس هذا معناه الذي ذهب إليه، وإنما معناه: أنَّ الديار لم تَعْفُ في عَيْنه، من طريق محبّته لها وشغفه بمن كان فيها.
وقال غيرُه في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو قولُه:
ألا ليتَ المنازل قد بَلينا ... فلا يَرْمِين عن شَزْر حَزِينَا
فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بَلِي ذِكْرُها، ولكنَها تتجدّد على طُول البلى بتجدّد ذكرها. وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى، فلخّصه وأوضحه، وشنَّفه وقرّطه، حيث يقول:
لمن دِمَنٌ تزداد طِيبَ نَسيم ... على طُول ما أقوت وحسْنَ رُسوم
تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنما ... لَبسْنَ على الإقواء ثوبَ نَعيم
وممَّا عِيب من الشّعر وليس بعَيب، ما يُروى عن مَروان بن الحَكم أنه قال لخالد بن يزيدَ بن معاوية، وقد أستنشده من شعره، فأَنشده:
فلو بقيتْ خلائفُ آل حَرْب ... ولم يُلْبِسْهمُ الدَّهرُ المَنونَا
لأصبح ماءُ أهل الأرض عَذْباً ... وأصبح لحمُ دُنياهم سمينا
فقال له مروان: منونا وسمينا، والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العَجْز. وهذا مما لا عَجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على مَن رآه عيباً؟ لأنَ الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كُلها، قديمها وحديثها. وقال عبَيد بن الأبرصِ:
وكُل ذي غيْبة يؤوب ... وغائبُ المَوت لا يؤوبً
مَن يسأل الناسَ يَحْرموه ... وسائلُ الله لا يَخِيب
ومثلُه من المُحدثين:
أجارةَ بيتينا أبوك غَيُور ... وميسور ما يُرجى لديك عَسيرُ
ومما عِيب من الشعر وليس بعيب، قولُ ذي الأمة:
رأيتُ الناسَ يَنْتجعون غَيْثاً ... فقلت لصَيْدح انتجعي بلالا
ولما أنشدوا هذا الشعر بلالَ بن أبي بُردة، قال: يا غلام مُرْ لصيدح بقَتٍّ من عَلف، فإنها هي انتجعَتْنا. وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه، لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى: " واسأل القَرْيةَ التي كُنّا فِيها والعِيَر التي أقْبَلنا فيها " . وإنما أراد أهلَ القرية وأهل العِير.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يَرتجز به من شعر:
إليك تَعدو قَلِقاً وَضينُها ... مخالِفاً دينَ النصارى دينُها
فجعل الدِّين للناقة، وإنما أراد صاحبَ الناقة. ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النُّوق وزيارتَها لمن تمدحه، ولكنّ مَن طلب تعنّتاً وَجده، أو تجنّياً على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريعُ الغواني بالحَسن بن هانئ حين لَقيه، فقال له: ما يَسلم لك بيتٌ عندي من سَقَط. قال: فأيّ بيت أسْقطت فيه؟ قال: أنشدني أيَّ بيتٍ شئتَ. فأنشدَه:
ذَكر الصِّبوحَ بسُحرِة فارتاحا ... وأمله ديكُ الصّباح صِياحَا
فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يُمِلّه ديك الصباح صِياحاً، وإنما يُبشره بالصَّبوح الذي ارتاح له. فقال له الحسن: فأنشدني أنت من قولك. فأنشده:
عاصىَ العَزاءَ فراح غَير مُفَنَدِ ... وأقام بين عَزيمة وتجلّدِ
قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت:
عاصى العزاء فراح غير مُفند
ثم قلت:
وأقام بين عزيمة وتجلّد

فجعلته رائحاً مُقيماً في مقام واحد، والرائح غير المُقيم. والبيتان جميعاً مؤتلفان. ولكنَ من طلب عيباً وجده. ومما عابه ابنُ قتيبة وليس بعيب، قول المُرقَش الأصغر:
صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكْرها ... إذا ذُكرت دارت به الأرضُ قائمَا
فقال له: كيفَ يَصحو مَن كانت هذه صِفته؟ والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدّم من سوء حاله، حال صَحْو عنده. ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشّر أهون من بعض.
وقال النبيّ صلى الله عيه وسلم في عمّه أبي طالب: إنه أخفُّ الناس عذاباً يوم القيامة، يُحذَى نعلين من نار يَغلي منها دماغُه. وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفًا عندما هو أشدّ منه، فزعم المُرقّش أنه عند نفسه صاحٍ، إذ تبدُل حاله أسهل مما كان فيه. وقد عاب الناسُ على الحَسن بن هانئ قَوله:
واخفَت أهلَ الشّرك حتى إنّه ... لتخافُك النُطفُ التي لم تخلقِ
فقالوا: كيف تَخافه النُطف التي لم تُخلق؟ ومجاز هذا قَريب، إذا لحظ أنّ كل من خاف شيئاً خافه بجوارحه وسَمْعه وبَصره ولحمه ودمه، والنُطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النُطف التي في أصلابها.
وقال الشاعر:
ألا تَرْثِي لمُكتئبٍ ... يُحبّك لحمُه ودمُه
وقال المكفوف:
أحبكمُ حبّاً على الله أجرُه ... تَضمّنه الأحشاءُ واللحمُ والدمُ
ولقى العتّابي منصوراً النَمريّ فسأله عن حاله. فقال: إني لَمدهوش، وذلك أني تركت امرأتي وقد عَسُر عليها ولادُها. فقال له العتّابي: ألا أدلّك على ما يُسهل عليها. قال: وما هو؟ قال: اكتب عَلى رَحمها هارون. قال: وما مَعناكَ في هذا؟ قال: ألستَ القائل فيه:
إنْ أخلف القَطر لم تُخلف مواهبُه ... أو ضاق أمر ذَكرناه فيتسعُ
فقال: أبا لخُلفاء تُعرّض، وفيهم تَقع، وإياهم تَعيب. فيقال: إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العَتّابي. فكتب إلى عبد الصمد عمّه يأمره بقتله. فكتب إليه عبدُ الصمد يشفع له. فوهبه إياه.
تقبيح الحسن وتحسين القبيحسُئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس؟ قال الذي يُصوِّر الباطل في صورة الحق، والحقَّ في صورة الباطل، بلُطف معناه، ورقّة فِطْنته، فيُقَبِّح الحسنَ الذي لا أحسن منه، ويُحسن القبيح الذي لا أقبح منه.
فمن تحسين القبيح قولُ الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بَدْر:
الله أعلم ما تركتُ قِتالَهم ... حتى رَموا مُهري بأشقَرَ مُزْبِدِ
وعلمتُ أنّي إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يَضْرر عدوّي مَشهدي
فصرفتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ ... طمعاً لهم بعقاب يوم مُفْسِدِ
وهذا الذي سمعه صاحب الهند رُتْبيل، فقال: يا معشر العرب، حَسّنتم كل شيء فحَسُن حتى حَسّنتم الفرار. ومن تقبيح الحسن: قولُ بشّار العقيلي في سليمان بن عليّ، وكان وصل رجلاً وأحسن إليه:
يا سوأةً يُكثر الشيطانُ ما ذُكرت ... منها التعجبَ جاءت من سُليمانَا
لا تَعجبنَّ لخَيْرِ زلّ عن يده ... فالكَوكبُ النَّحس يَسقي الأرضَ أحيانا
وقال غيرُه في تَحسَين القَبيح:
يقولون لي إنّي بَخيل بنائلي ... ولَلْبخلُ خيرٌ من سؤال بَخيل
وقال المُتلمّس في تَقبيح الحسن:
وحَبْس المال خيرٌ من بُغاه ... وضَرْبٌ في البلاد بغَيْر زادِ
وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ... ولا يَبقَى الكثير مع الفَساد
وقال محمود الورَاق في تحسين القبيح:
يا عائبَ الفقر ألا تَزدجرْ ... عيبُ الغِنى أكبرُ لو تعتبرْ
مِن شرَف الفَقر ومِن فَضله ... على الغِنى إنْ صَحّ منك النَّظر
أنك تَعصي كي تَنال الغِنَى ... وليس تَعصي الله كي تفتقر
ومن تحسين القبيح، أنه قيل لجَذيمة الأبرش: ما هذا الوَضح الذي بك؟ قال: سيفُ الله جلاه. وقال اْبن حَبْناء، وكان به بَرص:
لا تحسبنّ بياضاً فيَّ مَنْقصةً ... إنّ اللَّهاميمَ في أقرابها بَلقُ
وقال محمود الورّاق يمدح الشَيب:
وعائب عابَني بشَيْبي ... لم يَعْدُ لمّا ألم وقتَه

فقلت للعائِبي بشيبي ... يا عائبَ الشَّيب لا بلغتَه
وقال آخر:
يقولون هل بعدَ الثلاثين مَلْعبُ ... فقلتُ وهل قبل الثلاثين مَلعبُ
لقد جلّ قدرُ الشَّيب إن كان كُلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
وقال أعرابيّ في عجوز:
أبى القلبُ إلا أمّ عمرو وحُبّها ... عجوزاً ومَنْ يُحبِب عجوزاً يفنَّدِ
كثَوْب يمانٍ قد تَقادم عهدُه ... ورُقْعته ماشِيتَ في العَين واليَدِ
قال بَشّار العُقبليّ في سوداء:
أشبهك المِسكُ وأشبهته ... قائمةً في لونه قاعدَه
لا شَكَّ إذ لونُكما واحد ... أنّكما من طِينة واحده
الاستعارةلم تزل الاستعارة قديمةً تُستعمل في المَنظوم والمَنثور. وأحسن ما تكون أن يُستعار المنثور من المنظوم، والمَنظوم من المنثور. وهذه الاستعارة خفية لا يُؤبه بها، لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال. وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنَن الأول. وقلَّ ما يأتي لهم معنى لم يَسبق إليه أحد، إما في مَنظوم وإما في مَنثور؟ لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للآخر شيئاً. ألا ترى أنّ كعب بن زُهير، وهو في الرَّعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال ِفي شعره:
ما أرانا نقول إلا مُعاراً ... أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا
ولكن في قولهم إن الآخِر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يُحسنه ويَقرِّبه ويوضحه، فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى:
وكأْسٍ شربتُ على لذّة ... وأخرى تداويتُ منها بهَا
فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسّنه وقَرّبه إذ قال:
دعْ عنكَ لَوْمي فإنّ اللومَ إغراءُ ... وَداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ
وقال القُطاميّ:
والناسُ مَن يَلْقَ خيراً قائلون له ... ما يَشْتَهي ولأمّ المخطئ الهَبَلُ
أخذه من قول المُرقِّش:
ومَن يَلق خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ... ومن يَغْوَ لا يَعدَم على الغيّ لائِمَا
وقال قيس بن الخَطيم:
تَبدَّت لنا كالشَّمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
أخذه بعضً المُحدثين فقال:
فشبَّهتُها بدراً بدَا منه شِقُّه ... وقد سَترتْ خدا فأبدت لنا خَدا
وأَذْرت على الخَدّين دمعاً كأنه ... تنَاثُر درّ أو نَدى واقَع الوَرْدا
وأخذه آخر فقال:
يا قمرا للنِّصف من شَهره ... أبْدَى ضِياءً لثمانٍ بَقينْ
وأخذه بشّار فقال:
ضنت بخدّ وجَلَت عن خَد ... ثم انثنت كالنَّفَس المُرْتدِّ
فلم يُفسد الآخر قولَ الأول، ولم يكن الأولُ أولى بالمعنى من الآخر.
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي:
كأنّ التي يوم الوَداع تعرّضت ... هلال بدا مَحْقاً على أنه تِمُّ
وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.
دخل سهلُ بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال سهل: يدعو للمأمون: اللهم زِدْه من الخيرات، وابسُط له من البركات، حتى يكون كُل يوم من أيامه مُوفياً على أمسه، مقصّراً عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من رَوى من الشعر أفصحه، ومن الحديث أوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه القول؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحداً سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلي. سبقك أعشى همدان، حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني مَعدّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس
وأنت غداً تزيد الضعفَ خيراً ... كذاك تزيد سادةُ عبد شَمْس
وقد يكون مثلُ هذا وما أشبهه عن موافقة.
وقد سُئل الأصمعيّ عن الشاعريْنِ يَتّفقان في المعنى الواحد ولم يَسمع أحدُهما قول صاحبه. فقال: عُقول الرجال توافتْ على ألسنتها.
اختلاف الشعراء في المعنى الواحدوقد تختلف الشعراء في الواحد، وكل واحدٍ منهم مُحسن في مذهبه، جارٍ في توجيهه، وإن كان بعضُه أحسنَ من بعض.
ألا ترى أن الشَماخ بن ضِرار يقول في ناقته:

إذا بلغتني وحملتِ رَحلي ... عَرابةَ فاشرَقي بدَم الوَتِين
وقال الحسن بن هانئ في ضِدّ هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمَين:
فإذا المطيُّ بنا بلغْن محمداً ... فظُهورهن على الرجال حَرامُ
وقال أيضاُ:
أقول لناقتي إذ أبلغتْني ... لقد صبحتِ مني باليَمين
فلم أجعلك للغِربان نُحْلاً ... ولا قلتُ اشرَقي بدَم الوتين
فقد عاب بعضُ الرواة قولَ الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني نذرت يا رسول الله إن نجْا بي الله عليها أن أنحرها قال: بئسما جَزيتيها. ولا نذْر لأحد في مِلْك غيره.
وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حُسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب.
قال الفرزدق:
بنو دارم قَومي ترى حُجزاتِهم ... عِتاقاً حواشيها رِقاقاً نِعالهُا
يَجُرون هُدَّابَ اليَماني كأَنهم ... سُيوفٌ جلاَ الأطباعُ عنها صِقالُها
وأول من سبق إلى هذا المعنى النابغة الذبياني في قوله:
رقاقُ النّعال طَيِّبٌ حُجزاتُهم ... يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ
وقال طَرَفة:
ثم راحوا عَبقُ المِسك بهم ... يُلْحِفُين الأرضَ هُدَّابَ الأزُرْ
وقال كُثير عَزِّة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية:
أشمّ من الغادِين في كُل حُلّة ... يَميسون في صِبْغ من العَصْب مُتْقِن
هم أزر حمر الحَواشي بُطونها ... بأَقدامهم في الحَضْرميّ المُلسَّن
وقال فيه أيضاً:
إذا حُلَل العَصْب اليَماني أجادَها ... أَكُفُّ أساتيذ على النَّسج دُرَّب
أتاهم بها الجابي فراحوا عليهمُ ... تمائمُ من فَضفاضهن المُكَعب
لها طُرُز تحت البَنائِق أدنيت ... إلى مُرهفات الحَضرمي المُعَقْرب
وقال آخر:
معي كُل فَضفاض القَمِيص كأنه ... إذا ما سرتْ فيه المُدَام فَنِيق
وخالفهم فيه صريع الغواني فقال:
لا يَعبق الطيب خدّيه ومَفرقَه ... ولا يُمَسِّح عينيه من الكُحُل
وقال دُريد بن الصِّمَّة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة ويصفه بتَشمير الثوب:
كَمِيش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بَعيد عن السوات طَلاّع أنجُدِ
مثل قول الحجاج:
أنا ابن جَلاَ وطَلاعِ الثنايا ... متَى أضع العمامَة تَعرفوني
وقد يُحمل معناهم في تشمير الثوب وسَحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يَستحسن بعضُهم ما يَستقبح بعض. والوجه الثاني، وهو أشبه، أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع، كما قال عمرو بن معد يكرب:
فيوماً تَرانا في الخزوز نجرّها ... ويوماً تَرانا في الحَديد عوابسَا
ويوماً تَرانا في الثَريد نَدسه ... ويوماً ترانا نكسر الكَعك يابسا
وقال أعشى بكر لعمر بن مَعد يكرب:
وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة ... شهباء يجتنب الكُماة نزالَها
كتب المقدَم غيرَ لابس جُنّة ... بالسيف تَضرب معلماً أبطالها
وقال مُسلم بن الوليد في يزيدَ بن مَزيد خلافَ هذا كُله، وهو:
تراه في الأمن في دِرع مُضاعَفة ... لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجل
ولما أنشده يزيدَ بن مزيد، قال له: ألا قلت كما قال الأعشى؟ وأنشده البيتين.
فقال: قولي أحسنُ من قوله، إنه وصفه بالخُرق، وأنا وصفتك بالحَزم.
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ: ما أحسنُ شيء مُدحت به؟ قال: قول الشاعر:
أسيلم ذا كُمْ لا خَفاً بِمكانه ... لعين تُرجِّي أو لأذن تَسمَّعُ
من النَّفر الشُّم الذين إذا اعتَزَوْا ... وهاب رجال حلْقَة الباب قَعْقَعوا
جلا الأذفُر الأحوى من المسك فَرْقَه ... وطيبُ الدِّهان رأسَه فهوِ أنزع
إذا النَفر السُّود اليمانون حاولوا ... له حَوْكَ بُرديه أدقّوا وأوْسعوا
فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول أبي قَيسِ بن الأسلت:

قد حَصَّت البيضة رأسي فما ... أطعَم نوْماً غير تَهْجاع
أَسْعى على جُلِّ بني مالكٍ ... كُل امرئ في شأنه ساعِي
وقال بعضُهم:
سألتُ المُحبين الذين تَحمّلوا ... تبَاريحَ هَذا الحُب في سالف الدَهرِ
فقالوا شفاءُ الحُب حب يُزيله ... لأخرى وطُولٌ للتَمادي على الهَجر
وقال الحَمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه؟ وهو قولُه:
زَعموا أنّ من تشاغل بالح ... بّ سَلا عن حَبيبِه وأفاقا
كَذبوا ما كذا بَلَونا ولكنْ ... لم يكُونوا فيما أرى عُشّاقا
كيف أسلو بلذة عنك والل ... ذات يُحدثْن لي إليك اشتياقا
كُلما رُمتُ سَلوةً تُذهب الحُرقةَ ... زادت قلبي عليكِ احتراقا
وقال كُثير عزّة:
أريد لأنسى ذكرَها فكأنما ... تَمثلُ لي ليلى بكُل سَبيل
وقال بعضُ الناس: إن كان يُحبها فلماذا يُحب أن يَنسى ذكرها؟ ألا قال كما قال مجنون بني عامر:
فلا خَفِّف الرحمنُ ما بي من الهَوى ... ولا قَطَع الرحمنُ عن حُبها قَلْبي
فما سَرَّني أنّي خَليُّ من الهَوى ... ولو أن لي ما بين شرَق إلى غَرب
وذهب أكثرهم إلى أنّ بُعْدَ العَهد يُسلي المُحب عن حَبيبه، وقالوا فيه:
إذ ما شئتَ أن تَسلو حبيباً ... فأكثر دونه عَدَد اللّيالِي
وقال العبّاس بن الأحنف:
إذا كنت لا يُسليك عمن تُحبه ... تَناء ولا يَشفيك طُولُ تلاقِي
فما أنتَ إلا مستعير حَشاشةً ... لمُهجة نَفس آذنتْ بِفراق
وقال كُثيّر عَزة:
فإن تَسْل عنكِ النفس أو تَدع الَهوى ... فباليأس تَسْلو عنك لا بالتجلّدِ
ومثله قولُ بشّار:
ومن حُبها أتمنّى أن يُلاقيَني ... من نحو بَلْدتها ناعٍ فيَنْعاها
كيما أقول فِراقٌ لا لِقاء له ... وتُضمر النفس يأسا ثم تَسلاها
وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها، حائرة في مجراها.
وقال عبدُ الله بن جُندب:
ألا يا عبادَ الله هذا أخوكُم ... قتيلاً فهل منكم له اليومَ واترُ
خذوا بدَمي إن مِتُّ كل خَريدة ... مريضةِ جَفْن العَين والطَّرفُ ساهر
وقال صَريع الغواني في ضد هذا:
أدِيرا عليِّ الراح لا تَشربَا قبلي ... ولا تَطْلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي
وقول عبد الله بن جُندب أحسَن في هذا المعنى، لأنه إنما أراد أن يَدُل على موضع ثأره واسم قاتله، ولم يُرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له.
وقد قال عبدُ الله بن عبّاس، ونَظر إلى رجل مُدنف عِشْقاً:
هذا قتيلً الحُبّ لا عَقْل ولا قَوَد
وقال الفرزدق، وأراد مذهب ابن جُندب فلم تُوانه رقّة الطَّبع، فخرج إلى أَجْف القول وأَقْبحه، فقال:
يا أخت ناجيةَ بنِ سامةَ إنني ... أَخشى عليكِ بَنيَّ إن طَلبوا دَمِي
لن يَتْركوك وقد قتلتِ أباهمُ ... ولو ارتقيت إلى السماء بسلم
وقال ابنُ أخت تأبط شرّاً يرثي خالَه، وقتلْته هُذيل:
شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ... ذَكَت الشِعرى فبرْد وظِل
ظاعِن بالحَزم حتى إذا ما ... حلَّ حَلَّ الحَزمُ حيث يحلّ
أخذ معنى البيت الأول أعرابيّ فسهّل معناه وحسّن ديباجته، فقال:
إذا نزل الشتاء فأنت شمسٌ ... وإن نزل المصيف فأنت ظِلُّ
وأَخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخَصيب:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكنْ يصير الجُود حيثُ يصيرُ
وقالوا في الخَيال فحيّوه بالسلام ورحّبوا به؛ فمن ذلك قولُ مروان ابن أبي حَفْصة:
طرقْتك زائرةً فحيِّ خيالَها
وقال آخر:
طَرق الخَيالُ فحيّه بسَلام
وعلى هذا بُنيت أشعارهم، وخالفهم جَرير فطَرد الخيال، فقال:
طرقْتك صائدة القُلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأولُ من طَرد الخيال طرفة فقال:
فقُل لخَيال الحنظلية يَنقلب ... إليها فإنِّي واصلٌ مَن وَصَلْ
وأعجبُ مِن هذا قولُ الرّاعي الذي هجا الخَيال فقال:

طافَ الخيالُ بأصحابي فقلتُ لهم ... أم شَذرة زارتْني أم الغُولُ
لا مرحباً بابنة الأقيال إذ طَرقت ... كأنّ مَحْجرها بالقار مَكْحول
وقد يختلف معنى الشاعر أيضاً في شعر واحد يقوله، ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره:
وإن تك قد ساءتك منّي خليفةٌ ... فسُلِّي ثِيابي مِن ثيابك تَنْسُل
توصف نفسَه بالصبر والجَلَد والقوة على التهالك، ثم أدركتْه الرقةُ والاشتياق فقال في البيت الذي بعده:
أغرّك منّي أنّ حُبّك قاتِلي ... وأنك مهما تأمري القلبَ يَفعَل
مُستدركاً قولَه في البيت الأول:
فسُلي ثيابي من ثيابك تَنْسُل
ولم يزلْ من تقدم من الشعراء وغيرهم مُجمعين على ذَم الغُراب والتشاؤم به، وكأن اسمَه مُشتق من الغُربة، فسمَّوه غراب البَيْن، وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوتْ من أهلها. وخالفهم أبو الشِّيص، فقال ما هو أحسن من هذا، وأصدقُ من ذلك كُله، وهو قولُه:
ما فَرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبلُ
والناس يَلْحَون غُرا ... ب البَيْن لما جَهِلوا
وما إذا صاح غُرا ... ب في الدِّيار احتملوا
وما على ظَهر غُرا ... ب البَينْ تُطْوى الرحل
وما غُراب البين إل ... لا ناقة أو جَمل
وقال آخر في هذا المعنى وذَكَر الإبل:
لهنّ الوَجى إذ كُن عَوْناً على النَوى ... ولا زال منها ظالعٌ وكَسِيرُ
وما الشّؤم في نَعْب الغُراب ونَعْقه ... وما الشؤْم إلا ناقة وبَعير
ومن قولنا في هذا المعنى:
نعب الغراب فقلتُ أكذبُ طائرٍ ... إن لم يُصدِّقه رُغاء بَعير
رِدُّ الجمال هو المُحقَق للنَّوى ... بل شَر أحلاس لهنّ وَكُور
وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء، مُنفردٌ في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تَشْبيهه، كقول جعفر بن جِدار، كاتب ابن طُولون:
كم بين بارِي وبين بَمّا ... وبين بَوْن إلى دِمَمّا
من رَشأ أبيض التّراقي ... أغيدَ ذي غُنَّة أحَمَّا
وطَفْلة رَخْصة المَدارِي ... لَيست تُحَلّى ولا تُسمى
إلا بسِلْك من اللآلى ... يُعْجِز من يُخرج المُعمَى
صُغرى وكُبرى إلى ثلاثِ ... مثل التّعاليل أو أتَمَّا
وكم ببَم وأرض بَمّ ... وكَم بِرَمّ وأرْض رَمّا
من طَفلة بَضَة لَعوب ... تلقاك بالحُسن مستتما
مُنهن رَيّا وكيف رَيّا ... ريا إذا لاقت المَشَما
لو شمها طائر بَدوٍّ ... لَخَرّ في التُرب أولَهَمّا
تَسحب ثوبين من خَلْوق ... قد أفنيا زعفران قُمّا
كأنما جلّيا عليها ... من طِيب ما باشرَا وشَما
فأَلفيا زعفران قُم ... فانغمسا فيه واستحمِّا
فهي نظير اسمها المُعلَّى ... يقوح لامِرْطها المُدَمَّا
هيهاتَ يا أختَ آل بَمِّ ... غَلطت في الاسم والمُسمَّى
لو كان هذا وقيل سَمَ ... ماتَ إذاً من يقول سَمّا
قد قلتُ إذ أقبلتْ تَهادى ... كطَلعة البَدْر أو أتمّا
تُومي بأسْروعة وتُخْفي ... بالبُرْد مثَل القِداح حُمّا
لو كنت ممن لكنت مِمّا ... لكنّني قد كَبرتُ عَمّا
عاتبني الدهرُ في عِذاري ... بأحرُف فارعويت لمّا
قُوّس ما كان مستقيماً ... وأبيضّ ما كان مُدّلهمّا
وكيف تَصبو الدُّمى إلى مَنِ ... كان أخاً ثم صار عَمّا
بي عنكِ يا أختَ أهل بَمَ ... شُغْل بما قد دنا مُهِمّا
فلستُ من وجهك المُفدَّى ... ولستُ من قَدّك المُحمّى
أذهلني عنك خوفُ يوم ... يحيا له كل من ألمَّا
ما كسَبتْه يداي وَهْنا ... خيراً وشرًّاً أصبت ثَما

تُحشر فيه الجنان زَفًّا ... وتُحشر النَار فيه زَمّا
تقول هذي لَطالبيها ... هَيتَ وهذي لهم هَلُمّا
نَفسيَ أولى بأنْ أذُمّا ... مِن أمرها كل ما استُذمّا
يا نفسُ كم تُخدعين عَمّا ... بلُبس داج وأكل لمّا
رعيت مِن ذي الحُطام مَرعى ... جمعتِ أكلاً له وذَمّا
وَيحك فاستيقظي ليومٍ ... يحيا له كم من أِرما
ألم تَرَيْ يُونس بن عَبْدال ... أعْلى غَدا صامتاً فصُما
في حُفرة ما يُحير حَرفاً ... قد دكّ من فوقها وطما
والمُزَنَيّ الذيَ إليه ... نَعشو إذا دَهرُنا ادلهما
أخفى فؤادي له عَزائي ... لكنْ زَفيري عليه نَمَا
كأنما خُوِّفا فخافا ... أو حذَرا كاساهما فصما
أقبل سَهْم من الرَّزايا ... فخَصَ أعلامنا وعَمَّا
دَكدك منّا ذُرَا جبال ... شامخة في السماء شما
وَحصَنا دون مَنْ عليها ... وزاد همًّا بنا وغما
قد قَرُب الموتُ يا بنَ أما ... فبادر المَوت يا بن أما
واعلم بأنَّ من عصاك جهلا ... مِن التُقى لم يُطعك هِمّا
هو الهُدى والرَّدى فإمَّا ... أتيت آتى الردى وإما
ها أنذا فَاعتبر بحالي ... في طَبق مُوصَد مُعَمَّى
قد أسكنتني الذُّنوب بيتاً ... يخاله الإلف مُستحما
فهل إلى توبة سبيلٌ ... تكون فيها الهموم هَمّا
فَنَشكر الله لا سواه ... لعل نعماه أن تَتِمّا
يا نفسً جِدّي ولا تَميلي ... فأفضل البِرّ ما استُتمّا
أو ابحثي عن فُل بن فُل ... تَرَيْه تحت التراب رِمّا
لبئس عَبْد يروح بَغْياَ ... مع المَساوي تراه دَوْما
في غَمرة العَيش لا يُبالي ... أحمده الجارُ أمْ أَذَمَّا
كم بين هذا وبين عبد ... يغدو خميصَ الحشى هضمّا
يقطع آناءه صلاةً ... ودهره بالصلاح صوْمَا
إنّ بهذا الكلام نُصحاً ... إن لم يوافِ القلوب صُمّا
يا رب لِي ألفُ ذَنب ... إن تعفُ يا رب فاعفُ جَمّا
فأبْرِد بعفوٍ غليلَ قَلب كأنّ فيه رسيسَ حُمَى وقال الغَزّال:
لَعَمْري ما ملّكتُ مِقْوَدَي الصِّبا ... فأمْطوَ للذّات في السَّهل والوَعْرِ
ولا أنا ممّن يُؤثِر اللهوَ قلبُه ... فأمسي في سُكر وأصبحِ في سكرِ
ولا قارع باب اليهوديّ مَوْهناً ... وقد هَجع النُّوامُ من شهوة الخمر
وأوْتَغه الشيطان حتى أصاره ... من الغَيّ في بحر أضلّ من البَحر
أغذّ السُّرى فيها إذا الشَّرْب أنكروا ... ورَهْني عند العِلْج ثوبي من الفُجر
كأنّي لم أسمع كتابَ محمد ... وما جَاء في التَنزيل فيه من الزّجر
كفانيَ من كُل الذي أعجبوا به ... قُلَيلة ماء تُستقى لي من النَّهر
ففيها شرَابي إن عَطشتُ وكُلّ ما ... يريد عيالي للعَجين وللقِدْر
بخُبْز وبَقل ليس لحماً وإنني ... عليه كثيرُ الحمد لله والشكر
فيا صاحبَ اللُحمان والخَمر هل تَرى ... بوجهي إذا عاينتَ وجهيَ من ضر
وبالله لو عمرت تِسعين حِجةً ... إلى مثلها ما اشتقتُ فيها إلى خَمْر
ولا طربتْ نفسي إلا مِزْهر ولا ... تَحَنَّن قلبي نحو عُود ولا زَمْر
وقد حدّثوني أن فيها مَرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمُرّ
أخي عُد ما قاسيتَه وتقلبت ... عليك به الدُّنيا من الخَير والشر
فهل لك في الدُنيا سِوَى الساعةِ التي ... تكون بها السَّراء أو حاضِر الضُّرّ

فما ساق منها لا يُحس ولا يُرى ... وما لم يكن منها عَمِي عن الفِكْر
فطوبَى لعبدٍ أخرج الله روحَه ... إليه من الدنيا على عَمل البِر
ولكنني حُدثْت أن نُفوسَهم ... هنالك في جاه جليل وفي قَدْر
وأجسادهم لا يأكل التربُ لحمَها ... هنالك لا تبلى إلى آخر الدهر
فَفرَّق الدهرُ شملاً كان ملتئماً ... منّا وجمع شملاً غيرَ ملتئم
ما زلتُ أرعى نُجومَ الليل طالعةً ... أرجو السلوَّ بها إذ غِبْتُ عن نَجمي
نَجْم من الحُسن ما يجرى به فَلَك ... كأنه الدرّ والياقوت في النَّظم
ذاك الذي حاز حُسناً لا نظير له ... كالبدر نوراً عَلا في مَنْزل النّعم
وقد تناظَرَ واليِرْجِيسُ في شَرَفٍ ... وقَارَن الزَّهرةَ البَيضاء في تَوَم
فذاك يُشبهه في حُسن صُورته ... وذا يَزيد بحظّ الشّعر والقَلم
أشكو إلى الله ما ألقى لفُرقته ... شِكْوى مُحبّ سَقيم حافظِ الذِّمم
لو كنت أشكو إلى صُمِّ الهضاب إذاً ... تَفطَّرتْ للذي أبديه من أَلم
يا غادراً لم يزَل بالغَدر مُرتدياً ... أين الوفاءُ ابِنْ لي غيرَ محْتشم
إن غاب جسمُك عن عَيني وعن نَظري ... فما يَغيب عن الأسرار والوَهم
إني سأبكيك ما ناحتْ مَطوقةٌ ... تبْكي أَلِيفاً على فَرْع من النَّشم
ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلامقال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يُبَح للمتكلم، من قَصرْ الممدود، ومَدّ المقصور، وتَحريك الساكن، وتَسكين المتحرك، وصَرْف ما لا يَنصرف، وحَذف الكلمة ما لم تلتبس بأُخرى، كقولهم: فل من فلان، وحم من حمام .
قال الشاعر:
وجاءت حوادث مِن مِثلها ... يقال لِمثلك: ويهاً فُل
وقال مُسلم بن الوليد:
سَل الناسَ إني سائل الله وحْدَه ... وصائنُ وِجهي عن فُلان وعن فُل
وقال آخر:
دعاء حمامات تُجاوبها حَمُ
ومن المحذوف أيضاً قولُ الشاعر:
لها أشاريرُ مات لَحم تتَمِّره ... من الثَعالِي وَوَخْز من أرَانِيها
يريد من الثعالب. ومثله قول الشاعر:
ولضَفادِي جمَه نَقانِقُ
يريد الضفادع. ومن المحذوف قولُ كعب بن زُهير:
ويلُمّها خَلّةً لو أنها صَدقت ... في وَعدها أو لو أنَّ النُّصح مَقْبولُ
يريد ويل لأمها.
ومنه قولهم: لاه أبوك يريدون: للّه أبوك. وقال الشاعر:
لاه ابن عَمّك لا يخا ... ف المُبْديات من العَواقب
وكذلك الزيادة أيضاً إذا احتاجوا إليها في الشعر، فمن ذلك قول زُهير:
ثم استمرُّوا وقالوا إنّ موعدَكم ... ماء بشرقيّ سَلْمى فَيْدُ أورَكَكُ
قال الأصمعي: سألت بجنبات فَيد عن رَكك. فقيل: ماء هاهنا يُسمى ركّا. فعلمت أن زهيراً احتاج فضعَّف: ومنه قول القِطامىّ.
وقولُ المرء يَنْفُذ بعد حِين ... مواضعَ ليس يَنفذُها الإبارُ
ومثله قولهم: كَلكال، من كلكل. ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتَبّعه.
وأما قَصرهم المَمدود فجائز في أشعارهم، ومدِّ المقصور عندهم قَبيح. وقد يُستجاد في الشعر على قِبحه، مثلُ قوله حسّان بن ثابت:
قَفاؤُك أحسن من وجهه ... وأمك خيرٌ من المُنذرِ
وأنشد أبو عُبيدة:
يالك من تمْرٍ ومن شِيشاءِ ... يَنْشبَ في الحَلق وفي اللهاء
فمد اللَّهى، هو جمع لهاة: كما قالوا: قطاة وقطى، ونواة ونوى.
أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك، فمن ذلك قول لَبيد بن ربيعة:
تَرّاك أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها ... أو يَرْتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها
ومثله قولُ امرئ القيس:
فاليوم أشربْ غيرَ مُسْتحقب ... إثماً من الله ولا واغل
وِقال أمية بن أبي الصَّلت:
تأبى فما تَطلع لهم في وقتها ... إلا مُعذبة وإلا تُجْلدُ
ومن قولهم في تحريك الساكن:

اضْرِبَ عنك الهُمومَ طارقَها ... ضَرْبَك بالسَّوط قَوْنَس الفَرس
وأما صَرف مالا يَنصرف عندهم فكثير، والقَبيح عندهم ألا يُصرف المُنصرف، وقد يُستجاد في الشعر على قُبحه. قال عبِّاس بن مُرْداس:
وما كانَ بَدْر ولا حابس ... يفوق مِرداس في المَجمع
ومن قولهم في تَسكين المُتحرّك، وقد استشهد به سيبويه في كتابه:
عَجِب الناسُ وقالُوا ... شِعْرُ وضَاح اليَماني
إنما شِعْريَ قَنْدٌ ... قد خُلِطْ بجُلجلان
ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات.
باب ما أدرك على الشعراءقال أبو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة: أدركتِ العلماءُ بالشعر على امرئ القيس قولَه:
أغرّك منّي أنّ حُبك قاتلي ... وانك مهما تأمُري القلبَ يفعل
وقالوا: إذا لم يَغُرّ هذا فما الذي يَغر؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله، حيث يقول:
وإنْ كُنتِ قد ساءتكِ مني خليقة ... فسُلّى ثِيابي من ثيابك تَنْسُل
لأنه ادَّعى في هذا البيت فضلاً للتجلد وقوة الصبر بقوله:
فسُلّى ثيابي من ثيابك تنسل
وزعم في البيت الثاني أنه لا تَحمُل فيه للصبر، ولا قُوة على التمالك، بقوله:
وإنك مهما تأمُري القلبَ يَفْعَل
وأقبح من هذا عِندي قولهُ:
فظَلّ العَذَارى يَرْتمين بلَحْمها ... وشَحْمٍ كهُدَّاب الدِّمَقْس المُفتَّل
ومما أدرك على زُهير قولُه في الضفادع:
يخرُجن من شَرَياتٍ ماؤها طَحِلٌ ... على الجُذُوع يَخَفْن الغَم والغَرقَا
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافَة الغَمّ والغرق، وإنما ذلك لأنهن يبتن في الشّطوط.
ومما أدرك على النابغة قولُه يصف الثِّور:
تَحِيد عن أسْتَن سودٍ أسافلُه ... مثل الإماء الغوادِي تَحْمل الحُزَمَا
قال الأصمعيّ: إنما تُوصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرَّواح لا بالغدو، لأنهن يجَئن بالحَطبِ إذا رُحن؟ قال الأخْنَس التِّغلبيّ:
تَظل بها رُبْدُ النَعام كأنها ... إماء يَرُحن. بالعَشيّ حَواطبُ
وأخذ عليه في وصف السيف قولُه:
يَقُدِّ السَّلوقيَّ المُضاعَفَ نَسجه ... وُيوقِد بالصُّفّاح نارَ الحُباحبِ
فزعم أنه يَقُد الدّرع المضاعفة والفارس والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القَبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قولِه:
ليستْ من السُّود أعقاباً إذا انصرفتْ ... ولا تَبيع بأعلى مكّة البُرمَا
وممّا أخذ عليه قولُه:
خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبَال مَتينةٍ ... تُمدُ بها أيدٍ إليك نَوَازعُ
فشَبه نفسه بالدَّلو، وشَبه النُّعمان بخَطاطيف حُجن، يريد خطاطيف مُعوجة تُمدّ بها الدلو. وكان الأصمعيّ يُكثر التعجب من قوله:
وعَيرتْني بنو ذُبيان خَشْيتَه ... وهل علي بأن أخشاكَ من عارِ
ومما أدبك على المُتلمّس قوله:
وقد أتناسى الهَمّ عند احتقاره ... بناجٍ عليه الصيعريّة مُكْدَم
والصيعرية: سِمة للنوق، فجعلها صفة للفَحْل. وسمعه طرفة وهو صبّي يُنشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل. فضحك الناس، وصارت مثلاً. وأخذ عليه أيضاً قولُه.
أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا ... تَزايلْنَ حتى لا يَمسّ دمٌ دمَا
وهذا من الكَذب المُحال.
ومما أدرك على طَرفة قوله:
أسد غِيل فإذا ما شرَبوا ... وَهَبوا كلّ أمُون وطِمِرّ
ثم راحوا عَبق المسك بهم ... يلْحِفون الأرضَ هدّاب الأزر
فذكر أنهم يُعطون إذا سَكروا، ولم يَشترط لهم ذلك إذا صَحَوْا، كما قال عنترة:
وإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ ... مالِي وعِرْضي وافر لم يُكَلم
وإذا صحوتْ فما أقصِّر عن ندى ... وكما عَلمتِ شمائِلي وتكرُّمي
ومما أدرك على عديّ بن زَيد قولُه في صفة الفَرس:
فَضافَ يُعرِّي جُلَّة عن سَراته ... يَبُدّ الجيادَ فارهاً مُتتابعَا
ولا يقال للفرس: فاره، وإنما يقال له: جواد وَعَتيق. ويقال للكَوْدن والبَغْل والحمار: فاره.

ومما أدرك عليه وصفهُ الخمر بالخُضرة، ولا نعلم أحداً وصفها بذلك، فقال:
المُشْرِفُ الهِنديّ يُسْقَى به ... أخضَر مَطْموثاً بماء الخَريصْ
ومما أدرك على أعشى بَكر قولُه:
وقد غَدوتُ إلى الحانوت يَتْبعني ... شاوٍ مِشَلّ شَلول شلشل شَوِلُ
وهذه الألفاظ الأربعة في معنى واحد. ومما أدرك علِى لَبيد قوله:
ومُقام ضيِّق فرْجتُه ... بمُقامي ولساني وجَدَلْ
لو يقوم الفِيل أو فيّالُه ... زلّ عن مِثل مُقامي وزَحَل
فظن أن الفَيال أقوى الناس، كما أن الفِيل أقوى البهائم.
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قولُه يصف المرأة:
لم تدر ما نَسْجُ اليَرندج قبلَها ... وَدِراسُ أعوصَ دَارِس مُتجَدّدِ
اليَرَندجِ: جلود سُود. فَظنّ أنه شيء يُنْسج. ودِراسِ أعوص، يريد أنها لم تُدارس الناس عَويص الكلام الذي يخفي أحياناً ويَتبين أحياناً.
وقد أتى ابنُ أحمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تُعرف في كلام العرب، منها: أنه سمّى الناعر ماموسةً، ولا يُعرف ذلك فقال:
كما تطايح عن مامُوسة الشَّرَرُ
وسَمَّى حُوار الناقة بابوساً، ولا يُعرف ذلك، فقال:
حَنّتْ قَلُوصي إلى بابُولسِها جَزعاً ... فما حَنِينُكِ أمْ مَا أنتِ والذّكَر
وفي بيت آخر يذكر فيه البَقرة:
وبَنسَ عنها فرْقَد خَصِرُ
أي تأخّر، ولا يُعرف التَبنّس. وقال.
وتقَنَع الحرباء أرْنَتَه
يريد ما لُفّ على الرأس. ولا تعرف الأرنة إلا في شعره.
ومما أدرك على نُصيب بن رَبَاح قولُه:
أَهيمُ بدَعْد ما حَييت فإن أمُت ... فواكبدي مَن ذا يَهيم بها بَعدِي
تلهّف على من يهيم بها بعده.
ومما أدرك على الرَّاعي قولهُ في المرأة:
تكسو المفارقَ واللّباتِ ذا أرَج ... من قُصْب مُعتَلف الكافور درَّاج
أراد المسك. فجعله من قُصْب. والقُصب: المِعَى. فجعل المِسك من قُصْب دابّة تعتلف الكافور فيتولَد عنه المسك. ومما أدرك على جَرير قولُه في بني الفَدَوْكس رهط الأخطل:
هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفة ... لو شِئتُ ساقكُم إليَّ قَطِبنَا
القطين، في هذا الموضع: العَبيد والإماء. وقيل له: أبا حَزْرة، ما وجدتَ في تميم شيئاً تفخر به عليهم حتى فخرتَ بالخلافة، لا والله ما صنعتَ في هجائهم شيئاً. ومما أدركَ على الفَرزدق قولُه:
وعَضّ زمان يابن مَروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسْحتا أو مُجَلَّفُ
وقد أكثر النحويّون الاحتيالَ لهذا البيت، ولم يأتوا فيه بشيء يُرضي. ومثلُ ذلك قولُه:
غداةَ أحلَّت لابن أَصْرَم طَعنةً ... حُصَينٌ عَبيطاتِ السَّدائفِ والخَمرُ
كان حُصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره. فقال " عبيطات السدائف. فنصب عبيطات السدائف ورفع الخمر هانما هي معطوفة عليها، وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وحلّت له الخمر.
ومما أدرك على الأخطلِ قولُه في عبد الملك بِن مَرْوان:
وقد جَعل الله الخِلافة منهمُ ... لأبيض لا عارِي الخِوَان ولا جَدْبِ
وهذا مما لا يُمدح به خليفة.
وأخذ عليه قولُه في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يُعرف بالقَين ولم يكن قَيناً، فقال فيه:
نِعْم المجير سماك من بني أسدٍ ... بالمَرْج إذ قَتلت جيرانَها مُضَرُ
قد كنتُ أحسبه قَيْناً وأنبؤه ... فالآن طيَر عن أثوابِه الشَرَرُ
وهذا مدْح كالهجاء.
ومما أدرك على ذي الرمة:
تُصْغي إذا شَدَّها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استَوى في غَرْزها تَثِبُ
وسَمعه أعرابيّ يُنشده فقالت: صُرع والله الرجل، ألا قلت كما قال عَمُّك الراعي:
وواضعة خدّها للزَما ... م فالخَدُّ منها له أصْعرُ
ولا تُعجل المرءَ قبل الرًّكو ... ب وهي برُكبته أبْصر
وهي إذا قام في غرْزها ... كمثل السفينة أو أوْقرُ
ومما أدرك عليه قولُه:
حتى إذا دَوّمت في الأرض راجعةً ... كِبْرٌ ولو شاء نَجَّى نَفْسه الهَربُ

قالوا: التَّدويم: إنما يكون في الجوّ، يقال: دَوّم الطائر في السماء، إذا حلّق واْستدار؟ ودوَم في الأرض، إذا استدار فيها.
وما أدرك على أبي الطَّمَحان القَيْنيّ قولُه:
لما تَحَمَّلت الحُمول حسبتُها ... دَوْماً بأثلة ناعماً مَكْمُوماً
الدوم: شَجر المُقل، وهو لا يُكَم وإنما يُكَم النخل.
ومما أخذ على العجّاج قوله:
كأنّ عَينيه من الغُؤور ... قَلتان أو حَوْجَلتا قارُورِ
صَيّرتا بالنَّضح والتِّصْيير ... صلاصلَ الزَّيت إلى الشّطورِ
الحوجلتان: القارورتان. جعل الزَجاجَ ينضح ويَرشح. ومما أدرك على رؤبة قوله:
كُنتم كمن أدخل في جُحرٍ يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقَى الأسودا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرّة.
وأخذ عليه في وصف الظَّليم قوله:
وكُلُّ زَجّاج سُخَامُ الخَمْل ... تَبْري له في زعلاتٍ خطْل
فجعل للظليم عدّة إناث، كما يكون للحَمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأُخذ عليه قولُه يصف الرَّامي:
لا يَلتوي من عاطس ولا نَغَق
إنما هو النَّغيق والنُّغاق، وإنما يصف الرامي. وأدرك عليه قولُ:
أقفرت الوعثاء والعثاعِث ... من أهلها والبُرَق البَرَارِثُ
إنما هي البراث: جمع بَرْث. وهي الأرض اللينة.
وأدرك عليه قولُه: يا ليتنا والدهر جري السُّمّةِ إنما يقال: ذهب السّهمي أي في الباطل وأخذ عليه قوله
أو فِضّة أو ذهبٌ كِبْريتُ
قال: سَمع بالكِبْريت أنه أحمر فظن أنه ذَهب.
مما يَستقبح من تشبيهه قولُه في النساء:
يَلْبسن من لين الثيابِ نِيما
والنِّيم: الفرو المُغشىَّ. وأخذ عليه قولُه في قوائم الفَرس:
يَردبن شتَّى وَبقَعْن وَفْقَا
وأنشده مُسلم بنِ قُتَيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجَحِّاف. جعلتَه مُقيداً.
قال له رؤبة: أدْنني من ذنب البعير.
ومما أُدرك على أبي نُخيلة الراجز قولهُ في وصف المرأة:
مُرَية لم تَلْبس المرقّقا ... ولم تذُق من البُقول الفُستُقا
فجعل الفُستق من البقول، وإنما هو شَجر.
ومما أُدرك على أبي النجم قولُه في وصف الفرس:
يَسبح أُخراه ويَطفو أوَّلهُ
قال الأصمعي: إذا كان كذلك فحِمار الكسَّاحِ أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قَبيح. وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السُّلمي:
مرّ كَلمع البَرق سام ناظرُه ... يَسْبَح أُولاه ويَطفُو آخرُه
فما يَمسّ الأرضَ منه حافرُه
وأخذ عليه في الوُرود قولُه:
جاءت تَسامى في الرَّعيل الأول ... والظِّل عن أَخفافها لم يَفْضل
فوصف أنها وردت في الهاجرة. وإنما خَير الورود غَلساً، والماء بارد. كما قال الآخر:
فوردت قبل الصباح الفاتِقِ
وكقول لبَيد بن ربيعة العامريّ:
إنّ من وِرْدي لتغْلِيس النَهل
وقال آخر:
فوردْنَ قبل تَبينُّ الألوان
وأنشد بشَّار الأعمى قوِلَ كُثيّر عزة:
ألا إنَّما ليلَى عصا خيْزُرانة ... إذا غَمزوها بالأكُفّ تَلِينُ
فقال: للّه أبو صخر! جعلها عصا خَيْزرانة. فوالله لو جعلها عصا زيْد لَهَجّنها بالعَصَا، ألا قال كما قلتُ:
وبيضاء المَحاجر من معَدٍّ ... كأن حديثَها قِطَع الجُمانِ
إذا قامتْ لحاجتها تَثَنَّت ... كأنّ عِظامَها من خَيزران
ودخل العتابيّ على الرشيد فأَنشده في وصف الفَرس:
كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادمةً أو قلماً مُحرّفَا
فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتدِ أحدٌ منهم إلى إصلاح البيت غير الرشيد، فإنه قال: قُل:
تخال أذْنيه إذا تَشَوَّفا
والراجز وإن كان لَحن فإنه أصاب التَّشبيه. حدّث أبو عبد الله بن محمد بن عُرْفَة بواسط، قال: حدّثني أحمد بن محمد أبن يحيى عن الزُّبير بن بكّار عن سُليمان بن عياش السَّمديّ عن السائب، راوية كُثير عَزة، قال: قال لي كُثير عَزة يوماً: قُم بنا ابنِ أبي عَتيق نتحدّث عنده. قال: فجئنا فوجدنا عنده ابنَ مُعاذ المُغنّي. فلما رأى كُثيّراَ قال لابن أبي عتيق: ألا أُغنيك بشعر كُثير عزة؟ قال: بلى فغنّاه:

أبائنة سُعدى نعم ستَبِين ... كما انبت من حَبل القَرين قرينُ
أأن زُمّ أجمال وفارق جِيرة ... وصاح غُراب البين أنت حَزين
كأنك لم تَسمع ولم تَر َقبلها ... تفرُّق أُلاف لهنّ حَنِين
فأخلفن مِيعادي وخُنّ أمانتي ... وليس لمن خانَ الأمانة دِينُ
فالتفت ابنُ أبي عَتيق إلى كُثيّر، فقال: أوللدِّين صحبتهن يا بن أبي جُمعة؟ ذلك والله أشبهُ بهنّ، وأدعى للقلوب إليهنّ؟ وإنما يُوصفن بالبُخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة. وذو الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حَبّذا الإدلال والغَنَجُ ... والتي في طَرفها دَعَجُ
وِالتي إن حدّثت كَذبت ... والتي في ثَغرها فَلج
خبروني هل على رجُل ... عاشِقٍ في قُبلة حَرَج
فقال كُثيّر: قُم بنا من عند هذا، ومَضى.
عُمارة بن عَقيل بن بِلال بن جَرير، قال: إنّي بباب المأمون إذ خرج عبد الله ابن أبي السِّمط، فقال لي: علمتُ أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشِّعر.
قلت له: وبِم علمتَ ذلك؟ قال: أسمعتُه الساعَة بيتاً لو شاطرني مُلكه عليه لكان قليلاً. فنظر إلي نَظراً شَزراً كاد يَصطلمني. قلت له: وما البيت؟ فأنشد:
أضحى إمامُ الهُدى المأمون مُشتغلاً ... بالدّين والناسُ بالدنيا مَشاغيلُ
قلت له: والله لقد حَلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه. ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ ألا قلت كما قالَ جَدّي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدُّنيا مُضِيع نصيبه ... ولا عَرَضُ الدُّنيا عن الدّين شاعلُ
فقال: الآن علمتُ أنني أخطأت.
الهيثم بن عَدِيّ قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتُ ببابك جماعةً من الشعراء لا أحسبُهم اجتمعوا بباب أحد من الخلفاء، فلو أذنتَ لهم حتى يُنشدوكَ؟ فأذن لهم فأَنشدوه وكان فيهم الفرزدق، وجرير، والأخطل، والأشهب بن رُميلة. وترك البَعِيث فلم يأذن له. فقال الرجل المُستأذن لهم: لو أذنتَ للبَعِيث يا أمير المؤمنين، إنه لشاعر. فقال: إنه ليس كهؤلاء إنما قال من الشعر يسيراً. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأَذِن له فلما مَثَل بين يديه، قال: يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء ومَن ببابك قد ظَنّوا أنك إنما أذنتَ لهم دوني لفَضل لهم عليّ. قال: أولستَ تعلم ذلك؟ قال: لا واللّه، ولا علّمه الله لي. قال: فأنشِدْني من شعرك. قال: أمَا والله حتى أنشدك من شعر كُل رجل منهم ما يَفضحه فأقبل على الفرزدق، فقال: قال هذا للشيخُ الأحمق لعبد بني كُليب:
بأيّ رِشاءٍ يا جريرُ وماتحٍ ... تدلّيت في حَوْمات تلك القَماقِم
فجعله يتدلّى عليه وعلى قومه من عَلُ، وإنما يأتيه من تحته لو كان يَعقلُ. وقد قال هذا، كَلبُ بني كُليب:
لَقومِيَ أحَمى للحقيقة منكُم ... وأضربُ للجَبَّار والنقعُ ساطع
وأوثقُ عند المُرْدفات عشيّة ... لَحَاقاً إذا ما جَرَّد السيفَ لامِع
فجعل نساءه لا يثقْنَ بلَحاقه إلا عشيَّة، وقد نُكحن وفُضحن. وقال هذا النصراني، ومدح رجلاً يسمى قَيناً فهجاه، ولم يشعر، فقال:
قد كُنت أحسبه قيناً وأُنبؤه ... فالآن طُيّر عن أثوابه الشَّررُ
وقال ابن رُميلة ودَفع أخاه إلى مالك بن رِبْعيّ بن سَلْميّ فقُتل، فقال:
مَدَدنا وكان ضَلَّة من حلومنا ... بَثَدْيٍ إلى أولاد ضَمرة أقْطَعا
فمن يرجو خيرَه وقد فعل بأخيه ما فَعل. فجعل الوليدُ يُعْجب من حفظه لمثالب القوم وقُوة قلبه، وقال له: قد كشفتَ عن مساوئ القوم، فأنشدني من شعرك. فأنشده فاستحسن قولَه ووصَله وأجزل له.
ومما عِيب على الحسن بن هانئ قولُه في بعض بني العبًاس:
كيف لا يدينك من أمل ... مَنْ رسولُ الله من نَفره
فقالوا: إنّ حَق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُضاف إليه ولا يُضاف هو إلى غيره. ولو اتسع فأجازه لكان له مجاز حسن. وذلك أن يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قُريش: منّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها، كما قال حسّان بن ثابت:

وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائمُ عِزٍّ لا تُرام ومَفْخَرُ
بَهاليلُ منهم جَعفرٌ وابنُ أمه ... عليّ ومنهم أحمدُ المتخير
فقال: منهم، كما قال هذا: من نفر.
ومما أُدرك عليه قولُه في البَعير:
أَخْنس في مثل الكِظَام مَخْطِمُه
والأخنس: القصير المَشافر، وهو عَيب له، وإنما تُوصف المَشافر بالسبوطة. ومما أُدرك على أبي ذُؤيب قوِلُه في وصف الدُّرّة:
فجاء بها ما شئت مِن لطميّة ... يدُور الفُرات فوقَها وَتمُوجُ
قالوا: والدُّرة لا تكون في الماء الفُرات، إنما تكون في الماء المالح.
واجتمع جريرُ بن الخَطَفي وعُمَر بن لَجَأ التَّيمي عند المُهاجر بن عبد الله والي اليمامة، فانشده عُمر بن لَجأ أرجوزَته التي يقول فيها:
تَصْطكُّ ألْحِيها على دِلائها ... تَلاَطُمُ الأزد على عَطائِها
حتى انتهى إلى قوله:
تُجَرّ بالأهونِ من إدْنائها ... جَرّ العَجوز الثنْيَ من خِفَائها
فقال جرير: ألا قلت:
جرّ الفتاة طَرَفَيْ رِدائها
فقال: والله ما أَردتُ إلا ضَعْف العجوز. وقد قلتَ أنت أعجبُ من هذا، وهو قولُك:
وأوثق عند المُرْدفات عَشيّةً ... لَحاقاً إذا ما جَرّد السَّيفَ لامعُ
والله لئن لم يُلْحقن إلا عشيّة ما لُحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشَّرُّ بينهما.
وقَدم عمرُ بن أبي ربيعة المدينةَ، فأقبل إليه الأحوصُ ونُصيب، فجعلوا يتحدثون. ثم سألهما عمرُ عن كُثيّر عَزّة، فقالوا: هو هاهنا قَريب. قال: فلو أرسلنا إليه؟ قالا: هو أشدّ بَأْوا من ذلك. قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوَه، فألفَوْه جالساً في خَيمة له. فوالله ما قام للقُرشيّ، ولا وَسّع له. فجعلوا يتحدّثون ساعة. فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال له: إنك لشاعر لولا أنك تُشبِّب بالمرأة، ثم تَدعها وتُشبِّب بنفسك. أَخبرني عن قولك:
ثم اسبَطَرت تَشتدِّ في أَثَري ... تسأل أهلَ الطَّوافِ عن عُمر
والله لو وصفتَ بهذا هِرّة أهلِك لكان كثيراً! ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:
أَدور ولولا أن أرى أم جَعْفر ... بأبياتِكم ما دُرتُ حيثُ أدورُ
وما كنتُ زَوّاراً ولكنّ ذا الهَوى ... وإن لم يَزر لا بُدّ أن سيزور
قال: فانكسرت نَخوةُ عمر بن أبي ربيعة ودخلت الأحوصَ زَهوةٌ ثم ألتفت إلى الأحوص، فقالت: أخبرني عن قولك:
فإنّ تَصِلي أصِلْك وإن تَبِينيبهَجْرك بعد وَصْلك، ما أبالِي أمَا والله لو كنتَ حُرَّاً لبالَيتَ ولو كُسر أنفُك. ألا قلت كما قال هذا الأسود، وأشار إلى نصيب:
بزينَب اْلمِم قبلَ أن يَرحل الرَّكْبُ ... وقُلْ إن تَملِّينا فما ملكِ القَلْبُ
قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيْباً زهوة. ثم التفت إلى نُصيب، فقال له: أخبرني عن قولك:
أهيم بدَعد ما حييتُ فإن أمت ... فواكبدِي مَن ذا يهيم بها بَعدِي
أهمّك ويحك مَن يفعل بها بعدك. فقال القوم: الله أكبر استوت الفِرَق قُوموا بنا من عند هذا.
ودخل كُثير عزة على سُكينة بنت الحُسين عليه السلام، فقالت له: يا بن أبي جُمعة، أخبرني عن قولك في عَزّة:
وما رَوْضة بالحزن طَيِّبة الثَّرى ... يَمُج النَدى جَثْجاثُها وعَرارُها
بأطيَبَ من أرْدَانِ عَزّة مَوْهِناً ... وقد أوقدت بالمندل الرَّطب نارُها
ويحك! وهل على الأرض زنجية مُنْتنة الإبطين، تُوقد بالمَندل الرطب نارها إلا طاب ريحُها. ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس:
ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيّبِ
سمر عبدُ الملك بنُ مَروان ذاتَ ليلة وعنده كُثيّر عَزّة، فقال له: أنشدني بعضَ ما قلتَ في عَزّة. فأنشده، حتى إذا أتى على هذا البيت:
هممتُ وهَمّت ثم هابتْ وَهِبْتُها ... حياءً ومِثْلي بالحَيَاء حَقِيقُ
قال له عبدُ الملك: أما والله لولا بيت أنشدتَنيه قبل هذا لحرمتُك جائزتك.
قال: لمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتُها معك في الهَيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوتَ به يا أمير المؤمنين؟ قال قولك:

دعُوني لا أريد بها سِواها ... دعُوني هائماً فيمن يَهيمُ
ومما أدرك على الحسن بن هانئ قولُه في وصفِ الأسد، حيث يقول:
كأنما عينُه إذا التفتت ... بارزةَ الجفن عينُ مَخْنُوقِ
وإنما يُوصف الأسد بغؤور العَينين، كما قال العجّاج:
كأن عَينيه من الغُؤور ... قَلتان أو حَوْجلتا قارورِ
وقال أبو زُبيد:
كأنّ عينيه نَقباوان في حَجَر
ومن قولنا في وصف الأسد ما هو أشبه به من هذا:
ولرُبّ خافقة الذَوائب قد غَدتْ ... مَعْقودةً بلوائه المَنْصور
يَرْمِي بها الآفاق كُل شَرَ نْبَث ... كفّاه غيرُ مُقلَّم الأظْفورِ
لَيثٌ تَطِير له القُلوبُ مخافةً ... مِن بين همهمة له وزَئير
وكأنما يُومي إليك بطَرفة ... عن جَمْرتين بجَلْمد مَنْقُور
باب من أخبار الشعراءحَدّث دِعْبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشِّيص وأبو نُواس في مجلس، فقال لهم أبو نُواس: إنّ مجلسنا هذا قد شُهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده، فليأت كُل واحد منكم بأحسن ما قال، فَلْينشده. فأنشد أبو الشِّيص، فقال:
وَقف الهَوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخر عنه ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هَواكِ لذيذةً ... حُبّاً لذِكْرك فَلْيلمني اللُّوم
وأهنتِني فأهنت نفسيصاغراً ... ما مَن يهون عليك ممَن أُكْرِم
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبّهم ... إذ كان حَظِّي منك حظِّي منهمُ
قال: فجعل أبو نواس يعجب من حُسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عَجبُه. ثم أنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه:
فاقسم أنْسىَ الداعياتِ إلى الصِّبا ... وقد فاجأتْها العينُ والسِّترُ واقعُ
فغطّت بأيديها ثمارَ نُحورها ... كأيدي الأسرى أثقلتها الجَوَامع
قال دِعبل: فقال لي أبو نُواس: هاتِ أبا عليّ، وكأنّي بك قد جئتنا بأم القِلادة. فقلتُ: يا سيدي، ومن يُباهيك، بها غيري. فنشدته:
أين الشَّبابُ وأيَّة سَلَكا ... أَمْ أَين يُطلب ضلَّ أم هَلَكا
يا ليتَ شعري كيف صَبْرُكما ... يا صاحِبَيَّ إذا دَمِي سُفِكا
لا تطلُبا بظُلامتي أحداً ... قَلبي وطَرْفي لا دَمِي اشتركا
ثم سَألناه أن ينشد. فأنشد أبو نُواس:
لا تَبْك هِنداً ولا تَطْرب إلى دَعْدِ ... واشرب على الوَرْد من حَمراء كالوَرْدِ
كأساً إذا انحدرتْ في حَلْق شاربها ... وجدتَ حُمرتها في العيْن والخَدّ
فالخَمر ياقوتة والكأس لُؤلؤة ... في كَفّ جاريِة مَمشوقةَ القَدّ
تَسْقيك من عَينها خَمْراً ومن يَدها ... خَمراً فما لكَ من سُكْرَين من بُدّ
لي نَشْوتان وللندْمان واحدة ... شيء خُصصتُ به من بينهم وَحْدي
فقاموا كلهم فسجدوا له. فقال: أفعلتموها أعجميَّة، لا كلمتُكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً. ثم قال: تسعة أيام في هَجر الإخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعُقوبة على الهَفوة. ثم التفت إلينا فقال: أعلمتم أنّ حكيماً عَتب على حكيم فكتب المعتوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي، إنّ أيام العمر أقلُّ من أن تَحتمل الهجر، محمد بن الحسن المَدِينيّ، قال: أَخبرني الزبيرُ بن أبي بكرة، قال: دخلت على المُعتز بالله أمير المؤمنين فسَلمتُ عليه، فقال: يا أبا عبد اللّه، إني قد قلتُ في ليلتي هذه أبياتاً وقد أعيا عليّ إجازةُ بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني، وكان مَحموماً:
إنّي عرفتُ عِلاجَ القَلْب من وَجَع ... وما عرفتُ عِلاجَ الحُبّ والخُدَع
جَزعتُ للحبِّ والحمَى صَبرتُ لها ... إني لأعجبُ من صَبري ومن جزعي
مَن كان يَشغلُه عن حُبه وَجَعٌ ... فليس يَشغلني عن حُبكم وَجَعي
قال أبو عبد الله: فقلت:
وما أملُّ حَبيبي ليلةً أبداً ... مع الحَبيب ويا ليتَ الحبيبَ معِي
فأمر لي على البيت بألف دِينار.

اجتمع الحسنُ بن هانئ وصريعُ الغواني وأبو العتاهية في مجلس بالكوفة، فقيل لأبِي العتاهية: أنشدنا. فأنشد:
أسيَّدتي هاتي فديتُك ما جُرْمي ... فانزِلَ فيما تَشْتهين من الحُكْم
كفاكِ بحَقّ الله ما قد ظَلَمْتِني ... فهذَا مقامُ المُسْتجير من الظُّلم
وقيل لصريع الغواني: أنشدنا. فأنشأ يقول:
قد اطّلعتَ على سِرِّي وإعْلاني ... فاذهبْ لشانِكَ ليس الجَهْلُ من شَانِي
إنّ التي كُنتُ أنحو قَصْد شِرّتها ... أعطت رضاً وأطاعتْ بعد عِصْيانِ
ثم قيل للحسن بن هانئ: أنشدنا، فأنشد:
يا بنة الشَيخ اصْبَحينا ... ما الذي تَنتظرِينَا
قد جَرى في عُوده الما ... ءُ فأجْرِي الخمر فِينا
قيل: هذَا الهزل، فهاتِ الجدّ. فأنشأ:
لمِن طَلل عارِي المَحلّ دفينُ ... عفا عهدُه إلا روائمُ جُونُ
كما افترقت عند المَبيت حمائمٌ ... غَريباتُ مُمْسىً ما لهن وُكون
ديارُ التي أمّا جَنَى رَشَفاتها ... فحُلو وأما مسها فيَلين
وما أَنْصفت أما الشُّحوبفظاهرٌ ... بوَجهي وأمّا وجهها فَمَصُون
فقام صريعُ الغواني يجرّ ذيلَه وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلستُه أبداً.
هشام بن عبد الملك الخُزاعيّ قال: كُنا بالرقة مع هارون الرشيد فكتب إليه صاحبُ الخَبر بموت الكِسائي وإبراهيم المَوصلي والعبَّاس ابن الأحنف في وقت واحد. فقال لابنه المأمون: اخرج فصلّ عليهم. فخرج المأمون في وُجوه قُوّاده وأهل خاصّته، وقد صُفُّوا له. فقالوا له: مَن ترى أن يُقدَّم؟ قال: الذي يقول:
يا بَعِيدَ الدار عن وَطنه ... هائماً يَبْكي على شَجَنِهْ
كُلما جدّ البُكاء بِه ... زادتِ الأسقامُ في بَدنِه
قيل له: هذا، وأشاروا إلى العباس بن الأحنف. فقال: قَدّموه، فقُدِّم عليهم.
أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير، وهو مُقبل من عند هشام بن عبد الملك، فبات عندي إلى الصبح، فلمّا أَصْبح شَخص وخرجتُ معه أشيعه. فلما خرجنا عن أَطناب البيوت التفتَ إليّ فقال: أنشدني من قول مَجنون بني عامر قيس ابن المُلوّح، فأنشدتُه:
وأدنْيتِني حتى إذا ما سَبَيْتني ... بقَول يُحلّ العُصْمَ سَهلَ الأباطحَ
تجافيتِ عنِّي حين لا ليَ حيلة ... وغادرتِ ما غادرتِ بين الجَوانح
فقال: والله لولا أنه لا يَحسن لشيخ مثلي الصُّراخ لصرخت صرخة يسمعها هشامٌ على سريره. وهذا من أرق الشِّعر كُله وألطفه، لولا التضمين الذي فيه. والتضمين أن يكون البيت معلّقاً بالبيت الثاني لا يتم معناه إلا به. وإنما يُحمد البيت إذا كان قائماً بنفسه.
وقال العبّاسُ بن الأحنف نظير قول المجنون بلا تضمين، وهو قولُه:
أشكو الذين أذاقُوني مودَتهم ... حتى إذا أيقظوني بالهَوى رقدُوا
وقال الأصمعيّ: دخلتُ على هارون الرشيد، فوجدتُه منغمساً في الفراش فقال: ما أبطأ بك يا أصمعيّ؟ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما أكلتَ عليها؟ قلت: سِكباجة وطَباهَجة قال: رميتَها بحَجرها. أتشرب؟ فقلت: نعم، وقلت:
اسقنى حتى تراني مائِلاً ... وترى عُمرانَ ديني قد خَرِبْ
قال: يا مسرور، أي شيء معك؟ قال: ألف درهم. قال: ادفعها للأصمعيّ.
وكان يصحب عليَّ بن داود الهاشمي يَهوديّ ظَريف مؤنس أديب شاعر أريب، فلما أراد الحَج أراد أن يَستصحبه، فكتب إليه اليهودأي يقول:
إنّي أعوذ بداودٍ وحُفْرته ... من أن أحُج بكُره يا بن داوُدِ
نُبِّئتُ أنْ طريقَ الحَج مُصردة ... عن النَّبيذ وما عَيْشي بِتَصريدِ
والله ما فيَّ من أَجر فتَطلبَه ... فيما علمت ولا دِيني بمَحْمود
أما أبوك فذاك الجُود يعَرِفُه ... وأنت أشبهُ خَلق الله بالجُود
كأنّ ديباجَتَيْ خَدّيه من ذهب ... إذا تَعصّب في أثوابه السّود

حَدّث أبو إسحاق يحيى بن محمد الحَواريّ، قال: سمعتُ شيخاً من أهل البَصرة يقول: قال إبراهيم السَّويقي، مولى المَهالبة: تتابعتْ عليّ سنون ضيّقة، وألحِّ عليَّ العُسر وكثرةُ العِيال وقلّة ذات اليد، وكُنت مشتهراً بالشعر أقصد به الإخوان وأهلَ الأقدار وغيرَهم، حَتى جفاني كُل صديق، وملّني مَن كنت أقصده، فأضرّني ذلك جدّاً. فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفَقر وأضرّ بنا الجهد، وقد بقيتَ في بيتي كأنك زَمِن، هذا مع كَثرة الولد، فاخرُج عنّي واكفِني نفسك ودَعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مَرّة وأقعد بهم أخرى. وألَحّتْ عليّ في الخصومة، وقالت لي: يا مشؤوم، تعلمتَ صناعة لا تُجدي عليك شيئاً. فضجرتُ منها ومِن قولها وخرجتُ على وجهي في ذلك البرد والرِّيح، وليس عليَّ إلا فَرْو خَلَق ليس فوقه دِثار ولا تحته شِعار، وعلى عُنقي إزار، ثم جاءت ريحٌ شديدة فذهبت به عن بدني، وتفرّقت أجزاؤه عني، من بِلاه وكثرة رقاعه. وعلى عنقي طَيْلسان ليس عليّ منه إلا رسمه. فخرجت والله متحيَّراً لا أدري أين أقصد ولا حيث أذهب. فبينما أنا أجِيل الفكرة إذ اخذتني سماء بقطر متدارك. فدفعت إلى دارٍ على بابها روشن مطل ودكّان نظيف وليس عليه أحد، فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر. فقصدت قصدَ الدار. فاذا بجارية قاعدة قد لزمتْ باب الدار كالحافظة عليه، فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت لها: ويحك، لستُ بسائل، ولا أنا ممن تُتخوف ناحيته. فجلست على الدّكان. فلما سكنت نفسي سمعتُ نغمة رخيمة من وراء الباب تدلّ على نغمة امرأة. فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عِتاب. ثم سمعت نغمةً أخرى مثل ذلك، وهي تقول: فعلتِ وفعلتِ. والأخرى تقول: بل أنت فعلتِ وفعلتِ. إلى أن قالت إحداهما: أنا، جُعلت فداك إن كنتُ أسأتُ فاغفري واحفظي عنه أشعار ظريفة. فأنشدتْها تقول:
هبيني يا مُعذِّبتي أسأتُ ... وبالهِجْران قَبلكُم بدأت
فأين الفضلُ منكِ فَدَتْك نَفْسي ... عليّ إذا أسأتِ كما أسأت
فقالت: تها. ثم قالت: يا أبا إسحاق، ما لي أراك بهذه الهَيئة الرثّة والبزّة الخَلقة؟ فقلت: يا مولاتي، تعدَّى عليّ الدهرُ، ولم يُنصفني الزمان، وجفاني الإخوان، وكَسدت بضاعتي. فقالت: عَزّ عليّ ذلك. وأومأت إلى الأخرى، فضربت بيدها علىِ كمُها. فسلّت دملُجا من ساعدها، ثم ثَنَّت باليد الأخرى، فسلّت منها دملجاً آخر. فقالت: يا أبا إسحاق، خُذ هذا واقعد على الباب مكانَك وانتظر الجاريةَ تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سَكَن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا وخرجتا وقعدتُ مكاني. فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسةُ أثواب وصرّة فيها ألفُ دِرهم، وقالت لي: تقول مولاتي: أنفق هذه، فإن احتجتَ فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله. فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي قالت: هذا لِبَناتي، وكابرتني عليهما. فدخلت السّوقَ فبعتُهما بخمسين ديناراً، وأقبلتُ. فلما فتحت الباب صاحب امرأتي، وقالت: قد جئتَ أيضاً بشُؤمك! فطرحتُ الدنانيرَ والدراهم بين يديها والثياب، فقالت: من أين هذا؟ قلت: مِن الذي تشاءمت به وزعمتِ بضاعتي التي لا تُجدي. فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة.
نوادر من الشعروقال المأمون لمحمد بن الجَهم: أَنشدني بيتاً أوّله ذَمّ وآخره مَدْح أولك له كُورة فأنشده:
قَبحتْ مناظرُهم فحين خبرتُهم ... حَسُنت مناظرُهم لحسن المَخْبَر
أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوّه ... فطيبُ تُراب القَبر دلَّ على القبر
فولاه الدِّينور. وقال هارون الرشيد للمُفَضّل الضَّبِّي: أنشدنا بيتاً أوله أعرابي في شَملته، هَبَّ من نَومته، وآخره مَدنيّ رقيق، غُذِّي بماء العَقيق. قال المُفضل: هَوَّلتَ عليَّ يا أمير المؤمنين، فليت شعري، بأيّ مَهر تُفتضّ عَروس هذا الخدْر؟ قال هارون: هو بيتُ جَميل حيث يقول:
ألا أيها النّوام ويحكُم هُبُّوا ... أُسائلكم هل يَقتل الرجلَ الحبُّ

فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثمُ بن صَيفيّ في إصابة الرأي، وآخره بُقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء؟ قال له هارون: ما هو؟ قال: هو بيتُ الحسن بن هانئ حيث يقول:
دع عنكَ لَومي فإنّ اللومَ إغراء ... وداوني بالَّتي كانت هي الدواء
قال: صدقت. وقال الرَّبيع: خرجنا مع المنصور مُنصَرفنا من الحَجّ، فنزلنا الرَّضمة، ثم راح المنصور ورُحنا معه في يوم شديد الحَرّ، وقد قابلْته الشمس، وعليه جُبة وَشيْ. فالتفت إلينا، وقال: إنّي أقول بيتاً من الشعر، فمَن أجازه منكم فله جُبتي هذه قلنا: يقول أمير المؤمنين. فقال:
وهاجرة نصبت لها جَبيني ... يُقطِّع حرُّها ظَهرَ العِظَايه
فبَدره بشّار الأعمى فقال:
وقفتُ بها القلوصَ ففاض دَمعي ... على خَدِّي وأَسعد واعظَايه
فخرج له من الجُبة. فلقيته بعد ذلك، فقلت له: ما فعلتَ بالجُبة؟ قال: بعتُها بأربعة آلاف درهم. خرج رسول عائشة بنت المَهديّ، وكانت شاعرةً، إلى الشعراء وفيهم صرَيع الغواني، فقال: تُقرئكم سيدتي السلامَ وتقول لكم: من أجاز هذا البيتَ فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم:
أنيلي نَوَلاً وجُودي لنَا ... فقد بلغتْ نَفسيَ التَرْقوه
فقالِ صَريع:
وإني كالدلْو في حُبكم ... هَوِيتُ إذا انقطعتْ عَرْقوه
قال الحسن: صدقتَ. ثم أقبل إليه رجلٌ آخر، فقال: يا أبا سَعيد، ما تقول في الرجلِ يشك في الشَّخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلتَ أنا في مثل هذا. قال: الحسن، وما قلت؟ قال: قلت:
ولستَ بمأخوذ بقَول تقولُه ... إذا لم تُعِنْه عاقداتُ العزائِم
قال الحسن: صدقتَ. فأخذ المائة الدِّينار.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحَسن البَصريّ، وجرير يجلس إلى ابن سِيرين، لتباعد ما بين الرَّجلين، وكان موتُهما في عام واحد، وذلك سنة عشر ومائة. فبينما الفرزدق جالس عند الحَسن إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سَعيد: إنّا نكون في هذه البُعوث والسرَّ أيا فنُصيب المرأة من العدوّ وهي ذاتُ زَوْج، أفتحلّ لنا من غير أن يُطلّقها زوجُها؟ قالت الفرزدق: قد قلتُ أنا في مثل هذا في شعري. قال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلتُ:
وذات حَلِيل أَنكحْتها رماحُنا ... حَلالاً لمن يبني بها لم تُطلَقِ
واستعدت امرأةٌ على زَوجها عبّادَ بن منصور وزعمت أنه لا يُنفق عليها.
فقال لرؤبة: احكُم بينهما. فقال:
فطَلّق إذا ما كنتَ لستَ بمُنفقٍ ... فما الناسُ إلا مُنفِقٌ أو مطلق
وكان رجل يدَّعي الشعرَ ويستبرده قومُه، فقال لهم: إنما تَستبردونني من طريق الحَسد. قالوا: فبيننا وبينك بشّار العقيلي. فارتفعوا إليه. فقال له: أنشدني. فأنشده فلما فرغ، قال له بشّار: إني لأظنك من أهل بيت النُّبوة؟ قال له: وما ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول: وَما علّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي له فضحك القومُ وخَرجوا عنه. وقال أبو دُلف:
أنا أبو دُلف المُبدِي بقافية ... جوابُها يهلك الداهي من الغَيظِ
مَن زاد فيها له رَحْلي وراحلتي ... وخاتمي والمَدَى فيها إلى القَيظ
فأجابه ابنُ عبد ربّه.
قد زدتُ فيها وإن أَضحى أبو دُلف ... والنفسُ قد أَشرفت منه على الفَيظِ
سَمر الفرزدقُ والأخطلُ وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلةً، فبينما هم حوله إذ خفَق. فقالوا: نَعس أمير المؤمنين، وهمّوا بالقيام. فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعراً. فقال الأخطل:
رَماه الكَرى في رأسه فكأنّه ... صَرِيع تَروَّى بين أصحابه خَمْرا
فقال له: ويحك! سكران جعلتَني ثم قال جرير بن الخَطَفي:
رماه الكَرى في رأسه فكأنما ... يرى في سواد الليل قُنبرةً حَمْرا
فقال له: ويحك! أجعلتَني أَعمى. ثم قال الفرزدق بعد هذا:
رماه الكَرى في رأسه فكأنما ... أَمِيمُ جَلاميدٍ تَركْن به وَقرا
قال له: ويحك! جعلتني مَشْجوجاً. ثم أذن لهم فانقلبوا، فحيّاهم وأعطاهم.

