Translate

الخميس، 8 يونيو 2023

تفسير سورة المائدة من الاية 104 الي 108.تفسير سورة المائدة من الاية 109 الي113.


 

تفسير سورة المائدة من الاية 104 الي 108.تفسير سورة المائدة من الاية 109 الي113.  

أولا /تفسير سورة المائدة من الاية 104 الي 108. 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

=============

المائدة - تفسير ابن كثير

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) }

قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب قال: "البحيرة": التي يُمْنَعُ درّها للطواغيت، فلا يَحْلبها (1) أحد من الناس. و"السائبة": كانوا يسيبونَها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء -قال: وقال (2) أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمْرَو بن عامر الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيب السوائب"-و"الوصيلة": الناقة البكر، تُبَكّر في أول نتاج الإبل، ثم تُثَنّي بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر. و"الحام": فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت، وأعفوه عن الحَمْل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمّوه (3) الحامي.

وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث إبراهيم بن سعد، به. (4)

ثم قال البخاري: وقال لي أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. (5)

قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بُخْت، عن الزهري. كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في "الأطراف" وسكت ولم ينبه عليه. وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن

__________

(1) في د: "عليها".

(2) في د: "فقال".

(3) في د: "ويسموه".

(4) صحيح البخاري برقم (4623) وصحيح مسلم برقم (2856).

(5) صحيح البخاري برقم (4623).

(3/208)

الزهري نفسه. (1) والله أعلم.

ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة؛ أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا، ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه، وهو أول من سيب السوائب". تفرد به البخاري. (2)

وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن: "يا أكثم، رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك". فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غَيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي". ثم رواه عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه أو مثله. (4)

ليس هذان الطريقان في الكتب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، حدثنا إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول من سَيَّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار". تفرد به أحمد من هذا الوجه. (5)

وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار، يُؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أول من بحر البحائر". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه (6) بأخفافهما". (7)

فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة، أحد رؤساء خزاعة، الذين ولَوا البيت بعد جَرْهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب

__________

(1) المسند (2/366) وتفسير الطبري (11/116).

(2) صحيح البخاري برقم (4624).

(3) في د: "قال".

(4) تفسير الطبري (11/117) ورواه ابن هشام في السيرة النبوية (1/78) من طريق محمد بن إسحاق به.

(5) المسند (1/446) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف، لكن للحديث شواهد من حديث عائشة وأبي هريرة المتقدمين، وانظر كلام الشيخ ناصر الألباني في السلسة الصحيحة برقم (1677).

(6) في د: "ويطآنه".

(7) تفسير عبد الرزاق (1/191) ورواه الطبري في تفسيره (11/120) من طريق عبد الرزاق به.

(3/209)

بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام، عند قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات في ذلك.

فأما البحيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء. وإن كان (1) أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرة.

وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا.

وأما السائبة، فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم.

وقال محمد بن إسحاق: السائبة: هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سُيّبت فلم تركب، ولم يُجَزّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلا الضيف.

وقال أبو روق: السائبة: كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها.

وقال السُّدِّي: كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة (2) في الدنيا.

وأما الوصيلة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا. رواه ابن أبي حاتم.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: { وَلا وَصِيلَةٍ } قال: فالوصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى بأنثى، فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم.

وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس، رحمه الله.

وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم: إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن، توأمين توأمين في كل بطن، سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى، جعلت للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.

وأما الحام، فقال العَوْفي، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.

__________

(1) في د: "كانت".

(2) في د: "يغربه".

(3/210)

وكذا قال أبو روق، وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وأما الحام فالفحل من الإبل، إذا وُلد لولده قالوا: حَمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئًا، ولا يجزون له وبرًا، ولا يمنعونه من حمى رعي، ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.

وقال ابن وَهْب: سمعت مالكًا يقول: أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه.

وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي، عن أبي الأحوص الجُشَمي، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب، فقال لي: "هل لك من مال؟" قلت (1) نعم. قال: "من أيّ المال؟" قال: فقلت: من كل المال، من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: "فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك". ثم قال: "تنتج إبلك وافية آذانها؟" قال: قلت: نعم. قال: "وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟" قال: "فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحير، وتشق آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟" قلت: نعم. قال: "فلا تفعل، إن كل ما آتاك الله لك حل"، ثم قال: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } أما البحيرة: فهي التي يجدعون آذانها، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة: فهي التي يسيبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة: فالشاة تلد ستة أبطن، فإذا ولدت السابع (2) جدعت وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، من قوله، وهو أشبه. (3)

وقد روى هذا الحديث (4) الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه، به. وليس فيه تفسير هذه (5) والله أعلم.

وقوله: { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي: ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك (6) وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه، قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك، قال الله تعالى { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا } أي: لا يفهمون حقًا، ولا

__________

(1) في د: "فقلت".

(2) في د: "وتلد السابع".

(3) ورواه الطبري في تفسيره (11/122) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن أبيه به.

(4) في د: "وروى الحديث".

(5) المسند (4/136).

(6) في د: "ولكن افتروه المشركون".

(3/211)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم، وأضل سبيلا.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا.

قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية: يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام (1) فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به.

وكذا (2) روى الوالبي عنه. وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان. فقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: فيجازي (3) كل عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

وليس في الآية مسْتَدلٌّ (4) على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا، وقد قال الإمام أحمد (5) رحمه الله:

حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زُهَيْر -يعني ابن معاوية-حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا قَيْس قال: قام أبو بكر، رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها (6) الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله، عز وجل، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه". قال: وسمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس، إياكم والكَذِب، فإن الكذب مجانب (7) الإيمان.

وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حِبَّان في صحيحه، وغيرهم (8) من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد، به متصلا مرفوعًا، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق (9) وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره (10) وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في

__________

(1) في د: "ونهيته عنه".

(2) في د: "وهكذا".

(3) في د: "ليجازي".

(4) في د: "وليس فيها دليل".

(5) في د: "قال أحمد".

(6) في د: "يا أيها".

(7) في د: "يجانب".

(8) المسند (1/5) وسنن أبي داود برقم (4338) وسنن الترمذي برقم (2168) وسنن النسائي الكبرى برقم (11157) وسنن ابن ماجة برقم (4005).

(9) رواه أبو يعلى في المسند (1/118) من طريق شعبة، عن الحكم، عن قيس بن أبي حازم به موقوفًا.

(10) العلل للدارقطني (1/253).

(3/212)

مسند الصديق، رضي الله عنه.

وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني، وحدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن جارية (1) اللخمي، عن أبي أمية الشَّعْباني (2) قال: أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ فقال: أيَّة آية؟ قلت: قوله [تعالى] (3) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا، وهَوًى مُتَّبعًا، ودنيا مُؤْثَرة، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم" -قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة: قيل يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منهم أو منا؟ قال: "بل أجر خمسين منكم".

ثم قال (4) الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عتبة بن أبي حكيم. (5)

وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله (6) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم (7) مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا -أو قال: فلا يقبل منكم-فحينئذ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ }

ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية، عن ابن مسعود في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: { [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (8) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية. قال: فسمعها (9) ابن مسعود فقال: مَهْ، لم يجئ تأويل هذه بعد (10) إن القرآن أنزل حيث أنزل (11) ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي

__________

(1) في د: "ابن الحارث".

(2) في د: "الشعثاني".

(3) زيادة من د.

(4) في د: "فقال".

(5) سنن الترمذي برقم (3058) وسنن أبي داود برقم (4341) وسنن ابن ماجة برقم (4014) وتفسير الطبري (11/145).

(6) في د: "سئل عن قوله".

(7) في د: "ليس زمانها اليوم".

(8) زيادة من د.

(9) في د: "فردها".

(10) في د: "تأويلها".

(11) في د: "نزل".

(3/213)

يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبسْتُم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية. رواه ابن جرير. (1)

وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عَرفة، حدثنا شبابة بن سَوّار، حدثنا الربيع بن صُبَيْح، عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي أن (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا فليبلّغ الشاهد الغائب". فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (3)

وقال أيضًا: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف، عن سوَّار بن شَبِيب قال: كنت عند ابن عمر، إذ أتاه (4) رجل جَليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو (5) وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم: وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟

فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، إنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله: لعلك ترى، لا أبالك، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظْهم وانههم، فإن عصوك فعليك نَفْسك (6) فإن الله، عز وجل يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية.

وقال أيضًا: حدثني أحمد بن المقدام، حدثنا المعتَمِر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } فقال أكْبَرهم (7) لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم.

وقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحُسَين، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جُبَير بن نُفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغرُ القوم، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن ولا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنّيت (8) أني لم أكن تكلمتُ، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام

__________

(1) تفسير الطبري (11/143).

(2) في د: "لأن".

(3) تفسير الطبري (11/139).

(4) في د: "فأتاه".

(5) في د: "ولا يألو".

(6) في د: "بنفسك".

(7) في د: "أكثرهم".

(8) في د: "فتمنيت".

(3/214)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

حَدَثُ (1) السن، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهَوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (2)

وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سَهْل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال: تلا الحسن هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.

وقال سعيد بن المسيب: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت.

رواه ابن جرير، وكذا روي من طريق سفيان الثوري، عن أبي العُمَيْس، عن أبي البَخْتَري، عن حذيفة مثله، وكذا قال غير واحد من السلف.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كعب في قوله: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال: إذا هدمت كنيسة دمشق، فجعلت مسجدًا، وظهر لبس العَصْب، فحينئذ تأويل هذه الآية.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل: إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس. وقال (3) حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: إنها منسوخة. وقال آخرون -وهم الأكثرون، فيما قاله ابن جرير-: بل هو محكم؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان.

فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } هذا هو الخبر؛ لقوله: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فقيل تقديره: "شهادة اثنين"، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مَقَامه. وقيل: دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان.

__________

(1) في د: "حديث".

(2) تفسير الطبري (11/142).

(3) في د: "وقاله".

(3/215)

وقوله: { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين، بأن يكونا عدلين.

وقوله: { مِنْكُمْ } أي: من المسلمين. قاله الجمهور. قال (1) علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال: من المسلمين. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: رُوي عن عُبيدة، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، ويحيى بن يَعْمُر، والسُّدِّي، وقتادة، ومُقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.

قال ابن جرير: وقال آخرون: عني: ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي: من حَي (2) الموصي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.

وقوله: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن عَوْن، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال: من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب.

ثم قال: وروي عن عبيدة، وشُرَيْح، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وأبي مِجْلزَ، والسُّديِّ، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.

وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله: { مِنْكُمْ } أي: المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي: من غير قبيلة الموصي. وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري، والزهري، رحمهما الله.

وقوله: { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي: سافرتم، { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما صرح بذلك شريح القاضي.

قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني (3) إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية.

ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال شريح، فذكر مثله.

وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى. وهذه المسألة من إفراده، وخالفه الثلاثة فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.

وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو داود، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. (4)

__________

(1) في د: "قاله".

(2) في د: "من أهل".

(3) في د: "اليهود والنصارى".

(4) تفسير الطبري (11/166).

(3/216)

وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل الناس بها.

رواه ابن جرير، وفي هذا نظر، والله أعلم.

وقال ابن جرير: اختلف في قوله: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما، أو يشهدهما؟ على قولين:

أحدهما: أن يوصي إليهما، كما قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال: سئل ابن مسعود، رضي الله عنه، عن هذه الآية قال (1) هذا رجل سافر ومعه مال، فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين.

رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع.

والقول الثاني: أنهما يكونان شاهدين. وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة، كما في قصة تَمِيم الداري، وعَدِيّ بن بَدَّاء، كما سيأتي ذكرها آنفًا، إن شاء الله وبه التوفيق.

وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين، قال: لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد. وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، وهو حكم مستقل بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.

وقوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [العوفي، عن] (2) ابن عباس : يعني صلاة العصر. وكذا قال سعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وعِكْرِمة، ومحمد بن سيرين. وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين، وقال السدي، عن ابن عباس: يعني صلاة أهل دينهما.

والمقصود: أن يقام هذان الشاهدان (3) بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي: فيحلفان (4) بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي: إن ظهرت لكم منهما ريبة، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي: بأيماننا. قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي: لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي: ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرها.

وقرأ بعضهم: "ولا نكتم شهادة آلله" مجرورًا على القسم. رواها ابن جرير، عن عامر الشعبي.

__________

(1) في د: "قال ابن مسعود في هذه الآية".

(2) زيادة من د.