كان عمرُ بن أبي ربيعةَ القُرشيّ غَزلاً مُشبِّباً بالنساء الحَوَاجّ رقيقَ الغزل، وكان الأصمعي يقول في شعره: الفُستق المقشَّرَ الذي لا يُشبع منه. وكان جرير يَستبرده، ويقول: شِعر حِجازِيّ لو أَنجد في تَمُوز لوُجد البرد فيه. فلما أنشد:
فلما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذَوكَ النَّعل بالنَّعل
فقال: ما زال يَهْذي حتى قال الشعر.
وقالت العلماء: ما عُصي الله بشعر ما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة. ووُلد عمر بن أي ربيعة، يوم مات عُمر بن الخطاب فسُمي باسمه، فقالت العلماء. أي خَير رُفع، وأي شرّ وُضع. ثم إنه تاب في آخر أيامه وتَنسك ونذر لله أن يُعتق رقبة بكل بيت يقوله، وإنه حَجَ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ نَظر إلى فتى من نُمير يلاحظ جاريةً في الطواف، فلما رأى ذلك منه مِراراً أتاه، فقال له: يا فتى، أمَا رأيت ما تصنع؟ فقال له الفتى: يا أبا الخَطّاب، لا تَعجل عَليّ، فإنّ هذه ابنة عمّي، وقد سُمّيت لي ولستُ أقدر على صَداقها، ولا أظفر منها بأكثر مما ترى، وأنا فلان بن فلان، وهذه فلانة بنت فلان. فعرفهما عُمر، فقال له: أقعد يا بن أخي عند هذه الجارية حتى يأتيكَ رسولي. ثم ركب دابّته حتى أتى منزلَ عم الفتى، فقَرع الباب، فخرج إليه الرجل، فقال: ما جاء بك يا أبا الخطّاب في مثل هذه الساعة؟ قال: حاجة عَرضت قِبَلك في هذه الساعة. قال: هي مَقْضية. قال عمر: كائنة ما كانت؟ قال: نعم. قال: فإني قد زوَّجت ابنتك فلانة من ابنِ أخيك فلان. قبل: فإني قد أجزتُ ذلك. فنزل عُمر عن دابَّته، ثم أرسل غلاماً إلى داره، فأتاه بألف درهم، فساقها عن الفتى، ثم أرسل إلى الفتى فأتاه، فقال لأبي الجارية: أقسمتُ عليك إلا ما ابتني بها هذه الليلَة. قال له: نعم. فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر إلى داره مسروراً بما صنع، فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ، ووليدة له عند رأسه، فقالت له: يا سيدي، أرقت هذه الليلة أرقاً لا أدري ما دَهمك؟ فأنشأ يقول:
تقول وليدتِي لمّا رأتْنيِ ... طَربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حِيناً
أراك اليوم قد أحدثتَ شَوقاً ... وهاج لك الهَوى داءً دفينا
وكنتَ زعمْتَ وإن تَعزي ... مَشُوق حين يَلقي العاشِقينا
ثم ذكر يمينَه فاستغفر الله وأعتق رقبةً لكل بيت.
دعا الأعورُ بنُ بنان التِّغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتاً قد نجّد بالفُرش الشريفة والوِطاء العجيب، وله امرأة تُسمى بَرَة، في غاية الحسن والجمال، فقال له: أبا مالك، إنك رجلِ تدخل على الملوك في مجالسهم فهل ترى في بيتي عَيباً؟ فقال له ما أرى في بيتك عيباً غيرك. فقال له: إنما أعجب من نفسي أذ كنت أدخل مثلَك بيتي، اخرج عليك لعنة اللّه. فخرج الأخطل وهو يقول:
وكيف يُداويني الطبيبُ من الجَوَى ... وبَرّة عند الأعور بن بَنَانِ
ويُلصق بَطْناً مُنتن الريح مُجْرِزاً ... إلى بَطْن خَوْد دائِم الخَفقَان
باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاءقال الشاعر في خيّاط أعور يسمَّى عَمْراً:
خاط لي عَمرو قَباءْ ... ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعاً ... أمديحٌ أم هجاء
ومثله قولُ حبيب في مَرثية بني حُميد، حيث يقول:
لو خَر سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ... ما كان إلا على هاماتهم يَقَعُ
فلو هُجي بهذا رجل على أنه أنجس خَلق الله لجاز فيه، ولو مُدح به على مذهب قول الشاعر:
وإنا لتَستحلي المَنايا نُفوسُنا ... ونترك أخرى مُرةً ما تَذُوقها
وقول الآخر:
ونحن أناس ما نَرى القَتل سُبَّةً ... إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُولُ
يُقَرِّب حبّ المَوت آجالَنا لنا ... وتَكرهه آجالهمُ فتَطُول
وما مات منّا سيّد في فِراشه ... ولا طُلّ مِنّا حيثُ كان قَتِيل
تسيل على حَدِّ السيوف دماؤنا ... وليس على غَير السُّيوف تَسِيل
لجاز ذلك. ومثله لحَبيب:
انظر فحيثُ تَرى السُيوفَ لوامعاً ... أبداً ففَوْقَ رؤوسهم تتألّقُ
ما قالوه في تثنية الواحد


وجمع الاثنين والواحد وإفراد الجمع والاثنينوقال الفرزدق في تثنية الواحد:
وعندي حُساماً سيفه وحمائلُه
وقال جرير:
لما تَذكَّرت بالدَّيْرين أرقني ... صوتُ الدَجاج وقَرْعٌ بالنَّواقيس
وإنما هو دَيْر الوليد، مَعروف بالشام، وأراد بالدجاج: الدَيكة.
وقال قَيس بن الخَطيم في الدِّرع:
مُضاعفة يَغشى الأناملَ رَيْعُها ... كأنّ قتيريْها عُيون الجَنادبِ
يريد: قَتيرها. وقال آخر:
وقال لبَوَّابَيْه لا تُدخِلنَّه ... وسُدَا خَصاصَ الباب عن كل مَنْظرِ
وقال أهِلُ التفسير في قول الله عزّ وجلّ: " ألْقِيَا في جَهَنَم كُلًّ كَفار عَنِيد " إنه إنما أراد واحداً فثنَّاه. وكذلك قولُ معاوية للجِلْواز الذي كان وكلّه برَوْح بن زِنْباع، لما اعتذر إليه رَوح واستعطفه: خلِّيا عنه.
قولهم في جمع الاثنين والواحدقال الله تبارك وتعالى: " فإنْ كان له إخْوةٌ فلأمّه السُّدُس " . يريد أخوين فصاعدا. وقوله: " إنّ الذين يُنَادونَك مِنْ وَرَاء الحجُراتِ أكْثرُهم لا يعْقِلُون " وإنما ناداه رجلٌ من بني تَميم، وقوله: " وألْقَى الألْوَاحَ " وإنما هما لَوْحان.
وقال الشاعر:
لَوْ الرجاء لأمرٍ ليس يَعْلمه ... خَلْق سِوَاك لما ذَلَت لكم عُنُقِي
ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمُحدث.
وأمّا قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرنا.
وكذلك في إفراد الاثنين. فمن ذلك قول الله تعالى: " ثُم يُخرِجكُم طِفْلاً " وقوله: " فَأْتِياه فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العَاَلمِين " وقوله: " فما مِنكم مِنْ أحِدِ عَنهُ حَاجِزين " وقال جرير:
هَذي الأراملُ قد قَضَّيت حاجتَها ... فَمَن لحاجَةِ هذا الأرمل الذكَرِ
وقال آخر:
وكأنّ بالعينين حَبَّ قَرَنْفُل ... أو فُلفلٍ كحِلت به فانهلّتِ
وِلم يقل: فانهلّتا. وقال مُسلم بن الوليد:
ألا أنِف الكَواعبُ عَن وِصالي ... غداةَ بدَا لها شيبُ القَذال
وقال جرير:
وقُلنا للنِّساء به أقيمي
قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكرقال مالك بن أَسماء بن خارجة الفَزاريّ في شعره الذي أوله:
حَبَّذا ليلُنا بتلِّ بَوَناً
ومَررنا بنِسْوة عطراتٍ ... وسَماع وقَرقَف فنزلْنَا
ما لَهم لا يُبارك الله فيهم ... حين يُسألن مَنحنا ما فَعلنا
وقال آخر: وقد استشهد به سيبويه في كتابه.
فلا ديمة وَدقت وَدْقها ... ولا أرْضَ أَبقلَ إبقالهَا
فذكِّر الأرضَ. وقال نصيب:
أنّ السماحةَ والمُروءة ضمنا ... قَبرًا بمَرْو على الطَّريق الوَاضح
وقالت أعرابية:
قامتْ تُبكّيه على قَبرهِ ... مِن ليَ مِن بعدك يا عامر
تركْتَني في الدار وحشيةً ... قد ذَلّ مَن ليس له ناصر
وقال أبو نُواس:
كَمَن الشَّنآن فيه لَنا ... ككُمون النار في حِجرِهْ
وإنما ذكرتُ هذا البابَ في كتاب الشعر، لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه
باب ما غلط فيه على الشعراءوأكثر مَا أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكنّ أصحاب اللغة لا يُنصفونهم، وربمَا غَلّطوا عليهم، وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها. فمن ذلك قولُ سيبويه، واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه:
مُعاوِي إننا بَشر فأسْجح ... فَلَسنَا بالجبال ولا الحَدِيدَا
كذا رواه سيبويه على النَّصب، وزعم أنّ إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس. وإنما قاله الشاعر على الخَفض، والشعر كله مخفوض، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحِيلة الضعيفة، وإنما الشعر:
مُعاوي إنّنا بَشر فأَسْجِحْ ... فلسنا بالجبال ولا الحَديدَ
أكلتُم أرضنا فَجَردْتُمُوها ... فهل من قَائمٍ أو من حَصِيد
أتطمع في الخُلود إذا هَلكنا ... وليس لنا ولا لك من خُلود
فهَبْنا أمةً هلكتْ ضَياعاً ... يزيدُ أميرُها وأبو يَزيد

ونظير هذا البيت، ما ذكره في كتابه أيضاً واحتج به في باب النون الخفيفة:
نَبتُّم نَباتَ الخَيْزرانيّ في الثَّرى ... حَديثاً متى ما يأتِك الخير يَنفعَا
وهذا البيت للنَّجاشيَّ. وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قَحطان على عدنان. في شعر كُله مخفوض، وهو:
أيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغن ... بني عامر عنّي يزيدَ بن صَعْصع
نَبتم نَبات الخَيزرانيّ في الثرى ... حديثاً متى ما يأتك الخيرُ يَنفع
ومثله: قولُ محمد بن يزيدَ النحويّ المعروف بالمُبرّد، في كتاب الروضة، وأدركَ.
على الحسن بن هانئ قولَه:
وما لِبَكْرِ بن وائل عُصْم ... إلا بحمَقائها وكاذِبها
فزعم أنه أراد بحَمقائها هَبنَّقة القَيسيّ. ولا يقال في الرجل حَمقاء. وإنما أراد دُغَة العِجليَّة، وعِجْل في بكر، وبها يُضرب المثل في الحُمق.
باب من مقاطع الشعر ومخارجهاعلم بأنك متى ما نظرتَ بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمتَ أنّ لكل ذي فضل فضلَه. ولا ينفع المتقدمَ تقدُّمُه، ولا يضرّ المتأخرَ تأخره. فأمّا مَن أساء النظمِ ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل:
شرَ يومَيْها وأغواه لها ... ركبتْ عَنْز بِحِدْج جَملاً
شرّ يوميها نصب على المحلّ. وإنما معناه ركبت عنز جَملاً بحِدْج في شر يوميها. وكقول الفرزدق:
وما مثْله في النّاس إلا مُملَّكاً ... أبو أمه حيٌ أَبوه يقاربُه
معناه: ما مِثل هذا الممدوح في الناس إلا الخَليفة الذي هو خاله، فقال: أبو أُمه حيّ أبوه يقاربه. فبعد المَعنى القريب، ووعّر الطريق السهل، ولبَّس المعنى بتوعّر اللفظ وقُبح البِنية، حتى ما يكاد يُفهم. ومثل هذا، إلاّ أنه أقرب منه إلى الفهم، قولُ القائل:
بينما ظِل ظَلِيلٌ ناعم ... طلعتْ شمس عليه فاضمحلْ
يريد: حتى طلعت شمس عليه. . ومثلُه قولُ الآخر:
إنّ الكريم وأبيكَ يَعْتمل ... إن لم يَجد يوماً على مَن يَتَّكل
يريد: على من يتكل عليه. وللّه دَرّ الأعشى حيث قال في المخبأة:
لم تَمْش ميلاً ولم تَركب على جَملٍ ... ولم تَر الشمسَ إلا دونَها الكِلَلُ
وأبين منه قولُ النابغة:
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفتْ ... ولا تبيع بأعلى مكة البَرَمَا
وقد حذا على مثال قول النابغة بعضُ المُبرزين من أهل العصر، فقال:
ليست من الرمص أشفاراً إذا نَظرت ... ولا تَبيع بفَوق الصُخرة الرُّغُفا
فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثلُ قول النابغة، وأنشد البيت، وقال: ما الفرق بين أن تَبيع البَرَم أو تَبيع الرغُف، وبين أن تكون رمضاء العينين أو سوداء العَقِبين. وانظر إلى سُهولة معنى الحسن بن هانئ وعُذوبة ألفاظه في قوله:
حذَر امرئ ضربت يداه على العدا ... كالدَّهر فيه شراسةٌ وليانُ
وإلى خُشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:
شَرسْتَ بل لِنْت بل قابلتَ ذاك بذا ... فأنتَ لا شك فيك السهلُ والجبلُ
وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ ... والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ
وقال الأعشى:
إنّ محلاً وإن مُرتحلا ... وإنّ في السفْر إذ مَضىَ مَهَلاَ
وقال إبراهيم الشَيْبانيّ الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردةً حُوشيّة بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقُرنت مع إخواتها حَسُنت، كقول الحسن بن هانئ:
ذو حَصر أفلت من كَرّ القبَل
والكر: كلمة خسيسة، ولاسيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حَسُنت، وكذلك الكلمة الرقيقة العَذْبة ربما عقبُتْ ونفرت إذا لم تُوضع في موضعها، مثل قول الشاعر:
رأت رائحاً جَوْناً فقامت غَريرةً ... بمِسْحاتها جُنحَ الظلام تُبادِرُهْ
فأوقع الجافي الجلْفُ هذه اللفظَة غير موضعها، وبَخسها حقَّها حين جعلها في غير مكانها حقًّا، لأنّ المسَاحي لا تَصلح للفرائز.

واعلم أنه لا يَصلح لك شيء من المنثور والمنظوم إلا أن يُجري منه على عِرق، وأن يتمسّك منه بسبب، فأما إن كان غيرَ مُناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقَريحتك. فلا تُنض مطيَّتك في التماسه، ولا تُتعب نفسَك في ابتغائه، باستعارتك ألفاظَ الناسِ وكلامَهم، فأنّ ذلك غيرُ مُثمر لك ولا مُجدٍ عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجةَ لذهنك، ومَلتحمة بطبعك.
واعلم أنّ من كانَ مرجعُه اغتصابَ نظم من تقدمه، واستضاءتَه بكوكب مَن سبقه، وسَحْبَ ذيل حُلة غيره، ولم تكن معه أداة تُولِّد له من بناتِ ذهنه ونتائج فكره، الكلامَ الجَزْل، والمعنى الحَفْل، لم يكن من الصناعة في عِير ولا نفير، ولا وِرد ولا صَدَر، على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، وَدرْسَ رسائل المُتقدمين، هو على كل حال ما يَفْتق اللسان، ويُقوي البيان، ويُحد الذهن، ويَشحذ الطبع، إن كانت فيه بقيّة، وهناك خيية.
واعلم أنّ العلماء شبَهّت المعاني بالأرواحِ، والألفاظَ بالأجساد واللُّباب. فإِذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزلَ، وكساه لفظاً حسناً، وأعاره مَخرجاً سهلاً، ومَنحه دَلاًّ مُونقاً، كان في القلب أحلَى، وللصدر أملاً. ولكنه بقي عليه أن يُؤلفه مع شقائقه وقُرنائه، ويجتمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينَظمه في سِلْكه كالجوهر المنثور، الذي إذا تولى نظمه الناظمُ الحاذقُ، وتعاطى تأليفَه الجوهريُّ العالم، اظهر له بإحكام الصَّنعة، ولطيف الحِكمة، حُسناً هو فيه، وكشاه ومَنحه بهجة هي له. وكذلك كلما احلولى الكلامُ، وعذُب وراق، وسَهُلت مخارجه، كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع، وأشدَ اتصالاً بالقلوب، وأخفّ على الأفواه، لا سيما إذا كان المعنى البديعُ مترجَماً بلفظ مُونق شريف، لم يَسِمْه التكلفُ بِمِيسمه، ولم يُفسده التعقيدُ باستهلاكه، كقول ابن أبي كَريمة:
قَفاه وجهٌ والذي وجههُ ... مثلُ قَفاه يُشبه الشمسا
فهجّن المعنى بتعقيد مخارج الألفاظ. وأخذه الحسنُ بن هانئ فأوضحه وسهَّله حيث قال:
بأبي أنتَ مِن غزالٍ غَرير ... بزَّ حُسنَ الوُجوه حُسنُ قَفاكَا
وكلاهما أخذه من حسَّان بن ثابت حيث يقول:
قفَاؤك أحسنُ من وجهه ... وأمُّك خير من المُنذِرِ "
وقَد يأتي من الشعر في طريق المَدح ما الذمُ أولى به من المدح، ولكنه يُحمل على مَحْمَل ما قبله وما بعده، ومثله قولُ حبِيب:
لو خَرَّ سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ... ما كان إلا على هاماتِهم يَقَعُ
وهذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنَّحس، لأنك لو وصفت رجلاً بأنه أنحسُ الخَلق لم تَصِفه بأكثر من هذا. وليس للشجاعة فيه وجْه، لأنّ قوَلهم: لو خَر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه هذا رأس كل نَحس.
قولهم في رقة التشبيبومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رِقةً، ويُؤدٌي عن الضمير إِبانة، مثل قول العباس بن الأحنف:
وليلة ما مثلها لَيلة ... صاحبُها بالنحس مَفْجوع
ليلةَ جِئناها على مَوعدٍ ... نَسْرِي وداعِي الشوقِ مَتْبوع
لما خَبت نيرانها وانكفأ الس ... امِر عنها وهو مصروع
قامت تَثَنَّى وهي مَرْعوبةٌ ... تَودّ أنّ الشملَ مَجْموع
حتى إذا ما حاولتْ خطوةً ... والصدرُ بالأرداف مَدْفوع
بَكى وِشَاحاها على مَتْنها ... وإنما أبكاهما الجُوع
فانتبه الهادُون مِن أهلها ... وصار للمَوْعود مَرْجوع
يا ذا الذي نم علينا لَقَدْ ... قُلتَ ومنك القولُ مَسْموع
لا تشغليني أبداً بعدها ... إلا ونَمامُك مَنْزوع
ما بال خَلْخَالك ذا خَرْسة ... لسانُ خَلخالك مَقْطوع
عاذِلتي في حُبها أَقْصري ... هذا لَعَمْري عنكِ مَوْضوع
وفي معناه لبشارِ بن بُرد:
سَيّدي لا تأت في قمر ... لحديثٍ وارقب الدّرُعا
وتوقَ الطِّيبَ ليلتنا ... إنه واش إذا سَطَعا
وله أيضاً:
يقولان لو غربت قلبك لا رعوَى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب

الأصمعي قال: سَمع كُثيّر عزة مُنْشداً يُنشد شعرَ جَميل بن معَمر، الذي يقول فيه:
ما أنتِ والوعدَ الذي تَعدِيننيِ ... إلاّ كَبرْقِ سَحابةٍ لم تُمْطِرِ
تُقضى الديونُ وليسَ يُقضىَ عاجلاً ... هذا الغريم ولستُ فيه بمعسِر
يا ليتَني ألقَى المنيةَ بغتةً ... إن كان يومُ لقائكم لم يُقدَر
يَهواك ما عشتُ الفؤادُ وإن أمت ... يَتْبع صَداي صداك بين الأقبُر
فقال كُثَيّر: هذا والله الشعرُ المَطبوع، ما قال أحد مثلَ قول جميل، وما كنتُ إلا راويةً لجميل، ولقد أبقى للشعراء مثالاً يحتذى عليه.
وسمع الفرزدق رجلاً ينشد شعر عُمر بن أبي رَبيعة الذي يقول فيه:
فقالتْ وأرْخَت جَانبَ السِّتر إنما ... مَعِي فتحدَّثْ غيرَ ذِي رِقْبة أهْلي
فقلتُ لها مالي بهم من تَرقُّب ... ولكنّ سري ليس يَحمله مِثْلي
حتى انتهى إلى قولِه:
فلما تَواقَفنا عرفتُ الذي بها ... كمِثل الذي بي حذوَك النَّعل بالنَعل
فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأتْه، وبكتْ على الطّلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلاً في شعره الذي يقول فيه:
خَلِيليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بكَى من حُبّ قاتله قَبْلي
فلم يصنع عمر مع جَميل شيئاً.
ومن قولنا في رقةّ النَسيب والشعر المَطبوع، الذي ليس بدون ما تقدّم ذِكْرُه:
صحا القلبُ إلا خَطْرَةً تبْعث الأسىَ ... لها زَفرةٌ موصولة بحَنينِ
بَلى رُبما حلَت عُرى عَزَماتِه ... سوالف آرام وأعْينُ عِين
لواقطُ حَبّات القُلوب إذا رَنَت ... ثِمارُ صُدور لاَ ثِمارُ غُصون
بُرُودٌ كأنوار الرَّبيع لِسنَها ... ثيابُ تَصاب في ثِياب مُجون
قَرَيْن أديمَ اللَّيل عن نور أوْجُهٍ ... تُجَن بها الألبابُ أيّ جنون
وجوهٌ جرى فيها النَّعيمُ فكلَلت ... بوَرْد خُدود يُجتَنى بعُيون
سألبس للأيام دِرعاً من العَزَا ... وإن لم يَكُن عند اللَقا بحَصِين
فكيف ولي قلبٌ إذا هَبّت الصَبا ... أهابَ بِشَوق في الضلوع دَفين
ويهتاجُ منه كُلّ ما كان ساكناً ... دُعاءُ حَمامٍ لم يَبِت بوكون
وإنّ ارتياحي من بُكاء حَمامةٍ ... كذِي شَجن داويتَه بشجون
كأن حَمامَ ألأيك حِين تَجاوبت ... حزينٌ بكَى من رَحمة لِحَزين
ومما عارضتُ به صريعَ الغواني في قوله:
أديرا عليّ الرَّاحَ لا تشرَبَا قَبليِ ... ولا تَطْلُبا من عند قاتِلتي ذَحْلي
فيا حَزني أنّي أموت صبابةَ ... ولكنْ على من يحلُ له قَتْلَي
فَدَيتُ التي صًدت وقالت لِترْبها ... دَعِيه، الثريا منه أقربُ من وَصْلي
فقلت على رويّه:
أتقتُلني ظُلماً وتَجْحدني قَتْلي ... وقد قام مِن عَيْنيك لي شاهدا عَدْل
أطُلاّبَ ذَحْلي ليس بي غيرُ شادنٍ ... بعَيْنيه سِحْر فاطلُبوا عنده ذَحْلي
أغار على قَلبي فلما أتيتُه ... أطالبه فيه أغار على عَقلِي
بِنَفسي التي ضَنّت برد سَلامها ... ولو سألتْ قَتليِ وَهبتُ لها قَتلي
إذا جئتُها صَدَّت حياءً بوَجهها ... فتهجُرني هَجراً ألذَ من الوَصْل
وإن حكمتْ جارتْ عليّ بحُكْمها ... ولكنّ ذاك الجَورَ أشهى من العَدْل
كتمتُ الهوى جَهدي فجرّده الأسى ... بماء البُكا هذا يَخُط وذا يُملي
وأحببتُ فيها العذْلَ حُبًّا لذِكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذْل
أقول لقَلبي كلما ضَامَه الأسىَ ... إذا ما أبيتَ العِزّ فاصبر على الذُّل
برأيكِ لا رَأيي تعرّضتُ للهَوى ... وأمرك لا أمري وفِعْلكِ لا فِعْلي

وجدتُ الهَوى نَصلاً من المَوت مُغْمَداً ... فجردتُه ثم اتكأتُ على النصْل
فإن كُنتُ مَقتولاً على غَير رِيبة ... فأنتِ التي عَرضت نفسيَ للقَتل
فمن نَظر إلى سُهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طَبعه، لمْ يَفْضُله شعرُ صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر:
كتمتُ الذي ألقى من الحُبّ عاذِلي ... فلم يَدْر ما بي فاسترحتُ من العَذْل
يقولي في هذا الشعر:
وأحببتُ فيها العذلَ حُباً لذكرها ... فلا شيَء أشهى في فؤادي من العَذْل
كتمتُ الهَوى جهدي فجرّده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يُمْلي
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت فاصبرْ على الذل
ومن قولنا في رِقّة النسيب وحُسن التشبيب:
كم سَوسنٍ لَطُف الحياءُ بلوْنه ... فأصاره وَرْداً على وَجناتِه
ومثله:
يا لؤلؤاً يَسْبِي العقولَ أنيقَاً ... وَرَشاً بتَقْطيع القلوب رَفيقَا
ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ بمثله ... دُرًّا يَعود من الحَياء عَقِيقا
ونظيرُ هذا من قولنا في رقة التشبيب وحُسن التشبيه البديع الذي لا نظير له، والغريب الذي لم يُسبق إليه:
حَوارء داعَبها الهوى في حُورِ ... حكمتْ لواحظُها على المَقْدورِ
نَظرتْ إليّ بمقلتَيْ أدْمانة ... وتلفّتت بسَوالف اليَعْفور
فكأنما غاض الأسى بجُفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ مَنْثور
ونظير هذا من قولنا:
أدعو إليك فلا دُعاءٌ يُسمَع ... يا مَن يَضرّ بناظرَيْه ويَنْفعُ
للوَرْد حِينٌ ليس يطلُعُ دونَه ... والوردُ عندك كُلَّ حين يَطْلُع
لم تَنصدع كَبِدي عليك لضَعْفها ... لكنّها ذابَتْ فما تَتَصدّع
مَن لي بأحورَ ما يبين لسانُه ... خَجلاً وسيفُ جُفونه ما يَقطَع
مَنع الكلامَ سوى إشارةِ مُقلةٍ ... فبها يُكلِّمني وعَنها يَسْمع
ومثله:
جَمال يفوت الوَهْمَ في غاية الفِكْر ... وطَرْفٌ إذا ما فاه يَنْطق بالسِّحرِ
ووجهٌ أعارَ البدرَ حُلة حاسدٍ ... فمنه الذي يَسْود في صَفحة البَدْر
وقال بشّار بن بُرْد:
وَيْح قلبي في حُبّها ممّا يُجنّ ... ضاق من كِتْمانه حتّى عَلنْ
لا تلم فيها وحسن حُبّها ... كل ما قَرتْ به العَيْن حَسَن
وله:
كأنها روضة مُنوَرةٌ ... تنفستْ في أواخر السَّحَرِ
ولبشّار، وهو أشعر بيت قاله المولدون في الغزل:
أنا والله أشتهي سِحْر عَيَني ... ك وأخشى مَصارع العُشَاقِ
وله:
حَوْراءُ إن نظرت إلي ... ك سَقَتْك بالعينين خَمْرا
وكأنّها بَرْد الشرَا ... بِ صفا ووافق منك فِطْرا
ولأبي نُواس:
وذات خَدّ مورّدْ ... قُوهيّة المُتجرّدْ
تأمّل العينُ منها ... محاسناً ليس تَنْفَد
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد
وكلما عدْت فيه ... يكون في العَوْد أحْمد
وله أيضاً:
ضَعيفة كَرّ الطَّرف تَحسب أنّها ... قريبةُ عهد في الإفاقة من سُقْم
قولهم في النحولقال عمر بن أبي ربيعة القُرشيّ يصف نُحولَ جِسْمه وشُحوبَ لونه في شِعره الذي يقول فيه:
رأتْ رجلاً أيْما إذا الشمسُ عارضَتْ ... فَيَضْحَى وأيما بالعشي فَيَخْصَرُ
أخا سَفر جَوّابَ أرْض تقاذفتْ ... به فَلَواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ
قليلاً على ظَهر المَطِيّة شَخصُه ... خلاَ ما نَفَى عنه الرداء المُحبّر
وفي هذا الشعر يقول:
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئتْ ... مصابيحُ شُبّت بالعِشاء وأَنؤرُ
وغاب قمَير كنتُ أرجو غيوبَه ... ورَوَّح رُعْيان ونَوَم سُمَّر

وخُفِّض فيّ الصوتُ أقبلتُ مِشية ال ... حُبابِ ورُكْني خِيفَة القوم أزور
فحييتُ إذ فاجأتها فتلهّفتْ ... وكادت بمكتَوم التّحيّة تَجهر
وقالت وعضت بالبَنان فضحتَني ... وأنت امرؤ مَيْسورُ أمرك أعْسر
أريتَك إذ هُنّا عليك ألم تَخفْ ... رقيباً وحَولي من عدوّك حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ ... سَرتْ بك أم قد نام من كُنتَ تَحذر
فقلتُ لها بل قَادني الشوقُ والهوى ... إليك وما عين من الناس تَنظر
فيالك من ليلٍ تقاصَر طولُه ... وما كان ليلي قبل ذلك يَقْصُر
ويا لك من مَلهىً هُناك ومجلس ... لنا لم يُكدِّره علينا مُكدِّر
يَمج ذكيَّ المسك منها مُفلَّجٌ ... رقيقُ الحَواشي ذو غُروب مؤشر
يَرفّ إذا تَفترُّ عنه كأنه ... حصىَ بَرَد أو أُقْحوان مَنوّر
وتَرْنو بعَيْنيها إليَّ كما رَنا ... إلى رَبْرب وَسْط الخميلة جُؤْذُر
فلمّا تقضىّ الليلُ إلا أقله ... وكادت توالي نَجْمِه تَتغوّر
أشارت بأنّ الحَيّ قد حان منهمُ ... هُبوب ولكنْ موعدٌ لك عَزْور
فما راعني إلا مُنادٍ برحْلة ... وقد لاح مَفْتوق من الصُّبح أشقر
فلما رأتْ مَن قد تنوَّر منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشِرْ كيف تأمُر
فقلتُ أباديهم فإمَا أفوتُهم ... وإما يَنالُ السيفُ ثأراً فيثأر
فقالت أتحقيقاً لما قال كاشح ... علينا وتصديقاً لما كان يُؤثر
فإنْ كان ما لا بدَ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأسْتر
أقص على أخْتَيّ بدْء حَديثنا ... وماليَ من أنْ يَعلما مُتأخّر
لعلهما أن يَبْغِيا لك مَخْرجاً ... وأن يَرحُبا صدراً بما كُنتُ أحْصر
فقالت لأختيها أعِينا على فَتىً ... أتىَ زائراً والأمرُ للأمْرِ يُقْدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلي عليكِ اللومَ فالخَطْب أيْسر
يقوم فَيَمشي بيننا مُتنكِّراً ... فلا سِرنا يَفْشو ولا هو يُبصرَ
فكان مِجَنّي دون من كنتُ أتّقي ... ثلاثُ شخوص كاعبان ومُعْصر
فلمَّا أجزنا ساحةَ الحيِّ قُلْن لي ... ألم تَتَّقِ الأعداءَ والليلُ مُقْمِر
وقُلن أهذا دأبُك الدهرَ سادراً ... أما تَستحي أم تَرْعوي أم تُفكِّر
ويُروى أن يزيدَ بن معاوية لما أراد تَوجيه مُسلم بن عُقبة إلى المدينة اعترض الناسَ، فمرّ به رجل من أهل الشام معه تُرس قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسَنَ من مِجَنك هذا - يريد قولَ عمر ابن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون من كنتُ أتّقي ... ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصر
وقال أعرابيُّ في النحول "
ولو أنّ ما أبقيتِ مني مُعلَّقٌ ... بعود ثُمام ما تأوّد عودُها
وقال آخر:
إن تسألوني عن تباريح الهَوى ... فأنا الهَوى وأبو الهَوى وأخُوه
فانظُر إلى رجل أضرّ به الأسىَ ... لولا تقلّب طَرفه دَفَنوه
وقال مجنون بني عامي في النُّحول:
ألا إنما غادرتِ يا أم مالِكٍ ... صَدى أينما تذهب به الريحُ يَذْهبِ
وللحسن بن هانئ:
كما لا يَنقضي الأرَبُ ... كذا لا يَفْتر الطلَبُ
ولم يُبْق الهوى إلاّ ... أقلّي وهو مُحْتَسب
وِسوَى أنَّي إلى الحَيوا ... ن بالحركات أنتسب
وقال آخر، وهو خالدٌ الكاتب:
هذا مُحبّك نِضْو لا حراكَ به ... لم يَبْقَ من جِسْمه إلا توهّمه
ومن قولنا في هذا المعنى:
سبيلُ الحُبِّ أوَّله اغترار ... وآخِره هُمومٌ وادّكارُ
وتَلْقى العاشِقين لهم جسوم ... بَراها الشوق لو نُفِخوا لطارُوا
ومثلُه من قولنا:

لم يبقَ من جُثمانه ... إلا حُشاشةُ مُبْتئِسْ
قد رَقّ حتى ما يُرى ... بلِ ذاب حتى ما يُحسّ
وقال الحسنُ بن هانئ في هذا المعنى فأَرْبى على الأولين والآخرين:
يا من تَموَت عَمْداً ... فكان للعين أَمْلَى
وفي الشعوثة أرْبى ... فكان أشْهَى وأحلى
أردت أن تَزديك الْ ... عيُونُ هَيهاتَ كَلا
يا عاقد القَلْب منّيِ ... هلا تذكّرتَ حَلا
تركتَ منّي قليلاً ... مِن القليل أقلا
يَكاد لا يَتجزّا ... أقلّ في اللَّفْظ مِن لا
ولأبي العتاهية:
تلاعبتِ بي يا عُتْبَ ثم حَمَلْتِني ... على مَرْكَب بي المَنيّة والسُّقْم
ألا في سبيل الله جِسْمي وقوتي ... ألا مُسْعد حتى أنوح على جِسمي
وله:
ولم تبقِ منّي إلا القليلَ وما ... أحسبها تترك الذي بَقِيا
قولهم في التوديعقال لسَعيد بن حُميد الكاتب، وكان على الخراج بالرقّة: ودّعت جاريةً لي تُسمّى شفيع، وأنا أضحك وهي تبكي، وأقول لها: إنما هي أيام قلائل. قال: إن كنت تقدر أن تُخلف مثل شفيع فنَعَمْ. فلما طال بي السفَرُ واتصلت بي الأيام كتبتُ إليها كتاباً وفي أسفله:
ودعتها والدمعُ يقطُر بَيننا ... وكذاك كُل مُلذَّع بفِراقِ
شُغلتْ بتَغييض الدّموع شِمالُها ... ويَمينها مشغولة بعناقِي
قال: فكتبتْ إليّ في طومار كبير ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره: يا كذاب - وسائر الكتاب أبيض. قال: فوجّهتُ الكتب إلى ذي الرياستين الفضل بن سَهل، وكتبْت إليها كتاباً على نحو ما كتبتْ، ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وفي آخره أقول:
فودعتها يوم التّفرق ضاحكاً ... إليها ولم أعلم بأنْ لا تلاقيَا
فلو كنتُ أدري أنه آخر اللقا ... بكيتُ وأبكيتُ الحبيبَ المُصافيا
قال: فكتبتْ إليّ كتاباً آخر ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم في أوله، وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك. فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل، فأشخصني إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع.
محمد بن يزيد الرَّبعيّ عن الزّبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المتوكل قال: إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش، فطال مُقامه بها، تمتّع بجارية رائعة الجمال، بارعة الكمال، فأَنسته ما كان فيه من رَونق الخلافة وتَدبيرها. وكان قبل ذلك مُتيَّماً بجارية خلّفها بالعراق، فسلا عنها. فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحُبور يَحلف لها أنه لا يُفارق البلدَ ما عاش، إذ قَدِم عليه كتابُ جاريته من العِراق، وفيه مكتوب:
كيف بَعدي لا ذُقْتمُ النومَ أنتمْ ... خَبِّروني مذ بِنْتُ عنكم وبِنْتُم
بمراض الجُفون من خُردِ الع ... ين ووَرْدِ الخُدود بعدي فُتِنتم
يَا أخلايِ إنّ قلبي وإن با ... ن من الشَّوق عندكم حيثُ كُنتم
فإذا ما أبَى الإله اجتماعاً ... فالمَنايا عليّ وَحْدي وعِشْتم
أخذَتْ هذا المعنى من قول حاتم:
إذا ما أتى يومٌ يُفرَق بيننا ... بمَوت فكُن أنتَ الذي تتأخَّرُ
فلم يباشر لذةً بعد كتابها، حتى رضي عنه المُتوكل وصَرفه إلى أحسن حالاته. الزُّبيريّ قال: حدّثني ابنُ رجاء الكاتب قالت: أخذ مني الخليفة المُعتز جاريةً كنتُ أحبها وتُحبّني، فشربا معاً في بعض اللَيالي، فسكر قبلَها وبقيتْ وحدها ولم تَبرح من المجلس هيبةً له، فذكرتْ ما كنّا فيه من أيامنا، فأخذت العُود فغنّت عليها صوتاً حزيناً من قلب قريح، وهي تقول:
لا كان يومُ الفِراق يوماً ... لم يُبقِ للمُقْلَتَيْن نَوْمَا
شَتّتَ مني ومنك شَملاً ... فسَر قوماً وساء قَوما
يا قوم مَن لي بوَجْد قَلب ... يسُومني في العذاب سَوْما
ما لامني الناسُ فيه إلا بكيتُ ... كيما أزاد لَوْما

فلما فرغت من صوتها، رفع المُعتز رأسه إليها والدمعُ يجري على خدّيها كالفَريد انقطع سِلكَه، فسألها عن الخبر وحَلف لها أن يُبلغها أملَها. فأعلمتهُ القصة. فردّها إليّ وأحسن إليها وألحقني في نُدمائه وخاصته.
وكان لأبي أحمد، صاحب حَرب المعتمد، جارية، فكتبتْ إليه وهو مُقيم على العلويّ بالبصرة، تقول:
لنا عبراتٌ بعدكم تَبعث الأسى ... وأنفاسُ حُزن جَمَّة وزَفِيرُ
ألا ليتَ شِعْري بعدنا هل بَكيتُمُ ... فأمّا بُكائي بعدكم فكَثير
قال أبو أحمد: فلم يكُن لي هَمّ غيرها حتى قفلتُ من غَزاتي.
وكتب مروان بن محمد، وهو مُنهزم نحو مصر، إلى جارية له خلّفها بالرَّمْلة:
وما زال يَدعوِني إلى الصد ما أرى ... فأنأى وَيَثْنيني الذي لكِ في صَدْري
وكان عزيزاً أنّ بيني وبينها ... حِجاباً فقد أمسيتُ منك على عَشر
وأنكاهما والله للقَلب فاعلَمي ... إذا ازددتُ مثلَيْها فصرتُ على شَهْر
وأعظم من هذينِ والله أنني ... أخافُ بألا نَلْتقي آخرَ الدهر
سأبكيك لا مُسْتَبْقياً فيْضَ عَبْرةٍ ... ولا طالِباً بالصَّبر عاقبةَ الصبر
الزبير بن بكار قال: رأيتُ رجلاً بالثّغر وعليه ذلّة واستكانة وخضوع، وكان يُكثر التنفّس، ويُخفي الشَّكوى، وحركاتُ الحُب لا تَخفى، فسألتُه وقد خلوتُ به، فقال وقد تحدّر دمعُه:
أنا في أمْرَيْ رَشادِ ... بين غَزْو وجِهادِ
بَدني يَغزو الأعادي ... والهَوى يَغزُو فؤادي
يا عليماً بالعِبادِ ... رُدّ إلْفي ورُقادِي
وقال أعرابي يصف البَينْ:
أدْمت أناملَها عضّا على البَينْ ... لما انثنت فرأتْني مَعَ العين
وردَّعتنيَ إيماء وما نَطقتَ ... إلا بسُبابة منها وعيَنين
وَجْدِي كوَجدك بل أضعافُه فإذا ... عني تواريتِ قابَ الرّمح واحيَني
وان سمعتِ بموتي فاطلُبي بدَمي ... هواكِ والبَيْن واستعدي على البَين
وقال الآخر،
مالتْ تودّعني والدمعُ يَغْلِبها ... كما يَميل نسيم الرِّيح بالغُصْنِ
ثم استمرّت وقالتْ وهي باكية ... يا ليتَ مَعْرفتي إياكَ لم تَكُن
وقال آخر:
أنينُ فاقِد إلْفٍ أنَّ في الغَلَس ... حتى تَضايَقَ منه مخرجُ النفس
فكُلما أنَّ مِن شَوْق أجالَ يداً ... على فُؤاد له بالبَينْ مخْتلَسِ
وقال آخر:
أمبتكر للبينْ أم أنتَ رائحُ ... وقلبُك مَلْهوفٌ ودمعُك سافحُ
أالآنَ تبكي والنَّوى مُطمئنة ... فكيف إذا بارحتَ مَنْ لا تُبارح
فإنّك لم تَبْرح ولا شطت النَّوى ... ولكنّ صَبْري عن فؤادِيَ نازح
وقال آخر:
إذا انفتحتْ قُيود البَينْ عَنّيِ ... وقِيل أتِيح للنّائي سراحُ
أبتْ حَلقَاتُه إلا انقفالاً ... ويأبَى الله والقدَر المُتَاح
ومن لي بالبَقَاء وكُلّ يومٍ ... لِسَهْم البَينْ في كَبِدي جِرَاح
وقالَ محمد بن أبي أُمية الكاتب:
يا غريباً يَبكي لكل غَريبِ ... لم يَذُق قَبْلها فِراقَ حَبِيبِ
عَزّه البينُ فاستراح إلى الدّم ... ع وفي الدّمع راحةٌ للقلوب
خَتلتْه حوادثُ الدَّهر حتَى ... أقصدتْه منها بسَهْم مُصيب
أيّ يوم أراك فيه كما كُن ... ت قريباً فأشْتكي مِن قَرِيب
وقال أبو الطيامير:
أقول له يومَ ودَّعتُه ... وكُل بعَبْرته مُبْلِسُ
لئن رجعتْ عنك أجسامُنا ... لقد سافرتْ معك الأنْفُس
وقال أبو العتاهية:
أبِيت مُسَهداً قلِقاً وِسَادِي ... أروِّح بالدُموع عن الفُؤادِ
فِراقُك كان آخرَ عَهْدِ نَوْمي ... وأوَّل عَهْد عَيْني بالسُّهاد
فلم أرَ مثلَ ما سُلِيَتْه نَفسي ... وما رجعتْ به من سُوء زادي
وقال محمد بن يزيد التُسْتريّ:

رَفعت جانباً إليكَ من الكِل ... لة قد قابلتْه طَرْفاً كَحِيلاَ
نظرتْ نَظرَةَ الصًبابة لا تم ... لك للبَيْن دَمْعها أن يَجُولا
ثم ولَّت وقد تَغيّر ذاك الصّب ... ح من خَدّها فعاد أصيلا
وقال يزيدُ بن عثمان:
دمعَة كاللُّؤلؤ الرّط ... ب على الخدّ الأسيل
وجُفون تنفث السح ... رمن الطَّرف الكَحِيل
إنَّما يفتضح العا ... شِقُ في يوم الرَّحيل
وقال عليُّ بن الجَهْم:
يا وحشتا للغريب في البَلد الن ... نازح ماذا بنَفْسه صَنَعا
فارقَ أحبابَه فما انتفعُوا ... بالعَيْش من بعده وما انتفَعا
يقولُ في نأيه وغُربته ... عَدْل مِن الله كلُّ ما صَنَعا
وقال آخر:
بانُو فأضْحى الجِسمُ من بعدهم ... ما تُبصر العينُ له فَيَّا
يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضَرك الفقدُ لنا شَيّا
بأيّ وَجْه أتلقّاهم ... إن وجَدوني بعدهم حَيَّا
وقال آخر:
أترحل عن حَبيبك ثم تَبْكي ... عليه فمَنْ دَعاك إلى الفِرَاقِ
وقال هُدْبة العذريّ:
ألا ليتَ الرِّياحَ مُسخَّرات ... بحاجتنا تُباكرُ أو تَؤُوبُ
فتُخْبِرَنا الشًمالُ إذا أتَتْنا ... وتُخبرَ أهلَنا عنّا الجَنُوب
عسىَ الكَرْبُ الذي أَمْسيتُ فيه ... يكون وراءه فَرَج قَرِيب
فيأمَن خائف ويُفَكّ غانٍ ... ويأتِي أهلَه النائي الغَريب
وقال آخر:
لا باركَ الله في الفِراق ولا ... بارَك في الهَجْر ما أمرَّهُمَا
لو ذُبِح الهَجْر والفِراق كماِ ... يُذْبح ظَبْي لمَا رَحِمْتُهما
شربت كأس الفراق مُترَعةً ... فَطار عن مُقلتيّ نومُهُما
يا سيّدي والذي أؤمّله ... ناشدتُك الله أن تَذُوقهما
وقال حبيب الطائي:
الموتُ عِنْدي والفِرا ... قُ كلاهما ما لا يُطَاقُ
يَتعاونان على النُّفو ... س فَذا الحِمام وذا السِّياق
لو لم يكُن هذا كذا ... ما قِيل موت أو فِراق
وقال آخر:
شتّان ما قُبْلةُ التَلاقِ ... وقُبلة ساعةَ الفِرَاقِ
هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحةُ العِنَاقِ
وقال سعيد بن حُميد:
موقفُ البَن مأتَمُ العاشِقينا ... لا تَرى العينُ فيه إلا حَزِينَا
إنّ في البين فَرحتين فأمّا ... فَرْحتي بالوَداع للظَّاعنينا
فاعتناق لمن أحبّ وتَقْبي ... ل وَلمْس بمحْضرَ الكاشِحينا
ثم لي فَرْحة إذا قَدِم الن ... ناس لتَسْليمهم على القادِمينا
وقال أعرابي:
ليلُ الشَّجِيِّ على الخَليّ قصيرُ ... وبَلا المُحِبّ على الحبيب يَسِيرُ
بانَ الذين أحبُّهم فتَحمَّلوا ... وفراقُ مَن تَهْوى عليك عَسِير
فلأبعثنْ نياحةً لفراقهم ... فيها تُلَطَّم أوجه وصُدور
ولألبسنّ مَدارعاً مُسْودَة ... لُبْس الثَّواكل إذ دهاك مَسِير
ولأذكرنّك بعد موتي خالياً ... في القَبْر عندي مُنْكَرٌ ونَكير
ولأطلبنّك في القِيامة جاهداً ... بين الخَلائق والعِبادُ نشور
فبِجَنّةٍ إن صرتَ صرتُ بجَنّة ... ولئن حواك سعيرُها فَسعِير
والمُستهامُ بكُل ذاك جديد ... والذَّنب يُغفر والإله شَكُور
ومن قولنا في البَينْ:
هَيّج البينُ دَواعِي سَقَمِيِ ... وكَسَا جسميَ ثَوْبَ الألَم
أيّها البَين أقلني مَرّةَ ... فإذا عُدْت فقد حَلَّ دَمِي
يا خَليّ الذرع نَمْ في غِبْطة ... إنّ مَن فارقتَه لم يَنَم
ولقد هاجَ لِقَلْبي سَقَماً ... ذِكْرُ مَن لو شاء داوَى سَقَمِي
ومن قولنا في المعنى:

ودّعْتني بزَفْرة واعتناقِ ... ثم نادتْ متى يكون التَّلاقِ
وتَصدَّت فأَشرقَ الصّبحُ منها ... بين تلك الجُيوب والأطْواق
يا سقيمَ الجُفون من غير سُقم ... بين عَينيك مَصْرعُ العُشّاق
إنّ يومَ الفِراق أفظع يوم ... ليتَني مِتّ قبل يوم الفِراق
ومن قولنا فيه:
فررت من اللِّقاء إلى الفِراق ... فحَسْبي ما لَقِيتُ وما ألاقِي
سَقاني البَيْنُ كأسَ الموت صِرْفاً ... وما ظَني أموتُ بكَفِّ ساقي
فيا بردَ اللِّقاء على فُؤادي ... أجِرْني اليومَ من حَرِّ الفِراق
وقال مجنون بني عامر:
وإني لمُفْنِ دمعِ عيني من البُكا ... حِذاراً لأمرٍ لم يكن وهو كائِن
وقالوَا غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراقُ حبيب لم يَبِنْ وهو بائن
وما كنتُ أخشى أن تكون مَنيّتي ... بكَفِّيَ إلاّ أنّ ما حان حائِن
وقال أبوِ هشام الباهليّ:
خَليلي غداً لا شكّ فيه مودّعِ ... فوالله ما أدرى غداً كيفَ أصْنَعُ
فواحزَني إنْ لم أودّعه غُدوة ... ويا أسفَاً إن كنتُ فيمن يُوَدَع
فإن لم أودِّعه غداً مِتُّ بعده ... سريعاً وإنْ ودّعتُ فالمَوْتُ أسرَع
أنا اليومَ أبكيه فكيف به غداً ... أنا في غدٍ والله أبكَى وأجزَع
لقد سخُنت عينيِ وجلَّت مُصيبتي ... غداةَ غدٍ إن كان ما أتوقّع
فيا يوم لا أدبرت هل لك مَحْبِسويا غدُ لا أقبلتَ هل لك مَدْفع
وقال بشّار بن بُرد:
نَبَت عيني عن التَغميض حتى ... كأنّ جفونَها عنها قِصارُ
أقول وليلتي تَزداد طُولاً ... أمَا للَيل بعدكم نَهار
وقال المُعتصم، لما دخل مصر وذكر جاريةً له:
غريب في قُرى مِصر ... يُقاسي الهم والسقما
لَلَيلٌ كان بالمَيْدَا ... نِ أقصرُ منه بالفَرَما
وقال آخر:
وَداعكِ مِثلُ وداع الرَّبيعِ ... وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ
عليك سلام فكَم من ندىَ ... ففدناه منك وكَم مِن كَرم
قولهم في الحمامقال أبو الحسن الأخفش: قالت جَحْدر العُكْليّ، وكان لصًا:
وقِدْماً هاجَني فازددتُ شوقاً ... بكاءُ حمامتَيْن تجاوبانِ
تجاوبتَا بلَحَن أعجميٍّ ... على عُودين من غَرَب وبانِ
فكان البانُ أن بانت سُليمى ... وفي الغَرَب اغترابٌ غيرُ دانِي
وقال آخر:
وتفَرَّقوا بعد الجميع لأنه ... لا بُدّ أن يتفرّق الجيرانُ
لا تَصبِر الإبلُ الجلادُ تفرّقت ... بعد الجَميع ويَصبر الإنسَانُ
وقال آخر:
فهل ريبة في أن تَحِنّ نَجِيبة ... إلى إلْفها أو أنْ يَحن نَجِيبُ
وإذا رجّعت الإبلُ الحَنِينَ كان ذلك أحسَنَ صوت يَهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لصوت الحَمام. وقال عَوف بن مُحلم:
ألا يا حمامَ الأيك إلفك حاضر ... وغَصْنك مَيّاد ففِيم تنُوح
وكل مُطوَّقة عند العرب حمامة، كالدُّبسي والقُمري والوَرشان، وما أشبه ذلك، وجمعها حَمام، ويقال حمامة، للذكر والأثنى، كما يقال بطة، للذكر والأنثى. ولا يقال حَمام إلا في الجمع. والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتُغرّد وتسجع وتُقرقر وتَترنّم، وإنما لها أصوات سَجع لا تُفهم فيجعله الحزين بكاء ويجعله المسرور غناء. وقال حُميد بن ثَور:
وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامة ... دعت ساقَ حُرٍّ تَرْحةً وترنُّماً
مُطوقة خَطْباء تَسْجِع كُلّما ... دَنا الصَّيْفُ وانزِاحَ الربيعُ فأنْجمَا
تَغنَّت على غُصن عشاءً فلم تَدع ... لنائحةٍ في نوْحها مُتلوّما
فلم أرَ مِثْلي شاقَه صوتُ مِثْلها ... ولا عَربيا شاقَه صوتُ أعْجما
وقال مَجنون بني عامر في الحمام:
ألا يا حماماتِ اللَوى عُدْن عودةً ... فإنِّي إلى أصواتكنّ حَزينُ

فعُدْن فلما عدْن كِدْن يُمتْننيِ ... وكِدْتُ بأشجاني لهنّ أبِين
لم تَرَ عيْني مثلَهن بوَاكياً ... بكَينْ فَلَم تَذْرِف لهن عُيون
وقال حَبيب في هذا المعنى:
هُنّ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيافةً ... من حائهنّ فإنهن حِمامُ
وقال:
كما كاد يُنْسى عهد ظَمياء باللِّوى ... ولكنْ أَمَلَّتهُ عليّ الحَمائمُ
بَعثن الهَوى في قَلب مَن ليس هائماً ... فقل في فُؤادٍ رُعْنَه وهو هائِم
لها نَغَم ليست دُموعاً فإنْ علَتْ ... مَضَتْ حيث لا تَمضي الدموعُ السَّواحم
ومن قولنا في الحمام:
فكيف ولي قَلْب إذا هَبّت الصبا ... أهاب بشَوق في الضُّلوع مَكِين
ويهتاج منه كُلما كان ساكناً ... دُعاءُ حمامٍ لم تَبِت بوُكوَن
وكان ارتياحي من بُكاء حمامةٍ ... كذي شَجَن داويتَه بشجون
كأنّ حمامَ الأيك لمّا تجاوبتْ ... حزين بكَى من رَحمة لحزين
ومن قولنا في المعنى:
ونائحٍ في غُصون الأيك أرَّقني ... وما عنيت بشيء ظَلّ يَعْنِيه
مُطوَّقٍ بخِضابِ ما يُزايله ... حتى تُفارقَه إحدى تَراقِيه
قد بات يبكي بشجْوٍ ما دَريت به ... وبِت أبكي بشَجو ليس يَدريه
ومن قولنا فيه:
أناحتَ حماماتُ اللِّوىِ أم تغَنَّتِ ... فأبدتْ دواعِي قَلْبه ما أجنَّتِ
فديتُ التي كانت ولا شيءَ غيرُها ... مُنَى النَّفس لو يُقْضىَ لها ما تَمنّت
ومن قولنا:
لقد سجعت في جُنْح ليل حمامة ... فأيَّ أسىً هاجتْ على الهائم الصبِّ
لكِ الويلُ كم هَيَّجت شجواً بلاَ جَوًى ... وشَكْوى بلا شَكوى وكَرْباً بلا كَرْب
وأسكبتِ دمعاً من جُفونِ مُسَهِّدٍ ... وما رَقرقت منك المدامع بالسَّكب
وقال ذو الرُمة:
رأيتُ غُراباً ناعباً فوق بانة ... من القضب لم يَنْبت لها ورقٌ نَضْرُ
فقلت غرابِّ لاغتراب وبانةٌ ... لبَينْ النَّوى هذي العِيافة والزَّجر
قولهم في طيب الحديثقال عديّ بن زَيد العِباديّ:
في سَماعٍ يأذَن الشيخُ له ... وحَديثٍ مثل ماذيّ مشَارْ
وقال القُطامي:
فهنّ يَنْبِذْن من قَولٍ يُصِبْن به ... مواقعَ الماء من ذي الغُلَّة الصادِي
وقال جِران العَود:
فَنِلْنا سِقاطاً من حديث كأنّه ... جَنَى النّحل أو أبكار كَرَمْ تقطف
وقال آخر:
وإنا ليَجري بيننا حين نَلْتقي ... حديث له وشيٌ كَوشي المَطارِف
وقال بشّار:
وكأنّ نَشر حديثها ... قِطَع الرِّياض كُسين زَهْرا
وله:
لئن عشقت أُذني كلاماً سمعتُه ... رخيماً فقلبي إذاً لا شكّ باللحظِ أعشق
وكيف تناسى مَنِ كأنّ كلامَه ... بأُذني ولو عرِّيتُ قُرْط مُعلق
وقال بَشّار أيضاً:
وبكر كَنُوَّارِ الرَّبيع حديثُها ... يَرُوق بوجهٍ واضحٍ وقوَام
وقال آخر:
كأنّما عَسَل رُجعَانُ منطقها ... إن كان رَجْع كلام يُشْبه العَسَلاَ
وقال آخر:
وحديثٍ كأنّه زهرَ الرّو ... ض وفيه الصَّفراءُ والحَمْراءُ
قولهم في الرياضأنشد أحمدُ بن جِدار للمُعلَّى الطائيّ:
كأنّ عُيونَ الروض يَذْرِفن بالنَّدَى ... عُيون يُراسلنَ الدّموعَ على عَذْل
وقال البُحتريّ:
شَقائق يَحْملن النِّدى فكِأنه ... دُموعُ التَّصابِي في خُدود الخَرائِدِ
ومِن لُؤلؤ كالأقْحوان مُنضَدٍ ... على نُكَت مُصْفَرَّة كالفرائد
وقال أيضاً:
وقد نَبّه النيروزُ في غَلَس الدُّجَى ... أوائلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمس نُوَّمَا
يُفَتِّقها بَرْدُ الندى فكأنه ... يَنُثّ حديثاً كان قبلُ مكَتَّما

ومن شَجرٍ ردَ الربيعُ لِباسَه ... عليه كما نَشَّرْتَ وَشْياً منَمْنما
وقال أعشى بَكْر:
ما روضةٌ من رِياض الحَزْن مُعشِبة ... خَضْراءُ جاد عليها مُسْبِل هَطِلُ
يضاحك الشمسَ منها كوكب شَرق ... مؤزَّر بعمِيم النَّبتِ مُكتهل
يوماً بأطيبَ منها نَشر رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذ دَنَا الأصل
وأنشد ابنُ أبي طاهر لنفسه:
فتقت جُيوبَ الرَّوض منها ديمة ... حَلَّت عَزاليها صباً وقَبول
ولها عُيون كالعُيون نَواظر ... تَبْدُو فمنها أَمْرَه وكَحِيل
وقال الأخطل الصغير:
خَلَع الرَّبيعُ على الثَّرى من وَشْيه ... حُلَلاً يَظَلّ بها الثرى يَتَخيَّلُ
نَوْرٌ إذا مَرَت الصبا فيه الندى ... خِلْتَ الزَّبَرجد بالفَريد يُفصَل
فكأنها طَوْراً عُيون كُحَّل ... وكأنها طَوْراً عُيون هُملُ
وقال أبو نُواس:
يَوم تَقاصر واستتبِّ نَعِيمُه ... فِي ظِلّ مُلتفّ الحَدائق أخْضَرا
وإذا الرِّياح تَنسّمت في رَوضة ... نثرت به مِسْكاً عليه وعَنْبرا
وأنشد ابنُ مُسهر لابن أبي زُرعة الدِّمشقيّ يقول:
وقد لَبِستْ زُهْرُ الرِّياض حُليها ... وتجللت الأرضَ الفَضَاء الزخارفُ
لجين وعِقْبان ودُرّ وجَوْهر ... تُؤلّفه أيدي الرَّبيع اللَطائفُ
وأنشد البُحتريُّ لنفسه:
قَطَراتٌ من السَّحاب ورَوْض ... نَثَرت وردها عليها الخُدودُ
فكأنّ الحَوْذان والأقحوان ال ... غَضّ نَظْمان لُؤْلؤ وفَريد
وأنشد ابن جدار للمُعلَّى:
ترى للنَّدى فيه مجالاً كأنِّما ... نَثَرتَ عليه لؤلؤ فَتبدَّدا
وأنشد ابنُ الحارثيّ لنفسه:
وما رَوضة عُلْويةٌ أسديّة ... مُنَمنة زَهْراء ذاتُ ثَرىً جَعْدِ
سَقاها النَّدى في عقْب جنح من الدُّجىِ ... فنُوَّارها يهتزّ بالكَوكب السَّعد
بأحسنَ من حُرٍّ تَضمّن حاجةَ ... لحُرّ فأَوْفَى بالنّجاح مع الوَعْد
وأنشد محمد بن عَمَّار للحَسن بن وَهْب، يقول:
طلعتْ أوائلُ للرَّبيع فبشّرتْ ... نَوْرَ الرِّياض بجدَة وشَبابِ
وغدا السحابُ مكلِّلاً جَوَّ الثّرى ... أَذيالَ أَسْحم حالكِ الجلْباب
فترى السماء إذا أجَدّ رَبابُها ... فكأنما التحفَتْ جَناحَ غُراب
وترى الغُصون إذا الرِّياح تناوحتْ ... ملتفةً كتعانُق الأحباب
وقال حَبيب بن أوس الطائيّ:
الروض ما بين مَغْبوق ومُصْطبح ... من رِيق مكْتَفلات بالثّرى دُلُح
وُطْف إذا وكَفت في رَوْضة طَفِقَت ... عيونُ نوارها تَبكي من الفَرح
وأنشد البُحتري في دمشق:
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ ... مُستحسن وزَمانٍ يُشبه البَلَدا
يمسي السحابُ على أجبالها فِرقاً ... ويُصبح النَبتُ في صحرائها بَدَدا
فلستَ تُبصر إلا واكفاً خَضِلاً ... أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غِردا
كأنما القَيظَ ولّى بعدَ جَيئته ... أو الربيعُ دنا من بعد ما بَعُدا
أنشد ابن أبي طاهر لأشْجع:
بين الكنائس والأرواح مُطَردٌ ... للعين يَلْعب فيه الطّرفُ والبَصِرُ
في رُقعة من رقاع الأرض يَعْمرها ... قومٌ على أبوَيهم أجمعت مضر
وأنشد عليّ بن الحمم لعليّ بن الخليل:
ورَوضة في ظلال دَسْكرةٍ ... جداولُ الماء في جوانبها
تَسْتَنّ في رَوْضة مُنوَّرة ... يُغرِّد الطير في مَشاربها
كأنّ فيها الحُليّ والحُلل ال ... يَمْنة تُهدى إلى مَرازبها
وقال إبراهيم بن العبّاس الكاتب:
تأمّل سماء أطلتْ علي ... ك فيها مصابحهُا تزهر
وأرضاً تُقابلها كالعَرو ... س والموْجُ بينهما جَعْفر

ومَسْحب نَوْر الرَّبي ... ع أنفاسهُ المِسكُ والعَنبر
خِلالَ شقائِقه أصْفر ... وأضعافَ أصْفره أحمر
والماء مُطّرد بينه ... يُصفق باديه والمصدر
يُشارفه البرّ من جانب ... ومن جانب بحرُه الأخضر
مَجالُ وحُوش ومَرفا سَفين ... فيا عُرف لَهْوٍ ويا مَنظر
ويا حُسن دُنيَا ويا عِزّ مُل ... ك يسوسهما السائسُ الأكبر
وِقال ابن أبي عُيينة في بُستانه:
يُذكرني الفِرْدوس طوراً فأنثني ... وطَوراً يُواتيني إلى القَصْف والفَتْك
بغَرْس كأبكار العَذارَى وتُربة ... كأنَّ ثراها ماء وَرْد على مِسْك
كأنّ قصورَ الأرض ينظُرن حولَه ... إلى مَلِك أوفَى على مِنْبر المُلك
يُدِلّ عليها مُستطيلاً بحُسنه ... ويَضحك منها وهي مُطرقة تَبْكي
وقال فيه أيضاً:
يا جَنّة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثَمَنُ
ألفتها فاتخذَتُها وطناً ... لأنّ قلبي لأهلها وَطَنُ
زوّج حِيتانها الضباب بها ... هذا لذا كَنَّة وذا خَتَن
فانظر وفكِّر فيما تَمُر به ... إن الأريبَ المُفكّرُ الفَطن
من سُفنِ كالنَعام مقْبلةٍ ... ومِن نَعام كأنها سُفن
وقال الخليلَ بن أحمد:
يا صاحبَ القَصر نِعْم القَصْرُ والوادِي ... بمَنْزلٍ حاضر إن شئتَ أو بادِي
تَرْقى به السُفن والظّلمان واقفةٌ ... والنّون والضّبّ والمَلاح والحادِي
وقال إسماعيل بن إبراهيم الحَمْدُوني:
برَوْضة صنعت أيدي الربيع لها ... بُرُودَها وكَسَتْها وَشْيها عَدَنُ
عاجَت عليها مَطايا الغيث مسبلةَ ... لهنّ في ضَحِكاتٍ أدمُعٌ هُتُن
كأنما البَيْن يُبْكيها ويُضحكها ... وَصْلٌ حَباها به من بعده سَكَن
فولّدت صُفراً أثوابها خُضرا ... أحشاؤهُن لأحشاء الندى وَطن
من كل عَسجدةٍ في خِدْرها اكْتتمتْ ... عَذْراءُ في بَطنها الياقوتُ مُكْتَمِن
وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ:
أين إخوانُنا على السرّاء ... أين أهلُ القِباب والدَهناءِ
جاورونا والأرض مُلْبَسة نَو ... رَ الأقاحِي تُجاد بالأنواء
كُلَّ يوم بأقحوان جَديد ... تَضْحك الأرض من بُكاء السماء
ومن قولنا في هذا المعنى:
وَروضةٍ عقدتْ أيدي الرَّبيع بها ... نَورا بنَوْر وتَزْويجاً بتَزْويج
بمُلقِح مُن سَواريها ومُلقحة ... وناتج من غَواديها ومَنتوج
تَوشَحت بمُلاة غير مُلْحمة ... من نَورها ورداء غير مَنْسوج
فأَلبست حُلل المَوشي زَهرتَها ... وجَللتها بأَنماط الدَّيابيج
ومن قولنا:
ومَوْشيّةٍ يهدِي إليك نَسيمُها ... على مَفْرق الأرواح مِسكاً وَعنبراً
سَداوتُها من ناصع اللَّون أَبيض ... ولُحمتُها من ناقع اللَون أَصْفرا
تُلاحظ لَحظاً من عُيونٍ كأنَّها ... فصوص من الياقوت كُلَلن جوهرا
ومثلُه قولُنا:
وما رَوضة بالحَزن حاك لها النَّدى ... برُوداً من المَوشيّ حُمرَ الشَقائق
يُقيم الدُّجى أعناقَها وُيميلها ... شعاعُ الضَحى المُستَنّ في كُل شارق
إذا ضاحكْتها الشمسُ تَبكي بأعين ... مُكلَلة الأَجْفان صُفْر الحَمالق
حكَت أرضُها لونَ السماء وزانَها ... نُجومٌ كأمثال النُجوم الخَوافق
بأطيب نشراً من خَلائقه التي ... لها خضعت في الحُسن زُهرُ الخَلائق
كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر
فرش الكتابقال أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه:

قد مضى قولُنا في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أعاريضه وعِلله، وما يَحسن ويقبح من زِحافه، وما ينفكّ من الدوائر الخَمس من الشطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقُل، وَتلخيص جميع ذلك بمَنثور من الكلام يقرُب معناه من الفهم، ومنظوم من الشعر يسهل حفظُه على الرواة. فأكملتُ جميعَ هذه العُروضِ في هذا الكتاب الذي هو جزآن، فجزء للفرش، وجزء للمثال، مختصراً مبينّا مفسراً. فاختصرتُ للفرش أرجوزة، وجمعت فيها كل ما يدخل العروضَ ويجوز في حشو الشعر من الزحاف. وبيّنت الأسباب والأوتاد، والتعاقب والتراقب، والخروم، والزيادة على الأجزاء، وفك الدوائر في هذا الجزء. واختصرتُ المثالَ في الجزء الثاني في ثلاث وستين قطعة، على ثلاثة وستين ضرباً من ضروب العروض. وجعلت المقطعات رقيقة غَزِلة، ليسهل حفظها على ألسنة الرواة. وضمّنت في آخر كُل مقطَّعة منها بيتاً قديماً متصلاً بها وداخلاً في معناها، من الأبيات التي استشهد بها الخليل في عروضه، لتقوم به الحُجة لمن رَوى هذه المقطعات واحتج بها.
مختصر الفرشاعلم أنّ أول ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتدئ به، معرفة الساكن والمتحرك، فإن الكلام كُلَّه لا يعدو أن يكون ساكناً أو متحركاً. واعلم أن كل أَلِف خفيفة، أو ألف ولام خفيفتين، لا يظهران على اللسان ويثبتان في الكتابة فإنهما يسقطان في العروض وفي تقطيع الشعر، نحو ألف: قال ابنك أو ألف ولام نحو: قال الرجل. وإنما يُعَدّ في العروض ما ظهر على اللسان.
واعلم أنّ كل حرف مشدّد فإنه يعُد في العروض حرفين، أولهما ساكن والثاني متحرك، نحو ميم محمد ولام سلاّم.
واعلم أن التنوين كله يعُد في العروض نوناً ساكنة، ليست من أصل الكَلمة.
باب الأسباب والأوتاداعلم أنّ مدار الشعر وفواصل العروض على ثمانية أجزاء، وهي: فاعلن فعولن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات.
وإنما ألفت هذه الأجزاء من الأسباب والأوتاد.
فالسبب سببان: خفيف وثقيل. فالسبب الخفيف حرفان: متحرك وساكن، مثل: من وعن، وما أشبههما. والسبب الثقيل، حرفان متحركان، مثل: بك ولك، وما أشبههما. والوتد وتدان: مفروق ومجموع. فالوتد المجموع ثلاثة أحرف: متحركان وساكن؟ مثل: على وإلى وما أشبههما. والوتد المفروق ثلاثة أحرف: ساكن بين متحركين، مثل أين وكيف، وما أشبههما.
وإنما قيل للسبب سبب؟ لأنه يضطرب فيثبت مرة ويسقط أخرى، وإنما قيل للوتد وتد، لأنه يثبت فلا يزول.
باب الزحافاعلم أنّ الزحاف زحافان، فزحاف يُسقط ثاني السبب الخفيف، وزحاف يُسكن ثاني السبب الثقيل، وربما أسقطه. ولا يَدخل الزحافُ في شيء من الأوتاد وإنما يدخل في الأسباب خاصة. وإنما يدخل من الجزء في ثاني الجزء ورابعه وخامسه وسابعه. فإذا أردت أن تعرف موضع الزحاف من الجزء فانظُر إلى جزء من الأجزاء الثمانية التي سُميّت لك. فإن رأيت الوتد في أول الجزء، فإنما يزحف خامسه وسابعه. وإن كان الوتد في آخر الجزء، فإنما يُزحف ثانيه ورابعه. وإن كان الوتد في وسط الجزء، فإنما يزحف ثانيه وسابعه.
وللزحاف الذي يدخل في ثاني الجزء ثلاثةُ أسماء: الخَبن، والإضمار، والوقص. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك. والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك. وللزحاف الذي يدخل في رابع الجزء اسم واحد: المطويّ، وهو ما ذهب رابعه الساكن.
وللخامس منها ثلاثة أسماء: القَبض، والعَصْب، والعَقل: فالمقبوض: ما ذهب خامسه الساكن. والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمعقول: ما ذهب خامسه المتحرك.
وللسابع اسم واحد: المكفوف، وهو ما ذهب سابعه الساكن.
باب الزحاف المزدوجالمخبول: هو ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان. والمخزول: هو ما سكن ثانيه وذهب رابعه الساكن. والمنقوص: هو ما سكن خامسه وذهب سابعه الساكن. والمشكول: هو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
علل الأعاريض والضروب

المحذوف: هو ما ذهب من آخر الجزء بسبب خفيف. والمقطوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره سبب. والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره وتد. والأبتر: ما حُذف ثم قُطع، فكان فاعل من فاعلاتن وفع من فعولن. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. والأصلم ما ذهب من آخر الجزء وتد مفروق. والموقوف: ما سكن سابعه المتحرك. والمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء. والمشطور: ما ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزآن.
والزيادة على الأجزاء ثلاثة أشياء: المُذال: وهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن، مما يكون في آخره، وتد؟ والمُسبّغ: ما زاد على اعتداله حرف ساكن، مما يكون في آخره سبب؟ والمُرفَل: ما زاد على اعتداله حرفان: متحرك وساكن، مما يكون في آخره وتد: واعلم أن كل جزء من أجزاء العروض يكون مخالفاً لأجزاء حَشوه بزحاف أو سلامة، فهو المعتل. وما كان معتلاً فإنما هو أربعة أشياء: ابتداء، وفصل، وغاية، واعتماد. هذا قول الخليل. وأنا أقول: إن المعتل كله ثلاثة أشياء: ابتداء، وفصل، وغاية: وإن الاعتماد ليس علة، لأنه غير مخالف لأجزاء الحشو، إذ جاز فيه القبض والسلامة، ولذلك يجوز في أجزاء الحشو كلها، وإنما خالفها في الحسن والقبح، وليس اختلاف الحسن والقبح عِله. ونحن نجد الاعتماد الشعر كثيراً، من ذلك البيت الذي جاء به الخليل:
أقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم ... وإلا تُقيموا صاغرين الرؤوسا
ومنه قولُ امرئ القيس:
أعنَي على بَرق أَراه وَميض ... يضئ حَبِيا في شَماريخَ بِيض
وتَخرج منه لامعات كأنها ... أكفّ تَلَقَّى الفوزَ عند المفِيض
وإنما زعم الخليلُ أن المُعتلّ ما كان مخالفاً لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة، ولم يُقل بحُسن أو قُبح. ألا ترى أن القَبض في مفاعيلن في الطويل حَسن، والكَفّ فيه قبيح. والقبض في مفاعيلن في الهزج قبيح، والكف فيه حسن. والاعتماد في المتقارب على ضد ما هو في الطويل السالم فيه حسن، والقبض فيه قبيح.
فإذا اعتلّ أولُ البيت سُمي ابتداء، وإذا اعتلّ وسطه، وهو العروض، سُمي فصلاً، وإذا اعتل الطرف، وهو في القافية، سمي غاية. وإذا لم يعتل أوله ولا وسطه ولا آخره سُمي حشواً كُله: وما كان من الأنصاف مستوفياً لدائرته، وآخرُ جزء منه بمنزلة الحَشو من الآخر، فهو التام. وما كان من الأنصاف لم يذهب به الانتقاص بجزء من الأجزاء أجِمع، فهو وافٍ، وإذا ذهب به الانتقاص، فهو مجزوء. وما كان من الأنصاف مُقفى، فهو مُصرَّع: فإن كانت الكلمة كلها كذلك، فهو مشطور. فإذا لم يبق منه إلا جزآن فهو المَنهوك. وإذا اختلفت القوافي واختلطت وكانت حيزاً حيزا من كلمة واحدة هو المُخمَس. وإذ كانت أنصاف على قواف تجمعها قافية واحدة، ثم تعاد لمثل ذلك حتى تنقضي القصيدة، فهو المُسمَّط.
باب الخرماعلم أن الخَرم لا يدخل إلا في كل جزء أوله وَتد. وذلك ثلاثة أجزاء: فعولن، مفاعلتن، مفاعيلن. وهو سقوط حركة من أول الجزء. وإنما منعه أن يدخل في السَّبب، لأنك لو أسقطت من السبب حركة بقي ساكن. ولا يُبدأ بساكن، أبدا. ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت.
فإذا أدخل الخرم فعولن قيل له أثلم. فإذا دخل القبض مع الخرم قيل له أثرم.
فإذا دخل الخرم مفاعلتن قيل له أعصب. فإذا دخله العَصب مع الخرم قيل له أقصم. فإذا دخله القبض مع الخرم، قيل له أعقص. فإذا دخله العقل مع الحزم قيل له أجمّ.
فإذا دخل الخرم مفاعيلن قيل له أخرم. فإذا دخله الكفّ مع الخَرم قيل له أخرب. فإذا دخله القَبض مع الخرم قيل له أشتر. وكل ما لم يدخله الخرم فهو الموفور.
باب التعاقب والتراقباعلم أن التعاقب يدخل بين السببين المتقابلين في حشو الشعر حيثما كانا، ولا يكونان من جميع العروض إلا في أربعة أشطار: في المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث. وقد بينّا جميع ذلك في موضعه.
فما عاقبه ما قبله فهو صَدر. وما عاقبه ما بعده فهو عَجز. وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان. وما لم يُعاقبه ما قبله ولا ما بعده فهو بريء.

والتراقب بين السببين المُتقابلين مع فاصلة واحدة. ولا يدخل التراقب من جميع العروض إلا في المضارع والمُقتضب. وقد فسّرناه هنالك. وقد نظمنا جميع ما ذكرناه من هذه الأبواب في أرجوزة ليسهل حفظُها على المتعلم، إذ كان حفظ المنظوم أسهلَ من حفظ المنثور، وذكرنا فيها كُل الدوائر الخمس، وما ينفكّ في كل دائرة من عدد الشُطور التي قالت عليها العرب، والتي لم تقل عليها، وموضع الزَحاف منها.
واعلم أن الدائرة الأولى مؤلّفة من أربعة أجزاء، سُباعيّين مع خُماسيين، وهي: فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن. والدائرة الثانية من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن. والدائرة الثالثة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن. والدائرة الرابعة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مستفعلن مفعولات مستفعلن. والدائرة الخامسة مؤلفة من أربعة أجزاء خماسية، وهي: فعولن فعولن فعولن فعولن.
واعلم أنّ كل دائرة من هذه الدوائر ينفكّ من رأس كل سَبب وكل وتد فيها شطر. وقد بينّا جميع ذلك في الدوائر وأسماء الشطور التي تنفكّ عنها.
أرجوزة العروضبالله نبدا وبه التمامُ ... وباسمه يُفتتَح الكلامُ
يا طالبَ العِلْم هو المِنهاجِ ... قد كثُرت من دونه الفِجاج
وكُل عِلْم فله فُنونُ ... وكُل فَنّ فله عُيون
أولها جوامعُ البيَانِ ... وأصلها معرفةُ اللِّسان
فإنّ في المجَاز والتأويل ... ضلّت أساطيرُ ذوي العُقول
حتى إذا عَرَفتَ تلك الأبنية ... واحدَها وجَمعها والتَّثنية
طلبتَ ما شئتَ من العلوم ... ما بين مَنثور إلى مَنظوم
فَداوِ بالأعراب والعَروض ... داءك في الأمْلال والقَريض
كلاهما طِبّ لداء الشَعرِ ... واللّفظ من لَحن به وكَسْرِ
ما فَلْسف النَّيطس جالينوسُ ... وصاحبُ القانون بَطْليْموس
ولا الذي يَدْعونه بهرْمس ... وصاحب الأركند والإقليدس
فَلسفَة الخَليل في العَروض ... وفي صَحيح الشِّعر والمَريض
وقد نظرتُ فيه فاختصرتُ ... إلى نِظام منه قد أحْكمتُ
مُلَخّصٍ مُختصر بديع ... والبَعض قد يَكفي عن الجميع
اختصار الفرشهذا اختصار الفَرش من مَقالي ... وبعدَه أقولُ في المِثال
أوله والله أستعينُ ... أن يُعرف التحريكُ والسكُونُ
من كُل ما يبدو على اللَسان ... لا كُل ما تَخُطه اليدانِ
ويَظهر التَّضعيفُ في الثقيلِ ... تَعُدُّه حَرفين في التَّفصيل
مُسكنَاً وبعدهُ مُحركاً ... كنون كُنّا وكراء سَركا
باب الأسباب والأوتادوبعد ذا الأسبابُ والأَوتادُ ... فإنها لقولنا عِمادُ
فالسببُ الخفيف إذ يعدّ ... محرّك وساكن لا يَعْدُو
والسببُ الثقيلُ في التبيينِ ... حركتان غير ذي تَنوينِ
والوتد المَفروق والمَجموعُ ... كلاهما في حَشوه مَمنوعُ
وإنما اعتلَّ من الأجزاء ... في الفصل والغائي والابتداءِ
فالوتد المَجموع منها فافهمنْ ... حركتان قبل حَرف قد سَكَنْ
والوتد المَفروق من هذينِ ... مُسكَنٌ بين مُحركينِ
فهذه الأوتاد والأسبابُ ... لها ثَبات ولها ذَهابُ
وإنما عَروض كُل قافيه ... جار على أجزائه الثَّمانية
وهاكَها بيّنة مصوَّره ... لكُل مَن عاينها مفسَّره
الفواصلفاعلن، فعولن، مستفعلن، فاعلاتن، مفاعيلن، مفاعلتن، متفاعلن مفعولات.
هذي التي بها يقول المُنشد ... في كُل مَا يَرْجُز أو يُقَصِّد
كُل عروض يَعتزي إليها ... وإنما مَدارهُ عليها

منها خمُاسيّان في الهِجاءِ ... وغيرها مُسبَّع البِناءِ
يدخلُها النُقصان بالزّحافِ ... في الحشو والعروض والقوافي
وإنما تدخل في الأسبابِ ... لأنها تُعرف باضطرابِ
باب الزحاف في موضعينفكُل جزءٍ زَال منه الثاني ... من كُل ما يبدو على اللَسانِ
وكان حرفاً شانُه السكون ... فإنه عندي اسمُه مخْبونُ
وإن وجدت الثاني المَنْقوصَا ... محركاً سميتَه المَوْقوصَا
وإن يكُن مُحرَّكاً فسكِّنا ... فذلك المُضمَر حقاً بَيّنَا
والرابع الساكن إذ يَزول ... فذلك المطويُ لا يَحُولُ
وإن يزل خامسُه المسكَّنُ ... فذلك المَقبوض فهو يحسنُ
وإن يكن هذا الذي يزولُ ... مُحركَّاً فإنه المعقولُ
وإن يكُن محرّكاً سكّنتَهُ ... فسمِّه المَعصوب إن سميته
وإن أزلت سابعَ الحُروفِ ... سميتَه إذ ذاك بالمَكْفوفِ
باب الزحاف الذي يكون في موضعين من الجزء
كُل زحاف كان في حَرفين ... حَلَّ من الجزء بمَوْضعين
فإنه يُجحِف بالا جزاءِ ... وهو يسمى أقبحَ الأسماءَ
فكُل ما سُكِّن منه الثاني ... وأسقط الرّابع في اللِّسانِ
فذلك المَخزول وهو يَقْبُح ... فحيثما كان فليس يَصلُحُ
وإن يَزُل رابعُه والثاني ... ذاك وذا في الجُزء ساكِنانِ
فإنه عندي اسمُه المَخبولُ ... يُقصِّر الجُزءَ الذي يطولُ
وكل جُزء في الكتاب يُدركُ ... يَسكُن منه الخامس المُحركُ
وأسقط السابع وهو يسكنُ ... فذلك المَنقوص ليس يَحْسُن
وسابع الجُزء وثانيه إذا ... كان يُعد ساكناً ذاك وذا
فأسقطا بأَقبح الزّحافِ ... سُمِّي مشكولاً بلا اختلاف
هذا الزّحاف لا سِواه فاسمَع ... يُطلق في الأجزاء ما لم يُمنع
باب العللوالعِللُ التي تجوز أجمعُ ... وليس في الحَشو لهنّ موضعُ
ثلاثة تُدعى بالابتداءِ ... والفَصل والغَاية في الأجزاء
والاعتماد خارجٌ عن شَكلها ... وفِعْله مُخالف لفعلها
لأنهم قد تَركوا التزامَهْ ... وجاز فيه القَبضُ والسلامهْ
ومثلُ ذاك جائزٌ في الحَشْوِ ... فَنحو هذا غير ذاك النحوِ
وكُل مُعتلّ فغيرُ جائزِ ... في الحَشو والقَصِيد والأراجزِ
وإنما أجاَزه الخَليلُ ... مُجازفاً إذ خانه الدَّليلُ
وكُل حيّ من بني حَوّاءِ ... فغيرُ مَعْصوم من الخَطَاءِ
فأول البَيت إذا ما اعتلا ... سميته بالابتداء كُلاّ
وغاية الضَّرب تسمَى غايهْ ... وليس في الحَشو لها حِكايهْ
وكُل ما يَدخل في العَروض ... من عِلّة تَجوزُ في القَريض
فهي تُسمَى الفَصل عند ذاكَا ... وقلّ مَن يعرفه هُناكَا
باب الخرموالخَرم في أوائل الأبياتِ ... يُعرف بالأسماء والصفاتِ
نُقصان حَرف من أوائل العَددْ ... في كُل ما شَطْر يُفكِّ من وَتدْ
خَمسة أشطار من الشُّطور ... يُحزم منها أول الصُّدورِ
منها الطِّويل أول الدوائرِ ... وأطْول البِناء عند الشاعر
يَدْخله الخَرم فيُدعَى أثلمَا ... فإنْ تلاه القَبْض سُمّي أثَرْمَا
والوافر الذي مَدار الثانِيهْ ... عليه قد تَعيه أذْن واعِيَهْ
يَدخله الخَرمُ في الابتداءِ ... في أول الجُزء من الأجزاءِ
وهو يسمى أعضباً فكُلما ... ضمّ إليه العَصبُ سمى أَقْصما
وإن يكن أعصب ثم يُعْقلُ ... فذلك الأجمّ ليس يُجهلُ

والهَزَج الذي هو السّوارُ ... عليه للثالثة المَدارُ
يدخله الخَرْم فيُدعى أخرمَا ... وهو قَبيح فاعلمنّ وافْهمَا
حتى إذا ما كف بعد الخَرم ... سميته أخْرب إذ تُسمي
والأشتر المُهجّن العَروضا ... ما كان منه آخرٌ مَقبوضَا
هذا وفي الرابعة المُضارعُ ... يَدخل فيه الخَرم لا يُدافَعُ
كمِثل ما يدخل في شطر الهَزجْ ... وهو يُسمّى باسمه بلا حَرجْ
ولا يجوز الخَرم فيه وحده ... إلا بقَبض أو بكَفٍّ بعدهُ
لعلة التَّراقب المَذكور ... خُصّ به من أجمع الشُطورِ
والمُتقارب الذي في الآخر ... تَحلو به خامسة الدَّوائر
يَدخله ما يدخُل الطويلاً ... من خَرمه وليس مُسْتحيلاً
هذا جميع الخَرم لا سواهُ ... وهو قبيح عند من سَمّاهُ
يدخل في أوائل الأشعارِ ... ما قيل في ذي الخمسة الأَشطارِ
لأنّ في أول كل شَطْرٍ ... حَركتين في اْبتداء الصَّدرِ
وإنما يَنفكّ في الأوتاد ... فلم يَضرها الخرمُ في التَّمادِي
لقوّة الأوتاد في أجزائها ... وأنها تَبرأ من أدْوائها
سالمةً من أجمع الزِّحافِ ... في كُل مَجْزوء وكل وافِي
والجُزء ما لم تر فيه خرْمَا ... فإنه المَوْفورُ قد يُسمّى
باب علل الأعاريض والضروبوالعِلل المسميات اللاتي ... تُعرف بالفُصول والغاياتِ
تَدْخل في الضرَّب وفي العَروض ... وليس في الحَشْو من القَريض
منها الذي يُعرف بالمَحْذوفِ ... وهو سُقوط السَّبب الخَفيف
في آخر الجُزء الذي في الضرب ... أو في العَروض غير قول الكذبِ
ومثله المَعروف بالمَقطَوف ... لولا سكون آخر الحروف
وكل جُزء في الضُّروب كائنِ ... اسقط منه آخر السَّواكنِ
وسكن الآخر من باقِيه ... ما يجيزون الزَحافَ فيه
فذلك المَقصورُ حين يُوصفُ ... وإن يكن آخرُه لا يُزْحف
من وَتد يكون حين لا سَببْ ... فذلك المَقطوع حين يَنْتسبْ
وكل ما يحذف ثم يُقطعُ ... فذلك الأبترُ وهو أشنعُ
وإن يَزُل من آخر الجُزء وَتدْ ... إن كان مَجموعاً فذلك الأحَدْ
أو كان مَفروقاً فذاك الأصْلم ... كلاهما للجُزء حَقّاً صَيْلمُ
وأن يسكَّن سابعُ الحُروفِ ... فإنه يُعرف بالمَوْقوفِ
وأن يكُن محرَّكاً فاذْهِبا ... فذلك المَكسوف حقّاً مُوجِبَاً
وبعده التَشعيث في الخَفيفِ ... في ضَربه السالم لا المَحْذوفِ
يُقطع منه الوَتد المُوسَّطُ ... وكُل شيء بعده لا يَسقُط
باب التعاقب والتراقبوبعد ذا تَعاقب الجُزأينِ ... في السببين المُتقابلين
لا يسقطان جُملةً في الشِّعرِ ... فإنّ ذاك من أشدّ الكَسْرِ
ويثبتان أيّما ثَباتِ ... وذاك من سَلامة الأبياتِ
وأن يَنَل بعضهما إزالَهْ ... عاقَبه الآخر لا مَحالَهْ
فكُل ما عاقبه ما قَبلهُ ... سُمِّي صَدراً فافهمنِّ أصلَهُ
وكُل ما عاقَبه ما بعدَه ... فهو يُسمَّى عَجُزاً فعُدَّه
وإن يكُن هذا وذا مُعاقبَاً ... فهو يُسمى طَرفين واجبَاً
يَدخل في المَديد والخفيفِ ... والرَّمل المَجزوء والمَحْذوفِ
ويدخل المجتثَ أيضاً أجمعَه ... ولا يكون في سوى ذي الأربعَة
والجُزء إذ يخلو من التعاقُب ... فهو بَريء غَيرَ قَول الكاذب
وهكذا إن قِسْتَه التعاقبُ ... وليس مثلَ ذلك التَّراقبُ