(3) في د: "أن قيامها".

(4) في د: "يحلفان".

(3/217)

وحَكَي عن بعضهم أنه قرأ: "ولا نَكْتُمُ شهادةً الله"، والقراءة الأولى هي المشهورة.

{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي: إن فعلنا شيئًا من ذلك، من تحريف الشهادة، أو تبديلها، أو تغييرها (1) أو كتمها بالكلية.

ثم قال تعالى: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي: فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين، أنهما خانا أو غَلا شيئًا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور: "اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان". ورُوي عن علي، وأُبيّ، والحسن البصري أنهم قرؤوها: { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } .

وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2)

وقرأ بعضهم، ومنهم ابن عباس: "من الذين استحق عليهم الأوَّلِين". وقرأ الحسن: "من الذين استحق عليهم الأوَّلان"، حكاه ابنُ جرير.

فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك: أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي: لقولنا: إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي: فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي: إن كنا قد كذبنا عليهما.

وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لَوْث (3) في جانب القاتل، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم، كما هو مقرر في باب "القسامة" من الأحكام.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان -يعني: أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب-عن ابن عباس، عن تميم الداري في هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } قال: بَرئ الناس منها غيري وغير عَديّ بن بَدَّاء. وكانا (4) نصرانيين، يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم، يقال له: بُدَيْل بن أبي مريم، بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم (5) تجارته. فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله -قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام، فبعناه

__________

(1) في د: "وتغييرها".

(2) المستدرك (2/237) ووافقه الذهبي.

(3) في د: "اللوث".

(4) في د: "فكانا".

(5) في د: "أعظم".

(3/218)

بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بدّاء. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما د فع إلينا غيره-قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت (1) إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا إليه (2) أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى قوله: { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعتْ الخمسمائة من عَدي بن بَدَّاء.

وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحَرَّاني، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، به فذكره (3) -وعنده: فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } إلى قوله: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر، فحلفا. فَنزعَتْ الخمسمائة من عدي بن بَدَّاء.

ثم قال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، ثم قال: ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ، وقد رُوي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.

حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جُبَير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بَدّاء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جامًا من فضة مُخَوّصًا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدوا الجام بمكة، فقيل: اشتريناه من تميم وعديّ. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لِصَاحبهم. وفيهم نزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ }

وكذا رواه أبو داود، عن الحسن بن علي، عن يحيى بن آدم، به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة. (4)

ومحمد بن أبي القاسم، كوفي، قيل: إنه صالح الحديث، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غيرُ واحد من التابعين منهم: عكرمة، ومحمد بن سيرين، وقتادة. وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر،

__________

(1) في د: "وأديت".

(2) في د: "عليه".

(3) سنن الترمذي برقم (3059) وتفسير الطبري (11/186).

(4) سنن الترمذي برقم (3606) وسنن أبي داود برقم (3060) وأصله في صحيح البخاري برقم (2780) لكن البخاري لم يذكره تحديثًا وإنما حكاية قول.

(3/219)

رواه ابن جرير. وكذا ذكرها مرسلة: مجاهد، والحسن، والضحاك. وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها.

ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا (1) ما رواه أبو جعفر بن جرير:

حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا زكريا، عن الشعبي؛ أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقا، قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري -يعني: أبا موسى الأشعري، رضي الله عنه-فأخبراه (2) وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.

ثم رواه عن عمرو بن علي الفَلاس، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي؛ أن أبا موسى قضى بدقوقا. (3) (4)

وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي، عن أبي موسى الأشعري.

فقوله: "هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم" الظاهر -والله أعلم-أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعديّ بن بَدّاء، قد ذكروا أن إسلام تَمِيم بن أوْسٍ الداري، رضي الله عنه، كان في سنة تسع من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرًا، يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، والله أعلم.

وقال أسباط عن السُّدِّي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه، قال: هذا في الحضر، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } في السفر، { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } هذا الرجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا [مال صاحبهم] (6) تركوا الرجلين (7) وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العلْجين حين انتُهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخَوّنوهما (8) فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فَيُوقَفُ الرجلان بعد صلاتهما في

__________

(1) في د: "من الشواهد لها أيضا".

(2) في د: "فأخبره".

(3) في د: "به".

(4) تفسير الطبري (11/165).

(5) في د: "الذي كان على عهده".

(6) زيادة من د.

(7) في د: "تركوهما".

(8) في د: "وضربوهما".

(3/220)

دينهما، فيحلفان: بالله لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين: أن صاحبهم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كتمتما أو خُنْتُما فَضَحْتُكُما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. رواه ابن جرير. (1)

وقال ابن جرير: حدثنا الحسين، حدثنا هُشيْم، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير، أنهما قالا في هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة قُبل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خُنَّا ولا غَيَّرنا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فذلك قوله: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } يقول: من الأولياء، فحلفا بالله: أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرَيْن، وتجوز شهادة الأولياء.

وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس. رواهما ابن جرير.

وهكذا قَرَّر (2) هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غيرُ واحد من أئمة التابعين والسلف، رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد، رحمه الله.

وقوله: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي: شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي.

وقوله: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي: يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة (3) على وجهها، هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون (4) ما يدعون، ولهذا قال: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }

__________

(1) تفسير الطبري (11/175).

(2) في د: "أورد".

(3) في د: "بها".

(4) في د: "فيستحقون".

(3/221)

ثم قال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أموركم { وَاسْمَعُوا } أي: وأطيعوا { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } يعني: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.

============

المائدة - تفسير القرطبي

104- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}

(6/341)

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الآية تقدم معناها والكلام عليها في {البقرة} فلا معنى لإعادتها.

105- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

فيه أربع مسائل:

الأولى- قال علماؤنا: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى.

الثانية- قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي؛ تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا؛ ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا أي حضرك، ودونك زيدا أي قرب منك؛ وأنشد:

يا أيها المائح دلتوي دونكتا

وأما قوله: عليه رجلا ليسني، فشاذ.