لأنه لم يأت من جُزأينِ ... في السببين المُتجاورينِ
لكنّه جاء بجزء واحَدِ ... في أول الصَّدر من القَصائدِ
والسببان غير مَزْحوفينِ ... في جُزئه وغيرُ سالمينِ
إن زال هذا كان ذا مكَانَه ... فاسمَعْ مقالي وافهمنْ بيانَه
فهكذا التراقُب المَوصوفُ ... وكُله في شَطره مَعْروفُ
يدخُل أولَ المُضارع السبب ... وبعدَه يدخُل صدرَ المُقتضبْ
الزيادات على الأجزاءثم الزِّيادات على الأجزاء ... مَوجودة تُعرف بالأسماءِ
وإنما تَكون في الغاياتِ ... تُزاد في أواخر الأبياتِ
وكُلها في شَطره مَوجودُ ... منها المُرفل الذي يَزيدُ
حَرْفين في الجزء على اعْتدالِه ... مُحرَّكاً وساكناً في حالِه
وذاك فيما لا يَجوز الزَّحفُ ... فيه ولا يُعزى إليه الضعفُ
وفيه أيضاً يدخُلِ المُذالُ ... مُقَيَّداً في كُل ما يُقالُ
وهو الذي يَزيد حرفاَ ساكنَا ... على اعتدال جُزئه مُباينَا
ومثله المُسبغ من هذي العِللْ ... حَرْف تَزيده على شَطر الرَّمَلْ
باب نقصان الأجزاءفإن رأيتَ الجُزء لم يَذهب معا ... بالانتقاص فهو وافٍ فاسمعا
وإن يكُن أَذهبه النقصان ... فافْهم ففي قولي لك البَيانُ
فذلك المَجزوء في النِّصفين ... إذا انتقصتَ منهما جُزأينِ
والبيتُ إن نقصتَ منه شطرَهُ ... فذلك المَشطور فافهم أَمرهُ
وإن نقصتَ منه بعد الشَطرِ ... جُزءاً صحيحاً من أخير الصَّدرِ
وكان ما يبقى على جُزأينِ ... فذلك المَنهوك غيرَ مَين
صفة الدوائر وصورهمافاسمع فهذي صِفة الدوائرِ ... وَصْفَ عليم بالعَروض خابرٍ
دوائرٌ تعيا على ذِهْن الحَذِق ... خمس عليهن الخُطوط والحَلَقْ
فما لها من الخُطوط البائنهْ ... دلائل على الحُروف الساكنهْ
والحَلقات المُتَجوِّفاتِ ... علامة للمتحرَكات
والنُّقط التي على الخُطوطِ ... علامة تُعدّ للسُّقوط
والحَلق التي عليها يُنْقطُ ... تسكن أحياناً وحِيناً تَسقَطُ
والنُّقط التي بأجواف الحَلْق ... لمبتدأ السطور منها يُخترقْ
فانظُر تجد من تحتها أسماءها ... مكتوبة قد وُضعت إزاءَها
والنُّقطتان موضعَ التعاقب ... ومثل ذاك موضعَ التراقب
وهذه صُورةُ كُل واحدة ... مِنها ومَعنى فَسْرها على حِدَه
أولها دائرة الطويل ... وهي ثمانٍ لذوي التفضيل
مُقسَّم الشطر على أرباع ... بين خُماسيّ إلى سُباعِي
حُروفه عشرون بعد أربَعه ... قد بَيّنوا لكُل حرف موضعَه
تنفك منها خَمسة شُطورُ ... يَفصلها التفعيل والتَّقديرُ
منها الطويلُ والمَديد بعدهُ ... ثم البَسيط يُحكمون سَرْدَهُ
ثلاثةٌ قالت عليها العربُ ... واثنان صدّوا عنهما ونَكَبُوا
وهذه صُورتها كما تَرَى ... وذكرها مبيناً مفسَّرَا
الأولى دائرة المختلفالطويل: مبني على فعولن مفاعيلن. ثماني مرات.
المديد: مبني على فاعلات فاعلن. ست مرات، بعد الحذف.
البسيط: مبني على مستفعلن فاعلن. ثماني مرات.
وهذه الثانية المخصوصة ... بْالسبب الثُقيل والمَنقوصة
أحزاؤها ثلاثة مسبعة ... قد كَرهوا أن يَجعلوها أَربعة
لأنها تَخرج عن مِقدارهم ... في جُملة المَوزون من أشعارهم
فهي على عِشرين بعد واحدِ ... من الحُروف ما بها من زائدِ
تنفك منها وافرٌ وكاملُ ... وثالثٌ قد حار فيه الجاهل


الثانية دائرة المؤلفالوافر: مبني على مفاعلتن. ست مرات. فقطفوا ضربه وعروضه. الكامل: مبني على متفاعلن. ست مرات.
والدارة الثالثة التي حكتْ ... في قَدرها الثانيةَ التي مَضَتْ
في عِدة الأجزاء والحُروف ... وليس في الثَّقيل والخفيفِ
ينفكّ منها مِثلُ ما ينفك ... من تلك حقَاً ليس فيه شكُّ
ترفل من ديباجها في حُلل ... من هَزج أو رَجز أو رَمل
وهذه صورتُها مبينة ... بحَلْيها ووَشْيها مُزَيَّنه
الثالثة دائرة المجتلبالهزج: مبني على مفاعيلن. بعد الحذف. أربع مرات.
الرجز: مبني على مستفعلن. ست مرات.
الرمل: مبني على فاعلاتن. ست مرات.
ورابع الدوائر المسرودة ... أَجزاؤها ثلاثة مَعْدودة
عَجيبة قد حار فيها الوَصْفُ ... عِشرون حرفاً عَدُّها وحَرْف
مثل التي تقدّمت من قَبلها ... وشَكْلها مُخالف لشَكْلها
بَدِيعة أحْكم في تَدْبيرها ... بالوَتِد المَفْروق في شُطورها
ينفكّ منها ستّة مَقُولة ... مِن بينها ثلاثةٌ مَجهولة
وكل هذه الستّة المَشْطورة ... مَعْروفة لأهلها مَخْبوِرة
أوّلها السَّريع ثم المُنسرحْ ... ثم الخَفيف بعده ثَم وَضحْ
وبعده مَضارع ومقتضب ... شَطران مَجزوآن في قول العَرب
وبعدها المُجتث أحلى شَطْر ... يُوجد مَجْزوءاً لأهل الشِّعرِ
الرابعة دائرة المشتبهالسريع: مبني على مستفعلن مستفعلن مفعولات. ست مرات.
المنسرح: مبني على مستفعلن مفعولات مستفعلن. ست مرات.
الخفيف: مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن. ست مرات.
المضارع: مبني على مفاعيلن فاعلاتن. ست مرات. فحذفوا منه جزأين فصار مربعا. المقتضب: مبني على مفعولات مستفعلن مستفعلن. ستَ مرات. فربعوه كما تقدم. المجتث: مبني على فاعلاتن فاعلاتن. ست مرات. فربعوه كما تقدم.
بعدها خامسة الدَّوائر ... للمُتقارب الذي في الآخرِ
ينفكّ منها شَطْرَه ... لم يأتِ في الأشعار منه الذّكرُ
مِن أَقصر الأجزاء والشُطورِ ... حُروفه عِشرْون في التَّقديرِ
مؤلَّف الشطر على فواصل ... مخمسات أَرْبع مَوائل
هذا الذي جَرّبه المُجرِّبُ ... من كُل ما قالت عليه العربُ
فكُل شيء لم تَقُل عليه ... فإننا لم نلتفت إليه
ولا نقول غيرَ ما قد قالوا ... لأنّه من قَولنا مُحالُ
وإنه لو جاز في الأبياتِ ... خلافها لجاز في اللغاتِ
وقد أَجاز ذلك الخَليلُ ... ولا أقول فيه ما يَقولُ
لأنه ناقَض في مَعناه ... والسيفُ قد يَنبو وفيه ماه
إذ جَعل القول القديم أصلَه ... ثم أجاز ذا وليس مثلَه
وقد يَزِلّ العاِلم النّحريرُ ... والحَبر قد يَخُونه التَّحبيرُ
وليس للخَليل مِن نَظير ... في كُل ما يأتي من الأمور
لكنّه فيه نَسيجُ وحدِهَ ... ما مثله مِن قبله وبَعدِه
فالحمدُ للّه على نعمائه ... حمداً كثيراً وعلى آلائه
يا مَلكاً ذلّت له المُلوكُ ... ليس له في مُلكه شَريكُ
ثبِّت لعبد الله حُسن نيَّته ... واعطفه بالفَضل على رعيّته
الخامسة دائرة المتفقالمتقارب: مبني على فعولن. ثماني مرات
إبتداء الأمثال
شطر الطويلالطويل مُثَمّن، له عروض واحد مقبوض وثلاثة ضروب: ضرب سالم، وضرب مقبوض، وضرب مَحذوف معتمد.
العروض المقبوض والضرب السالم
ورَوْضة وَرْدِ حُفّ بالسَّوسن الغَضِّ ... تحلت بلَوْن السَّام والذَّهب المَحْض
رأيتُ بها بدراً على الأرض ماشياً ... ولم أر بدراً قطُّ يَمشي على الأرض

إلى مِثله فَلْتَصْبُ إن كنتَ صابياً ... فقد كان منه البَعضُ يَصْبو إلى البعض
وكُلْ وَرد خَدّيه ورُمّان صَدْره ... بمَصٍّ على مَصٍّ وعَضٍّ على عَضَ
وقُل للذي أَفْنى الفُؤِاد بِحُبّه ... على أنه يَجْزي المَحبّة بالبغْض
أبا مُنذر أفنيتَ فاستبق بعضنا ... حَنانيْك بعضُ الشّر أهون من بَعض
تقطيعهفعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعيلن، فعول، مفاعيلن الضرب المقبوض
وحاملةٍ راحاً على راحةِ اليَدِ ... مُورَّدة تَسعَى بلون مُورَّدِ
متى ما ترى الإبريقَ للكأس راكعاً ... تُصَلِّ له من غير طُهر وتَسْجُدِ
على ياسَمين كاللّجين ونَرْجس ... كأقراط دُرّ في قَضيب زَبَرْجد
بتلك وهذِي فاله ليلَك كُلَّه ... وعنها فَسَلْ لا تسأل النَاسَ عن غَد
ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيك بالأخبارِ من لم تُزوِّد
تقطيعهفعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن الضرب المحذوف المعتمد
أيقتُلني دائِي وأنتَ طبيبي ... قريب وهل مَن لا يرى بقَريبِ
لئن خنتَ عَهدي إنّني غيرُ خائِنٍ ... وأيّ مُحبٍّ خانَ عهدَ حَبيب
وساحبة فَضلَ الذّيول كأنها ... قَضِيب من الريحان فوقَ كَثِيب
إذا ما بدتْ من خِدْرها قال صاحبي ... أَطِعْني وخُذْ من وَصْلها بنَصيب
وما كُل ذي لُبٍّ بمؤُتيك نُصْحه ... وما كل مُؤْتٍ نُصْحه بلبيبِ
تقطيعهفعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعِيلن، فعول، فعولن يجوز في حَشو الطويل القبض والكَف. فالقَبض فيه حَسن: والكَف فيه قبيح. ويدخله الخَرم في الابتداء، فيقال له: أثلم. فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أثرم.
والخَرم: سقوط حركة من أول البيت، ولا يكون إلا في وتد. والقَبض: ما ذهب خامسه الساكن. والكفّ: ما ذهب سابعه الساكن. والاعتماد: سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية، اعتمد به فقبض. ولم تَجر فيه السلامة إلاّ على قبح. ولم يأت في الشعر إلاّ شاذّاً قليلاً. والاعتماد في المتقارب: سلامة الجزء الذي قبل القافية. والمحذوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف.
شطر المديد
هو مجزوء كلهله ثلاثة أعاريض وستة ضروب: فالعروض الأول منها مجزوء، وله ضرب مثله.
والعرض الثاني محذوف لازم الثاني، له ثلاثة ضروب لازمة الثاني: ضرب مقصور لازم الثاني، وضرب محذوف لازم الثاني، وضرب أبتر لازم الثاني. والعروض الثالث محذوف مخبون. له ضربان: ضرب مثله، وضرب أبتر لازم الثاني.
العروض المجزوء والضروب المجزوء
يا طويلِ الهَجْر لا تَنس وَصْلي ... واشتغالي بك عن كُل شُغل
يا هلالاً فوق جِيدِ غَزالٍ ... وقضيباً تحته دِعْصُ رَمْل
لا سلَتْ عاذلتي عنه نَفْسي ... أكثِري في حُبه أو أَقِلّي
شادِن يُزْهى بخَدٍّ وجِيدٍ ... مائس فاتن بحُسْن ودَل
ومتى مايَع منك كلاماً ... فتَكلَّم فيحجبك بعَقْل
تقطيعهفعلاتن، فعلن، فعلاتن فعلاتن، فعلن، فعلاتن العروض المحذوف اللازم الثاني والضرب المقصور اللازم الثاني
يا وميضَ البَرق بين الغَمام ... لا عليها بلى عليك السلامْ
إنّ في الأحداج مَقْصورة ... وجهُها يَهْتك سِتْر الظَّلامْ
تَحسب الهَجر حلالاً لها ... وتَرى الوصلَ عليها حَرام
ما تأسِّيك لِدار خَلَتْ ... ولشعب شت بعْد التِئامْ
إنما ذكرُك ما قد مَضى ... ضلَّةٌ مِثل حديث المَنام
تقطيعهفاعلاتن، فعلن، فاعلن فاعلاتن، فعلن، فاعلان الضرب المحذوف اللازم الثاني
عاتِب ظَلْتُ له عاتِبَاً ... رُبّ مَطْلوب غدَا طالِبا

مَن يتب عن حُب مَعْشوقه ... لستُ عن حُبِّي له تَائبَا
فالهوَى لي قَدَرٌ غالبٌ ... كيف أَعصي القدَر الغَالبا
سَاكِنَ القَصر ومَن حلّه ... أصبح القلبُ بكم ذاهِبا
اعلمُوا أنِّي لكم حافظٌ ... شاهداً ما عِشْتُ أو غائبا
تَقطيعه
فاعلالَن، فاعلن، فاعلن فاعلاتن، فاعلن، فاعلن الضرب الأبتر
أي تُفاح ورُمّانِ ... يُجتنى منِ خُوط رَيحانِ
أي ورد فوق خد بدا ... مستنيراً بين سُوسان
وَثَن يُعبد في رَوضة ... صِيغ من دُرّ ومَرْجان
مَن رأى الذَّلفَاء في خَلْوة ... لم يَر الحَدَّ على الزاني
إنّما الذَّلفاء يا قوتة ... أخرجت من كِيس دِهْقانِ

تقطيعهفاعلاتن، فاعلن، فاعلن فاعلاتن، فاعلن، فعلن العروض المجزوء المحذوف والمخبون ضربه
مِن مُحب شَفِّه سقمه ... وتلاشىَ لحمهُ ودَمُه
كاتب حَنّث صحيفته ... وبكَى مِن رحمة قَلَمُه
يَرفع الشكوَى إلى قَمر ... يَنْجلي عن وَجْهه ظُلمه
من لقَرْن الشمس جَبْهته ... وللَمع البَرق مبتسمه
خَلّ عَقلي يا مُسفِّهه ... إن عَقلي لستُ أَتّهمه
للفتى عَقل يَعيش به ... حيثُ تَهدي لساقَه قدُمه
تقطيعهفاعلاتن، فاعلن، فعلن فاعلاتن، فاعلن، فَعِلن الضرب الأبتر اللازم الثاني
زادني لَومُك إضرارا ... إنّ لي في الحُب أنصارا
طار قلبي مِن هَوى رَشإِ ... لو دَنا للقَلب ما طارا
خُذ بكفِّي لا أَمُتْ غَرَقاً ... إنّ بَحر الحُب قد فارا
أَنضجت نارُ الهَوى كَبدي ... ودُموعي تُطفئ النارا
رُبّ نارٍ بِتُّ أَرْمقها ... تَقْضِم الهِنْديّ والغَارا
تقطيعهفاعلاتن، فاعلن، فعلن فاعلاتن، فاعلن، فَعْلن يجوز في حشو المديد: الخَبن والكَف والشكل. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمكفوف: ما ذهب سابعه الساكن. والمشكول: ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان، وهو اجتماع الخَبن والكَف في فاعلاتن.
ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين، بين النون من فاعلاتن والألف من فاعلن لا يسقطان جميعاً، وقد يثبتان. فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه شيء فهو بريء. والمقصور: كما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من السبب. والأبتر: ما حذف ثم قطع.
شطر البسيطالبسيط له ثلاثة أعاريض وستة أضرب: فالعروض الأول مخبون تام، له ضربان: ضرب مثله، وضرب مقطوع لازم الثاني.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة أضرب: ضرب مذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع من الطي.
والعروض الثالث مقطوع ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
العروض المخبون والضرب المخبون
بين الأهلة بدر ماله فَلَكُ ... قلبي له سُلِّم والوجه مُشْتركُ
إذا بدا انتهبت عيني محاسِنه ... وَذَلّ قَلبي لعَينيه فينتهك
ابْتعت بالدّين والدُّنيا مودَّته ... فخانَني فَعلى مَن يرجع الدَّرَك
كفُّوا بني حارث أَلحاظَ رِيمكم ... فكلها لفؤادي كلِّه شرَك
يا حارِ لا أُرمين منكم بداهية ... لم يَلْقها سُوقة قَبْلي ولا مَلكُ
تقطيعهمستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فَعِلُن مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فَعِلُن الضرب المقطوع اللازم الثاني
يَا ليلة ليس في ظَلمائها نورُ ... إلا وُجوهاً تُضاهيها الدَّنانيرٌ
حُورٌ سَقَتْنيَ بكأس الموت أعينُها ... ماذا سَقَتْنيه تلك الأعينُ الحُور
إذا ابتسَمْن فُدرّ الثغَر مُنتظمِ ... وإنْ نَطَقن فدر اللفظ مَنْثور
خَلِّ الصِّبا عنك واحتِم بالنُّهى عملاً ... فإنّ خاتمةِ الأعمال تَكْفيرُ

والخَير والشرَّ مَقْرونان فيَ قرن ... فالخَبر مُتّبع والشر محذُور
تقطيعهمستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، فعلن، مستفعلن فَعْلن العروض المجزوء والضرب المذال
يا طالباً في الهَوى ما لا يُنالْ ... وسائلاً لم يعْفَ ذُلّ السّؤال
ولَت ليالي الصِّبا مَحمودةً ... لو أنها رَجعت تلك اللَّيالْ
وأعقبتها التي واصلتُها ... بالهَجر لمّا رأت شَيب القَذَال
لا تلتمس وُصلة من مُخلف ... ولا تَكُن طالباً ما لا يُنال
يا صاح قد أخلفت أسماءُ ما ... كانت تُمنَيك من حُسن الوِصال
تقطيعهمستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، مستفعلان الضرب المجزوء
ظالمتي في الهَوى لا تَظْلمي ... وتَصرمي حَبل مَن لم يَصْرِم
أهكذا باطلاً عاقِبْتني ... لا يَرْحم الله مَن لم يَرْحم
قتلتِ نفساً بلا نَفس وما ... ذَنْب بأعظمَ من سَفك الدَّم
لمِثل هذا بكَتْ عيني ولا ... للمنزل القَفْر وللأرْسم
ماذا وُقوفي على رَسمٍ عَفا ... مخْلولق دارسٍ مُسْتعجِم
قطيعهمستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي
ما أقربَ اليأس من رَجائي ... وأبعَد الصبرَ من بُكائي
يا مُذكيَ النَّار في فؤادي ... أنت دَوَائي وأنت دائي
مَن لي بمُخلفة في وَعدها ... تَخلط لي اليأسَ بالرَّجاء
سألتها حاجةً فلم تَفُه ... فيها بنَعمٍ ولا بلاءَ
قلت استجيبي فلمّا لم تجب ... سالت دُموعي على ردائي
تقطيعهمستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، فعولن العروض المقطوع الممنوع من الطي ضربه مثله
كآبة الذل في كتابي ... ونَخْوةُ العِزّ في جَوابي
قَتلتَ نفساً بغير نَفس ... فكيف تَنجُو من العذاب
خُلِقْت من بَهجة وطِيب ... إذ خلقِ الناسُ من تُراب
ولَّت حُميَّا الشَّباب عنّي ... فلهفَ نفسي على الشَباب
أصبحتُ والشَّيبُ قد عَلاَني ... يَدْعو حَثِيثاً إلى الخِضَابِ
تقطيعهمستفعلن، فاعلن، فعولن مستفعلن، فاعلن، فعولن يجوز في حشو البسيط: الخَبن والطي والخبل. فالخبن: ما ذكرناه في المديد. والطي: ما ذهب رابعه الساكن. والمخبول: ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والطي في مستفعلن.
والخبن فيه حسن، والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح.
والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الوتد. والمذال: ما زاد على اعتداله حرف ساكن.
تمت الدائرة الأولى.
شطر الوافرله عروضان وثلاثة ضروب فالعرض الأول مقطوف، له ضرب مثله. والعروض الثاني مجزوء ممنوع من العقل، له ضربان: ضرب سالم، وضرب معصوب.
العروض المقطوف الضرب المقطوف
تَجافى النومُ بعدك عن جُفوني ... ولكن ليسَ يجفوها الدموعُ
يطيب ليَ السُّهاد إذا افترقنا ... وأنت به يطيب لك الهجوعُ
يذكرني تبسمك الأقاحي ... ويَحكي لي تورّدك الرّبيع
يطير إليك من شوقٍ فُؤادي ... ولكن ليس تتركه الضُّلوع
كأنّ الشمسَ لما غِبْت غابت ... فليس لها على الدُّنيا طُلوع
فما لي عند لَذكّرك امتناع ... ودون لقائك الحِصْن المَنيع
إذا لم تَستطع شيئاً فدَعه ... وجاوزْه إلى ما تَستطيع
تقطيعهمفاعلتن، مفاعْلتن، فعولن مفاعلْتن، مفاعلْتن، فعولن العروض المجزوء الممنوع من العقل
الضرب السالمغزال زانه الحَور ... وساعد طَرْفه القَدَر
يُريكِ إذا بدا وجهاً ... حَكاه الشمس والقَمر
براه الله من نُور ... فلا جِنّ ولا بَشر
فَذَاك الهمُّ لا طَلل ... وقفتَ عليه تَعْتَبر

أهاج منزل أَقوى ... وغَيّر آيه الغِير
تقطيعهمفاعلتن، مفاعلتن مفاعلتن، مفاعلتن الضرب المعصوب
وَبدْرٍ غير ممحوق ... من العقيان مخلوق
إذا أسقيت فَضْلته ... مَزَجتُ بريقه رِيقي
فيالك عاشقاً يسقي ... بقيَّة كأس مَعْشوق
بكيتُ لنَأْيه عَنّي ... ولا أَبكي بتشهيق
لمنزلة بها الأفلا ... ك أَمثال المَهاريق
تقطيعهمفاعلتن، مفاعلتن مفاعلتن، مفاعيلن يجوز في حَشو الوافر: العَصب والعقل والنقص. فالعصب فيه حسن، والنقص فيه صالح، والعقل فيه قبيح.
ويدخله الخرم في الابتداء، فتستقط حركة من أول البيت، ويسمى أعصب.
فإذا دخله العصب مع الخرم، قيل له: أقصم. فإذا دخله النقص مع الخرم، قيل له: أعقص. فإذا دخله العقل مع الخرم، قيل له: أجم.
والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمنقوص: ما سكن خامسه المتحرك وذهب سابعه الساكن. والمقطوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. ولا يدخل القطف إلا في العروض والضرب من تام الوافر.
شطر الكاملالكامل له ثلاثة أعاريض وتسعة ضروب. فالعروض الأول تام، له ثلاثة ضروب: ضرب تام مثله، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره، وضرب أحذ مضمر.
والعروض الثاني أحذ، له ضربان: ضرب مثله، وضرب مضمر.
والعروض الثالث مجزوء، له أربعة ضروب: ضرب مرفّل، وضرب مُذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع، إلا من سلامة الثاني وإضماره.
العروض التام الضرب التام
يا وَجْهَ مُعتذر ومُقلةَ ظالمٍ ... كمَ من دَم ظُلماً سفكت بلا دَم
أَوَجَدْتِ وصلي في الكِتاب مُحرما ... ووجدتِ قَتلي فيه غيرَ مُحرّم
كم جَنةٍ لكِ قد سكنتُ ظِلالَها ... مُتفكِّهاً في لَذة وَتنعّم
وشربتُ من خَمر العيون تعلّلا ... فإذا انتشيت أجود جُود المِرْزم
وإذا صحوَتُ فما أقصّرَ عن ندَى ... وكما علمتِ شمائلي وتَكرُّمي
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلاّ من الإضمار والسلامة
حَالَ الزمانُ فبدّل إلا مالا ... وكَسا المَشيبُ مَفارقاً وقَذالاَ
غنيتْ غواني الحَيّ عنك وربما ... طلعتْ عليك أكَلّة وحِجَالا
أَضَحى عليكَ حلالُهن مُحرماً ... ولقد يكون حرامُهن حَلالا
إنْ الكواعِبَ إنْ رأينك طاوياً ... وِصْلَ الشبابِ طَوين عنك وِصالا
وإذا دَعَونك عَمَّهن فإنه ... نسب يزيدكَ عندهن خَبالا
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلاتن الضرب الأحذ المضمر
يوم المُحب لِطوله شَهر ... والشهر يحسب أنه دهر
بأبي وأُمي غادة في خَدّها ... سِحْر وبين جُفونها سحْر
الشمسُ تَحسب أنها شَمس الضحى ... والبَدر يَحسب أنها البَدر
فسَل الهَوى عنها يُجيب إن نأتْ ... فسَل القِفار يُجيبك القَفر
لمَن الديارُ برامَتَيْن فعاقِلٌ ... دَرست وغَيّر أيها القَطر
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض الأحذ الثالث ضربه مثله
أمّا الخليطُ فشَدّ ما ذَهبوا ... بانُوا ولم يَقضُوا الذي يَجبُ
فالدارُ بعدهُم كوَشْم يَدٍ ... يا دارُ فيك وفيهمُ العَجَبُ
أين التي صِيغت محاسنُها ... من فِضّة شِيبت بها ذَهب
ولّى الشبابُ فقلت أندُبه ... لا مثلَ ما قالوا ولا نَدبوا
دِمَنٌ عَفت ومَحا معاَلمها ... هَطِلٌ أجَشُ وبارِح تَرِب
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن، فعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن الضرب الأحذ المضمر
عينيّ كيفَ غَررتُما قلبي ... وأبحتُماه لوعةَ الحُبِّ

يا نظرةً أذكتْ على كَبدي ... ناراً قضيتُ بحرّها نَحْبي
خَلُّواً جَوى قلبي أَكابده ... حَسبي مُكابدةُ الجَوى حَسْبي
عَينيِ جنتْ من شُؤم نَظرتها ... ما لا دواءَ له على قَلْبي
جانيك مَن يَجني عليك وقد ... تُعدي الصحاحَ مبارك الجُرب
قطيعهمتفاعلن، متفاعلن، فعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض المجزْوء والضرب المجزوء المرفل
هتك الحبابَ عن الضمائر ... طَرْف به تُبلَى السَّرائرْ
يَرنو فيمتحن القُلو ... بَ كأنه في القَلب ناظر
يا ساحراً ما كنتُ أع ... رف قَبله في الناس ساحر
أقصيتني من بعد ما ... أدنيتَني فالقلبُ طائر
وغررتَني وزعمتَ أن ... ك لابن بالصَيف تامِر
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلاتن الضرب المذال
يا مقلة الرّشأ الغَري ... ر وشُقّة القَمر المنيْر
ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلَّة والسُّتور
إلا وضعتُ يدِي على ... قَلبي مخافةَ أن يطير
هَبْني كبعض حمام مك ... ة واستمِع قولَ النَّذير
أَبُنيّ لا تَظْلم بمك ... ة لا الصَّغير ولا الكَبير
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلان الضرب المجزوء
قُل ما بدا لك وافعل ... واقطَعْ حِبالَك أَوْصل
هذا الربيعُ فَحيِّه ... وانزلْ بأكرم مَنزل
وصِل الذي هو واصلٌ ... فإذا كَرهت فبدِّل
وإذا نَبا بك منزلٌ ... أو مَسكن فتحوَّل
وإذا افتقرت فلا تَكُن ... مُتخشعاً وتَجمّل
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره
يا دَهرُ ماليَ أُصْفي ... وأنت غير مُواتِ
جَرّعَتني غُصصاً بها ... كدّرتَ صفو حياتي
أينَ الذَين تَسابقوا ... في المجد للغايات
قوم بهم رُوح الحيا ... ة ترد في الأموات
وإذا هُمُ ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات
تقطيعهمتفاعلن، متفاعلن متفاعلن فعلاتن يجوز في الكامل من الزحاف: الإضمار والوَفص والخزل. فالإضمار فيه حسن، والوقص فيه صالح. والخزل فيه قبيح.
فالمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك.
والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك.
والمخزول: ما سكن ثانية المتحرك وذهب رابعه الساكن.
ويدخله من العلل القطع والحذ. فالمقطوع، ما تقدم ذكره. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع.
شطر الهزجالهزج له عَروض: واحد مجزوء ممنوع من القبض. وضربان: ضرب سالم، وضرب محذوف.
العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله
أيا مَنْ لامَ في الحُبِّ ... ولم يَعلم جَوى قَلبِي
ملاِمُ الصّبّ يُغويه ... ولا أَغوى من القَلب
فأنيُ لمتَ في هند ... مُحِبّاً صادق الحُبِّ
وهند ما لها شِبه ... بشَرْق لا ولا غَرب
إلى هِنْد صَبا قَلْبي ... وهِنْد مثلُها يصبي
تقطيعهمفاعيلن، مفاعيلن مفاعيلن، مفاعيلن الضرب المجزوء المحذوف
مَتى أشفي غليلِي ... بنَيل من بَخيل
غَزال ليس لي مِنه ... سِوى الحُزن الطويل
جميل الوجه أخلاني ... من الصَّبر الجَميل
قَد حَملت الضيَم فيه ... من حَسود وعَذول
وما ظَهري لباغي الضَّي ... م بالظَّهر الذِّلول
تقطيعهمفاعيلن، مفاعيلن مفاعيلن، فعولن يجوز في الهَزج من الزحاف القبض والكف. فالكف فيه حسن. والقبض فيه قبيح. وقد فسرنا المقبوض والمكفوف في الطويل أيضاً.
ويدخله الخرم في الابتداء، فيكون أخرم. فإذا دخله الكف مع الخرم، قيل له: أخرب فإذا دخله القبض مع الخرم، قيل له: أشتر. والخرم كله قبيح.


شطر الرجزالرجز له أربعة أعاريض وخمسة ضروب. فالعروض الأول تام، له ضربان: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ.
والعروض الثاني مجزوء، له ضرب مثله مجزوء.
والعروض الثالث مشطور، له ضرب مثله.
والعروض الرابع منهوك، له ضرب مثله.
العروض التام الضرب التام
لم أَدْر جِنِّيٌّ سَباني أم بَشرْ ... أم شَمس ظُهر أشرَقت لي أم قَمَرْ
أم ناظِر يهدي المَنايا طَرفُه ... حتى كأنّ الموتَ منه في النَّظر
يُحي قَتيلاً ما له من قاتِلِ ... إلاّ سِهام الطّرف رِيشت بالحَوَر
ما بال رَسم الوَصل أضحَى داثراً ... حتى لقد أذكرتَني ممّا دثر
دارٌ لسَلمى إذ سُليمى جارة ... قَفْراً تُرى آياتُها مِثل الزبر
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، مستفعلن مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي
قَلب بلوعات الهَوى معمودُ ... حَيّ كَمَيْت حاضرٌ مَفْقودُ
ما ذقت طعم الموت في كأس الأسى ... حتى سَقَتْنيه الظباءُ الغِيدُ
من ذا يداوي القلبَ من داء الهوى ... إذ لا دواءٌ للهَوى مَوجود
أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلا قَضاءٌ ما له مَرْدود
القلبُ منها مُستريح سالمٌ ... والقَلب مني جاهد مجهودُ
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن مستفعل العروض المجزوء الضرب المجزوء
أعطيته ما سألا ... حكّمتُه لو عَدلا
وهبتُه رَوحي فما ... أدري به ما فَعلا
أسلمته في يده ... عَيَّشه أم قَتلا
قَلبي به في شُغل ... لا مَلَّ ذاك الشغلا
قَيّده الحُب كما ... قَيّد راع جَملاً
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن العروض المشطور الضرب المشطور
يأيها المَشغوف بالحبّ التَّعِبْ ... كم أنت في تَقْرِب ما لا يَقتربْ
دَعْ ودّ من لا يَرعوي إذا غَضب ... ومَن إذا عاتبته يوماً عَتب
إنك لا تَجني من الشوك العِنَب
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، مستفعلن العروضِ المنهوك الضرب المنهوك
بياضُ شَيْب قد نصَعْ ... رفعتُه فما ارتفع
إذا رأى البِيض انقمع ... مِن بين يأس وطَمَعْ
للّه أيام النَّخع ... يا ليتني فيها جَذع أخُبُّ فيها وأَضع
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن ويجوز في حشو الرجز: الخبن، والطي، والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح. وقد مضى تفسير الطي والخبن والخبلِ في البسيط. ويدخله من العلل: القطع، وقد ذكرناه. ويكون مجزوءاً. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزِء، ومن آخر العجز جزء. ويأتي مشطوراً. والمشطور: ما ذهب شطوه. ويأتي منهوكاً. والمنهوك: ما ذهب من شطره جزآن وبقي على جزء.
شطر الرملالرمل له عروضان وستة ضروب. فالعروض الأول محذوف جائز فيه الخبن. له ثلاثة ضروب: ضرب متمم وضرب مقصور جائز فيه الخبن، وضرب محذوف مثل عروضه.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة ضروب: ضرب مسبغ، وضرب مجزوء مثل عروضه الجائز فيه الخبن، وضرب محذوف جائز فيه الخبن.
العروض المحذوف الجائز فيه الخبن الضرب المتمم
وأنَا في اللَّذات مَخلوع العِذارِ ... هائم في حب ظَبي ذي احْورارِ
صُفرة في حُمرة في خدّه ... جمعتْ روضة وَرْد وبَهار
بأبي طاقةُ آسٍ أقبلت ... تَتَثَنّى بين حِجْل وسِوار
قادني طَرفي وقَلبِي للهَوى ... كيف من طَرفي ومِن قلبي حِذارِي
لو بغير الماء حَلقي شَرقٌ ... كنتُ كالغَصّان بالماء اعتصارِي
تقطيعهفاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المقصور

يا مُدير الصُّدغ في الخدّ الأَسيلْ ... ومُجيل السِّحر بالطرف الكَحيلْ
هل لمحزون كَئيب قُبلة ... منكَ يَشفي بَردُها حَرَّ الغَليل
وقليل ذاك إلاّ أنه ... ليس مِن مثلك عندي بالقَليل
بأبي أحورُ غَنَى مَوهناً ... بغناءٍ قصَّر الليلَ الطويل
يا بني الصّيداء ردُّوا فَرسي ... إنما يفعل هذا بالذَّليل
تقطيعهفاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلان الضرب المحذوف
شادن يَسحب أذيال الطَّربْ ... يَتَثنّى بين لَهو ولعبْ
بِجَبين مفْرغٍ من فِضَّة ... فوق خدٍّ مُشرَب لونَ الذهب
كَتَب الدمعُ بخدّي عَهده ... للهوَى والشوقُ يُملي ما كَتب
ما لجهلي ما أراه ذاهباً ... وسوادُ الرأس منّي قد ذَهب
قالت الخنَساء لمّا جِئْتُها ... شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهب
تقطيعهفاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن العروض المجزوء الضرب المسبغ
يا هلالاً في تَجنّيهِ ... وقضيباً في تثنيه
والذي لست أسميه ... ولكنّي أكنِّيه
شادِن ما تقدر العينَ ... تَراه من تَلالِيه
كلما قابله شخص ... رأى صورته فيه
لان حتى لو مشى الذّ ... ر عيله كاد يدميه
تقطيعهفاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتان الضرب المجزوء
يا هلالاً قد تجلّى ... في ثِياب من حَريرْ
وأميراً بهواه ... قاهراً كُلّ أمير
ما لخدّيك استعارَاً ... حُمرة الوَرد النضير
ورُسوم الوَصل قد ألْ ... بستها ثوبَ دُثور
مُقفرات دارسات ... مثلَ آيات الزبور
تقطيعهفاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المجزوء المحذوف الجائز فيه الخبن
يا قتيلاً من يده ... ميّتاً من كمَده
قدحتْ للشوق ناراً ... عينُه في كَبده
هائم يبكي عليه ... رحمةً ذو حسده
كل يوم هُو فيه ... مستعيذ من غَده
قلبُه عند الثريا ... بائن عن جَسده
تقطيعهفاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فعلن يجوز في الرمل من الزحاف: الخَبن والكَف والشكل. فالخبن فيه حسن. والكف فيه صالح. والشكل فيه قبيح. وقد فسرنا المكفوف والمخبون.
فأما المشكول: فهو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
ويدخله التعاقب في السيبين المتقابلين، على حسب ما يدخل في المديد.
ويدخله من العلل الحذف والقصر والإسباغ. وقد فسرنا المحذوف والمقصور.
وأما المسبغ: فهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن، مما يكون في آخره سبب خفيف، وذلك فاعلاتن يزاد عليها حرف ساكن فيكون فاعلاتان.
شطر السريعالسريع له أربعة أعاريض وسبعة أضرب: فالعَروض الأول مَكسوف مَطوي لازم الثاني، له ثلاثة ضروب: ضرب موقوف مطوي لازم الثاني، وضرب مكسوف مطوي لازم الثاني مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثاني مخبول مكسوف، له ضربان: ضرب مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثالث مشطور موقوف ممنوع من الطي، ضربه مثله.
والعروض الرابع مشطور مكسوف ممنوع من الطي، ضربه مثله.
العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوي اللازم الثاني
بكيت حتى لم أدعْ عَبرةً ... إذ حَملوا الهَودج فوق القَلوصْ
بُكاءَ يَعقوبَ على يُوسفٍ ... حتى شَفى غُلته بالقميص
لا تأسفِ الدهرَ على ما مَضى ... والقَ الذي ما دونه من مَحيص
قد يُدرك المبطئ من حَظه ... والخيرُ قد يَسبق جُهد الحَريص
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فاعلان الضرب المكسوف المطوي اللازم الثاني
للهّ دَرُ البَين ما يَفعلُ ... يَقتل مَن شاء ولا يُقْتلُ

بانُوا بمَن أهواه في ليلةٍ ... ردّ على آخرها الأوّل
يا طُولَ ليل المُبتلي بالهَوى ... وصبْحُه مِن ليله أطول
الدارُ قد ذكَرني رسمها ... ما كِدتُ عن تَذكاره أذْهل
هاج الهَوى رسم بذات الغَضى ... مُخْلولق مستعجم مُحْوِل
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فاعلن الضرب الأصلم السالم
قَلبي رهين بين أضلاعي ... من بين إيناسٍ وإطماع
من حيثُ ما يدعوه داعِي الهَوى ... أجابه لَبَّيْك مِن داعي
مَن لِسَقيم ماله عائدٌ ... وَميِّت ليس له ناعي
لما رأتْ عاذلتي ما رأتْ ... وكان لي من سَمعها واعِي
قالتْ ولم تَقْصد لقِيل الخَلني ... مَهْلاً لقد أبلغتَ أسماعِي
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المخبول المكسوف ضربه مثله
شَمس تجلّت تحت ثَوب ظُلَمْ ... سقيمةُ الطَّرف بغير سقَمْ
ضاقت عليّ الأرضُ مُذ صَرّمتْ ... حَبلي فما فيها مكانُ قَدم
شمس وأقمارٌ يطوف بها ... طَوْفَ النَّصارى حول بيت صَنَم
النشر مِسك والوُجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عَنم
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن الضرب الأصلم السالم
أنتَ بما في نفسه أعلمْ ... فاحكُم بما أحببتَ أن تَحْكُمْ
ألحاظُه في الحُب قد هتكت ... مَكْتومِه والحبّ لا يُكتم
يا مُقلة وحشيّة قَتلت ... نفساً بلا نَفس ولم تَظْلم
قالت تسلّيت فقلتُ لها ... ما بال قلبي هائم مغْرم
يأيهاي الزَاري على عمَر ... قد قلتَ فيه غير ما تَعلم
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المشطور الموقوت الممنوع من الطي ضربه مثله
خَلّيتُ قلبي في يدَيْ ذات الخالْ ... مصفدا مُقيّدا في الأغلالْ
قد قُلت للباكي رسومَ الأطلال ... يا صاح ما هاجَك من رَبعٍ خال
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، مفعولان العروض المشطور المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
ويحى قتيلاً مالَه من عَقْل ... بشادنٍ يَهتزّ مثلَ النَّصل
مُكَحّل ما مَسّه من كُحل ... لا تَعذُلاني إنني في شُغل
يا صاحبَيْ رحلِي أقلا عَذْلي
تقطيعهمستفعلن، مستفعلن، مفعولن ويجوز في السريع من الزحاف: الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حَسن. والطي صالح، والخبل فيه قبيح.
ويدخله من العلل: الكسف والوقف والصلم. فالمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والموقوف: ما سكن سابعه. والأصلم: ما ذهب من آخره وتد مفروق. والمشطور: ما ذهب شطره.
شطر المنسرحالمنسرح له ثلاثة أعاريض وثلاثة ضروب: فالعروض الأول ممنوع من الخبل، له ضرب مطوي.
والعروض الثاني منهوك موقوف ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
والعروض الثالث منهوك مكسوف ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوي
بَيْضاء مَضْمومة مُقرطقة ... يَنْقدّ عن نهَدها قَراطقُها
كأنما بات نعماً جَذِلا ... في جَنة الخُلد مَن يُعانقها
وأيّ شيء ألذّ مِن أمل ... نالتْه مَعْشوقة وعاشِقُها
دَعْني أمُت من هوى مَخدَّرةٍ ... تَعلق نفسي بها عَلائقها
مَن لم يَمُت غِبْطة يَمُت هَرَما ... الموتُ كأسٌ والمَرء ذائقها
تقطيعهمستفعلن، مفعولات، مستفعلن مستفعلن، مفعولات، مفتعلن العروض المنهوك الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله
أقصرتُ بعض الإقصارْ ... عن شادن نائي الدارْ
صَبرني لما سارْ ... ولم أكُن بالصبار
وقالَ لِي باستعبار ... صبراً بني عبد الدَّار
تقطيعه

مستفعلن، فعولات العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
عاضَتْ بوصلٍ صَدا ... تُريد قتلي عَمْدَا
لمَا رأتني فَردا ... أبكي وألقَى جَهْدَا
قالت وأبدتْ دُرًّا ... وَيَلُم سَعْد سَعْدَا
تقطيعهمستفعلن، مفعولن يجوز في المُنسرح من الزحاف. الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح.
ويدخله من العلل: الوقف والكسف. وقد فسرناهما في السريع.
والمنهوك: ما ذهب شطره، ثم ذهب منه شطر بعد الشطر.
شطر الخفيفالخفيف له ثلاثة أعاريض وخمسة ضروب.
فالعروض الأول منه تام، له ضربان: ضرب يجوز فيه التشعيث، وضرب محذوف يجوز فيه الخبن.
والعروض الثاني جائز فيه الخبن، له ضرب مثله.
والعروض الثالث مجزوء، له ضربان: ضرب مثله مجزوء، وضرب مجزوء مقصور مخبون.
العروض التام الضرب التام الجائز فيه التشعيب
أنتِ دائي وفي يديكِ دوائِي ... يا شفائي من الجَوى وبَلائِي
إنّ قلبي يُحب من لا أُسمِّي ... في عَنَاء أعْظِم به من عَناءِ
كيفَ لا كَيف أنْ ألذّ بعَيش ... مات صَبري به وماتَ عَزائِي
أيها اللائمون ماذا عليكم ... أنْ تَعِيشوا وأنْ أموتَ بدائي
ليس مَن مات فاستراح بمَيْت ... إنّما المَيْت ميّت الأحياء
تقطيعهفاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن فاعلاتن، متفعلن، مفعولن الضرب المحذوف يجوز فيه الخبن
ذات دَلّ وشاحُها قَلِقُ ... من ضُمور وحِجْلها شَرِق
بَزّت الشمس نورَها وحَباها ... لَحْظَ عينيه شادن خَرِق
ذَهَب خَدّها يَذُوب حَياءً ... وسِوَى ذاك كُله وَرِق
إن أمُت مِيتَة المُحبّين وَجْداً ... وفؤادي من الهَوى حَرِق
فالمَنايا من بين غادٍ وسارٍ ... كلّ حَيٍّ بَرْهنها غَلِق
تقطيعهفاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن فاعلاتن، متفعلن، فعلن العروض المحذوف الجائز فيه الخبن ضربه مثله
يا غليلا كالنار في كَبدي ... واغتراب الفُؤاد عن جَسدِي
وجُفوناً تَذْري الدموعَ أسىً ... وتَبيع الرُّقاد بالسهد
ليتَ مَن شفّني هواه رأَى ... زَفراتِ الهَوى على كَبدي
غادة نازح محلّتها ... وَكَلَتْني بلَوْعة الكَمَد
ربّ خَرْق من دونها قذفٌ ... ما به غَير الجِنّ من أحد
تقطيعهفاعلاتن، مستفعلن، فعلن فاعلاتن، مستفعلن، فعلن العروض المجزوء والضرب المجزوء
ما لليلَى تبدَّلتْ ... بعدنا وُدَّ غَيْرنا
أرهقتنا ملامةً ... بعد إيضاح عُذْرنا
فسلوْنا عن ذِكرها ... وتسلّت عن ذِكْرنا
لم نَقل إذ تَحرّمت ... واستهلت بَهجْرنا
ليت شِعري ماذا ترى ... أمّ عَمرو في أمرنا
تقطيعهفاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن، مستفعلن
الضرب المجزوء المقصور المخبونأشرقت لي بُدور ... في ظَلام تُنيرُ
طار قلبي بحُبّها ... مَن لقَلبِ يَطير
يا بُدوراً أنا بها الد ... هر عانٍ أسير
إنْ رضيتُم بأن أمُو ... ت فمَوتي حَقير
كُل خطب إن لم تَكو ... نوا غَضبتم يسير
تقطيعهفاعلاتن، مستفعلن فاعلاتن، فعولن يجوز في الخفيف من الزحاف: الخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن و فاعلاتن لا يسقطان معاً، وقد يثبتان. وذلك أن وتد مستفع لن في الخفيف والمجتث كله مفروق في وسط الجزء. وقد بينا التعاقب في المديد.
ويدخله من العلل: التشعيث والحذف والقصر. وقد بينا المحذوف والمقصور.
وأما التشعيث، فهو دخول القطع في الوتد من فاعلاتن التي من الضرب الأول من الخفيف فيعود مفعولن.


شطر المضارعالمُضارع له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضرب مجزوء ممنوع من القبض مثل عروضه، وهو:
أرى للصّبا وداعَا ... وما يذكر اجتماعَا
كأن لم يكن جديراً ... بِحفْظ الذي أَضاعا
ولم يُصبنا سُرورا ... ولم يلهنا سماعا
فجدّد وصالَ صَبّ ... متى تَعْصه أطاعا
إن تَدْن منه شِبْرا ... يقرِّبْك منه باعا
تقطيعه مفاعلين، فاعلاتن مفاعلين، فاعلاتن يجوز في حشو المضارع من الزحاف: القبض والكف في مفاعيلن، ولا يجتمعان فيه لعلّة التراقب: ولا يخلو من واحد منهما. وقد فسرنا التراقب مع التعاقب. وبدخله في فاعلاتن الكف. فأما القبض فُهو ممنوع منه وتد فاع لاتن في المضارع، لأنه مفروق وهو فاع. والنراقب في المضارع بين السببين من مفاعيلن في الياء والنون لا يثبتان معاً ولا يسقطان معاً، وهو في المقتضب بين الفاء والواو من مفعولات.
شطر المقتضبالمقتضب له عروض واحد مجزوء مطوي وضرب مثل عروضه، وهو:
يا مليحةَ الدَّعَج ... هل لديك من فرج
أم تُراك قاتلتِي ... بالدَّلال والغنَج
من لُحسن وَجهك من ... سُوء فِعْلك السمج
عاذليّ حَسْبكما ... قد غرقت في لُجج
هل عليّ وَيحُكما ... إن لهوتُ من حَرج
تقطيعه فاعلاتن، مفتعلن فاعلاتن، مفتعلن يدخل التراقب في أول البيت في السببين المتقابلين. على حسب ما ذكرناه في المضارع.
شطر المجتثله عروض واحد مجزوء ضربه مثله
وشادن ذي دَلال ... مُعصب بالجمال
يَضَنّ أَنْ يَحتويهَ ... معي ظلامُ اللَّيالي
أو يَلتقي في منامي ... خياله مع خيالي
غُصنٌ نَما فوق دِعْص ... يَختال كل اختيال
البَطن منها خَمِيص ... والوَجه مثل الهلال
تقطيعه مستفع لن، فاعلاتن مستفع لن، فاعلاتن يجوز في المجتث: الزحاف والخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفع لن وفاعلاتن على حسب ما يدخل الخفيف، وذلك لأن وتد مستفع لن في المجتث مفروق، كما هو في الخفيف مفروق، وذلك يقع.
شطر المتقاربالمتقارب له عروضان وخمسة أضرب. فالعروض الأول منها تام يجوز فيه الحذف والقصر. له أربعة ضروب: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقصور، وضرب محذوف معتمد، وضرب أبتر. والعروض الثاني مجزوء محذوف معتمد، له ضرب مثله معتمد.
العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام
حالَ عن العَهد لما أحالا ... وزال الأحبّة عنه فَزَالاَ
مَحلّ تَحُل عُراها السَّحاب ... وتَحكي الجَنوبُ عليه الشمالا
فيا صاح هذا مَقام المُحبّ ... وَربع الحَبيب فَحُطَّ الرِّحالا
سَل الرَّبع عن ساكنيه فإنّي ... خرست فما أستطيع السُّؤالا
ولاَ تُعْجلّني هَداك المليكُ ... فإنَّ لكُل مَقام مقالا
تقطيعهفعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن فعولن، فعولن الضرب المقصور
فُؤادي رَميْتَ وعَقْلي سَبَيْتَ ... ودَمْعي مَرَيتَ ونومي نَفَيتَ
يَصُد اصطباري إذا ما صَدَدت ... ويَنأى عَزائي إذا ما نأيت
عَزمت عليك بمجَرى الوِشاح ... وما تحت ذلك مما كنيت
وتُفّاح خَدٍّ ورُمَّان صَدْر ... ومَجناهما خير شيء جَنَيت
تجدّد وصلاً عفا رسمهُ ... فمثلُك لمّا بدا لي بَنَيتَ
على رَسْم دار قفار وَقَفْتَ ... ومِن ذكر عهد الحَبيب بَكَيْت
تقطيعهفعولن، فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن، فعولن، فعولن الضرب المحذوف المعتمد
أيا ويح نَفسي ووَيل أمها ... لِمَا لَقِيَتْ من جَوَى هَمِّها
فديتُ التي قتلتْ مُهجتي ... ولم تَتَّق الله في دَمِّها

أَغُضّ الجُفونَ إذا ما بَدَتْ ... وأكني إذا قيل لي سمِّها
أُداري العيون وأَخشى الرقيب ... وأَرْصُد غَفْلة قيّمّها
سبتْني بِجيد وَخَدِّ ونحر ... غَداةَ رَمَتْني بأسهمها
تقطيعهفعولن، فعولن، فعولن، فعل فعولن، فعولن، فعولن، فعل الضرب الأبتر
لاَ تبك لَيْلَى ولا مَيّه ... ولا تَندُبَنْ راكباً نِيّه
وبَكِّ الصّبا إذ طَوى ثَوْبه ... فلا أَحدٌ ناشِرٌ طيّه
ولا القَلب ناس لما قد مَضى ... ولا تاركٌ أبداً غَيّه
ودَع قول باكٍ على أرْسم ... فَليس الرُّسوم بمَبكيّه
خَلِيلي عُوجاً على رَسم دارٍ ... خَلَت من سُليمى ومن مَيّه
تقطيعهفعولن، فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن، فعولن، فع العروض المجزوء المحذوف المعتمد ضربه مثله
أأُحرمْ منْك الرّضا ... وتذكر ما قد مَضى
وتَعرض عن هائم ... أبَى عنكَ أن يُعرضا
قَضىَ الله بالحُبّ لي ... فصبراً على ما قَضىِ
رميتَ فؤادي فمَا ... تركتَ بهِ مَنْهضاً
فقَوْسك شرِيانَة ... ونَبْلك جمر الغَضا
تقطيعهفعولن، فعولن، فعل فعولن، فعولن، فعل يجوز في المتقارب من الزحاف: القبض. وهو فيه حسن. ويدخله الحزم في الابتداء، على حاسب ما يدخل الطويل.
وقد أكملنا في هذا الجزء مختصر المثال في ثلاث وستّين مُقطعة، وهي عدد ضرُوب العروض، والتزمنا فيها ذكر الزّحاف والعلل التي يقوم ذكرها في الجزء الأول الذي اختصرنا فيه فرش العروض، ليكون هذا الكتاب مكتفياً بنفسه، لمَن قد تأدّى إليه معرفةُ الأسباب والأوتاد ومواضعها من الأجزاء الثمانية التي ذكرناها في مختصر الفرش.
واحتجنا بعد هذا إلى اختلاف الأبيات التي استشهد بها الخليل في كتابه، لتكون حجة لمَن نظر في كتابنا هذا. فاجتلبنا جملة الأبيات السالمة والمعتلة، وما لكل شطر منها.
أبيات الطويل
العروض المقبوضالضرب السالم
أبا مُنذر أفْنيت فاستَبْق بعضَنا ... حنانَيْك بعضُ الشرّ أهونُ من بَعض
ضرب مقبوض
ستُبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد
أثلم مكفوف
شاقَتْك أحداج سلَيمَى بعاقلٍ ... فعيناكَ للبَيْن يَجُودان بالدمع
أثرم
هاجك رَبْع دارِسٌ باللَوى ... لأسماء عفَى المُزنُ والقَطْرُ
محذوف معتمدوما كُل ذي لُب بمُؤتيك نُصحَه ... وما كُل مؤتٍ نُصحه بلَبيب
أَقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم ... وإلا تُقيموا صاغرين الرءوسا
أبيات المديد
عروض مجزوء
ضرب مجزوءيا لبكر انشرُوا لي كُليباً ... يا لبكر أين أين الفِرارُ
ضرب مجزوء
مخبون صدر
ومتى مايَع منك كلاماً ... يتكلَم فيجبك بعَقْل
مكفوف عجزلن يزال قومنا مخصبين ... صالحين ما اتَقَوا واستقامُوا
مشكول عجزلمن الدّيارُ غَيّرهنّ ... كلّ جَوْنِ المُزْن داني الرَّبابِ
مشكول طرفاه
ليت شعري هل لنا ذاتَ يومٍ ... بجُنون فارع من تَلاق
العروض المحذوف اللازم الثانيالضرب المقصور، اللازم الثاني
لا يضرن امرأً عيشُه ... كُل عيش صائر للزوال
الضرب المحذوف، وواللازم الثاني
واعلموا أني لكم حافظٌ ... شاهداً ما كنتُ أو غائبا
الضرب الأبتر، اللازم الثاني
إنما الذلفاء ياقوتة ... أُخرجت من كِيس دِهقان
العروض المحذوف المخبونالضرب المحذوف المخبون
للفتى عقل يَعيش به ... حيث تَهدي ساقه قدمُه
الضرب الأبترربَّ نارٍ بتُّ أَرمقها ... تَقضم الهنديَّ والغارا
أبيات البسيط
العروض المخبونالضرب المخبون

يا حارِ لا أُرمَينْ منكم بداهيةٍ ... لم يَلْقها سوقةٌ قبلي ولا مَلِك
مخبون
لقد حلّت صُروفَها عَجب ... فأحدَثتْ عِبراً وأَعقبت دُوَلا
مطوي
ارتحلُوا غُدوةً وانطلقوا بكَراً ... في زُمَرٍ منهم تتبعها زُمَرُ
الضرب المقطوعاللازم الثاني
قد أشهد الغارةَ الشَّعواء تَحملني ... جَرداء مَعْروقة اللحْيين سُرحوبُ
والخير والشرّ مَقْرونان في قَرن ... فالخيرُ مُتَّبع والشرُ مَحْذورُ
العروض المجزوءالضرب المذال
إنّا ذَمَمْنا على مَا خَيّلت ... سَعْد بن زَيدٍ وعمراً من تميم
مخبون
قد جاءكم أنكم يوماً إذا ... فارقتم الموتَ سوف تُبعثون
مطوي
يا صاح قد أخلفَتْ أسماءُ مَا ... كانت تمنِّيك من حُسن الوِصال
الضرب المحذوف
ماذا وُقوفي على ربع خلا ... مُخْلولقٍ دارس معجم
مخبون
إنِّي لمُثْنٍ، عليها استمعوا ... فيها خصال تُعدُّ أربعُ
مطويِ
تَلقى الهَوى عن بني صادق ... نفسي فِداهُ وأُمَي وأبي
الضرب المقطوع الممنوع من الطيسِيروا معاً إنما ميعادُكم ... يومُ الثلاثاء ببطن الوادِي
قلت استجيبي فلمّا لم تُجب ... سالت دُموعي على ردائي
العروض المقطوع الممنوع من الطيِ
ما هَيَّج الشوقَ من أطلال ... أضحت قفاراً كوَحْي الواحِي
أبيات الوافر
العروض المقطوف
الضرب المقطوفلنا غَنم نُسوِّقها غزار ... كأن قرون جلّتها العِصيّ
إذا لم تستطع شيئاً فدَعْه ... وجاوزْه إلى ما تَستطيعُ
معقول
منازل لفَرتنى قِفارُ ... كأنما رسومُها شُطورُ
أعصب
إذا نَزل الشتاء بدارِ قومٍ ... تجنَّب جارَ بيتهم الشِّتاءُ
أقصم
ما قالوا لنا سيِّداً ولكن ... تفاحش قولُهم فأتوا بهُجْرِ
وإنك خير مَن رَكب المَطايا ... وأكرمُهم أباً وأخاً وَنْفسَاً
العروض المجزوء الممنوع من العقلضربه مثله
لقد علمت ربيعة أن ... حَبلك واهن خَلَقُ
أهاجك منزلٌ أَقوَى ... وغَيْر آيه الغِيَرُ
الضرب المعصوب
عجبتُ لمعشر عدلوا ... بمُعتمر أبا عَمْرِو
أبيات الكامل
العروض التام الضرب التاموإذا صحوتُ فما أقصر عن ندى ... وكما علمتِ شمائلي وتكرّمِي
المضمر
إنّي امرؤٌ من خير عَبس مَنصبي ... شَطْري وأَحمي سائِري بالمنصل
موقوص
يَذُب عن حَرِيمه بنَبله ... وسَيفه ورُمحه ويحْتمِي
مخزول
مَنزلة صمًّ صداها وعفا ... رسمها إن سُئِلت لم تُجِبِ
الضرب المقطوعممنوع إلا من الإضمار
وإذا دعونَك عَمهن فإنه ... نسب يَزيدك عندهنّ خَبالا
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ... ذُخراً يكون كصالح الأعمالِ
الضرب الأحذ المضمر
لمَن الديارُ برامَتين فعاقلٌ ... دَرست وغَيَّر آيها القَطْرُ
العروض الأحذ السالمالضرب الأحذ المضمر
لمَن الديار عفا معالمها ... هَطْل أجشُّ وبارح تَربُ
الضرب الأحذ المضمر
ولأنت أشجعُ من أُسامة إذ ... دُعيت نَزال ولُجّ في الذعر
العروض المجزوءالضرب المرفل
لقد سبقتم إل ... ى فَلِمْ نَزَعْتَ وأنت آخِر
المضمر
وغرتني وزعمت إن ... ك لابنٌ في الصَّيف تامر
موقوص
ذَهبُوا إلى أَجلٍ وك ... ل مؤجل حيّ كذاهب
الضرب المذال
جَدَث يكون مقامه ... أبداً بمُختلف الرّياح
مضمر
إذا اغتبطت أو ابتأسْ ... تُ حمدت ربّ العالمين
موقوص
كُتب الشقاءُ عليهما ... فهما له مُتيسرّ إن
مخزول
جاوبت إذ دعاك ... معالنا غير مخاف
الضرب المجزوء

وإذا افتقرت فلا تكُن ... متخشّعاً وتَجمَّلِ
مضمر
إذا الهوى كَرِه الهُدى ... وأَبَى التُقى فاعص الهَوى
موقوص
ولو أنها وزنت شمام ... بحِلْمه شالتْ لَه
مخزول
خطت مرارتها ... بحلاوةٍ كالعَسل
الضرب المقطوع الممنوع إلا من إضمار
وإذا هم ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحَسناتِ
مضمر
وأبو الحليس ورب مك ... ة فارغ مشغول
أبيات الهزج
العروض المجزوء الممنوع من القبضضربه مثله
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي
مكفوففهذان يَذودان ... وذا من كثب يرمي
مقبوضفقالت لا تخف شيّاً ... فما عندك من باس
أثرمأعادُوا ما استعاروه ... كذاك العيش عاريه
أخربولو كان أبو بشر ... أميراً ما رَضِيناه
أبتروفي الذين ماتُوا ... وفيما جَمّعوا عِبْره
الضرب المحذوفوما ظهري لباغي الض ... يم بالظَّهر الذّلول
مثله
قتلنا سيّد الخَزر ... ج سَعد بن عُباده
أبيات الرجز العروض التامالضرب التام
دار لسلمى إذ سليمى جارةٌ ... قَفْر تَرى آياتها مثل الزُّبر
مخبون
وطالما وطالما سَقَى ... بكفِّ خالِدٍ وأطْعما
مطوى
فأرسل المهر على آثارهم ... وَهيّأ الرُّمحَ لطعنٍ فطَعَنْ
مخبول
ما ولدتْ والدة من وَلدٍ ... أكرمَ من عَبد مناف حَسبَا
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
القلب منها مُستريح سالمٌ ... والقلبُ مني جاهد مجهودُ
لا خَير فيمن كفَّ عنا شرّه ... إذ كان لا يُرجى ليوم خَيرُه
العروض المجزوء الضرب المجزوء
قد هاج قلبي منزل ... من أم عمروا مقفر
مخبول
مات الفَعَال كُلّه ... إذ مات عبد ربه
مطوى
هل يَستوي عندك مَن ... تَهوى ومَن لا تِمقُه
مخبول
لا متك بنت مَطر ... ما أنت وابنة مَطَر
العروض المشطور الضرب المشطور
ما هاج أحزاناً ... وشَجواً قد شجا
إنك لا تَجني من الشوك العِنب مخبون
قد تعلمون أنن ... ي ابنُ أختكم
مطوى
ما كان من ش ... يخك إلا عمله
مخبول
هلا سألت ... طللا وخِيمَاً
مطوى العروض المنهوك
يا ليتني فيها جَذع ... أخب فيها وأضع
مخبون
فارقت غي ... ر وامق
مخبول
يا صاح ... فيما غضبوا
أبيات الرمل
العروض المحذوف والجائز فيه الخبنالضرب المتمم
مثل سَحق البُرد عَفَّى بعدك ال ... قطر مَغْناه وتأويبُ الشَّمال
مخبون صدروإذا رايةُ مجد رُفعت ... نَهض الصَّلتُ إليها فحَواها
مكفوف عجزليس كُلّ مَنْ أراد حاجةً ... ثم جَدّ في طِلابها قَضاها
مشكول عجزفَدعُوا أبا سعيد عامراً ... وعليكمْ أخاهُ فاضرْبوه
مشكول طرفانإنَ سعداً بطل مُمارسٌ ... صابر محتسب لما أصابه
الضرب المقصور
يا بَني الصَّيداء رُدوا فَرسي ... إنما يُفعل هذا بالذَّليل
أحمدتْ كِسْرى وأمسىَ قيصر ... مُغلَقاً من دونه بابُ الحديد
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
قالت الخَنساءُ لمّا جِئتُها ... شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهبْ
مخبون
كيف تَرجونَ سُقوطي بعدما ... لَفع الرأسَ مَشيبٌ وصَلَع
الضرب المشبع
يا خليليّ أَربعا فاست ... خبرا رَسْماً بعسفانِ
مخبون
واضحات فارسيَّا ... ت وأدم عربيّات
الضرب المجزوء
مُقْفرات دارسات ... مثل آيت الزَّبور
الضرِب المشبع
لانَ حتى لو مشى الذَ ... رّ عليه كادَ يُدْمِيهِ
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن

=ج15وج16.==

ج15. وج16.
ج15. كتاب العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
قال خلف بن خليفة: أدعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري، وعارض القرآن. فأتى به خالد، فقال له: ما تقول؟ قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر " فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة. فمر به خلف بن خليفة الشاعر، وقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن عنك ألا تعود.
قال: وإني لقاعد في مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد، فإذا جماعة قد أحاطت برجل ادعى النبوة، فقدم إلى عبد الله فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: وما عليك؟ بعثت إلى الشيطان فضحك عبد الله بن خازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم.
وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر، فقلت له: من أنت؟ جعلت فداك، وما ذنبك؟ وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها. قال: جاء بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي، أنا نبي مرسل. قلت: جعلت فداك، معك دليل؟ قال: نعم، معي أكبر الأدلة، ادفعوا إلي امرأة أحبلها لكم، فتأتي بمولود يشهد بصدقي. قال ثمامة: فناولته الكأس وقلت له: اشرب صلى الله عليك.
محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل فأشرفت عليه، فإذا رجل له جهارة وبنية، قلت: ما قصة هذا؟ قالوا: ادعى النبوة. قلت: كذبتم عليه. مثل هذا لا يدعي الباطل. فرفع رأسه إلي فقال: وما علمك أنهم قالوا علي الباطل؟ قلت له: وأنت نبي؟ قال: نعم. قلت له: ما دليلك؟ قال: دليلي أنك ولد زنا. قلت: نبي يقذف المحصنات؟ قال: بهذا بعثت. قلت: أنا كافر بما بعثت به. قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة جاءت حتى صكت صلعته، قال: ما رماها إلا ابن الزانية؛ ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: ما أردتم بي خيراً حيث طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال.
ادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبئ وإلى دعواه. فركبنا متنكرين، ومعنا خادم حتى صرنا إليه، وكان مستتراً بمذهبه. فخرج آذنه وقال: من أنتما؟ فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا. فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره. فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك، أم ترى في المنام، أم ينفث في قلبك، أم تناجى، أم تكلم؟ قال: بل أناجي وأكلمك. قال: ومن يأتيك بذلك؟ قال: جبريل. قال: متى كان عندك؟ قال: قبل أن تأتيني بساعة. قال: فما أوحى إليك؟ قال: أوحى إلي أنه سيدخل علي رجلان فيجلس أحدهما على يميني والآخر عن يساري، فالذي عن يساري ألوط خلق الله. قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله. وأنك رسول الله، وخرجا يتضاحكان.
تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر ولقي ابن عياش، وكان مغرماً بالشراب، فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحل الخمر؟ قال: إذاً لا يقبل منه حتى يبرئ الأكمه والأبرص. وأتي به عامل الكوفة فاستتابه. فأبى أن يتوب ويرجع. فأتته أمه تبكي، فقال لها: تنحي، ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أم موسى. وأتاه أبوه يطلب إليه أن يرجع. فقال له: تنح يا آزر، فأمر به العامل فقتل وصلب.
وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي إذ جاءني صديق لي، فقال لي: إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة، فقم بنا إليه نكلمه، ونعرف ما عنده. فقمت معه: فصرنا إلى باب داره، فقرعنا الباب، وسألنا الدخول عليه. فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه إن كان على حق اتبعناه، وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه، ولم نؤذه. فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت على وجه الأرض، وإذا هو أصلع، فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله. قلت: دونك. قال: جعلت فداك، ما أنت؟ قال: نبي. قلت: ما دليلك؟ قال: أنت أعور عينك اليمنى، فاقلع عينك اليسرى حتى تصير أعمى، ثم أدعو الله فيرد عليك بصرك، فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل، قال: فاقلع أنت عينيك جميعاً، وخرجنا نضحك.

وأتى المأمون بإنسان متنبئ فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم، علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قربت علي ما في نفسي؟ قال له: في نفسك أني كذاب. قال: صدقت، وأمر به إلى الحبس. فأقام به أياماً، ثم أخرجه. فقال: أوحى إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس. فضحك المأمون وأطلقه.
وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحاً صاحب الفلك، وذكر أنه سيكون طوفان على يديه إلا من اتبعه، ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه، فأتى به الوالي، فاستتابه فلم يتب، فأمر به فصلب، واستتاب صاحبه فتاب. فناداه من الخشبة: يا فلان. أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة؟ فقال: يا نوح، قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري.
قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ، فقال: يا ثمامة ناظره. فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين. ثم التفت إلى المتنبئ، فقال له: ما شاهدك على النبوة؟ قال: تحضر لي ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك فتلد غلاماً ينطق في المهد ويخبرك أني نبي فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به؟ قال: وأنت يا أمير المؤمنين ما أهون عليك أن تتناول امرأتي على فراشك فضحك المأمون وأطلقه.
أخبار الممرورين والمجانينقال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك، وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه، وكان راويةً للشعر بصيراً بجيده، فذكر عن عبد الله بن إدريس صاحب الحديث قال: أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار، فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا، والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان، وأخرج إليه طعاماً وطبقاً عليه رطب مشان وملبقات وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه، وقال: هذا من رحمة الله، وأشار إلى الطعام، كما أن أولئك من عذاب الله، وأشار إلى الصبيان. ثم جعل يأكل والصبيان يرجون الباب، وهو يقول: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " . قال ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له: يا عليان، ما لك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: إني كالمسن أشحذ ولا أقطع. وكان بصيراً بالشعر. فقلت: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قول جميل:
ألا أيها النوام ويحكم هبو ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب
قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع. ثم قال: ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له؟ قلت: وماذا؟ قال: مثل قول الشاعر:
ندمت على ما كان مني فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع
ثم قال أتستطيب قوله " فقدتني " بالله يا بن إدريس؟ قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم، شيب الله قرنك. وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة.
وحكى عنه عبد الله بن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص، وهو يخط بها في الرماد، فقلت له: ما تصنع هاهنا يا بن أبي مالك؟ قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك؟ قال: مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع؟ قال: أما سمعته يقول:
عشية ما لي حيلةٌ غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع

قلت: ما سمعته. فرفع رأسه إلي متضاحكاً، فقال: أما يقول الله عز وجل " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً " فأنت سمعته أو رأيته؟ هذا كلام من كلام العرب لا علم لك به. قلت: يا بن أبي مالك، متى تقوم القيامة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم سائل، غير أنه من مات فقد قامت قيامته. قلت له: فالمصلوب يعذب عذاب القبر؟ قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب، وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن الله لطفاً لا يدرك. قلت: ما تقول في النبيذ، حلال أم حرام؟ قال: حلال. قلت: أتشربه؟ قال إن شربته فقد شربه وكيع، وهو قدوة، قلت: أتقتري بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه، وأنا أسن منه؟ قال: إن قول وكيع ما اتفاق أهل البلد عليه أحب إلي من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك. قلت: فما تقول في الغناء؟ قال: قد غنى البراء بن عازب، وعبد الله بن رواحة، وسمع الغناء عبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن جعفر. قلت له: أيشٍ كان عبد الله بن جعفر؟ إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان.
وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط، وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة ولف عليها خرقة، لئلا يؤذي بها الناس، فكان إذا أحرده الصبيان التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس، وطاب اللقاء، فما ترى؟ فيقول: شأنك بهم، فيشد عليهم، ويقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها؟
فإذا أدرك منهم صبياً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته، فيتركه وينصرف ويقول: عورة المؤمن حمى، ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين. ثم يقول وينادي:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني ... خشاش كرأس الحية المتوقد
ثم يرجع إلى دكان الخياط، ويلقي العصا من يده ويقول:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد، وكانت له جارية تدعى خيزران، وكان بها كلفا، فمر يوماً بعليان، وقد أحاط به الناس، فقالوا له: هذا أبو سعيد صاحب خيزران، فناداه: أبا سعيد. قال: نعم. قال: أتحب خيزران؟ قال: نعم قال: وتحبك؟ قال: نعم. فأنشأ يقول:
نبئتها عشقت حشاً فقلت لهم ... ما يعشق الحش إلا كل كناس
فضحك الناس من أبي سعيد ومضى.
ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس فقال له: يا بن أبي الزرقاء، أسمنت برذونك وأهزلت دينك، أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخف. فوقف ابن أبي الزرقاء. فقيل له: هو صباح الموسوس، قال: ما هذا بموسوس.
وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا، فقلت: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها. وكان بهلول هذا يتشيع. فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما. فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم.
وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته، وشناعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه. فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال: أما هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك؟ قال: أبو الياقوت. قيل: فنقش خاتمك؟ قال: " وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد " . قيل: أي الطعام تشتهي؟ قال: خلنجبين.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي: يا أبا العمرين، فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما.
وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئاً على الأمانة؟ قال: قل. قال: والله ما بي غيره.
ودخل أبو عتاب على عمرو بن هداب وقد كف بصره والناس يعزونه فقال له: أبا زيد، لا يسوءك فقدهما فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك. ودخل على قوم يعود مريضاً لهم فبدأ يعزيهم. قالوا: إنه لم يمت. فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله، يموت إن شاء الله.
ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام، قال: لولا أنك أبي وأنك أسن مني لعرفت.
أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضري من أحمق الناس، فقيل له: ما رأيت من حمقه؟ فسكت. فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره؟ وأين ترابه الذي خرج منه؟ وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام؟

ودخل رجل من النوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته، فقال: أيكما الشعبي؟ فقال: هذه. فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان، هل يؤجر؟ قال: إن كان قال لك: يا أحمق، فإني أرجو له.
وسأل رجل آخر الشعبي فقال: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في الصلاة في أنفه فخرج عليها دم، أترى له أن يحتجم؟ قال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وقال له آخر: كيف كانت تسمى امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاح ما شهدناه.
العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشراً يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلاً عالماً ورعاً، فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الإثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة. فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية. فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، ونزعت فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة، اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام. فقال: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية وقسمت بالسوية، اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه. فيقول له: خلطت في تلك الست السنين، ولكن الله تعالى يقول: " خلطوا عملاً صالحاً آخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " . وعسى من الله موجبة. ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه. فيقول: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن، فأنت الوصي وولي النبي، بسطت العدل، وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء، فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة، اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس، ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي. فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة، وأنت الذي جعل الخلافة ملكاً، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستنصر بالظلمة، وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقض أحكامه، وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة، ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام. فقال له: يا قواد، أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحث المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمثلت بشعر الجاهلية:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل، اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر والياً بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام، فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله يا عمر خيراً عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألنت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق، بعد شقاق ونفاق. اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس، فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: بلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً.
ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء. وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق. وكان عيناوة جيد القفا، فربما مر به من يعبث فيصفعه، فحشا قفاه خراء، وقعد على قارعة. فإذا صفعه أحد قال: شم يدك يا فتى، فلم يصفعه أحد بعد ذلك.
ووعد رجل رجلاً من الحمقى أن يهدي له نعلاً حضرمية، فطال عليه انتظارها، فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إلي بعض إخواني نعلاً حضرمية.

وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة، فقفد عيناوة فتىً كانت أرضعته مجيبة، فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك؟ فوالله لقد زقت لي فرخاً فما زلت أرى الرعونة في طيرانه.
ومن المجانين هبنقة القيسي، وجرنفش السدوسي، واسم هنبقة يزيد بن ثروان، وكنيته أبو نافع، وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل. فسئل عن ذلك فقال: أما أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله! وشرد بعير له فجعل بعيرين لمن دل عليه، فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير؟ قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته.
وافترس الذئب له شاة، فقال لرجل: خلصها من الذئب وخذها، فإن فعلت فأنت والذئب واحد.
وسام رجل هبنقة بشاة، فقال: اشتريتها بستة، وهي خير من سبعة، وأعطيت فيها ثمانية وإن أردتها بتسعة وإلا فزن عشرة.
وكان باقل الذي يضرب به المثل في العي اشترى شاة بأحد عشر درهما، فسئل: بكم اشتريت الشاة؟ ففتح يديه جميعاً وأشار بأصابعه وأخرج لسانه، ليتم العدد أحد عشر.
ولما قرب الفرزدق رأس بغلته من الماء قال له الجرنفش: نح رأس بغلتك حلق الله شأفتك. قال: لماذا عافاك الله؟ قال له: لأنك كذوب الحجرة، زاني الكمرة فصاح الفرزدق. يا بني سدوس، فاجتمعوا إليه. فقال: سودوا الجرنفش عليكم، فما رأيت فيكم أعقل منه.
قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهنبقة أيهما أجن وأحمق. فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص، وجاء هنبقة بحجارة ثقال وترس، فبدأ الجرنفش، فقبض على حجر، ثم قال: دري عقاب، بلبن وأشخاب. ثم رفع صوته وقال: الترس فرمى الترس فأصابه، فانهزم هنبقة، فقيل له: لم انهزمت؟ فقال إنه قال: الترس. فرمى الترس فلم يخطئه، فلو أنه قال العين ورماها، أما كان يصيب عيني.
وتبع داود بن المعتمرة امرأة ظنها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك، فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير، فأما إذ صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان.
ووقع داود هذا بجارية فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيب أم بكر؟ فقالت له: سل المجرب.
قالت أم غزوان الرقاشي لابنها، وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان، لعلك تجد في هذا المصحف حماراً كان أبوك في الجاهلية فقده. فقال: يا أماه. بل أجد فيه وعداً حسناً ووعيداً شديداً.
ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرة كأنها مدهن عاج. فقال له: يا شيخ، دعني أجعل ذكري في سرتك. فقال له: يا بن أخي، وأين يكون آستك حينئذ؟
مجانين القصاصقال أبو دحية القاص: ليس في خير ولا فيكم. فتبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني.
وقال في قصصه يوماً: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج. قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصاً ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه فقال: ما لكم كثر الله بكم القبور.
قال: ورأيت قاصاً يحدث الناس بقتل حمزة فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو ازدردتها ما مسها النار. ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
باب نوكى الأشرافمن النوكى المتقدمين: مالك بن زيد مناة بن تميم، دخل على امرأته ناجية مغضباً، فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت له: ضع شملتك. قال: جسدي أحفظ لها. قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما. فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه. فلما شم رائحة الطيب وثب عليها.
ومن النوكى عجل بن لجيم. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرساً في حلبة فجاء سابقاً، فقال لأبيه: كيف ترى أن أسميه يا أبت؟ قال: افقأ إحدى عينيه وسمه الأعور. قال الشاعر:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأي عباد الله أنوك من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل
ومن بني عجل دغة التي يضرب به المثل في الحمق. وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الأمثال.

ومن نوكى الأشراف: عبيد الله بن مروان، عم الوليد بن عبد الملك. بعث إلى الوليد قطيفة حمراء، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء حمراء، فكتب إليه قد وصلت القطيفة، وأنت والله يا عم أحمق أحمق.
ومنهم معاوية بن مروان وقف على باب طحان، فرأى حماراً يدور بالرحا في عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق الحمار؟ قال: ربما أدركتني سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به، فانبعث. قال: أفرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا - وحرك رأسه - فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير؟ وهو القائل، وضاع له بازي: اغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي.
وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان، فمر له بكفن. فقال: ما عندنا اليوم شيء ولكن عودوا إلينا إذا نبش.
وأقبل إليه رجل أحمق منه، فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوباً نكفن فيه ميتاً؟ قال: أخشى أنه ينجسه فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر.
ومن النوكى الأشراف: عيينة بن حصن، دخل على عثمان بغير إذن، وكانت عنده ابنته، فقال له عثمان: ألا استأذنت؟ قال: ما ظننت أن هنا من أحتاج أن أستأذن عليه. قال: ادن فتعش. فقال: أنا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه السفيه المطاع.
ومن حمقى قريش: أبان بن عثمان بن عفان. قال الشعبي: قدم أبان على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، زوجني ابنتك. قال: يا بن أخي هما اثنتان. إحداهما عند ابن عامر والأخرى عند أخيك عمرو. قال: كنت أظن أن لك ثالثة. قال: يا بن أخي، تخطب إلي ولا تدري لي بنت أم لا، رحم الله أباك.
ومر معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه، فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى آست صاحبها لا تفلح أبداً. ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب. وهو الذي يقول لأبي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دماً. قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن، فلو كنت خصياً ما زوجناك، وعلى الذي غرنا بك لعنة الله.
وكان أبو العاج والياً بواسط فأتاه صاحب شرطته بقوادة، فقال: ما هذه؟ قال: قوادة. قال: وما تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال والنساء قال: إنما جئتني بها لتعرفها بداري، خل عنها لعنك الله ولعنها.
وكان الربيع العامري والياً باليمامة، فأتي بكلب قد عقر كلباً فأفاده فقال فيه الشاعر:
شهدت بأن الله حقاً لقاؤه ... وأن الربيع العامري رقيع
أقاد لنا كلباً بكلب فلم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وقال عوانة: أستعمل معاوية رجلاً من كلب، فذكر يوماً المجوس وعنده النار.
فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي.
وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من بني عتاب بن أسيد، كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. وكان الآخر يضحي عن أبي بكر وعمر، ويقول: أخطأ السنة في ترك الأضحية، وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة، ويقول: غلطت رحمها الله في صومها أيام التشريق.
ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج. فلما رآه وقد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين، ولني نهر بوق. فقال له: ويلك أوليك نصفه. اكتبوا عهده علي بوق. قال: فولني أرمينية. قال: إذا يبطئ على أمير المؤمنين خبرك.
أهل العي والجهل المشبهون بالمجانينخطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر. فقالوا له: بل في ستة أيام. فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها.
وخطب علي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح لقومه: " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " . فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون. فقال: من قاله فقد أحسن.
وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
وخطب والٍ باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي. وقد أهلك أمة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم، فسمي مقوم الناقة.

وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودعوه وهو يريد مكة حاجاً، فقال: لا تبكوا فإني أرجو أن أضحي عندكم.
ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه؟ فقال: إنما سكناها منذ ستة أشهر.
ودخل كردم السدوسي على رجل فدعاه إلى الغذاء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرز فأكثرت منه.
وقيل لأبي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام بن سليمان أبي المنذر؟ قال: لأنه لما مات سلام بن سليمان أبو المنذر مشى أبو علي في جنازته، فلما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته.
ومرض كردم فقال له عمه: أي شيء تشتهي؟ فقال: رأس كبشين قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش قال: لا يكون. فقال: لست أشتهي شيئاً.
وقال مسعدة بن طارق الذراع: إن لوقوف على حدود دار نقسمها إذ أقبل عيص، سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم. ونحن في خصومة لنصلح بينهم، فقال: خبروني عن هذه الدار، هل ضم بعضها إلى بعض أحد، فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازاً.
وأقبل كردم الذراع إلى قوم ليكسر لهم دوراً، فوجد داراً منها فيه زنقة. فقال: ليست هذه الدار لكم فقالوا: بلى والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال: فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار. فقال: عشرون في عشرين مائتان. قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا؛ إذ عشرون في عشرين مائتان.
وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها، فالتمسها في كتابه فلم يجدها. فقال: لم يمت هذا الرجل بعد، ولو مات لوجدت فريضته في كتابي.
وعزى قوماً فقال: آجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم. فقيل له في ذلك، فقال؛ مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم.
وكان أبو إدريس السمان يكتب: فلا أصحبك الله إلا بالعافية، ولا حيا وجهك إلا بالكرامة.
العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه، فرجع إليه مضروباً فقال: ما لك ويلك؟ قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني؟ قال: هن الحمار في حر أم الذي أرسلك. قال له: دعني من افترائه علي. أخبرني أنت كيف جعلت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر أمي؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أم من أرسلك؟ وقال أبو نواس: قلت لأحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: أيما أسن أنت أم أخوك؟ قال: إذا جاء رمضان استوينا.
قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غب مطر والأرض ندية والسماء مغيمة والريح شمال، وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة، وقد قعد على قارعة الطريق، وحجام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب، وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه، فقلت: يا شيخ، لم تحتجم في هذا البرد؟ قال: لهذا الصفار الذي بي.
وقيل لأبي عتاب: كيف برك بأمك؟ قال: والله ما قرعتها بسوط قط.
النوكى من نساء الأشرافدغة العجلية، وجهيزة، وشولة، ودراعة، وسارية الليل، وريطة بنت كعب، وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً. وفيها يقال في المثل: " خرقاء وجدت صوفة " .
وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن المطلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول: أرق عيني ضراط القاضي.
فقال لي: يا أبا حفص، أتراها تعني قاضي مكة؟ وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: رب رمية من غير رام.
قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يفيق، والغائب حتى يرجع.
ومن أخبار أهل العي المشبهين بالمجانين: دخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد ليشتري طعاماً من طعامهم، فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته. قالت له: هلا قلبت طعامك يا أبا طالب؟ قال: وقد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، ألست قد قلبت الشعير، فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسداً.
قال الأصمعي: كان بين رجلين من النوكى عبد فقام أحدهما يضربه، فقال له شريكه: ما تصنع؟ قال: أنا أضرب نصيبي منه. قال: وأنا أضرب حصتي فيه، وقام فضربه. فكان من رأي العبد أن سلح عليهما، وقال: اقتسما هذه على قدر الحصص.

ومر بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي، فقال لها: ما هذا الميت منك؟ قالت: زوجي. قال: وما كان عمله؟ قالت: كان يحفر القبور، قال: أبعده الله، أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها.
وطلب رجل من النوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالاً ويؤخره به. فقال: هاتان حاجتان وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.
وكان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم، مع بله فيهم وعي شديد - فمن ذلك أن امرأة أبي رافع رأته في نومها بعد موته، فقال لها: أتعرفين فلاناً الصيرفي؟ قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر وسألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع، والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط. فأقبلت إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من آل أبي رافع كلهم مقبول القول، جائز الشهادة، فقصت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع. قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة، قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه. فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤديها، قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير، ونعم الصلح الشطر، فأد إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صلحاً على المائتي دينار التي ادعاها أبو رافع علي في نومها، وأنها قد أبرأتني منها وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى، فيدعي علي بغير هذه المائتين، فتجيء بفلان وفلان يشهدان علي لها. فلما سمعوا الوثيقة فطن القوم لأنفسهم، وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به.
ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير، أتي بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسيه في موضعه، فلما صار إلى بيته ذكره، فقال: يا غلام، ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد. قال: وأين يوجد، وقد دخل المسجد بعدك جماعة؟ قال: وبقي أحد يأخذ ما ليس له؟ وسرقت نعله مرة فلم يلبس نعلاً بعدها حتى مات، وقال: أكره أن أتخذ نعلاً فيجيء من يسرقها فيأثم. وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه، ولا أقبل شهادته.
قال الأصمعي: كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته، وله حمار يرعى حول الصومعة، فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى فرفع يديه إلى السماء، فقال: يا رب، لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري، وما كان يشق علي. فهم به نبي كان فيهم في ذلك الزمان، فأوحى الله إليه دعه، فإنا أثيب كل إنسان على قدر عقله.
هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها؟ قال: وما رأيت؟ قال: كنت أرى أن لي غنماً، فكنت أعطى بها ثمانية دراهم، فأبيت من البيع، ففتحت عيني فلم أر شيئاً، فأغلقتهما ومددت يدي، وقلت: هاتوا أربعة، فلم أعط شيئاً. فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها. قال: يمكن الذي ذكرت.
شعراء المجانينمنهم أبو ياسين الحاسب، وجعيفران، وجرتفش، وأبو حية النميري، وريسيموس، وصالح بن شيرزاذ الكاتب.
وكان أبو حية أجن الناس وأشعر الناس، وهو القائل:
ألا حي أطلال الرسوم البواليا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلةٌ ... تقاضاه أمر لا يمل التقاضيا
وهو القائل أيضاً:
فلأبعثن مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع
ترد المناهل لا تزال غريبةً ... في القوم بين تمتعٍ وسماع
وهو القائل أيضاً:
فأبدت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفٍ ومعصم
وأما جعيفران الموسوس الشاعر، وهو من مجانين الكوفة، فإنه لقي رجلاً فأعطاه درهماً وقال له: قل شعراً على الجيم. فقال:
عادني الهم فاعتلج ... كل هم إلى فرج
سل عنك الهموم بال ... كاس والراح تنفرج
وهو القائل:

ما جعفرٌ لأبيه ... ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدعيه
هذا يقول بنيي ... وذا يخاصم فيه
والأم تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك فأذن له، وحضر غداؤه، فتغدى معه، فلما كان من الغد استأذن فحجبه، ثم أتاه في الثالثة فحجبه. فنادى بأعلى صوته:
عليك إذنٌ فإنا قد تغدينا ... لسنا نعود وإن عدنا تعدينا
يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها ... داءً بقلبك ما صمنا وصلينا
العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن في حماقةً، ولكن إن طلبت الشعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئاً؟ قال: نعم، أقول أجود من قولك، وأنا الذي أقول:
لو أن جومل كلمتني بعدما ... نسيت نوائحي البكاء وأقبر
لحسبت ميت أعظمي سيجيبها ... أو أن باليها الرميم سينشر
قال له أبي: أما الشعر فحسن إلا أن اسم المرأة قبيح. قال: ألا إن اسم المرأة جمل، ولكنني ملحته بجومل. فقال له: إن هذا من الحماقة التي برئ إلينا منها.
قال العتبي: قال أبي: وأنشدني أبو وائل:
ما أوجع البين من غريب ... فكيف إن كان من حبيب
يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت
فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئاً. قلت: يا هذا، إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط وهو يشكل.
ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب، أخي الحسن بن وهب، دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاذ، بشعر يرثيها فيه، فأنشده:
لأم سليمان علينا مصيبةٌ ... مغلغلة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أم سالم ... فأمسى سراج البيت وسط المقابر
فقال سليمان: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي، ماتت أمي ورثيت بمثل هذا الشعر، ونقل اسمي من سليمان إلى سالم.
ومن قول صالح بن شيرزاذ هذا:
لا تعدلن دواء بالفساء فإن ... كان الضراط فذاك الآذريطوس
ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع، وحوله بنوه، فاستأذنه في الذنه في الإنشاد فاستعفى. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده شعراً، فلما انتهى فيه إلى قوله:
وكيف تنفى وأنت اليوم رأسهم ... وحولك الغر من أبنائك الصيد
قال له: ليتك، تركتنا رأساً برأس. وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت ومدحه ببيتين، فقال له: والله ما تركت قافيةً لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه:
هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع وحبر مدحةٌ في نصر
فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك.
وقال بعض العلماء: ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من المجانين مجانين أهل مكة في الشعر، فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
فزعموا أن هذه أسماء رجال منهم. قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، والزرارة الحجر زررت حول البيت، ومجاشع زمزم تجشعت بالماء، وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة. قلت له: فنهشل؟ قال: نهشل؟ وفكر فيه ساعة، ثم قال: قد أصبته، هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك النهشل.
قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا، فملنا إلى دير هزقل ننظر في المجانين، فإذا بالمجانين كلهم قد رأونا، ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه، وجلس ناحية عنهم، فقلنا: إن كان فهذا، فوقفنا به، فسلمنا عليه فلم يرد السلام، فقلنا له: ما تجد؟ فقال:
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي نفس تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس يفوقها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد

فقلت له: أحسنت والله. فأوما بيده إلى شيء ليرمينا به. وقال: أمثلي يقال له أحسنت. قال: فولينا عنه هاربين. فقال: أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت، وإن أسأت قلتم لي: أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا وقلنا له: قل، فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها وسارت بالدجى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين ينهمل
وودعت ببنان عقده عنم ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ما ذا حل بي وبها ... من نازل البين حل البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي نودعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم ... يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا
قال: فقلنا له: ماتوا. فصاح وقال: وأنا والله أموت، وتربع وتمدد، فمات فما برحنا حتى دفناه.
وقال محمد بن يزيد المبرد: دخلنا دير هزقل، فإذا بمجنون بيده حجر، وقد تفرق الناس عنه وهو يقول: يا معشر إخواني اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول:
وذي نفس صاعد ... يئن بلا عائد
يكر على جحفل ... ويضعف عن واحد
وأنشد أبو العباس لماني الموسوس:
له وجنات في بياض وحمرة ... فحافاتها بيض وأوساطها حمر
رقاق يجول الماء فيها كأنها ... زجاج أجيلت في جوانبها الخمر
وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود، ثم أقلعت سريعاً، فمر بي ماني الموسوس فقال:
لا تظن الذي جرى ... مطراً كان ممطراً
إنما ذاك كله ... دمع عيني تحدرا
وتوالت غيومها ... من همومي تفكرا
هكذا حال من يرى ... من حبيب تغيرا
وقف ماني الموسوس على أبي دلف فأنشده:
كرات عينك في العدا ... تغنيك عن سل السيوف
وقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة.
ولماني الموسوس:
من الظباء ظباء همها السحب ... ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب
أفدى الظباء اللواتي لا قرون لها ... وحليها الدر والياقوت والذهب
يا حسن ما سرقت عيني وما انتهب ... والعين تسرق أحياناً وتنتهب
فتلك من حسن عينيها وهبت لها ... قلبي لو قبلت مني الذي أهب
وما أريدهما إلا لرؤيتهما ... فإن تأبت فما لي فيهما أرب
إذا يدٌ سرقت فالحد يقطعها ... والحد في سرق العينين لا يجب
ومر علي بن الجهم بمبرسم، قد اجتمع الناس عليه، وتحلقوا حوله، فلما رآه المبرسم قصد نحوه، وأخذ بعنانه، ثم أنشأ يقول:
لا تحفلن بمعشر ال ... همج الذين أراهم
فوحق من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم
لو قيس موتاهم بهم ... كانوا هم موتاهم
ثم نظر حوله فرأى غلاماً جميل الهيئة حسن الوجه، فشق ثيابه وقال:
هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم
قال أبو البختري الشاعر: كان يبلغني أن ببغداد مجنوناً يكنى أبا فحمة، له بديهة حسنة، فتعرضت له، فأتيح لي لقاؤه في بعض سكك بغداد، فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة؟ فأشنأ يقول:
أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرضاً لموارد التلف
وأراك نحوي غير ملتفت ... متحرفاً عن غير منحرف
يا من أطال بهجره كلفي ... أسفي عليك أشد من كلفي
قال أبو البختري: فأخرجت له قبضة نرجس كانت في كمي، فحييته بها، فجعل يشمها ملياً، ثم أنشأ يقول:
لما تزوجت الجنوب بهاطل ... جون هتون زبرج دلاح
أضحى يلقحها بوسمي الصبا ... فاستثقلت حملاً بغير نكاح
حتى إذا حان المخاض تفجرت ... فأتت بولدان بلا أرواح
حاك الربيع لها ثياباً وشيت ... بيد الندى وأنامل الأرواح
من أصفر في أزهر قد زانه ... تبر على ورق من الأوضاح

ركبن في عمد الزبرجد فاغتدى ... نحو الغزالة ناظراً بملاح
قال الحسن بن هانئ: لقيت ماني الموسوس، فأنشدني:
شعر حي أتاك من لفظ ميت ... صار بين الحياة والموت وقفاً
قد برت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين البرية يخفى
لو تأملتني لتبصر شخصي ... لم تبين من المحاسن حرفا
ثم مضيت، فأتيت جعيفران الموسوس، وهو شيخ من بني هاشم أرت اللسان، وعليه قيد من فضة، وفي عنقه غل من ذهب، فقال لي: من أين دببت يا حسن؟ قلت: من بيت مانويه. فقال: في حر أم مانويه! فدعا بدواة وقرطاس، وقال لي اكتب:
ما غرد الديك ليلاً في دجنته ... إلا حثثت إليك السير مجهودا
ولا هدت كل عين لذ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا
إلا امتطيت الدجى شوقاً إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا
أسعى مخاطرةً بالنفس يا أملي ... والليل مدرع أثوابه السودا
فلم ترق ولم ترث لمكتئب ... زودته حرقات القلب تزويدا
هيهات لا غدر في جن ولا بشر ... إلا يخال معداً فيك موجودا
ثم قال: خرق رقعة مانويه. فخرقتها ثم مضيت، فلقيت عدرد المصاب، وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه ويبكي، وينادي: أيها الناس، الفراق مر المذاق. فقلت له: أبا محمد، من أين أقبلت؟ قال: شيعت الحاج. قلت: وما الذي حملك على تشييعهم؟ فقال: لي فيهم سكن. قلت: فهل قلت فيهم شيئاً؟ قال: نعم، وأنشدني:
هم رحلوا يوم الخميس غديةً ... فودعتهم لما استقلوا وودعوا
فلما تولوا ولت النفس معهم ... فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع
إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع
وعينان قد أعماهما الحزن والبكا ... وأذن عصت عذالها ليس تسمع
أبو بكر الوراق قال: حدثني صديق لي، قال: رأيت رجلاً من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة، وخلفه دابة له تدور معه، فاستوقفته وقلت له: يا فلان، ما حالك وأين النعمة؟ قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة. قلت: بم تغير؟ قال: بالحب، ثم بكى وأنشأ يقول:
أرى التحمل شيئاً لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه
أم كيف صبر محب قلبه دنف ... الهجر ينحله والشوق يحزنه؟
وإنه حين لا وصلٌ يساعفه ... يهوى السلو ولكن ليس يمكنه
وكيف ينسى الهوى من أنت همته ... وفترة اللحظ من عينيك تفتنه
فقلت: أحسنت والله. فقال: قف قليلاً، فوالله لأطرحن في أذنيك أثقل من الرصاص، وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل، وأنشد:
للحب نارٌ على قلبي مضرمة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار
الماء ينبع منها من محاجرها ... يا للرجال لماء فاض من نار
ثم وقف وأنشد:
أعاد الصدود فأحيا الغليلا ... وأبدى الجفاء فصبراً جميلا
ورد الكتاب ولم يقره ... لئلا أرد إليه الرسولا
وأحسب نفسي على ما ترى ... ستلقى من الهم هجراً طويلا
وأحسب قلبي على ما أرى ... سيذهب مني قليلاً قليلا
ثم ترك يدي ومضى.
وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش. قال: فسلمت. فرد، وعرض علي الأكل. فقلت: ما أريد شيئاً، هنأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت بالغداء، فإني بت جائعاً. ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
أعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا
فلا تكن سابري العرض محتشما ... من القليل فلست الدهر محتفلا
ودعا برطل، ودخل رجل من أجلة الفقهاء، فمد يده إليه، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقنيها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه، وقال: كنت يا أمير المؤمنين، الله الله، إني عاهدت الله في الكعبة إلا أشربها أبداً. ففكر طويلاً، والكأس في يد عمرو بن مسعدة، حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها. ثم قال:

ردا علي الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
محمد بن يزيد الأسدي قال: حدثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت السحر أيام الخريف، فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال، قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها، وقد احمر جلده من برد الماء، وإذا ماني الموسوس يرمقه ببصره، فلما خرج من الماء قال:
خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابساً غلالة خمر
قلت له: لعنك الله يا ماني، أبعد الجهاد والغزو تخمش غلاماً قد بات مؤاجرا في الحمامات؟ فقال لي: مثلك يخاطب يا أحمق، وإنا يخاطب هذا، وأشار إلى السماء، وقال:
يكفيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي
خلقت وجوهاً كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجروها عز ذلك من خطب
فإما أبحت الصب ما قد خلقته ... وإما زجرت القلب عن لوعة الحب
أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال:
أيا رب تخلق ما تخلق ... وتنهى عبادك أن يعشقوا
إذا هكذا صغت حسن الوجوه ... فأي البرية لا يفسق
خلقت الملاح لنا فتنة ... وقلت اعبدوا ربكم واتقوا
وقال أبو بكر الموسوس في نصراني:
أبصرت شخصك في نومي تعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الألفا
يا من إذا درس لإنجيل ظل له ... قلب الحنيف عن القرآن منصرفا
وله فيه:
زناره في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود
أخبار البخلاءأجمع الناس على بخل أهل مرو ثم أهل خراسان.
قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج، ويثير الحب إليها، ويلطف بها، إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده، فعلمت أن لؤمهم في المآكل. ورأيت فيمرو طفلاً صغيراً في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة، فقال: ليس تسع يدك. فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب، والجبلة المفطورة.
واشتكى رجل مروزي ضرراً من سعال، فدلوه على سويق اللوز، فاستثقل النفقة، ورأى الصبر على الوجع أخف عليه، فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الألم حتى أتيح له بعض الموفقين، فدله على ماء النخالة، وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة، فطبخت له وشرب ماءها، فجلا صدره. ووجده بعضهم، فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء، وقال لأم عياله: اطبخي لأهل بيتنا النخالة، فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر. فقالت له زوجته: قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء.
وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان، فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق، وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح، وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة، فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل، فقلت: ما بال هذا العود مربوطاً؟ فقال: هذا عود قد شرب الدهن، فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان، فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة. قال: فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو، ونظر إلى العود، فقال: أبا فلان، فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه، أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء، أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى، وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً، حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد، اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة، أو مسلة صغيرة، فإن الحديد أبقى، وهو مع ذلك غير نشاف، والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها، وربما كان ذلك سبباً لإطفائها. قال الخراساني: ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين.

قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الخزامي، واسمه عبد الله بن كاسب، ونحن في العسكر، إن الشيب سهك، وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته، ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض؟ والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة، والطيب غال ممتنع الجانب، فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل، فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول، وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا.
وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، واعلموا أن أعدى عدو له المملوح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشرها، فإن الباقلاء، تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته.
ومن البخلاء هشام بن عبد الملك. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام. فأطرفته وحدثته. فقال: سل حاجتك، فقلت: يا أمير المؤمنين، تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا، وقال: فيم؟ ولم؟ وبم؟ ألعبادة أحدثتها؟ أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين؟ ألا لا يا بن صفوان، ولو كان لكثر السؤال، ولم يحتمله بيت المال، فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك. فأنت والله كما قال أخو خزاعة:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توافقه
منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ... ولم يفتلتك المال إلا حقائقه
قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له؟ قلت: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه.
وخرج هشام بن عبد الملك متنزها، ومعه الأبرش الكلبي، فمر براهب في دير، فعدل إليه، فأدخله الراهب بستاناً له، وجعل يجتني له أطيب الفاكهة. فقال له هشام: يا راهب، بعني بستانك. فسكت عنه الراهب. ثم أعاد عليه، فسكت عنه. فقال له: ما لك لا تجيبني؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: لماذا ويحك؟ قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش، فقال: ما سمعت ما قال هذا؟ قال: والله إن لقيك حر غيره.
ومن البخلاء: عبد الله بن الزبير، وكانت تكفيه أكلة لأيام، ويقول: إنما بطني شبر في شبر، فما عسى أن يكفيه.
وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير:
لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد ... أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين
فإن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتى فؤادك مثل الخز في اللين
إن امرأ كنت مولاه فضيعني ... يرجو الفلاح لعندي حق مغبون
وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. فقال فيه الشاعر:
رأيت أبا بكر وربك غالب ... على أمره، يبغي الخلافة بالتمر
وأقبل إليه أعرابي فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيناك. قال: أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة.
وأتاه أعرابي يسأله حملا، ويذكر أن ناقته نقبت. فقال: انعلها من النعال السبتية، واخصفها بهلب. قال الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً، فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك. قال: إن وصاحبها.
ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي، واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتد إلي أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج.
وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا؟ قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام هات الغداء.
وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره، ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع، ويفتح على السائل باب الحرمان.
ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر. قال أبو عبيدة عن جهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة، فقدم إلي تمراً، وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً. فأتى الغلام بالزيت. فقال له: خنتني وسرقتني. قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت.

ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي. استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً، فمطله بها ستة أشهر، ثم قضاه درهمين وثلاث حبات. فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار، وأنا بقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي، واستقضي الحبة على بابك والحبتين، صاح على بابك حمال، ولا يحضر تلك الساعة وكيلك، فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات، فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات. فقال زبيدة: يا مجنون، أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية، لأن هذه ندية وتلك يابسة، وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً.
قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: لا أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال: ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله هاهنا، وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة.
ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا. لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل.
قيل لبختى المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده. قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال.
والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً: " جاء فلان على غبيراء الظهر " و " جاء على حاجبه صوفة " . و " جاء بخفي حنين " .
وقال أبو عطاء السندي، في يزيد بن عمر بن هبيرة:
ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ ... طلبت بها الأخوة والثناء
رجعن على حواجبهن صوفٌ ... وعند الله نحتسب الجزاء
طعام البخلاءقال الأصمعي: كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه:هل تغذيتم اليوم؟ فإن قالوا نعم، قال: والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله، ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا:لا قال: لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله، فلا يصير في أيديهم منه شيء.
وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم؟ فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون، قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت. وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة. ثم يقول: كيف كان شربكم للماء؟ فإن قال أحدهم: كثيراً قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير. وإن قالوا قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلاً.
وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه، ثم يتلو قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا " . ودخل عليه رجل،وبين يديه طبق فراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري.
وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج، ففقد فخذاً من دجاجة، فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد. فقال ابنه الأكبر: يا أبت، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هارون، فأطلنا الحديث، حتى أضر به الجوع، فدعا بغذائه، فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم، لا تحز فيها سكين، ولا تؤثر فيه الضرس، فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة، ففقد الرأس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: لم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذاك؟ فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك. ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه، فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك.
وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله، وهو على المدينة، طعاماً، فثقل عليه ذلك. فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه، فجمعوا، وكشف عن الطعام، فإذا طعام له بالٌ، فندم على الإرسال للمساكين، وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين، وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس، لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان.
وقال: دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية، وقوم يأكلون عنده، فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه، وجعل يرطله بيده ويقول: يزعمون أن خبزي صغير، فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه؟ قال: ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة، والقوم يأكلون، وقد رفع بعضهم يده، فمددت يدي لآكل، فقال أجهز على الجرحى، لا تتعرض للأصحاء يقول: تعرض للدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المنزوع الفخذ، فأما الصحيح فلا تتعرض له. فهذا معناه في الجرحى.
وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقببة، وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل، وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكانبون. قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته؟ قال: جعلت فداك، والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط، وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل.
أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال: يهجوا ابن الأغلب:
لو أن قصرك يا ابن أغلب كله ... إبر يضيق بهن رحب المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
وقيل لحصين: أتغديت عند فلان؟ قال: لا، ولكني مررت به يتغدى. قيل: فكيف علمت أنه يتغدى؟ قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء.
وقال أبو الحارث جمين: دخلت على فلان،فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت.
وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك، فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. قال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. وخرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وقال آخر:
ولو عليك اتكالي في الغداء إذا ... لكنت أول مقتول من الجوع
يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً ... صوت ضعيف وداع غير مسموع
قال المدائني: كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي، وهو والي الكوفة، جدي. يوضع على مائدته بعد الطعام، لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر. فحضر مائدته أعرابي، فبسط يده وأسرع في الأكل. فقال: يا أعرابي، إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك. فقال له الأعرابي: أصلحك الله، وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه، فقال: خذها فإنها بيضة العقر. فلم يحضر طعامه بعد ذلك.

ودخل أشعب على والي المدينة، فحضر طعامه، وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر،فبدر إليه أشعب فمزقه،فقال له: يا أشعب، إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم، فإن في ذلك أجراً. فقال: والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله.
قال عمرو بن ميمون: تغديت يوماً عند الكندي، فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي، فلم يعرض عليه الطعام، ونحن نأكل، فاستحيت أنا منه فقلت: سبحان الله، لو دنوت فأصبت معنا. قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً.
قال: ومررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جارا له. فقلت: ما بالكما؟ فقال أحدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً، فاشتريته له وتغدينا، فأخذت عظامه، فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا وأخذها، ووضعها على باب داره، يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس.
قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما فاشتروا له، وأمر بطبخه حتى تهرأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله. فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا؟ قال: لست بصاحبه. فقال الأوسط: أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول؟ قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً، وأسفه سفاً؟ قال: أنت صاحبه، وهو لك دونهم.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها، ويسميها العرس، لما فيها من الألوان الطيبة، وربما سماه الكامل، والجامع، ويقول: الرأس شيء واحد، وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة، والرأس فيه الدماغ، وطعمه مفرد، وفيه العينان، وطعمهما مفرد، والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين، وطعمها مفرد، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد، وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان، وطعمه مفرد، والخيشوم، والغضروف، ولحم الخدين، وكل شيء من هذه طعمه مفرد. والرأس سيد البدن، والدماغ هو معدن العقل، وخاصة الحواس، وبه قوام البدن، وفيه يقول الشاعر
إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
وقيل لأعرابي: أتحسن أن تأكل كل الرأس؟ قال: نعم أبخص عينيه، وأفك لحييه، وأسحى خديه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحق به مني. وكانوا يكرهون أكل الدماغ، ولذا يقول قائلهم:
ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم

وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إيام ونهم الصبيان، وبغر السباع، وأخلاق النوابح، ونهش الأعراب، وكل ما بين يديك، فإنما حظك منه ما قابلك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف، من لقمة كريمة أو مضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست بواحد منهما. وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر. أي بني، لا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، ولا تنهش نهش السباع، وعود نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة، وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى. واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من غيره. أي بني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين. أي بني، لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت أبدان الأعراب، ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم، وأن الداء كله هو في فضول الطعام، فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بني، ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم، وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات، فافهم تأديب الله، وتأديب الرسول. أي بني، قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت وكف أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت، فلا أبعد الله غيرك.
ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي، وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط، وبين يديه طبق تمر، فقالت: السلام عليك، قال أبو الأسود كلمة مقبولة.
ووقف عليه أعرابي، وهو يأكل، فقال الأعرابي: أدخل؟ قال: وراءك أوسع لك. قال: الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليهما يبردان. قال: أتأذن لي أن آكل معك؟ قال: سيأتيك ما قدر لك. قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا أنك نسيت. ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له، فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه. فقال أبو الأسود: يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه. قال: كرهت أن أدعها للشيطان. قال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها.
الأصمعي قال: قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي، وهو يقول: من يعشي الجائع؟ فقال أبو الأسود: علي به، فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع، فلما أكد ذهب ليخرج، قال: أين تريد؟ قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك، اطرحوه في الأدهم، فبات عنده مكبولًا، حتى أصبح.
قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب له:
يأيها الخارج من بيته ... وهارباً من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزادٍ له ... فارجع تكن ضيفاً على الضيف
وقال آخر:
بت ضيفاً لهشام ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكب الدر ... ي في داجي الظلام
لا حراماً أجد الخ ... بز ولا غير الحرام
وله:
بت ضيفاً لهشام ... فشكا الجوع عدمته
وبكى لا صنع الله ... له حتى رحمته
وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله، فيمطله ابن المقفع، فيقول: أتراني أتكلف لك شيئاً؟ لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي، فلا تتثاقل علي. فلم يزل به حتى أجابه، وأتى به إلى منزله، فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش، فقدمه له. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك، فألح في السؤال، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك. فقال ابن المقفع، للسائل، أرح نفسك وانج، والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة.

وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها، فلما حلها وقف سائل، فقال له: صنع الله لك، ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك. فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان. فقالت له: يا أبت. ما تمسكت لهم بهذا القول، فما تبالي كثروا أم قلوا؟ الأصمعي قال: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قروناً.
البرم: الذي يأكل مع أصحابه، ولا يجعل شيئاً، والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين.
وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف، وهو القائل في ضيف نزل به وأكله:
ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور
وله:
تجهز كفاح ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وله في الأضياف:
لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا ... دسم العمائم تحيكها الشياطين
ألفيت جلتنا الشهريز بينهم ... كأن أيديهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى تلقى المساكين
ما قالت الشعراء في طعام البخلاءفمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك أسته وتمثل الأمثالا
وقوله فيهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
قوم إذا نبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وقال الراعي:
اللاقطين النوى تحت الثياب كما ... مجت كوادن دهم في مخالبها
فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر:
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدى رفعت ستوره
لآخر:
أبو نوح أتيت إليه يوماً ... فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحماً سميناً ... أكلناه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني ... كؤوساً حشوها ريح المدام
فكان كمن سقى ظمآن آلا ... وكنت كمن تغدى في المنام
ولآخر:
تراهم خشية الأضياف خرساً ... يصلون الصلاة بلا أذان
ولحماد عجرد:
حريث أبو الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوف تخمة إخوانه ... فعودهم أكلة واحدة
ولآخر:
أتانا بخبز له حامض ... كمثل الدراهم في رقته
إذا ما تنفس حول الخوان ... تطاير في البيت من خفته
فنحن كظوم له كلنا ... يرد التنفس من خشيته
فيكلمه اللحظ من رقة ... ويأكله الوهم من قلته
نزل رجل من العرب ببخيل، فقد إليه جرادا فعافه، وأمر برفعه وقال:
لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم
أتانا ببرقان الدبي في إنائه ... ولم يك برقان الدبي لي مطعم
فقلت له غيب إناءك واعتزل ... فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم
ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب، فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال:
تضيفت في برد وريح تلفني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفعت الظلماء من كل جانب
تصلى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطيتي ... تريح بمحسور من الصدر لاغب
فجنت جنوناً من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب
سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخزم بالأطراف شوك العقارب
تقول وقد قربت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر علي ركائبي
فسلمت والتسليم ليس يسرها ... ولكنه حق على كل جانب

فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحي قالت معشر من محارب
من المشتوين القد في كل شتوة ... وإن كان عام الناس ليس بناصب
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... علي مبيت السوء ضربة لازب
وقمت إلى مهرية قد تعودت ... يداها ورجلاها حثيث المواكب
إلا إنما نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وقال الخليل بن أحمد:
كفاه لم تخلقا للندى ... ولم بك بخلهما بدعه
فكف عن الخر مقبوضه ... كما نقصت مائة سبعه
وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها شرعه
وقال غيره:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيدٌ وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار
وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان:
إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم ... جراديم أشباه النخامة تبلع
تبل ختان الضيف حتى تريبه ... ويصبح من عين أسته يتطلع
ويقريك من أكرهته من سوادهم ... قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع
عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن ... لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع
ولآخر:
فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم ... على ميت مستودع بطن ملحد
يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ... ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد
ولآخر:
ذهب الكرام فلا كرام ... وبقي العضاريط اللئام
من لا يقيل ولا يني ... ل ولا يشم له طعام
ولآخر:
صدق أليته إن قال مجتهدا: ... لا والرغيف، فذاك البر من قسمه
فإن هممت به، فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه
ولآخر:
إن هذا الفتى يصون رغيفاً ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
وقال أبو نواس في فضل الرقاشي:
رأيت قدور الناس سوداً من الصلى ... وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيه على طرف الظفر
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها ... أمامهم الحولي من ولد الذر
وقال في إسماعيل الكاتب:
خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشق يرفا
عجباً من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إن رفاءك هذا ... ألطف الأمة كفا
فإذا قابل بالنص ... ف من الجردق نصفا
أحكم الصنعة حتى ... ما يرى مغرز إشفى
ولآخر:
ارفع يمينك من طعامه ... إن كنت ترغب في كلامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
ولآخر:
رأيت الخبز عز لديك حتى ... حسبت الخبز في جو السحاب
وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب
ولآخر:
زرت امرأً في بيته مرةً ... له حباء وله خير
يحذر أن يتخم إخوانه ... إن أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصوم والصائم مأجور
ومن قولنا في نحوه:
طعام من لست له ذاكرا ... دق كما دق بأن يذكرا
لا يفطر الصائم من أكله ... لكنه صوم لمن أفطرا
في وجهه من لؤمه شاهد ... يكفي به الشاهد أن يخبرا
لم تعرف المعروف أفعاله ... قط كما لم ينكر المنكرا
وقال آخر:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... عى دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
باب من أخبار البخلاءالرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء، فقال له: احملني. فقال: ما كنت لأنزل وأحملك. قال: ما أنت بحاتمٍ حيث يقول:
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
قال: ما فيها محمل، ولا بي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم:
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
وقال كثير عزة:
مهين تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا مانعته كان أحزما
سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، فتشفع إليه برجل فقضاها، فقال:
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب المجد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها، وإن همت بشر أطاعها
احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة، فبعث إلى جار له موسر يستسلفه، وكان حسن الظن به،فاعتل عليه ورده، فقال:
لا تشعرن النفس يأساً فإنما ... يعيش بجد حازمٌ وبليد
ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكل قريب لا ينال بعيد
وكتب إلى آخر يستسلفه، فكتب إليه: المؤونة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه أبو الأسود: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً.
وقال بعض الشعراء في بخيل:
ميت مات، وهو في كنف العي ... ش مقيم في ظل عيش ظليل
في عداد الموتى وفي عامر الدني ... ا أبو جعفر أخي وخليلي
لم يمت ميتة الحياة ولكن ... مات عن كل صالح وجميل
ولآخر:
فأما قراه كله فلنفسه ... ومال يزيد كله ليزيد
ولآخر:
له يومان يوم ندىً ويوم ... يسل السيف فيه من القراب
فأما جوده فعلى النصارى ... وأما بأسه فعلى الكلاب
ولآخر:
كدحت بأظفاري وأعملت معولي ... فصادفت جلموداً من الصخر أملسا
تجهم لما جئت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى
فأجمعت أن أنعاه لما رأيته ... يفوق فواق الموت حتى تنفسا
وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي:
جاء بدينارين لي صالحٌ ... أصلحه الله وأخزاهما
أدناهما تحمله ذرةٌ ... وتلعب الريح بأوفاهما
بل لو وزنالك ظليهما ... ثم عمدنا فوزناهما
لكان لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلاهما
ولحماد عجرد:
أورق بخير تؤمل للجزيل فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
إن الكريم ترى في الناس عفته ... حتى يقال غني وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجهٌ سود
وأنشد:
جاد ابن موسى من دنانيره ... لنا بدينارين أسرارا
كلاهما في الكف من خفة ... لو نفخا من فرسخ طارا
قلت وقلبي لهما منكر ... أريهما للحين قسطارا
فكان هذا عنده بهرجا ... وكان هذا عنده بارا
ثم وزنا واحداً منهما ... كان له القسطار مختارا
فكان في كفة ميزانه ... ينقص قيراطاً ودينارا
باب ما قيل في البخلاءسمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا
فقال له: بخلت الناس كلهم. قال: فأردني واحداً سمحا! وقال ابن حازم:
وقالوا لو مدحت فتى كريماً ... فقلت وأين لي بفتى كريم؟
بلوت ومر بي خمسون عاماً ... وحسبك بالمجرب من عليم
فلا أحدٌ يعد ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم
ولآخر:
لما رآنا فر بوابه ... وانسد من غير يد بابه

كلب له من بعضه حاجب ... يحجبه إن غاب حجابه
ومن قولنا:
جعل الله رزق كل عدوٍ ... لي بكف لبعض من لا أسمي
كف من لا يهز عطفيه يوماً ... لمديح ولا يبالي بذم
يتلقى الرجاء منه بوجه ... راشح الخد والجبين بسم
جئته زائراً فما زال يشكو ... لي حتى حسبته سيدمي
ألف اللؤم فيه من كل طرف ... معرقاً فيه بين خال وعم
قد نهاني النصيح عنه مراراً ... بأبي أنت من نصيح وأمي
ومن قولنا:
يراعة غرني منها وميض سنىً ... حتى مددت إليه الكف مقتبسا
فصادفت حجراً لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحاً وذا نفسا
كلب يهر إذا ما جاء زائره ... حتى إذا جاء مهدي تحفة نبسا
ومن قولنا:
صحيفة طابعها اللوم ... عنوانها بالبخل مختوم
أهداكها والخلف في طيها ... والمطل والتسويف واللوم
من وجهه نحس ومن قربه ... رجس ومن عرفانه شوم
لا تهتضم إن كنت ضيفاً له ... فخبزه في الجوف هاضوم
تكلمه الألحاظ من رقة ... فهو بلحظ العين مكلوم
لا تأتدم شيئاً على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم
احتجاج البخلاءالأصمعي: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حلاً منهم.
وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم.
وقال لهم أيضاً: لا تجاودوا الله، فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوماً لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى.
وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي.
ونحوه قول ابن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع.
وقال رجل من تغلب: أتيت رجلاً من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب، إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إلي منك، وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبةً طوبة. والله يا أخا بني تغلب، ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس.
وهذا نظير قول لآخر: من أعطى في الفضول قصر في الحقوق.
وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه. قال: وما ذاك يا بن أخي؟ قال: درهماً واحداً. قال: يا بن أخي. لقد هونت الدرهم، وهو طابع الله في أرضه الذي لا يعصى، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم. ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هونته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم.
وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني، أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى:
يلومونني في البخل جهلاً وضلةً ... وللبخل خير من سؤال بخيل
ونظيره قول المتلمس:
وحبس المال خير من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله؟ قال: لا، ولكن أخاف ألا أموت في أوله.
وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم، لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد، إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي، وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي، واسم البخيل فيه حزم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع وكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية وسمعة وطرمذة، وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعرى ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه.

وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك، ومن احتاج إليك ألا يزول عنك، فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك. فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسبابه من الشكر، والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزين الفجور شريك الفاجر.
وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بني، تعلموا الرد فإنه أسد من العطاء، ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم، ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني، خيرٌ له من أن يقال له سخي وهو فقير.
وقال الجذامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك، فما ظنك إن كان أقصر مني؟ أليس يتخيل في قميصي؟! وإن كان أطول مني، أليس يصير آيةً للسائلين؟ فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة، فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي، فمتى يتفق هذا؟ وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة، ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من فقهائهم وعقلائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس علي في هذا مسألة. إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع الجماعة تكلف ما ليس علي.
ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقلبه ويقول: في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي شق آخر: قل هو الله أحد، ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً ورقية. ورمى به في الصندوق.
وكان أبو عيسى بخيلاً، وكان إذا وقع الدرهم بيده طنه بظفره، وقال: يا درهم، كم من مدينة دخلتها، وأيد دوختها، فالآن استقر بك القرار، واطمأنت بك الدار. ثم رمى به في الصندوق.
وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجةً. قال: وأنا لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك إلي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة. فانصرف الرجل عنه.
وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل: اسقني، أتى بإناء على قدر الري أو أصغر؟ وإذا قال: أطعمني، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان؟ أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء. الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في منبته، ألا ترى الباقلاء الأخضر أطيب من الكمثري، والباذنجان أطيب من الكمأة، ولكن أهل التحصيل والنظر قليل، وإنما يشتهون على قدر الثمن.
وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، وأعدى عدو له المالح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره؛ فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته، فما حاجتكم أن تصيروا طعاماً إلى طعامكم؟ الأصمعي قال: جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمت إليه بقرابة وسأله أن يعطيه، فلم يعطه شيئاً، ثم عاد إليه بعد أيام، فقال: أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام. فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام. فقال: معذرة إليك؛ إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي. قال: ذلك ألأم لك عندي، وأهون بشأنك علي. نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه، ومات مثل يزيد ولم تعلم به، يا حرسي، اسفع بيده.
ومن أشعار البخلاء الذين يتمثلون بها:
وزهدني في كل خير صنعته ... إلى الناس ما جربت من قلة الشكر
ولآخر:
ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه ... فإذا أضلك جيبه فاستبدل
ولابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال. وقولهم:
كلام الليل يمحوه النهار
وقولهم:
بروق الصيف كاذبة الرعود
رسالة سهل بن هارون في البخلبسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله.

قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشداً وأن تغري بمشفق، وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم. ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت " . فما كان أحقكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يراد به فخراً لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين، فهو أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: املكوا العجين، فإنه أحد الريعين.
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة، ومن رطبة غريبة على عبدٍ نهم، وصبي جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب، التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوي مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم في العنوان، ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين، وعلف حماره السمسم المقشر.
وعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال: طينة خير من ظنة. فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء.
وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم لحماً فليزد من الماء، فمن لم يصب لحماً أصاب مرقاً.
وعبتموني بخصف النعل وبتصدير القميص، حين زعمت أن المخصومة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفريق من التضييع، والاجتماع من الحفظ. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويلطع أصابعه، ويقول: لو أهدى إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وقال عليه الصلاة والسلام: من لم يشبع من الحلال خفت مؤنته وقل كبره.
وقال الحكماء: لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً، واشترط عليه أن يكون عاقلاً. فأتاه به موافقاً، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا، ويلبس الناس جديداً، فتفرست فيه العقل والأدب. وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وسمى له موضعاً، كما جعل لكل زماناً رجالاً، ولكل مقام مقالاً. وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرك البعر. وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن لا بد فاجعلها بيوضاً.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي. ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدت في الأعضاء فضلاً عن الماء، فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر، فعبتموني بذاك وشنعتم علي. وقد قال الحسن، وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ. فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ.

وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نجوه أكثر من رزقه فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعله أن يكون معمراً، وهو لا يدري، وممدوداً له في السن وهو لا يشعر، ولعله أن يرزق الولد على اليأس، ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على باله ولا يدركه عقله، فيسترده ممن لا يرده، ويظهر الشكوى إلى من لا يرجمه، أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان له أن يطلب. فعبتموني بذلك، وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت: إن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وإن الحفظ إلى المال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما يعرض فيه بذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفساً بالذل.
وعبتموني أن قلت: إن كسب الحلال مضمنٍ بالإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهوى، فعبتم علي هذا القول، وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا فيماذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم، وأنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة، فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع. وقال عمر بن الخطابرضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين، وقال ابن سيرين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض. ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وعبتموني أن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكراً، وللمال لثروة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتموني بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلاً من غني أمن الفقر، وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقال الشاعر: في يحيى بن خالد بن برمك.
وهوب تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع. فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه، وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت أن احتيج إليها استعملت، وإن استغني عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه شيء. قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه، لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك، وذل في قلب عدوك، لكان الحظ فيه جسيماً، والنفع فيه عظيماً. ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو، ولستم علي تردون، ولا رأيي تفندون، فقدموا النظر قبل العزم، وأدركوا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم، والسلام عليكم.
ومن اللؤم التطفيل، وهو التعرض للطعام من غير أن يدعى إليه.
أخبار الطفيليين

أولهم طفيل العرائس، وإيه نسب الطفيليون، وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرساً فلا يلتفت تلفت المريب، ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض، ولا ينظر في عيون الناس، لظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظاً وقاحاً فتبدأ به وتأمره وتنهاه، من غير تعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
القحذمي قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، وخشب منبر الخليفة، وخوان الطعام.
وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: اللؤم شؤم. فقيل له: هذا رأس التطفيل.
أحمد بن علي الحاسب قال: مر طفيلي بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المجلس. فقالوا له: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك؟ قال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية، فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطراحها صلة، وقد جاء في الأثر: " صل من قطعك، وأعط من حرمك " . وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخاناً أو دعوة الأصحاب
لم أعرج دون التقحم لا أر ... هب طعناً أو لكزة البواب
مستهيناً بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب
ومنهم أشعب الطماع، قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. وفيه يقال: أطمع من أشعب.
وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقاً، فقال له: أسأل بالله إلا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين. فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعله يوماً أن يهدى إلي فيه شيء.
ساوم أشعب رجلاً في قوس عربية، فسأله ديناراً، فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشوياً بين رغيفين ما أعطيتك بها ديناراً.
وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب، فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام، فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية، ويأكل معنا الصغار، ففعلوا. وأذن له، فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان؛ فقال: والله إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان. قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك. فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه، وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس، فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت؟ قالوا: لا ندري. قال: إنه يقول: إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه لأن سنه يصغر عن ذلك، ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أدركت أباك وأكلته.
وكان رجل من الأمراء يستظرف طفيلياً يحضر طعامه وشرابه، وكان الطفيلي أكولاً شروباً، فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي:
قد قل أكلي وعقل شربي ... وصرت من بابة الأمير
فليدع بي وهو في أمان ... أن أشرب الراح بالكبير
وأقبل طفيلي إلى صنيع فوجد باباً قد أرتج، ولا سبيل إلى الوصول، فسأل عن صاحب الصنيع: إن كان له ولد غائب أو شريك في سفر؟ فأخبر عنه أن له ولداً ببلد كذا. فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه، ثم أقبل متدللاً، فقعقع الباب قعقعة شديدة، واستفتح، وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل. ففتح له الباب، وتلقاه الرجل فرحاً، وقال: كيف فارقت ولدي؟ قال له: بأحسن حال، وما أقدر أن أكلمك من الجوع. فأمر بالطعام فقدم إليه، وجعل يأكل، ثم قال له الرجل: ما كتب كتاباً معك؟ قال: نعم، ودفع إليه الكتاب. فوجد الطين طرياً. فقال له: أرى الطين طرياً، قال: نعم. وأزيدك أنه من الكد ما كتب فيه شيئاً. فقال: أطفيلي أنت؟ قال: نعم أصلحك الله. قال: كل: لا هنأك الله.
وقيل لأشعب: ما تقول في ثريدة مغمورة بالزبدة، مشقفة باللحم؟ قال: فأضرب كم؟ قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب، فأتقدم على بصيرة؟ وقيل لمزبد المديني، وقد أكل طعاماً كظه: قئ. قال: أقئ خبزاً نقياً ولحم جدي؟ امرأتي طالق: لو وجدتهما قيئاً لأكلتهما.

وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام إليك؟ قال: القريص. قيل له: ولم ذا؟ قال: لأنه يؤخر إلى يوم آخر.
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم. قالوا له: أعرفت منا أحداً؟ قال: نعم، عرفت هذا، وأشار إلى الطعام. فقالوا: قولوا بنا فيه شعراً. فقال الأول:
لم أر مثل سرطة ومطة
وقال الثاني:
ولفة دجاجة ببطة
وقال الثالث:
كأن جالينوس تحت إبطه
فقال الإثنان للثلث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم، فما يصنع جالينوس تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارشن كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه.
ومر طفيلي على الجماز، فقال له: ما تأكل؟ قال: كلب في قحف خنزير.
ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه: سماً. فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم.
ومر طفيلي على قوم كانوا يأكلون، وقد أغلقوا الباب دونه، فتسور عليهم من الجدار، وقال: منعتموني من الأرض فجئتكم من السماء.
وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال أربعة أرغفة.
وقيل لآخر: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؟ قال: كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر درهما.
قال محمد بن أحمد الكوفي حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له بالبصرة، فجمعوا وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فانسل فدخل وسطهم، ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم، فدخل الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة. فدخل معهم، فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً، فيأمر بضرب رقابهم، حتى وصل إلى الطفيلي، وقد استوفى العدة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا: والله ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم، فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك؟ ويلك! قال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالق إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً، ولا مما يدينون الله به، إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون، وقال: يؤدب. وكان إبراهيم بن المهدي قائماً على رأس المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، وأحدثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عنك يوماً، فطفت في سكك بغداد متطرباً، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها، فوقفت على خياط، فقلت: لمن هذه الدار؟ قال: لرجل من التجار البزازين، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فنظرت إلى الدار، فإذا بشباك فيها مطل، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتاً ساعة، ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: أهو ممن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين، فبينا أنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما. قد استبطأكم أبو فلان أعزه الله، وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأجلاني وقدماني، فدخلنا. فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع، فرحب بي وأجلست في أفضل المواضع، فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها وبقي الكف والمعصم، كيف أصل إلى صاحبتهما، ثم رفع الطعام وجاءونا بوضوء، فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة، فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل علي بالحديث، وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة، حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية كأنها جان تثنى كالخيزران، فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتي بالعود، فوضع في حجرها، فجسته، فاستبنت في جسها حذقها، ثم اندفعت تغني:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن مس كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغني:

أشرت إليها هل عرفت مودتي ... فردت بطرف العين إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد
فصحت: يا أمير المؤمنين: السلاح، وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي، ثم اندفعت فغنت الصوت الثالث:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف تسلم
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به، فقلت: بقي عليك يا جارية. فضربت بعودها الأرض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى. فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه؛ ثم غنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزيناً ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
راحوا العشية روحةً مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا
فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبت على رجلي تقبلها، وقالت: معذرةً إليك، فوالله ما سمعت أحد يغني هذا الصوت عناءك، وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها، وطرب القوم والله، واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات، ثم اندفعت أغني:
أفي الحق أن تمسي ولا تذكرينني ... وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
إلى الله أشكو أنها مادرية ... وأني لها بالود ما عشت مكرما
فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا، ثم اندفعت أغني الثالث:
هذا محبك مطويٌ على كمده ... حرى مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما جنى ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه، وسكر القوم. وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه، فلما شربنا أقداحاً قال: يا هذا، ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولي؟ ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر، فقام وقبل رأسي، وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر؟ ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم، فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل، ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها، وأقول: ليست هي، حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي، ووالله لأنزلنهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداءك، ابدأ بالأخت قبل الزوجة، فعساها هي، فبرزت، فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه، فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة، أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألفاً، فرضيت النكاح. فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت، فتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيت من كرمه، فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل، وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته.
ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال: سلام عليكم معشر اللئام. فقالوا: لا والله، بل كرام. فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين، واجعلني من الكاذبين.
ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى، وبيده تفاحة، فألقاها إليه، وقال: حياك الله يا مدني، فلزمها وأكلها. فقال له: شؤم عليك يا مدني، أتأكل التحيات؟ قال: إي والله، والزاكيات الطيبات كنت آكلها.
وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه:

نعم النديم نديم لا يكلفني ... ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج
يكفيه لونان من كشك ومن عدس ... ولو يشاء فزيتون بطسوج
وقال طفيلي في نفسه:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل
ونقل علنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول
وقال آخر، وأتى طعاماً لم يدع إليه، فقيل له: من دعاك؟ فأنشأ:
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوة
ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل لك؟ فأنشأ:
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زارا
فقال له القبطي: زر زارا، ليس ندري، من هو؟ اخرج من بيتي.
ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية، فظنهم يدعون إلى وليمة، فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم، فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله، لست والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم. فقال: ليس هذا مما ينجيك مني، اضربوا عنقه. فقال: أصلحك الله، إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة. فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه، فأخبروه أنه طفيلي معروف، فخلى سبيله.
وقال طفيلي:
ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها الزبد
فأطلب فيما بينهن شهادةً ... بموت كريم لا يشق له لحد
وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
اصطحب شيخ وحدث من الأعراب، فكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل، فكان الحدث يبطش بالقرص، ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعاً، وكان اسم الحدث جعفراً. فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفراً ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحب لم تبت ... سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل
وقال الحدث:
إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها ... وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبي إن شبعت تجدداً ... وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري
وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة، ويظهر لها التعاشق، إلى أن سألته سلفة نصف درهم، فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى، فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك. فقال: اشربيه أنت للطمع، فلو انقطع طمعك انقطع فزعي، وأنشأ يقول:
أخلفي ما شئت وعدي ... وامنحيني كل صدِّ
قد سلا بعدك قلبي ... فاعشق من شئت بعدي
إنني آليت لا أع ... شق من يعشق نقدي
وقيل لأشعب: ما أحسن الغناء؟ قال: نشيش المقلي. قيل له: فما أطيب الزمان؟ قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكان أشعب يغني:
ألا أخبرت أخباراً ... أتت في زمن الشدة
وكان الحب في القلب ... فصار الحب في المعده
وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة:
زرعنا فلما تمم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد
بلينا بكوفي حليف مجاعة ... أضرّ بزرع من دبي وجراد
وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل.
وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه، فنزلوا روضة ووضعوا شراباً، فمر بهم طفيلي، فتطارح عليهم، فقال أبو نواس: ما اسمك؟ قال: أبو الخير. فرحب به وقعد معهم. ثم مرت بهم جارية فسلمت، فرد عليها، وقال لها: ما اسمك؟ قالت: زانة. قال أبو نواس لأصحابه: اسرقوا الياء من أبي الخير، فأعطوها زانة، فتكون زانية، ويكون أبو الخير أبا الخرء، كما هو. ففعلوا.

الجاحظ قال: دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع، فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي. فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ، فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان؟ قال: نعم. قال: فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع، فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب، فتدخل تجاهنا، فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا، فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا. فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه، فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا، فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا، فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس، فقعد فيه، ثم قال لي: ها هنا عندنا يا أبا عثمان. فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها؟ قال الفلوسكي: تسميه ضيفاً، فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف؟ قال: تسميه ضيفاً. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفان؟ قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية، قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً، ثم تتحكم تحكم صاحب البيت؟
باب من أخبار المحارفين الظرفاءمنهم أبو الشمقمق الشاعر، وكان أديباً طريقاً محارفاً، وكان صعلوكاً متبرماً بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً، ثم أنشأ يقول:
أنا في حال تعالى الله ... ربي أي حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حل أكلي لعيالي
وله:
أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي فيه مطية غير رجلي
كلما كنت في جميع فقالوا ... قربوا للرحيل قربت نعلي
حيث كنت لا أخاف رحيلاً ... من رآني فقد رآني ورحلي
وقال أبو الشمقمق أيضاً:
لو قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم ما لي فيه تليس
والله يعلم ما لي فيه شادكةٌ ... إلا الحصيرة والأطمار والديس
وقال أيضاً:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السحاب
فأنت إذا رأدت دخلت بيتي ... علي مسلماً من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السحاب إلى التراب
ولا انشق الثرى عن عود تخت ... أؤمل أن أشد به ثيابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي
ولا حاسبت يوماً قهرماني ... محاسبة فأغلط في حسابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبداً ودابي
وقال أيضاً:
لو ركبت البحار صارت فجاجاً ... لا نرى في متونها أمواجاً
ولو أني وضعت ياقوتةً حم ... راء في راحتي لصارت زجاجا
ولو أني وردت عذباً فراتاً ... عاد لا شك فيه ملحاً أجاجاً
فإلى الله اشتكى وإلى الفض ... ل فقد أصبحت بزاتي دجاجا
وقال عمرو بن الهدير:
وقفت فلا أدري إلى أين أذهب ... وأي أموري بالعزيمة أركب
عجبت لأقدار علي تتابعت ... بنحس، فأفنى طول عمري التعجب
ولما التمست الرزق فانجد حبله ... ولم يصف لي في بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... لرفع الغنى إياي إذ جئت أخطب
فزوجنيها ثم جاء جهازها ... وفيه من الحرمان تخت ومشجب
فأولدتها الحرف النقي فما له ... على الأرض غيري والد حين ينسب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... علي جناحيه لما لاح كوكب

ولو خفت شراً فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان علي بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
ولو لمست كفاي عقداً منظماً ... من الدر أضحى وهو ودع مثقب
وإن يقترف ذنباً ببرقة مذنب ... فإن برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيراً في المنام فنازح ... وإن أر شراً فهو مني مقرب
ولم أغد في أمرٍ أريد نجاحه ... فقابلني إلا غراب وأرنب
أمامي من الحرمان جيشٌ عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب
وقال آخر:
ليس إغلاقي لبابي أن لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقته كيلا يرى ... سوء حالي من يمر الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا
وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخف ظهري وقل زواري
من نظرت عينه إلي فقد ... أحاط علماً بما حوت داري
جهري في البيت كامنٌ وعلى ... مدرجة الرائحين أسراري
وقال بعض المحارفين:
لزمتني حرفةٌ ما تنقضي ... أبداً حتى أوارى في الجدث
كلزوم الطوق إلا أنها ... تستجد الدهر والطوق يرث
كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان
وسائر الحيوان " وتفاضل البلدان "
"
فرش " الكتابقال أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في المتنبئين والممرورين، والبخلاء، والطفيليين، والمحدودين.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيه في طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، والنعمة والسرور، إذ لم يكن مدار الدنيا إلا عليها، ولا قوام الأبدان إلا بها، وإذ هي ثمرة الفراسة، وتركيب الغريزة، واختلاف الهمم، وطيب الشيم، وتفاضل الطعوم. وقد تكلم الناس في النعمة والسرور على تباين أحوالهم، واختلاف هممهم، وتفاوت عقولهم، وما يجانس كل رجل منهم في طبعه، ويؤالفه في نفسه، ويميل إليه في وهمه. وإنما اختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم، فمنهم من نفسه غضبية، فإنما همه منافسة الأكفاء، ومغالبة الأقران، ومكاثرة العشيرة. ومنهم من نفسه ملكية فإنما همه التفنن في العلوم، وإدراك الحقائق، والنظر في العواقب. ومنهم من نفسه بهيمية، فإنما همه طلب الراحة، وإهمال النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح، وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كله، فقالوا: يوم المطر للشرب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس. وهي أغلب الطبائع على الإنسان، لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة، وقلة العمل، فمنه قولهم: الرأي نائم والهوى يقظان. وقولهم: الهوى إله معبود. وقولهم: ربيع القلب ما اشتهى. وقولهم: لا عيش كطيب نفس.
النفس الملكيةقيل لضرار بن عمرو: ما السرور؟ قال: إقامة الحجة، وإيضاح الشبهة. وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إحياء السنة، وإماتة البدعة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط الدقيقة.
وقال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال: فالصحة، فإني رأيت المريض لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال له: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. فالشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال: ما أجد مزيداً.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: الأمن والعافية.
النفس الغضبيةقيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ.
وقيل لعبد الله بن الأهتم. ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحة والنماء.
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسره.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: ما السرور؟ قال: ركوب الهمالجة، وقتل الجبابرة.

وقيل له: م اللذة؟ قال: إقبال الزمان، وعز السلطان.
النفس البهيميةقيل لامرئ القيس: ما السرور؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، باللحم مكروبة. وكان مفتوناً بالنساء.
وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية. وكان مغرماً بالشراب.
وقيل لطرفة: ما السرور؟ فقال: مطعم هني، ومشرب روي، وملبس دفي، ومركب وطي. وكان يؤثر الخفض والدعة.
وقال طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا في الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدد
وسمع بهذه الأبيات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال: وأنا والله لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأنفر في السرية.
وقال عبد الله بن نهيك على مذهب طرفة:
فلولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى ... وربك لم أحفل متى قام رامس
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأن أخاها مطلع الشمس ناعس
ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذ ابتدر الشخص الكمي الفوارس
ومنهن تجريد الكواكب كالدمى ... إذا ابتز عن أكفالهن الملابس
وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ قال: قبلة على غفلة. وكان صاحب وصائف.
وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال، ومحادثة الرجال.
وقيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: دار قوراء، وجارية حوراء، وفرس مرتبط بالفناء.
وقيل للحسن بن هانئ: ما السرور؟ قال: مجالسة الفتيان، في بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الريحان وأنشأ يقول:
قلت بالقفص لموسى ... ونداماي نيام
يا رضيعي ثدي أم ... ليس لي عنه فطام
إنما العيش سماع ... ومدام وندام
فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام
وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: ليس هذا من مسائلك يا أمير المؤمنين. قال: عزمت عليك لتقولن. قال: هتك الحيا، واتباع الهوى.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما العيش؟ قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث، فخرجوا. فقال: العيش كله في إسقاط المروءة.
وقال هشام بن عبد الملك: الذ الأشياء كلها جليس مساعد، يسقط عني مؤونة التحفظ.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: لبس البالي في الصيف، والجديد في الشتاء.
وقيل لآخر: ما النعيم؟ قال: الماء الحار في الشتاء، والبارد في الصيف
البنيانقال النبي صلى الله عليه وسلم: من بني بنيانا فليتقنه.
وقالت الحكماء: لذة الطعام والشراب ساعة، ولذة الثوب يوم، ولذة المرأة شهر، ولذة البنيان دهر. كلما نظرت إليه تجددت لذته في قلبك، وحسنه في عينك.
وقالوا: دار الرجل جنته في الدنيا.
وقالوا: ينبغي للدار أن تكون أول ما تبتاع وآخر ما يباع.
وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر بن يحيى، حين اختط داره ليبنيها: هي قميصك، إن شئت فضيق، وإن شئت فوسع.
وقال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: كيف منزلك بمنبج؟ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال: وكيف ذلك، وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أحتذي مثاله.
ولما دخل هارون منبجاً قال لعبد الملك بن صالح: هذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين، ولي به. قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: كيف هواؤه؟ قال: أفسح هواء.
وذكر عند جعفر بن يحيى الدار الفسيحة الجو، الطيبة النسيم، فقال رجل عنده: لقد دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكأن قلبن ينضح بالسرور، ولا أجد لذلك علة إلا طيب نسيمها، وانفساح هوائها.
وقيل للحسن بن سهل: كيف نزلت الأطراف؟ قال: لأنها منازل الأشراف، ينالون فيها ما أرادوا بالقدرة، وينالهم فيها من أرادهم بالحاجة.
قولهم في الدار الضيقةما هي إلا قوارة حافر، وما هي إلا وجارضبع، وما هي إلا قبرة قانص، وما هي إلا مفحص قطاة.
وقالوا: ما هي إلا محلة يعسوب برأس سنان.

ومن مات في دار ضيقة قيل فيه: خرج من قبر إلى قبر.
من كره البنيانكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء بيته، فقال: ابن ما يكنك عن الهواجر، وأذى المطر.
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يستأذنه في بناء مدينة، فكتب إليه: ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم.
ومر عمر بن الخطاب ببناء يبني بآجر وجص، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعامل من عمالك. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وأرسل إليه من يشاطره ماله.
وقيل ليزيد بن المهلب: ما لك لا تبني؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
ومر رجل من الخوارج بدار تبنى فقال: من هذا الذي يقيم كفيلاً؟ والخوارج تقول: كل مال لا يخرج بخروجك ويرجع برجوعك، فإنما هو كفيل بك.
ولما بنى أبو جعفر داره بالأنبار دخلها مع عبد الله بن الحسن، فجعل يريه بنيانه فيها، وما شيد من المصانع والقصور، فتمثل عبد الله بن السحن بهذه الأبيات:
ألم تر حوشباً أضحى يبني ... قصوراً نفعها لبني بقيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة
وقالوا في الحجاج بن يوسف، إذ بنى مدينة واسط: بناها في غير بلده، وأورثها غير ولده.
اللباسإسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة.
علي بن عاصم عن أبي إسحاق الشيباني قال: مررت بمحمد بن الحنفية واقفاً بعرفات، وعليه برد ومطرف خز أصفر.
الشيباني عن ابن جريج، أن ابن عباس كان يرتدي رداء بألف.
أبو حاتم عن الأصمعي أن ابن عون اشترى برنسا، فمرت عليه معادة العدوية، فقالت: مثلك يلبس هذا؟ قال: فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: ألا أخبرتها أن تميماً الداري اشترى حلة بألف يصلي فيها.
وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني كاديمس الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص، وإنها اليوم في تشميره.
وفي موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه، أن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار، فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله، فقلت: هلم يا رسول الله إلى الظل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر: وعندنا صاحب له نجهزه يذهب يرعى ظهرنا. قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر، وعليه ثوبان. قد أخلقا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما له ثوبان غير هذين؟ قلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما. قال: فادعه، فمره يلبسهما. قال: فدعوته فلبسهما ثم ولى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماله، ضرب الله عنقه، أليس خيراً له؟ فسمعه الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله.

العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد الحارثي نشابة على جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل عام، فأتاه علي بن أبي طالب عائداً، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا ذهاب بصري لتمنيت ذهابه. قال له: وما قيمة بصرك عندك؟ قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها قال: لا جرم ليعطيك الله على قدر ذلك إن شاء الله، إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده تعالى تضعيف كثير. قال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد؟ قال: وماله؟ قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغم أهله، وأحزن ولده. فقال: علي عاصماً فلما أتاه عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم، أترى الله أباح لي اللذات وهو يكره أخذك منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك، أو ما سمعته يقول: " مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان " ، ثم قال: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وقوله: " ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها " . أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال. وقد سمعته عز وجل يقول: " وأما بنعمة ربك فحدث " . وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال: " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " وقال: " يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم " . فقال عصام: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: على لبس الخشن وأكل الخشن. قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتسع على الفقير فقره. قال: فما برج حتى لبس الملاء ونبذ العباء.
لباس الصوفقدم حماد بن سلمة البصرة فجاء فرقد السبخي وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم، فخرج علينا معصفرة، ونحن نرى أن الميتة قد حلت له.
قال أبو الحسن المدائني: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم، وإلى خراسان، وعليه مدرعة صوف، فقال له قتيبة: ما يدعوك إلى لباس هذه؟ فسكت عنه فقال له قتيبة: أكلمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول زهداً فأزكي نفسي، أو أقول فقراً فأشكو ربي.
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقاً لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفاً لها لقد هلكتم.
وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ومقعدهما واحد في مسجد المدينة، فلا ينكر بعضهما على بعض شيئاً.
وقال محمود الوراق في أصحاب الصوف:
تصوف كي يقال له أمينٌ ... وما يعني التصوف والأمانة
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
التزين والتطيبدخل رجل على محمد بن المنكدر يسأله عن التزين والتطيب، فوجده قاعداً على فرش حشايا مصبغة، وجارية تغلفه بالغالية، فقال له: يرحمك الله، جئت أسألك عن شيء فوجدتك فيه. قال: على هذا أدركت الناس.
وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والشعث، حتى لو لم يجد أحدكم إلا زيتونة فليعصرها وليدهن بها.
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: ما لي أراك شعثاء، مرهاء، سلتاء؟ قالت: يا رسول الله، أو لسنا من العرب؟ قال: بلى، وربما أنسيت العرب الكلمة فيعلمنيها جبريل.
الشعثاء: التي لا تدهن. والمرهاء: التي لا تكتحل. والسلتاء: التي لا تختضب.
وقال صلى الله عليه و سلم ما نلت من دنياكم إلا النساء والطيب.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال: يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها يا رسول الله؟ قال: نعم وأكرمها. قال: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين.
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اخرج فأصلح رأسك ولحيتك. ففعل ثم رجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟ وقد تمادحت العرب بحسن الهيئة وطيب الرائحة، فقال النابغة:
رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
يحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب

يصونون أجساداً قديماً نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
وقال الفرزدق:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها
يجرون هداب اليماني كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال طرفة:
أسد غيل فإذا ما فزعوا ... غير أنكاس ولا هوج هذر
فإذا ما شربوا وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحو عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وقال كثير عزة:
أشم من الغادين في كل حلة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرمي الملسن
وقال آخر:
من النفر الشم الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدهان رأسه فهو أنزع
إذا النفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقوا وأوسعوا
وقال آخر:
يشبهون ملوكاً في مجلتهم ... وطول أنضية الأعناق واللمم
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحو كأنهم مرضى من الكرم
وقال آخر في علي بن داود الهاشمي:
أما أبوك فذاك الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا تعصب في أثوابه السود
الرحلة والركوبسمع عمرو بن العاص رجلاً يقول: الرجلة قطعة من العذاب. فقال له: لم تحسن، بل العذاب قطعة من الرجلة.
ولما مشي هارون إلى مكة ومشت معه زبيدة كانت تبسط الدرانك أمامهم وتطوي خلفهم، فلما أعيا دعا بخادم له، فألقي ذراعه عليه وتأوه، وقال: والله لركوب حمار شموس خير من المشي على الدرانك.
قال الشاعر:
وما عن رضاً صار الحمار مطيتي ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب
وقال أعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
الخيلقد مضى من قولنا في وصف الخيل وفضائلها في كتاب الحروب ما كفى عن إعادتها هنا.
البغالقال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار، سفواء العرف، حصاء الذنب، سوطها عنانها، وهمها أمامها.
وعاتب الفضل بن الربيع بعض الهاشميين في ركوب بغلة فقال: هذا مركب تطامن عن خيلا الفرس، وارتفع عن ذلة الحمار، وخير الأمور أوسطها.
الحميرقيل للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على سائر الدواب. قال: لأنها أرفق وأوفق. قيل: ولم ذلك؟ قال: لا تستبدل بالمكان على طول الزمان، ثم هي أقل داء وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صريعا، وأقل جماحا، وأشهر فارها، وأقل نظيراً، يزهي راكبه وقد تواضع بركوبه، ويعد مقتصداً وقد أسرف في ثمنه.
وقال جرير بن عبد الله: لا تركب حماراً، إن كان حديداً أتعب يديك، وإن كان بليداً أتعب رجليك.
طبائع الإنسان وسائر الحيوانزعم علماء الطب أن في الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال. فإن غلب الدم الثلاث الطبائع تغير منه الوجه وورم، ويخرج ذلك إلى الجذام. وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أحدث المد، فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها على بعض فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقيه بالمشي، فإن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام وإما مد. أسأل الله العافية ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا من النصف من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج، إلا أن ينزل مرض لا بد من مداواته.
جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم قال: الغلام كل سنة مقدار أربع أصابع من أصابعه.

حدثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه، أنه قرأ في التوراة: إن الله عز وجل حين خلق آدم ركب جسده من أربعة أشياء، ثم جعلها وراثة في ولده تنمو في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب، ويابس، وسخن، وبارد. قال: وذلك أني خلقته من تراب وماء، وجعلت فيه يبساً، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح. ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع أخر، وهي ملاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة إلا بالأخرى: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم الرطب الحار، والبلغم البارد. ثم أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كل واحدة فيها وفقاً لا تزيد ولا تنقص كملت صحته، واعتدل نباته. وإن زادت بقدر ما زادت. وإن كانت ناقصةً عنهن ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السقم من نواحيهنلقلتها عنهن، حتى تضعف عن طاقتهن، وتعجز عن مقارنتهن.
قال وهب بم منبه: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورعبه في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلثمائة وستين مفصلاً.
الأصمعي: من لم يخف شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبداً، ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبداً.
حدث زيد بن أخزم قال: حدثني بشر بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب.
وقالت الحكماء: الخنث يعتري الأعراب والأكراد والزنج والمجانين وكل صنف، إلا الخصيان، فإنه لا يكون خصي مخنثاً.
وقالوا: كل ذي ريح منتنة وذفر كالتيس وما أشبهه، إذا خصي نقص ريحه وذهب صنانه، غير الإنسان، فإنه إذا خصي زاد نتنه واشتد صنانه، وخبث عرقه وريحه. وقالوا: وكل شيء من الحيوان يخصى فإن عظمه يرق، وإذا رق عظمه استرخى لحمه، إلا الإنسان، فإنه إذا خصي طال عظمه وعرض.
وقالوا: الخصي والمرأة لا يصلعان أبداً، والخصي تطول قدمه وتعظم.
وبلغني أنه كان لمحمد بن الجهم برذون رقيق الحافر، فخصاه فجاد حافره وحسن.
قالوا: والخصي تلين معاقد عصبه وتسترخي، ويعتريه الاعوجاج والفدع في أصابعه، وتسرع دمعته، ويجود جلده، ويسرع غضبه ورضاه، ويضيق صدره عن كتمان السر.
وزعم قوم أن أعمارهم تطول لترك الجماع، كما تطول أعمار البغال.
وقالوا: إن على قصر أعمار العصافير من كثرة الجماع.
وقالوا: في الغلمان من لا يحتلم أبداً، وفي النساء من لا تحيض أبداً، وذلك عيب. ومن الناس من لا يسقط شعره ولا يتبدل سنه، فمنهم عبد الصمد بن علي ذكروا أنه دخل قبره برواضعه.
وقالوا: الضب والخنزير لا يلقيان شيئاً من أسنانهما أبداً.
وقالت الحكماء: إن الجنين يغتذي بدم الحيض يقبل إليه من قبل السرة، ولذلك لا تحيض الحوامل إلا القليل. وقد رأينا من الحوامل من تحيض. وذلك لكثرة الدم.
وتقول العرب: حملت المرأة سهواً، إذا حاضت عليه. وقال الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
يعني أنها لم تر عليه دم حيض في حملها به.
وقالوا: فإذا خرج الولد من الرحم دفعت الطبيعة ذلك الدم الذي كان الجنين يغتذيه إلى الثديين، وهما عضوان باردان عصبيان يغيرانه لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.
وقالوا: يعيش الإنسان حيث تعيش النار ويتلف حيث لا تبقى النار.
وأصحاب المعادن والحفائر إذا هجموا على فتق في بطن الأرض أو مغارة قدموا شمعة في طرف قناة، فإن عاشت بالنار وثبتت دخلوا في طلبها، وإلا أمسكوا.
والعرب تتشاءم ببكر ولد الرجل إذا كان ذكراً.
وكان قيس بن زهير أزرق بكراً، ابن بكرين.
وحدث محمد بن عائشة عن حماد عن قتادة عن عبد الله بن حارث بن نوفل قال: بكر البكرين شيطان مخلد لا يموت إلى يوم القيامة. يعني من الشياطين.
قالوا: وابن المذكرة من النساء والمؤنث من الرجال أخبث ما يكون، لأنه يأخذ بأخبث خصال أبيه وخصال أمه. والعرب تذكر أن الغيرى لا تنجب.
وقال عمرو بن معد يكرب:

ألست تصير إذا ما نسب ... ت بين المغارة والأحمق
قالت الحكماء: كل امرأة أو دابة تبطئ عن الحمل إن واقعها الفحل في الأيام التي يجري فيها الماء في العود فإنها تحمل بإذن الله.
وقالت الحكماء: الزنج شرار الخلق وأردؤهم تركيباً، لأن بلادهم سخنت جداً فأحرقتهم في الأرحام. وكذلك من بردت بلاده فلم تنضجه الرحم. وإنما فضل أهل بابل لعلة الاعتدال. وقالوا: الشمس هي التي شيطت شعر الزنج وقبضته، والشعر إن أدنيته من النار تقبض، فإذا زدته شيئاً تفلفل، فإن زدته احترق.
وقالوا: أطيب الأمم أفواها الزنج وإن لم تستن، وذلك لرطوبة أفواهها وكثرة الريق فيها، وكذلك الكلاب من سائر الحيوان أطيبها أفواها، لكثرة الماء فيها وخلوف فم الصائم يكون لقلة الريق، وكذلك الخلوف في آخر الليل.
وقالت الحكماء أيضاً: كل الحيوان إذا ألقي في الماء سبح. إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر، فإن هذه تغرق ولا تسبح.
قالوا: وليس في الأرض هارب من حرب أو غيرها يستعمل الحضر إلا إذا أخذ على يساره، ولذلك قالوا: فمال على وحشية، وأنحى على شؤمي يديه.
وقالوا: كل ذي عين ذوات الأربع: السباع والبهائم الوحشية والإنسية، فإنما الأشفار منها بجفنها الأعلى، إلا الإنسان، فإن الأشفار، يعني الهدب، بجفنيه معاً، الأعلى والأسفل.
وقالوا: كل جلد ينسلخ إلا الإنسان، فإن جلده لا ينسلخ.
وحدث أبو حاتم عن الأصمعي قال: اختصم رجلان إلى عمر رضي الله عنه في غلام، كلاهما يدعيه، فسأل عمر أمه فقالت: غشيني أحدهما ثم أهرقت دماً، ثم غشيني الآخر. فدعا عمر بالرجلين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أم سر؟ قال: أسر. قال: اشتركنا فيه. فضربه عمر حتى اضطجع. ثم سأل الآخر، فقال مثل ذلك. فقال عمر: ما كنت أرى مثل هذا يكون، ولقد علمت أن الكلبة يسفدها الكلاب، فتؤدي إلى كل كلب نجله.
وركب الناس في أرجلهم، وركب ذات الأربع في أيديها، وكل طائر كفه رجله.
الليث بن سعد عن ابن عجلان أن امرأة حملت، فأقامت حاملاً خمس سنين ثم ولدت، وحملت مرة أخرى فأقامت حاملاً ثلاث سنين ثم ولدت.
وولد الضحاك بن مزاحم، وهو ابن ثلاثة عشر شهراً. وقال جرير: ولد الضحاك لسنتين، وشعبة لسنتين.
ما نقص من خلقة الحيوانحدث أبو حاتم عن أبي عبيدة، والأصمعي، وأبو زيد قالوا: الفرس لا طحال له. والبعير لا مرارة له، والظليم لا مخ له. وقال زهير:
من الظلمان جؤجؤه هواء
وكذلك طير الماء. والحيتان لا ألسنة لها ولا أدمغة لها، وصفن البعير لا بيضة فيه، والسكة لا رئة لها ولا تنفس، وكل ذي رئة يتنفس.
المشتركات من الحيوانالراعبي بين الورشان والحمامة. والجوامز من الإبل، بين العراب والفوالج. والحمير الأخدرية، من الأخدر، فرس كان لأردشير كسرى. توحش وحمى عانات حمير فضرب بها. وأعمارها كأعمار الخيل. والزرافة بين الناقة من نوق الحبش وبين البقرة الوحشية وبين الضبعان، واسمها " اشتركا وبلناك " ؛ وذلك أن الضبعان ببلاد الحبشة يسفد الناقة فتجيء بولد خلقه بين خلق الناقة والضبعان، فإن كان ولد تلك الناقة ذكراً عرض للمهاة فألقحها زرافة. وسميت زرافة لأنها جماعة وهي واحدة، كأنها جمل وبقرة وضبع. والزرافة في كلام العرب: الجماعة.
وقال صاحب المنطق: الكلاب تسفدها الذئاب في أرض سلوقية، فتكون منها الكلاب السلوقية.
الأنعامحديث يزيد بن عمرو عن عبد العزيز الباهلي عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلق الله دابة أكرم من النعجة وذلك أنه ستر حياها دون حيا غيرها.
وحدث أبو حاتم عن الأصمعي عن إهاب بن عمير قال: كان لنا جمل يعرف فسج الحامل، قبل أن يشمها.
وقيل لأبنة الخس: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل: فمائة من الضأن؟ قال: غنى. قيل: فمائة من الإبل؟ قالت: منى. والعرب تضرب المثل في الصرد بالمعز فتقول: أصرد من عنز جرباء.
سئل دغفل العلامة عن بني مخزوم، فقال: معزى مطيرة، عليها قشعريرة، إلا بني المغيرة، فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام.
ومما تقول الأعراب على ألسنة البهائم، تقول المعزى: الاست جهوى، والذنب ألوى، والجلد زقاق، والشعر رفاق.

والضأن تضع مرة في السنة وتفرد ولا تتئم، والمعز قد تلد مرتين في السنة وتضع الثلاثة وأكثر وأقل، والنماء والعدد والبركة في الضأن. ونحو هذا الخنازير ربما تضع الأنثى عشرين خنزيراً، لا نماة فيها ولا بركة.
ويقال: الجواميس ضأن البقر، والبخت ضأن الإبل، والبراذين ضأن الخيل، والحرذان ضأن الفأر، والدلدل ضأن القنافذ، والنمل ضأن الذر.
وتقول الأطباء: في لحم المعز: إنه يورث الهم، ويحرك السوداء، ويورث النسيان، ويخبل الأولاد، ويفسد الدم. ولحم الضأن يضر بمن يصرع من المرة إضراراً شديداً، حتى يصرعهم في غير أوان الصرع: الأهلة وأنصاف الشهور. وهذان الوقتان هما وقت مد البحر وزيادة الماء، ولزيادة القمر إلى أن يصير بدراً بين في زيادة الدماغ والدم وجميع الرطوبات. قال الشاعر:
كأن القوم عشوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم
وفي الماعز أيضاً أنها ترضع من خلفها وهي محفلة حتى تأتي على كل ما في ضرعها. وقال ابن أحمر:
إني وجدت بني أعيا وجاملهم ... كالعنز تعطف روقيها فتحتفل
وإذا رعت الماعزة في فضل نبت ما تأكله الضائنة ولم ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضائنة تقرض بأسنانها والماعزة تقلعه وتجذبه من أصله. وإذا حملت الماعزة أنزلت اللبن في أول الحمل إلى الضرع، والضائنة لا تنزل اللبن إلا عند الولادة، ولذلك تقول العرب: رمدت المعزى فربق ربق، ورمدت الضأن فربق ربق.
وذكور كل شيء أحسن من إناثه إلا التيوس، فإن الصفايا أحسن منها، وأصوات ذكور كل شيء أجهر وأغلظ إلا إناث البقر، فإنها أجهر أصواتاً من ذكورها.
وقرأت في كتاب للروم: إذا أردت أن تعرف ما لون جنين النعجة، فانظر إلى لسانها فإن الجنين يكون على لونه.
وقرأت فيه: إن الإبل تتحامى أمهاتها فلا تسفدها.
وقالوا: كل ثور أفطس، وكل بعير أعلم، وكل ذباب أقرح. وقالوا: البعير إذا صعب وخافوه استعانوا عليه حتى يبرك ويعقل ثم يكومه فحل آخر فيذل، وقد يفعل ذلك بالثور.
وقال بعض القصاص: مما فضل الله به الكبش أن جعله مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن جعله مهتوك الستر، مكشوف القبل والدبر.
وفي مناجاة عزير: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن النبات الحبة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس.
وفي الحديث " إن الغنم إذا أقبلت وإذا أدبرت أقبلت، والإبل إذا أدبرت أدبرت وإذا أقبلت أدبرت، ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الأشأم " .
والأقط قد يكون من المعزى. قال امرؤ القيس:
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري
النعامقالوا في الظليم: إن الصيف إذا أقبل وابتدأ البسر بالحمرة ابتدأ لون وظيفيه بالحمرة فلا يزالان يتلونان ويزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسرة. لذلك قيل له خاضب، وللنعام خواضب. وفي الظليم أن كل ذي رجلين إذا انكسرت إحدى رجليه نهض على الأخرى، والظليم إذا انكسرت إحدى رجليه جثم، ولذا قال الشاعر في نفسه وأخيه:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا دونها صبرا
قالوا: وعلة ذلك أنه لا مخ في عظمه.
وكل عظم كسر يجبر إلا عظما لا مخ فيه.
والظليم يغتذي المدر والصخر، فتذيبه قانصته بطبعها حتى يصير كالماء. وفي النعامة أنها أخذت من البعير المنسم، والوظيف والعنق والخدامة، ومن الطير الريش والجناحين والمناقير، فهي لا بعير ولا طائر.
وقال الأحيمر السعدي: كنت ممن خلعني قومي وأطل السلطان دمي، وهربت وترددت في البوادي حتى ظننت أني قد جزت نخل وبار أو قريباً من ذلك، وإني كنت أرى النوى في رجيع الذئاب، وكنت أغشى الذئاب وغيرها من بهائم الوحش، ولا تنفر مني لأنها لم تر أحداً قبلي، وكنت أمشي إلى الظبي السمين فآخذه، إلا النعام فإني لم أره قط إلا نافراً فزعاً.
الطيربلغني عن مكحول أنه قال: كان من دعاء داود النبي عليه السلام: يا رازق النعاب في عشه.
وذلك أن الغراب إذا فقس عن فراخه خرجت بيضاء فإذا رآها كذلك نفر عنها، وتفتح أفواهها فيرسل الله ذباباً يدخل في أفواهها فيكون ذلك غذاءها حتى تسود، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها ودفع الله الذباب عنها.

قال الرياشي: ليس شيء تغيب أذناه من جميع الحيوان إلا وهو يبيض، وليس شيء تظهر أذناه إلا وهو يلد.
قال: هذا يروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الطير: الصرد، والهدهد، والذرة، والنحلة.
وقالوا: الطير ثلاثة أضرب: بهائم الطير وهو ما لقط الحبوب والبزور، وسباع الطير وهي التي تتغذى باللحم، ومشترك وهو مثل العصفور يشارك بهائم الطير، فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر. وإذا سقط الطير على عود قدم أصابعه الثلاثة وأخر الدابرة. وسباع الطير تقدم إصبعين وتؤخر إصبعين. ويشارك سباع الطير فإنه يلقم فراخه ولا يزقها، وإنه يأكل اللحم ويصطاد الجراد والنمل.
وقالوا: العصفور شديد الوطء والفيل خفيف الوطء.
وقال صاحب الفلاحة: العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة والحدأة عقاباً، والأرنب تتبدل فتصير الأنثى ذكراً والذكر أنثى.
وذكر الغربان لا يحضن، وكذلك ذكر الأوز وذكر الدجاج.
وقال كعب الأحبار: ما ذهب طائر في السماء قط أكثر من اثني عشر ميلاً.
ومن حديث سفيان الثوري عن أنس بن مالك قال: عمر الذباب أربعون يوماً، والبعوضة ثلاثة أيام، والبرغوث خمسة أيام.
قال: والحمام تعجب بالكمون وتألف الموضع الذي يكون فيه، وكذلك العدس ولا سيما إذا نقع في عصير حلو. ومما يصلحن عليه ويكثرن أن تدخن بيوتهن بالعلك.
وأيمن مواضعها وأصلحها أن يبني لها بيت على أساطين خشب ويجعل فيه ثلاث كوى: كوة في سمك البيت، وكوة من قبل المغرب، وباب من قبل الجنوب.
قال: والسذاب إذا ألقي في اللبن تحامته السنانير البرية.
هشام بن محمد قال: حدثني ابن الكلى قال: أسماء نساء بني نوح (، إذا كتين في زوايا بيت البرج سلمت الفراخ ونمت وسلمت من الآفات. قال هشام: فجربته أنا وغيري فوجدناه كما قال، واسم امرأة سام بن نوح محلت محم، واسم امرأة حام نف نسا، واسم امرأة يافث فالر.
والطير الذي يخرج من وكره بالليل البومة، والصدى، والهامة، والضوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل.
قالوا: وإذا خرج فرخ الحمامة نفخ أبواه في حلقه لتتسع الحوصلة بعد التحامها وتنفتق، فإذا اتسعت زقاه عند ذلك اللعاب ثم زقاه بعد ذلك الحب.
قال المثنى بن زهير: لم أر قط في رجل أو امرأة إلا رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، وذكراً لا يريد إلا أنثاه إلا أن يهلك أحدهما أو يفقد، ورأيت حمامة لا تمنع شيئاً من الذكور، ورأيت حمامة لا تقمط إلا بعد شدة الطلب، ورأيت حمامة تزيف للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة تقمط الذكر، ورأيت ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج، ورأيت ذكراً له أنثيان يحضن مع هذه وهذه.
قالوا: ومن عجائب الخفاش أنه لا يبصر في الضوء الشديد ولا في الظلمة الشديدة، وتحبل وتلد، وتحيض، وترضع، وتطير بلا ريش، وتحمل ولدها تحت جناحها، وربما قبضت عليه بفيها، وربما ولدت وهي تطير، ولها أذنان وأسنان، وجناحان متصلان برجليها.
قالوا: والخطاف يتبع الربيع حيث كان، وتقلع إحدى عينيه وترجع.
البيضقالوا: والبيض يكون من أربعة أشياء: منه ما يتكون من السفاد، ومنه ما يتكون من التراب، ومنه ما يتكون من نسيم ريح يصل إلى أرحامها، وهو شيء يعتري الحجل وما شاكلها في الطبيعة، فربما كانت الأنثى على قبالة الريح التي تهب في بعض الزمان فتحتشي لذلك بيضاً.
وكذلك النخلة التي تكون تحت الفحال وتحت ريحه فتلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك.
والدجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها مخ، وإذا لم يكن لها مخ لم يكن لبيضها فرخ، لأن الفرخ يخلق من بياض البيض وغذاؤه الصفرة.
السباعيقال: إنه ليس في السباع أطيب أفواها من الكلاب، ولا في الوحش أطيب أفواها من الظباء. ويقال: ليس أشد بخراً من الأسد والصقر، ولا في السباع أسبح من كلب.
وليس في الأرض فحل من سائر الحيوان لذكره حجم إلا الإنسان والكلب. والأسد لا يأكل الحار ولا الحامض ولا يدنو من النار، وكذلك أكثر السباع.
وتقول الروم: الأسد يذعر لصوت الذئب ولا يدنو من المرأة الطامث. والأسد إذا بال شغر كما يشغر الكلب، وهو قليل الشرب، ونجوه كنجو الكلب، ودواء عضته كدواء عضة الكلب.
قالوا: والعيون التي تضيء بالليل: عيون الأسد والنمور والأفاعي والسنانير.