الثالثة- روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(6/342)

"إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت وكيعا يقول: لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد، قلت: ولا إسماعيل عن قيس، قال: إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا. قال النقاش: وهذا إفراط من وكيع؛ رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا؛ وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شُحّاً مُطاعا وهَوىً مُتبعاً ودنيا مُؤثَرةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم" . وفي رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عبدالبر قوله: "بل منكم" هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا" قال: هذا حديث غريب. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية؛ قولوا الحق ما قُبل منكم، فإذا رُد عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "ليبلغ الشاهد الغائب" ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. في رواية عن ابن عمر بعد قوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية

(6/343)

لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم. وقال ابن المبارك قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهله دينكم؛ كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا؛ ولينه بعضكم بعضا فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب؛ وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم؛ وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن خويز منداد: تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعائب الناس، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك" . ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه.

قلت: قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة: قال حدثنا بكر بن سوداة الجذامي عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك" . قال علماؤنا: إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الأحوال، وقلة المعينين. وقال جابر بن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب؛ عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم؛ قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت؛ فأنزل الله الآية بسبب ذلك وقيل: الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ؛ فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم. وقيل: نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم، فقيل لمن بقي على الإسلام: عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم. وقال سعيد بن جبير:

(6/344)

هي في أهل الكتاب وقال مجاهد: في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم؛ يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية. وقيل: هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قاله المهدوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله. قلت: قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال غيره: الناسخ منها قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الرابعة- الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس؛ فإذا خيف هذا فـ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} محكم واجب أن يوقف عنده ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم؛ وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه.

106- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ}

107- {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}

(6/345)

108- {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}

فيه سبع وعشرون مسألة:

الأولى- قال مكي رحمه الله: هذه الآية وما بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما؛ قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه رحمه الله.

قلت: ما ذكره مكي رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء. روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما كتمتما ولا اطلعتما" ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا؛ قال: فأخذوا الجام؛ وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدارقطني. وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله؛ قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم

(6/346)

اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره؛ قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تيم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي؛ وذكر الحديث. وذكر النقاش قال: نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي؛ كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشا مموها بالذهب؛ وذكر الحديث. وذكره سنيد وقال: فلما قدموا الشام مرض بديله وكان مسلما؛ الحديث.

الثانية- قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ورد {شَهِدَ} في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة: منها قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قيل: معناه أحضروا. ومنها {شَهِدَ} بمعنى قضى أي أعلم؛ قاله أبو عبيدة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ومنها {شَهِدَ} بمعنى أقر؛ كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} ومنها {شَهِدَ} بمعنى حكم؛ قال الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} . ومنها {شَهِدَ} بمعنى حلف؛ كما في اللعان. {و شَهِدَ}

(6/347)

بمعنى وصى؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وقيل: معناه هنا الحضور للوصية؛ يقال: شهدت وصية فلان أي حضرتها. وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين؛ فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان؛ واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال. وسميت اليمين شهادة؛ لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين.

الثالثة- قوله تعالى: {بَيْنِكُمْ} قيل: معناه ما بينكم فحذف {مَا} وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسم على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال

يوما شهدناه سليمان وعامرا

أراد شهدنا فيه. وقال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي مكركم فيهما. وأنشد:

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ... صفاحا وعني بين عينك منزوي

أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي ما بيني وبينك.

الرابعة- قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ} معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت. وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} . وكقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} ومثله كثير. والعامل في {إِذَا} المصدر الذي هو {شَهَادَةً}.

الخامسة- قوله تعالى: {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} {حِينَ} ظرف زمان والعامل فيه {حَضَرَ} وقوله: {اثْنَانِ} يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك: {ذَوَا عَدْلٍ} بين أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن {ذَوَاتَا} لا يصلح إلا للمؤنث. وارتفع {اثْنَانِ} على أنه خبر المبتدأ الذي هو {شَهَادَةً}

(6/348)

قال أبو علي {شَهَادَةُ} رفع بالابتداء والخبر في قوله: {اثْنَانِ} التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ كما قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي مثل أمهاتهم. ويجوز أن يرتفع {اثنان} بـ {شهادة}؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان.

السادسة- قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} {ذَوَا عَدْلٍ} صفة لقوله: {اثْنَانِ} و {مِنْكُمْ} صفة بعد صفة. وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين. وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:

الأول: أن الكاف والميم في قوله: {مِنْكُمْ} ضمير للمسلمين {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث. وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهله الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما؛ فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني؛ وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم. وقال به من الفقهاء سفيان الثوري؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به. واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر

(6/349)

عند عدم المسلمين كلهم يقولون {مِنْكُمْ} من المؤمنين ومعنى {مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما.

القول الثاني: أن قوله سبحانه: {أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك؛ والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ؛ فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل؛ وأن فيها {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فهو ناسخ لذلك؛ ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة؛ فجازت شهادة أهله الكتاب؛ وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار؛ وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز؛ والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.

قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة {المائدة} من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ.

القول الثالث: أن الآية لا نسخ فيها؛ قال الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله: {مِنْكُمْ} أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان

(6/350)

ومعنى قوله: {وْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى {آخَرَ} في العربية من جنس الأول؛ تقول: مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله {آخَرَ} يدل على أنه من جنس الأول؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: {أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قوله من قال {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير عشيرتكم من المسلمين. وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخوطب الجماعة من المؤمنين.

السابعة- استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال: ومعنى {وْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها. فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه؛ وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهله الذمة أولى؛ ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى. والله أعلم.

الثامنة- قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال؛ ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛

(6/351)

وادعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا" ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له؛ فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم ؟! ما لك لا تنبعث ؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؛ ما شأنك ؟! ما الذي كان يحملك ؟! ما الذي كان يبعثك ؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك ؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره.

التاسعة- قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} قال أبو علي: {تَحْبِسُونَهُمَا} صفة لـ {آخَرَانِ} واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ} . وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته.

العاشرة- فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6/352)

قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" . قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الخطابي: الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن.

الحادية عشرة- قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. وقال الحسن: صلاة الظهر. وقيل: أي صلاة كانت. وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السدي. وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ وفي الصحيح "من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان" .

الثانية عشرة- هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها: الزمان كما ذكرنا. الثاني: المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاري رحمه الله حيث ترجم {باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره}. وقال مالك والشافعي: ويُجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويُجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر. الثالث: الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا؛ قال ابن العربي: والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.

(6/353)

قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه: "فانطلق ليحلف" القيام والله أعلم أخرجه مسلم.