وقالوا: ثلاثة من الحيوان ترجع في قيئها: الأسد والكلب والسنور.
وقالوا: أيام حمل الكلبة ستون يوماً، فإن وضعت قبل ذلك لم تكد أولادها تعيش. وأناث الكلاب تحيض كل سبعة أيام يوماً، وعلامة ذلك إن يرم ثفر الكلبة، ولا تريد السفاد في ذلك الوقت.
وذكور السلوقية تعيش عشرين سنة وتعيش أناثها اثنتي عشرة سنة.
وليس يلقى الكلب من أسنانه إلا النابين. والذئاب تسفد الكلاب في أرض سلوقية فتكون منها الكلاب السلوقية.
والكلب من الحيوان يحتلم كما يحتلم الإنسان.
وقالوا: في طبع الذئب محبة الدم، ويبلغ بطبعه أن يرى ذئباً مثله قد دمي، فيثب عليه فيمزقه. قال الشاعر:
وكنا كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
ويقولون: ربما ينام الذئب بإحدى عينيه ويفتح الأخرى، قال حميد بن ثور:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان نائم
قالوا: والذئب أشد السباع مطالبةً، وإذا عجز عوى عواء استغاثة فتسامعت به الذئاب، فأقبلت حتى تجتمع على الإنسان أو غيره فتأكله، وليس في السباع من يفعل ذلك غيرها.
وقضيب الذكر من الأرانب من عظم، وكذلك قضيب الثعلب.
والأرانب تنام مفتوحة العين، وتحيض.
وليس لشيء من ذكور الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل.
ولسان الفيل مقلوب على طرفه داخل.
وزعمت الهند أن نابي الفيل قرناه، يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك. ويخرجان منكسين.
وقال صاحب المنطق: ظهر فيل عاش أربعمائة سنة.
وحدثني شيخ لنا عن الزيادي قال: رأيت فيلاً أيام أبي جعفر قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف، ولأبي جعفر.
والفيلة تضع في سبع سنين.
الحيوان الذي لا يصلح إلا بأميرالناس، والفأرة، والغرانيق، والكراكي، والنحل، والحشرات.
قتادة عن ابن عمر قال: الفأرة يهودية، ولو سقيتها ألبان الإبل ما شربته. والفأر أصناف: منها الزباب، وهو أصم لا يسمع، والخلد وهو أعمى. وتقول العرب: هو أسود من زبابة، وفأرة البش، والبش سم قاتل يقال: هو قرون السنبل، وله فأرة تغتذيه لا تأكل غيره. وفأرة المسك من غير هذا. وفأرة الإبل: أرواحها إذا عرقت.
قالوا: والأفعى إذا نفثت في فيها الأتراج وأطبقت لحييها الأعلى على الأسفل لم تقتل بعضتها أياماً.
قالوا: الثوم والملح وبعر الغنم نافع جداً إذا وضع على موضع لسعة الحية، والحيات تقتل بريح السذاب والشيح، وتعجب باللفاح والبسباس، والبطيخ والخردل والحرف، واللبن والخمر.
وليس في الأرض حيوان أصبر على الجوع من الحية، ثم الضب بعدها. وإذا هرمت الحية صغر بدنها، وقنعت بالنسيم.
قالوا: وكل شيء يأكل فهو يحرك فكه الأسفل، ما عدا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى.
وبمصر سمكة يقال لها الرعادة، من اصطادها لم تزل يده ترعد ما دامت في شبكته.
والجعل إذا دفنته في الورد سكنت حركته حتى تسحبه ميتاً، فإذا أدنيته من الروث تحرك ورجعت نفسه.
والبعير إذا ابتلع في علفه خنفساء قتلته إذا وصلت إلى جوفه حية.
والضب يذبح ثم يمكث ليلة، ثم يقرب من النار فيتحرك.
والأفعى تذبح فتبقى أياماً تتحرك وإذا وطئها أحد نهشته، ويقطع ثلثها الأسفل فتعيش، وينبت ذلك المقطوع.
قالوا: وللضب ذكران وللضبة حران. حكاه أبو حاتم عن الأصمعي. ويقال لذلك النزك. وأنشد:
سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حافٍ في الأنام وناعل
وسام أبرص لا يدخل بيتاً فيه زغفران.
ومن عضه كلب كلب احتاج أن يستر وجهه من الذباب لئلا تسقط عليه.
وخرطوم الذباب يده، ومنه يغني، وفيه يجري الصوت كما يجري الزامر الصوت في القصبة بالنفخ.
والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعتراً جبلياً.
وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب. والكلاب إذا كان في أجوافها داء أكلت سنبل القمح. والإيل إذا مهشته الحية أكل السراطين.
قال ابن ماسويه: فلذلك يظن أن السراطين صالحة لمن نهشته الحية.
قال صاحب المنطق: الحية إذا اشتكت كبدها من رفع الأرانب والثعالب في الهواء تعالجت بأكل الأكباد حتى تبرأ.
وبعض الناس يعملون من الأوزاغ سماً أنفذ من البيش ومن ريق الأفاعي.
وإذا زرع في نواحي الزرع خردل تجنبته دبي الجراد، وإذا أخذ المر داسنج وخلط بعجين الدقيق ثم طرح للفأر وأكل منه مات، وكذلك برادة الحديد.

وإذا أخذ الأفيون والشونيز والبازرند وقرن الإيل وبابونج وظلف من أظلاف العنز، فخلط ذلك جميعاً، ثم يدق وينخل نخلاً جيداً ويعجن بخل ثقيف، ثم يقطع قطعاً، فيدخن قطعة منه، هربت الحيات والهوام والنمل والعقارب من ريحه. والبعوض تهرب من دخان الكبريت والعلك.
وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصرع، ولحم القنفذ نافع من الجذام والسل والشنج ووجع الكلى، يجفف ويشوى ويطعمه العليل مطبوخاً ومشوياً ويضمد به الشنج.
وعين الأفعى وعين الجراد لا تدوران.
وليس ينسج من العناكب إلا الأنثى، وهي الخدرنق، وولد العنكب ينسج ساعة تولد.
والقمل يتخلق في الرؤوس على لون الشعر، إن كان أسود أو أبيض أو مخضوباً.
وأم حبين لا تقيم بمكان تكون فيه السرقة، وهي دويبة يضرب بها المثل في الصنعة، فيقال: أصنع من سرفة.
أبو حاتم: عن الأصمعي، قال: قال أبو بكر المهجري: ما من شيء يضر إلا وفيه منفعة.
وقيل لبعض الأطباء: إن فلاناً يقول إنما أنا مثل العقرب أضر ولا أنفع. فقال: ما أقل علمه بها، إنها لتنفع إذا شق بطنها ووضعت على مكان اللسعة، وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطين الجوانب ثم يوضع الفخار في تنور. فإذا صارت العقرب رماداً سقي من ذلك الرماد مثل نصف دانق من به حصاة من غير أن يضر سائر الأعضاء. وقد تلسع من به حمى عتيقة فتقلع عنه، وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب في الدهن وتترك فيه حتى يأخذ الدهن منها، ويجتذب قواها فيكون ذلك الذهن مفرقاً للأورام الغليظة.
وقال المأمون: قلت لبختيشوع وسلمويه، وابن ماسويه: إن الذباب إذا دلك على موضع لسعة الزنبور سكن ألمها، فلسعني زنبور، فحككت على موضع لسعته عشرين ذبابة، فما سكن إلا في قدر الحين الذي يسكن فيه من غير علاج، فلم يبق في يدي منهم، إلا أن قالوا: كان هذا الزنبور حتفاً قاضياً، ولولا هذا العلاج له لقتلك.
وقال محمد بن الجهم: لا تتهاونوا بكثير مما ترون من علاج العجائز، فإن كثيراً منه وقع إليهن من قدماء الأطباء، كالذباب يلقي في الإثمد فيسحق معه، ليزيد ذلك من نور البصر، ويشد مراكز شعر الأجفان، في حافات الجفون.
قالوا: وللسع الأفاعي والحيات ينفع ورق الآس الرطب، يعصر ويسقى من مائه قدر نصف رطل.
مصايد الطيرقال صاحب الفلاحة: من أراد أن يحتال للطير والدجاج حتى يتحيرن ويغشى عليهن فيصيدهن عمد إلى الحلتيت، فدافه بالماء ثم جعل في ذلك شيئاً من عسل، ثم نقع فيه برا يوماً وليلة، ثم ألقى ذلك البر إلى الطير فإذا لقطه تحير وغشى عليه، فلا يقدر على الطيران إلا أن يسقى لبناً خالطه سمن.
قال: وإن عمد إلى طحين بر غير منخول فعجن بجير ثم طرح للطير والحجل فأكلا منه، تحيرت وأخذت.
ومما يصاد به الكراكي وغيرها من الطير أن يوضع لهن في مواقعهن إناء فيه خمر ويجعل فيه خريق أسود، وينقع فيه شعير، ثم يلقى لهن، فإذا أكلن منه أخذهن الصائد كيف شاء.
وقال غيره: تصاد العصافير بأيسر حيلة، تؤخذ سلة في صورة المحبرة المنكوسة، ويجعل في جوفها عصفور، فتنقض عليه العصافير وتدخل عليه، فما دخل لم يقدر على الخروج، فيصيد الرجل منها من يومه ما شاء وهو وادع.
وقال: ويصاد طير الماء الساكن بالقرعة، وذلك أن تأخذ قرعة يابسة صحيحة فيرمي بها في الماء فإنها تتحرك بتحرك الماء فإذا أبصرها الطير تحرك وفزع، فإذا كثر ذلك عليه أنس حتى ربما سقط عليها، ثم تأخذ قرعة مثلها فتقطع رأسها، ويفتق فيها موضع عينين ثم يدخل الصائد رأسه فيها، ويدخل الماء ويمشي رويداً، وكلما دنا من الطائر مد يده تحت الماء حتى يقبض على رجليه ويغمس يده به تحت الماء ويكسر جناحيه، ويخليه فيبقى طافياً على الماء يسبح برجليه ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا تنكر انغماسه في الماء، فإذا فرغ من صيد ما أراد بالقرعة لقطها وحملها.
مصايد السباعالسباع العادية تصاد بالزبى والمغويات، وهي آبار تحفر في أنشاز الأرض، ولذلك يقال: قد بلغ السيل الزبى.

قال صاحب الفلاحة: ومما يصاد به السباع العادية أن يؤخذ سمك من سمك البحر الكبار السمان فيقطع قطعاً، ثم تشدخ وتكتل كتلاً، ثم تؤجج نار في غائط من الأرض تقرب من السباع، ثم تقذف تلك الكتل فيها واحدة بعد أخرى حتى ينتشر دخان تلك النار، وقتار تلك الكتل في تلك الأرض، ثم يطرح حول تلك النار قطع من لحم قد جعل فيه الخربق الأسود والأفيون، وتكون تلك النار في موضع لا ترى فيه حتى تقبل السباع لريح القتار وهي آمنة، فتأكل من قطع ذلك اللحم، ويخرج عليه فيصيدها الكامنون لها كيف شاءوا.
تفاضل البلدانالأصمعي يرفعه إلى قتادة قال: الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف فرسخ، فبلد السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ، وبلد الروم ثمانية آلاف فرسخ، وبلد الفرس ثلاثة آلاف فرسخ، وبلد العرب ألف.
الأصمعي قال: جزيرة العرب ما بين نجران إلى العذيب، وقال غيره: أرض العرب ما بين بحر القلزم وبحر الهند.
قالوا: وسواد البصرة: الأهواز، وفارس. وسواد الكوفة: كسكر إلى الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية، وهذه كلها من عمل العراق.
وعمل العراق من هيث إلى الصين، والهند، والسند، ثم كذلك إلى الري، وخراسان كلها إلى بلد الديلم، والجبال. وأصفهان سرة العراق، وافتتحها أبو موسى الأشعري. والجزيرة ليست من عمل العراق. وهي ما بين الدجلة والفرات والموصل من الجزيرة. ومكة والمدينة ومصر ليست من عمل العراق.
الأصمعي قال: البصرة كلها عثمانية، والكوفة كلها علوية، والشام كلها أموية، والجزيرة خارجية، والحجاز سنية. وإنما صارت البصرة عثمانية من يوم الجمل، إذ قاموا مع عائشة وطلحة والزبير فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقيل لرجل من أهل البصرة: أتحب علياً؟ قال: كيف أحب رجلاً قتل من قومي من لدن كانت الشمس هكذا إلى أن صارت هكذا ثلاثين ألفاً.
والكوفة علوية؛ لأنها وطن علي رضي الله عنه وداره. والشام أموية؛ لأنها مركز ملك بني أمية وبيضتهم. والجزيرة خارجية؛ لأنها مسكن ربيعة. وهي رأس كل فتنة، وأكثرها نصارى وخوارج، ومنازلهم الخابور وهو واد، بالجزيرة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبني تغلب: يا خنازير العرب. والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعفن عليكم الجزية.
وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة. قال: بلى، ولكن منابرهم الجذوع.
الأعمش عن سليم: قال: ذكر عمر بن الخطاب الكوفة، فقال: جمجمة العرب، وكنز الإيمان، ورمح الله في الأرض، ومادة الأمصار.
علي بن محمد المديني قال: الكوفة جارية حسناء تصنع لزوجها، فكلما رآها سرته.
وقال محمد بن عمير بن عطارد: الكوفة سفلت عن الشام ورباها. وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مرية مريعة عذبة برية، وإذا أتتها الشمال هبت على مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبت الجنوب جاءتها بريح السواد وورده وياسمينه وأتراجه، فماؤها عذب، وعيشها خصب.
قال ابن عياش الهمداني لأبي بكر الهذلي عن أبي العباس، وذكرت عنده الكوفة والبصرة، فقال: إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء ببرده وعذوبته، ومثل البصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغير وفساد.
وقال الحجاج: الكوفة بكر حسناء، والبصرة عجوز بخراء، أوتيت من كل حلى وزينة.
وقال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد.
وقال الأصمعي: تذاكروا عند زياد الكوفة والبصرة. فقال زياد: لو أضللت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها.
وقال حذيفة: أهل البصرة لا يفتحون باب هدىً، ولا يغلقون باب ضلالة، وقد رفع الطاعون عن جميع أهل الأرض إلا عن أهل البصرة.
ومما نقم على أهل الكوفة أنهم أغدر الناس. طعنوا الحسن بن علي، وانتهبوا عسكره، وخذلوا الحسين بن علي بعد أن استدعوه حتى قتل.
وشكوا سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، وزعموا أنه لا يحسن أن يصلي، فدعا عليهم أن لا يرضيهم الله عن والٍ، ولا يرضي والياً عنهم.
وقد دعا عليهم علي بن أبي طالب فقال: اللهم ارمهم بالغلام الثقفي. يعني الحجاج بن يوسف.

وشكوا عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة، وطردوا سعيد بن العاص، وخذلوا زيد بن علي. وادعى النبوة منهم غير واحد، منهم المختار بن أبي عبيد. وكتب إلى الأحنف: بلغني أنكم تكذبونني وتكذبوا رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم.
وقيل لعبد الله بن عمر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه. قال: صدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم.
ولما أرادت سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم الرحيل من الكوفة إلى المدينة بعد قتل زوجها المصعب حف بها أهل الكوفة، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله (. فقالت: لا جزاكم الله خيراً من قوم، ولا أحسن الخلافة عليكم، قتلتم أبي وجدي وأخي وعمي وزوجي، أيتمتموني صغيرة وأيمتموني كبيرة.
ولما دخل عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل المصعب، أقبل إليه جماعة من هؤلاء، قالوا: أمراؤك أهل الكوفة. قال: قتلة عثمان؟ قالوا: نعم وقتلة علي! قال: هذه بهذه.
قدم عبد الله بن الكواء على معاوية، فقال: أخبرني عن أهل البصرة، قال: يقبلون معاً ويدبرون شتى. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. قال: أنظر الناس في صغيرة وأوقفهم في كبيرة. قال: فأخبرني عن أهل المدينة. قال: أحرص الناس على الفتنة وأعجزهم عنها. قال: فأخبرني عن أهل مصر. قال: لقمة آكل. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين حشين. قال: فأخبرني عن أهل الشام، قال: جند أمير المؤمنين، ولا أقول فيهم شيئاً. قال: لتقولن. قال: أطوع خلق الله لمخلوق وأعصاهم للخالق، ولا يخشون في السماء ساكناً.
قتادة قال: قيست البصرة في زمن خالد بن عبد الله القسري، فوجدوا طولها فرسخين وعرضها فرسخين.
الأصمعي قال: قال ابن شهاب الزهري: من قدم أرضاً فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه عوفي من وبائها.
الأصمعي قال: دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكان قلبي ينضح بالسرور، وما أجد لذلك علةً إلا انفساح جوها، وطيب نسيمها.
ودخل سليمان بن عبد الملك الطائف، فنظر إلى بيادر الزبيب فقال: ما تلك الجرار السود؟ قيل له: ليست بجرار يا أمير المؤمنين، ولكنها بيادر الزبيب. فقال: لله در قسي، في أي عش أودع أفراخه؟ يريد بقسي ثقيفاً. كذلك كان اسمه.
الأصمعي قال: من أمثال العامة يقولون: حمى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وطواعين الشام.
الأصمعي قال: ذكروا أن في باب سمرقند مكتوباً: بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ.
قال الأصمعي: وبين بغداد وأفريقية ألف فرسخ، وبين الكوفة والبصرة ثمانون فرسخاً، وواسط بينهما متوسطة، ولذلك سميت واسطاً.
الشاماتأول حد الشام من طريق مصر أمج، ثم يليها غزة، ثم الرملة رملة فلسطين، ومدينتها العظمى فلسطين وعسقلان، وبها بيت المقدس. وفلسطين هي الشام الأولى.
ثم الشام الثانية، هي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطئ البحيرة، والغور واليرموك. وبيسان فيما بين فلسطين والأردن.
ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس.
ثم الشام الرابعة وهي أرض حمص.
ثم الشام الخامسة وهي قنسرين، ومدينتها العظمى - حيث السلطان - حلب. وبين قنسرين وحلب أربعة فراسخ، وساحلها أنطاكية مدينة عظيمة على شاطئ البحر، في داخلها البساتين والأنهار والمزارع، وهي مدينة حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى. وبها مسجد ينسب إلى حبيب النجار.
ومن ثغور الشام الخامسة: المصيصة وطرسوس ونهرا جيحان وسيحان.
الجزيرةثم الجزيرة، وهي ما بين دجلة والفرات، وبهما نهران يقال لهما الخابور والبليخ، ومخرجهما من رأس العين، مدينة عظيمة بالجزيرة في داخلها عين هي عنصر الخابور والبليخ. وعلى الخابور منازل ربيعة أكثرها نصارى، وخوارج. ونصيين من الجزيرة، وهي مدينة عظيمة مطلة على جبل الجودي. والموصل من الجزيرة أيضاً. والرقة وحران من الجزيرة أيضاً. ومن ثغور الجزيرة في جهة عمورية من أرض الروم بطرة وملطية. وفي جوف الفرات جزائر فيها مدن يقال لها عانة وعانات. وعلى شط الفرات مما يلي الجزيرة قرقيسيا، ومما يلي الشام الرحبة رحبة مالك بن طوق.
العراقان

العراقان: هما البصرة والكوفة، وقد تقدم ذكرهما واختلاف الناس فيهما. ومما أحدث الخلفاء بالعراق خلفاء بني هاشم من المدن الأنبار، وهي مدينة أبي العباس، أول من ولي الخلافة ابتناها واتخذها دار خلافته. ثم ولي أخوه أبو جعفر المنصور، فانتقل إلى بغداد وابتنى بها الكرخ، وهي مدينة السلام في جوف بغداد، وهي دار خلافة بني هاشم. حتى قام المعتصم محمد بن هارون فانتقل منها إلى سامرا. وتفسير سامرا أن سام بن نوح عليه السلام بناها. وإنما هو بالسريانية، وهي دار الخلافة إلى الآن.
فارسمنها الأهواز مدينة عظيمة وبلدها واسع جداً، وهي من سواد البصرة. وتستر مدينة يعمل فيها التستري من الملاحف. ومدينة يقال لها جور وإليها ينسب ماء الورد الجوري. ومدينة يقال لها السوس بها تعمل الثياب السوسية من الخز وغيره. ومدينة يقال لها العسكر وإليها تنسب الثياب العسكرية ومدينة يقال لها الأفساسار وبها تعمل الأكسية الأفساسارية الجياد. ومدينة يقال لها دستوا، وبها تعمل الثياب الدستوائية. ومدينة يقال لها ميسان، وبها يعمل الوطاء الميساني. ومدينة يقال لها الدسكرة دسكرة الملك، كانت لكسرى. ومدينة يقال لها حلوان، وهي أول الجبال من خراسان وآخر العراق.
خراسانأول مدنها الري، وهي آخر الجبال من خراسان، وإليها ينسب من الرجال الرازي، ومن خراسان مرو، وهي دار خلافة المأمون، ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة. ومن ينسب إليها من الرجال يقال له مروزي، ومن الثياب مروي. ومدينة يقال لها قومس، وإليها تنسب الطيقان القومسية. ومدينة يقال لها سابور بها ملك بني طاهر. ومدينة يقال لها هراة إليها ينسب الهروي من الرجال والمتاع. ومدينة يقال لها بلخ وإليها ينسب البلخي، وبها معادن البجادي العتيق، وهو جنس من الفصوص تسميه العامة البزادي. ومدينة يقال لها خوارزم وإليها ينسب الخوارزمي، وهي على شط البحر المحيط. وبلخ على شط النهر العظيم، الذي يقال له جيحان بخراسان. ثم جرجان، وهي مدينة عظيمة على شط البحر المحيط، وإليها ينسب الوشي الجرجاني والمتاع. ثم قوهى وهي مدينة عظيمة إليها ينسب القوهي من الثياب. ثم كابل، وهي مدينة يؤتى منها بالإهليلج الكابلي. ثم سمرقند، وهي مدينة عظيمة إليها ينسب السمرقندي من الثياب. وبين بغداد وبينها مسيرة ستة أشهر ومما يليها كرمان، وهي على بطائح السند وبلاد السند من آخر خراسان، ما بين المغرب والمشرق من جهة القبلة. وآخر مدن خراسان مدينة يقال لها تبت، وهي من أرض الترك وبها مجمع المسك وإليها ينسب المسك التبتي. ومدينة يقال لها فرغانة وأهلها جنس من العجم يقال لهم الصغد، وهم الذين يقطعون آذانهم من الحزن، إذا مات لهم كبير.
ومن المدن التي في صدر خراسان مع الجبال مدينة يقال لها قرميسين. ثم الدينور، وإليها ينسب الدينوري. ومدينة همدان مدينة عظيمة، وطبرستان مدينة عظيمة فيها تعمل الأكسية الطبرية، ثم قم وهي مدينة عظيمة، منها يؤتى بالزعفران. ثم أصبهان وهي مدينة عظيمة، ثم طوس وهي من ثغور الجبال.
مصرمن ناحية الشام الفسطاط، وهي مدينة بها منبران ومسجدان يجمع فيهما العسكر حيث السلطان. وعين شمس، بها منبر، وهي كانت مدينة فرعون، وفيها بنيانه قائم. والفرما لها منبر، والعريش الذي يقال له عريش مصر له منبر، وهي آخر مصر وأول الشام. ومن أسفل الأرض بوصير، لها منبر. وتنيس لها منبر، وإليها تنسب الثياب التنيسية، وبها طراز للخليفة. وشطا لها منبر وإليها ينسب الشطوي، وديبق، لها منبر وإليها ينسب الدبيقي من الثياب. والإسكندرية لها منبر. من ناحية الحجاز. القلزم لها منبر. وأيلة لها منبر. ومن ناحية الصعيد القس، وإليها ينسب القسي من الثياب. والصفن، وإليها تنسب الأكسية الصفنية الحمر. ودلاص لها منبر، وهي مجمع سحر مصر. والفيوم مدينة لها منبر تؤدي كل يوم ألف دينار، وخلف ذلك بوق، وبها تكون معادن الذهب والجواهر والزبرجد.
صفة المسجد الحرام

صحنه كبير واسع، ذرعه طولاً من باب بني جمح إلى باب بني هاشم الذي يقابل دار العباس بن عبد المطلب أربعمائة ذراع وأربع أذرع. وذرعه عرضاً من باب الصفا إلى دار الندوة لاصقاً بوجه الكعبة الشرقي ثلثمائة ذراع وأربع أذرع. وله ثلاث بلاطات محدقة به من جهاته كلها، منتظم بعضها ببعض. وهي داخلة في الذرع الذي ذكرت، فوقها سماوتها مذهبة، وحافاتها على عمد رخام بيض عددها في طوله من الشرق إلى الغرب مع وجه الصحن خمسون عموداً، وفي عرضه ثلاثون عموداً، طول كل عمود منها عشرة أذرع ودوره ثلاث أذرع. والمذهبة من رؤوس العمد ثلثمائة وعشرون رأساً. وسور المسجد كله من داخله مزخرف بالفسيفساء. وأبوابه على عمد رخام ما بين الأربعة إلى الثلاثة إلى الاثنين، وهي ثلاثة وعشرون باباً لا غلق عليها، يصعد عليها في عدة من درج.
صفة الكعبةوبيت الله الحرام بوسط المسجد، كان ارتفاعه في عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال والله أعلم تسع أذرع، وطوله في الأرض ثلاثون ذراعاً، وعرضه اثنتان وعشرون ذراعاً. وكان له ثلاثة سقوف ثم بنته قريش في الجاهلية فاقتصرت على قواعد إبراهيم ورفعته ثمان عشرة ذراعاً، ونقصت من طوله في الأرض ست أذرع وشبراً تركته في الحجر، فلما هدمه ابن الزبير رده على قواعد إبراهيم ورفعه سبعاً وعشرين ذراعاً، وفتح له بابين: باباً إلى الشرق وباباً إلى الغرب يدخل من الشرقي ويخرج من الغربي. فكان كذلك حتى قتل. فلما تغلب الحجاج على مكة استأذن عبد الملك بن مروان في هدم ما كان ابن الزبير زاده من الحجر في الكعبة. فأذن له فرده على قواعد قريش وسد الباب الغربي ولم ينقص من ارتفاعه شيئاً.
فذرع وجهه القبلي اليوم من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرون ذراعاً، ووجهه الجنوبي من الركن العراقي إلى الركن الشامي، وهو الذي يلي الحجر إحدى وعشرون ذراعاً. ووجهه الشرقي من الركن الأسود إلى الركن العراقي خمس وعشرون ذراعاً. ووجهه الغربي من الركن اليماني إلى الركن الشامي خمس وعشرون ذراعاً.
وحول البيت كله إلا موضع الركن الأسود درجة مجصصة، يكون ارتفاعها عظم الذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل.
وباب البيت في وجهه الشرقي على قدر القامة من الأرض، طوله ست أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاث أذرع وثمان عشرة إصبعاً. والبابان من ساج، غلظ كل باب ثلاث أصابع، ظاهرهما ملبس بالذهب وباطنهما بالفضة، في كل باب ست عوارض، ولها عروتان يضرب فيهما قفل من ذهب وحواجبه كلها مذهبة ما عدا الحاجب الأيمن، فإن العلوي الثائر لما تغلب على مكة قلع ذهبه فترك على حاله. وتحت العتبة العليا عتبة مذهبة والبابان من ورائهما، والعتبة السفلى مستورة بالديباج إلى الأرض.
وبين الركن الأسود والباب خمس أذرع أو نحوها، وهو الملتزم فيما يذكر عن ابن عباس.
والحجر الأسود على رأس صخرتين من وجه الأرض قد نحت من الصخر مقدار ما أدخل فيه الحجر وشقت الصخرة الثالثة عليهما مثل إصبعين. والحجر أملس مجزع حالك السواد في قدر الكف المحنية، قد لز من جوانبه بمسامير الفضة. وفيه صدوع، وفي جانب منه صفيحة فضة تحسبها شظية منه شظيت فجبرت بها. وصخر الركن الأسود أحرش أكبر من صخرنا قليلاً.
وللبيت سقفان سقف دون سقف، وفيهما أربع روازن ينفذ بعضها إلى بعض للضوء، وللسقف الأسفل ثلاث جوائز من ساج منقشة مذهبة. وفي داخل البيت في الحائط الغربي قبالة الباب الجزعة، على ست أذرع من قاع البيت وهي سوداء مخططة ببياض، طولها اثنتا عشرة إصبعاً في مثل ذلك، وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع. ذكر أن النبي ( جعلها على حاجبه الأيمن حين صلى في البيت.
والحجر بجوفي البيت محجور من الركن العراقي إلى الركن الشامي تحجيراً محنياً غير مرتفع. قد انقطع طرفاه دون الركنين اللذين يليانه بمثل ذراعين للدخول والخروج، يكون ما بين موسطة جنبي التحجير والبيت كما بين الركنين، وارتفاع التحجير مثل نصف قامة. وهو ملبس بالرخام من داخله وخارجه وأعلاه، وجعل بين كل رخامتين عمود من رصاص لزازاً لهما، وقاع الحجر كله مفروش بالرخام، ومصب الميزاب فيه، وقبلتنا إليه.
والميزاب موسطة أعلى جدار الكعبة خارجاً عنه مثل أربع أذرع في سعته، وارتفاع حيطانه ثمان أصابع، ملبس ظاهره وباطنه بصفائح الذهب. والصفائح مسمرة بمسامير مروسة من ذهب.

والبيت كله مستور إلا الركن الأسود، فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطي، وهو ديباج أبيض خراساني، فيكون بتلك الكسوة ما كان للناس محرمين. فإذا حل الناس وذلك يوم النحر، حل البيت، فكسى الديباج الأحمر الخراساني. وفيه دارات مكتوبة فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل. ثم يكسى أيضاً على حال ما وصفت. فإذا كثرت الكسوة فخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت، وهم بنو شيبة.
وذكر بعض المصريين أنه حضر كشف البيت سنة خمس وستين فرأى بلاطه الزعفران واللوبان.
وذكر أيضاً عن بعض المكيين حديثاً يرفعونه إلى مشايخهم، أنهم نظروا إلى الحجر الأسود إذ هدم ابن الزبير البيت وزاد فيه، فقدروا طوله ثلاث أذرع، وهو ناصع البياض فيما ذكروا إلا وجهه الظاهر. واسوداده فيما ذكروا، والله أعلم لاستلام أهل الجاهلية إياه، ولطخه بالدم.
والمقام بشرقي البيت على سبع وعشرين ذراعاً منه، وجه المصلي خلفه مستقبل البيت إلى الغرب، والركن العراقي على يمينه، والباب والركن الأسود على يساره، وهو فيما ذكر من رآه حجر غير مرفوع يكون ذراعاً في ذراع، وفيه أثر قدم إبراهيم عليه السلام، وطول القدم مثل عظم الذراع. والحجر موضوع على منبر لئلا يمر به السيل، فإذا كان وقت الموسم وضع عليه تابوت حديد مثقب لئلا تناله الأيدي. وحول البيت كله سوارٍ ست غلاظ مربعة من حديد مذهبة ورؤوسها مذهبة أيضاً، يوقد عليها بالليل للطائفين، بين كل عمود منها والبيت نحو ما بين المقام والبيت. وزمزم بشرقي الركن الأسود بينهما مثل الثلاثين ذراعاً، وهي بئر واسعة تنورها من حجر مطوق أعلاه بالخشب، وسقفها قبو مزخرف بالفسيفساء على أربعة أركان، تحت كل ركن منها عمودا رخام متلاصقان، قد سد ما بين كل ركنين منها بشرجب خشب، ورد إلى باب من جهة المشرق. وحول القبو كله رف مثل البرطلة، وبشرقي زمزم بيت مقدر سقفه قبو مزخرف بالفسيفساء أيضاً مقفل عليه، وشرقي هذا البيت بيت كبير مربع له ثلاثة أقباء، وفي كل وجه منه باب.
وحمام المسجد كثير أنيس، يكاد الإنسان أن يطأه بقدمه لأنسه بالناس، وهو في لون حمام الأبرجة عندنا إلا أنه أقدر منه، وليس منها حمامة تجلس على البيت ولا تطير عليه. ولقد همني ذلك فرأيتها حين تكاد أن تحاذي البيت، وهي مستعلية في طيرانها ذلك، عكست حتى تصير دونه، وأخذت عن يمينه أو يساره، وذرقها ظاهر بارز على البيوت التي في المسجد إلا بيت الله الحرام فإنه نقي ليس فيه ولا عليه منه أثر، فسبحان معظمه ومقدسه ومطهره وتعالى علواً كبيراً.
وبين باب الصفا - وهو بقبلي البيت - والصفا الشارع وهو بطن الوادي، وبعد الشارع فناء غير كبير فيه الباعة، ثم الصفا في أصل جبل أبي قبيس قد أحدق بها البناء إلا من الوجه الذي يرقى إليها منه، والرقي إليها على ثلاث درج مبنية بالصخر. والواقف على الصفا مستقبل الجوف بنظر إلى البيت من باب الصفا. والمروة بشرقي المسجد وهي من الصفا بين المشرق والمغرب، قد أحدق بها البناء أيضاً إلا من وجه المصعد إليها، وهو من أعلى القصور، بينها وبين المسجد الحرام الزقاق الضيق، فالواقف على المروة مستقبل البيت تجاه الفرجة يرى الميزاب وما اتصل به من البيت، وبين الصفا والمروة شبيه بما بين السقاية والمسجد الجامع. والساعي بينهما إذا هبط من الصفا يريد المروة سلك في الشارع وهو مبطن الوادي، عن يمينه القصور، وعن يساره المسجد، ثم يتعرضه بطن وادٍ إذ انصبت قدماه فيه أرقل حتى يخرج عن آخره، وله علمان أخضران في جانبي الوادي، أحدهما وهو الأول خلف باب الصفا لاصقاً بالسور، والثاني أمامه بائن عن السور، جعلا ليفهم بهما حد الوادي الذي يرمل فيه.
ومنى قرية بشرقي مكة تنحو إلى القبلة قليلاً، خارجة عن الحرم على نحو الفرسخ منها، وفيها بنيان وسقايات، وأول ما يلقى منها الخارج من مكة إليها جمرة العقبة ثم الجمرتين اللتين ترميان مع جمرة العقبة بعد يوم النحر أيام التشريق. وبها مسجد أكبر من جامع قرطبة، وهو مسجد الخيف، له مما يلي المحراب أربع بلاطات معترضة، سقفها من جرائد النخل، وعمدها مجصصة، والمنبر عن يسار المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي موسطة صحن المسجد منارة، وفي كل جانب منها سقيفة.

والمزدلفة وهي المشعر الحرام بين منى وعرفة، وهي من منى على نحو الميلين، ولها مسجد مصحر لا بناء فيه إلا الحائط الذي فيه المحراب، وليس بها ساكن.
وعرفة بشرقي منى على نحو الفرسخين منها، ليس بها ساكن ولا بناء إلا سقايات وقنوات يجري فيها الماء، وليس بمسجدها بنيان إلا الحائط الذي فيه المحراب، وموقف الناس يوم عرفة بعرفة في الجبل وما يليه مما تحته، والجبل بين المشرق والجوف من مسجدها، وفي الموضع الذي يقف فيه الإمام ماء جارٍ. ومحراب منة وعرفة والمزدلفة إلى نحو المغرب.
صفة مسجد النبي
صلى الله عليه وسلمبلاطاته في قبلته معترضة من المشرق إلى المغرب، في كل صف من صفوف عمدها سبعة عشر عموداً، ما بين كل عمودين منها فجوة كبيرة واسعة، والعمد التي في البلاطات القبلية بيض مجصصة شاطة جداً، وسائر عمد المسجد رخام، والعمد المجصصة على قواعد عظيمة مربعة ورؤوسها مذهبة عليها نجف منقشة مذهبة، ثم السموات على النجف وهي أيضاً منقشة مذهبة. وقبالة المحراب موسطة البلاطات، بلاط مذهب كله شقت به البلاطات من الصحن إلى أن ينتهي إلى البلاط الذي بالمحراب ولا يشقه، وفي البلاط الذي يلي المحراب تذهيب كثير، وفي موسطته سماء كالترس المقدر مجوف كالمحار، مذهب، وقد أخذ وجه السور القبلي من داخل المسجد بإزار رخام من أساسه إلى قدر القامة منه، وكف على الإزار بطوق رخام في غلظ الأصبع، ثم من فوقه إزار دونه في العرض مخلق بالخلوق، ثم فوقه إزار مثل الأول فيه أربعة عشر باباً في صف من الشرق إلى الغرب في تقدير كوى المسجد الجامع بقرطبة منقشة مذهبة، ثم فوقه إزار رخام أيضاً فيه صنيفة سماوية فيها خمسة سطور مكتوبة بالذهب بكتاب ثخين، غلظه قدر أصبع، من سور قصار المفصل، ثم فوقه إزار رخام مثل الأول الأسفل، فيه ترسة من ذهب منقشة وبين كل ترسين منها عمود أخضر في حافاته قضبان من ذهب، ثم فوقه إزار رخام فيه صنيفة منقشة عرضها مثل عظم الذراع، لها قضبان وأوراق من ذهب ثم فوقه إزار فسيفساء عريض، ثم السماوات عليه. والمحراب في موسطة السور القبلي، على قوسه قصة من ذهب ناتئة غليظة، في وسطها مرآة مربعة ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها.
قبو المحراب مقدر جداً، وفيه دارات بعضها مذهبة وبعضها حمر وسود، وتحت القبو صنيفة ذهب منقشة، تحتها صفائح ذهب مثمنة، فيها جزعة في مثل جمجمة الصبي الصغير مسمرة، ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلق بالخلوق، فيه الوتد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليه في المحراب الأول، عند قيامه من السجود فيما ذكر. والله أعلم. وعن يمين المحراب باب يدخل منه الإمام ويخرج، وعن يساره باب صغير شطرنجي قد سد بعوارض من حديد، وبي هذين البابين والمحراب ممشى مسطح لطيف.
والمقصورة من السور الغربي لاصقة بالباب إلى الفصيل اللاصق بالسور الشرقي، ومن هذا الفصيل يصعد إلى ظهر المسجد، وهي قديمة مختصرة العمل، لها شرفات وأربعة أبواب، وخارج المقصورة قريباً منها عن يسار المحراب سرب في الأرض يهبط فيه على درج فيفضي منها إلى دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والمنبر على يمين المحراب في أول البلاط الثالث من المحراب في روضة مفروشة بالرخام محجور حولها به. وله درج، وسمر في أعلاه لوح لئلا يجلس أحد على الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس عليها، وهو مختصر ليس فيه من النقوش ودقة العمل ما في منابر زماننا الآن، والجذع أمام المنبر، وبشرقي المنبر تابوت يستر به مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبره صلوات الله عليه وسلامه بشرقي المسجد في آخر مسقفه القبلي مما يلي الصحن بينه وبين السور الشرقي مثل عشر أذرع، قد حظر حوله بحائط بينه وبين السقف مثل ثلاث أذرع، وله ستة أركان، ولبس بإزار رخام أكثر من قامة، وما فوق الرخام مخلق بالخلوق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .

وعلى ظهر المسجد حذاء القبر حجر محجور لئلا يمشى عليه، والبلاطات الجوفية خمسة والغربية أربعة، منتظم بعضها ببعض في طولها مع وجه الصحن من القبلة إلى الجوف ثمانية عشر عموداً، وحنايا المسجد كلها مما يلي الصحن مشدودة من جهاتها الأربع إلى مناكب العمد من داخله، مزخرفة بخشب منقش، وللمسجد ثلاث منارات اثنتان في الجوف وواحدة في الشرق، وحيطان المسجد كلها من داخله مزخرفة بالرخام والذهب والفسيفساء أولها وآخرها، وله ثمانية عشر باباً عتبها مذهبة، وهي أبواب عظيمة لا غلق عليها، أربعة منها في الجوف، وسبعة في الشرق وسبعة في الغرب. وقاع المسجد كله مفروش بالحصى وليس له حصر، ووجه سور المسجد كله من خارج منقش بالكذان، وكذلك الشرفات.
فينبغي للداخل في المسجد أن يأتي الروضة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها روضة من رياض الجنة " فيصلي فيها ركعتين، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فيستدبر القبلة ويستقبل القبر، ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولا يلصق بالقبر فإنه من فعل الجهال، وقد كره ذلك، فإذا فعل ما ذكر استقبل القبلة ودعا بما أمكنه بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا به، ورزقنا شفاعته برحمته، آمين.
صفة مسجد بيت المقدس
وما فيه من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلامطول المسجد سبعمائة ذراع وأربع وثمانون ذراعاً، وعرضه أربعمائة ذراع وخمس وخمسون ذراعاً بذراع الإمام، ويسرج في المسجد ألف قنديل وخمسمائة قنديل، وعدة ما فيه من الخشب ستة آلاف خشبة وتسعمائة خشبة، وعدد ما فيه من الأبواب خمسون باباً، وعدد ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون عموداً، والعمد التي داخل الصخرة ثلاثون عموداً، والعمد التي خارج الصخرة ثمانية عشر عموداً، وفيه الصخرة الملبسة صفائح الرصاص عليها ثلاثة آلاف صفيحة وثلثمائة واثنتان وتسعون صفيحة، ومن فوق ذلك صفائح النحاس مطلية بالذهب يكون عليها عشرة آلاف صفيحة، ومائتان وعشر صفائح، وجميع ما يسرج في الصخرة من القناديل أربعمائة قنديل وأربعة وستون قنديلاً بمعاليق النحاس وسلاسل النحاس، وكان طول صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلاً، وكان أهل أريحاء، يستظلون بظلها، وأهل عمواس مثل ذلك. وكان عليها ياقوتة حمراء تضئ لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها نساء أهل البلقاء. وفي المسجد ثلاث مقاصير للنساء، طول كل مقصورة ثمانون ذراعاً في عرض خمسين ذراعاً، وفيه من السلاسل لتعليق القناديل ستمائة سلسلة، طول كل سلسلة ثمان عشرة ذراعاً، وفيه من غرابيل النحاس سبعون غربالاً، وفيه من الصنوبر التي للقناديل سبع صنوبرات، وفيه من المصاحف الجامعة سبعون مصحفاً، وفيه من الكبار التي في الورقة منها جلد ستة مصاحف على كراسي تجعل فيها، وفيه من المخاريب عشرة، ومن القباب خمس عشرة قبة، وفيه أربعة وعشرون جباً للماء، وفيه أربعة مناور للمؤذنين، وجميع سطوح المسجد والقباب والمنارات ملبسة صفائح مذهبة، وله من الخدم بعيالاتهم مائتا مملوك وثلاثون مملوكاً، يقبضون الرزق من بيت مال المسلمين، ووظيفته في كل شهر من الزيت سبعمائة قسط بالإبراهيمي، وزن القسط رطل ونصف بالكبير، ووظيفته في كل عام من الحصر ثمانية آلاف ووظيفته في كل عام من السراقة لفتائل القناديل اثنا عشر ديناراً ولزجاج القناديل ثلاثة وثلاثون دينارا، ولصناع يعملون في سطوح المسجد في كل عام خمسة عشر ديناراً.
آثار الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام
بيت المقدس

مربط البراق الذي ركبه النبي صلى الله عليه وسلم تحت ركن المسجد، وفي المسجد باب داود عليه الصلاة والسلام، وباب سليمان عليهما الصلاة والسلام، وباب حطة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى " وقولوا حطة " وهي قول لا إله إلا الله، فقالوا: حنطة، وهم يسخرون فلعنهم الله بكفرهم، وباب محمد صلى الله عليه وسلم، وباب التوبة الذي تاب الله فيه على داود، وباب الرحمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه " له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " يعني وادي جهنم الذي بشرقي بيت المقدس، وأبواب الأسباط أسباط بني إسرائيل وهي ستة أبواب، وباب الوليد، وباب الهاشمي وباب الخضر، وباب السكينة. وفيه محراب مريم ابنة عمران رضي الله عنها التي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ومحراب زكريا الذي بشرته فيه الملائكة بيحيى وهو قائم يصلي في المحراب، ومحراب يعقوب، وكرسي سليمان صلوات الله عليه الذي كان يدعو الله عليه، ومغارة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام الذي كان يتخلى فيها للعبادة، والقبة التي عرج النبي ( منها إلى السماء، والقبة التي صلى فيها النبي( بالنبيين، والقبة التي كانت السلسلة تهبط فيها زمان بني إسرائيل للقضاء بينهم، ومصلى جبريل عليه السلام، ومصلى الخضر عليه السلام. فإذا دخلت الصخرة فصل في أركانها وصل على البلاطة التي تسامى الصخرة، فإنها على باب من أبواب الجنة. ومولد عيسى بن مريم على ثلاثة أميال من المسجد. ومسجد إبراهيم عليه السلام وقبره على ثمانية عشر ميلاً من المدينة. ومحراب المسجد بغربيه.
فضائل بيت المقدس ينصب الصراط ببيت المقدس، ويؤتى بجهنم - نعوذ بالله منها - إلى بيت المقدس، وتزف الجنة يوم القيامة زفاً مثل العروس إلى بيت المقدس، وتزف الكعبة بحاجها إلى بيت المقدس، ويقال لها: مرحباً بالزائرة والمزورة. ويزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس.
ومن فضائل بيت المقدس، أن الله رفع نبيه صلى الله عليه وسلم إلى السماء من بيت المقدس، ورفع عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء من بيت المقدس، ويغلب المسيح الدجال على الأرض كلها إلا بيت المقدس، وحرم الله على يأجوج ومأجوج أن يدخلوا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس، والأبدال كلهم من بيت المقدس. وأوصى آدم وموسى ويوسف وجميع أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم أن يدفنوا ببيت المقدس.
نتف من الأخبارفرج بن سلام قال: حدثني سليمان بن المغيرة قال: كنت أجد من أبي أيوب المازني رائحة طيبة ليست برائحة شراب ولا رائحة طيب، فقلت له: أخبرني عن هذه الرائحة، فقال: عفص آمر به، فيدق وينخل، فألته بقطران شامي، ثم آخذ منه كل غداة على إصبعي، فأدلك به أسناني وعمورها، فتطيب نكهتها، وتشتد ثتها وعمورها.
الرياشي قال: كانوا إذا أرادوا جارية مضغت نصف جوزة وأكلتها. فلا تزال طيبة النكهة سائر ليلتها.
عبد الصمد بن همام قال: كتب عامل عمان إلى عمر بن عبد العزيز: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء، فطفت على الماء. فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا خل عنها.
وقال رجل للحسن: أبا سعيد، الملائكة خير أم الأنبياء؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك " . وقال: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون " . وقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " .
العتبي قال: حدثني أبو النصر عن جويبر عن الضحاك، قال: من سمع الأذان في بيته فقام يصلي فقد أجاب.
أبو حاتم: عن العتبي قال: سمى المحرم لأنه جعل حراماً. وصفر لإصفار مكة من أهلها. والربيعان للخصب فيهما. والجماديان لجمود الماء فيهما من شدة البرد. ورجب لترجيب العرب أسنتها. وشعبان لأنه شعب بين رجب ورمضان. ورمضان لإرماض الأرض من الحر. وشوال لأن الإبل شالت بأذنابها فيه لحمها. وذو القعدة لقعودهم فيه عن الغزو من أجل الحج. وذو الحجة للحج.
الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس النحوي، قال: قال لي رؤية وأنا أسأله عن الغريب: حتى متى سألني عن هذه الأباطيل، وأزوقها لك؟ أما ترى الشيب قد أخذ في عارضيك ولحيتك؟

وقال الخليل بن أحمد: إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجلس عند غيره.
الرياشي عن الأصمعي، قال: لا تكون حطمة، حتى يكون قبلها بريق تأتي فتحطم.
ومن حديث أبي رافع، عن أبي ذر: قال قلت: يا رسول الله: صلى الله عليك، كم عدد النبيين؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
أبو بكر بن عياش: عن العجلي، عن قتادة. قال: طول الدنيا مائة ألف وأربعة وعشرون ألف فرسخ.
ومن حديث عبد الله بن عمرو، قال: العرش مطوق بحية، والوحي ينزل في السلاسل.
ومن حديث ابن أبي شيبة، أن العباس بن عبد المطلب، كان أقرب شحمة أذن إلى السماء، وكان إذا طاف بالبيت يشبه بالفسطاط العظيم، وإذا مشى بين قوم تحسبه راكباً.
ومن حديث عروة بن الزبير عن عائشة عن النبي (، قال: خلق الله الملائكة من نور، والجان من نار، وآدم من تراب.
وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى القيامة؟ فقال له: وما أعددت لها؟ لا شيء والله غير أني أحب الله ورسوله. قال: المرء مع من أحب.
زياد عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " إياكم والشرك الأصغر " . قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء " .
زياد عن مالك، قال: إذا لم يكن في الرجل خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره، وإذا رأيت الرجل يستحل مال عدوه فلا تأمنه على مال صديقه.
وقال بعضهم: سمعت حذيفة يحلف لعثمان في شيء بلغه عنه ما قاله، ولقد سمعته يقول فسألته عن ذلك، فقال: يا بن أخي، اشتري ديني بعضه ببعض لئلا يذهب كله.
أخذه الشاعر فقال:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا ولا ما نرقع
زياد عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الغيرة من الإيمان، والمراء من النفاق " .
الأصمعي قال: سأل علي بن أبي طالب الحسن ابنه رضوان الله عليهم: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال، وكيف ذلك؟ قال: الإيمان كل ما سمعته إذناك وصدقه قلبك، واليقين ما رأته عيناك فأيقن به قلبك، وليس بين العين والأذنين إلا أربع أصابع.
الرياشي قال: ضرب علي كرم الله وجهه بيده زانياً، فأوجعه إيجاعاً شديداً. فقال له عم المضروب: بعض هذا الضرب، فقد قتلته. فقال علي رضي الله عنه: إنه وتر من ولدها من قبل أبيها وأمها من النبيين والصالحين إلى آدم.
قال الرياشي: فكنت أعجب من شنعة حد الرجم، فلما سمعت شنعة الذنب هان علي الحد.
الأصمعي عن أبي عمرو قال: دم الحيض غذاء المولود.
أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينشد ضالة له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وجدتها لا وجدتها، إنما المساجد لما بنيت له " .
الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أبوها خليفة، وجدها خليفة، وأخوها معاوية ين يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وولدها يزيد بن عبد الملك خليفة، وأربابها الوليد وسليمان وهشام خلفاء.
قتادة عن أنس بن مالك قال: أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة، فإنه قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: وهم عبد العزى بن يزيد بن خطل، ومقيس بن صبابة الكندي، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة. فأما عبد العزى فإنه قتل وهو معلق بأستار الكعبة. وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وشفع له عنده. وأما مقيس، فإنه كان له أخ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل خطأ، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر، ليأخذ له عقله من الأنصار، فلما اجتمع له العقل أخذه وانصرف مع الفهري، فنام في بعض الطريف فوثب عليه مقيس فقتله، ثم أقبل وهو يقول:
شنى النفس من قد بات بالقاع مسندا ... يضرج ثوبيه دماء الأخادع
قتلت به فهرا، وأغرمت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوتار أول راجع

وأما سارة: فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئاً، ثم أتاها رجل فبعث معها كتاباً إلى أهل مكة يتقرب به إليهم ليحفظ في عياله، وكان عياله بمكة، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب فلحقاها، ففتشاها، فلم يقدرا على شيء، فأقبلا راجعين، ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها. فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، ثم قالا: لتدفعن إلينا الكتاب أو لنذيقنك الموت. فأنكرته، ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا تؤدياني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقبلا منها ذلك، فحلت عقاص رأسها، وأخرجت الكتاب من قرن من قرونها، فرجعا بالكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعاه إليه، فدعا الرجل وقال له: ما هذا الكتاب؟ فقال له: أخبرك يا رسول الله، إنه ليس ممن معك أحد إلا وله بمكة من يحفظه في عياله غيري، فكتبت بهذا الكتاب ليكافئوني في عيالي، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " .
أمر المصعب بن الزبير رجلاً من بين أسد بن خزيمة بقتل مرة بن مكان السعدي، فقال مرة:
بني أسد، إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
وكان ابن سعد الأسدي قد تولى صدقات الأعراب لعمر بن عبد العزيز وأعطياتهم، فقال فيه جرير يشكو عمر:
حرمت عيالاً لا فواكه عندهم ... وعند ابن سعد سكر وزبيب
وقد كان ظني بابن سعد سعادة ... وما الظن إلا مخطئ ومصيب
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاع ليالٍ والأداء قريب
تحيا العظام الراجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب
لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان أبو خيثمة فيمن تخلف عنه، فأقبل وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانها، ومهدت له في ظل حائط. فقال: أظل ممدود، وثمرة رطبة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، في الضح والريح، ما هذا بخير. ثم ركب ناقته ومضى في إثره. فقالوا: يا رسول الله، نرى رجلاً يرفعه الآل، فقال: كن أبا خيثمة. فكانه.
الضح: الشمس، تقول العرب في أمثالها: " جاء فلان بالضح والريح " ، إذا أقبل بخير كثير.
نتف من الطيبقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم " . يريد ما نزعتم عن القسي، ونزوتم على ظهور الخيل، وإنما أراد الحركة والله أعلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سافروا تصحوا " .
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط: الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه. وأما المشي فإن من لم يتعاهده أوشك أن يطلبه فلا يجده. وأما الجماع فإنه كالبئر، إن نزحت، جمت، وإن تركت تخثر ماؤها، وحق هذا كله القصد فيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من استقل برأيه فلا يتداوى. فرب دواء يورث الداء " .
وقال الحكماء: إياك وشرب الدواء ما حملتك الصحة.
وقالوا: مثل الدواء في البدن مثل الصابون في الثوب، ينقيه ويخلقه.
الأصمعي عن رجل عن عمه قال: لقيت طبيب كسرى شيخاً كبيراً قد شد حاجبيه بخرقة، فسألته عن دواء المشي، فقال: سهم يرمى به في جوفك أصاب أم أخطأ.
وفي كتاب التفصيل للهند: الدواء من فوق والدواء من تحت، والدواء لا من فوق ولا من تحت.
تفسيره: من كان داؤه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن بالدواء، ومن لم يكن له داء لا من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء ولم يحقن به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس: " بم كنت تستمشين في الجاهلية؟ قالت: بالشبرم. قال: حار بار، ثم قالت: استمشيت بالسنا. قال: لو أن شيئاً يرد القدر لرده السنا.
ومن حديث أبي هريرة:أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، وهم يتذاكرون الكمأة، ويقولون فيها: جدري الأرض، فقال: إن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، وهي شفاء من السم.

وأهدى تميم الداري إلى النبي صلى الله عليه وسلم زبيباً، فلما وضعه بين يديه قال لأصحابه: " كلوا فنعم الطعام الزبيب، يذهب النصب، ويشد العصب، ويطفئ الغضب، ويصفي اللون، ويطيب النكهة، ويرضي الرب " .
وقال طلحة بن عبد الله: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في جماعة من أصحابه، وفي يده سفرجلة يقلبها، فلما جلست إليه دحرج بها نحوي، وقال: دونكها أبا محمد، فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاء الصدر " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أربع من النشر: شرب العسل نشرة، والنظر إلى الماء نشرة، والنظر إلى الخضرة نشرة، والنظر إلى الوجه الحسن نشرة " .
وقال عثمان بن عفان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من بلغ الخمسين أمن الأدواء الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص " .
ومن حديث زيد بن أسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما انزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله " .
ومن حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل الدواء الذي أنزل الداء " .
ومن حديث زيد بن أسلم أن رجلاً أصابه جرح في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رجلين من بني أنمار، فقال: أيكما أطل؟ فقال له رجل من أصحابه: في الطب خير؟ قال: " إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب " .
يريد القسط الهندي، وهو الذي تسميه العامة الكست.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بهذه الحبة السوداء؛ فإن فيها دواء من كل داء إلا السام " يعني الشونيز.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يحد البصر، وينبت الشعر " .
وفيه: أن عبد الله بن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل.
الأصمعي قال: ثلاث ربما صرعت أهل البيت عن آخرهم: الجراد، ولحوم الإبل، والفطر، وهو الفقع.
ويقول أهل الطب: إن أردأ الفطر في ظلال الشجر، ولا سيما في ظلال الزيتون، فإنه قتال.
وقال وهب بن منبه: إذا صام الرجل زاغ بصره، فإذا أفطر على الحلوى رجع إليه البصر.
وأقبل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني كنت في الجاهلية ذا فطنة وذا ذهن، وأنكرت نفسي في الإسلام. فقال له: أكنت تنام في القائلة؟ قال: نعم. قال: " فعد إلى ما كنت عليه من نوم القائلة " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالشجرة التي كلم الله منها موسى بن عمران، زيت الزيتون فادهنوا به، فإن فيه شفاء من الباسور " .
وقال: في الزيتونة يقول الله: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " .
ويقول الأطباء: إذا خرج الطعام من قبل ست ساعات فهو من ضرر، وإذا أقام في الجوف أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو من ضرر.
دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال له معاوية: أنكرت من نفسي خصلتين: قل طعمي، ورق عظمي. فإن تدثرت بالثقيل أثقلني، وإن تدثرت بالخفيف أصابني البرد. قال: نم يا أمير المؤمنين بين جاريتين سمينتين يدفئانك بشحومهما، ويحملان عنك ثقل الدثار بمناكبهما. وأكثر من الألوان، وكل من كل لون ولو لقمة، فإن ذلك إذا اجتمع نفع. فدخل عليه بعد ذلك فقال له معاوية: يا أعور، قد جربنا ما قلت فوجدناه موافقاً.
التعويذ والرقيأبو بكر بن أبي شيبة عن عقبة عن شعبة عن أبي عصمة قال: سألت سعيد بن المسيب عن تعليق التعويذ؟ قال: لا بأس به.
وكان مجاهد يكتب للصبيان التعويذ ويعلقه عليهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة، لم يضره عين ولا حية ولا عقرب.
وفي مسند ابن أبي شيبة: إن خالد بن الوليد كان يفزع في نومه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " أخبرني جبريل أن عفريتاً من الجن يكيدك، فقل: أعوذ بكلمات الله التامة المباركات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر كل ذي شر " . فقالهن خالد، فذهب ذلك عنه.
وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ولا رقية إلا من عين أو حمة " . والحمة: السم.

سفيان بن عيينة قال: بينا عبد الله بن مسعود جالساً تعرض عليه المصاحف، إذ أقبلت أعرابية فقالت: أبا فلان، لرجل جالس إليه: لقد لدغ مهرك، وتركته كأنه يدور في فلك، فقم واسترق له. فقال له ابن مسعود: لا تسترق له، واذهب فانفث في منخره الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً، وقل: أذهب الباس، يا رب الناس، فإنه لا يذهبه إلا أنت. ففعل، فلم يبرح حتى أكل وشرب وبال وراث.
دخل أبو بكر على عائشة وهي تشتكي، ويهودية ترقيها، فقال لها: ارقيها بكتاب الله.
الحجامة والكيقال عبد الله بن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه من أذى كان به.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحجم في فأس رأسه، فقال: ما هذا؟ قال: " هذا خير ما تداويتم به " .
وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير ما تداويتم به الحجامة والقسط العربي، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة " .
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير يوم تحتجمون فيه سبعة عشر، وتسعة عشر، وأحد وعشرون.
وفيه أنه قال: " إن كان في شيء مما تعالجون به خير ففي شرطة من محجم أو لذعة من نار تواقع ألماً، أو شربة من عسل، وما أحب أن أكتوي " .
السم والسحرفي مسند ابن أبي شيبة: أن يهود خيبر أهدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجمعوا لي من هاهنا من اليهود " . فجمعوا له. فقال لهم: هل جعلتم في هذا الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك السم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري " .
الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام، وعنده الحارث ابن كلدة طبيب العرب، فأكلا منه، فقال الحارث، لأبي بكر: لقد أكلنا والله في هذا الطعام سم سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول، فماتا جميعاً عند انقضاء السنة.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن رجلاً من اليهود سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى لذلك أياماً، فأتاه جبريل فقال له: إن رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً وجعلها في مكان كذا وكذا. فأرسل عليا رضي الله عنه فاستخرجها، وجاء بها، فجعل يحلها، فكلما حل عقدة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خفة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما أنشط من عقال.
وفي مسند لبن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: " طب رسول الله صلى الله عليه وسلم - والطب: السحر - فبعث إلى رجل فرقاه " .
العينتقول العرب: رجل معين، إذا أخذ بالعين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سبق القدر شيء لسبقته العين.
وتقول العرب: إن العين تسرع بالإبل إلى أوصامها، وبالرجال إلى أسقامها.
ونظر عامر بن أبي ربيعة إلى سهل بن حنيف يستحم، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، قال: فلبط به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عامر ابن أبي ربيعة أن يتوضأ له ثم يطهره بمائه، ففعل، فقام سهل بن حنيف كأنما أنشط من عقال.
أبيات في الطب
وجدناها في كتاب فرج بن سلامالنافجاء بشيرج ملتوت ... فيه شفاء للرياح مميت
يغلى لذلك حلبة في مائها ... تسقيه مصطحبا وحين يبيت
وقال:
ليس شيء أنفى عن الجسم للري ... ح من الأنجدان والمحروث
وقال:
في الحرف سبعون دواء وفي الكم ... مون فيما قيل ستونا
قد قاله هرمس في كتبه ... فلا تدع حرفاً وكمونا
وقال:
بسعتر بر داو كل مبلغم ... وذا المرة الصفراء بالرازيانق
وذو المرة السوداء ذاك علاجه ... تعاهد فصد العرق من كفٍ حاذق
وذو الدم فليكثر حجامة ... فما غيرها شيء له بموافق
وقال:
لا تكن عند أكل سخن وبهر ... ودخول الحمام تشرب ماء
فإذا ما اجتنبت ذلك منه ... لم تخف ما حييت في الجوف داء
وقال:
إن أردت الرقاد في الليل فاجعل ... قطنة عندها على الأذنين

فيه تظهر السلامة للأذ ... نين مما يضر بالعينين
وقال:
لا تشرب الماء بعد النوم من ظمأ ... ولا تبت أبداً من غير منتفض
فجوف من بات من ماء ومن ثقل ... ومن رياح دعا كلا إلى مرض
وقال:
احس في الحمام ماء سخنا ... وليكن ذلك في البيت السخن
يسلم البطن من الداء ولا ... يعتريه وجع طول الزمن
وقال:
إن دخلت الحمام فاضرب على رأ ... سك بالماء السخن سبع مرات
فيه تظهر السلامة من كل ... ل صداع بقدرة الجبار
وقال:
لا تجامع ولا تمطى ولا تد ... خل إذا ما شبعت في الحمام
فهو دفع لكل ما يتقيه ال ... مرء من فالج وكل سقام
وقال:
ما كان في الرأس أخرجه بغرغرة ... فالقيء يخرج ما في الصدر من عفن
وكل ما كان في الصلب فذلك لا ... يستل إلا بإخلاط من الحقن
وقال:
على الريق في البرد احس ماء مسخناً ... وفي الصيف ماء بارداً حين تصبح
وذلك فيما قيل فيه مصحة ... وذاك على إدمانه الجسم يصلح
وقال:
إن من باكر الغداء وبعد ال ... عصر منه تعاهد للعشاء
فبإذن الإله يبقى صحيحاً ... سالماً في الحياة من كل داء
وقال:
إن رأس الطب إن تد ... لك بالزنبق دلكا
باطني رجليك عند الن ... نوم ينفى السقم عنكا
وقال:
شجر البراغيث الكريه مشمه ... يبري بإذن الله من داء الحبن
وقال:
إن السواك ليستحب لسنة ... ولأنه مما يطيب به الفم
لم تخش من حفر إذا أدمنته ... وبه يسيل من اللهاة البلغم
وقال:
احتجم بين كل شهرين ولتل ... ف على أثرة من الأيام
سبعة منك للزبيب بلا عج ... م تبديه قبل كل طعام
فهو للعين وللهاة وللحل ... ق أمان له من الأسقام
وقال:
ولا تغط الرأس في وقت ما ... تخرج من الحمام واخش الضرر
إن بخار الرأس في وقت ما ... وصفته داءٌ يصيب البصر
وقال:
إن الجماع على الحمام مصحة ... ولذاذة تاهت على اللذات
وقال:
السمك المالح إن لم يكن ... بد من الأكل له فانعم
بالطبخ أكثر زيته ثم كل ... من قبل مأدوماً من المطعم
وقال:
اطل منك الشعر في كل ... ل أربعاً لا تدور
وليكن غسلك بالبا ... رد منه والطهور
إنه يزعر منه ... شعر الجسم الكثير
إنني طب بما يج ... هله الناس خبير
وحدث محمد بن إبراهيم الوراق قال: حدثني محمد بن عبيد الله بن الحارث بن إسحاق بمصر قال: حدثنا محمد بن داود بن أبي ناجية قال: حدثنا زياد بن يونس الحضرمي، عن محمد بن هلال المدني عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها. فقال: إنها تذكر كثرة الجماع. قال: يا رسول الله، أفأزني؟ قال: لا، ولكن إذا جاءنا سبي، فتعال حتى نعطيك جارية. فقدم عليه سبي، فجاء إليه، فقال له: يا رسول الله، وعدي! فقال له: اختر. فقال له: اختر لي. فقال: " خذ هذه، فإني أراها زرقاء، فلعلها " . قال: فما لبثنا أن جاءت المرأة، فقالت: يا رسول الله، ما زاده الأمر إلا تجدداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، أفأزني؟ قال: لا. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسكثر الأطلاء. قال: نعم. قال: " فأقل اطلاءك يقل جماعك " .
قال محمد: قال لي ابن أبي ناجية: وأنا كما تراني شيخ كبير، قد أتى علي ثمانون سنة، إذا أحببت الوطء اطليت في كل خمس عشرة ليلة.
الهداياكتب سعيد بن حميد إلى بعض أهل السلطان في يوم النيروز:

أيها السيد الشريف، عشت أطول الأعمار، بزيادةٍ من العمر، موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضي حق نعمة حتى تجدد لك أخرى، ولا يمر بك يوم إلا كان مقصراً عما بعده، موفياً على ما قبله. إني تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة، فالتمست التأسي بهم في الإهداء، وإن قصرت بي الحال عن الواجب، وإني وإن أهديت نفسي فهي ملك لك، لا حظ فيها لغيرك، ورميت بطرفي إلى كرائم مالي، فوجدتها منك. فكنت إن أهديت منها شيئاً كمهدي مالك إليك، وفزعت إلى مودتي، فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة، فرأيت إن جعلتها هديتي لم أجدد لهذا اليوم الجديد براً ولطفاً، ولم أميز منزلة من الشكر بمنزلة من نعمتك، إلا كان الشكر مقصراً عن الحق والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة، فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك براً أتوصل به إليك، وقلت في ذلك:
إن أهد مالاً، فهو واهبه ... وهو الحقيق عليه بالشكر
أو أهد شكراً، فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنة البدر
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك: النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمل مصروف نحوك، فما عسى أن أهدي إليك في هذا اليوم، وهو يوم سهلت فيه العادة سبيل الهدايا للسادة، وكرهت أن نخليه من سنته، فنكون من المقصرين، أو أن ندعي أن في وسعنا ما يفي بحقك علينا، فنكون من الكاذبين، فاقتصرنا على هدية تقضي بعض الحق، وتنفي بعض الحقد، وتقوم عندك مقام أجمل البر. ولا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة، في أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمر بك الأعياد الصالحة، والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد، تستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها. وقد بعثت الرسول بالسكر لطيبه وحلاوته، والسفرجل لفأله وبركته، والدرهم لبقائه عند كل من ملكه، ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مراً على أعدائك، متقدماً عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك وتحسن أفنيتهم بمثلك. وقد جمعنا في هذه القصيدة ثناء ومسرةً واعتذاراً وتهنئة. وهي:
غاد في المهرجان كأساً شمولا ... وأطعني ولا تطيعن عذولا
فهو يوم قد كان آباؤك الغ ... ر يحلونه محلاً جليلا
إن للصيف دولة قد تقضت ... وأراك الشتاء وجهاً جميلا
وتجلت لك الرياض عن النو ... ر فكانت من كل شيء بديلا
فتمتع باللهو، لا زلت جذلا ... ن وطرف الزمان عنك كليلا
يعدل الشكر والثناء، وإن لم ... يك شكري لما أتيت عديلا
فجعلت الذي أطيق من الشكر ... على ما عجزت عنه دليلا
يا لها من هدية تقنع المه ... دى إليه ولا تعني الرسولا
وكتب بعض الشعراء إلى بعض أهل السلطان في المهرجان: هذه الأيام جرت فيها العادة، بإلطاف العبيد للسادة، وإن كانت الصناعة تقصر عما تبلغه الهمة، فكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب، فجعلت هديتي هذه الأبيات، وهي:
ولما أن رأيت ذوي التصافي ... تباروا في هدايا المهرجان
جعلت هديتي وداً مقيماً ... على مر الحوادث والزمان
وعبداً حين تكرمه ذليلاً ... ولكن لا يقر على الهوان
يزيدك حين تعطيه خضوعاً ... ويرضى من نوالك بالأماني
وأهدى أبو العتاهية إلى بعض الملوك نعلاً وكتب معها:
نعل بعثت بها لتلبسها ... تسعى به قدم إلى المجد
لو كان يصلح أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي
وأهدى علي بن الجهم كلباً، وكتب:
استوص خيراً به فإن له ... عندي يداً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق ال ... ليل إذا النار نام موقدها
أهدى أحمد بن يوسف ملحاً طيباً إلى إبراهيم بن المهدي، وكتب إليه: الثقة بك سهلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم.
وأهدى إبراهيم بن المهدي إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي جراب ملح، وجراب أشنان، وكتب إليه:

لولا إن القلة قصرت عن بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برك، ولكن البضاعة قعدت بالهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر، فبعثت بالمبتدأ به ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته. وأما ما سوى ذلك فالمعبر عنا فيه كتاب الله تعالى إذ يقول: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج " . إلى آخر الآية.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى صديق له: لو كانت التحفة على حسب ما يوجه حقك لأجحف بنا أدنى حقوقك، ولكنه على قدر ما يخرج الوحشة، ويوجب الأنس وقد بعثت بكذا وكذا.
وكتب رجل إلى المتوكل على الله وقد أهدى إليه قارورة من دهن الأترج: إن الهدية يا أمير المؤمنين، إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أنفع وأوقع. وأرجو أن لا تكون قصرت بي همة أصارتني إليك، ولا أخرني إرشاد دلني عليك، وأقول:
ما قصرت همة بلغت بها ... بابك يا ذا الندى وذا الكرم
حسبي بوديك أن ظفرت به ... ذخراً وعزاً يا واحد الأمم
أهدى حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب قلماً، وكتب معه إليه هذه الأبيات:
قد بعثنا إليك أكرمك الل ... ه بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل
فاستجز قلة الهدية مني ... إن جهد المقل غير قليل
ومن قولنا في هذا المعنى وقد أهديت سلي عنب ومعهما:
أهديت بيضاً وسداً في تلونها ... كأنها من بنات الروم والحبش
عذراء تؤكل أحياناً وتشرب أح ... يانا فتعصم من جوع ومن عطش
وأهديت حوتين وكتبت معهما:
أهديت أزرق مقروناً بزرقاء ... كالماء لم يغذها شيء سوى الماء
ذكاتها الاخذ ما تنفك طاهرة ... بالبر والبحر أمواتاً كأحياء
وأهديت طبق ورد ومعه:
رياحين أهديها لريحانة المجد ... جنتها يد التخجيل من حمرة الخد
وورد به حييت غرة ما جد ... شمائله أذكى نسيماً من الورد
ووشي ربيع مشرق اللون ناضر ... يلوح عليه ثوب وشي من الحمد
بعثت بها زهراء من فوق زهرة ... كتركيب معشوقين خداً على خد
وكتبت على كأس:
اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... واحذر على خصرها الرقيق
وقل لمن لاعم في التصابي ... إليك خل عن الطريق
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في هذا المعنى:
ما ترى في هدية من فقير ... حيل ما بينه وبين اليسار
يغرب الناس في الهدايا إلى النا ... س، ويهدي غرائب الأشعار
محكماتٍ كأنها قطع الرو ... ض تحلت أنوارها بالبهار
وأنشد يزيد بن المهلب في المعتمد:
سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المهرجان
قصائد تملأ الآفاق مما ... أحل الله من سحر البيان
وقال آخر:
جعلت فداك، للنيروز حق ... وأنت علي أوجب منه حقا
ولو أهديت فيه جميع ملكي ... لكان جميعه لك مسترقا
وأهديت الثناء بنظم شعر ... وكنت لذاك مني مستحقا
لأن هدية الألطاف تفنى ... وأن هدية الأشعار تبقى
وقال حبيب:
فوالله لا أنفك أهدي شوارداً ... إليك يحملن الثناء المنخلا
ألذ من السلوى وأطيب نفحةً ... من المسك مفتوقاً وأيسر محملا
وقال مروان بن أبي حفصة:
بدولة جعفر حمد الزمان ... لنا بك كل يوم مهرجان
جعلت هديتي لك فيه وشياً ... وخر الوشي ما نسج اللسان
وقال أحمد بن أبي طاهر:
من سنة الأملاك فيما مضى ... من سالف الدهر وإقباله
هدية العبد إلى ربه ... في جدة الدهر وأحواله
فقلت ما أهدي إلى سيدي ... حالي وما خولت من حاله

إن أهد نفسي فهي من نفسه ... أو أهد مالي فهو من ماله
فليس إلا الحمد والشكر والم ... دح الذي يبقى لأمثاله
وقال الحمدوني، وأهدى إليه سعيد بن حميد أضحية مهزولة، فقال فيها:
لسعيد شويهة ... نالها الضر والعجف
فتغنت وأبصرت ... رجلاً حلاملاً علف
"
بأبي من بكفه ... برء دائي من الدنف "
فأتاها مطعماً ... وأتته لتعتلف
ثم ولى فأقبلت ... تتغنى من الأسف
"
ليته لم يكن وقف ... عذب القلب وانصرف "
وقال الحمدوني: كتبت إلى الحسن بن إبراهيم، وكان كل سنة يبعث إلي بأضحية، فتأخر عني سنة فكتبت إليه:
سيدي أعرض عني ... وتناسى الود مني
مر بي أضحى وأضحى ... أخلفاني فيه ظني
لا يراني فيهما أه ... لا لظلف ولقرن
فتعزيت بيأس ... ثم ضحيت بجني
واصطحبت الراح يوماً ... ثم أنشدت أغني
لا يجرم صد عني ... صد عني بالتجني
أهدت جارية من جواري المأمون تفاحة له، وكتبت إليه: إني يا أمير المؤمنين لما رأيت تنافس الرعية في الهدايا إليك، وتواتر ألطافهم عليك، فكرت في هدية تخف مؤونتها، وتهون كلفتها، ويعظم خطرها، ويجل موقعها، فلم أجد ما يجتمع فيه هذا النعت، ويكمل فيه هذا الوصف إلا التفاح، فأهديت إليك منها واحدة في العدد، كثير في التصرف، وأحببت يا أمير المؤمنين أن أعرب لك عن فضلها، وأكشف لك عن محاسنها، وأشرح لك لطيف معانيها، ومقالة الأطباء فيها، وتفنن الشعراء في وصفها، حتى ترمقها بعين الجلالة، وتلحظها بمقلة الصيانة، فقد قال أبوك الرشيد رضي الله عنه: أحسن الفاكهة التفاح، اجتمع فيه الصفرة الدرية، والحمرة الخمرية، والشقرة الذهبية، وبياض الفضة، ولون التبر، يلذ بها من الحواس العين ببهجتها، والأنف بريحها، والفم بطعمها. وقال أرسطا طاليس الفيلسوف، عند حضوره الوفاة، واجتمع إليه تلاميذه: التمسوا لي تفاحة أعتصم بريحها، وأقضي وطري من النظر إليها. وقال إبراهيم بن هانئ: ما علل المريض المبتلى، ولا سكنت حرارة الثكلى ولا ردت شهوة الحبلى، ولا جمعت فكرة الحيران، ولا سلت حسيفة الغضبان ولا تحيت الفتيان في بيوت القيان، بمثل التفاح. والتفاحة يا أمير المؤنين إن حملتها لم تؤذك، وإن رميت بها لم تؤلمك، وقد اجتمع فيها ألوان قوس قزح من الخضرة والحمرة والصفرة، وقال فيها الشاعر:
حمرة التفاح مع خضرته ... أقرب الأشياء من قوس قزح
فعلى التفاح فاشرب قهوةً ... واسقنيها بنشاط وفرح
ثم غن الآن كي تطربني ... طرفك الفتان قلبي قد جرح
فإذا وصلت إليك يا أمير المؤمنين فتناولها بيمينك، واصرف إليها يقينك، وتأمل حسنها بطرفك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينك، ولا تبذلها لخدمك، فإذا طال لبثها عندك، ومقامها بين يديك، وخفت أن يرميها الدهر بسهمه، ويقصدها بصرفه، فيذهب بهجتها، ويحيل نضرتها، فكلها.
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المأمون: احملوا إليها من كل ما أهدي لنا في هذا اليوم.
وكتب العباس الهنداني إلى المامون في يوم نيروز:
أهدى لك الناس المرا ... كب والوصائف والذهب
وهديتي حلو القصا ... ئد والمدائح والخطب
فاسلم سلمت على الزما ... ن من الحوادث والعطب
كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب
فرش الكتابقال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان والنتف، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الطعام والشراب اللذين بهما نمو الغراسة، وهما قوم الأبدان، وعليهما بقاء الأرواح.
قال المسيح عليه الصلاة والسلام في الماء: هذا أبي، وفي الخبز، هذا أمي. يريد أنهما يغذيان الأبدان كما يغذيها الأبوان.

وهذا الكتاب جزآن، جزء في الطعام، وجزء في الشراب. فالذي في الطعام منهما متقص جميع ما يتم ويتصرف به أغذية الطعام، من المنافع والمضار، وتعاهد الأبدان بما يصلحها من ذلك في أوقاته، وضروب حالاته واختلاف الأغذية مع اختلاف الأزمنة بما لا يخلي المعدة وما لا يكظها، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
والذي في الشراب منهما مشتمل على صفوف الأشربة، وما اختلف الناس فيه من الأنبذة، ومحمود ذلك ومذمومه، فإنا نجد النبيذ قد أجازه قوم صالحون، وكرهه قوم صالحون.
وقد وضعنا لكل شيء من ذلك باب، فيحتاط كل رجلٍ لنفسه بمبلغ تحصله، ومنتهى نظره، فإن الرائد لا يكذب أهله.
أطعمة العربالوشيقة من اللحم، وهو أن يغلى إغلاءةً ثم يرفع، يقال منه وشقت أشق وشقا، قال الحسن بن هانئ:
حتى رفعنا قدرنا بضرامها ... واللحم بين موذم وموشق
والصفيف مثله، ويقال: هو القديد، يقال: صففته أصفة صفاً.
والربيكة: شيء يطبخ من بر وتمر، ويقال: منه ربكته أربكه ربكاً.
والبسيسة: كل شيء خلطته بغيره، مثل السويق بالأقط، ثم تلته بالسمن أو بالزيت، أو مثل الشعير بالنوى للإبل، يقال: بسسته أبسه بساً.
والعبيثة: بالعين غير معجمة: طعام يطبخ ويجعل فيه جراد، وهو الغثيمة أيضاً.
والبغيث والعليث: الطعام المخلوط بالشعير. فإذا كان فيه الزؤان فهو المعلوث.
والبكيلة والبكالة جميعاً: وهي الدقيق يخلط بالسويق، ثم يبل بماء أو سمن أو زيت، يقال: بكلته أو أبكله، بكلاً.
والفريقة: شيء يعمل من اللبن.
فإذا قطعت اللحم صغاراً قلت: كتفته تكتيفاً.
أبو زيد قال: إذا جعلت اللحم على الجمر قلت: حسحسته، وهو أن تقشر عنه الرماد بعد أن يخرج من الجمر. فإذا أدخلته النار ولم تبالغ في طبخه قلت: ضهبته، وهو مضهب.
والمضيرة سميت بذلك لأنها طبخت باللبن الماضر، وهو الحامض والهريسة لأنها تهرس. والعصيدة لأنها تعصد أي تلوى، واللفيتة لأنها تلفت.
والفالوذ: وهو السرطراط. ومن أسماء الفالوذ أيضاً: السريط، لأنه يسترط مثل يزدرد. ويقال: " لا تكن حلوا فتسترط، ولا مراً فتعقي " .
يقال: أعقى الشيء: اشتدت مرارته.
الرغيدة: اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق لعقاً.
الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق.
والسخينة: حساء كانت تعمله قريش في الجاهلية، فسميت به، قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
والعكيس: الدقيق يصب عليه الماء ثم يشرب: قال منظور الأسدي:
ولما سقيناها العكيس تمذحت ... خصواصرها وازداد رشحاً وريدها
تمذحت، أي انتفخت.
أسماء الطعامالوليمة: طعام العرس. والنقيعة: طعام الإملاك. والإعذار: طعام الختان. والخرس: طعام الولادة. والعقيقة: طعام سابع الولادة. والنقيعة: طعام يصنع عند قود الرجل من سفره؛ يقال: أنقعت إنقاعاً. والكيرة: طعام يصنع عند البناء يبنيه الرجل في داره. والمأدبة: كل طعام يصنع لدعوة، يقال: آدبت أودب إيداباً. وأدبت أدباً. قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
الآداب: صاحب المأدبة. والجفلى: دعوة العامة. والنقري: دعوة الخاصة.
والسلفة: طعام يتعلل به قبل الغداء. والقفي: الطعام الذي يكرم به الرجل، يقال منه: قفوته فأنا أقفوه قفواً. والقفاوة: ما يرفع من المرق للإنسان، قال الشاعر:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونحسبه إن كان ليس بجائع
صفة الطعامقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز فإن الله سخر له السموات والأرض. وكلوا سقط المائدة.
وقال الحسن البصري: ليس في الطعام سرف، وتلا قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " .
وقال الأصمعي: الكبادات أربعة: العصيدة، والهريسة، والحيس، والسميذ.
أبو حاتم: والسويق طعام المسافر، والعجلان، والحزين والنفساء، وطعام من لا يشتهي الطعام.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: قال أبو صوارة: الأرز الأبيض بالسمن المسلي والسكر الطبرزذ ليس من طعام أهل الدنيا.
وقال مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أكل الخبيص يزيد في الدماغ.

وقال الحسن لفرقد السبخي: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج! قال: يا أبا سعيد أخاف أن لا أؤدي شكره! قال: يا لكع، وهل تؤدي شكر الماء البارد في الصيف، والحار في الشتاء؟ أما سمعت قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما كسبتم " .
وسمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج، فقال: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم.
وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض إلي من الزبد والكمأة. فقال الأحنف: " رب ملوم لا ذنب له " .
وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب، اللوزينق أو الجوزينق؟ فقال: لا أحكم على غائب! ولد لعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام فصنع الأخبصة، ودعا الناس، وفيهم مساور الوراق، فلما أكلوا قال مساور الوراق:
من لم يدمم بالثريد سبالنا ... بعد الخبيص فلاهناه الفارس
الرقاشي قال: أخبرنا أبو هفان أن رقبة بن مصقلة طرح نفسه بقرب حماد الراوية في المسجد، فقال له حماد: ما لك؟ قال: صريع فالوذج. قال له حماد: عند من؟ فطالما كنت صريع سمك مملوح خبيث. قال: عند حكم في الفرقة وفصل في الجماعة. قال: وما أكلتم عنده؟ قال: أتانا بالأبيض المنضود، والملوز المعقود، والذليل الرعديد، والماضي المودود.
محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلال بن أبي بردة، وهو أمير على البصرة للجاوود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده متصحباً، يعني نائماً، فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن لنا فنساقطه الحديث، فإن حدثناه أحسن الاستماع، وإن حدثنا أحسن الحديث، ثم يدعو بمائدته، وقد تقدم إلى جواريه وأمهات أولاده أن لا تلطفه واحدة منهن إلا إذا وضعت مائدته، ثم يقبل خبازه، فيمثل بين يديه، فيقول: ما عندك اليوم؟ فيقول: عندي كذا عندي كذا، فيعدد كل ما عنده، ويصفه، يريد بذلك أن يحبس كل رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام، وتقبل الألطاف من هاهنا وهاهنا، وتوضع على المائدة، ثم يؤتى بثريدة شهباء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من العراق، فنأكل معه، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون جثا على ركبتيه، ثم استأنف الأكل معهم. فقال أبو بردة: لله در عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس.
وحضر أعرابي طعام عبد الأعلى، فلما وقف الخباز بين يديه ووصف ما عنده قال: أصلحك الله، أتأمر غلامك يسقيني ماء؟ فقد شبعت من وصف هذا الخباز.
وقال له عبد الأعلى يوماً: ما تقول يا أعرابي لو أمرت الطباخ فعمل لون كذا، ولون كذا؟ قال: أصلحك الله لو كانت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع سجود.
أبو عبيدة قال: مر الفرزدق بيحيى بن المنذر الرقاشي فقال له: هل لك أبا فراس في جدي رضيع، ونبيذٍ صليب منشراب الزبيب؟ قال: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة.
وقال الأحوص لجرير لما قدم المدينة: ماذا ترى أن نعد لك؟ قال: شواء وطلاء، وغناء. قال: قد أعد لك.
وقال مساور الوراق في وصف طعام:
اسمع بنعتي للملوك ولا تكن ... فيما سمعت كميت الأحياء
إن الملوك لهم طعامٌ طيب ... يستأثرون به على الفقراء
إني نعت لذيذ عيشي كله ... والعيش ليس لذيذه بسواء
ثم اختصصت في اللذيذ وعيشه ... صفة الطعام لشهوة الحلواء
فبدأت بالعسل الشديد بياضه ... شهد تباكره بماء سماء
إني سمعت لقول ربك فيهما ... فجمعت بين مبارك وشفاء
أيام أنت هناك بين عصابة ... حضروا ليوم تنعم أكفاء
لا ينطقون إذا جلست إليهم ... فيما يكون بلفظةٍ عوراء
متنسمين رياح كل هبوبة ... بين النخيل بغرفة فيحاء
فقعدت ثم دعوت لي بمبذرف ... متشمر يسعى بغير رداء
قد لف على عضلاته ... قلص القميص مشمر سعاء
فأتى بخبز كالملاء منقط ... فبناه فوق أخاون الشيزاء
حتى ملاها ثم ترجم عندها ... بالفارسية داعياً بوحاء
فإذا القصاع من الخلنج لديهم ... تبدن جوانبها مع الوصفاء

ارفع وضع وهنا وهاك وهاهنا ... قصف الملوك ونهمة القراء
يؤتون ثم بلون كل طريفة ... قد خالفته موائد الخلفاء
من كل فرني وجدي راضع ... ودجاجة مربوبة عشواء
ومصوص دراج كثير طيب ... ونواهض يؤتى بهن شواء
وثريدة ملمومة قد سقفت ... من فوقها بأطايب الأعضاء
وتزينت بتوابل معلومة ... وخبيصاتٍ كالجمان نقاء
هذا الثريد وما سواه تعلل ... ذهب الثريد بنهمتي وهوائي
ولقد كلفت بنعت جدي راضع ... قد صنته شهرين بين رعاء
قال نال من لبن كثير طيب ... حتى تفتق من رضاع الشاء
من كل أحمر لا يقر إذا ارتوى ... من بين رقص دائم ونزاء
متعكن الجنبين صافٍ لونه ... عبل القوائم من غذاء رخاء
فإذا مرضت فداوني بلحومها ... إني وجدت لحومهن دوائي
ودع الطبيب ولا تثق بدوائه ... ما خالفتك رواضع الجزاء
إن الطبيب إذا حباك بشربة ... تركتك بين مخافة ورجاء
وإذا تنطع في دواء صديقه ... لم يعد ما في جونة الرقاء
نعت الطبيب هليلجاً وبليلجاً ... ونعت غيرهما من الحلواء
رطب المشان مجزعاً يؤتى به ... والرازقي فما هما بسواء
وبنانياً زرقاً كأن بطونها ... قطع الثلوج نقية الأمعاء
ليست بآكلة الحشيش ولا التي ... يبتاعها الخناق في الظلماء
باب آداب الأكل والطعامقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الأكل في السوق دناءة " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " سموا إذا أكلتم، واحمدوا إذا فرغتم " . وكان يلطع أصابعه بعد الطعام.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعد الطعام ينفي اللمم.
ومن الأدب في الوضوء أن يبدأ صاحب البيت فيغسل يديه قبل الطعام، ويقدم أصحابه بعد الطعام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " املكوا العجين فإنه أحد الريعين " .
وكان فرقد يقول لأصحابه: إذا أكلتم فشدوا الإزار على أوساطكم، وصغروا اللقم، وشدوا المضغ، ومصوا الماء، ولا يحل أحدكم إزاره فيتسع معاه، ويأكل كل واحد ما بين يديه.
وقالوا: كان ابن هبيرة يباكر الغداء، فسئل عن ذلك فقال: إن فيه ثلاث خصال: أما الواحدة: فإنه ينشف المرة، والثانية: أنه يطيب النكهة، والثالثة: أنه يعين على المروءة. فقيل له: وكيف يعين على المروءة؟ قال: إذا خرجت من بيتي وقد تغديت، لم أتطلع إلى طعام أحدٍ من الناس.
البطنة وقولهم فيهاقالوا: البطنة تذهب الفطنة.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأليون، ملك الروم: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل ما وجد.
وحضر أبو بكرة سفرة معاوية ومعه ولده عبد الرحمن، فرآه يلقم لقماً شديداً، فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة، فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اعتل. قال: مثله لا يعدم العلة.
ورأى أبو الأسود الدؤلي رجلاً يلقم لقماً منكراً، فقال: كيف اسمك؟ قال: لقمان، قال: صدق الذي سماك.
ورأى أعرابي رجلاً سميناً، فقال له: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك.
وقعد أعرابي على مائدة المغيرة، فجعل ينهش ويتعرق، فقال المغيرة: يا غلام، ناوله سكيناً. قال الأعرابي: كل امرئ سكينه في رأسه.
قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات جفافين من العراق، فأضرب فيها كما يضرب الولي السوء في ما اليتيم.
وقال أعرابي:
ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها الزبد
فأطلب فيما بينهن شهادة ... بموت كريمٍ لا يعد له لحد

واصطحب شيخ وحدث من الأعراب في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ مخلع الأضراس، وكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشكو العشق، والشيخ يتضور جوعاً، وكان يسمى جعفراً، فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفراً ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحب لم تبت ... بطيناً ونساك الهوى شدة الأكل
الأصمعي قال: تقول العرب في الرجل الأكول: إنه برم قرون.
البرم: الذي يأكل مع الجماعة ولا يجعل شيئاً. والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين ويأكل أصحابه تمرة تمرة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن.
وكان عبد الله بن الزبير إذا قدم التمر إلى أصحابه قال عبد الله بن عمر: إياكم والقران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
وقيل لبسرة الأحول: كم تأكل كل يوم؟ قال: من مالي أو من مال غيري؟ قيل له: من مالك. قال: مكوكاً. قيل: فمن مال غيرك، قال: اخبزوا واطرحوا.
وقال رجل من أهل العراق في قينة حفص الكاتب:
قينة حفص ويلها ... فيها خصالٌ عشره
أولها أن لها ... وجهاً قبيح المنظره
ودارها في وهدةٍ ... أوسع منها القنطره
تأكل في مقعدها ... ثوراً وتخرى بقره
قال تأبط شراً: ما أحببت شيئاً قط حبي ثلاثة: أكل اللحم، وركوب اللحم، وحك اللحم باللحم.
وقال أبو اليقظان: كان هلال بن الأسعر التميمي أكولاً، فيزعمون أنه أكل جملاً، وأكلت امرأته فصيلاً، فلما أراد أن يجامعها لم يصل إليها، فقالت له: وكيف تصل إلي وبيني وبينك بعيران.
وكان الواثق واسمه هارون بن محمد بن هارون أكولاً، وكان مفتوناً بحب الباذنجان، وكان يأكل في أكلة واحدة أربعين باذنجانة، فأوصى إليه أبوه - وكان ولي عهده - ويلك متى رأيت خليفة أعمى؟ فقال للرسول: أعلم أمير المؤمنين أني تصدقت بعيني جميعاً على الباذنجان.
وكان سليمان بن عبد الملك من الأكلة، حدث العتبي عن أبيه عن المشردل وكيل عمرو بن العاص قال: لما قدم سليمان الطائف دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب وابنه بستاناً لعمرو بن العاص فجال فيه ساعة، ثم قال: ناهيكم بمالكم هذا مالاً، ثم ألقى صدره على غصن، وقال: ويلك يا شمردل ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى إن عندي جدياً كانت تغدو عليه بقرة وتروح عليه أخرى. قال: عجل به. قال: فأتيته به كأنه عكة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص. قال: إني صائم. فأتى عليه، ثم قال: ويلك يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى والله عندي خمس دجاجات هنديات كأنهن رثلان النعام. قال: فأتيت بهن فكان يأخذ برجلي الدجاجة فيلقي عظامها نقية حتى أتى عليهن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، إن عندي حريرة كأنها قراضة الذهب. فقال: عجل بها. فأتيته بعس يغيب فيه الرأس، فجعل يلاطمها بيديه ويشرب، فلما فرغ تجشأ فكأنما صاح في جب، ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائي؟ قال: نعم. قال: وما هو؟ قال: ثمانون قدراً، قال: ائتني بها قدراً قدراً، قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقل ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس ووضعت المائدة وقعد فأكل مع الناس، فما أنكرت من أكله شيئاً.
وقال الأصمعي: كنت يوماً عند هارون الرشيد، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: حدثني بحديث مزرد أخي الشماخ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن مزرداً كان رجلاً جشعاً نهماً، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه، وكان ذلك مما يضريه ويحفظه، فذهبت يوماً في بعض حقوق أهلها وخلفت مزرداً في بيتها ورحلها، فدخل الخيمة فأخذ صاعين من دقيق، وصاعاً من عجوة، وصاعاً من سمن، فضرب بعضه ببعض فأكله، ثم أنشأ يقول:
ولما مضت أمي تزور عيالها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... رؤوس رخال قطعت لا تجمع
وقلت لبطني أبشري اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيد وتجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبع

قال: فاستضحك هارون حتى أمسك على بطنه واستلقى على ظهره، ثم قعد فمد يده، وقال: خذ، فذا يوم تشبع يا أصمعي.
وقال حميد الأرقط، وهو الذي يقال له: " هجاء الأضياف " ، يصف أكل الضيف:
تجهز كفاه ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وقال:
لا أبغض الضيف ما بي جل مأكله ... إلا تنفجه حولي إذا قعد
ما زال ينفخ جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
وقال:
لا مرحباً بوجوه القوم إذ نزلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين
ألقيت جلتنا الشهريز بينهم ... كأن أظفارهم فيها سكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين
أبو الحسن المدائني قال: أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك، وهو بدابق، بسلين، أحدهما مملوء بيضاً، والآخر مملوء تيناً، فقال: اقشروا، فجعل يأكل بيضة وتينة حتى فرغ من السلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله، فأتخم ومرض فمات.
والأكلة كلهم يعيبون الحمية، ويقولون: الحمية إحدى العلتين.
وقالوا: من احتمى فهو على يقين من المكروه، وفي شك من العافية.
وقالوا: الحمية للصحيح ضارة، وللعليل نافعة.
الحمية وقولهم فيهاقيل لبقراط: مالك تقل الأكل جداً؟ قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل.
وأجمعت الأطباء على أن رأس الداء كله إدخال الطعام على الطعام، وقالوا: احذروا إدخال اللحم على اللحم، فإنه ربما قتل السباع في القفر. وأكثر العلل كلها إنما يتولد من فضول الطعام.
والحمية مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى صهيباً يأكل تمراً وبه رمد، فقال: " أتأكل تمراً وأنت أرمد؟ " .
ودخل على علي رضي اللهعنه، وهو عليل وبيده عنقود عنب، فنزعه من يده.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم " .
وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. يريد قلة الأكل. ومنه قيل للمجاعة: الأزمة، وللكثير أزمات.
وقيل لآخر: ما أفضل الدواء؟ قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه.
أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل للمنذر بن جندب: إن ابنك أكل طعاماً كظله حتى كاد يقتله. قال: لو مات ما صليت عليه.
ودعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى الغداء، فقال: ما في فضل يا أمير المؤمنين. قال: لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل.
وقال الأحنف بن قيس: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصافاً لبطنه وفرجه.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأدواء أطيب؟ قال: الجوع ما ألقيت إليه من شيء قبله.
وقال رجل من أهل الشام، لرجل من أهل المدينة: عجبت منكم، أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: أوتدري من أين ذلك؟ قال: لا أدري. قال: من الجوع، ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لما خلا جوفه.
وقال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه يوم الرأس، وكان له يوم معروف يأكل فيه رأساً لا محالة، وكان يجلس ابنه معه: ويقول: إياك يا بني ونهم الصبيان، وأخلاق النوائح، ونهش الأعراب، وكل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو مضغة شهية، أو شيء مستطرف، فإنما ذلك للشيخ المعظم، أو للصبي المدلل، ولست بواحد منهما. وقد قالوا: مدمن اللحم كمدن الخمر. أي بني، عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنساناً، فلا تجعل نفسك بهيمة. واحذر صرعة الكظة، وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهماً فعد نفسك من الزمنى، واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، وأن السقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره.
أي بني، والله ما أدى الركوع والسجود ذو كظة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين.

أي بني؛ لأمر ما طالت أعمار أهل الهند، وصحت أبدان العرب، ولله در الحارث بن كلدة، إذ زعم أن الدواء هو الأزم، فالداء كله من فضول الطعام، فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بني، لم صار الضب أطول عمراً، إلا لأنه يتبلغ بالنسيم؟ ولم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الصوم وجاء؟ إلا لأنه جعله حجازاً دون الشهوات؟ فافهم تأديب الله عز وجل، وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام.
أي بني، قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك.
سياسة الأبدان بما يصلحهاقال الحجاج بن يوسف للباذون طبيبه: صف لي صفةً آخذ بها نفسي ولا أعدوها. قال له: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل اللحم إلا فتياً، ولا تأكله حتى تنعم طبخه، ولا تشرب دواء إلا من علة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلا أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام، واشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل، ولا تحبس الغائظ ولا البول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة.
قيل ليهود خيبر: بم صححتم على وباء خيبر؟ قالوا: بأكل الثوم، وشرب الخمر، وسكنى اليفاع، وتجنب بطون الأودية، والخروج من خيبر عند طلوع النجم وعند سقوطه.
وقال قيصر لقس بن ساعدة: صف لي مقدار الأطمعة. فقال: الإمساك عن غاية الإكثار، والبقيا على البدن عند الشهوة. قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة الإنسان قدره. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف الإنسان عند منتهى علمه.
وسأل عبد الملك بن مروان أبا المفوز: هل أتخمت قط؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظ المعدة ولا نخليها.
وقيل لبزر جمهر: أي وقت فيه الطعام أصلح؟ قال: أما لمن قدر فإذا جاع ولمن لم يقدر فإذ وجد.
وقال: أربع يهدمن العمر، وربما قتلن: الحمام على البطنة، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجاف، وشرب الماء البارد على الريق.
وقال إبراهيم النظام: ثلاثة أشياء تفسد العقل: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر في البحر.
الأصمعي قال: جمع هارون من الأطباء أربعة: عراقياً، ورومياً، وهندياً، ويونانياً، فقال: ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي لا داء معه. فقال العراق: الدواء الذي لاداء معه حب الرشاد الأبيض. وقال الهندي: الإهليلج الأسود. وقال الرومي: الماء الحار، وقال اليوناني - وكان أطبهم - حب الرشاد الأبيض يولد الرطوبة، والماء الحار يرخي المعدة، والإهليلج الأسود يرق المعدة، لكن الدواء الذي لا داء معه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه.
تدبير الصحةثم نذكر بعد هذا من وصف الطعام وحالاته، وما يدخل على الناس من ضروب آفاته، باباً في تدبير الصحة التي لا تقوم الأبدان إلا به، ولا تنمى النفوس إلا عليه.
وقد قال الشافعي: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان.
ولم نجد بداً - إذ كانت جملة هذه المطاعم التي بها نمو الغراسة، وعليها مدار الأغذية تضر في حالة، وتنفع في أخرى - من ذكر ما ينفع منها ومقدار نفعه، وما يضر منها ومبلغ ضره، وأن نحكم على كل ضرب منها بالأغلب عليه من طباعه، وقلما نجد شيئاً ينفع في حالة إلا وهو يضر في الأخرى، ألا ترى أن الغيث الذي جعله الله رحمة لخلقه، وحياة لأرضه، قد يكون منه السيول المهلكة، والخراب المجحف؟ وأن الرياح التي سخرها الله مبشرات بين يدي رحمته، قد أهلك باه قوماً وانتقم بها من قوم؟ وفي هذا المعنى قال حبيب الطائي:
ولم تر نفعاً عند من ليس ضائراً ... ولم تر ضراً عند من ليس ينفع
قال خالد بن صفوان لخادمه: أطعمينا جبناً، فإنه يشهي الطعام، ويهيج المعدة، وهو حمض العرب. قال: ما عندنا منه شيء. فقال: لا عليك، فإنه يقدح الأسنان، ويشد البطن.

ولما كانت أبدان الناس دائمة التحلل، لما فيها من الحرارة الغريزية من داخل، وحرارة الهواء المحيط بها من خارج، احتاجت إلى أن يخلف عليها ما تحلل، واضطرت بذلك إلى الأطعمة والأشربة، وجعلت فيها قوة الشهوة ليعلم بها وقت الحاجة منها إليها، ومقدار ما يتناول منها، والنوع الذي يحتاج إليه، ولأنه لا يخلف الشيء الذي يتحلل ولا يقوم مقامه إلا مثله، وليس تستطيع القوة التي تحيل الطعام والشراب في بدن الإنسان أن تحيل إلا ما شاكل البدن وقاربه. فإذا كان هذا هكذا، فلا بد لمن أراد حفظ الصحة أن يقصد لوجهين: أحدهما أن يدخل على البد الأغذية الموافقة لما يتحلل منه، والآخر أن ينفي عنه ما يتولد فيه من فضول الأغذية.
ما يصلح لكل طبيعة من الأغذيةوينبغي لك أن تعرف اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، لتعرف بذلك موافقة كل نوع من الأطعمة لكل صنف الناس. وذلك أن الأغذية مختلفة، فمنها معتدلة، كالتي يتولد منها الدم الخالص النقي، ومنها غير معتدلة، كالتي يتولد منها البلغم والمرة الصفراء والسوداء، والرياح الغليظة، ومنها لطيفة، ومنها غليظة، ومنها ما يتولد منه كيموس لزج، وكيموس غير لزج ومنها ما له خاصة منفعة أو مضرة في بعض الأعضاء دون بعض. فقد يجب متى كان المستولي على البدن الدم النقي أن تكون أغذيته قصداً في قدرها، معتدلة في طبائعها. ومتى كان الغالب عليه البلغم، فيجب أن تكون مسخنة أو يغتذي بما يزيد في الحرارة، ويقمع الرطوبة. ومتى كان الغالب عليه المرة السوداء، فينبغي له أن يغتذي بالأغذية الحارة الرطبة. ومتى كان الغالب عليه المرة الصفراء، فيغتذى بالأغذية الباردة الرطبة، ومتى كان البدن مستحصفاً عسر التحلل، فينبغي أن يغتذى بأغذية يسيرة لطيفة جافة، ومتى كان متخلخلاً فينبغي له أن يتعذى بأغذية لزجة، لكثرة ما يتحلل من البدن.
فهذا التدبير ينبغي أن يلتزم، ما لم يكن في بعض أعضاء البدن ألم، فينبغي أن يستعمل النظر في الأغذية الموافقة للعضو الألم، لأنا ربما اضطررنا إلى استعمال ما يوافق العضو الآلم إن كان مخالفاً لسائر البدن، كما أنه لو كانت الكبد باردة ضيقة المجاري، احتجنا إلى استعمال الأغذية اللطيفة، وتجنب الأغذية الغليظة، وإن كان سائر البدن غير محتاج إليها لضعف أو نحافة، لئلا تحدث الطبيعة في الكبد سدداً، وربما كانت الكبد حارة فتحذره الأغذية الحلوة، وإن احتاج إليها، لسرعة استحالتها إلى المرة الصفراء. وربما كانت المعدة ضعيفة، فتحتاج إلى ما يقويها من الأغذية، وربما كان يولد الطعام فيها بلغماً، فتحتاج إلى ما يقمع الصفراء، وإلى تجنب الأشياء المولد لها. وربما كان الطعام يبقى على رأس المعدة طافياً، فيستعمل الأغذية الغليظة الراسية ليتثقل بثقلها إلى أسفل المعدة، وتأمره بحركة يسيرة بعد الطعام، لينحط الطعام عن رأس المعدة. وربما كان رأس المعدة حاراً قابلاً للحار فيتجنب الأغذية الحارة، وإن احتاج إليها سائر البدن.
الحركة والنوم مع الطعاموينبغي ألا يقتصر على ما ذكرنا دون النظر في مقدار الحركة قبل الطعام، والنوع بعده، فمتى كانت الحركة قبل الطعام كثيرة، غذيناه بأغذية كثيرة غليظة لزجة إلى اليبس ما هي، بطيئة التحلل، ولم نأمره بالحمية، لقلة الحاجة إليها. ومتى لم تكن قبل الطعام حركة، أو كانت يسيرة، فينبغي ألا يقتصر على الحمية، بقلة الطعام ولطافته، دون أن يستعين على تخفيف ما يتولد في البدن من الفضول باستفراغ الأدوية المسهلة، وبالحمام، وبإخراج الدم. ومتى كانت الحركة كافية، استعملنا الأغذية المعتدلة في كثرتها، وقد لطافتها وغلظها. ومت كان النوم بعد الطعام كثيراً احتجنا إلى استعمال أغذية كثيرة غزيرة الغذاء، لطول الليل، وكثرة النوم، ومتى كان النوم قليلاً احتجنا إلى الطعام القليل الخفيف اللطيف، كالذي يغتذي به في الصيف، لقصر الليل وقلة النوم.
تقدير الطعام وما يقدر منه وما يؤخرويجب في الطعام أن يقدر فيه اربعة أنحاء: أولها ملاءمة الطعام لبدن المغتذي به في الوقت الذي يعتذي به فيه، كما ذكرنا آنفاً: أنه متى كان الغالب على البدن الحرارة احتاج إلى الأغذية البادرة. ومتى كان الغالب عليه البرد احتاج إلى الأغذية الحارة، ومتى كان معتدلاً احتاج إلى الأغذية المعتدلة المشاكلة له.

والنحو الثاني: تقدير الطعام بأن يكون على مقدار قوة الهضم، لأنه وإن كان في نفسه محموداً وكان ملائماً للبدن، وكان أكثر من قد احتمال قوة الهضم، ولم يستحكم هضمه، تولد منه غذاء رديء.
والنحو الثالث: تقديم ما ينبغي أن يقدم من الطعام، وتأخير ما ينبغي أن يؤخر منه، ومثل ذلك أنه ربما جمع الإنسان في أكلة واحدة طعاماً يلين البطن، وطعماً يحبسه. فإن هو قدم الملين وأتبعه الآخر سهل انحدار الطعام منه، ومتى قدم الطعام الحابس وأتبعه الملين لم ينحدر وفسدا جميعاً. وذلك أن الملين حال فيما بينه وبين النزول الطعام الحابس، فبقي في المعدة بعد انهضامه، ففسد به الطعام الآخر. ومتى كان الطعام الملين قبل الحابس انحدر الملين بعد انهضامه، وسهل الطريق لانحدار الحابس. وكذلك أيضاً إن جمع أحد في أكلة واحدة طعاماً سريع الانهضام وآخر بطيء الانهضام، فينبغي له أن يقدم البطيء الانهضام ويتبعه السريع الانهضام، ليصير البطيء في قعر المعدة؛ لأن قعر المعدة أسخن، وهو أقوى على الهضم، لكثرة ما فيه من أجزاء اللحم المخالطة له، وأعلى المعدة عصبي بارد لطيف ضعيف الهضم. ولذلك إذا طفا الطعام على رأس المعدة لم ينهضم.
والنحو الرابع: أن من يتناول الطعام الثاني بعد انحدار الأول، وقد قدم قبله حركة كافية، وأتبعه بنوم كاف، استمرأه. ومن أخذ وقد بقي في معدته أو أمعائه بقية من الطعام الأول غير منهضمة، فسد الطعام الثاني ببقية الأول.
باب الحركة والنوم مع الطعامومن أكل الطعام بعد حركة كافية، وأخذه على حاجة من البدن إليه، وافى الطعام الحرارة الغريزية بمنزلة النار إذا اشتعلت. ومن تناول طعاماً من غير حركة وأخذه على غير حاجة من البدن إليه وافى الطعام الحرارة الغريزية خامدة، بمنزلة النار الكامنة في الزناد. ومن اتبع الطعام بنوم بطنت الحرارة الغريزية فيه، فاجتمعت في باطن البطن، فهضمت طعامه. ومن اتبع الطعام بحركة انحدر عن معدته غير منهضم، وابنث في العروق غير مستحكم، فأحدث سدداً وعللاً في الكبد والكلى وسائر الأعضاء. وربما كانت الأطعمة لضعف المعدة تطفو فيها وتصير في أعلاها، فلا نأمره بالنوم حتى ينحدر الطعام على المعدة بعض الانحدار، حتى يصير في قعر المعدة. وربما أمرنا بحركة يسيرة كما ذكرنا آنفاً لانحدار الطعام عن المعدة بعض الانحدار.
وإن أكثر الشراب منع الطعام من الانهضام، لأنه يحول فيما بين جرم المعدة وبين الطعام، وإذا لم تلق المعدة الطعام لم تحله إلى مشاكلة البدن وموافقته، فيبقى فيها غير منهضم، فيجب لذلك على من أخذ الطعام أن يتناول معه من الشراب ما يسكن به جل العطش ويصبر على قدر احتماله من العطش، ويصبر حتى ينهضم، ثم يتناول بعد ذلك من الشراب ما أحب، فإنه عند ذلك يعين على انحدار الطعام وترقيقه، لتنفيذه في المجاري الدقاق. ويجب أيضاً أن يكون أخذه للطعام في وقت حركة الشهوة. وذلك أنه إذا تحركت الشهوة ولم يبادر بأخذ الطعام اجتذبت المعدة من فضول البدن ما صار في المعدة أبطل الشهوة، وأفسد الطعام إذا خالطه.
الأوقات التي يصلح فيها الطعامأجود الأوقات كلها الطعام: الأوقات الباردة، لجمعها الحرارة في باطن البدن، فأما الأوقات الحارة فينبغي أن يتجنب أخذ الطعام فيها، لأن حرارة الهواء تجذب الحرارة الباطنة الغريزية إلى ظاهر البدن ويخلو منها باطنه، فتضعف الحرارة في باطن البدن عن هضمه، فلذلك كانت القدماء تفضل العشاء على الغداء، لما يلحق العشاء من اجتماع الحرارة في باطن البدن، لبرد الليل والنوم، ولأن الحرارة في النوم تبطن وتسخن باطن البدن ويبرد ظاهره، واليقظة على خلاف ذلك، لأن الحرارة تنتشر في ظاهر البدن وتضعف في باطنه.
=================
ج16. كتاب : العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي


والذي يحتاج إلى كثرة الغذاء من الناس من كان الغالب على بدنه الحرارة، وكانت كبده لحرارتها سريعة التوليد للمرة الصفراء، فلذلك يحتاج إلى الأطعمة الغليظة البطيئة الانهضام ويستمرئها، ويستمرئ لحم البقر، ولا يستمرئ لحم الدجاج وما أشبهه من الأطعمة الخفيفة. ولا يصلح شيء من هذه إلا في وقت تحرك الشهوة، فإنه أفضل وقت يؤخذ فيه الطعام. وللعادة في هذا حظ عظيم، ألا ترى أنه من اعتاد الغداء فتركه واقتصر على العشاء عظم ضرر ذلك عليه، ومن كانت عادته أكلة واحدة فجعلها أكلتين لم يستمرئ طعامه؟ ومن كانت عادته أن يجعل طعامه في وقت من الأوقات، فنقله إلى غير ذلك الوقت أضر ذلك به، وإن كان قد نقله إلى وقت محمود. فيجب لذلك أن يتبع العادة إذا تقادمت فطالت، وإن كانت ليست بصواب، إذا لم يحدث شيء اضطره إلى نقلها، لأن العادة طبيعة ثانية، كما ذكر الحكيم أبقراط. فإن حدث شيء يدعوه إلى الانتقال عنها فأوفق الأمور في ذلك أن ينتقل عنها قليلاً قليلاً. وللشهوة أيضاً في استمراء الطعام أعظم الحظ، لأنها دليل على الموافقة والملاءمة، فمتى كان طعامان مستويان في الجودة، وكانت شهوة المحتاج إليهما أميل إلى أردئهما، اخترناه على الأجود، إذا لم نخف منه ضرراً أكثر مما ينال منه من المنفعة، لحسن قبول المعدة له واستمرائها إياه.
فقد بان أنه يحتاج في حسن استعمال الأغذية وجودة تخير الأطعمة إلى معرفة اختلاف الطبائع وحالاتها.
فقد بينت اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، وما يجب على كل واحد منها من أنواع الأطعمة والأشربة. وبقي أن نبقي اختلاف قوى الأطعمة والأشربة، وأن أصف أنواع الأغذية، وأسمي ما في كل صنف منها، إن شاء الله تعالى.
أنواع الأطعمة
الأطعمة اللطيفةهي التي يتولد منها دم لطيف. فمنها لباب خبز الحنطة، والحب المقشور، ولحم الفراريج، ولحم الدراج والطيهوج، والحجل، وأجنحة جميع الطيور، وما لان لحمه من صغار السمك ولم تكن فيه لزوجة، والقرع، والماش، وما أشبهه. وهذا الجنس من الأطعمة نافع لمن ليست له حركة، وكانت الحرارة الغريزية في بدنه ضعيفة، ولم يأمن أن يتولد في بدنه كيموس غليظ، ويتولد في كبده أو طحاله سدد، أو في كلاه، أو في صدره، أو في دماغه، أو في شيء من مفاصله من البلغم.
الأطعمة اللطيفة في نفسها الملطفة لغيرهاهي التي يكون ما يتولد منها لطيفاً، وتلطف ما تلقاه من الكيموس اللزج الغليظ في البدن.
وهذا الجنس من الأطعمة أربعة أصناف: صنف منها حلو لطيف، لما فيه من قوة الجلاء، مثل ماء الشعير، والبطيخ، والتين اليابس، والجوز، والقسطل، والعسل، ما يعمل منه من الناطف. وهذا الجنس في منفعته من جنس الأول من الأطعمة اللطيفة، إلا أنه أبلغ في تلطيف البدن.
والصنف الثاني حار حريف: كالحرف، والثوم، والكراث، والكرفس، والكرنب والجرجير، والصعتر، والنعنع، والرازيانج، والشراب الأصفر اللطيف العتيق الحار.
وهذا كله نافع لمن احتاج إلى فتح السدد التي في الكبد والطحال والصدر والدماغ، وتقطيع البلغم وترقيقه. ولا ينبغي لأحد أن يكثر استعماله لأنه يرقق الدم أولاً ويصيره مائياً، فيقل لذلك غذاء البدن. ويضعف ثم إنه يسخن البدن سخونة مفطرة، فيصير أكثره مرة صفراء، ثم إنه بعد ذلك إذا تمادى مستعمله في استعماله حلل لطيف الدم وترك غليظه، فصار أكثر مرة سوداء، وربما تولد من ذلك حجارة في الكلى. ومضرة هذا الصنف أشد ما تكون على من كانت المرة الصفراء غالبة عليه.
والصنف الثالث: يذيب ويلطف بملوحته، كالمري، وما لان لحمه وقل شحمه من السمك إذا ملح، والسلق، وماء الجبن، وكل ما جعل فيه من الأطعمة الملح والمري والبورق. ومنافع هذا النصف ومضاره قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارها، إلا أن هذا الصنف في تنقية المعدة والأمعاء وتليين الطبيعة أبلغ.
والصنف الرابع: يقطع ويلطف بحموضته، كالخل، والسكنجبين، وحماض الأترج، وماء الرمان الحامض، وكل ما يتخذ بها من الأطعمة. وهذا الصنف نافع لمن كان معدته وسائر بدنه حاراً إذا تولد فيها البلغم من غلظ ما يتناول من الأغذية ومن كثرتها.
الأطعمة الغليظة في نفسها الملطفة لغيرها

منها البصل، والجزر، والفجل، والسلجم، وما أشبه ذلك. فهذه الأطعمة في نفسها غليظة وتلطف ما تلقى من الشيء الغليظ، بما فيها من الحدة والحرافة، وهي تولد كيموساً غليظاً. ومتى ما طبخ شيء منها أو شوي ذهب عنه قوة الحرافة والتقطيع، وبقي جرمه غليظاً رديئاً، وقد يتناول للمنفعة بتقطيع هذه الأطعمة وتلطيفها، ويسلم من غلظ جرمها على إحدى ثلاث جهات: إما أن تطبخ فتلطف، كالذي يفعل بالبصل، وإما أن تعصر أو تطبخ ثم يستعمل ماؤها، وإما أن تؤكل نيئة فتقطع البلغم، كالذي يفعل بها جميعاً.
الأطعمة الغليظةالغالب على الأطعمة الغليظة كلها اليبس واللزوجة. فمنها شيء يكون اليبس واللزوجة من طبعه. ومنها ما يكتسب اليبس من غيره. فالذي يكون اليبس من طبعه العدس، ولحم الأرانب، والبلوط، والشاه بلوط، والكمأة، والباقلي المقلو. هذه كلها غليظة، لأن اليبس في طبائعها. وأما الذي يكتسب اليبس من غيره فالكبود والبيض المسلوق والمشوي وما قلي منه، واللبن المطبوخ طبخاً كثيراً، والضروع، وعصير العنب المطبوخ، لا سيما إن كان العصير غليظاً. فهذه كلها غليظة، لأن الحرارة بالطبخ أحدثت لها يبساً وانعقاداً. وأما لحوم الإبل، ولحوم التيوس، ولحوم البقر، والكروش والأمعاء، فإنها غليظة بصلابتها. وكذلك الترمس، وثمر الصنوبر، والسلجم، واللوبيا، وما خبز على الفرن، فإن ظاهره غليظ لما أحدثت له النار من اليبس، وباطنه غليظ لما فيه من اللزوجة. وكذلك كل ما لم يجود عجنه أو خبزه أو إنضاجه من خبز التنور، وكل ما خبز على الطابق بدهن أو غيره، والسمن والفطر والشهد واللبن والأدمغة، فإنها كلها غليظة للزوجة فيها طبيعية. وأما الفالوذج فإنه غليظ للزوجته، والانعقاد الحادث له من الطبخ. وأما الباذنجان فإنه غليظ لليبس وللزوجة في طبعه. وأما الخبز فإنه غليظ لاجتماع الحالات الثلاث فيه. فأما السمك الصلب اللزج فإنهغليظ، لاجتماع الصلابة واللزوجة فيه. وأما الآذان والشفاه وأطراف العضل، فإنها تولد كيموساً لزجاً ليس بالغليظ، وقد تولد ما يعرض من الأغذية الباردة عن هضمها وتلطيفها، كالذي يعرض من أكل الفاكهة قبل نضجها، ومن أكل الخيار والقثاء، وشحم الأترج واللبن الحامض. فهذه الأطعمة الغليظة كلها إن صادفت بدناً حاراً كثير التعب قليل الطعام كثير النوم بعد الطعام، انهضمت وغذت البدن غذاء كثيراً نافعاً، وقوته تقوية كثيرة. وأحمد ما تستعمل هذه الأغذية في الشتاء، لاجتماع الحرارة في باطن البدن وطول النوم، ومتى أحس أحد في بدنه نقصاناً بيناً. وإن أكلها من يجد الحرارة في بدنه قليلة ولا سيما في معدته، وتعبه قليل، ونومه بعد الطعام قليل، لم يستحكم انهضامها، وتولد منها في البدن كيموس غليظ حار يابس يتولد منه سدد في الكبد والطحال. فلذلك ينبغي لمن أكل طعاماً غليظاً من غير حاجة إليه لعلة أو شهوة أن يقل منه ولا يفرده، ولا يدمنه. وما كان من الأطعمة الغليظة له مع غلظه لزوجة فهو أغذاها للبدن، فإن لم تنهضم فهو أكثرها توليداً للسدد.
الأطعمة المتوسطةالمتوسطة بين الغلظة واللطيفة، تصلح لمن كان بدنه معتدلاً صحيحاً، ولم يكن تعبه كثيراً. وأجود الأغذية له المتوسط، لأنها لا تنهكه ولا تضعفه كاللطيفة، ولا تولد خاماً ولا سدداً كالغليظة، وهي كل ما أحكم صنعه من الخبز، ولحوم البقر، والدجاج، والجداء، والحولية من الماعز. وأما لحوم الخرفان والضأن كلها فرطبة لزجة. وأما لحم فراخ الحمام والقطا فهي تولد دماً سخناً، وأغلظ من الدم المعتدل. وأما فراخ الوراشين فإنها مثل فراخ الحمام والقطا والإوز، فأجنحتها معتدلة، وسائر البدن كثير الفضول.
وكل ما كثرت حركته من الطير وكان مرعاه في موضع جيد الغذاء، صافي الهواء، كان أجود غذاء وألطف. وكل ما كان على خلاف ذلك فهو أردأ غذاء وأوسخ.
وكل ما لم يستحكم نضجه من البيض، وخاصة ما ألقي على الماء الحر، وأخذ من قبل أن يشتد، فهو معتدل. وكل ما كان من لحم السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة والزهومة، وكان مرعاه ماء نقياً من الأوساخ والحمأة فهو معتدل جيد الغذاء.
ومن الفواكه التين والعنب، إذا استحكم نضجهما على الشجر وأسرعت الانحدار إلى الجوف، كان ما يتولد منها معتدلاً، فإن لم تسرع الانحدار فلا خير فيها.
ومن البقول الهندبا، والخس، والهليون.

ومن الأشربة ما كان لونه ياقوتياً صافياً، ولم يكن عتيقاً جداً.
الأطعمة الحارةيحتاج إليها من كان الغالب عليه البرودة، وفي الأوقات الباردة والبلاد الباردة. وينبغي أن يجتنبها من كان حار البدن، وفي الأوقات الحارة، وفي البلاد الحارة. منها الحنطة المطبوخة، والخبز المتخذ من الحنطة، والحمص، والحلبة، والسمسم، والشهدانج، والعنب الحلو، والكرفس، والجرجير، والفجل، والسلجم، والخردل، والثوم، والبصل، والكراث، والخمر العتيق. وأسخن الأشربة الحارة العتيق الأصفر.
الأطعمة الباردةينبغي أن يستعملها من كان حار البدن، وفي الأوقات الحارة، والبلد الحار. وهي الشعير وكل ما يتخذ منه، والجاورس، والدخن، والقرع، والبطيخ، والخيار، والقثاء، والإجاص، والخوخ، والجمار، وما بين الحموضة والعفوصة، من العنب والزبيب، والطلع، والبلح، والخس والهندبا، والبقلة الحمقاء، والخشخاش، والتفاح، والكمثرى، والرمان. فما كان من الرمان عفصا فهو بارد غليظ، وما كان حامضاً فهو بارد لطيف. فأما الخل فهو بارد لطيف، وهو ضار بالعصب. وما كان أيضاً من الشراب عفصا هو أقل حرارة، وما كان من ذلك حديثاً غليظاً فهو بارد.
الأطعمة اليابسةيحتاج إلى الأطعمة اليابسة من كان الغالب على بدنه الرطوبة، وفي الأوقات الرطبة، وللبلد الرطب. منها العدس، والكرنب، والسويق، وكل ما يشوى ويطبخ ويقلى، وكل ما أكثر فيه السذاب والمري والخل والأبزار والخردل، ولحم المسن من جميع الحيوان.
الأطعمة الرطبةيحتاج إلى الأطعمة الرطبة من أفرط عليه اليبس، وفي الأوقات اليابسة والبلد اليابس. وهي: الشعير، والقرع، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والجوز الرطب، والعنب، والنبق، والإجاص، والتوت، والجمار، والخس، والبقلة اليمانية، والقطف، والباقلاء الرطب، والحمص الرطب، واللوبيا الرطبة، وكل ما يطبخ بالماء ويسلق به وثقل فيه الأبزار والخل والمري والسذاب، وجيمع لحوم صغار الحيوان.
الأطعمة القليلة الفضولأجنحة الطيور، وأكارع المواشي، ورقابها، وما يربى في البر من الحيوان في المواضع الجافة.
الأطعمة الكثيرة الفضولمنها لحم الأوز خلا الأجنحة، والأكباد كلها من جميع الحيوان، والنخاع والدماغ، والطيور التي في الفيافي والآجام، والحمص الطري، والباقلاء الطري ولحم الضأن، ولحم المراضع من كل الحيوان، ولحم كل ساكنٍ غير سريع النهوض، وما كان من السمك على ما ذكرنا صلباً لرجاً.
الأطعمة التي غذاؤها كثيركل ما غلظ من الأطعمة إذا نهضم غذى غذاءً كثيراً. وكل ما كان له فضول كان غذاؤه كثيراً.
وقد يحتاج إلى الأطعمة الكثيرة الغذاء من احتاج إلى أن يأخذ طعاماً قليلاً يغذي غذاءً كثيراً، كالناقة والمسافر، وكالذي يثقل معدته الكثير من الطعام وبدنه يحتاج إلى عذاء كثير.
فمن ذلك لحم البقر، والأدمغة، والأفئدة، وحواصل الطير كلها، والسمك الغليظ اللوح، والسميد والباقلاء، والحمص، واللوبيا، والترمس، والعدس، والتمر، والبلوط، والشاه بلوط، والسلجم، تغذو غذاءً كثيراً لغلظها. واللبن الحليب والشراب الأحمر. وغذاء اللبن كله أغلظه وأرقه، ٌل غذاء. وأغلظ اللبن لبن البقر ولبن النعاج، وأرقه لبن الأتن وألبان اللقاح. وألبان الماعز متوسطة بين ذلك.
وأغذى الأشربة النبيذ الغليظ الحلو، ثم الغليظ الأسود الحلو، ثم الغليظ الأبيض الحلو، ثم من بعد هذه الأشربة العفصة الحلوة. وكلما مال إلى الحمرة والحلاوة كان أغذى. والأبيض أقلها غذاء.
الأطعمة التي غذاؤها قليلكل ما كان من الأطعمة لطيفاً كان غذاؤه قليلاً، وكل ما أفرط فيه اليبس أو الرطوبة، أو كثرة الفضل قل غذاؤه، كالأكارع، والكروش، والمصارين، والشحم، والآذان، والرئة، ولحم الطير كله. وما ملح من الحيوان قليل الغذاء، لليبس الذي فيه. وكذلك الزيتون، والفستق، والجوز، واللوز، والبندق، والغبيرا والزعرور، والخروب، والبطم، والكمثرى العفص، والزبيب العفص، فإنما قل غذاؤه للعفوصة.
وأما السمك والقرع، والرمان والتوت، والإجاص والمشمش، فإنما قل غذاؤها لكثرة رطوبيتها. وغذؤها غير باقٍ سريع التحلل.

وأما خبز الشعير والخشكار، والباقلاء الرطب، وجميع البقول، مثل الكرنب، والسلق، والحماض، والبقلة الحمقاء، والفجل، والخردل، والحرف، والجزر، فقليلة الغذاء، لكثرة الفضل فيها. وأما البصل والثوم والكراث فإنها إذا أكلت نيئة لم تغذ. وإذا طبخت غذت غذاءً يسيراً. وأما التين والعنب فإنهما بين ما قل غذاؤه وما كثر غذاؤه.
الأطعمة التي تولد كيموسا جيداً
كل ما كان معتدلاً من الأطعمة لم تفرط فيه قوة ولا تجاوزت القدرة فيه ولد دماً خالصاً نقياً صحيحاً. وكل ما كان كذلك فهو موافق لجميع الأبدان، وفي جميع الأوقات، وهو لجميع الأبدان المعتدلة في الأوقات المعتدلة أوفق، لأن ما تجاوز الاعتدال من الأبدان يحتاج من الأطعمة إلى ما فيه قوة تجاوز الاعتدال، وكذلك الأبدان المعتدلة التي ليست بمعتدلة.
وفي الأطعمة المعتدلة ما هو غليظ، وما هو لطيف، وما هو بين ذلك. وأجودها لجميع الناس ما كان معتدلاً منها، بين الغليظ واللطيف. وقد وصفنا الأطعمة الغليظة واللطيفة والمتوسطة، ومتى يصلح كل صنف منها. فبقي علينا أن نخبر بجملة الأطعمة المولدة الكيموس الجيد، وقسمتها على ما قسمناها.
فمن ذلك: خبز الحنطة النقي المحكم الصنعة إن كان من يومه، ولحم الدجاج والجداء، وحولية الماعز، وما كان من السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة، وما لم يكن له زهومة، وما لم يكن له سمن كثير، وما كان مرعاه في ماء ليس فيه أوساخ ولا حمأة، ولم يكن سريع العفونة، وكل ما اشتد واستحكم نضجه من البيض، وكل شراب طيب الريح، ياقوتي اللون، ليس فيه حلاوة، وكل ذلك يولد كيموساً معتدلاً بين اللطيف والغليظ.
وأما الدراج والفراريج، وأجنحة جميع الطير، وما صغر من السمك وكان مرعاه على ما وصفنا، وما ألقى عليه من السمك الملح فصار رخصا، وذهبت لزوجته، وأما كشك الشعير، والشراب الطيب الرائحة، الأحمر. فكل ذلك جيد الكيموس لطيف.
وأما اللبن الحليب فإنه جيد الكيموس، إلا أن فيه غلظاً. ولذلك ربما تجبن في المعدة. فلهذه العلة يخلط به العسل والملح ويرق بالماء. وأجود اللبن وأعدله لبن الماعز، لأنه ألطف من لبن الضأن والبقر، وأغلظ من لبن الأتن واللقاح.
وينبغي للبن أن يؤخذ من حيوانٍ صحيح شاب، جيد الغذاء. ولا يستحب في وقت ما يضع الحيوان، ولا بعد ذلك بزمان طويل؛ لأن اللبن من الحيوان في وقت ما يضع غليظ، ثم يرق بعد ذلك قليلاً قليلاً حتى يصير مائياً، فلذلك كان أوله وآخره ردئياً. وأجود ما يؤخذ اللبن ساعة يحلب، قبل أن يغيره الهواء، لأنه سريع الاستحالة. وأما الخشكار من الخبز الرطب، وكل ما لم تحكم صنعته من خبز السميد، وخبز الفرن، ولحم العجل، ومن أجزاء الغنم: الضرع والكبد والفؤاد، ومن الحبوب الباقلاء، ومن الشراب ما كان طيب الرائحة حلواً، فكل ذلك يولد كيموساً غليظاً جداً.
الأطعمة التي تولد كيموساً رديئاً
كل ما لم يكن معتدلاً من الأغذية لم يولد دماً خالصاً صافياً.
والأطعمة الرديئة الكيموس ثلاثة أصناف: منها ما يزيد في البلغم، ومنها ما يزيد في الصفراء، ومنها ما يزيد في السوداء.
وينبغي لجميع الناس أن يتجنبوا الإكثار منها، وإدمان استعمالها، وإن كانوا لها مستمرئين، لأنها وإن لم يتبين لها ضرر في عاجل الأمر يجتمع منها في بدن مدمن استعمالها مع طول الزمان كيموس رديء، يولد أمراضاً رديئة. وأولى الناس بتجنب كل صنف من أصنافها من كان الغالب على بدنه ما يزيد فيه ذلك الصنف.
فأقول: إن كل ما يتخذ من الخبز من دقيق كثير النخالة، أو ما عتق من الحنطة، رديء الكيموس، يزيد في السوداء.
ولحم الضأن كله يزيد في البلغم، ولحم الماعز المسن كله يزيد في السوداء، وأردؤه لحم التيوس. ولحم البقر والجزور والأرانب والظباء والأيايل كل هذا يزيد في السوداء، وشر هذه اللحوم لحم الجزور، وبعده لحم التيوس، لا سيما ما لم يخص منها، وبعده لحم المسن من الضأن، وبعده لحم البقر. وكل ما خصي من هذه كان أجود غذاء.
وأما لحوم الأرانب والظباء والأيايل فهو دون جميع ما ذكرنا في الرداءة. ومن أعضاء جميع الحيوان الكلى رديئة الكيموس، لزهومتها وما استفادت من رداءة البول.

والدماغ يزيد في البلغم، وكل البطون تزيد في البلغم، لكثرة الفضول فيها. والبيض المطجن يولد غذاء غليظاً فاسداً، وكذلك الجبن، ولا سيما ما عتق منه. والعدس يزيد في السوداء. والدخن والجاورس يولدان دماً غليظاً. وما صلب لحمه من السمك وغلبت عليه اللزوجة يولد البلغم، فإن ملح وعتق ولد السوداء.
والتين اليابس إن أكثر أكله ولد فضلاً عفناً يكثر منه القمل. والكمثرى والتفاح إن أكلا غير نضيجين ولدا كيموساً رديئاً بارداً. كذلك القثاء والخيار. فأما البطيخ والقرع فربما انهضما ولم يحدثا في البدن حدثاً رديئاً، وربما فسدا في المعدة، فولدا كيموساً ردئياً، ولا سيما إن صادفا في المعدة فضلاً رديئاً، فلذلك تعرض الهيضة كثيراً لمن أكل البطيخ.
والبقول كلها رديئة الكيموس، لكثرة الفضل فيها، وقلة الغذاء. وأما البصل والثوم والكراث والفجل والجزر والسلجم فرديئة، لما فيها من الحرارة والحرافة، وربما زادت في الصفراء، وربما زادت في السوداء أيضاً، كما ذكرت آنفاً، إلا أنها أن طبخت وصب ماؤها وطبخت بماءٍ ثان ذهبت الحرافة والرداءة عنها.
والباذروج يسخن الدم ويجففه تجفيفاً شديداً. والكرنب يولد السوداء وكذلك جميع البقول الرديئة.
الأطعمة المتوسطة الكيموسوهي بين ما يولد الكيموس الجيد، وما يولد الكيموس الردي، فمنها خبز الخشكار، ولحم الخصيان من المعز والضأن. ومن الأعضاء: اللسان، والأمعاء والذنب. ومن الفاكهة: العنب، والبطيخ، والمعلق من العنب أجود والتين اليابس مع الجوز، والشاهبلوط، ومن البقول الخس وبعده الهندبا، وبعده الخبازى، وبعده القطف، والبقلة الحمقاء اليمانية، والحماض، وما لم يكن فيه حدة كثيرةً من الأصول.
الأطعمة السريعة الانهضاموإنما يسرع الانهضام لأحد وجهين: فالوجه الأول منهما إذا كانت الأطعمة غير يابسة كالعدس، ولا صلبة كالترمس، ولا لزجة كالحنطة، ولا خشنة كالسمسم، ولا كريهة كالسذاب، ولا كثيرة الفضول كالأرز، ولا يغلب عليها برد شديد كاللبن الحامض، ولا حر شديد كالعسل.
والوجه الثاني: لطبيعة البطن المستمرئ لها، وذلك لأحد وجهين: الأول موافقة الأغذية، ومشاكلة الأبدان الطبيعية، كالأطعمة التي يشتهيها ويلذها الإنسان، فقد تجد الناس يختلفون في شهواتهم ويستمرئ كل واحدٍ منهم ما شهوته إليه أميل، وإن كان الذي لا يشتهيه أحمد من الذي يشتهيه.
والوجه الثاني: لمزاج عارض يصادف من الطعام مضادة كالذي ترى، أن من غلب عليه الحر لعلةٍ من العلل كان للأطعمة الباردة أسد استمراء، لما تطفئ من حرارة البدن وتعدله. ومن غلب عليه البرد استمرأ الحار ولم يستمرئ البارد. ومن رطب بدنه أو معدته استمرأ الأطعمة الجافة ولم يستمرئ الرطبة، ومن عرض له اليبس خلاف ذلك.
فقد بان بما ذكرناه أن الأطعمة اللطيفة والمتوسطة في نفسها، سريعة الانهضام. وقد يجوز أن تكون الأطعمة الغليظة أسرع انهضاماً في بعض الأبدان أيضاً. فقشر الخبز المحكم، ولحم الدجاج والفراريج والدراج والحجل، وكبود الإوز وأجنحتها، سريعة الانهضام. وفي الجملة: الجناح من كل طائر أسرع انهضاماً من سائره. وليس الطير كله بأسرع انهضاماً من المواشي.
وكل ما كان من الحيوان يابساً فصغيره أسرع انهضاماً. وكذلك لحم العجاجيل أسرع انهضاماً من لحم البقر، ولحم الجدي الحولي أسرع انهضاماً من لحم المسن من الماعز.
وكل ما كان من الحيوان أرطب فكبيره من قبل أن يشتد أسرع انهضاماً من صغيره. ألا ترى أن الحولي من الضأن أسرع انهضاماً من الخروف؟ وكل ما كان مرعاه في المواضع اليابسة أسرع انهضاماً مما كان مرعاه في المواضع الرطبة. وكل ما كان جرمه متخلخلاً فهو أسرع انهضاماً مما كان جرمه متلززاً. ولذلك كان الجوز أسرع انهضاماً من البندق. والبيض الحار امرأ من البيض البارد. والشراب الحلو أمرأ من العفص.
الأطعمة البطيئة الانهضام

وإنما يعسر الانهضام من الطبيعة في الطعام إذا كان يابساً، أو صلباً، أو لزجاً، أو ملتززاً، أو كثير الدسم، أو كثير الفضول، أو كريه الطعم، أو الحرافة فيه مفرطة أو البرد أو الحر، أو مخالفاً للمزاج الطبيعي إذا لم يشته. فلحم البقر ولحم الإبل، والكروش والأمعاء، والأوز، والآذان من جميع الحيوان، والجبن، والبيض البارد، عسرة الانهضام ليبسها وصلابتها. وكذلك من الطير الوراشين والفواخت والطواويس. والقوانص من جميع الطير عسرة الانهضام.
ومن الحبوب: الأرز، والترمس، والعدس، والدخن، والجاورس، والبلوط والشاهبلوط.
وأما لحم التيوس، وأكارع البقر، فعسرة الانهضام، لزهومتها وكراهتها. وأما لحم الضأن، والكبود من جميع الحيوان والإوز، فلكثرة الفضول فيها وأما الجبن الحامض فلبرده. وأما الحنطة المسلوقة فللزوجتها وتلززها. وأما الباقلاء واللوبياء - كثرة النفخ فيها. وأما السمسم فلكثرة دهنه. وأما العنب والتين وسائر الفواكه إذا لم يستحكم نضجها، والأتراج والباذروج والسلجم والجوز والشراب الحديث الغليظ، فلكثرة الفضول فيه.
الأطعمة الضارة للمعدةالسلق رديء، للذعه أياها، ولما فيه من الحدة البورقية، والباذروج والسلجم ما لم يستقص طبخهما للذع فيهما. والبقلة اليمانية والقطف للزوجتهما، فلذلك ينبغي أن يؤكلا بالخل، والمري. والحلبة رديئة للمعدة، للذعها إياها، والسمسم رديء للمعدة للزوجته وكثرة دهنه، واللبن لسرعة استحالته في المعدة والعسل ما أكثر منه لذع المعدة وأغثاها. والبطيخ أيضاً يغثي، وإذا لم ينضج في المعدة ولد كيموساً رديئاً، فينبغي بعد أكل البطيخ أن يأكل طعاماً كثيراً جيد الكيموس.
والأدمغة أيضاً كلها رديئة للمعدة، فلذلك ينبغي أن تؤكل بالصعتر، والفودنج البري، والخردل، والملح. وكذلك أيضاً المخاخ. والنبيذ الحديث الغليظ الأسود العفض يسرع الحموضة في المعدة ويغثي.
الأطعمة التي تفسد في المعدةالمشمش، والسمسم، والنون، والبطيخ، إذا لم يسرع انحدارها عن المعدة وصادفت فيها كيموساً رديئاً أسرع إليها الفساد. فيجب أن تؤكل قبل الطعام والمعدة نقية، ليسرع انحدارها عنها، ويسهل الطريق لما يؤكل بعدها من الطعام، فإن أكلت بعد الطعام فسدت لبقائها في المعدة، وأفسدت سائر الطعام بفسادها، وربما بلغ الفساد بها إلى أن تصير بمنزلة السم القاتل.
الأطعمة التي لا يسرع إليها الفساد في المعدةمن كان يفسد طعامه في معدته فأجود الأطعمة له ما كان غليظاً بطئ الانحدار، مثل لحم البقر، وأكارعها، وما أشبه ذلك، مما قد ذكرناه في الأطعمة الغليظة.
الأطعمة الملينة المسهلة للبطنكل ما كان من الأطعمة فيه حلاوةٌ أو حدة أو لزوجة. فمن ذلك ماء العدس، وماء الكرنب يلينان البطن، وجرمهما يمسك البطن، وكذلك مرقة الديوك العتيقة، وخبز الخشكار، وماء الحلبة مع العسل، وزيتون الماء إذا كان قبل الطعام مع مريٍ لين البطن، فإن كان أيضاً بعد الطعام بلا مري فإنه يقوي المعدة على دفع الطعام لعفوصته. وكذلك ما عمل منه بالخل.
وكل طعام عفصٍ فإنه دابغ للمعدة مقوٍ لها.
فأما اللبن وماء الجبن فيلينان البطن، ولا سيما إذا خلط به الملح.
ولحم الصغير من الحيوان، والسلق، والقطف، والبقلة اليمانية، والقرع والبطيخ، والتين، والزبيب الحلو، والتوت الحلو، والجوز الرطب، والإجاص الرطب، والسكنجبين والنبيذ الحلو، ملين للبطن.
الأطعمة التي تحبس البطنإذا كان الطعام ينحدر عن المعدة قبل انهضامه احتجنا إلى الأطعمة الممسكة الحابسة للبطن.
وكل ما غلب عليه من الأطعمة اليبس أو العفوصة أو الغلظ، كالسفرجل والكمثرى، وحب الآس، وثمر العوسج، وجرم العدس، والبلوط، والشاهبلوط. والنبيذ العفص، يمسك البطن، لعفوصته وقبضه. والجاورس، والدخن وسويق الشعير، تمسك البطن بيبوستها. ولحم الأرانب، والكرنب المطبوخ بعد صب مائه الأول عنه، ثم يطبخ بماءٍ ثان، فإنه يمسك البطن بيبسه. واللبن المطبوخ، والجبن كلاهما يمسك البطن لغلظه. وذلك أن يطبخ اللبن حتى تفني مائيته، ويبقي جرمه، وربما ولد سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى.

وأما الأشياء الحامضة كالتفاح الحامض، والرمان الحامض، فإن صادفت في المعدة كيموساً غليظاً قطعته وحدرته، ولينت البطن، وإن صادفت المعدة نقية أمسكت البطن.
الأطعمة التي تولد السدداللبن الغليظ والجبن ربما أحدثا سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى، لمن أكثر استعمالها، وكان كلاه وكبده مستعدة لقبول الآفات.
وجميع الأطعمة الحلوة رديئة للكبد والطحال، فإذا أكل معها الفوذنج الجبلي، والصعتر، والفلفل، فتح سدد الكبد والطحال.
والرطب، والتمر، وجميع ما يتخذ من الحنطة سوى الخبز الجيد الصنعة، والأشربة الحلوة أيضاً تولد سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى، وتغلظ الطحال.
الأطعمة التي تجلو المعدة وتفتح السددماء الكشك كشك الشعير يجلو المعدة، ويفتح السدد. والحلبة، والبطيخ، والزبيب الحلو، والباقلاء، والحمص الأسود، ينقي الكلى، ويفتت الحجارة المتولدة فيها. والكبر بالخل، والعسل إذا أكل قبل الطعام فإنه يجلو وينقي المعدة والأمعاء، ويفتح السدد. والسلق أيضاً يجلو ويفتح السدد في الكبد، ولا سيما إذا أكل بالخردل. والبصل، والثوم، والكراث، والفجل يقطع ويلطف الكيموس الغليظ. والتين رطبه ويابسه يجلو وينقي الكلى. واللوز كله، ولا سيما المر منه فإنه يجلو ويلطف، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويعين على نفث الرطوبة من الصدر والرئة. والفستق يقوي الكبد ويفتح سددها.
وعسل النحل حارٌ يابس وماء العسل يلطف البصاق الغليظ، ويعين على نفثه. والسكنجبين يلطف ويقطع الرطوبة الغليظة. ويفتح سدد الكبد والطحال، وينقي الصدر والرئة.
والنبيذ اللطيف إذا كانت له حدة وحرافة يصفي اللون، وينقي العروق من الكيموس الغليظ، وينتفع به من كان يجد في بدنه كيموساً غليظاًبارداً. وأما النبيذ الرقيق المائي فإنه يعين على نفث الرطوبة من الرئة، بتقويته الأعضاء وتلطيفه لما بها من الفضل الغليظ، وقد يفعل ذلك النبيذ الحلو.
الأطعمة التي تنفخالحمص والباقلاء، ولا سيما إن طبخ بقشره، فإن طبخ مقشراً أو مسحوقاً كان أقل نفخاً، وإن قلي أيضاً كان أقل نفخاً. وبعد هذه اللوبياء، والماش، والعدس، والشعير إذا لم ينعم طبخها.
والنعناع، والأنجذان، والحلتيت، والتين الرطب، يولد نفخاً إلا أنه يتحلل سريعاً لسرعة انحداره.
وما استحكم نضجه من التين والعنب كان أقل نفخاً. ويابس التين أقل نفخاً من رطبه.
واللبن يولد رياحاً في المعدة. والعسل إذا طبخ ونزعت رغوته قل نفخه. والنبيذ الحلو العفص يولد نفخاً.
ما يذهب النفخ من الأطعمةكل الطعام نافخٍ إذا أحكمت صنعته، وأجيد طبخه وإنضاجه قل نفخه. وكل ما قلي منه قل نفخه. وكل ما خلط به الأبزار المحللة للرياح كالكمون والذاب، والأنيسون والكاشم يقل نفخه. والخل الممزوج بالعسل يلطف الرياح، ويذهب بالنفخ.
كتاب إسحاق بن عمران إلى بعض إخوانهكتب إسحاق بن عمران المعروف بسم ساعة إلى رجل من إخوانه: اعلم رحمك الله أن الخام والبلغم يظهران على الدم والمرة بعد الأربعين سنة فيأكلانهما، وهما عدوا الجسد وهادماه. ولا ينبغي لمن خلف الأربعين سنة أن يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام والبلغم، ويقوي الدم جاهداً، غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين أن يفجر من دمه شيئاً، ومن المرة مثل ذلك، لقلة صبره على الطعام اللذيذ، والمشروب الروي.
فتعاهد أصلحك الله ذلك من نفسك، واعلم أن الصحة خير من المال والأهل والولد، ولا شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى خير من العافية.
وما تأخذ به نفسك، وتحفظ به صحتك أن تلزم ما أكتب به إليك: في شهر يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة. وفي شهر فبرير لا تأكل السلق. وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة. وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا الفجل. وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده، على الريق. وفي يوليه تجنب الوطء. وفي أغشت لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً. وفي نبنبر لا تدخل الحمام. وفي دجنبر لا تأكل الأرنب.

زعم علماء الطب أن الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال، فإن غلب الدم الطبائع تغير منه الوجه وورم، وخرج ذلك إلى الجذام، وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أنبتت المد.
قال: فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضاً فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقه بالمشي، فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام، وإما مد. نسأل الله العافية.
ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا أيام السموم، إلا أن ينزل فيها مرض شديد لا بد من مداواته، أو يظهر فيها موم، أو ذات الجنب، فإنه ينبغي للطبيب أن يعانيه بفصاد، أو شيء خفيف، فإنها أيام ثقيلة. وهي خمسة عشر يوماً من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج، وكان بقراطيس يجعلها تسعة وأربعين يوماً، ويقطع الغرر والخطر في أيام القيظ، فإذا مضى لأيلول ثلاثة أيام طاب التداوي كله.
وأمر جالينوس في الربيع بالحجامة، والنورة، وأكل الحلاوة وشربها، ونهى عن القطاني واللبن الرائب، وعتيق الجبن، والمالح، والفاكهة اليابسة، إلا ما كان مسلوقاً.
وفي القيظ وهو زمان المرة الصفراء بأكل البارد الرطب على قدر قوة الرجل في طبعه وسنه، وترك الجماع، وأكل الحوت الطري، والفاكهة الرطبة والبقول ولحم البقر والمعز، ومن القطاني العدس، ومن الأشربة المربب بالورد، والسكركة من الشعير، والسكر بالماء المطبوخ، وأكل الكزبرة الخضراء في الأطعمة وأكل الخيار والبطيخ، ولزوم دهن الورد، وماء الورد، ورش الماء، وبسط البيت بورق الشجر، ومن الدواء السكر بالمصطكى، يسحقهما مثلاً بمثل، ويأخذ منهما على الريق قدر الدرهم أو أكثر قليلاً.
وفي زمان الخريف وهو زمان السوداء، وهو أثقل الأزمنة على أهل تلك الطبيعة، من الطعام والشراب بالحار الرطب، مثل الأحساء بالحلاوة، وأكل العسل وشربه. ونهي فيه عن الجماع، وأكل لحم المعز والبقر، وأمر بأكل صيود البر والبحر، وحسو البيض والدهن قبل الحمام، وإيتان النساء على غير شبع في آخر الليل وفي أول النهار، والتماس الولد على الريق من الرجل والمرأة، فإن أولاد ذلك الزمان أسد وأقوى تركيباً من غيرهم، كما قالت الحكماء.
الخمر المحرمة في الكتابأجمع الناس على أن الخمر المحرمة في الكتاب خمر العنب، وهي ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب، من غير أن تمسه نار. ولا تزال خمراً حتى تصير خلاً، وذلك إذا غلبت عليها الحموضة، وفارقتها النشوة؛ لأن الخمر ليست محرمة العين، كما حرمت عين الخنزير، وإنما حرمت لعرض دخلها، فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالاً، كما كانت قبل الغليان حلالاً، وعينها في كل ذلك واحدة، وإنما انتقلت أعراضها من حلاوةٍ إلى مرارة، ومن مرارة إلى حموضة، كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة، والعين قائمة، وكما ينتقل طعم الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه، والعين قائمة.
ونظير الخمر فيما يحل ويحرم بعرض: المسك، الذي هو دم عبيط حرام، ثم يجف وتوجد رائحته فيصير حلالاً طيباً.
فهذه الخمر بعينها المجمع على تحريمها. وأصحاب النبيذ إنما يدورون حولها ويتعللون بأنهم يشربون ما دون المسكر، ولا لذة لهم دون مواقعة السكر، كما قال الشاعر:
يدورون حول الشيخ يلتمسونه ... بأشربةٍ شتى هي الخمر تطلب
وكقول القائل:
إياك أعني فاسمعي يا جاره
قيل للأحنف بن قيس: أي الشراب أطيب؟ فقال: الخمر. قيل له: وكيف علمت ذلك، وأنت لم تشربها؟ قال: إني رأيت من حلت له لا يتعداها، ومن حرمت عليه إنما يدور حولها.
وقال ابن شبرمة:
ونبيذ الزبيب ما اشتد منه ... فهو للخمر والطلاء نسيب
وقال عبد الله بن القعقاع:
أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب فصدقناه وهو كذوب
فهل هي إلا ساعة غاب نحسها ... أصلي لربي بعدها وأتوب
وقال ابن شبرمة: أتانا الفرزدق، فقال: اسقوني. فقلنا: وما تريد أن نسقيك؟ قال: " أقربه إلى الثمانين " ، ويعني حد الخمر.

وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن؟ قال: " ما صفا في العين، واشتد على اللسان، وطابت رائحته في الأنف، من شراب الكرم " . قيل له: فما تقول في مطبوخه؟ فقال: " مرعى ولا كالسعدان! " . قيل له: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيى، فيه بعض المتعة، ولا يكاد يحيا من مات مرة. قيل له: فما تقول في العسل؟ قال: نعم شراب الشيخي ذي الإبردة، والمعدة الفاسدة.
علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته، إذ أتي بابن شراعة من الكوفة، فوالله ما سأله عن نفسه ولا سفره، حتى قال له: يا ابن شراعة، إني والله ما بعثت فيك لأسألك عن كتاب الله، ولا سنة رسول. قال: والله لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما حماراً. قال: فإنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة. قال: فأنا دهقانها الخبير، وطبيبها العليم. قال: فأخبرني عن الطعام؟ قال: ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أن أنفعه أدسمه، وأشهاه أمرؤه، قال: فما تقول في الشراب؟ قال: ليسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: فما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في السويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي، من طول ما أرضعتني به. قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: حاموا به على الشراب. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: أوه، تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي. قال: وأي المجالس أحسن؟ قال: ما شرب الناس على وجه قط أحسن من النساء.
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد، وهو في الفرش منغمس كما ولدته أمه، فقال لي: يا أصمعي، من أين طرقت اليوم؟ قال: قلت احتجمت. قال: وأي شيء أكلت عليها؟ قلت: سكباجة وطباهجة. قال: رميتها بحجرها. قال: هل تشرب؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين:
اسقني حتى تراني مائلاً ... وترى عمران ديني قد خرب
قال: يا مسروق، أي شيء معك؟ قال: ألف دينار. قال: ادفعها إليه.
آفات الخمر وجناياتهاأول ذلك أنها تذهب العقل - وأفضل ما في الإنسان عقله - وتحسن القبيح، وتقبح الحسن. قال أبو نواس:
اسقني حتى تراني ... حسنٌ عندي القبيح
وقال أيضاً:
اسقني صرفاً حمياً ... تترك الشيخ صبيا
وتريه الغي رشداً ... وتريه الرشد غيا
وقال أيضاً:
عتقت في الدن حولاً ... فهي في رقة ديني
وقال الناطق بالحق:
تركت النبيذ وشرابه ... وصرت خدينا لمن عابه
شراب يضل سبيل الرشاد ... ويفتح للشر أبوابه
وإنما قيل لمشارب الرجل " نديم " من الندامة، لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه، وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه نادمه، لأنه فعل مثل ما فعله، فهو نديم له، كما يقال جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشيء، أي فناءه.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت ذنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال الشاعر:
أرى كل قومٍ يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سئوم
فهذا ثنائي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
وقال قصي بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر، فإنها تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان.
وقيل لعدي بن حاتم: مالك لا تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي.
وقيل له: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاذ الله أن أصبح حكيم قومي وأمسي سفيههم.
وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقال يزيد بن الوليد: النشوة تحل الحبوة.

وقيل لعثمانبن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك فيها؟ قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملةً ويعود جملة.
وقال أيضاً: ما تغنيت، ولا تفتيت، ولا شربت خمراً، ولا مسست فرجي بيدي بعد أن خططت بها المفصل.
وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ ثريد المنادمة؟ قال: أصلح الله الأمير، الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليك بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل.
وربما أذهبت الكأس البيان، وغيرت الخلقة، فيعظم أنف الرجل ويحمر ويترهل.
وقال جرير في الأخطل:
وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدنان كأن أنفك دمل
شبه أنفه بالدمل في ورمه وحمرته.
وقال آخر في حماد الراوية:
نعم الفتى، لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان، فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد
وأبيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
ودخل أمية بن عبد الله بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: قمت بالليل فأصاب الباب وجهي. فقال عبد الملك:
رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقلت: لا واخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك. فقال: بل واخذك الله بسوء مصرعك.
وقال حسان بن ثابت.
تقول شعثاء لو صحوت عن ال ... كأس لأصبحت مثري العدد
أنسى حديث الندمان في فلق ال ... صبح وصوت المسامر الغرد
لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يساموا كلبدة الأسد
وقال ابن الموصلي:
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام أمئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
لعمري لئن نكبت عن منهل الصبا ... لقد كنت وراداً لمشربه العذب
ليالي أمشي بين بردي لاهباً ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لإبراهيم بن هرمة: لا تحسبني كمن باع لك دينه رجاء مدحك، وخوف ذمك، فقد رزقني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه، وإني أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حد الخمر، وحد السكر ولأزيدنك لموضع حرمتك، فليكن تركك لها لله تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبرني عنها وحبي ... لها حب تمكن في العظام
أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام
وذكروا أن حارثة بن بدر الغداني كان فارس بني تميم وشريفها، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو رجل مستهتر بالشراب. فقال لهم: كيف باطراح رجلٍ ما راكبني قط فمست ركبتي ركبته، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي، ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت علمه عنده. فلما مات زياد جفاه ولده عبيد الله بن زياد، فقال له حارثة: أيها الأمير: ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد برع بروعاً لم يلحقه معه عيب؛ وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من تغلب علي، وأنت رجل نديم الشراب، فدع النبيذ وكن أول داخلٍ وآخر خارج. فقال حارثة: أنا لا أدعه لله، أفادعه لك؟ قال: فاختر من عملي ما شئت! قال: ولني رامهرمز، فإنها عذبة، وسرق، فإن بها شراباً وصف لي عنه فولاه إياها، فلما خرج شيعه الناس. وكتب إليه أنس بن أبي أنيس:
أحار بن بدر قد وليت ولايةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً تخونه ... فحظك من ملك العراقين سرق

وبادر تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما تهوي، وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل يوماً حققوا لم يحققوا
فوقع حارثة في أسفل كتابه " لا بعد عنك الرشد " .
ولما خرجت الأزارقة على أهل البصرة لاقاهم حارثة بن بدر، وتولى حربهم في أصحابه في فرسانٍ من بني يربوع، حتى أصيب في تلك الحروب. وقال فيه الشاعر:
فلولا ابن بدر للعراقين لم يقم ... لما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت ... إليه معد بالأكف وقحطان
وقال الشاعر:
شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم في كل ناحية وفر
فلما علت شمس النهار رأيتنا ... تخلى الغنى عنا وعاودنا الفقر
وكان أبو الهندي من ولد شبث بن ربعي الرياحي، من بني يربوع، وكان قد غلب عليه الشراب، على كريم منصبه، حتى كاد يبطله، وكان قد ضاف إلى راعٍ يسمى سالماً، فسقاه قدحاً من لبن، فكرهه وقال:
سيغني أبا الهندي عن وطب سالم ... أباريق كالغزلان بيض نحورها
مفدمة قزاً كأن رقابها ... رقاب كراكٍ أفزعتها صقورها
فما ذر قرن الشمس حتى كأنما ... أرى قريةً حولي تزلزل دورها
ولقيه نصر بن سيار، والي خراسان، وهو يميد سكراً فقال له: أفسدت مروءتك وشرفك. قال: لو لم أفسد مروءتي لم تكن أنت والي خراسان.
ومرض أبو الهندي، فلما وجد فقد الشراب جعل يبكي ويقول:
رضيع المدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع
أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً، فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهرب معه، وقال فيه أبو الهندي:
قل للسري أبي قيس أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا
أبا الوليد أما والله لو علمت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا
ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا
وشرب أبو الهندي في غرفة مع نديمٍ له، فاطلع منها فإذا بميت يزف به على شرجع، فالتفت إلى صاحبه فقال:
اصبب على قلبك من بردها ... إني أرى الناس يموتونا
فكان هذا القول منه " دليلاً " على " عدم " اتعاظه بالموت.
وكان أبو الهندي عجيب الجواب، وجلس إليه رجل كان صلب أبوه في جناية، فجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: أحدهم يبصر القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع المعترض في أست أبيه! وقال عبد الرحمن بن أم الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعتورانها ... يميلان أحياناً ويعتدلان
فما ظن ذا الواشي بأروع ماجد ... وعذراء خود حين يلتقيان
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وقال:
لا هنيئاً بما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً وغير كريم
لا أحب النديم يومض بالعي ... ن إذا ما انتشى لعرس النديم
وقال أبو العباس المبرد: ودخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام زجاج، فيه سكر طبرزذ، وملح جريش، قال: فسلمت عليه، فرد وعرض علي الأكل، فقلت: ما أريد شيئاً. هنأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت الغداء. قال: بت جائعاً! ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
اعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واعزم على من أبى واشكر لمن أكلا
ولا تكن سابري العرض محتشماً ... من القليل فلست الدهر محتفلا
ودعا برطل، ودخل شيخ من جلة الفقهاء فمد يده إليه، فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها ناشئاً، فلا تسقينها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه وقال: يا أمير المؤمنين، فإني عاهدت الله في الكعبة ألا أشربها أيضاً. ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة، فقال:

ردا علي الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
شرب المأمون ويحيى بن أكثم القاضي وعبد الله بن طاهر، فتغامز المأمون وعبد الله على سكر يحيى، فغمز يد الساقي فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من ورد ورياحين، فأمر المأمون فشق له لحد في الورد والرياحين، وصيروه فيه، وعمل بيتي شعر، ودعا قينة، فجلست عند رأسه وحركت العود وغنت:
دعوته وهو حي لا حراك به ... مكفنٌ في ثياب من رياحين
فقلت قم قال رجلي لا تطاوعني ... فقلت خذ قال كفي لا تواتيني
فانتبه يحيى لرنة العود، وقال مجيباً لها:
يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضاً قد وهى جسدي ... ولا أجيب المنادي حين يدعوني
فاختر لبغداد قاضٍ إنني رجلٌ ... الراح تقتلني والعود يحييني
حدثنا أبو جعفر البغدادي قال: كان بالجزيرة رجل يبيع نبيذاً في ماخورٍ له، وكان بيته من قصب، وكان يأتيه قوم يشربون عنده، فإذا عمل فيهم الشراب قال بعضهم لبعض: أما ترون بيت هذا النباذ من قصب؟ فيقول بعضهم: علي الآجر، ويقول الآخر: علي الجص، ويقول الآخر: علي أجرة العامل. فإذا أصبحوا لم يعملوا شيئاً، فلما طال ذلك على النباذ قال فيهم:
لنا بيت يهدم كل يوم ... ويصبح حين يصبح جذم خص
إذا ما دارت الأقداح قالوا ... غداً نبني بآجر وجص
وكيف يشيد البنيان قومٌ ... يمرون الشتاء بغير قمص
ودخل حارثة بن بدر على زياد، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فصرعني. قال: أما إنك لو ركبت الأشهب ما صرعك.
أراد حارثة بالأشقر النبيذ، وأراد زياد بالأشهب اللبن.
وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر، فيبتاع منه، ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً، فجذب ابنته وتناول قرنها، ورأى القمر فتكلم بشيء، ثم نهب ماله ومال الخمار، وأنشأ يقول:
من تاجر فاجر جاء الإله به ... كأن لحيته أذناب أجمال
جاء الخبيث ببيسانيةٍ تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال
فلما صحا أخبر بما صنع وما قال، فآلى ألا يذوق خمراً أبداً. - وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله. قال المأمون: " يا نطف الخمار، ونزائع الظؤور، وأشباه الخؤولة " .
وقال الشاعر:
لما رأيت الحظ حظ الجاهل ... ولم أر المغبون غير العاقل
رحلت عنساً من كروم بابل ... فبت من عقلي على مراحل
وقال آخر يصف السكر:
أقبلت من عند زيادٍ كالخرف ... أجر رجلي بخطٍ مختلف
كأنما يكتبان لام ألف
وقال آخر يصف السكر:
شربنا شربةً من ذات عرقٍ ... بأطراف الزجاج من العصير
وأخرى بالمروح، ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير
كأن الديك ديك بني تميم ... أمير المؤمنين على السرير
كأن دجاجهم في الدار رقطا ... بنات الروم في قمص الحرير
فبت أرى الكواكب دانياتٍ ... ينلن أنامل الرجل القصير
أدافعهن بالكفين مني ... وألثم لبة القمر المنير
وقال الشاعر:
دع النبيذ تكن عدلاً، وإن كثرت ... فيك العيوب، وقل ما شئت يحتمل
هو المشيد بأخبار الرجال فما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا
كم زلةٍ من كريم ظل يسترها ... من دونها ستر الأبواب والكلل
أضحت كنارٍ على علياء موقدةٍ ... ما يستسر لها سهل ولا جبل
والعقل علق مصونٌ لو يباع لقد ... ألفيت بياعه يعطون ما سألوا

فاعجب لقوم مناهم في عقولهم ... أن يذهبوها بعل بعده نهل
قد عقدت بخمار الكأس ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها علل
وزررت بسنات النوم أعينهم ... كأن أحداقها حول وما حولوا
تخال رائحهم من بعد غدوته ... حبلى أضر بها في مشيها الحبل
فإن تكلم لم يقصد لحاجته ... وإن مشى قلت مجنون به خبل
وقال:
أخو الشراب ضائع الصلاة ... وضائع الحرمة والحاجات
وحاله من أقبح الحالات ... في نفسه والعرس والبنات
أف له أفٍ إلى أفات ... خمسة آلافٍ مؤلفاتٍ
من حد من الأشراف في الخمر
وشهر بهامنهم يزيد بن معاوية، وكان يقال له: يزيد الخمور، وبلغه أن مسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر، فكتب إلى عامله بالمدينة: أن يجلد مسوراً حد القذف، ففعل. فقال مسور:
أيشربها صرفاً بطين دنانها ... أبو خالدٍ ويضرب الحد مسور
وممن حد في لشراب الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان لأمه. شهد أهل الكوفة عليه أنه صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران. ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زذتكم! فجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان. وفيه يقول الحطيئة، وكان نديمه أبو زبيد الطائي:
شهدت الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً ولا يدري
ليزيدهم خيراً ولو قبلوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كبحوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب، شرب بمصر، فحده هناك عمرو بن العاص سراً. فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية.
ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس، كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الأخطل الشاعر. وفيه يقول الأخطل:
ولقد غدوت على التجار بمسمحٍ ... هرت عواذله هرير الأكلب
لباس أردية الملوك تروقه ... من كل مرتقبٍ عيون الربرب
ومنهم قدامة بن مظعون، من أصحاب رسول الله (، حده عمر بن الخطاب بهشادة علقمة الخصي وغيره، في الشراب.
ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شحمة، حده أبوه في الشراب، وفي أمر أنكره عليه.
ومنهم عبد الله بن عروة بن الزبير، حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب.
ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب، حده بعض ولاة المدينة في الشراب.
ومنهم عبد العزيز بن مروان، حده عمرو الأشدق.
وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة الأشعري، وفيه يقول يحيى ابن نوفل الحميري:
وأما بلال فذاك الذي ... يميل الشراب به حيث مالا
يبيت يمص عتيق الشراب ... كمص الوليد يخاف الفصالا
ويصبح مضطرباً ناعساً ... تخال من السكر فيه احولالاً
ويمشي ضعيفاً كمشي النزيف ... تخال به حين يمشي شكالا
وممن شهر بالشراب عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي، القاضي بالكوفة. وفضح بمنادمة سعد بن هبار. وفيه يقول حارثة بن بدر:
نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار
ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دوياً، دوي النحل في الغار
يدين أصحابه فيما يدينهم ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار
فأصبح الناس أطلاحاً أضربهم ... حث المطي وما كانوا بسفار
ومنهم أبو محجن الثقفي، وكان مغرماً بالشراب، وقد حده سعد بن أبي وقاص في الخمر مراراً. وشهد القادسية مع سعد، وأبلى فيها بلاء حسناء. وهو القائل:
إذا مت فادفني إلى ظل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا مامت ألا أذوقها
ثم حلف بالقادسية ألا يشرب خمراً أبداً، وأنشأ يقول:
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها صهباء صافيةً ... طوراً وأشربها صرفاً وأمتزج

وقد تقوم على رأسي مغنية ... فيها إذا رفعت من صوتها غنج
فتخفض الصوت أحياناً وترفعه ... كما يطن ذباب الروضة الهزج
ومنهم عبد الملك بن مروان، وكان يسمى " حمامة المسجد " ، لاجتهاده في العبادة قبل الخلافة. فلما أفضت إليه الخلافة شرب الطلاء، وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت بعدي الطلاء؟ فقال: إي والله، والدماء! ومنهم الوليد بن يزيد، ذهب به الشراب كل مذهب حتى خلع، وقتل. وهو القائل:
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة ... وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
أبالملك أرجو أن أخلد فيكم ... ألا رب ملك قد أزيل فزالا
وسقى قوم أعرابية مسكراً، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه! ومنهم إبراهيم بن هرمة، وكان مغرماً بالشراب، وحده عليه جماعة من عمال المدينة؛ فلما ألحوا عليه وضاق ذرعه بهم، دخل إلى المهدي بشعره الذي يقول فيه:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل هاشم ... إذا اسود من لؤم التراب القبائل
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
فأعجب المهدي بشعره، وقال له: سل حاجتك. قال: تأمر لي بكتاب إلى عامل المدينة أن لا يحدني على شراب. فقال له: ويلك، كيف نأمر بذلك؟ لو سألتني عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت. قال: يا أمير المؤمنين: ولو عزلت عامل المدينة ووليتني مكانه، أما كنت تعزلني أيضاً وتولي غيري؟ قال: بلى. قال: فكنت أرجع إلى سيرتي الأولى. فقال المهدي لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه يطلب مالا سبيل إليه: إسقاط حد من حدود الله. قال المهدي: إن عندي له حيلةً، إذ أعيتكم الحيل فيه، اكتبوا له إلى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكران فيضرب ابن هرمة ثمانين، ويضرب الذي يأتيك به مائة. فكان ابن هرمة إذا مشى في أزقة المدينة يقول: من يشتري مائه بثمانين؟ وكان بأمج رجل يقال له: حميد، وكان مفتوناً بالخمر، فهجاه ابن عم له، وقال فيه:
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على شربها ... وكان كريماً، فما ينزع
ودخل حميد يوماً على عمر بن عبد العزيز، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حميد. قال: " حميد الذي " ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما شربت مسكراً منذ عشرين سنة. فصدقه بعض جلسائه فقال له: إنما داعبناك.
الفرق بين الخمر والنبيذأول ذلك أن تحريم الخمر مجمع عليه لا اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء. وتحريم النبيذ مختلف فيه بين الأكابر من أصحاب النبي ( والتابعين بإحسان. حتى لقد اضطر محمد بن سيرين في علمه وورعه أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ. فقال له عبيدة: اختلف علينا في النبيذ. وعبيدة ممن أدرك أبا بكر وعمر. فما ظنك بشيء اختلف فيه الناس وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام متوافرون، فمن بين كطلق له ومحظر عليه؟ وكل واحدٍ منهم يقيم الحجج لمذهبه، والشواهد على قوله.
والنبيذ كل ما نبذ في الدباء والمزفت، فاشتد حتى يسكر كثيره. وما لم يشتد فليس يسمى نبيذا، كما أنه ما لم يغل من عصير العنب حتى يشتد فليس يسمى خمراً، كمال قال الشاعر:
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تقطر أو خر الذباب وقيذا
وقيل لسفيان الثوري، وقد دعا بنبيذٍ فشرب منه، ووضعه بين يديه: يا أبا عبد الله، أخشى الذباب أن يقع في النبيذ. قال: قبحه الله، إذا لم يذب عن نفسه.
وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قومٌ من طلبة الحديث، فسترته، فقال لي: لم سترته؟ فكرهت أن أقول: لئلا يراه من يدخل، فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب. فقال لي: هيهات، إنه أمنع من ذلك جانباً.
ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرمها الله في كتابه ما اختلف في تحريمه اثنان من الأمة.