الرابع: التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} وقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي} وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وقوله عليه السلام: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" . وقول الرجل: والله لا أزيد عليهن. وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل؛ والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعني لرجل حلفه "احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء" يعني للمدعي؛ قال أبو داود: أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت. وقال الكوفيون: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين؛ فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف. قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة. وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس، ولم يصح.

قلت: وفي كتاب "المهذب" وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعي: وهو حسن. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف.

قلت: قد تقدم في الأيمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر.

(6/354)

الثالثة عشرة- ختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد.

الرابعة عشرة- قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} الفاء في {فَيُقْسِمَانِ} عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن {تَحْبِسُونَهُمَا} معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرمة:

وإنسان عيني يحسر الماء مرة ... فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم: إذا حسر بدا.

الخامسة عشرة- واختلف مَن المراد بقوله: {فَيُقْسِمَانِ} ؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما. قال ابن العربي مبطلا لهذا القول: والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذ يقضى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟! هذا ما لا يلتفت إليه.

قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال.

السادسة عشرة- قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين. قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى

(6/355)

في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهله الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحلفهما بعد العصر: "بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته" فأمضى شهادتهما. قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده؛ وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي؛ فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة. قال ابن العربي: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما: ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين. الثاني: التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع؛ وقد تحققت ههنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات.

السابعة عشرة- الشرط في قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} يتعلق بقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} لا بقوله {فَيُقْسِمَانِ} لأن هذا الحبس سبب القسم.

الثامنة عشرة- قوله تعالى: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. وإضمار القول كثير، كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ههنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.

(6/356)

التاسعة عشرة- اللام في قوله: {لا نَشْتَرِي} جواب لقوله: {فَيُقْسِمَانِ} لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو {لا} و{مَا} في النفي، {وَإِنْ} واللام في الإيجاب. والهاء في {بِهِ} عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض. ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة {النساء}.

الموفية عشرين- قوله تعالى: {ثَمَناً} قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو يكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء. وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت. وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت. تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها. وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره.

الحادية والعشرون- قوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أي ما أعلمنا الله من الشهادة. وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في "التحصيل" وغيره.

(6/357)

الثانية والعشرون- قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} . عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء؛ ومنه قولهم: عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه. وعثر الفرس عثارا قال الأعشى:

بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

والعثير الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء. والضمير في {أَنَّهُمَا} يعود على الوصيين اللذين في قوله عز وجل: {اثْنَانِ} عن سعيد بن جبير. وقيل: على الشاهدين؛ عن ابن عباس. و {اسْتَحَقَّا} أي استوجبا {إِثْماً} يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة. وقال أبو علي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ؛ لأن آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام

الثالثة والعشرون- قوله تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني في الأيمان أو في الشهادة؛ وقال {آخَرَانِ} بحسب أن الورثة كانا اثنين. وارتفع {آخَرَانِ} بفعل مضمر. {يَقُومَانِ} في موضع نعت {مَقَامَهُمَا} مصدر، وتقديره: مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه

الرابعة والعشرون- قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} قال ابن السري: المعنى استحق عليهم الإيصاء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لا يجعل

(6/358)

حرف بدلا من حرف؛ واختاره ابن العربي؛ وأيضا فإن التفسير عليه؛ لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية. و {الأَوْلَيَانِ} بدل من قوله: {فآخَرَانِ} قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز. وقيل: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة؛ كقوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} ثم قال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} ثم قال: {الزُّجَاجَةُ} وقيل: وهو بدل من الضمير في {يَقُومَانِ} كأنه قال: فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف؛ التقدير: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان. وقال ابن عيسى: {الأَوْلَيَانِ} مفعول {اسْتَحَقَّ} على حذف المضاف؛ أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل {على ملك سليمان} أي في ملك سليمان. وقال الشاعر:

متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث

أي في أقطارها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {الأَوَّلِينَ} جمع أول على أنه بدل من {اللَّذِينَ} أو من الهاء والميم في {عَلَيْهِمْ} وقرأ حفص: {اسْتَحَقَّ} بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله {الأَوْلَيَانِ} والمفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقيل: استحق عليهم الأوليان رد الأيمان. وروي عن الحسن: {الأَوَّلانَ} وعن ابن سيرين: {الأَوَّلِينَ} قال النحاس: والقراءتان لحن؛ لا يقال في مثنى؛ مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن {الأَوَّلانِ}

الخامسة والعشرون- قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين "أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما" فذلك قوله: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي يميننا أحق من يمينهما؛

(6/359)

فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} . وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا. {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ} ابتداء وخبر. وقوله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} أي تجاوزنا الحق في قسمنا. {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا.

السادسة عشرة- قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى} ابتداء وخبر. {أَنَّ} في موضع نصب. {يَأْتُوا} نصب بـ {أَنَّ} . {أَوْ يَخَافُوا} عطف عليه. {أَنْ تُرَدَّ} في موضع نصب بـ {يَخَافُوا} . {أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} قيل: الضمير في {يَأْتُوا} و {يَخَافُوا} راجع إلى الموصى إليهما؛ وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم.

السابعة والعشرون- قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} أمر؛ ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له متبعين أم الله فيه. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم، والله أعلم.

===============

المائدة - تفسير الطبري

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

القول في تأويل قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء (1) = أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به، ويقولون:"نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل". (2) قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون = ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، (3) بل كانوا على ضلالة وخطأ.

* * *

__________

(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474 ، 483 ، 485/8: 513.

(2) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 4: 244/7: 405.

(3) في المطبوعة: "ما كانوا فيما هم به عاملون" ، وفي المخطوطة: "كانوا" بغير"ما" ، والسياق يقتضي ما أثبت ، لأنه معطوف على قوله آنفاً: "يقول: لم يكونوا يعلمون. . ."

(11/137)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره، وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها، فإنه"لا يضركم من ضَلّ" ، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله.

* * *

ونصب قوله:"أنفسكم" بالإغراء، والعرب تغري من الصفات ب"عليك" و"عندك"، و"دونك"، و"إليك". (1)

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم معناه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم .

* ذكر من قال ذلك:

12848 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم"، فقال ابن مسعود:"ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم". (2)

__________

(1) "الصفات" حروف الجر ، والظروف ، كما هو بين من سياقها. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 322 ، 323.