حدث محمد بن وضاح قال: سألت سحنون، فقلت: ما تقول فيمن حلف بطلاق زوجته، إن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر، التي حرمها الله في كتابه؟ قال: بانت زوجته منه.
وذكر ابن قتيبة في كتاب الأشربة: إن الله تعالى حرم علينا الخمر بالكتاب، والمسكر بالسنة، فكان فيه فسحة، فما كان محرماً بالكتاب فلا يحل منه لا قليل ولا كثير، وما كان محرماً بالسنة فإن فيه فسحةً أو في بعضه، كالقليل من الديباج والحرير يكون في الثوب، والحرير محرم بالسنة. وكالتفريط في صلاة الوتر، وركعتي الفجر، وهما سنة. فلا تقول: إن تاركهما كتارك الفرائض من الظهر والعصر. وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله ( في لباس الحرير لبلية كانت به، وأذن لعرفجة بن سعد، وكان أصيب أنفه يوم الكلاب، باتخاذ أنفٍ من الذهب. وقد جعل الله فيما أحل عوضاً مما حرم، فحرم الربا وأحل البيع، وحرم السفاح وأحل النكاح، وحرم الديباج وأحل الوشي، وحرم الخمر وأحل النبيذ غير المسكر. والمسكر منه ما أسكرك.
مناقضة ابن قتيبة في قوله في الأشربةقال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هو الشربة المسكرة، أكذبه النظر. لأن القدح الأخير إنما أسكر بالأول، وكذلك اللقمة الأخيرة إنما أشبعت بالأولى. ومن قال: السكر حرام، فإنما ذلك مجازٌ من القول، وإنما يريد ما يكون منه السكر حرام. وكذلك التخمة حرام.
وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه " قليل ما أسكره كثيره " وتشبيهه ذلك بالتخمة شاهد عليه لا شاهد له؛ لأن الناس مجمعون أن قليل الطعام الذي تكون منه التخمة حلال، وكثيره حرام. وكذلك ينبغي أن يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالاً، وكثيره حرام، وأن الشربة الآخرة المسكرة هي المحرمة. ومثل الأربعة الأقداح التي يسكر منها القدح الرابع، مثل أربعة رجال اجتمعوا على رجل، فشجه أحدهم موضحة، ثم شجه الثاني منقلة، ثم شجه الثالث مأمومة، ثم أقبل الرابع فأجهز عليه. فلا نقول: إن الأول هو قاتله، ولا الثاني، ولا الثالث، وإنما قتله الرابع الذي أجهز عليه. وعليه القود.
وذكر ابن قتيبة في كتابه، بعد أن ذكر اختلاف الناس في النبيذ، وما أدلى به كل قومٍ من الحجة. فقال: وأعدل القول عندي أن تحريم الخمر بالكتاب وتحريم النبيذ بالسنة، وكراهية ما أفتر وأخدر من الأشربة تأديب.
ثم زعم في هذا الباب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما مجتمع على تحريمه، وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار، لا يحل منه لا قليل ولا كثير. ونوع آخر مختلف فيه، وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر إذا صلب، وهو يسمى السكر، ولا يسمى السكر إلا نبيذ التمر خاصةً.
وقال بعض الناس: ليس نبيذ التمر خمراً. ويحتجون بقول عمر: ما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام.
وقال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله. وهذا هو القول عندي، لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة، وكلها يقع عليها هذا الاسم في ذلك الوقت.
وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن من البتع، وهو نبيذ العسل. وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة، وخمرة التمر يقال له: البتع والفضيخ.
وذكر أن عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل.
والخمر ما خامر العقل. ولأهل اليمن أيضاً شراب من الشعير، يقال له المزر.
فزعم ها هنا ابن قتيبة أن هذه الأشربة كلها خمر. وقال: هذا هو القول وقد تقدم له في صدر الكتاب أن النبيذ لا يسمى نبيذاً حتى يشتد ويسكر كثيره، كما أن عصير العنب لا يسمى خمراً حتى يشتد، وأن صدر هذه الأمة وأئمة الدين لم يختلفوا في شيء اختلافهم في النبيذ، وكيفيته.
ثم قال فيما حكم به بين الفريقين: أما الذين يذهبون إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر، وبين ما طبخ وبين ما نقع، فإنهم غلوا في القول جداً، ونحلوا قوماً من أصحاب رسول الله ( البدريين، وقوماً من خيار التابعين، وأئمة من السلف المتقدمين شرب الخمر. وزينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل. وغلطوا في ذلك، فأتهموا القوم، ولم يتهموا نظرهم، ونحلوهم الخطأ، وبرءوا أنفسهم منه.

فعجبت منه، كيف يعيب هذا المذهب ثم يتقلده، ويطعن على قائله ثم يقول به. إلا أني نظرت في كتابه فرأيته قد طال جداً، فأحسبه أنسي في آخره ما ذهب إليه في أوله.
والقول الأول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب، وتقبله العقول، لا قوله الآخر الذي غلط فيه.
احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيرهذهبوا أجمعوا أن جميع ما أسكر كثيره من الشراب فقليله حرام، كتحريم الخمر. وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها، ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين ما نقع. وقضوا عليه كله أنه حرام. وذهبوا من الأثر إلى حديثٍ رواه عبد الله ابن قتيبة عن محمد بن خالد بن خداش، عن أبيه، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام وكل مسكر خمر " . وحديثٍ رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه، عن المعتمر بن سليمان، عن ميمون بن مهدي، عن أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام " .والفرق: ستة عشر رطلاً. وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: فأصغرها المد، وهو رطل وثلث في قول الحجازيين، ورطلان في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد.
والصاع: أربعة أمداد، خمسة أرطال وثلث، في قول الحجازيين، وثمانية أرطال في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع.
والقسط وهو رطلان وثلثان، في قول الناس جميعاً. والفرق، وهو ستة عشر رطلاً، ستة أقساط في قول الناس جميعاً.
وذهبوا إلى حديثٍ رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة، عن اعائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل شراب أسكر فهو حرام " ، مع أشباهٍ لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها، إلا أن هذه أغلظها في التحريم، وأبعدها من حيلة المتأول.
قالوا: والشاهد على ذلك من النظر: أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجنايتها على شاربها، ولأنها رجس، كما قال الله.
ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا، في باب آفات الخمر وجناياتها.
ثم قالوا: فالعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار، ومن الصداع والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، قائمة بعينها في النبيذ كله المسكر. فسبيله الخمر، لا فرق بينهما في الدليل الواضح، والقياس الصحيح. كما أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السمن، إنه كان جامداً ألقيت وألقي ما حولها، وإن كان ذائباً أريق السمن. فحملت العلماء الزيت وغيره محمل السمن، بالدليل الواضح.
وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس الفأرة، وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى به، فقاس العلماء الزيت وغيره بالسمن. وكما أمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار، فعلم أهل العلم أنه إنما أراد صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الأحجار للتنقية من الأذى، فأجازوا كل ما أنقى: من الخزف، والخرق، وغير ذلك، وحملوه محمل ثلاثة الأحجار. ولما حرمت الخمر لعلةٍ قائمة في النبيذ المسكر حمل النبيذ محمل الخمر في التحريم.
قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث النفس وصداع الرأس من الخمر: مخمور وبه خمار. ويقولون مثل ذلك في شارب النبيذ، ولا يقولون: منبوذ، ولا به نباذ. والخمار مأخود من الخمر، كما يقال: الكباد في وجع الكبد، والصدار في وجع الصدر.
وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، " أنه نهى عن أن ينبذ في الدباء والمزفت " ، وقالوا: لمن أجاز قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقته السكر حد ينتهى إليه، ولا يوقف عنده، ولا يعلم شارب من شاربي المسكر متى يسكر حتى يسكر كما لا يعلم الناعس متى يرقد حتى يرقد. وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر. ويشرب من غيره قدحاً واحداً فيسكر، لا، بل قد يختلف طبع الرجل في نفسه، فيسكر مرة من القدحين ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر.
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة

"
أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرم أمر ساءت فيه رغبة كثير منهم، حتى سفه أحلامهم، وأذهب عقولهم، فاستحل به الدم الحرام، والفرج الحرام، وإن رجالاً منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء، فلا بأس علينا في شربه. ولعمري إن فيما قرب مما حرم الله بأساً، وإن في الأشربة التي أحل الله: من العسل، والسويق، والنيذ من الزبيب والتمر لمندوحةً عن الأشربة الحرام، غير أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لا زفت فيها، ولا يشرب منها ما يسكر؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب ما جعل في الجرار، والدباء، والظروف المزفتة. وقال: " كل مسكر حرام " . فاستغنوا بما أحل الله لكم عما حرم عليكم. وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء، وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة، وكل مسكر - اتخاذ الحجة عليكم. فمن يطع منكم فهو خير له. ومن يخالف إلى ما نهي عنه نعاقبه على العلانية، ويكفنا الله ما أسر. فإنه على كل شيء رقيب. ومن استخفى بذلك عنا فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً " .
احتجاج المحللين للنبيذقال المحللون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ: إنما حرمت الخمر بعينها خمر العنب خاصةً بالكتاب، وهي معقولة مفهومة، لا يمتري فيها أحدٌ من المسلمين، وإنما حرمها الله تعبداً لا لعلة الإسكار كما ذكرتم، ولا لأنها رجس كما زعمتم. ولو كان ذلك كذلك لما أحلها الله للأنبياء المتقدمين، والأمم السالفين، ولا شربها نوحٌ بعد خروجه من السفينة، ولا عيسى ليلة رفع، ولا شربها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام.
وأما قولكم: إنها رجس، فقد صدقتم في اللفظ، وغلطتم في المعنى، إذ كنتم أردتم أنه منتنة؛ فإن الخمر ليست بمنتنة ولا قذرة، ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر، وإنما جعلها الله رجساً بالتحريم، كما جعل الزنا فاحشة ومقتاً، أي معصية وإثماً، بالتحريم، وإنما هو جماع كجماع النكاح، وهو عن تراضٍ وبذل، كما أن النكاح عن تراضٍ وبذل. وقد يبذل في السفاح ما يبذل في النكاح، ولذلك سمى الله تبارك وتعالى المحرمات كلها خباثث. فقال تعالى: " ويحرم عليهم الخبائث " . وسمى المحللات كلها طيبات، فقال: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ، وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفاً، وإن اقتصد فيه. وقد ذكر الخمر فيما امتن به على عباده قبل تحريمها، فقال تعالى: " ومن ثمرات التخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " . ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها الله في جنته، وسماها لذة للشاربين.
وإن قلتم: إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا؛ لأن الله نفى عنها عيوب خمر الدنيا، فقال تعالى: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " ، وكذلك قوله في فاكهة الجنة: " لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة " ، فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا؛ لأنها تأتي في وقتٍ وتنقطع في وقت، ولأنها ممنوعة إلا بالثمن، ولها آفات كثيرة، وليس في فواكه الجنة آفة. وما سمعنا أحداً وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم من طيب النسيم، وذكاء الرائحة.
قال الأخطل:
كأنما المسك نهبى بين أرحلنا ... وقد تضوع من ناجودها الجاري
وقال آخر:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
وقال أبو نواس:
نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريحٍ فتفوح
وإنما قوله فيها " رجس " كقوله تعالى: " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم " . أي كفراً إلى كفرهم.
وأما منافعها التي ذكرها الله تعالى في قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، فإنها كثيرةٌ لا تحصى: فمنها أنها تدر الدم، وتقوي المنة وتصفي اللون، وتبعث النشاط، وتفتق اللسان، ما أخذ منها بقدر الحاجة، ولم يحاوز المقدار. فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضراً.
وقال ابن قتيبة، في كتاب الأشربة: كانت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح، ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً، وربما سميت روحاً.
وقال إبراهيم النظام:
ما زلت آخذ روح الزق في لطفٍ ... وأستبيح دماً من غير مذبوح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح

وقد تسمى دماً لأنها تزيد في الدم. قال مسلم بن الوليد الأنصاري:
مزجنا دماً من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منا الدم الدم
قال ابن قتيبة: وحدثني الرياشي أن عبيداً راوية الأعشى قال: سألت الأعشى عن قوله:
وسلافةٍ مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
فقال: " شربتها حمراء، وبلتها بيضاء " . يريد أن حمرتها صارت دماً.
ومن منافع الخمر أنها تزيد في الهمة، وتولد الجرأة، وتهيج الأنفة، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان. قال حسان بن ثابت:
ونشر بها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقال طرفة:
فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وقال مسلم بن الوليد:
تصد بنفس المرء عماً يغمه ... وتنطق بالمعروف ألسنة البخل
وقال الحسن بن هانئ:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
ومن تسخيتها للبخيل على البذل قول بعض المحدثين:
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحةٌ في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا
فياليت حظي من سروري وترحتي ... ومن جوده ألا علي ولا ليا
قالوا: ولولا أن الله تعالى حرم الخمر في كتابه لكانت سيدة الأشربة. وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى، والثالثة أطيب من الثانية، حتى يؤديك إلى أرفق الأشياء وهو النوم. وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية، والثانية أطيب من الثالثة حتى تمله وتكرهه.
وسقى قومٌ أعرابياً كؤوساً، ثم قالوا: كيف تجدك؟ قال أجدني أبشر وأجدكم تحببون إلي.
وقالوا: ما حرم الله شيئاً إلا عوضنا ما هو خير منه أو مثله، وقد جعل الله النبيذ عوضاً عن الخمر نأخذ منه ما يطيب النفس، ويصفي اللون، ويهضم الطعام، ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل، ويصدع الرأس، ويغثي النفس، ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم جناياتها.
قالوا: وأما قولكم: إن الخمر كل ما خمر، والنبيذ كله يخمر، فهو خمر - فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني، فتسمى ببعضها لعلةٍ فيها، وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر. ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبةٍ تلقى فيه ولا يسمى خمراً، وأن العجين قد يخمر فيسمى خميراً ولا يسمى خمراً، وأن نقيع التمر يسمى سكراً لإسكاره ولا يسمى غيره من النبيذ سكراً وإن كان مسكراً. وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به.
ورائب اللبن يسكر إسكاراً كسكر النبيذ. ويقال: قوم ملبونون، وقوم روبى، إذا شربوا الرائب فسكروا منه. وقال بشر بن أبي خازم:
فأما تميم تميم بن مرٍ ... فألفاهم القوم روبي نياما
وأما قولكم للرجل: مخمور، وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر، وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نباذ - فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يعرض مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه ما يقال في الخمر. وإنما كان شربة النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء ومما لا يعرض منه خمار.
وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر، فقال الأقيشر، وكان مغرماً بالشراب:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف، ولم تنغر بها ساعةً قدر
أتاني بها يحيى، وقد نمت نومةً ... وقد غارت الشعري، وقد خفق النسر
فقلت: اصطحبها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب، ويحك، والخمر
إذا المرء وافى الأربعين، ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه، ولا تنكر عليه الذي أنى ... وأن جر أرسان الحياة له الدهر
فأعلمك أن الخمر هي التي لم تغل به القدور.
وأما قول بعض الشعراء في شاربي النبيذ، وما عابوهم به من قلة الوفاء، ونقض العهود فقد قالوا أقبح من ذلك في تارك النبيذ، وقال ابن بيض:
ألا لا يغرنك ذو سجدةٍ ... يظل بها دائباً يخدع

وما للتقى لزمت وجهه ... ولكن ليأتي مستودع
ثلاثون ألفاً حواها السجود ... فليست إلى ربها ترجع
ورد أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في رده أطمع
وقال آخر:
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء
قوم يورون عما في نفوسهم ... حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء
مشمرين إلى أنصاف سوقهم ... هم الذئاب وقد يدعون قراء
وقال أعرابي:
صلى فأعجبني وصام فرابني ... نح القلوص عن المصلي الصائم
وقال غيره:
شمر ثيابك واستعد لقائل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وامش الدبيب إذا مشيت لحاجةٍ ... حتى تصيب وديعةً ليتيم
وقال بعض الظرفاء:
أظهروا لله سمتاً ... وعلى المنقوش داروا
وله صلوا وصاموا ... وله حجوا وزاروا
لو يرى فوق الثريا ... ولهم ريش لطاروا
وهؤلاء المراءون بأعمالهم، العاملون للناس والتاركون للناس، هم شرار الخلق وأراذل البرية. وقد فضل شربة النبيذ عليهم بإرسال الأنفس على السجية، وإظهار المروءة. ولسنا نصف بهذا منهم إلا الأدنياء، فليس في الناس صنف إلا ولهم حشوة.
ومن احتجاج المحللين للنبيذ ما رواه مالك وأثبته في موطئه، من حديث أبي سعيد الخدري: أنه قدم من سفر فقدم إليه لحم من لحوم الأضاحي، فقال: ألم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أمر. فخرج إلى الناس فسألهم، فأخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا وتصدقوا. وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والمزفت، فانتبذوا، وكل مسكرٍ حرام. وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هجراً " .
والحديثان صحيحان رواهما مالك بن أنس وأثبتهما في موطئه، وإنما هو ناسخ ومنسوخ، وإنما كان نهيه أن ينتبذ في الدباء والمزفت نهياً عن النبيذ الشديد؛ لأن الأشربة التي تعتمل فيها تشتد. ولا معنى للدباء والمزفت غير هذا.
وقوله بعد هذا: " كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام " ، إباحةٌ لما كان حظر عليه من النبيذ الشديد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام " فنهاهم بذلك أن يشربوا حتى يسكروا. وإنما المسكر ما أسكر، ولا يسمى القليل الذي لا يسكر مسكرا. ولو كان ما يسكر كثيره يسمى قليله مسكرا ما أباح لنا منه شيئاً. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ شرب من سقاية العباس، فوجده شديداً. قطب بين حاجبيه، ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه، ثم قال: " إذا اغتلمت أشربتكم فاكسروها بالماء " . ولو كان حراماً لأراقه وما صب عليه ماء ثم شربه.
واحتجوا: في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف حرام، فإن هذا كله منسوخ، نسخه شربه للصلب يوم حجة الوداع.
قالوا: ومن الدليل على ذلك أنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر، ثم وفدوا إليه بعد، فرآهم مصفرة ألوانهم، سيئة حالهم، فسألهم عن قصتهم فأعلموه أنه كان لهم شراب فيه قوام أبدانهم فمنعهم من ذلك، فأذن لهم في شربه. وأن ابن مسعودٍ قال: " شهدنا التحريم وشهدتم، وشهدنا التحليل وغبتم " . وأنه كان يشرب الصلب من نبيذ الجر حتى كثرت الروايات به عنه وشهرت وأذيعت، واتبعه عليه عامة التابعين من الكوفيين، وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في جوف خابيةٍ ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فيه، ويعجبني قول ابن مسعود
وإنما أراد: أنهم كانوا يعمدون إلى الرب الذي قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فيردون عليه من الماء قدر ما ذهب منه، ثم يتركونه حتى يغلي ويسكن جأشه ثم يشربونه. وكان عمر يشرب على طعامه الصلب، ويقول: يقطع هذا اللحم في بطوننا.
واحتجوا بحديث زيد بن أخزم، عن أبي داود، عن شعبة، عن مسعر بن كدام، عن ابن عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، أنه قال: " حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب " .

وبحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو شاكٍ على بعير، ومعه محجن، كلما مر بالحجر استلمه بالمحجن، حتى إذا انقضى طوافه نزل فصلى ركعتين، ثم أتى السقاية فقال: " اسقوني من هذا " . فقال له العباس " ألا نسقيك مما يصنع في البيوت؟ قال: " لا، ولكن اسقوني مما يشرب الناس " . فأتي بقدح من نبيذ، فذاقه فقطب، وقال: " هلموا فصبوا فيه الماء " . ثم قال: " زد فيه " مرة، أو مرتين، أو ثلاثة. ثم قال: " إذا صنع بكم هذا فاصنعوا به هكذا " .
وبحديث رواه يحيى بن اليمان، عن الثوري، عن منصور بن خالد، عن سعيد بن مسعود الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش وهو يطوف بالبيت، فأتي بنبيذٍ من السقاية فشمه فقطب، ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه وشرب، فقال له رجل: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: " لا " .
وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة عمر، فانتشى، فحده عمر. وإنما حده للسكر لا للشراب.
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يشربون ويوقدون في الأخصاص، فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم، وعن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم " . وهم بتأديبهم، فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين، نهاك الله عن التجسس، ونهاك عن الدخول بغير إذنٍ فدخلت فقال: هاتان بهاتين. وانصرف، وهو يقول: " كل الناس أفقه منك يا عمر " .
وإنما نهاهم عن المعاقرة وعن إدمان الشراب حتى يسكروا، ولم ينههم عن الشراب.
وأصل المعاقرة من عقر الحوض، وهو مقام الشاربة.
ولو كان عنده ما شربوا خمراً لحدهم.
وبلغه عن عامل بميسان أنه قال:
ألا أبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ ... وصناجةٌ تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدم
فقال: إي والله، إنه ليسوؤني ذلك. فعزله وقال: والله لا عمل لي عملاً أبداً.
وإنما أنكر عليه المدام، وشربه بالكبير، والصنج والرقص، وشغله باللهو عما فوض إليه من أمور الرعية. ولو كان ما شرب عنده خمراً لحده.
حدث محمد بن داود، عن سعيد بن نصير، عن يسار، عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار، وسئل عن النبيذ، أحرام هو؟ فقال: انظر ثمن التمر، من أين هو، ولا تسل عن النبيذ أحلالٌ هو أم حرام؟ وعوتب سعيد بن زيد في النبيذ، فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شر عملي.
وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال: نعم. فقيل: وكيف تشربه؟ فقال: على غدائي وعشائي، وعند ظمئي. قيل: فما تركت منه؟ قال: التكأة ومحادثة الإخوان.
قال المأمون: " اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا سهل عليك فدعه " . وإنما أراد به أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الإسكار.
وقيل لسعيد بن أسلم: أتشرب النبيذ؟ فقال: لا. قيل: ولم؟ قال: تركت كثيره لله، وقليله للناس.
وكان سفيان الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه.
واحتجوا من جهة النظر أن الأشياء كلها مباحة إلا حرم الله قالوا: فلا نزيل نفس الحلال بالاختلاف، ولو كان المحللون فرقة من الناس، فكيف وهم أكثر الفرق؟ وأهل الكوفة أجمعون على التحليل، لا يختلفون فيه. وتلوا قول الله عز وجل: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون " .
حدث إسحاق بن راهويه قال: سمعت وكيعاً يقول: " النبيذ أحل من الماء " .
وعابه بعض الناس في ذلك، وقالوا: كيف يكون أحل من الماء؟ وهو وإن كان حلالاً فهو بمنزلة الماء. وليس على وكيع في هذا الموضع عيب، ولا يرجع عليه فيه كذب، لأن كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم، كما يقولون: " هو أشهر من الصباح " ، و " أسرع من البرق " ، و " أبعد من النجم " ، و " أحلى من العسل " ، و " أحر من النار " . ولم يكن أحدٌ من الكوفيين يحرم النبيذ غير عبد الله بن إدريس. وكان بذلك معيباً.
وقيل لابن إدريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال: هؤلاء الذين يشربون النبيذ. قيل: وكيف وهم يشربون ما يحرم عندك؟ قال: ذلك مبلغهم من العلم.
وكان ابن المبارك يكره شرب النبيذ، ويخالف فيه رأي المشايخ وأهل البصرة.

قال أبو بكر بن عياش: من أين جئت بهذا القول في كراهيتك النبيذ، ومخالفتك أهل بلدك؟ قال: هو شيء اخترته لنفسي قلت: فتعيب من شربه؟ قال: لا. قلت: فأنت وما اخترت.
وكان عبد الله بن داود يقول: ما هو عندي وماء الفرات إلا سواء. وكان يقول: أكره إدارة القدح، وأكره نقيع الزبيب، وأكره المعتق.
وقال: من أدار القدح لم تجز شهادته.
وشهد رجل عند سوار القاضي، فرد شهادته لأنه كان يشرب النبيذ. فقال:
أما النبيذ فإني غير تاركه ... ولا شهادة لي ما عاش سوار
حدث شبابة قال: حدثني غسان بن أبي الصباح الكوفي، عن أبي سلمة يحيى بن دينار، عن أبي المطهر الوراق قال: بينما زيد بن علي في بعض أزقة الكوفة إذ بصر به رجل من الشيعة، فدعاه إلى منزله، فأحضره طعاماً، فتسامعت به الشيعة، فدخلوا عليه حتى غص المجلس بهم، فأكملوا معه، ثم استسقى، فقيل له: أي الشراب نسقيك يا ابن رسول الله؟ قال: أصلبه أو أشده. فأتوه بعس من نبيذ فشرب، ودار العس عليهم فشربوا. ثم قالوا: يا ابن رسول الله لو حدثتنا في هذا النبيذ بحديثٍ رويته عن أبيك عن جدك، فإن العلماء يختلفون فيه؟ قال: نعم، حدثني أبي عن جدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتركبن طبقة بني إسرائيل خذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل. ألا وإن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت، أحل منه الغرفة والغرفتين، وحرم منه الري، وقد ابتلاكم بهذا النبيذ، أحل منه القليل وحرم منه الكثير " .
وكان أهل الكوفة يسمون النبيذ " نهر طالوت " . وقال فيه شاعرهم:
اشرب على طرب من نهر طالوت ... حمراء صافيةً في لون ياقوت
من كف ساحرة العينين شاطرةٍ ... تربي على سحر هاروتٍ وماروت
لها تماوت ألحاظ إذا نظرت ... فنار قلبك من تلك التماويت
قصة الحارث بن كلدة طبيب العرب
مع كسرى أنوشروان الفارسيحكى الفرغاني عن بعض رجاله قال: وفد على كسرى ملك الفرس الحارث بن كلدة طبيب العرب، فأذن له بالدخول، فمثل بين يديه فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن كلدة. قال: أعرابي أنت؟ قال: نعم من صميمها. قال: فما صناعتك؟ قال: طبيب. قال: فما تصنع العرب بالطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وقلة قبولها، وسوء غذائها؟ فقال: ذلك أجدر أيها الملك، إذ كانت بهذه الصفة، ان تحتاج إلى من يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها. قال الملك: كيف لها أن تعرف ما نزوره عليها، لو عرفت الحق لم تنسب إلى الجهل. قال الحارث: أيها الملك، إن الله جل اسمه قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق، وأخذ القوم نصيبهم، ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم، وعاجز وحازم. قال الملك: فما الذي يحمد من أخلاقهم ويحفظ من مذاهبهم؟ قال الحارث: لهم أنفس سخية، وقلوب جرية، وعقول صحيحة مرضية، وأحساب نقية، يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم العائر، ألين من الماء، وأعذب من الهواء، يطعمون الطعام، ويضربون الهام، وعزهم لا يرام، وجارهم لا يضام، ولا يروع إذا نام، ولا يقرون بفضل أحدٍ من الأنام، ما خلا الملك الهمام، الذي لا يقاس به أحد من الأنام.

قال: فاستوى كسرى جالساً، ثم التفت إلى من حوله؛ فقال: أطرى قومه، فلولا أن تداركه عقله لذم قومه، على أني أراه راجحاً. ثم أذن له بالجلوس فقال: كيف بصرك بالطب؟ قال: ناهيك. قال: فما أصل الطب؟ قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين. قال: أصبت الدواء، فما الداء؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، هو الذي أفنى البرية، وقتل السباع في البرية. قال: أصبت. ثم قال: فما الجمرة التي تلتهب منها الأدواء؟ قال: هي التخمة، إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت. قال: فما تقول في الحجامة؟ قال: في نقصان الهلال، في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والسرور حاضر. قال: فما تقول في الحمام؟ قال: لا تدخل الحمام شبعان، ولا تغش أهلك سكران، ولا تنم بالليل عريان، وارفق بجسمك يكن أرجى لنسلك. قال: فما تقول في شرب الدواء؟ قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة، دعه فإذا أحسست بحركة الداء فاحبسه بما يردعه من الدواء؛ فإن البدن بمنزلة الأرض، إن أصلحتها عمرت، وإن أفسدتها خربت. قال: فما تقول في الشراب؟ قال: أطيبه أهناه، وأرقه أمراه، ولا تشرب صرفاً يورثك صداعاً ويثر عليك من الداء أنواعاً. قال: فأي اللحمان أحمد؟ قال: الضأن الفتي وأدسمه أمرؤه، واجتنب أكل القديد المالح، من الجزور والبقر. قال: فما تقول في الفاكهة؟ قال: كلها في إقبال دولتها، وحين أوانها، واتركها إذا أدبرت وتولت وانقضى زمانها. وأفضل الفاكهة الرمان والأترج، وأفضل البقول الهندبا والخس، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج. قال: فما تقول في شرب الماء؟ قال: هو حياة البدن، وبه قوته، وينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم ضرر، وأفضل المياه مياه الأنهار العظام، أبرده وأصفاه. قال: فما طعمه؟ قال: شيء لا يوصف، مشتق من الحياة. قال: فما لونه؟ قال: اشتبه على الأبصار لونه، يحكي لون كل شيء يكون فيه. قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟ قال: أصله من حيث يشرب الماء. يعني رأسه.
قال: فما هذا النور الذي تبصر به الأشياء؟ قال: العين مركبة من أشياء، فالبياض شحمة، والسواد ماء.
قال: فعلى كم طبع هذا البدن؟ قال: على أربع طبائع: على المرة السوداء، وهي باردة يابسة؛ والمرة الصفراء، وهي حارة يابسة؛ والدم، وهو حار رطب؛ والبلغم، وهو بارد رطب. قال: فلم لم يكن من طبع واحد؟ قال: لو خلق من شيء واحد لم ينحل ولم يمرض ولم يمت. قال: فمن طبعين ما حال الاقتصار عليهما؟ قال: لو اقتصر عليهما لم يجز؛ لأنهما ضدان يقتتلان، ولذلك لم يجز من ثلاثة: موافقان ومخالف. قال: فأجمل لي الحار والبارد في أحرف جامعة. قال: كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مز معتدل، وفي المر حار وبارد. قال: فما أفضل ما عولج به المرة السوداء؟ قال: بكل حار لين. قال: فالرياح؟ قال: الحقن اللينة والأدهان الحارة اللينة. قال: أفتأمر بالحقن؟ قال: نعم، قرأت في بعض الكتب: أن الحقنة تنقي الجوف، وتكسح الدواء عنه، وعجباً لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد، وإن الجاهل كل الجاهل من أكل ما قد عرف مضرته، فيؤثر شهوته على راحة بدنه. قال: فما الحمية؟ قال: الاقتصاد في كل شيء؛ فإنه إذا أكل فوق المقدار ضيق على الروح ساحته.
قال: فما تقول في إيتان النساء؟ قال: كثرة غشيانهن رديء، وإيتان المرأة المولية فإنها كالشن البالي، تسقم بدنك، وتجذب قوتك، ماؤها سم قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك ولا تعطيك. عليك بإيتان الشباب، فإن الشابة ملؤها عذب زلال، ومعانقتها غنج ودلال، فوها بارد، وريحها طيب، ورحمها حرج، تزيدك قوة ونشاطاً. قال: فأي النساء القلب لها أبسط، والعين برؤيتها آنس وأقصد؟ قال: إن أصبتها مديدة القامة، عظيمة الهامة، واسعة الجبين، عريضة الصدر، مليحة النحر، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء فرعاء، جعدة غضة، حسنة الثغر، تخالها في الظلمة بدراً زاهراً، تبسم عن أقحوان باهر، وإن تكشف تكشف عن بيضةٍ مكنونة، وإن تعانق تعانق ما هو ألين من الزبد، وأحلى من الشهد، وأعذب من القند، وأبرد من الفردوس والخلد، وأذكى ريحاً من الياسمين والورد.

قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه، قال: فأي الأوقات أفضل؟ قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أشهى، والرحم أدفا. قال: فأي الأوقات ألذ وأطرب؟ قال: نهاراً، يزيدك النظر انتشاراً. قال كسرى: لله درك من أعرابي، لقد أعطيت علماً، وخصصت بفطنة وفهم. ثم أمر له بجائزة وكسى، وقضى حوائجه.
وحضر ابن أبي الحوارى بالشام - وكان معروفاً بالرقائق والزهد - مائدة صالح العباسي، مع فقهاء البلد، فحدثني البحتري بن عبادة، وكان ممن حضر المجلس: أنه بعث إليه بقدح نبيذ فشربه، ثم بعث إليه بثانٍ فامتنع من شربه، فأخذه الناس بألسنتهم، وقالوا: شربت المسكر على أعين هؤلاء وصرت لهم حجة. قال: أحسبكم أردتم أن أكون ممن قال الله تعالى فيه " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم " ، فكيف كنت أدعه لكم وأشربه بعين الله.
وقال بعض القضاة لرجل كان يعذله: بلغني أنك تشرب المسكر. فقال: ما أشرب المسكر، ولكني أشرب النبيذ الصلب.
فأين هؤلاء في ترك الرياء والتصنع من رجل سرقت نعله فلم يشتر نعلاً حتى مات، فعوتب في ذلك فقال: أخشى أن أشتري نعلاً فيسرقها أحد فيأثم.
وآخر لما نظر إلى أهل عرفاتٍ قال: ما أظن الله إلا وقد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم.
وآخر أمر له عمر بن الخطاب بكيسٍ، فقال: آخذ الكيس والخيط؟ فقال له عمر: دع الكيس.
ورجل سأل ابن المبارك فقال: إني قاسمت إخوتي، وبيننا مبرز غير مقسوم، وفي بطر، أفترى لي أن ادخله أكثر مما يدخله شركائي؟ وآخر قال: أفطرت البارحة على رغيف وزيتونة ونصف، أو زيتونة وثلث، أو زيتونة وربع، أو ما علم الله من زيتونة أخرى. فقال له بعض من حضر المجلس: يا فتى، إنه بلغنا أن من الورع ما يبغضه الله، وأحسبه ورعك هذا.
الأعمش قال: أتاني عبد الله بن سعد فقال لي: ألا تعجب؟ جاءني رجل فقال: دلني على شيء إذا أكلته أمرضني، فقد اتسبطأت العلة، وأحببت أن أعتل فأوجر. فقلت له: سل الله العافية، واستدم النعمة؛ فإن من شكر على النعمة كمن صبر على البلية. فألح علي فقلت له: كل السمك، واشرب نبيذ الزبيب، ونم في الشمس، واستمرض الله يمرضك إن شاء الله! هارون بن داود قال: شرب رجل عند خمار نصراني، فأصبح ميتاً، فاجتمع عليه الناس، وقالوا للخمار: أنت قتلته. قال: لا والله، ولكن قتله استعماله قوله:
وأخرى تداويت منها بها
كتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا
والفكاهات والملحقال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، رحمه الله: قد مضى قولنا في الطعام والشراب وما يتولد منهما، وينسب إليهما. ونحن قائلون بما ألفناه في كتابنا هذا، من الفكاهات والملح التي هي نزهة النفس، وربيع القلب، ومرتع السمع، ومجلب الراحة، ومعدن السرور.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " روجوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت " .
وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان. والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جانحة إلى اللهو، أمارة بالسوء، مستوطئة للعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل، فإن أكرهتها أنضيتها، وإن أهملتها أرديتها.
ودخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه عمر، وهو ينام نومة الضحى، فقال: يا أبت، أتنام وأصحاب الحوائج راكدون ببابك؟ قال: يا بني، إن نفسي مطيتي، فإن أنضيتها قطعتها، ومن قطع المطي لم يبلغ الغاية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه.
وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير فيمن لا يطرب " .
وقال: " كل كريم طروب " .
وقال هشام بن عبد الملك: أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعماً، وشممت الطيب حتى ما أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطاً، ما وجدت شيئاً ألذ إلي من جليس تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ.
وقيل لعمر بن العاصي: ما ألذ الأشياء؟ قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث. فخرجوا، فقال: ألذ الأشياء إسقاط المروءة.
وقيل لمسلمة بن عبد الملك: ما ألذ الأشياء؟ فقال: هتك الحياء، واتباع الهوى.

وهذه المنزلة من إهمال النفس وهتك الحياء قبيحة، كما أن المنزلة الأخرى من الغلو في الدين، والتقشف في الهيئة قبيحة أيضاً، وإنما المحمود منها التوسط، وأن يكون لهذا موضعه وهذا موضعه.
وقال مطرف بن عبد الله لولده: " يا بني إن الحسنة بين السيئتين، - يريد بين المجاوزة والتقصير - وخير الأمور أواسطها، وشر السير الحقحقة " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى " .
وفي بعض الكتب المترجمة: إن يحنا وشمعون، كان من الحواريين، وكان يحنا لا يجلس مجلساً إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلساً إلا بكى وأبكى من حوله، فقال شمعون ليحنا: ما أكثر ضحكك، كأنك قد فرغت من عملك؟ فقال له يحنا: ما أكثر بكاءك، كأنك قد يئست من ربك؟ فأوحى الله إلى المسيح: أن أحب السيرتين إلي سيرة يحنا.
وفي بعض الكتب أيضاً أن عيسى بن مريم لقي يحيى بن زكريا فتبسم إليه يحيى، فقال له عيسى: إنك لتبسم تبسم آمن! فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانط! فأوحى الله إلى عيسى: " إن الذي يفعل يحيى أحب إلي " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم دخل نعيمان الجنة ضاحكاً، لأنه كان يضحكني " . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو أرمد، فوجده وهو يأكل تمراً، فقال له: أتأكل تمراً وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من الجانب الآخر. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
وكانت سويداء لبعض الأنصار تختلف على عائشة، فتلعب بين يديها وتضحكها، وربما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فيجدها عندها فيضحكان جميعاً، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقدها، فقال: يا عائشة، ما فعلت السويداء؟ قالت له: إنها مريضة. فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم يعودها، فوجدها في الموت، فقال لأهلها: إذا توفيت فآذنوني. فلما توفيت آذنوه، فشهدها وصلى عليها، وقال: " اللهم إنها كانت حريصة على أن تضحكني، فأضحكها فرحاً " .
وقيل لأبي نواس: قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما، فقال؛ أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفره قرأ عليهم أساطير الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره.
قال ابن إسحاق: وقد طرب الصالحون وضحكوا ومزحوا. وإذا مدحت العرب رجلاً قالوا: هو ضحوك السن، بسام الهشيات، هش إلى الضيف. وإذا ذمته قالت: هو عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجنة كأنما وجهه بالخل منضوح، وكأنما أسقط خيشومه بالخردل.
وكتب يحيى بن خالد إلى الفضل ابنه وهو بخراسان: " يا بني، لا تغفل نصيبك من الكسل " .
وهذا حرف جامع لما قصدناه من هذا المعنى، لأن بالكسل تكون الراحة، وبالراحة يثوب النشاط وبالنشاط يصفو الذهن، ويصدق الحس ويكثر الصواب.
قال الشاعر:
إنما للناس منا ... حسن خلق ومزاح
ولنا ما كان فينا ... من فساد وصلاح
الهيثم بن عدي قال: رأيت هشام بن عروة قد اجتمع إليه أصحاب الحديث يسألونه، فقال لهم: يا قوم، أما ما كان عندي من الحلال والحرام والسنة فإني لا أستحل أن أمنعكموه، وأما ملحي فلا أعطيكموها ولا كرامة.
باب من المفاكهات
حديث عباس بن الأحنفحدث أبو العباس النحوي المعروف بالمبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي، وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً، وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به، وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي نذكره. ووقع إلي من غير ناحيته، ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك:

ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد، كلهم ابن نعمة، وكلهم قد شرد عن أهله، وقنع بأصحابه، فذكر ذاكر منهم قال: كنا قد اكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس، فكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً، على مقدار ما يمكن الواحد من أهله، وكنا لا نستكثر أن تقع مؤونتنا على واحد منا إذا أمكنه، ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول. وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، ودعونا الملهين والملهيات. وكان جلوسنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس، وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا يسر. فإنا لكذلك يوماً إذا بفتى يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف حلو الوجه، سري الهيئة، ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم، فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم، وحسن منادمتكم، وصحة ألفتكم، حتى كأنكم أدرجتم جميعاً في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحداً منكم، فلا تحتشموا. قال: وصادف ذلك منا إقتاراً من القوت، وكثرة من النبيذ. وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم: هات ما عندك، فغاب الغلام عنا غير كثير، ثم إذا هو قد أتانا بسلة خيزران، فيها طعام المطبخ: من جدي، ودجاج، وفراغ، ورقاق، وأشنان، ومحلب، وأخلة، فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا؛ وانبسط الرجل؛ فإذا أحلى خلق الله إذا حدث؛ وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف. ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة، وأجمل مساعدة. وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا أنه لا يحب غيره، ويرى ذلك في إشراق وجهه، فكنا نغنى به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه، فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه، فلم يكن منا إلا تعرف الكنية، فإنا سألناه عنها فقال: " أبو الفضل " .
فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم؟ قلنا: نعم إنا لنحب ذلك. قال: أحببت جارية في جواركم، وكانت سيدتها ذات حبائب، فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها فأراها، حتى أخلقني الجلوس على الطريق، ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخبرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً، فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرنا، فقلنا له: فإنا نختدعها حتى نظفرك بها. فقال: يا إخواني إني والله، على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها، ما قدرت فيها حراماً قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها. فأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه، والسرور بصحبته، إلى أن اختلس منا، فنالنا بفراقه ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه. فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غماً إذا ذكرنا؛ لاتصال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته، فكنا فيه كما قال القائل:
يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر، فما أنفك منهم على ذكر
فغاب عنا زهاء عشرين يوماً، ثم بينا نحن مجتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في مركب نبيل، وزي جليل، فحيث بصر بنا انحط عن دابته، وانحط غلمانه، ثم قال: يا إخواني، والله ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتي المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال:

أعرفكم أولاً بنفسي، أنا العباس بن الأحنف، وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم، فإذا المسودة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: ويحك يا عباس، إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك، وإن الذي ندبتك له من شأنك، وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن " ماردة " هي الغالبة على أمير المؤمنين، وأنه جرى بينهما عتب، فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك، وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزه الصبابة، فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه، ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه، وأعطيت قرطاساً ودواة، فاعتراني الزمع، وأذهب عني ما أريد الاستحثاث، فتعذرت علي كل عروض، ونفرت عني كل قافية، ثم انفتح لي شيء والرسل تعنتني، فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني، فقلت لأحد الرسل: ابلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان فيها مقنع وجهت بها. فرجع إلي الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول وردوعه قلت بيتين نم غير ذلك الروي، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقبت بالبيتين، فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذي هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو فعز منه المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى من خالد، فدفعه إلى الرشيد، فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به. فقال له يحيى: فأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به، هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله:
راجع من يهوى على رغم

استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكه، ثم قال: إي والله، أراجع على رغم، يا غلام هات نعلي. فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء، فدعاني يحيى، وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما قوع مني بغاية الموافقة. ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكاني، ثم نهضه بنهوضه، فقال لي: يا عباس، أمسيت أملأ الناس، أتدري ما سارني به هذا الرسول؟ قلت: لا. وقال: ذكر لي أن " ماردة " تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فأعطاها الشعر وقال: هذا الذي أتى بي إليك. قالت: فمن يقوله: عباس بن الأحنف. قالت: فبم كوفئ؟ قال: ما فعلت شيئاً بعد. قالت: إذاً والله لا أجلس حتى يكافأ. قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها، وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة. ثم قال: هذا أحسن من شعرك. قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت لي ماردة بمال دونه. وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به، وحملت على ما ترون من الظهر. ثم قال الوزير: من تمام اليد عندي ألا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضياعاً. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إلي بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضياع، وأفرق فيكم المال. قلنا له: هنأك الله ما لك، فكل من يرجع إلى نعمة من أبيه وأهله. فأقسم وأقسمنا، قال: فأنتم فيه أسوتي. فقلنا: أما هذا فنعم، قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئاً، أكثر ما فيها ظرف اللسان، وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم حط مائة. فقال العباس يا فتيان، إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل. قال: هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها، فأكره أن تنظر إلي بعين من قد ماكس في ثمنها، دعوني أعطه بها خمسمائة دينار، كما سأل. قلنا له: وإنه قد حط مائتين، قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلاً حراً، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين. فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا.
حدث المجردقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط، وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً. قلت: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا " . قال: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه. قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت. قال:

بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة، معها صبي يبكي، وهي تسكته فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرت من فيها كسرة درهم، فدفعتها إلى الصبي، فسكت؛ فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري، وإذا شكل رطب، ولسان فصيح، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني. فقالت: إن شريطتي الحلال. قالت: ارجع في حرامك، ومن يريدك على حرام؟ فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها فدخلت زقاق العطارين، فصعدت درجة وقالت: اصعد. فصعدت، فقال: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم، وأنا امرأة من زهرة، ولكن عندي حر ضيق عليه وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة. أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم! قلت: وما أصفر سليم؟ قالت: بدينار واحد يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها. قالت: قولي لفلانة: البسي ثيابك وعجلي، وبحياتي لا تمسي غمراً، ولا طيباً، فحسبنا بدلالك، وعطرك. قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب الشمس وقعت عليها، كأنها دمية، فسلمت وقعدت كالخجلة. فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين. قالت: حياه الله، وقرب داره. قال: لا، والله يا بنية، لقد أنسيتها. ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شريطتها؟ قلت: لا. قالت: أقول لك بحضرتها ما إخالها تكرهه، هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب، وأشجع من ربيعة من مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها، فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. فقلت: ما أهون هذا وأسهله. قالت الجارية: وتركت شيئاً أيضاً. قالت: نعم والله، اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها فتراك مجرداً، مقبلاً ومدبراً. قلت: وهذا أيضاً أفعله. قالت: هلم دينارك. فأخرجت ديناراً فنبذته إليها، فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة، قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة. فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب. قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا، فقصت المرأة عليهما القصة، فخطب أحدهما وأجاب الآخر. وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة، فدعوا بالبركة، ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤونة، فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها. وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي، ليست ممن يمس طيباً لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم. فنهضت الجارية، وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت وتغدينا، وجاءت بدواة وقضيب، وقعدت تجاهي، ودعت بنبيذ، فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط، فإني ألفت بيوت القنان نحواً من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أجن سروراً وطرباً، فجعلت أريغ أن تدنو مني فتأبى، إلى أن غنت بشعر لم أعرفه، وهو:
راحوا يصيدون الظباء، وإنني ... لأرى تصيدها علي حراما
أعزز علي بأن أروع شبيهها ... أو أن تذوق على يدي حماما
فقلت: جعلت فداك، من تغنى بهذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج وابن عائشة. فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب، تغنت بصوت لم أفهمه، للشقاء الذي كتب علي، فقالت:
كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري

قلت: جعلت فداك، ما أفهم هذا البيت، ولا أحسبه مما يتغنى به. قال: أنا أول من تغنى به. قلت: فإنما هو بيت عائر لا صاحب له. قالت: معه آخر ليس هذا وقته، وهو آخر ما أتغنى به. قال: فجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها. فلما أمسينا وصلينا المغرب، وجاءت العشاء الآخرة، وضعت القضيب، فقمت وصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً، فلما سلمت قلت: تأذنين جعلت فداك أشق ثيابي عجلة للخروج عنها، فتجردت وقمت بين يديها مكفراً لها. قالت: امض إلى زاوية البيت، وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً مدبراً. قال: وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى زاوية البيت، فأخطر عليه، وإذا تحته خرق إلى السوق، فإذا أنا في السوق قائماً متجرداً منعظاً، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالها، وكمنا لي في ناحية، فلما هبطت عليهما بادراً إلي فقطعا نعالها على قفاي، واستعانا بأهل السوق، فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي، فينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة، فإذا صوت من فوق البيت يغني به، وهو:
ولو علم المجرد ما أردنا ... لخاض لنا المجرد بالصحاري
فقلت في نفسي: هذا والله وقت هذا البيت، فنجوت إلى رحلي، وما في عظم صحيح، فلما انقضى حجنا وانصرفنا جعلت طريقي على ذلك الموضع فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب. فقلت: لعنها الله ولعن الذي هي منه.
حديث صاحبة الزبقال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها، قد قام عنها من كان يجلس إليها، وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي، فالتفت فرأيتها، فقالت: هل من حاجة؟ قلت: تزيدين في السماع. قالت: وأنت قائم؟ لو قعدت! فقعدت كالخجل فقالت: كيف علمك بالغناء؟ قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بلا نار؟ وما منعك من معرفته، فوالله إنه لسحوري وفطوري. قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا عير، وله موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة؟ قلت: وكل هؤلاء النسوة التي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت: فيهن وفيهن، ولي من بينهن قصة. قلت: وما هي؟ قالت: كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي من القبح والدمامة والأدمة، وكنت أشتهي النيك شهوة شديدة، وكان زوجي شاباً وضياً، وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره، فأصر ذلك بي، وكان علقته امرأة قصار تجاورني، فزاد ذلك في غمي، فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك؟ قلت: وا بأبي أنت، إذاً تكوني أعظم الخلق منة علي. قالت: اختلفي إلي " مجمع " مولى آل الزبير فإنه حسن الغناء، فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة، ثم غني بها زوجك فإنه ينيكك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة، فكنت إذا أقبل زوجي من مهنته اضطجعت فرفعت عقيرتي، فإذا غنيت صوتاًبت على زب، وإن غنيت صوتين بت على زبين، وإن ثلاثة فثلاثة.
فكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه، ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة الشوري عليك. قالت: حسبي بها منة، وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك اللوعة شيء؟ قالت لذع في الفؤاد، فأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة، فقد ذهب تسعة أعشارها. قال؛ فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك؟ قالت: أنا في قائت من العيش. فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك، لا تنصرف خائباً. ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أبى الناس أن يرضوا بها يشترونها ... ومن يشتري ذاعرة بصحيح
ثم قالت: انطلق لطيتك، صحبتك السلامة.
خبر الهاشمي مع المضحكوحدث أبو عبد الله بن عبد البر المزني بمصر، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن الهيثم بن عدي، قال:

كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكان له قينتان يقال لإحداهما جؤذر، وللأخرى رشأ، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك يغب مجالس المتطرفين، ومواضع الملهين، فأرسل إليه الهاشمي ذات يوم ليضحك منه، فلما جاءه قال له المضحك: إنك أصلحك الله في لذتك، ولا لذة لي. قال له: وما لذتك؟ قال تحضرني نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر العشر، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسموت الكنف المراحيض. قال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول: غنياني:
رحضت فؤادي فعنيتني ... أهيم من الحب في كل واد
فاندفعتا فغنتاه فقال في نفسه: لم تفهما والله عني، أنظهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب. قال: يا حبيبتي، أين المذاهب؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب
فغنتاه الصوت فقال في نفسه: لم يفهما عني، ما أظنهما إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء. قال: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
خلى علي جوى الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكة والتسهيد والحزنا
قال: فغنتاه فقال في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أحسبهما الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش. قال: يا حبيبتي أين بيت الحش؟ قالت إحداهما للأخرى: ويلك ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
أوحش الحشان فالربع منها ... فمناها فالمنزل المعمور
فرفعا عقيرتيهما تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف. فقال: يا حبيبتي، أين يكون الكنيف، قالت إحداهما للأخرى: يعيش سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل أفهميني ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:
تكنفني الهوى طفلاً ... فشيبني وما اكتهلا
قال: فغلبه بطنه، وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال: كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو؟ فرفع ثيابه فسلح عليهما، فانتبه الهاشمي فقال: سبحان الله، أتحدث على وطائي؟ فقال: الذي خرج من جوفي أعز علي من وطائك، إن هاتين القبيحتين حسبتا أنما أسأل عن الحش للضراط، فأردت أن أعلمهما ما هو؟
يوم دارة جلجلقال الفرزدق: وأصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود، فلما أصبحت ركبت بغلة لي وسرت إلى المربد، فإذا أنا بآثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة، وهم خلقاء أن تكون معهم سفرة، فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليها رحائل، موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير، فإذا فيه نوسة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحياً، فنادينني: يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء. فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن، ثم قلن: بالله إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل. قلت:

حدثني جدي، وأنا يومئذ غلام حافظ، أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمه، ويقال لها: عنيزة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي تحملوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل. فلما رأى امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة، فكن في غيابه من الأرض، حتى مر به النساء وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير، فيذهب عنا بعض الكلال! فنزلن في الغدير، ونحين العبيد ثم تجردن فوقعن فيه، فأتاهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن، فجمعها وقد عليها، وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها، ولو قعدت في الغدير يومها، حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها. فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار، وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه فخرجن جميعاً، غير عنيزة: فناشدته الله أن يطرح ثوبها فأبى، فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، وأقبلن عليه، فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها؟ قلن: نعم. فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها، وجمع الخدم حطباً كثيراً، فأججن ناراً عظيمة فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر، ويأكلن ويأكل معهن، ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهن، وينبذ إلى العبيد من الكباب. فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته. وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه، فتقسمن متاعه وزاده. وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئاً. فقال لها: يا ابنة الكرام، لا بد أن تحمليني معك، فإني لا أطيق المشي. فحملته على غارب بعيراه، فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: قعرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل
وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره. وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه جفوة، فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث، وكان مسترضعاً في بني دارم، فأقام فيهم، وهم رهط الفرزدق.
خبر دعبل وصريع الغوانيحدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية، عن دعبل بن علي الشاعر، قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر، وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر، قد نطق بها اللسان، على غير اعتقاد جنان، فقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض
فإذا أنا بجارية رائعة الجمال فائق الكمال، حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف؛ لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:
كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر
وهي تسمع قولي، فاعترضت فقالت:
هذا قليل لمن دهته ... بلحطها الأعين المراض
فأجبتها فقلت:
فهل لمولاي عطف قلب ... أو للذي في الحشا انقراض
فأجابتني، فقالت:
إن كنت تبغي الوداد منا ... فالود في ديننا قراض
قال دعبل: فلا أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها؛ مع ملاحة خد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق. فحار البصر. وذهب اللب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء إذ دنت من النار. ثم ثاب إلي عقلي، وراجعني حلمي، فذكرت قول بشار:
لا يمنعنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا
هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد قبل المسألة، وبذل قبل الطلبة. فقلت مسمعاً لها:
أترى الزمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق
فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس:
ما للزمان يقال فيه وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق

قال دعبل: فلحظتها فتبعتني وذلك في أيام إملاقي، فقلت: ما لي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فسرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج، فقلت له: أجمل لك الخبر: معي وجه صبيح يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل علي ضيقة وعسر. فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه، ايت بها. فلما دخلت قال: لا والله ما أملك غير هذا المنديل. فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. فأخذته، فبعته بدينار عين وكسر، فاشتريت لحماً وخبزاً ونبيذاً، وصرت غليه، فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور. قال: ما صنعت؟ فأخبرته. قال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ اذهب فألطف لتمام ما جئت به. قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى أتيت به، فألفيت باب الدار مفتوحاً، فدخلت فإذا لا أرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثراً، فسقط في يدي وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما. فبقيت متلهفاً حائراً أرجم الظنون، وأجيل الفكر سائر يومي. فلما أمسيت، قلت يا نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر؟ ففعلت، فوقفت على باب سرداب له، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعما. فلما أحسستهما دليت رأسي، ثم ناديت: مسلم، ويلك! فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً. فكان من إجابته لي أن غرد بصوت يقول فيه:
بت في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف
ثم قال دعبل: ويلك! من يقول هذا؟ قلت:
من له في حرامه ألف قرن ... قد أنافت على علو مناف
قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما فلم يجيباني، وأخذا في لذتهما، وبت بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً، حتى إذا أصبحت ولم أكد خرج إلي مسلم، فجعلت أؤنبه، فقال لي: يا صفيق الوجه، منزلي ومنديلي وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟ قلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير! فولى وجهه إليها، وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله. فقالت: أما حق قيادته فعرك أذنه، وأما حق فضوله فصفع قفاه. فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني. فقلت: ما هذا؟ فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق.
حدثنا عيسى بن أحمد الكاتب قال: قال لي الحسين بن الضحاك: دخلت على جعفر المتوكل، وشفيع الخادم ينضد ورداً بين يديه، ولم نعرف في ذلك الزمان خادماً كان أحسن منه ولا أجمل، وعليه ثياب موردة، فأمره أن يسقيني ويغمز كفي. ثم قال لي: يا حسين، قل في شفيع. وكان قد حيا المتوكل بوردة، فجعل المتوكل يشرب ويشم الوردة، فقلت:
فيا وردة جاءت إلينا بحمرة ... من الورد تمشي في قراطق كالورد
ويغمز كفي عند كل تحية ... بكفيه يستدعي الشجي إلى الورد
سقاني بكفيه وعينيه شربة ... فأذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
فأمر المتوكل شفيعاً أن يسقيني وخاصة، وبعث معه إلي بتحايا في عبير وشمامات.
وذكروا أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل كان يعشق خادماً للمتوكل يقال له شفيع، وكان الحسن بن وهب كاتبه كلفاً بذلك الخادم، فلقيه الحسن بن وهب يوماً، فسأله عن خبره، فأخبره أنه يريد أن يحتجم، فلم تبق بالعراق غريبة إلا بعث بها إليه، ولا طريفاً من الأشربة إلا أدخله عليه، وكتب إليه بهذه الأبيات:
ليت شعري يا أملح الناس عندي ... هل تعالجت بالحجامة بعدي
دفع الله عنك لي كل سوء ... باكر رائح وإن خنت عهدي
قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ... ففشا منه بعض ما كنت أبدي
وخلعت العذار فليعلم النا ... س بأني إياك أصفي بودي
من عذيري من مقلتيك ومن إش ... راق وجه من حول حمرة خد
فصادف رسوله رسول محمد بن الزيات الوزير، فرأى رقعة الحسن، فاحتال حتى أخذها، وأوصلها إلى الوزير محمد بن عبد الملك. فلما قرأها كتب إلى كاتبه الحسن بن وهب:
ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجد
فلئن كان تقول بجد ... يا ابن وهب لقد تفتيت بعدي

وتشبهت بي وكنت أرى أن ... ي أنا الهائم المتيم وحدي
أترك القصد في الأمور ولولا ... غمرات الصبا لأبصرت قصدي
سيدي سيدي ومولاي ومن أل ... بسني ذلك وأضرع خدي
لا أحب الذي يلوم وإن كا ... ن حريصاً على صلاحي ورشدي
وأحب الأخ المشارك في الحب ... وإن لم يكن به مثل وجدي
كصديقي أبى علي وحاشى ... لصديقي من مثل شقوة جدي
إن مولاي عبد غيري ولولا ... شؤم جدي لكان مولاي عبدي
فلما التقى ابن الزيات الوزير وكاتبه الحسن بن وهب في بيت الديوان تداعبا في ذلك، وسأله ابن الزيات أن يتجافى له عنه، فقال له الحسن: طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه، لكن الرئيس أدام الله عزه كان أولى بالتفضيل. فقال له ابن الزيات: هيهات، هذه علة نفسانية تؤدي إلى التلف، فتنح عن نصيبك مني. فقال الحسن: إن كان هذا هكذا سمعنا وأطعنا. وأنشد:
شهيدي على ما في فؤادي من هوى ... دموع تباري المستهل من القطر
وأسلمني من كان بالأمس مسعدي ... وصار الهوى عوناً علي مع الدهر
قال علي بن الجهم: دخلت يوماً على المتوكل، فقال لي، يا علي. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: دخلت الساعة على قبيحة، وقد كتبت بالمسك في خدها اسمي، فوالله ما رأيت سواداً في بياض أحسن منه في ذلك الخد، فقل فيه شعراً.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أمظلومة معي؟ قال: نعم، ومظلومة خلف ستارة، فدعت بدواة وبدرت بالقول، فقالت:
وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي خط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطراً من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من لمملوك تملك مالكاً ... مطيعاً له فيما أسر وأظهرا
ويا من مناها في السرائر جعفر ... سقى الله من صوب الغمامة جعفرا
قال: فأفحمت فلم أنطق، وتغلبت علي خواطري فما قدرت على حرف أقوله، وضحك أمير المؤمنين.
الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد، وبين يديه جارية حسناء، عليها لمة جعدة، وذؤابة تضرب الحقو منها، وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: " هذا ما عمل في طراز الله " . فقال: يا أصمعي، صفها. فأنشأت أقول:
كنانية الأطراف سعيدة الحشا ... هلالية العينين طائية الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ونغمة داود وعفة مريم
فقال: أحسنت والله يا أصمعي. فعل عرفت اسمها؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: اسمها دنيا. قال: فأطرق ساعة ثم قلت:
إن دنيا هي التي ... تسحر العين سافره
ظلموها شطر اسمها ... فهي دنيا وآخره
قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وعنده جارية قد أهديت إليه، ماجنة شاعرة أديبة، وبين يديه طبق فيه ورد، فقال: يا إسحاق، أما ترى، ما أحسن هذا الورد ونضرة لونه! قلت: بك والله حسن ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: قل فيه بيتاً يشبهه. فأطرق ساعة، ثم قلت:
كأنه خد موموق يقبله ... فم الحبيب وقد أبدى به خجلا
فاعترضتني الجارية فقالت:
كأنه لون خدي حين تدفعني ... كف الرشيد لأمر يوجب الغسلا
فقال الرشيد: قم يا إسحاق، فقد حركتني هذه الفاسقة.
وحدثنا أيضاً قول: كان هارون الرشيد جالساً بين جاريتين من جواريه، فقال لهما: من يبيت عندي هذه الليلة منكما؟ فقالت إحداهما: أنا. فقالت الأخرى: لا، بل أنا. فقال للأولى: ما حجتك فيما ادعيت؟ فقالت: قول الله يا أمير المؤمنين: " والسابقون السابقون. أولئك المقربون " . ثم قال للثانية: وما حجتك أنت؟ قالت: قول الله: " وللآخرة خير لك من الأولى " . فقال: لتقل كل واحدة منكما شعراً في الغزل، فمن كانت أرق شعراً باتت عندي. فقالت الأولى:
أنا التي أمشي كما يمشي الوجي ... يكاد أن يصرعني تغنجي
من جنة الفردوس كان مخرجي
وقالت الأخرى:
أنا التي لم ير مثلي بشر ... كلامي اللؤلؤ حين ينثر
أسحر من شئت ولست أسحر ... لو سمع الناس كلامي كفروا

فقال لهما: قد أحسنتما وأجدتما، وما لواحدة منكما فضيلة على صاحبتها، ولكني أبيت بينكما.
أخبرنا أبو الطيب الكاتب أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين. مدنية وكوفية، فجعلت الكوفية تغمز يديه، والمدنية تغمز رجليه، فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه حتى ضربت بيدها إلى متاعه، وحركته حتى أنعظ، فقالت لها الكوفية: ويحك نحن شركاؤك في البضاعة، وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وجدك، فأديليني منه. قال: فقالت المدنية: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال " من أحيا مواتاً فهو له ولعقبه " . قال: فاستغلتها الكوفية ودفعتها، ثم أخذته بيديها جميعاً، وقالت: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " الصيد لمن صاده لا لمن أثاره " .
أخبرنا الأنطاكي أن المتوكل على الله طلب من محمود الوراق جارية مغنية، وأعطاه بها عشرة آلاف دينار فأبى، فلما مات محمود اشتراها في ميراثه بخمس آلاف، وقال لها: كنا قد أعطينا مولاك بك عشرة آلاف، وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف. قالت: يا أمير المؤمنين، إذا كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث فسنشتري بأرخص مما اشتريت.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه على إمرة مطاعة، فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فنقطع فرداً. فقام فقضى فيها طره، ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمنى. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته فقال: تمني. فقالت: المعادوة. فغشيها، ثم لاعبته فقمرته، فقالت: قم لميعادك. فقال: لا أقدر على ذلك. قالت: فاكتب لي به عليك كتاباً آخذك به مت شئت. قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت: " هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك فرضاً آخذه متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار " . وكان رأسها وصيفة لها، فقالت: تزيدي يا سيدتي في الكتاب، فإنك لا تأمنين الحدثان، ومن قام له بهذا الذكر حق فهو ولي ما فيه. فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه، واستطرفها، وأمر أن تنزل مقصورة، وأن يجرى لها رزق سني، وشغف بها. ويقال: إنها " مراجل " أم المأمون.
تنفس محمد بن هارون الأمين يوماً في مجلسه أيام الحصار، فالتفت إلى جليس له، وهو محمد بن سلام صاحب المظالم، فقال له: ويحك يا محمد، أتدري؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول الشاعر:
ذكر الهوى فتنفس المشتاق ... وبدا عليه الذل والإطراق
يا من يصبرني لأصبر بعده ... الصبر ليس يطيقه العشاق
فقال: لا والله ما نكأتها. ثم التفت إلى جليس له آخر، فقال له: ويحك أتدري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول ابن الأحنف:
تذكرت بالريحان منك شمائلاً ... وبالراح عذباً من مقبلك العذب
فقال: لا والله ما نكأتها، ثم التفت إلى كوثر الخادم، فقال له: ويحك! أتدري؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول ابن نفيلة الغساني:
إن كان دهر بني ساسان فرقهم ... فإنما الدهر أطوار دهارير
وربما أصبحوا يوماً بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
قال: صدقت.
وكتبت جارية إلى علي بن الجهم رقعة، فأجاب فيها:
ما رقعة جاءتك مكتوبة ... كأنها خد على خد
تبدو سواداً في بياض كما ... ذو فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل إلى الجد
يا كاتباً أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي
وكتبت أيضاً:
قلب يمل على لسان ناطق ... ويد تخط رسالة من عاشق
مزج المداد بعبرة شهدت له ... من كل جارحة بحب صادق
فيمينه تحت الوساد وخده ... ويساره فوق الفؤاد الخافق
أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي وطيبتها. وكتبت فيها:
هدية مني إلى المهدي ... تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبت ... كأنها من جنة الخلد
فأجاب المهدي:
تفاحة من عند تفاحة ... جاءت فماذا صنعت بالفؤاد
والله ما أدري أأبصرتها ... يقظان أم أبصرتها في الرقاد

وكتب بعض الكتاب إلى مدام، جارية المازني، وبعث إليها بقنين من مدام:
قل لمن يملك الملو ... ك وإن كان قد ملك
قد شربناك مرة ... وبعثنا إليك بك
وقال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني، وعنده جارية له كأنها شقة قمر، وبيدها تفاحة معضوضة، فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله:
خبريني من الرسول إليك ... واجعليه من لا ينم عليك
قلت: ما أعرفه. قالت: هو هذه، ورمت إلي بالتفاحة، فوالله ما وجدت لها جواباً من نظير كلامها.
وقال شيخ من أهل البصرة: لقيت الحسن بن وهب، فأردت أن أمتحن سلامة طبعه، ومعي تفاحة، فأريته إياها وسألته أن يصفها، فقال لي: نحن على الطريق، ولكن مل إلى المسجد. فملنا إليه، فأخذها وقلبها بيده شيئاً، وقال:
يا رب تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي
قد بت في ليلتي أقلبها ... أشكو إليها طاول الكمد
لو أن تفاحة بكت لبكت ... من رحمة هذه التي بيدي
وعد المأمون جارية أن يبيت عندها، وأخلفها الوعد، فكتبت إليه:
أرقت عيني ونامت ... عين من هنت عليه
إن نفسي فاعذرنها ... أصبحت في راحتيه
رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه
فلما قرأ رقعتها ضحك، ولم يبت ليلته إلا عندها.
عتب المأمون على جارية من جواريه، وكان كلفاً بها فأعرض عنها، وأعرضت عنه، ثم أسلمه العزاء، وأقلقه الشوق، حتى أرسل يطلب مراجعتها وأبطأ عليه الرسول فلما رجع إليه أنشأ يقول:
بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وناجيت من أهوى وكنت مقرباً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ونزهت طرفاً في محاسن وجهها ... ومتعت باستظراف نغمتها أذنا
أرى أثراً منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا
ثم إن المأمون أقبل مسترضياً لها فسلم عليها، فلم ترد عليه، وكلمها فلم تجبه، فأنشأ يقول:
تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يؤذي محاسنك السلام
أنا المأمون والملك الهمام ... ولكني بحبك مستهام
يحق عليك ألا تقتلني ... فيبقى الناس ليس لهم إمام
كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر، لما اشتغل عنها بالعبادة:
ألا أيها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلاً ... وجرت علي من بين العباد
وأعطيت الرعية كل فضل ... وما أعطيتني غير السهاد
فصرف وجهه إليها.
وقعد الرشيد يوماً عند زبيدة، وعندها جواريها، فنظر إلى جارية واقفة عند رأسها فأشار إليها أن تقبله، فاعتلت بشفتيها، فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه:
قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه
ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه:
فما برحت مكاني ... حتى وثبت عليه
فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة، فوهبتها له. فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدري مكانهما، فكتبت إليه زبيدة:
وعاشق صب بمعشوقه ... كأنما قلباهما قلب
روحاهما روح ونفساهما ... نفس، كذا فليكن الحب
حدث أبو جعفر قال: بينا محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصر له، إذ مر بجارية له سكرى، وعليها كساء خز تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على حال ما ترى، ولكن إذا كان من غد إن شاء الله. فلما كان من الغد مضى إليها، فقال لها: الوعد. فقالت له: يا أمير المؤمنين: أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار؟ فضحك، وخرج إلى مجلسه، فقال: من بالباب من شعراء الكوفة؟ فقيل له: مصعب والرقاشي وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره:
كلام الليل يمحوه النهار
فأنشأ الرقاشي يقول:
متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد قالت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:

أتعذلني وقلبك مستطار ... كئيب لا يقر له قرار
بحب مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار
ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
فقلت لها عديني منك وعداً ... فقالت في غد منك المزار
فلما جئت مقتضياً أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز المشي أردافاً ثقالاً ... وغصنا فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التجميش وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي. فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال له: أخزاك الله، أكنت معنا ومطلعاً علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها.
وقال بعض العراقيين:
غضبت من قبلة بالكره جدت بها ... فها أنا جئت فاقتصيه أضعافا
لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما رآه الله إنصافا
عتبت ماردة على هارون الرشيد، فكانت تظهر الكراهة وتضمر له المحبة، فقال فيها:
تبدي صدوداً وتخفي تحته صلة ... فالنفس راضية والطرف غضبان
يا من وضعت له خدي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان
خبر الحسن بن هانئ مع الأسودأبو بكر الوراق قال: قال لي الحسن بن هانئ: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة، وذلك إبان الربيع، نزلنا منزلاً بإزاء ماء لبني تميم، ذا روض أريض، ونبت غريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت ببهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسف غمامها وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر حيث يقول:
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
همت برذاذ، ثم بطش، ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت وقد غدرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألف، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي راتعاً منها في أحسن منظر، وانتشقت من رياها أطيب من المسك الأذفر. قال: فلما انتهينا إلى أوائلها. إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، قد أشعرت حماليقه فتوراً وملئت سحراً، فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها ماء. فاستسقاها فقالت: نعم ونعمى عين، وإن نزلتم ففي الرحب والسعة. ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان، أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضاً عطشان. فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة ... ويكشف عن منظر أشنع
قال: وسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع، ولبست خماراً أسود، وهي تقول:
ألا حي ركبي معشر قد أراهما ... أطالا ولما يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستقيا باللحظ ممن سقاهما
فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر، بنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها الصم الصلاب لانبجست، مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول، وتتلف في روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير.
فدقت وجلت واسبطرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت
فلم أتمالك أن سجدت وخررت ساجداً فأطلت من غير تسبيح، فقالت: ارفع رأسك غير مأجور، ولا تذم من بعدها برقعاً، فلربما انكشف عما يصرف الكرى ويحل القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا درك طلبة، ولا قضاء وطر، ليس إلا للحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأمل الكذوب، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لصواب، فالتفت إلي صاحبي، فقال لما رأى هلعي، كالمسلي لي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته؟ أما سمعت قول ذي الرمة:

على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا
فقالت: أما ما ذهبت إليه لا أبالك، فلا والله، لأنا بقول الشاعر:
منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الروادف أهضم
لها بشر صاف وعين مريضة ... وأحسن إيماء بأحسن معصم
خزاعية الأطراف سعدية الحشا ... فزارية العينين طائية الفم
أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها، وجاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد شيب بماء الذهب، يهتز على مثل كثيب النقا، وصدر كالوذيلة، عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقدة لانعقد، مطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، من تحتها أرنب جاثم، أو جبهة أسد خادر، وفخذان لفاوان، وساقا خدلجان يخرسان الخلاخيل، وقدمان كأنهما لسانا. ثم قالت: أعاراً ترى لا أبالك؟ قلت: لا والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقربي من الموت الذباح، يطبق علي الضريح، ويتركني جسداً بغير روح. فخرجت عجوز من الخباء، فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطلول لا يودي، وأسيرها مكبول لا يفدى. فقلت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان:
فإلا يكن إلا تعلل ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها
فولت العجوز وهي تقول:
وما لك منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك جانب
فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب خابل، وأنا أقول:
يا حسرتي مما يجن فؤادي ... أزف الرحيل بغربتي وبعادي
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، ممرنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه وتمت بهجته، فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلما أشرفنا على الخيام، فصعدنا ربوة ونزلنا وهدة، إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن، وهن يجنين من نور ذلك الزهر، فلما رأيننا وقفن فقلنا: السلام عليكن. فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى. قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفاً. قلن لها: ويحك، فما زودته شيئاً يتعلل به؟ قالت: بلى، زودته لحداً ضامراً، وموتاً حاضراً. فانبرت لها أنضرهن خداً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن طرفاً، وأبرعهن شكلاً، فقالت: والله ما أحسنت بدءاً، ولا أجملت عوداً، ولقد أسأت في الرد، ولم تكافئيه في الود، فما عليك لو اسعفته بطلبته، وأنصفته في مودته، وإن المكان لخال، وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً أو تشركيني في حلوه ومره. قالت لها: تلك إذاً قسمة ضيزى، أتعشقين أنت وأناك أنا؟ قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب، فسلن الرجل عن نيته، وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه قصد.
فقلن: حياك الله، وأنهم بك علينا، من تكون، وممن أنت، وما تعاني، وإلام قصدت؟ فقلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ، رجل من اليمن، ثم من سعد العشيرة، وأحد شعراء السلطان الأعظم، ومن يدني مجلسه، ويتقى لسانه، ويرهب جانبه. وأما قصدي فتبريد غلة، وإطفاء لوعة، قد أحرقت الكبد وأذابتها. قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك، وتنال بغيتك. ثم أقبلت عليهن، فقالت: ما بواحدة منكن عن مثله مرغب، فتعالين نشترك فيه، ونقترع عليه، فمن واقعتها القرعة منا تكون هي البادية. فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزاراً على باب مغار يجاورهن وأدخلت فيه، وأبطأن عني وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي، إذ دخل علي أسود كأنه سارية، وبيده شيء كالهراوة، قد أنعظ بمثل رأس الخفيدد، قلت: ما تريد؟ قال: أنيكك. فهمني والله نفسي ثم صحت بصاحبي، وكان أيداً، فبالحري والله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات؛ فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار فدعونه، فوسوسن إليه شيئاً فدخل عليك. فقلت أبا علي: أتراه كان يفعل في شيئاً؟ فقال: أتراك خلصت منه. فانصرفت وأنا أخزى الناس.
قال إسماعيل: فقلت: ناكك والله الأسود. فقال: ما لك أبعدك الله، فوالله لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل حتى ضاق به ذرعي، ورأيتك موضعاً له، فبحقي عليك إن أذعته. قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات.
خبر ذي الرمة

قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرمة، فقال عصمة بن عبد الملك شيخ منا، قد بلغ عشرين ومائة سنة: لإياي فاسألوا عنه، كان من أظرف الناس، آدم خفيف العارضين، حسن المضحك، حلو المنطق، وإذا أنشد بربر وجش صوته، وإذا راجعك لم تسأم من حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم مسعود، وهشام، وأوفى، كانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الأبيات، فيغلب عليها فتذهب له، فجمعني وإياه مربع فأتاني يوماً، فقال لي يا عصمة: إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي، وأقوفه لأثر، وأعطفه بشر، فهل عندك ناقة نزدار عليها مية؟ قلت: والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها. فركبنا جميعاً وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحي فإذا هم خلوف، وإذا بيت مية ناحية، فعرفن ذا الرمة فتقوض النساء إلى مي، وجئنا حتى أنخنا، ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث، فإذا هي جارية أملود واردة الشعر بيضاء تغمرها صفرة، وعليها ثوب أصفر، وطاق أخضر، فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة. فقال: أنشدهن يا عصمة. فأنشدتهن:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأعربت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكا وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومغايبه
فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فلتجل قال: فنظرت إليها مية متكرهة، ثم مضيت في القصيدة، حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... على القلب لبته جميعاً عوازبه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله. قالت مية: ما أصحه وهنيئاً له. فتنفس ذو الرمة تنفساً ظننت معه أن فؤاده قد انصدع، ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فالتفتت إليه فقالت: خف عواقب الله. ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الثوب سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: ها هي ذه قد راجعتك، وقد بدا لك الوجه منها، فمن لك بأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك اله، ما أنكر ما تجيبين به. فتحدثن ساعة، ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين لشأناً، فقمن بنا وقمت معهن، فجلست في بيت أراهما منه، فما رأيته برح من مقعده، ولا فقدته، فسمعتها قالت له: كذبت والله. ولا أدري ما قال لها، فلبثت قليلاً، ثم جاءني معه قارورة فيها دهن ومعه قلائد للجؤذر، فقال: هذا دهن طيب أتحفنا به، وهذه قلائد للجؤذر، ولا والله ما أقلدهن بعيراً أبداً! وشد بهن ذوائب سيفه وانصرفنا. فكنا نختلف إليها حتى انقضى الربيع، ودعا الناس المصيف، فأتاني فقال: هيا عصمة، قد رحلت مي ولم يبق إلا الآثار، ورسوم الديار. وأنشدني:
ألا يا اسملي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
خرج المأمون في يوم عيد وقد ركب الجند أمامه، ومعه يحيى بن أكثم يضاحكه ويحادثه، إذ نظر إلى غلام من الجند في غاية الفراهة، عليه ثوب حرير أخضر، وثوب موشى مزرر بالذهب، فالتفت إلى يحيى بن أكثم فقال له: يا يحيى، ما تقول في هذه البضاعة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لقبيح من إمام مثلك مع فقيه مثلي. قال: فمن الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
فقال: دعبل، الذي يقول:
ولا أرى الجور ينقضي وعلى ال ... أمة والٍ لآل عباس
قال: ينفى إلى السند، وإنما داعبناك. ثم أنشأ المأمون يقول:
أيها الراكب ثوبا ... ه حرير وحديد
جئت للعيد وفي وج ... هك للأعين عيد
أنت جندي ولكن ... فيك للحسن جنود
الفضل بن الربيع قال: قعد المخلوح للناس يوماً وعليه طيلسان أزرق، وتحت لبد أبيض، فوقع في ثمانمائة قصة، فوالله لقد أصاب فما أخطأ، وأسرع فما أبطأ، ثم قال لي: يا فضل، أتراني لا أحسن التدبير والسياسة، ولكني وجدت شم الآس، وشرب الكاس، والاستلقاء من غير نعاس، أشهى إلي من ذلك.