(2) الأثر: 12848 -"سوار بن عبد الله بن سوار العنبري" ، القاضي ، شيخ الطبري. ثقة ، مترجم في التهذيب. وأبوه: "عبد الله بن سوار العنبري" القاضي ، ثقة. مترجم في التهذيب.

و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي" ، ثقة ، روي له الستة ، مضى برقم: 11408.

وسيأتي تخريج الأثر في التعليق على رقم: 12850.

(11/138)

12849 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، عن الحسن قال : ذكر عند ابن مسعود (1) "يا أيها الذين آمنوا" ، ثم ذكر نحوه.

12850- حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال : قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم" ؟ قال: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم. (2)

12851 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا الربيع بن صبيح، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى ذكره يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ"، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب، (3) ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (4)

__________

(1) في المطبوعة: "ذكر ابن مسعود" ، بإسقاط"عند" ، والصواب من المخطوطة.

(2) في الأثر: 12848 - 12850 - خبر الحسن ، عن ابن مسعود ، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 19 ، وقال: "رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود".

(3) "الغيب" (بفتح الغين والياء) جمع"غائب" ، مثل"خادم" و"خدم".

(4) الأثر: 12851 -"الحسن بن عرفة العبدي البغدادي" ، شيخ الطبري ، مضى برقم: 9373.

و"شبابة بن سوار الفزازي" ، مضى برقم: 37 ، 6701 ، 10051.

و"الربيع بن صبيح السعدي" ، مضى برقم: 6403 ، 6404 ، 10533.

و"سفيان بن عقال" ، مترجم في الكبير2/2/94 ، وابن أبي حاتم 2/1/219 ، وكلاهما قال: "روي عن ابن عمر ، روى عنه الربيع" ، ولم يزيدا.

وخرجه في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته لابن مردويه.

(11/139)

12852 - حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال ، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية:"عليكم أنفسكم"، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. (1)

12853- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عمرو بن عاصم قال ، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي مازن، بنحوه. (2)

12854 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف، عن سوّار بن شبيب قال ، كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، (3) وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً، (4) وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! (5) قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل، أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله

__________

(1) الأثر: 12852 ، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني" ، كان من صلحاء الأزد ، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة ، عن صاحب له ، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44 . ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة ، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة ، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة" ، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن" ، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة ، حدثنا أبو مازن ، رجل من صالحي الأزد ، من بني الحدان" ، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه ، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.

وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.

(2) الأثر: 12852 ، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني" ، كان من صلحاء الأزد ، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة ، عن صاحب له ، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44 . ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة ، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة ، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة" ، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن" ، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة ، حدثنا أبو مازن ، رجل من صالحي الأزد ، من بني الحدان" ، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه ، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.

وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.

(3) في المطبوعة: "قد قرأوا" بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.

(4) في ابن كثير 3: 259 ، رواه عن هذا الموضع من التفسير ، وزاد فيه هنا: ". . . أن يأتي دناءة ، إلا الخير" ، وليست في مخطوطتنا.

(5) في المطبوعة: "وأي دناءة تزيد" ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(11/140)

الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! (1) عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون" . (2)

12855- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، قال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، (3) ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا = أو قال: فلا يقبل منكم = فحينئذ: عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضلّ". (4)

12856- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه، (5) فقرأ رجل:"عليكم

__________

(1) في المطبوعة ، وابن كثير: "فتقتلهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب قديم.

(2) الأثر: 12854 -"سوار بن شبيب السعدي الأعرجي" ، و"بنو الأعرج" ، حي من بني سعد. و"الأعرج" هو"الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم" ، قطعت رجله يوم"تياس" ، فسمي"الأعرج". وهو ثقة ، كوفي ، روى عن ابن عمر ، روى عنه عوف ، وعكرمة بن عمار. مترجم في الكبير 2/2/168 ، وابن أبي حاتم 2/1/270.

وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 259 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341 ، واقتصر على نسبته إلى ابن مردويه.

(3) قوله: "إنها اليوم مقبولة" ، يعني: كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(4) الأثر: 12855 - انظر التعليق على الآثار: 12848 - 12850.

وكان في المطبوعة هنا: " . . . من ضل إذا اهتديتم" ، بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.

(5) قوله: "يسندون إليه" أي: ينتهون إلى عمله ومعرفته وفقهه ، ويلجئون إليه في فهم ما يشكل عليهم. ويقال: "أسندت إليه أمري" ، أي: وكلته إليه ، واعتمدت عليه. وقال الفرزدق: إلَى الأَبْرَشِ الكَلْبِيّ أَسْنَدْتُ حَاجَةً ... تَوَاكَلَها حَيًّا تَمِيمٍ ووَائِلِ

وهذا كله مما ينبغي تقييده في كتب اللغة ، فهو فيها غير بين.

(11/141)

أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان.

12857- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال ، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، (1) قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) فقرأ رجل من القوم هذه الآية"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان. (3)

12858 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّي لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، (4) ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا:"إنك غلام

__________

(1) في المطبوعة: "بني الجدان" بالجيم ، وهو خطأ.

(2) في المطبوعة: "فيها أصحاب رسول الله: ، وفي المخطوطة: "فيها من أصحاب رسول الله" ، فضرب بالقلم على"فيها" فأثبتها على الصواب.

(3) الأثران: 12856 ، 12857 - انظر التعليق على الأثرين السالفين رقم: 12852 ، 12853.

(4) في المطبوعة: "تنزع بآية من القرآن" ، غير ما في المخطوطة ، وما غيره صواب.

ولكن يقال: "انتزع معنى جيدًا ، ونزعه" ، أي: استخرجه واستنبطه ويقال: "انتزع بالآية والشعر" ، أي: تمثل به.

(11/142)

حدَثُ السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (1)

12859 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون"، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، (2) لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! (3) إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن

__________

(1) الأثر: 12858 -"ابن فضالة" هو: "مبارك بن فضالة بن أبي أمية" ، أبو فضالة البصري. وفي تفسير ابن كثير: "حدثنا أبو فضالة" ، ومضى برقم: 154 ، 597 ، 611 ، 1901.

و"معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي" ، أحد الأعلام ، مضى مرارًا منها: 186 ، 187 ، 2072 ، 8472 ، 11255 ، ولم تذكر لمعاوية بن صالح ، رواية عن جبير بن نفير ، بل روى عنه ابنه عبد الرحمن بن جبير.

و"جبير بن نفير" إسلامي جاهلي ، مضى برقم: 6656 ، 7009.

وهذا الخبر منقطع الإسناد ، ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 260 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(2) "مه" ، هكذا في المطبوعة ، وابن كثير ، والدر المنثور و"مه" كلمة زجر بمعنى: كف عن هذا. وفي المخطوطة مكانها: "مهل" ، وأخشى أن تكون خطأ من الناسخ ، ولو كتب"مهلا" ، لكان صوابًا ، يقال: "مهلا يا فلان" أي: رفقًا وسكونًا ، لا تعجل.

(3) في المطبوعة: "لم يجئ" ، ومثلها في ابن كثير والدر المنثور ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/143)

على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير، (1) ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة، (2) ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، (3) فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. (4)

12860- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم ذكر نحوه. (5)

12861- حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا حرمي......... قال : سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فقال بعض

__________

(1) في المطبوعة: "آي قد وقع" بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.

(2) في المطبوعة: "على ما ذكر من أمر الساعة" ، بزيادة"أمر" ، وفي المخطوطة أسقط الناسخ"على" ، وإثباتها هو الصواب.

(3) في المطبوعة: "من أمر الحساب" بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.

(4) الأثر: 12859 -"ليث بن هرون" ، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.

و"إسحق الرازي" ، هو: "إسحق بن سليمان الرازي" ، مضى برقم: 6456 ، 102338 ، 11240. وانظر الإسناد الآتي رقم: 12866.

وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 258 ، 259 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339 ، 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، ونعيم بن حماد في الفتن ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب.

وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.

(5) الأثر: 12860 - انظر الأثر السالف.

(11/144)

أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم. (1)

12862 - حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر، (2) للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله، كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم. (3)

__________

(1) الأثر: 12861 - هذا إسناد ناقص لا شك في ذلك.

"أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي" ، أبو الأشعث. روى عنه البخاري والترمذي والنسائي ، وغيرهم. صالح الحديث. ولد في نحو سنة 156 ، وتوفي سنة 253.

و"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي" ، مضى برقم: 8513. ومات سنة 201 ، ومحال أن يكون أدرك الحسن وسمع منه. فإن"الحسن البصري" مات في نحو سنة 110 فالإسناد مختل ، ولذلك وضعت بينه وبين الحسن نقطًا ، دلالة على نقص الإسناد.

(2) في المطبوعة: "أرى من بعدكم" ، والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "المتمسك" بغير لام الجر ، وكأن الصواب ما في المطبوعة.

(3) الأثر: 12862 - سيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.

"إسمعيل بن إسرائيل اللآل الرملي" ، مضى برقم: 10236 ، 12213 ، وذكرنا هناك أنه في ابن أبي حاتم"السلال" ، ومضى هناك" 10236"الدلال" ، وجاء هنا"اللآل" ، صانع اللؤلؤ وبائعه ، ولا نجد ما يرجح واحدة من الثلاث.

و"أيوب بن سويد الرملي" ، ثقة متكلم فيه. مضى برقم: 12213.

و"عتبة بن أبي حكيم الشعباني الهمداني ، ثم الأردني" ، ثقة ، ضعفه ابن معين. مضى برقم: 12213.

و"عمرو بن جارية اللخمي" ، ثقة ، مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"عمرو بن خالد" وهو خطأ محض. وفي المخطوطة كتب"خالد" ثم جعلها"جارية" ، وهو الصواب.

و"أبو أمية الثعباني" اسمه"يحمد" (بضم الياء وكسر الميم) وقيل: اسمه"عبد الله بن أخامر". ثقة. مترجم في التهذيب.

و"أبو ثعلبة الخشني" اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا. صحابي.

وسيأتي تخريجه في الذي يليه.

(11/145)

12863- حدثنا علي بن سهل قال ، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن ابن المبارك وغيره، عن عتبة بن أبي حكيم، [عن عمرو بن جارية اللخمي]، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بِخُوَيصة نفسك، (1) وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. (2)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.

__________

(1) "خويصة" تصغير"خاصة".

(2) الأثر: 12863 -"عتبة بن أبي حكيم" ، في المخطوطة: "عبدة بن أبي حكيم" ، وهو خطأ ظاهر.

وفي المخطوطة والمطبوعة ، أسقط: [عن عمرو بن جارية اللخمي] ، فوضعتها بين قوسين.

وهذا هو نفسه إسناد الترمذي.

وهذا الخبر ، رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عقبة بن أبي حكيم ، بنحو لفظه هنا. ثم قال الترمذي: "قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة = قيل: يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا ، بل أجر خمسين رجلا منكم". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

وأخرجه ابن ماجه في سننه رقم: 4014 من طريق هشام بن عمار ، عن صدقة بن خالد ، عن عتبة بن أبي حكيم ، بنحو لفظه.

ورواه أبو داود في سننه 4: 174 ، رقم: 4341 ، من طريق أبي الربيع سليمان بن داود العتكي ، عن ابن المبارك ، بمثله.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 258 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339 ، وزاد نسبته إلى البغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والحاكم في المستدرك وصححه.

(11/146)

* ذكر من قال ذلك:

12864 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ"، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به.

12865 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيَّتي.

12866 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن صفوان بن الجون قال : دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء، فذكر شيئًا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل" ، الآية. (1)

12867 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال ، حدثنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال :"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، ما لم يكن سيف أو سوط. (2)

__________

(1) الأثر: 12866 -"ليث بن هرون" ، لم أجده ، وانظر الإسناد السالف رقم 12859.

و"إسحق" ، هو: "إسحق بن سليمان الرازي" ، وانظر رقم: 12859.

وأما "صفوان بن الجون" ، فهو هكذا في المخطوطة أيضًا ، ولم أجد له ترجمة. وفي الدر المنثور 2: 341 ، "عن صفوان بن محرز" ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم.

و"صفوان بن محرز بن زياد المازني ، أو الباهلي". روى عن ابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري. روى عنه جامع بن شداد ، وعاصم الأحول ، وقتادة. كان من العباد ، اتخذ لنفسه سربًا يبكي فيه. مات سنة 74 ، مترجم في التهذيب. ومضى برقم: 6496.

(2) الأثر: 12867 -"عبد الكريم بن أبي عمير" ، مضى برقم: 7578 ، 11368 و"أبو المطوف المخزومي" ، لم أجد له ذكرًا.