قال ابن قتيبة: خرج أبو عيسى جبريل بن أبي عيسى إلى متنزه بالقفص، ومعه الحسن بن هانئ، في آخر شعبان، فلما كان اليوم الذي أوفى به الشهر ثلاثين يوماً قيل له: إن هذا يوم شك، وبعض أهل العلم يصومه، فقال: لا عليك، ليس الشك حجة على اليقين. حدثنا أبو جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " . ثم قال أبو عيسى:
لو شئت لم نبرح من القفص ... نشربها حمراء كالحص
نسرق هذا اليوم من شهرنا ... والله قد يعفو عن اللص
وذكروا أن أبا عيسى خرج إلى القفص متنزهاً ومعه الحسن بن هانئ، فحمله وخلع عليه، فأقام فيها أسبوعاً، ثم قال: بحياتي صف مجلسنا والأيام كلها. فقال في ذلك:
يا طيبنا بقصور االقفص مشرقة ... بها الدساكر والأنهار تطرد
لما أخذنا بها الصهباء صافية ... كأنها النار وسط الكأس تتقد
جاءتك من دن خمار بطينتها ... صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد
وقام كالبدر مشدوداً قراطقه ... ظبي يكاد من التهييف ينعقد
فسلها من فم الإبريق فانبعثت ... مثل اللسان جرى واستمسك الجسد
فلم نزل في صباح السبت نأخذها ... والليل يأخذنا حتى بدا الأحد
واستشرقت غرة الاثنين واضحة ... والجدي معترض والطالع الأسد
يوفي الثلاثاء أعملنا المطي بها ... صهباء ما قرعتها بالمزاج يد
والأربعاء صفا فيه النعيم لنا ... والكأس يضحك في حافاتها الزبد
ثم الخميس وصلناه بليلته ... قصفاً وتم لنا بالجمعة العدد
يا حسننا وبحار القفص تغمرنا ... في لجة الليل والأوتار تجتلد
في مجلس حوله الأشجار محدقة ... وفي جوانبه الأطيار تغترد
لا نستخف بساقينا لعزته ... ولا يرد عليه حكمه أحد
عند الهام أبي عيسى الذي كملت ... أخلاقه فهي كالأوراق تنتقد
أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا أبو محمد الدمشقي قال: مررت ذات ليلة، أيام فتنة المستعين، والقمر يزهر بباب الشام، فإذا أنا بشيخ غليظ، أصلع نشوان، قد توشح في إزار أحمر، ومال على شقه الأيمن، وفي يده خوصة يشمها ويقول:
عشرون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى مقدامة بطل
أضحت مزاودهم مملوءة نشباً ... ففرغوها وأوكوها إلى الأمل
فقلت له: أحسنت، لله أنت. فقال: أتحب رقيقة؟ فقلت: ما أحوجني إليها.
فقال:
إنما هيج البلا ... حين عض السفرجلا
وعلا الورد وجنتي ... ه فأبدى التخجلا
يفضح البدر في الكما ... ل إذا البدر أكملا
ولقد قام لحظ عي ... ني على القلب بالقلا
قلت له: أبو من أعزك الله؟ قال: ابو عيشونة الخياط، شهدت حروب ابن زبيدة كلها، وجاريت الفتيان في غاية كل ميدان، واعترف لي كل فاتك، وأذعن لي كل شاطر، ونزلت تلك الدار عشرين سنة. وأومأ إلى سجن بغداد، ثم تنفس الصعداء. وقال: أنا الذي أقول:
لي فؤاد مستهام ... وجفون ما تنام
ودموع آخر الده ... ر بعيني سجام
وحبيب كلما خا ... طبته قال سلام
فإذا ما قلت: صلني ... قال لي ذاك حرام
ثم بكى تخالجاً، فلما افاق قلت: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي، ولي حبيب بالبصرة علقته وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم غبت عنه ثلاثاً وثلاثين سنة، فلما عيل صبري خرجت إلى البصرة فطفت في شوارعها حتى رأيته، فما رأيت وجهاً أحسن منظراً ولا أزهى منه. ثم أنشأ يقول:
مردد في كمده ... معذب في سهده
خلا به السقم فما ... أسرعه في جسده
يرحمه لما به ... من ضره ذو حسده
ثم ودعني ومضيت.
وحدثني أبو الفضل قال: إني لفي الطواف أمام الحجر، إذ سمعت حنيناً يخرج من بين الأستار، وإذا قائل يقول:
عفا الله عمن يحفظ الود جهده ... ولا كان عفو الله للناقض العهد

وضعت على الأستار خدي ليلة ... ليجمعني مع من وضعت له خدي
قال: فرفعت الأستار فإذا جارية منفردة، كأنها شمس تجلت عنها غمامة.
فقلت: يا هذه لو سألت الله الجنة مع هذا التضرع والبكاء ما حرمك إياها. قال: فسترت وجهها، وقالت: سبحان من خلق فسوى، ولم يهتك العلانية والنجوى. أما والله إني لفقيرة إلى رحمة ربي، وقد سألته أكبر الأمرين عندي، رجاء فضله، واتكالاً على عفوه. ثم ولت عني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.
حدث مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: خرجت أنا وزبان السواق إلى العقيق، فلقينا نسوة نازلات من العقيق، لهن جمال وشارة، وفيهن جارية حسانة العينين، فلما رآها زبان قال لي: يا بن الكرام دم أبيك والله في ثيابها، فلا تطلب أثراً بعد عين. وأنشد قول أبي مسلم بن جندب:
ألا يا عباد الله هذا أخوكم ... قتيلاً فهل منكم له اليوم ثائر
خذوا بدمي إن مت كل مليحة ... مريضة جفن العين والطرف ساحر
قال: فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب؟ قلت: نعم. قالت: فاغتنم نفسك واحتسب أباك، فإن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى.
الزبير بن بكار، عن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: قلت:
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عين لا تنام طويل
قال: فطرقني عيسى بن طلحة قال: إني سمعت قولك فجئت أعينك. فقلت: يرحمك الله، أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج.
أبو المهلهل الخزاعي قال: ارتحلت إلى الدهناء، فسألت عن مي صاحبة ذي الرمة، فدفعت إلى خيمة فيها عجوز هيفاء، فسلمت عليها، وقلت: أين منزل مي؟ فقالت: ها أنا مي. فقلت: عجباً من ذي الرمة وكثرة قوله فيك. قالت: لا تعجب، فإني سأقوم بعذره. ثم قالت: فلانة! فخرجت من الخيمة جارية ناهدي عليها برقع، فقالت لها: أسفري. فلما تحيرت لما رأيت من حسنها وجمالها، فقالت: علقني ذو الرمة وأن في سن هذه، وكل جديد إلى بلى. قلت: عذرته والله. واستنشدتها من شعره فأنشدتني.
ما يكتب على العصائب وغيرهاأبو الحسن قال: دخلت على هارون الرشيد وعلى رأسه جوار كالتماثيل، فرأيت عصابة منظمة بالدر والياقوت، مكتوباً عليها في صفائح الذهب:
ظلمتني في الحب يا ظالم ... والله فيما بيننا الحاكم
قال: ورأيت في عصابة أخرى:
ما لي رميت فلم تصبك سهامي ... ورميتني فأصبتني يا رامي
قال: ورأيت في عصابة أخرى: " وضع الخد للهوى عز " . قال: ورأيت في صدر أخرى هلالاً مكتوباً عليه:
أفلت من حور الجنان ... وخلقت فتنة من يراني
قال إسحاق بن إبراهيم: دخلت على الأمين محمد بن زبيدة، وعلى رأسه وصائف في قراطق مفروجة، بيد وصيفة منهن مروحة مكتوب عليها:
بي طالب العيش في الصي ... ف وبي طاب السرور
ممسكي ينفي أذى الح ... ر إذا اشتد الحرور
الندى والجود في وج ... ه أمين الله نور
ملك أسلمه الشب ... ه وأخلاه النظير
وفي عصابتها:
ألا بالله قولوا يا رجال ... أشمس في العصابة أم هلال
وفي أخرى:
أتهوون الحياة بلا جنون ... فكفوا عن ملاحظة العيون
وكتب " ورد " جارية الماهاني على عصابتها، وكانت تجيد الغناء مع فصاحتها وبراعتها:
تمت وتم الحسن في وجهها ... فكل شيء ما سواها محال
للناس في الشهر هلال ولي ... في وجهها كل صباح هلال
وكتب في عصابتها بيتين من شعر الحسن بن هانئ، وهما:
يا رامياً ليس يدري ما الذي فعلا ... عليك عقلي فإن السهم قد قتلا
أجريته في مجاري الروح من بدني ... فالنفس في تعب والقلب قد شغلا
وقال علي بن الجهم: خرجت علينا " عالج " جارية خالصة، كأنها خوط بان، وهي تميس في روقة، وعلى طرتها مكتوب بالغالية، وكانت من مجان أهل بغداد مع علمها بالغناء:
يا هلالاً من القصور تجلى ... صام قلبي لمقلتيه وصلى
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعى النجوم كنت مخلا

قال: وخرجت إلينا " منال " وعليها درع خام، على جانبها الأيمن مكتوب:
كتب الطرف في فؤادي كتاباً ... هو بالشوق والهوى مختوم
وعلى الأيسر مكتوب:
كان طرفي على فؤادي بلاء ... إن طرفي على فؤادي مشوم
قال: وكان على عصابة " ظبي " جارية سعيد الفارسي مكتوب بالذهب:
العين قارئة لما كتبت ... في وجنتي أنامل الشجن
قال: وحدثني الحسن بن وهب قال: كتبت " شعب " على قلنسوة جاريتها " شكل " :
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيباً
وكتب " شفيع " خادم المتوكل على عاتق قبائه الأيمن:
بدر على غصن نضير ... شرق الترائب بالعبير
وعلى عاتقه الأيسر:
خطت محاسن وجهه ... في صفحة القمر المنير
وكتبت " وصيف " جارية الطائي على عصابتها:
الكفر والسحر في عيني إذا نظرت ... فاغرب بعينك يا مغرور عن عيني
فإن لي سيف لحظ لست أغمده ... من صنعة الله لا من صنعة القين
وكان على عصابة " مزاج " ، وهي من مواجن أهل بغداد وفتاكها:
قالوا عليك دروع الصبر قلت لهم ... هيهات إن سبيل الصبر قد ضاقا
ما يرجع الطرف عنها حين يبصرها ... حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
وكتبت " عنان " جارية الناطفي على عصابتها من قولها:
فما زال يشكو الحب حتى حسبته ... تنفس في أحشائه وتكلما
فأبكي لديه رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
وكتبت " حدائق " في كفها بالحناء:
ليس حسن الخضاب زين كفي ... حسن كفي زين لكل خضاب
قال: وخرجت علينا جارية حمدان، وقد تقلدت سيفاً محلى، وعلى رأسها قلنسوة مكتوب عليها:
تأمل حسن جارية ... يحار بوجهها البصر
مؤنثة مذكرة ... فهي أنثى وهي ذكر
وعلى حمائل سيفها مكتوب الذهب:
لم يكفه سيف بعينيه ... يقتل من يشاء بحديه
حتى تردى مرهفاً صارماً ... فكيف أبقى بين سيفيه
فلو تراه لابساً درعه ... يخطر فيها بين صفيه
علمت أن السيف من طرفه ... أقتل من سيف بكفيه
وكتب " واجد " على منطقة جاريتها " منصف " الكوفية:
تكتي من غمزة العي ... ن إذا ما مست تنحل
وفؤادي رق حتى ... كاد من صدري ينسل
بعض ما بي يصدع القل ... ب فما ظنك بالكل
ومن قولي فيما كتبت على كأس مذهبة:
اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... واحذر على خصرها الدقيق
وقل لمن لام التصابي ... إليك خل عن الطريق
وقف صريع الغواني بباب محمد بن منصور فاستسقى، فأمر وصيفاً له فأخرج إليه خمراً في كأس مذهبة، فلما نظر إليها في راحته قال:
ذهب في ذهب را ... ح بها غصن لجين
فأتت قرة عين ... من يدي قرة عين
لا جرى بيني ولا بي ... نهما طائر بين
وبقينا ما بقينا ... أبداً ملتقين
في غبوق وصبوح ... لم نبع نقداً بدين
محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: رأيت على مروحة مكتوباً:
الحمد لله وحده ... وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده
وقال: ورأيت في مجلس سريراً مكتوباً عليه بالذهب:
أشهى وأعذب من راح ومن ورد ... إلفان قد وضعا خداً على خد
تضم إحداهما أحشاء صاحبه ... حتى كأنهما للقرب في عقد
هذا يبوح بما لاقاه من حرق ... وذاك يظهر ما يخفي من الوجد
وفي عصابة أخرى:
فإن يحجبوها بالنهار فما لهم ... بأن يحجبوا بالليل عني خيالها
قال أبو عبيدة: ورأيت على " عصابة " حسناء مكتوباً:
كتبت في جبينها ... بعبير على قمر
في سطور ثلاثة: ... لعن الله من غدر

وتناولت كفها ... ثم قلت اسمعي الخبر
كل شيء سوى الخيا ... نة في الحب يغتفر
فإذا خانك الحبي ... ب فذره إلى سقر
قال الأصمعي: رأيت على باب الرشيد وصائف على عصابة كل واحدة منهن مكتوب:
نحن حور نواعم ... من أراض مقدسه
أحسن الله رزقنا ... ليس فينا منحسه
فاتق الله يا فتى ... لا تدعني موسوسة
وقال أبو جعفر الكرماني يوماً للمأمون: أتأذن لي في دعابة؟ قال: هاتها ويحك فما العيش إلا فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنك ظلمتني وظلمت غسان بن عباد.
قال: وكيف ذلك ويلك؟ قال: رفعت غسان فوق قدره، ووضعتني، دون قدري، إلا أنك لغسان أشد ظلماً. قال: وكيف؟ قالت: لأنك أقمته مقام هر، وأقمتني مقام رخمة. فاستظرف ذلك منه ورفع درجته.
أبو زيد قال: كان عطاء بن أبي رباح مع ابن الزبير، وكان أملح الناس جواباً، فلما قتل ابن الزبير أمنه عبد الملك بن مروان، فقدم عليه، فسأل الإذن، فقال عبد الملك: لا أريده يضحكني، قد أمنته فلينصرف. قال أصحابه: فنحن نتقدم إليه أن لا يفعل. فأذن له عبد الملك، فدخل وسلم عليه، وبايعه، ثم ولى، فلم يصبر عبد الملك أن صاح به: يا عطاء، أما وجدت أمك اسماً إلا عطاءً؟ قال: وقد والله استنكرت من ذلك ما استنكرته يا أمير المؤمنين، لو كانت سمتني بأمي المباركة صلوات الله عليها مريم. فضحك عبد الملك، وقال: اخرج.
لعب رجل بين يدي هارون بالشطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوضه الكلام قال له: ولني نهر بوق. قال: بل أوليك نصفه، اكتبوا عهده على بوق. قال: فولني على أرمينية. قال: أخشى أن يبطئ علي خبرك. قال: فغيرها. قال: لا أريد أن أبعدك من نفسي.
واختصم إلى زيادة بنو راسب وبنو طفارة في غلام ادعوه، وأقاموا جميعاً البينة عند زياد. فأشكل على زياد أمره، فقال سعد الرابية، من بني عمرو بن يربوع: أصلح الله الأمير، قد تبين لي في هذا الغلام القضاء، ولقد شهدت البينة لبني راسب والطفاوة، فولني الحكم بنيهم. قال: وما عندك في ذلك؟ قال: أرى أن يلقى في النهر، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو للطفاوة. فأخذ زيادة نعليه وقام وقد غلبه الضحك، ثم أرسل إليه فقال: ألم أنهك عن المزاح في مجلسي؟ قال: أصلح الله الأمير، حضرني أمر خفت أن أنساه. فضحك زياد وقال: لا تعودن.
أبو زيد قال: لم يكن بالبصرة أفصح لساناً ولا أظهر جمالاً من الحسن بن أبي الحسن البصري، وزرعة بن أبي حمزة الهلالي.
قال: وأخبرني الوليد بن عبيد البحتري الشاعر قال: كنا عند المتوكل على الله يوماً، وبين يديه عبادة المخنت، فأمر به فألقي في بعض البرك في أيام الشتاء، فابتل وكاد يموت برداً، قال: ثم أخرج من البركة وكسي، وجعل في ناحية من المجلس. فقيل له: يا عبادة، كيف أنت وما حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئت من الآخرة. فقال له: كيف تركت أخي الواثق؟ قال: لم أجز بجهنم. فضحك المتوكل وأمر له بصلة.
نوادر أشعبقال أشعب: في وفي أبي الزناد عجب، كنت أنا وهو في كفالة عائشة بنت عثمان فما زال يعلو وأسفل حتى بلغنا غايتنا هذه.
قيل لأشعب: لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر، لكان أولى بك. قال: قد فعلت. قالوا: فما حفظت من الحديث؟ قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان فيه خصلتان كتب عن الله خالصاً مخلصاً " . قالوا: إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
وقال أشعب: رأيت رؤيا نصفها حق ونصفها باطل. قالوا له: كيف ذلك؟ قال: رأيتني أحمل بدرة، فمن شدة ثقلها علي كنت أسلح في ثيابي، ثم انتبهت فإذا أنا بالسلح ولا بدرة.
ساوم أشعب رجلاً بقوس، فقال له: أقل ثمنها دينار. قال أشعب: والله أنك رميت بها طائراً في جو السماء فوقع مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها منك بدينار أبداً.
وقيل لأشعب: خففت صلاتك. قال: إن لم يخالطها رياء.
وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة سوط، وهو يقول عند كل سوط. شكراً لك يا رب. فلقيه أشعب، فقال: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: ما أدري. قال: لكثرة شكرك الله. يقول الله: " لئن شكرتم لأزيدنكم " فقال الأعرابي:
يا رب لا شكراً فلا تزدني ... أسأت في شكرك فاعف عني

باعد ثواب الشاكرين مني
وسأل رجل من أشعب أن يسلفه ويؤخره فقال: هاتان حاجتان، فإذا قضيت إحداهما فقد أنصفت. قال له الرجل: رضيت قال: فأنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.
أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي القعقاع. قال: رأيت أشعب في السوق يبيع قطيفة، ويقول للمشتري: أريد أن أبرأ إليك من عيب. قال: وما ذاك؟ قال: يحترق تحتها من دفن فيها.
قال أشعب: من بال ولم يضرط كتب من الكاظمين الغيظ.
وقيل لأشعب: هل خلق أطمع منك؟ قال: بلى، أمي؛ فإني كنت إذا جئتها بفائدة قد أعطيتها قالت: ما جئت به؟ فأتهجى لها الشيء حرفاً حرفاً. ولقد أهدي لنا مرة غلام قالت: ما جئت به؟ قلت: غين. قالت: ثم ماذا؟ قلت: لام ألف ميم. فأغمي عليها، وجعلت تضرط. ولو أخبرتها به جملة لطار قلبها فرحاً.
وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا حسبت أنهما يأمران لي بشيء.
ونظر أشعب إلى رجل قبيح الوجه، فقال: ألم ينهكم سليمان بن داود أن تخرجوا بالنهار.
ومر أشعب برجل نجار يعمل طبقاً فقال له: زد فيه طوقاً واحداً تتفضل به علي. قال: وما يدخل عليك من ذلك؟ قال: لعل يوماً يهدى إلي فيه شيء.
قال الأصمعي: أخبرني هارون بن زكريا عن أشعب قال: أدركت الناس يقولون: قتل عثمان. قال الأصمعي: وعاش أشعب إلى زمان المهدي ورأيته.
دخل رجل على الأعمش يسأله عن مسألة، فرد عليه فلم يسمع، قال له: زدني في السماع يرحمك الله. قال ما ذلك لك، ولا كرامة. قال: فبيني وبينك رجل من المسلمين. قال: فخرجا إلى الطريق، فمر بهما شريك القاضي فقال: إني حدثت هذا بحديث فلم يسمع، فسألني أن أزيده في السماع لأنه ثقيل السمع وزعم أن ذلك واجب له، فأبيت. قال له شريك: عليك أن تزيده، لأنك تقدر أن تزيد في صوتك، ولا يقدر أن يزيد في سمعه.
أتت ليلة الشك من رمضان، فكثر الناس على الأعمش يسألونه عن الصوم، فضجر، ثم بعث إلى بيته في رمانة فشقها ووضعها بين يديه، فكان إذا نظر إلى رجل قد أقبل يريد أن يسأله تناول حبة فأكلها، فكفى الرجل السؤال ونفسه الرد.
قال رقبة بن مصقلة: سفه علينا الأعمش يوماً، فقالت امرأته من وراء الستر: احملوا عنه، فوالله ما يمنعه من الحج منذ ثلاثة سنة إلا مخافة أن يلطم كريه، أو يشتم رفيقه.
طلبت بنت الأعمش من الأعمش حاجة، فحجبها بالرد، فقالت: والله ما أعجب منك، ولكني أعجب من قوم زوجوك.
ودخل رقبة بن مصقلة على الأعمش، فقال: إنا والله لنأتينك فما تنفعنا، ونتخلف عنك فما تضرنا، وإن الوقوف إليك لذل، وإن تركك لحسرة، تسأل الحكمة فكأنما تسعط الخردل، وما أشبهك إلا بالصماخيقون، فإنه كريه الشربة، نافع للمعدة. فرفع رأسه الأعمش وقال: من هذا المتكلم؟ فقيل له: رقبة بن مصقلة. فنكس رأسه.
وقال رجل من تلاميذ الأعمش: صنعت للأعمش طعاماً، ثم دعوته، فمضى معي وأنا أقوده، حتى سقطت رجله في حفرة يعملها الصبيان للكرة، فقال: ما هذا؟ قلت: حفرة يعملها الصبيان للكرة. قال: لا، ولكنك حفرتها لتقع رجلي فيها. والله لا أكلت عندك يومي هذا طعاماً. قال: فحملت الطعام إليه، ثم صنعت له بعد ذلك طعاماً ودعوته إليه، فقال: ادخل بنا الحمام قبل ذلك؟ فأدخلته الحمام، فلما جئت أن أصب الماء الحار على رأسه قال: ما دعاك إلى هذا؟ أردت أن تسلق قفاي، والله لا أكلت عندك يومي هذا طعاماً! قال: فحملت الطعام إليه.
وكثر الشعر على الأعمش فقلنا له: لو أخذت من شعرك؟ قال: لا جد حجاماً يسكت حتى يفرغ. قلنا له: فإنا نأتيك بحجام ونتقدم إليه أن يسكت حتى يفرغ. قال: فافعلوا. قال: فأتيناه بحجام وأعذرنا إليه أن لا يتكلم حتى ينقضي أمره، فبدأ الحجام بحلقه، فلما أمعن في حلقه سأله عن مسألة، فنفض ثيابه وقام بنصف رأسه محلوقاً، حتى دخل بيته؛ ثم جئناه بغيره، فقال: لا والله لا أخرج إليه حتى تصوموه أو تحلفوه. فحلفناه ألا يسأله عن شيء. فخرج إليه.
ولمحمد بن مطروح الأعرج من التبرم المليح، والضجر الموقع، ما هو أحسن من هذا وأوقع.
وسأله رجل يوماً: ما تقول يرحمك الله في رجل مات يوم الجمعة، أيعذب عذاب القبر؟ قال: يعذب يوم السبت.
وقال له آخر: أتجد في بعض الحديث أن جهنم تخرب؟ قال: ما أشقاك إن اتكلت على خرابها.

واستسقى بالناس يوماً، فأسرع بالصلاة قبل أن يتوافى الناس، فلما انصرف تلقاه بعض الوزراء، فقال له: أسرعت أبا عبد الله. قال: ليس علينا أن ننتظر حتى تشربوا وتأكلوا.
وكانت لقومس الكاتب منه منزلة وجوار، وكان يتحفه بما أمكنه من الهدايا، وكانت صلاته معه في الجامع والأعرج صاحب الصلاة، فإذا حضرت الصلاة ولم يحضر قومس قال بعض القومة: أنت يا شيطان، كلم هؤلاء الكلاب لا يقيموا الصلاة حتى يأتي ذا الخنزير. فكان بره في حبس الصلاة عليه براً العقوق خير منه.
وكان يجلس إليه خصي لزرياب، وقد حج وتنسك ولزم الجامع، فيتحدث في مجلسه بأخبار زرياب، ويقول: كان أبو الحسن رحمه الله يقول كذا وكذا. فقال له الأعرج: من أبو الحسن هذا؟ قال: زرياب. قال: بلغني عنه أنه كان أخرق الناس لاست خصي.
وسأله مرة وقال له: ما تقول في الكبش الأعرج. أيجوز في الأضحية؟ قال: نعم والخصي أيضاً مثلك.
وسمع أبو يعقوب الخريمي منصور بن عمار صاحب المجالس، يقول في دعائه: " اللهم اغفر لأعظمنا ذنباً، وأقساناً قلباً، وأقربنا بالخطيئة عهداً، وأشدنا على الدنيا حرصاً " . فقال له: امرأتي طالق إن كنت دعوت إلا لإبليس.
الأصمعي قال: حدثنا بعض شيوخنا عن ابن طاوس قال: أقبلت إلى عبد الله بن الحسن، فأدخلني بيتاً قد نجد بالرهاوي والميساني، وكل فرشة شريفة. قال: فبسطت نطعاً وجلست عليه، وابناه محمد وإبراهيم صبيان يلعبان، فلما نظرا إلي قال أحدهما لصاحبه: ميم. فقال الآخر: جيم. فقلت أنا: نون واو نون. فاستغرا ضحكا وخرجا إلى أبيهما.
أبو زيد قال: سكر حائك من الزط، فحلف بالطلاق ليغنينه أبو علي الأشرس، فمضى معه جماعة إلى أبي علي، فأخبروه، وقالوا: سكر وامتلأ وحلف بالطلاق لتغنينه. فأقبل على الحائك، فقال: يا مرد سبز، يا مرد خش يا مرد تر، إياك أن تعود.
قال أبو زيد: تفسيره: ياسمين أخضر، يا سمين طيب، ياسمين رطب.
وكان شيخ من البخلاء يأتي إلى ابن المقفع، فألح عليه يسأله الغداء عنده، وفي كل ذلك يقول له: أترى أنك تراني أتكلف لك شيئاً؟ لا والله، لا أقدم لك إلا ما عندي. فأجابه يوماً، فلما أتاه إذا ليس عند ولا في منزله إلا كسرة يابسة وملح جريش. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك. فألح عليه في السؤال، فقال له: لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أنك والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت من صدق وعده لم تراده كلمة، ولا وقفت طرفة عين.
مر برقبة بن مصقلة رجل زاهد غليظ الرقبة، فقال: هذا رجل زاهد، والعلامات فيه بخلاف ذلك. فقال له رجل: أكلمه بذلك أصلحك الله، لئلا تكون غيبة؟ قال: كلمه حتى تكون نميمة.
قال شريك بن عبد الله القاضي: سبع من العجائب: عمياء منتقبة، وسوداء مختصبة، وخصي له امرأة، ومخنث يؤم قوماً، وأموي شيعي، ومخعي مرجي، وعربي أشقر. ثم قال شريك: من المحال عربي أشقر.
قالوا: كانت في أبي عمرو ضرار بن عمرو ثلاثة من المحال: كان كوفياً معتزلاً، وكان من بني عبد الله بن غطفان، ويرى رأي الشعوبية، ومحال أن يكون عربي شعوبياً. ومات وهو ابن سبعين سنة.
وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب: اللوز ينق أو الجوز ينق؟ فقال: لا أحكم عن غائب.
وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته؟ فقال له: ارم بها. قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد. قال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها. قال الرجل: أولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح.
وسئل عامر الشعبي عن المسجد الخرب أيجامع فيه؟ قال: نعم، ويخرأ فيه.
الأصمعي قال: ولي رجل مقل قضاء الأهواز، فأبطأت عليه أرزاقه، وحضر الأضحى ليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق، فشكا ذلك إلى امرأته، وأخبرها بما هو فيه من الضيق، وأنه لا يقدر على الأضحية. فقالت له: لا تغتم، فإن عندي ديكاً جليلاً قد سمنته، فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه. فبلغ جيرانه الخبر، فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلى لا يعلم، فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي، قال لا مرأته: من أين هذا؟ قالت: أهدى لنا فلان وفلان وفلان. حتى سمت جماعتهم. فقال لها: يا هذه تحفظي بديكنا هذا، فهلو أكرم على الله من إسحاق بن إبراهيم، إنه فدي بكبش واحد، قد فدي ديكنا هذا بثلاثين كبشاً.

خرج أبو دلامة مع المهدي في مصاد لهم، فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل. فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما ك ... ل امرئ يأكل زاده
وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة، رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت بباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
ودخل أبو دلامة على المهدي، وعنده محمد بن الجهم وزيره، وكان المهدي يستثقله فقال له: أبا دلامة، والله لا تبرح مكانك حتى تهجو أحد الثلاثة. فهم أبو دلامة بهجاء ابن الجهم، خاف شره، فرأى أن هجاء نفسه أقل ضرراً عليه، فقال:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قرداً ... وخنزيراً إذا وضع العمامه
وإن لزم العمامة كان فيها ... كقرد ما تفارقه الدمامه
وعرض أبو دلامة ليزيد بن مزيد، وهو قادم من الري، فأخذ بعنان فرسه وأنشده:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال له: أما الصلاة على النبي فصلى الله عليه وسلم، وأما الدراهم فإلى أن أرجع إن شاء الله. فقال له: لا تفرق بينهما، لا فرق الله بينك وبين محمد في الجنة! فاستسلفها من أصحابه وصبها في حجره حتى أثقله.
ودخل أبو دلامة على المهدي فأسمعه مديحاً له فيه، فأعجبه وقال له: سل حاجتك. قال: كلب صيد أصطاد به. قال: قد أمران لك بكلب تصطاد به. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وخادم تطبخ لنا الصيد. قال: وخادم. قال: ودار نسكنها. قال: وداراً تسكنها. قال: وجارية آوي إليها. قال: وجارية. قال: بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألف جريب عامر، وألف جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: التي لا تعمر. قال: فأنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد. قال: فإنا نجعلها عامرة كلها. قال: فيأذن أمير المؤمنين في تقبيل يده. قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتني شيئاً أيسر على أم عيالي فقداً منه.
المضحكاتأبو الحسن المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة فقالت أمها: دعني حتى أسأل عنك. فانصرف الرجل فسأل عن أكرم الحي عليها، فدل على شيخ منهم كان يحسن المحضر في الأمر، فسأله عنه، فأتاه فسأل أن يحسن عليه الثناء، وانتسب له، فعرفه. ثم إن العجوز غدت عليه فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به. قالت له: فكيف لسانه؟ قال:مدره قومه وخطيبهم. قالت: فكيف شجاعته؟ قال: منيع الجار، حامي الذمار. قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال قوم وربيعهم. وأقبل الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما أقبل، ما انثنى ولا انحنى. ودنا الفتى فسلم، فقال الشيخ ما أحسن والله ما سلم، ما فار ولا ثار. ثم جلس فقال الشيخ: ما أحسن والله ما جلس، ما دنا ولا نأى. ثم ذهب الفتى ليتحرك فضرك، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما ضرط، ما أطنها ولا أغنها، ولا بربرها ولا قرقرها. ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن والله ما نهض، ما ارقد ولا اقطوطى. فقالت العجوز: حسبك يا هذا، وجه إليه من يرده، فوالله ولو سلح في ثيابه لزوجناه.
وخطب رجل امرأة فجعل يخطبها وينعظ، فضرب رأس ذكره بيده وقال: مه إليك يساق الحديث.
أبو سويد قال: كان لحبيب بن أوس حمار حصان، وغلام مؤنث، فإذا نزل أخذ الحمار ينهق والغلام يمجن في كلامه. قلنا له: إنما أنت فضيحة، فهل قلت فيهما شيئاً؟ فقال:
لي حمار وغلام ... وهما مختلفان
أير ذا ينعظ للني ... ك وذا رخو العنان
لو بهذا عف هذا ... لاستراح الثقلان

محمد بن الحجاج البزار، وكان راوية بشار قال: قال بشار ذات يوم يعبث، وكان مات له حمار قبل ذلك، قال: رأيت حماري البارحة في النوم، فقلت له: ويلك ما لك مت؟ قال: إنك ركبتني يوم كذا وكذا فمررنا على باب الأصبهاني، فرأيت أتاناً عند بابه، فعشقتها فمت. وأنشدني:
سيدي مل بعناني ... نحو باب الأصبهاني
تيمتني يوم رحنا ... بثناياها الحسان
وبغنج ودلال ... سل جسمي وبراني
ولها خد أسيل ... مثل خد الشيقران
فبها مت ولو عش ... ت إذاً طال هواني
فقال له رجل من القوم: يا أبا معاذ. ما الشيقران؟ قال: هذا من غريب الحمير. فإذا لقيتم حماراً فسلوه.
وقيل لأعرابي وهو واقف على ركية مالحة: كيف هذا الماء؟ قال: يخطئ القلب، ويصيب الاست.
وأخذ رجل شرب، فأتي به الوالي فقال: استنكهوه. فقالوا: إن نكته لا تبين عنه. قال: فقيئوه. فقال الشارب: فإن لم أقئ نبيذاً فمن يضمن لي عشائي؟ ورافق رجل أعرابياً في سفر فقال له: أنا والله أشتي كشكية! ومد بها صوته فضرط. فقال له صاحبه: ما أسرع ما نفختك يا ابن أم.
أبو الخطاب قال: كان عندنا رجل أحدب فسقط في بئر فذهبت حدبته وصار آدر، فدخلوا يهنئونه، فقال: الذي جاء شر من الذي ذهب!.
أبو حاتم قال: رمي رجل أعور بنشابة، فأصابت عينه الصحيحة فقال: أمسينا وأمس الملك لله.
وقال رجل للجماز: ولدت امرأتي لستة أشهر. فقال: لقد كان أناؤها ضارباً.
قالوا: أتي الحجاج بسقط قد أصيب في بعض خزائن كسري مقفل، فأمر بالقفل فكسر فإذا فيه سقط آخر مقفل، فقال الحجاج: من يشتري مني هذا السقط بما فيه ولا أدري ما فيه؟ فتزايد به أصحابه، حتى بلغ خمسة آلاف دينار، فأخذه الحجاج ونظر فيه، فقال: ما عسى أن يكون فيه إلا حماقة من حماقات العجم! ثم أنفذ البيع وعزم المشتري أن يفتحه ويريه ما فيه، ففتحه بين يديه فإذا فيه رقعة مكتوب فيها: من أراد أن تطول ليحته فليمشطها من أسفل.
الزبير بن بكار قال: جاءت امرأة إلى ابن الزبير تستعدي على زوجها، وتزعم أنه يصيب جاريتها، فأمر به فأحضر، فسأله عما ادعت، فقال: هي سوداء، وخادمها سوداء، وفي بصري ضعف، ويضرب الليل برواقه وإنما آخذ من دنا مني.
قال: وخطب رجل خطبة نكاح، وأعرابي حاضر، فقال: الحمد الله، أحمده وأستعينه، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، حي على الصلاة، حي على الفلاح. فقال الأعرابي: لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء.
وقال: سمعت أبا موسى عيسى الضمري يقول: دخلت الحمام فإذا بأعمى قد ركب أعمى فقال له: ما هذا؟ قال: ظلمات بعضها فوق بعض.
وقال العوام بن حوشي: قال لي عيسى بن موسى: من أرضعتك؟ قلت: ما أرضعني خلق سوى أمي. قال: قد علمت أن ذلك الوجه القبيح لا يصبر عليه سوى أمك.
كان رجل مقيت قد تنسك، وتشبه بالحسن البصري، فشهد جنازة، فوقف على القبر وإلى جنبه رجل مليح، فضحك، فقال له الناسك: ما أعددت لهذه الحفرة يا فلان؟ قال: قذفك فيها الساعة.
ودخل أعرابي الحمام فضرط، فقال نبطي كان في الحمام: جبحان الله! فقال له الأعرابي: يا ابن اللخناء لكن ضرطتي أفصح من تسبيحك.
وقيل لأعرابي: مالك لا تجاهد؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أن أسعى إليه راكضاً.
واستشهدوا أعرابياً على رجل وامرأة زنياً فقيل له: أرأيته داخلاً وخارجاً كالمرود في المكحلة؟ فقال: والله ما كنت أرى هذا لو كنت جلدة استه.
وجد منبوذ بضفة العراق وعند رأسه مائة دينار ورقعة مكتوب فيها: " أنا الشقي ابن الشقية، وابن القدح والرطلية، وابن البغي والبغية، وابن الأبقال الطرية، من كفلني فله هذه المائة " .

السندي بن شاهك قائد الخليفة، قال: بعث إلي المأمون بريداً وأنا بخراسان، فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين وقد هاج بي الدم وانصرفت إلى منزلي، فقلت: أحضروا إلي الحجام. قالوا: هو محموم. قلت: فهاتوا حجاماً غيره ولا يكون فضولياً. فأتوني به، فما هو إلا أن دارت يداه على وجهي حتى قال: جعلت فداك، هذا وجه ما أعرفه، فمن أنت؟ قلت: السندي بن شاهك. قال: قال: ومن أين قدمت فإني أرى أثر السفر عليك؟ قلت: من خراسان. قال: وأي شيء أقدمك؟ قلت: وجه إلي أمير المؤمنين بريداً، ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها. قلت: وتعرفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها؟ قلت: نعم. قال: فما كان إلا أن فرغ ودخل رسول أمير المؤمنين ومعه كركي، فقال: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك هذا إلى أن تغدوا عليه إن شاء الله. ويقول: ما أهدي إلينا اليوم غير هذا الكركي، شأنك به. قال: فالتفت السندي إلى جلسائه فقال: ما يصنع بهذا الكركي؟ فقال الحجام: يطبخ سكباجا. قال السندي: يصنع كما قال. وحلف على الحجام أن لا يبرح، فحضر الغداء فتغدينا وهو ينظر، ثم قدم الشراب فلما دارت الأقداح قلت: يعلق الحجام في العقابين. ثم قلت: جعلت فداك، إنك سألتني عن المنازل والسكك التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت وأنا أقصها عليك فاسمع: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت بمكان كذا، يا غلام: اضرب. فضربه عشرة أسواط، ثم قلت: وخرجت منه إلى مكان كذا، يا غلام أوجع. فضربه عشرة أسواط أخرى، ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة حتى انتهى إلى سبعين سوطاً، فالتفت إلي الحجام وقال: يا سيدي: سألتك بالله إلى أين تريد أن تبلغ؟ قلت: إلى بغداد. قال: لست تبلغ بغداد حتى تقتلني، قلت: فأتركك على ألا تعود؟ قال: والله لا عدت أبداً. قال: فتركته وأمرت له بسبعين ديناراً، فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر فقال: وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه.
أتت جارية أبا ضمضم فقالت: إن هذا قبلني. قال لها: قبليه، فإن الله يقول: " والجروح قصاص " .
وارتفع رجلان إلى أبي ضمضم، فقال أحدهما: أبقاك الله، إن هذا قتل ابني. قال: هل لابنك أم؟ قال: نعم، قال: ادفعها إليه حتى يولدها لك ولداً مثل ولدك، ويربيه حتى يبلغ ولدك ويبرأ به إليك.
وكان بالمدينة أعمى يكنى أبا عبد الله، أتى يوماً يغتسل من عين، فدخل بثيابه فقيل له: بللت ثيابك. قال: تبتل علي أحب إلي من أن تجف على غيري.
وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن في جرة معلقة على سريره، ففكر يوماً وهو مضطجع على السرير وبيده عكاز، فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري بها خمسة أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، فيبلغ النتاج في عشر سنين مائتين وأبيعهن فأبتاع بكل عشرة بقرة، ثم ينمى المال بيدي، فأبتاع العبيد والإماء، ويولد لي ولد فآخذ به في الأدب. فإن عصاني ضربته بهذه العصا. وأشار بالعصا، فأصاب الجرة فانكسرت، وصب السمن على وجهه ورأسه.
الزبير قال: حدثنا بكار بن رباح قال: وكان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويحمل لهم الشراب فشكي إلى عامل مكة فغربه إلى عرفات فبني بها منزلاً، وأرسل إلى إخوانه، فقال: ما يمنعكم أن تعاودوا ما كنتم فيه؟ قالوا: وأين بك وأنت في عرفات؟ فقال: حمار بدرهم، وقد صرتم على الأمن والنزهة. ففعلوا فكانوا يركبون إليه حتى فسدت أحداث مكة، فعادوا بشكايته إلى والي مكة، فأرسل فيه فأتي به فقال: يا عدو الله، طردتك من حرم الله فصرت بفسادك إلى المشعر الأعظم. فقال: يكذبون علي أصلح الله الأمير. فقال: دليلنا أصلحك على ما نقول أن تأمر بحمير مكة فتجمع وترسل بها أمناء إلى عرفات ويرسلونها، فإن لم تقصد لمنزلة من بين المنازل كعادتها إذ ركبها السفهاء فنحن غير مبطلين. فقال الوالي: إن في هذا دليلاً وشاهداً عدلاً. فأمر بحمير من حمير الكراء فجمعت ثم أرسلت، فصارت إلى منزله كما هي من غير دليل، فأعلمه بذلك أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جردوه. فلما نظر إلى السياط قال: لا بد أصلحك الله من ضربي؟ قال: نعم يا عدو الله. قال: والله ما في ذلك من شيء هو أشد علي من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكوا منا ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير. قال: فضحك الوالي وخلى سبيله.

ولقي رجل امرأة جميلة فجعل يتعرضها، وألح عليها، فدخلت درباً وكشفت عن وجه قد شاكر البدر حسنه وقالت له: انظر ما يسخن عينك، ويقوم له أيرك، وينيكه غيرك.
وهنأ رجل رجلاً في عرسه، فقال: باليمن والبركة، وشدة الحركة، والظفر في المعركة.
الهيثم بن عدي قال: بينا أنا بكناسة الكوفة إذا برجل مكفوف البصر قد وقف على نخاس من نخاسي الدواب، فقال له: أبغي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إذا خلا له الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، وإن أقللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، وإذا ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. قال له النخاس، يا عبد الله، اصبر فإذا مسخ الله القاضي حماراً أصبت به حاجتك إن شاء الله.
قال: ودخل رجل السوق في شراء فرس، فقال له النخاس: صفه لي. فقال: أريده حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق العصب، نقي القصب، يشير بأذنيه، ويتشوف برأسه، ويخطر بيديه، ويدحو برجليه، كأنه موج في لجة، أو سيل في حدور، أو منحط من جبل. فقال له النخاس: نعم كذلك كان صلوات الله عليه. قال: إنما أصف لك فرساً، قال: ما حسبتك إلا في وصف نبي منذ اليوم.
قال: ودخل أبو نخيلة اليمن فلم ير بها أحداً حسناً، ورأى نفسه وكان قبيحاً أحسن من بها، فقال:
لم أر غيري حسناً ... منذ دخلت اليمنا
ففي حر أم بلدة ... أحسن من فيها أنا
محمد بن إسحاق قال: قال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه رذاذ من مطر، فإذا أنا بكناس قد فتح كنيفاً، ووقف على رأس البئر، وهو يقول:
بلد طيب ويوم مطير ... هذه روضة وهذا غدير
ثم قال لصاحبه: انزل فيها. فأبى عليه، فنزل وهو يقول:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
الأصمعي قال: بينا أنا سائر بالفيفاء، إذ سمعت صوتاً يقول:
جنبوني ديار هند وسعدى ... ليس مثلي يحل دار الهوان
قال: فالتفت يمنة ويسرة فإذا أنا بالصوت يخرج من حش، فأقبلت حتى وقفت عليه، فإذا بحشاش وبيده كأس، فقلت: يا سبحان الله، أنت في بيت عذرة وتقول:
ليس مثلي يحل دار الهوان
فإنى لك، وأي هوان أكثر مما أنت فيه؟ قال: فرفع رأسه إلي وقال:
لا تلمني فإنني نشوان ... أنا في الملك ما سقتني الدنان
فقلت: ما هو إلا كقول الآخر:
من قر عيناً بعيشه نفعه
ولعلي بن الجهم:
أعظم ذنبي عندكم ودي ... فليت هذا ذنبكم عندي
يا حسرتا أهلك وجداً بمن ... لا يعرف الشكوى من الوجد
حماد الرواية قال: أتيت مكة فجلست في حلقة منها، فيها عمر بن أبي ربيعة القرشي، وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم، فقال عمر بن أبي ربيعة: أحدثكم عن بعض ذلك، كان لي خليل من عذرة يكنى أبا مسهر وكان مستهتراً بأحدايث النساء، يصبو بهن وينشد فيهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا حديث السلوة، وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار، واستوقفت له السفار.
وإنه راث عني سنة من ذلك خبره، حتى قدم وفد عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي فإذا رجل يتنفس الصعداء، فقال: أعن أبي مسهر تسأل؟ قلت: نعم. قال: هيهات هيهات! أصبح والله أبو مسهر لا حياً فيرجى ولا ميتاً فينسى، ولكنه كما قال الشاعر:
لعمرك ما حبي لأسماء تاركي ... صحيحاً ولا أقضي به فأموت
فقلت: وما لذي به؟ قال: كمثل الذي بك، من انهماككما في الضلال، وجركما أذيال الخسار، كأنكما لم تسمعا بجنة ولا انر. قلت: فما أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أخوه. قلت: والله إنك وأخاك كالوشي والبجاد، لا يرقعك ولا ترقعه. ثم انطلقت وأنا أقول:
أرائحة حجاج عذرة روحة ... ولما يرح في القوم قيس بن مهجع
خليلي يشكو ما يلاقي من الهوى ... ومهما يقل أسمع وإن قلت يسمع
ألا ليت شعري أي شيء أصابه ... أمن زفرات هجن من بين أضلع
فلا يبعدنك الله خلاً فإنني ... سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي

قال: فلما حججت ووقفت بعرفات إذا به قد أقبل، وقد تغير لونه وساءت هيئته، وما عرفته إلا بناقته، فأقبل " فأدنى ناقته من ناقتي " حتى خالف بين أعناقهما، ثم اعتنقني، وجعل يبكي فقلت له: ما الذي دهاك؟ قال: برح الخفاء، وكشف الغطاء. ثم أنشد يقول:
لئن كانت عديلة ذات مطل ... لقد علمت بأن الحب داء
وإنك لو تكلفت الذي بي ... لزال الظلم وانكشف الغطاء
فإن معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصبابة واللقاء
إذا العذري مات بحتف أنف ... فذاك العبد يبكيه الرشاء
فقلت: يا أبا مسهر، إنها ساعة عظيمة تضرب فيها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت الله كنت قمناً أن تظفر بحاجتك، وتنصر على عدوك فجعل يدعو حتى إذا مالت الشمس للغروب، وهم الناس أن يفيضوا سمعته يهينهم بشيء، فأصغيت إليه مستمعاً فجعل يقول:
يا رب كل غدوة وروحه ... من محرم يشكو الصبا ونوحه
أنت حسيب الخلق يوم الدوحه
فقلت له: وما يوم الدوحة؟ قال: سأخبرك إن شاء الله، ولو لم تسألني فيممنا نحو المزدلفة فأقبل علي وقال: إني رجل ذو مال كثير، ونعم وشاء، وإني خشيت على مالي عام أول التلف، فأتيت أخوالي كلباً، فأوسعوا لي عن صدر المجلس، وسقوني جمة البئر وكنت منهم في خير أحوال، ثم إني عزمت على مرافقة أهل ماء لهم يقال له الحوادث، فركبت يوماً فرسي، وعلقت معي شراباً أهداه إلي بعض الكلبيين، فانطلقت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، رفعت لي دوحة عظيمة، فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروحت مبرداً! ففعلت فشددت فرسي بغصن من أغصانها، ثم جلست تحتها، فإذا بغبار قد سطع من ناحية الحي، ثم تبينت فبدت لي شخوص ثلاثة فإذا فارس يطرد مسحلاً وأتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر، وعمامة خز سوداء، فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه، ثم ثنى طعنة للأتان، وأقبل وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت، فثنى رجله فنزل، فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة، ثم أقبل حتى جلس معي، فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول الشاعر:
وإن حديثاً منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عود مطافل
فبينا هو كذلك، إذ نكت بالسوط على ثنيتيه، فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط، فقلت: مه. قال: ولم؟ قلت: إني أخاف أن تكسرهما، إنهما رقيقتان عذبتان.
قال: فرفع عقريته وجعل يتغنى:
إذا قبل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
وقال: ما الذي تعلقت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلك، فهل لك فيه؟ قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به، فوضعته بيني وبينه، فلما شرب منه شيئاً نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها، ثم رفع عقيرته يتغنى:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا الحلم حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
ثم قمت لأصلح من أمر فرسي، فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، وإذا غلام كأن وجهه دينار هرقلي، فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك. قال: كيف؟ قلت: ذلك لما راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال: وما الذي يروعك من رزق الدواب ونبيش التراب، ثم لا يدري أينعم أم يبؤس؟ قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً. ثم قام إلى فرسه، فلما أقبل برقت لي بارقة من تحت الدرع، فإذا ثدي كأنه حق عاج. قلت: نشدتك الله، امرأة؟ قالت: إي والله، امرأة، تكره العهر، وتحب الغزل. قلت: وأنا والله كذلك. قال: فجلست والله تحدثني ما أفقد من أنسها شيئاً، حتى مالت على " الدوحة " سكرى. فاستحسنت والله يا بن أبي ربيعة الغدر، وزين في عيني، ثم إن الله عصمني منه، فما لبثت أن انتهيت معذورة، فلاثت عمامتها برأسها، وأخذت الرمح، وجالت في متن فرسها، فقلت: مضيت ولم تزوديني منك زاداً. فأعطتني بنانها فتمسحت والله منها كالنبات الممطور زهر الثلج. ثم قلت: أين الموعد؟ قالت: إن لي إخوة شوساً وأباً غيوراً، والله لأن أسرك أحب إلي من أضرك. ثم مضت، فكان والله آخر العهد بها إلى يومي هذا، وهي التي بلغتني هذا المبلغ، وأحلتني هذا المحل.

قال: فدخلتني له رقة. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته وحملت غلاماً لي على بعير، وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة، وأخذت معي ألف دينار، ومطرف خز، ثم خرجنا حتى أتينا بلاد كلب، فإذا الشيخ في نادي قومه، فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام، من أنت؟ فقلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: أنت الكفء الكفي، الذي لا يرغب عن وصله، والرجل الذي لا يرد عن حاجته. قال: قلت: إني لم آتك لنفسي وإن كنت في موضع الرغبة، ولكنني أتيتكم لابن أختكم العذري. قال: والله إنه لكفء الحسب، كريم النسب، غير أن بناتي لم يعرفن هذا الحي من قريش. قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي، فقال: أما إني أصنع بك ما لم أصنع لغيرك، أخيرها في نفسها، فهي وما اختارت. فقلت: خيرها. فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا، فري رأيك. فقالت: ما كنت لأستبد برأي دون رأي القرشي، خياري ما اختار. قال: قدر ردت الأمر إليك. قال: فحمدت الله وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: قد زوجتها العذري، وأصدقتها هذه الألف الدينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة، وكسوت الشيخ المطرف، فسر به، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك، فضربت القبو في وسط الحي، وهديت إليه ليلاً، وبت عند الشيخ في خير مبيت، فلما أصبحت غدوت فقمت بباب القبة، فخرج إلي وقد تبين الجذل فيه، فقلت: كيف كنت بعدي أبا مسهر؟ قال: أبدت لي كثيراً مما كانت أخفته يوم رأيتها فقلت: أقم على أهلك بارك الله لك. ثم انطلقت إلى أهلي وأنا أقول:
كفيت الفتى العذري ما كان نابه ... ومثلي لأثقال النوائب أحمل
أما استحسنت مني المكارم والعلا ... إذا صرحت أني أقول وأفعل
حدث أبو محمد الشعبي الوراق، وكان عند باب خراسان على رأس الجسر الأول، عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم من ميمون الموصلي، قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون، وقد خلال وجهه، وطابت نفسه، إذ قال لي: يا إسحاق، هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين، وأدام سروره وفرحه. فقال: يا غلمان خذوا علينا الباب، وأحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي وأدخلني في مجالس غير المجالس التي كنا فيها، وإذا قد نصبت الموائد، وأصلح كل ما كان يحتاج إليه الحال، حتى كأنه شيء قد كان تقدم فيه. قال: فأكلنا وأخذنا في لذتنا وشربنا، فأقبلت الستيرات من كل ناحية بضروب من الغناء، وصنوف من اللهو، فلم نزل على ذلك إلى آخر النهار، فلما غربت الشمس قال لي: يا إسحاق، خير أيام الفتي أيام الطرب. قلت: هو والله ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فإني قد فكرت في شيء، فهل لك فيه؟ قلت: يا سيدي أو أتأخر عن رأي أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه. قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوتنا هذه، وقد عزمت على دخلة إلى دار الحرم، فكن بمكانك ولا ترم، فإني أوافيك عن قريب. قال: قلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين. ثم نهض إلى دار النساء، فما عرفت له خبراً إلى أن ذهب من الليل عامته.
قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء، وأشدهم ميلاً إليهن واستهتاراً بهن، وعلمت أن النبيذ قد غلب عليه، وأنهن قد أنسينه أمري، وما كان تقدم إلي ووعدني من سرعة رجوعه، فقلت في نفسي: هو أعزه الله في لذته وأنا هنا هنا في يغير شيء، وفي بقية، وعندي صبية كنت قد اشتريتها، وكانت نفسي متطلعة إلى افتضاضها، فنهضت مسرعاً عند ذكرها فقال الخادم: على أي شيء عزمت؟ وإلى أين تريد؟ قلت: أريد الانصراف. قالوا: فإن طلبك أمير المؤمنين؟ قلت: إنه أدام الله سروره قد شغله الطرب ولذة ما هو فيه عن طلبه، وقد كان بيني وبينه موعد قد جاوز وقته، ولا وجه لجلوسي.

قال إسحاق: وكنت مقدم الأمر في دار المأمون، مقبول القول فيه، لا أعارض في الشيء إذا أومأت إليه، فخرجت مبادراً إلى باب الدار، فلقيني غلمان الدار، وأصحاب النوبة. فقالوا: يا سيدنا، إن غلمانك قد انصرفوا وكانوا قد جاءوك بدابة، فلما علموا بمبيتك انصرفوا. قلت: لا ضير، فأنا أتمشى إلى البيت وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النوبة. قلت: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: فنمضي بين يديك بمشعل. قلت: لا، ولا أريد أيضاً ذلك. وأقبلت وحدي نحو البيت، حتى إذا صرت ببعض الطريق أحسست بحركة البول، فعدلت إلى بعض الأزقة، لئلا يجوز بي أحد منن العوام فيراني أبول على الطريق، فبلت حتى إذا قمت للتمسح ببعض الحيطان إذا أنا بشيء معلق من تلك الدور إلى الزقاق فما تمالك أن تمسحت حتى دنوت إلى ذلك الشيء لأعرف ما هو، فإذا بزنبيل كبير معلق بأربع آذان، وإذا هو ملبس ديباجاً، وفيه أربعة أحبل إبريسم، فلما نظرت إليه وتبينته قلت: والله إن لهذا لسبباً، وإن له لأمراً. فأمت ساعة أروي في أمره وأفكر فيه، حتى إذا طال ذلك بي قلت: والله لأتجاسرن ولأجلسن فيه كائناً في ذلك ما كان. ثم لففت رأسي بردائي وجلست في جوف الزنبيل، فلما أحس من كان على ظهر الحائط بثقله جذبوا الزنبيل إليهم، حتى انتهوا إلى رأس الحائط، فإذا بأربع جوار، وإذا هن يقلن: انزل بالحرب والسعة، أصديق أم جديد؟ فقلت: لا بل جديد. فقلت: أنت يا جرية بين يديه الشمعة. فابتدرت إحداهن إلى طست فيه شمعة وأقبلت بين يدي، حتى نزلت إلى دار نظيفة بها من الحسن والظرف والنظافة ما حرت له، ثم أدخلتني إلى مجالس مفروضة، ومناص مرصوص، بصنوف من الفرش الذي لم أر مثله إلا في دار ملك أو خليفة، فجلست في أدني مجلس من تلك المجالس، فما شعرت بعد ساعة إلا بضجة وجلبة وستور قد رفعت من ناحية من نواحي الدار، وإذا بوصائف يتساعين في أيدي بعضهن الشمع، وبعضهن المجامر، يسجر فيها العود والند، وإذا بينهن جارية كأنها تمثال عاج، تتهادى بينهم كالبدر الطالع، بقد يزرى على الغصون، ودل وشكل، فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت فقالت: مرحباً بك من زائر أتى، وليست تلك عادته. وجلست ورفعت مجلس عن الموضع الذي كنت فيه. فقالت: كيف كان ذا والله لي ولك، ولا علم كان وقع لي، فما السبب؟ قال: قلت: انصرفت من عند بعض إخواني وظننت أني على وقت، فخرجت في وقت ضيق وأخذني البول، فأخذت إلى هذا الطريق، فعدلت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلاً معلقاً، فحملني النبيذ على أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه، وإن كان صواباً فوالله ألهمنيه. قالت: لا ضير إن شاء الله، وأرجوا أن تحمد عواقب أمرك، فما صناعتك؟ قلت: بزاز. قالت: وأين مولدك؟ قلت: بغداد. قالت: ومن أي الناس أنت؟ قلت: من أفنائهم وأوساطهم. قالت: حياك الله وقرب دارك، فهل رويت من الأشعار شيئاً؟ قلت: شيئاً يسيراً. قالت: فذاكرنا بشيء مما حفظت. قلت: جعلت فداك إن للداخل دهشة، وفي انقباض، ولكن تبتدئي بشيء من ذلك، فالشيء يأتي بالمذاكرة. قالت: لعمري لقد صدقت، فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا؟ ثم أنشدتني لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين من أحسن أشعارهم، وأجود أقاويلهم، وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب: من ضبطها، أم من حسن لفظها، أم من حسن أدبها، أم من حسن جودة ضبطها للغريب، أم من اقتدارها على النحو معرفة أوزان الشعر؟ ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة. فقلت: إن شاء الله، لقد كان ذلك. قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل. قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء، فاستحسنت نشيدي، وأقبلت تسألني عن أشياء تمر في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك، وهي مصغية إلي، ومستحسنة لما آتي به، حتى إذا أتيت على ما فيه مقنع قالت: والله ما قصرت، وما توهمت فيك ما ألفيت، وما رأيت في أبناء التجار وأبناء السوقة مثل ما معك، فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا شيئاً حتى قدمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائب الطعام السري، فقالت: إن الممالحة أول الرضاع، فدونك. فتقدمت، فأقبلت أعتذر بعض الاعتذار وهي مع ذلك تحثني وتضع بين يدي، وإن لمتقسم القلب لما أرى من ظرفها

وعقلها، وحسن خفرها، وكثرة أدبها، حتى رفعت المائدة، وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد، إلا لولي عهد أو سلطان؛ قد عبئ أحسن تعبئة، وهيء بأحسن تهيئة. وحسن خفرها، وكثرة أدبها، حتى رفعت المائدة، وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد، إلا لولي عهد أو سلطان؛ قد عبئ أحسن تعبئة، وهيء بأحسن تهيئة.
قال إسحاق: فتثاقلت عن الشرب لتكون هي التي تبتدئ. فقالت: ما لي أراك متوقفاً عن الشرب؟ قلت: انتظاراً لك. جعلت فداك. فسكبت قدحاً فشربت ثم سكبت قدحا آخر فشرب، ثم قالت: هذا أوان المذاكرة فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري أن هذا لمن أوقاته. فاندفعت فقلت: بلغني أنه كان كذا وكذا، وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان، وكان من قصته كذا وكذا، حتى مررت بعد أخبار حسان من أخبار الملك وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة، فسرت بذلك سروراً شديداً، ثم قالت: والله لقد حدثتني بأحاديث حسان، ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثلها، وإنما هي من أحاديث الملوك، وما لا يتحدث به إلا عن ملك أو خليفة. فقلت لها: جعلت فداك، إنه كان لي جار ينادم بعض الملوك، وكان حسن المعرفة، كثير الحفظ، فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه لشغل يمنعه من ذلك، أو لأمر يقطع، فأمضي إليه، وأعزم عليه وأصير به إلى منزلي، فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئاً، إلى أن صرت من خاصة أخدانه، وممن كان لا يفارقه. ما سمعت مني فمنه أخذته، وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيدة، وطبع كريم.
قال إسحاق: وأخذنا في شيء من الشراب والمذاكرة ابتدئ الحديث فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر أحسن به حتى قطعنا بذلك عامة الليل، والند والعود وفائق البخور في المجلس يجدد ويسجر، وأنا في حالة لو توهمها المأمون وتأملها لاستطار فرحاً وسروراً. ثم قالت لي: يا أبا فلان - وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي - والله إني لأراك كاملاً، وفي الرجال فاضلاًن وإنك لوضئ الوجه، مليح الشكل، بارع الأدب، وما كان بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برعت وبرزت. فقلت: وما هو يا سيدتي دفع الله عنك الأسواء؟ قالت: لو كنت تحرك بعض الملاهي، أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: والله لقدماً اشتهيته، وطالما كلفت به، وحرصت عليه، فلم أرزقه، ولا وجدتني ممن تعلق بشيء منه، فلما طال عنائي به، وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب، تركته وأعرضت عنه، وإن في قلبي من ذلك لحرقة وحرارة، وإني لمستهتر به مائل إليه، وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيده شيئاً لتكمل ليلتي، ويطيب عيشي. قالت: كأنك قد عرضت بنا. فقلت: لا والله، ما هو تعريض، ولا هو إلا تصريح، وقد بدأت بالفضل، وأنت حرية باستتمام ما بدأت به، فقالت: يا جارية، عود. فأحضرت العود فأخذته، فما هو إلا أن جسته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها، واندفعت تغني بصوت ما ظننت أحداً يغني به، مع صحة إيماء، وجودة ضرب، فقلت: والله لقد أكمل الله فيك خلال الفضل، وحباك بالكمال الرائع، والعقل الوافر، والأخلاق المرضية، والأفعال السنية فقالت: هل تعرف لمن هذا الصوت، ومن غنى به؟ فقلت: لا والله. قالت: الغناء لفلان، والشعر لفلان، وكان من سببه كذا وكذا. فقلت: هذا والله أحسن من الغناء. فلم تزل تلك حالها في كل صوت تغنيه، وهي مع ذلك تشرب وأشرب حتى إذا كان عند انشقاق الفجر أو قبله جاءت عجوز كأنها داية لها، فقالت: أي بنية، إن الوقت قد حضر، فإذا شئت فانهضي.

قال: فلما سمعت مقالها نهضت فقالت: عزمت؟ قلت: إي والله. فقالت: مصاحباً، عليك بستر ما كنت فيه، فإن المجالس بالأمانة. فقلت: جعلت فداك، أو أحتاج إلى وصية في ذلك؟ فودعتها، وودعتني، وقالت: يا جارية، بين يديه. فأتي بي باب في ناحية الدار، ففتح لي وخرجت منه إلى طريق مختصرة، وبادرت البيت، فصليت الصبح ووضعت رأسي، فما انتبهت إلا برسل الخليفة على الباب، فقمت وقد أسرج لي، فركبت إلى الدار، فسرت إليه فلما مثلت بين يدي المأمون، قال لي: يا إسحاق، جفوناك ما كنا ضمناه لك، وتشاغلنا عنك. فقلت: يا سيدي، ليس شيء آثر عندي ولا أسر إلا قلبي من سرور يدخل على أمير المؤمنين، فإذا كمل سروره وطاب عيشه، فعيشنا طيب وسرورنا بسروره متصل. ثم قال: ما كانت حالك؟ قلت: يا سيدي، كنت قد اشتريت صبية من السوق، وكنت معلق القلب بها، فلما تشاغل أمير المؤمنين أطال الله بقاء، وخلوت وقد كانت في بقية، طالبتني نفسي بها، فمضيت مسرعاً فأحضرتها وأحضرت نبيذاً، فسقيتها وشربت معها، وغلب علي السكر، فقطعني عما أردت، وذهب بي النوم إلى أن أصبحت. فقال: لي: ما أكثر ما يتهيأ على الناس من هذا، فهل لك في مثل ما كنا فيه أمس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل أحد يمتنع من ذلك؟ قال: فإذا شئت. فنهض ونهضت، فصرنا إلى المجلس الذي كنا فيه بالأمس، على مثل حالنا تلك وأفضل، حتى إذا كان في الوقت وثب قائماً، فقال: يا إسحاق، لا ترم فإني أجيئك، وقد عزمت على الصبحة، فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي، وتأملت ما كنت فيه فإذا هو شيء لا يصبر عنه غلا جاهل ولو بزوال نعمته. قال: فنهضت فقال لي الغلمان: الله الله، فإن البارحة قد أنكر علينا نخليتك، وطالبنا بك، وقال: لم تركتموه؟ ولا نحسبك إلا تحب الإيقاع بنا. فقلت: والله لا نال أحدكم بسببي مكروه أبداً، ولكن أبادر الحاجة، والله لا كان لي حبس ولا لبث، وأمير المؤمنين أطال الله بقاءه إذا دخل أبطأ، وأنا موافيكم قبل خروجه إن شاء الله. قال: فنهضت، فما شعرت إلا وأنا في الزقاق، فوافيت الزنبيل على ما كان عليه، فقعدت فيه، وصعدت، وصرت إلى الموضع الذي أعرف، فلم ألبث إلا هنيهة وإذا بها قد طلعت، فقالت: ضيفنا؟ قلت: إي والله. قالت: أو قد عاودت؟ قلت: نعم، ولا أظن إلاأني قد ثقلت. فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام. فقلت: هفوة، فمني بالصفح. قالت: قد فعلنا فلا تعد. قلت: إن شاء الله. قال: ثم جلسنا وأخذنا فيما كنا فيه من المذاكرة والإنشاد وأحضرنا النبيذ، ولم نزل على تلك الحال وأفضل، وقد أنست وانبسطت بعض الانبساط، وهي مع ذلك لا تزال تقول لي: أوه، لو كنت الآن على ما أنت عليه وأحكمت من تلك الصنعة شيئاً، لقد تناهيت وبرعت. فقلت: والله لقد حرصت على ذلك وجهدت فيه فما رزقته، ولا قدرت عليه. ثم قلت: يا جعلت فداك، لا تخلينا مما كان من فضلك البارحة، لا تخلينا منه. فتأخذ في الأغاني، وكلما مر صوت حسن طيب وجيد بالغ قالت: يا فتى، أتدري لمن هذا؟ فأقول: لا. فتقول: لإسحاق. فأقول وإسحاق هكذا جعلت فداك في الحذق؟ فتقول: بخ، إسحاق تاريخ هذا الشأن بديع الصوت، وعتيق الغناء! فأقول: سبحانك الله، لقد أعطى إسحاق ما لم يعطه أحد. فتقول: ولو سمعت هذا منه لكنت أشد استحساناً له، وبه أشد كلفاً. حتى إذا كان الوقت، وجاءت العجوز نهضت وودعتها، وبادرت بين يدي جارية ففتحت الباب، فخرجت منه. وبادرت المنزل، فتوضأت للصلاة وصليت الصبح، ووضعت رأسي فنمت، فما انتبهت إلا برسل الخليفة يطلبونني، فقمت وقد أسرج لي فركبت إلى الدار، فما هو إلا أن مثلت بين يدي المأمون حتى قال: يا إسحاق أبيت إلا مكافأة لنا، ومعاملة بمثل ما استعملناه معك! قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما إلى ذلك ذهبت، ولا إليه قصدت، ولكني ظننت أن يكون أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذته، وأغفل أمري. وجاءني الشيطان فأذكرني أمر الجارية فبادرت إلى البيت. قال: وكان من أمرك ماذا؟ قلت: قضيت الحاجة. وفرغ الأمر. فقال: قد انقضى ما كان بقلبك منها، وواحدة بواحدة، والبادي أظلم. فقلت: بل أنا يا أمير المؤمنين ألوم وأظلم، وإليك المعذرة. فقال: لا تثريب عليك، هل لك في مثل حالنا الأول؟ قلت: إي والله. قال: فانهض بنا. وقام وقمت، حتى إذا صرنا إلى الموضع الذي كنا فيه أخذنا في لذتنا وشربنا، حتى إذا كان في الوقت قال لي: يا

إسحاق، ما عزمك؟ قتل: لا عزم لي يا أمير المؤمنين. قال: فعزمت إليك لتجلسن حتى أخرج إليك لنصطبح، فإني عازم على الصبوح، وقد نغصت علي ذلك مذ يومان. قلت: فالليلة إن شاء الله. وطرحت الستارات ودخل إلى الحرم، فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي وقمت وقعدت، وجالت وساوسي، وجعل أفكر في مجلس معها ومكانها ومحادثتها والنظر إليها، وفي الخروج عن طاعة المأمون، وما يلحقني في ذلك من سخطه وموجدته، فيسهل علي كل صعب إذا فكرت في أمرها. قال: فوثبت مبادراً، فاجتمع علي جند الدار، فقالوا لي: أين تريد؟ فقلت: الله، فإن لي قصة، وأنا معلق القلب ببعض من في منزلي، وأحتاج إلى مطالعتهم في بعض الأمر. فقالوا: ليس إلى تركك من سبيل. قال: فلم أزل أرفق بهذا، وأطلب إلى هذا، وأقبل رأس هذا، ووهبت خاتمي لواحد، وردائي لآخر، حتى تركوني، فلما خرجت عن جملتهم وأنا لا أصدق فلم أزل أعدوا حاسراً، حتى وافيت الزنبيل فجلست فيه، وصعدت السطح، وصرت إلى الموضع، وأقبل على مثل حالتها تلك، فلما رأتني قالت: ضيفنا؟ قلت: إيهاً لله. قالت: جعلتها دار مقام؟ قلت: جعلت فداك حق الضيافة ثلاث، ثم إن رجعت بعدها فأنت في حل من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجة. قال: ثم جلسنا، فأخذنا في مثل حالنا الأول من الشرب والإنشاد والمذاكرة والمحادثة والغناء حتى إذا علمت أن الوقت قد قارب فكرت في قضيتي، وعلمت أن المأمون لا يقارني على هذا، وأني لا أتخلص منه إلا بأن أشرح له قصتي، وأكشف له عن حالي، وعلمت أني إن قلت له ذلك طالبني بمعرفة الموضع والمسير به إليه، مع ما كان غلب عليه من الميل إلى النساء، والاستهتار بهن. فقلت لها: أتأذنين في ذكر شيء خطر ببالي؟ قالت: قل ما بدا لك. قلت: جعلت فداك، إني أراك ممن يقول بالغناء، ويعجب به وبالأدب، ولي ابن عم هو أحسن مني وجهاً، وأظرف قداً، وأكثر أدباً، وأغزر معرفة، وإنما أنا تلميذ من تلاميذه، وحسنة من حسناته، وهو أعرف الناس بغناء إسحاق وأحفظهم له. قالت: " طفيلي ويقترح " ، لم ترض أن أتيتنا ثلاثة أيام، حتى احتجت أن تأتي معك بآخر. فقلت لها: جعلت فداك، ذكرته لتكوني أنت المحكمة، فإن أذنت وأردت ذلك، وإلا فلا إكراه. قالت: فإن كان ابن عمك هذا على ما ذكرت فما نكره أن نعرفه ونشاهده. فقلت: هو والله على أكثر مما وصفت. قالت: فإذا شئت. قلت: فالليلة. قالت: والليلة. ثم حضر الوقت فنهضت وصرت إلى البيت، فما وصلت حتى وافيت منزلي قد هجم عليه، وإذا برسل الخليفة وأصحاب الشرط قد ركبوا إلى بابي، فلما بصروا بي سحبت سحباً على حالتي تلك، حتى انتهوا بي إلى الدار، فإذا المأمون جالس وسط الدار على كرسي، وإذا هو مغتاط حرد، فقال: يا إسحاق، أخروجاً عن الطاعة؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: فما قصتك وما الذي أظهر ما أرى من الانحراف، وكثرة الخلاف؟ فاصدقني حالك. قلت: يا أمير المؤمنين، إنه كانت لي قصة أحتاج فيها إلى خلوة. فأومأ إلى من كان واقفاً بين يديه فتنحوا، حتى إذا خلونا قلت: كان من خبري كيت وكيت، وفعلت وصنعت ورأيت كذا. فوالله ما فرغت من حديثها حتى قال: يا إسحاق، أتدري ما تقول؟ فقلت: إي والله، إني لأدري. فقال: ويحك، فكيف لي بمشاهدة ما شاهدت؟ قلت: ما إلى ذلك من سبيل. قال: والله لا بد تلطف لي وتوصلني إليها، فهذا ما لا صبر لعاقل عنه. قلت: إي والله، قد تفكرت في قصتي وفيما قدمت عليه من عصيانك، وعلمت أنه لا ينجيني إلا الصدق والكشف الحال، وعلمت أنك تطالبني به أشد المطالبة، فقدمت إليها ذكراً من ذلك، وقلت لها كيت وكيت، ووعدتها في أمرك كذا وكذا. قال: قد والله أحسنت، ولولا ذلك لنلتك بكل مكروه. قلت: فالحمد لله الذي سلم. قال: ثم نهض ونهضت حتى صرنا إلى مجلسنا، وأخذنا في لذتنا وشربنا، وهو مع ذلك يقول: يا إسحاق، حدثني عنها، وصف لي حالها، واشرح لي أمرها. فوالله ما قطعنا يومنا ذلك إلا بذكرها، وما وصلنا إلى آخر النهار إلا والمأمون لا يصدق من شدة تعلق قلبه بها، وبما قربت عنده من حالها، حتى إذا كان بعد هدأة من الليل وهو يقول في كل ساعة: ما جاء الوقت؟ وأنا أقول: بقي قليل، والسعة. والقلق غالب عليه، حتى إذا جاء الوقت نهضنا فخرجنا من بعض أبواب القصر، ومعنا غلام، وهو على حمار وأنا على حمار. فلما صرنا بالقرب من منزلها نزلنا ثم قلنا للغلام: يجب أن تظهر

بري بحضرتها وإكرامي، وتطرح نخوة الخلافة، وتجبر الملك، وكن كأنك تبع لي. وهو يقول: نعم، أوترى أني أجهل وتحتاج إلى أن توصيني؟ قال لي: ويحك يا إسحاق، فإن قالت لي: عن، فكيف أصنع؟ قال: قلت: أنا أكفيك وأدفعها عن ذلك، وأصدها برفق وحسن مس. ثم صرنا إلى الزقاق، فإذا بزنبيلين معلقين بثمانية أحبل. فقعد في واحد وقعدت في آخر، ثم جذب الجواري وإذا نحن في السطح وبادرن بين أيدينا حتى انتهين بنا إلى المجلس. قال: فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزي، ويعجب بذلك إعجاباً شديداً، وقعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه، وقعد المأمون دوني في المرتبة. ثم أقبلت فسلمت، فما تمالك أن نظر إليها فبهت من حسنها، فقالت: حيا الله ضيفنا بالسلام، والله ما أنصفت ابن عمك، ألا رفعت مجلسه؟ فقلت: ذلك إليك جعلت فداءك. فقالت: ارتفع فديتك، فأنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت ولكل جديد لذة فنهض المأمون حتى قعد في صدر المجلس، ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو آخذ معها في كل فن، فكستها وأفحمها. قال: فالتفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك، وصدقت في قولك، ووجب شكرك على صنيعك. قال: ثم أحضرنا النبيذ وأخذنا في الشراب، وهي مع ذلك مقبلة عليه، وهو مقبل عليها، ومسرورة به ومسرور بها. قال: فالتفتت إلي فقالت: وابن عمك هذا من أبناء التجار؟ قلت لها: نعم، فديتك، نحن لا نعرف إلا التجارة. قالت: وإنكما فيها لغريبان. ثم قالت: موعدك. فقلت: لعمري إنه ليجب، ولكن حتى يسمع شيئاً. قال: وذاك. وأخذت العود، وغنت صوتاً، فشربنا عليه رطلاً، ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه علي، فشربنا عليه رطلاً، قال: فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال وغلب عليه الفرح، وتداخله السرور وارتاح وطرب، قال: يا إسحاق، فوالله لقد رأيته نظر إلي نظر الأسد إلى فريسته، فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني هذا الصوت. فلما رأتني أخذت العود ووقف بين يديه أغنيه، علمت أنه الخليفة وأني إسحاق. فنهضت وقال: ها هنا. وأومأ إلى كل مضروبة فدخلتها ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلاً وقال لي: ويحك يا إسحاق؛ انظر هذه الدار ومن ربها؟ فخرجت فلقيت تلك العجوز، فقلت لها: من صاحب المنزل؟ ومن مولاكم؟ قالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه منه؟ قالت: ابنته بوران. فرجعت وأعلمته فقال: علي به الساعة. قال: فقلت لها: امضي فأحضريه وأعلميه أن أمير المؤمنين يطلبه. قال: فغابت عني هنيهة ثم جاءت وهو في إثرها فوقف بين يديه فقال: ألك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أزوجتها؟ قال: لا والله. قال: وما اسمها؟ قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك. قال: هي يا أمير المؤمنين أمتك، وأمرها إليك. قال: فإني قد زوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار نحملها إليك في صبيحة ليلتنا هذه، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ثم نهض وفتح لنا الباب وخرجنا، فلما صرنا إلى الدار قال: يا إسحاق، لا يقفن أحد على ما وقفت عليه، فإن المجالس بالأمانة. قلت: يا أمير المؤمنين، ومثلي يحتاج إلى وصية بهذا الأمر.بحضرتها وإكرامي، وتطرح نخوة الخلافة، وتجبر الملك، وكن كأنك تبع لي. وهو يقول: نعم، أوترى أني أجهل وتحتاج إلى أن توصيني؟ قال لي: ويحك يا إسحاق، فإن قالت لي: عن، فكيف أصنع؟ قال: قلت: أنا أكفيك وأدفعها عن ذلك، وأصدها برفق وحسن مس. ثم صرنا إلى الزقاق، فإذا بزنبيلين معلقين بثمانية أحبل. فقعد في واحد وقعدت في آخر، ثم جذب الجواري وإذا نحن في السطح وبادرن بين أيدينا حتى انتهين بنا إلى المجلس. قال: فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزي، ويعجب بذلك إعجاباً شديداً، وقعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه، وقعد المأمون دوني في المرتبة. ثم أقبلت فسلمت، فما تمالك أن نظر إليها فبهت من حسنها، فقالت: حيا الله ضيفنا بالسلام، والله ما أنصفت ابن عمك، ألا رفعت مجلسه؟ فقلت: ذلك إليك جعلت فداءك. فقالت: ارتفع فديتك، فأنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت ولكل جديد لذة فنهض المأمون حتى قعد في صدر المجلس، ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو آخذ معها في كل فن، فكستها وأفحمها. قال: فالتفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك، وصدقت في قولك، ووجب شكرك على صنيعك. قال: ثم أحضرنا النبيذ وأخذنا في الشراب، وهي مع ذلك مقبلة عليه، وهو مقبل عليها، ومسرورة به ومسرور بها. قال: فالتفتت إلي فقالت: وابن عمك هذا من أبناء التجار؟ قلت لها: نعم، فديتك، نحن لا نعرف إلا التجارة. قالت: وإنكما فيها لغريبان. ثم قالت: موعدك. فقلت: لعمري إنه ليجب، ولكن حتى يسمع شيئاً. قال: وذاك. وأخذت العود، وغنت صوتاً، فشربنا عليه رطلاً، ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه علي، فشربنا عليه رطلاً، قال: فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال وغلب عليه الفرح، وتداخله السرور وارتاح وطرب، قال: يا إسحاق، فوالله لقد رأيته نظر إلي نظر الأسد إلى فريسته، فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني هذا الصوت. فلما رأتني أخذت العود ووقف بين يديه أغنيه، علمت أنه الخليفة وأني إسحاق. فنهضت وقال: ها هنا. وأومأ إلى كل مضروبة فدخلتها ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلاً وقال لي: ويحك يا إسحاق؛ انظر هذه الدار ومن ربها؟ فخرجت فلقيت تلك العجوز، فقلت لها: من صاحب المنزل؟ ومن مولاكم؟ قالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه منه؟ قالت: ابنته بوران. فرجعت وأعلمته فقال: علي به الساعة. قال: فقلت لها: امضي فأحضريه وأعلميه أن أمير المؤمنين يطلبه. قال: فغابت عني هنيهة ثم جاءت وهو في إثرها فوقف بين يديه فقال: ألك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أزوجتها؟ قال: لا والله. قال: وما اسمها؟ قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك. قال: هي يا أمير المؤمنين أمتك، وأمرها إليك. قال: فإني قد زوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار نحملها إليك في صبيحة ليلتنا هذه، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ثم نهض وفتح لنا الباب وخرجنا، فلما صرنا إلى الدار قال: يا إسحاق، لا يقفن أحد على ما وقفت عليه، فإن المجالس بالأمانة. قلت: يا أمير المؤمنين، ومثلي يحتاج إلى وصية بهذا الأمر.

قال إسحاق: فما أصبحنا حتى أمر بحمل المال، ونقلت إليه من يومها، وكانت أحظى نسائه عنده وآثرهن لديه. وأقمت أستر هذا الحديث إلى أن مات المأمون، فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام التي كنت أنصرف من مجلس أمير المؤمنين في خلافته إلى مجلسها. ووالله ما رأيت من الرجال في ملوكهم ولا خلفائهم ولا سوقهم أحداً يفي بالمأمون، ولا شاهدت من النساء امرأة تقاربها فهماً وعقلاً، وحلاوة وشكلاً، وأما معرفتها وأدبها فما أظن أن في الأرض امرأة كان يتهيأ لها أن تقف من العلوم على مثل ما وقفت عليه. ولقد سألت بعض من كان يتولى خدمتها من عجائزها فقلت لها: وما حملها على ما أرى؟ فقالت: والله إنها لتفعل هذا منذ كذا وكذا سنة. ولقد عاشرة من الظرفاء والأدباء والملاح أكثر من أن يقع عليه إحصاء، وما جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خناً، ولا لفظة قبيحة، ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة لأهله، والمعاشرة لأهل المروءة والأقدار، وذوي النبل والأخطار لا لريبة تظهر، ولا لحالة تنكر.
قال: فوالله لقد تضاعف قدرها عندي، وعظم خطرها في نفسي، وعلمت شرف همتها وفضلها.
فهذا خبر بوران صحيحاً على الحقيقة، والسبب الذي تزوجها المأمون به.
قال هشام بن الكلبي والهيثم بن عدي: إن ناساً من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم، فرأى فتى منهم في طريقه جارية، فرمقها فقال لأصحابه: لا أنصرف والله حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها. فطلبوا إليه أن يكف عن ذلك فأبى أن يكف، وأقبل يراسل الجارية، وتمكن حبها من قلبه، فانصرف أصحابه، وأقام الفتى في ذلك الجبل، فمضى ليلة متقلداً سيفاً وهي بين أخوين لها نائمة، فأيقظها فقالت: انصرف لا ينتبه أخواي فيقتلانك. فقال: الموت والله أهون مما أنا فيه، ولكن إن أعطيتني يدك حتى أضعها على قلبي انصرفت. فأعطته يدها، فوضعها على قلبه وصدره وانصرف.
فلما كانت الليلة الثانية أتاها وهي على مثل تلك الحال فأيقظها، فقالت له مثل مقالها الأول، فقال: لك الله إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما أن أنصرف. فأمكنته فرشفهما ساعة ثم انصرف، فوقع في قلبها من حبه مثل الذي كان بقلبه منها وفشا خبرهما في الحي، فقال أهل الجارية: ما مقام هذا الفاسق في هذا الجبل؟ امضوا بنا إليه حتى نخرجه منه. فبعثت إليه الجارية آخر النهار: إن القوم سيأتونك الليلة فاحذر على نفسك. فلما أمسى قعد على مرقب ومعه قوسه وسهمه، ووقع بالحي في بعض الليل مطر، فاشتغلوا عنه، فما كان في آخر الليل وانقشع السحاب وطلع القمر، اشتاقت إليه الجارية، فخرجت تريده، ومعها صاحبة لها من الحي كانت تثق بها، فنظر الفتى إليهما فظن أنهما ممن يطلبه، فرمى فما أخطأ قلب الجارية، فوقعت ميتة وصاحت الأخرى ورجعت. وانحدر الفتى من الجبل فإذا الجارية ميتة، فقال:
نعب الغراب بما كره ... ت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها ... فاصبر وإلا فانتحر
ثم وجأ بمشاقصه أوداجه حتى مات، فجاء أهل المرأة فوجدوهما ميتين فدفنوهما في قبر واحد.
باب اللغزكانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة حماد الراوية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما بقي شيء إلا قد تهيأ في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي. فأرسلوا إليه، فأقبل يقول: مرهبا مرهبا، هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج وشيطان. فقال حماد الراوية: أنا. فقال: يا أبا عطاء، كيف علمك باللغز؟ قال: هسن - يريد حسن - فقال له:
فما صفراء تكنى أم عوف ... كأن سويقتها منجلان
قال: زرادة. فقال: أصبت. ثم قال:
أتعرف مسجداً لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان
قال: هو في بني سيتان، قال: أصبت. ثم قال:
فما اسم حديدة في الرمح تمسى ... دوين الصدر ليست بالسنان
فقال: زز. فقال: أصبت.
وقال المأمون يصف خاتماً:
وأبيض أما جسمه فمدور ... نقي وأما رأسه فمعار
ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه ... مؤنثة لم تكس قط خمار
لها أخوات أربع هن مثلها ... ولكنها الصغرى وهن كبار
وقال آخر في أرنب:

لهوت بذات رأس ذي التياث ... كرفع الإصبعين على الثلاث
إذا السبابة ارتفعت مع الخن ... صر اجتمع الثلاث بلا انتكاث
لهوت بها تطير بلا جناح ... وتنسب في الذكور وفي الإناث
وقال:
رب ثور رأيت في جحر نمل ... وقطاة تحمل الأثقالا
ونسور تمشي بغير رؤوس ... لا ولا ريش تحمل الأبطالا
وعجوز رأيت في بطن كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا
وغلام رأيته صار كلباً ... ثم من بعد ذاك صار غزالا
وأتان رأيت واردة الما ... ء زماناً وما تذوق بلالا
وعقاب تطير من غير ريش ... وعقاب مقيمة أحوالها
الثور: النمل الذي يخرج من التراب من الجحر العظيم بفيه. والقطاة: موضع الردف من الفرس. والنسور: بطون الحوافر. والعجوز: السيف. وبطن الكلب: الجلد الذي يعمل منه غمد السيف. وصار كلباً: ضم كلباً، أخذه من صار يصور، من قول الله عز وجل " فصرهن إليك " . والأتان: الصخرة. والعقاب التي تطير من غير ريش: البكرة. والمقيمة أحوالاً: اللواء.
وقال آخر في البيضة:
ألا قل لأهل الرأي والعلم والأدب ... وكل بصير بالأمور أخي أرب
ألا أخبروني أي شيء رأيتم ... من الطير في أرض الأعاجم والعرب
قديم حديث وهو باد وحاضر ... يصاد بلا صيد وإن جد في الطلب
ويؤكل أحياناً طبيخاً وتارة ... قلياً ومشوياً إذا دس في اللهب
وليس له لحم وليس له دم ... وليس له عظم وليس له عصب
وليس له رجل وليس له يد ... وليس له رأس وليس له ذنب
ولا هو حي لا ولا هو ميت ... ألا خبروني إذا هذا هو العجب
وقال آخر:
إني رأيت عجوزً بين حاجبها ... ونابها حبشي قائم رجل
له ثلاثون عيناً بين مرفقه ... وبين عاتقه في رجله قزل
في ظهره حية حمراء قانية ... في ظهرها رجل في ظهره رجل
العجوز: الناقة. والحبشي الذي بين حاجبها ونابها: الأسود الحابس بالخطام. وقوله: له ثلاثون عيناً بين عاتقه وبين مرفقه: مثاقيل كانت مصورة في عضده. وقوله: في ظهره حية حمراء قانية: كان عليه برنس فيه تصاوير بعضها داخل في بعض.
وقال آخر في القلم:
فلا هو يمشي لا ولا هو مقعد ... وما إن له رأس ولا كف لامس
ولا هو حي لا ولا هو ميت ... ولكنه شخص يرى في المجالس
يزيد على سم الأفاعي لعابه ... يدب دبيباً في الدجى والحنادس
يفرق أوصالاً بصمت يجيبه ... وتفرى به الأوداج تحت القلانس
إذا ما رأته العين تحقر شأنه ... وهيهات يبدو النقس عند الكرداس
وقال آخر فيه:
ضئيل الرواء كبير الغناء ... من البحر في المنصب الأخضر
عليه كهيئة مر الشجا ... ع في دعص محنية أعفر
إذا رأسه صح لم ينبعث ... وحار السبيل ولم يبصر
وإن مدية صدعت رأسه ... جرى جري لا هائب مقصر
يقضي لبانته مقبلاً ... ويحسمها هيئة المزبر
جريء بكف فتى كفه ... تسوق الثراء إلى المقتر
أبيات من الشعر المحدث ماء النعيم بوجهه متحير ... والصدغ منه كعطفة للراء
وكأنما نهكت قوى أجفانه ... بالراح أو قد شيب بالإغفاء
لو باشر الماء القراح بكفه ... لجرت أنامله بنبع الماء
وقال المؤمل:
عجبن لمن يطيبني بمسك
خلاخيل النساء لها وجيب
ولو أن النساء غنين يوماً
لأصبح كل عطار فقيراً
قلت المدون تم الكتاب بحمد الله وحده

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...