(11/147)

12868- حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال ، تلا الحسن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله. (1)

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فاعملوا بطاعة الله ="لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.

* ذكر من قال ذلك:

12869 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سعد البقال، عن سعيد بن المسيب:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.

12870 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن أبي العميس، عن أبي البختري، عن حذيفة:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، قال: إذا أمرتم ونهيتم.

12871- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، وإن الناس إذا رأوا الظالم = قال ابن وكيع = فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. (2)

__________

(1) الأثر: 12868-"ضمرة بن ربيعة الفلسطيني الرملي" ، ثقة ، مضى برقم: 7134. وكان في المطبوعة: "مرة بن ربيعة" ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

وهذه الكلمة التي قالها الحسن ، لو خفيت على الناس قديمًا ، فإن مصداقها في زماننا هذا يراه المؤمن عيانًا في حيث يغدو ويروح.

(2) الأثر: 12871 - خبر قيس بن أبي حازم ، عن أبي بكر ، رواه أبو جعفر بأسانيد ، من رقم: 12871 - 12878 ، موقوفًا على أبي بكر ، إلا رقم: 12876 ، 12878 ، فرواهما متصلين مرفوعين ، وإلا رقم: 12874 ، فهو مرسل. وأكثر طرق أبي جعفر طرق ضعاف.

ورواه من طريق"إسمعيل بن أبي خالد" ، عن قيس بن أبي حازم برقم: 12871 ، 12873. فمن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده رقم: 1 ، 16 ، 29 ، 30 ، 53 ، متصلا مرفوعًا. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 258: "وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حبان في صحيحه ، وغيرهم ، من طرق كثيرة ، عن جماعة كثيرة ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا. ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره".

و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي" ، ثقة. مضى برقم: 5694 ، 5777.

و"قيس بن أبي حازم الأحمسي" ، ثقة ، روى له الستة ، روى عن جماعة من الصحابة ، وهو متقن الرواية. مترجم في التهذيب.

وهذا إسناد صحيح.

(11/148)

12872- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير وابن فضيل، عن بيان، عن قيس قال ، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، يعمُّهم الله بعقابه. (1)

12873- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.

12874 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله:"عليكم أنفسكم" ، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم.

__________

(1) الأثر: 12872 -"ابن فضيل" هو: "محمد بن فضيل بن غزوان الضبي" ، مضى مرارًا كثيرة.

و"بيان" هو: "بيان بن بشر الأحمسي" ، ثقة ، مضى برقم 6501.

وقد مضى تخريج الخبر في الذي قبله ، وسيأتي من هذه الطريق أيضًا برقم: 12875.

وهو إسناد صحيح.

(11/149)

12875- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا بيان، عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، عَمَّهم الله بعقابه.

12876 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال ، حدثنا قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. (1)

12877- حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا سعيد بن سالم قال ، حدثنا منصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن قيس بن أبي حازم قال : صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدَّ منها:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر،

__________

(1) الأثر: 12876 -"الحارث" هو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة" ، مضى مرارًا ، آخرها رقم: 10553 ، وترجمته في رقم: 10295.

و"عبد العزيز" ، هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي" ، مضت ترجمته برقم: 10295 ، قال ابن معين: "كذاب خبيث ، يضع الأحاديث".

و"عيسى بن المسيب البجلي" ، قاضي الكوفة. وكان شابًا ولاه خالد بن عبد الله القسري. ضعيف متكلم فيه ، حتى قال ابن حبان: "كان قاضي خراسان ، يقلب الأخبار ، ولا يفهم ، ويخطئ ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/288 ، وميزان الاعتدال 2: 317 ، وتعجيل المنفعة: 328 ، ولسان الميزان 4: 405.

فهذا إسناد هالك ، مع روايته من طرق صحاح عن قيس ، عن أبي بكر.

(11/150)

أو ليعمنكم الله منه بعقاب. (1)

12878- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا سعيد بن زيد قال ، حدثنا مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ :"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب. (2)

* * *

وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.

__________

(1) الأثر: 12877 -"أسد بن موسى المرداني" ، "أسد السنة" ، مضى برقم: 23 ، 2530.

و"سعيد بن سالم القداح" ، متكلم فيه ، وثقه ابن معين ، غير أن ابن حبان قال: "يهم في الأخبار حتى يجيء بها مقلوبة ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.

و"منصور بن دينار التميمي الضبي" ، ضعفوه. مترجم في الكبير 4/ 1/ 347 ، وابن أبي حاتم 4/1/171 ، وميزان الاعتدال 3: 201 ، وتعجيل المنفعة: 412 ، ولسان الميزان 6 : 95.

و"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد" ، ثقة ، من صغار التابعين مضى برقم: 503 ، 504

فهذا خبر ضعيف الإسناد ، مع روايته من طرق صحاح عن قيس ، عن أبي بكر.

(2) الأثر: 12878 -"محمد بن بشار" ، هو"بندار" ، مضى مئات من المرات. وكان في المطبوعة هنا"محمد بن سيار" ، أساء قراءة المخطوطة.

"وإسحق بن إدريس الأسواري البصري" ، منكر الحديث ، تركه الناس ، قال ابن معين: "كذاب ، يضع الحديث". وقال ابن حبان: "كان يسرق الحديث". مترجم في الكبير 1/1/382 ، وابن أبي حاتم 1/1/213 ، وميزان الاعتدال 1: 86 ، ولسان الميزان 1: 352.

و"سعيد بن زيد بن درهم الجهضمي" ، ثقة ، متكلم فيه ، حتى ضعفوا حديثه. مضى برقم: 11801.

و"مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني" ، قال أحمد: "يرفع حديثًا لا يرفعه الناس" ، وهو ثقة ، متكلم فيه. ومضى برقم: 1614 ، 2987 ، 2988 ، 11156.

وهذا أيضًا إسناد ضعيف.

(11/151)

* ذكر من قال ذلك:

12879 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب.

12880- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، قال: أنزلت في أهل الكتاب.

* * *

وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق.

* ذكر من قال ذلك:

12881 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم" ، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم، وفعلت وفعلت، وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل!

فقال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم".

* * *

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها، وهو:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه ="لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، (1) وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم

__________

(1) في المطبوعة: "إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله" ، وهو لا معنى له ، أساء قراءة ما في المخطوطة ، لسوء كتابتها.

(11/152)

الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك، لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه.

وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله:"إذا اهتديتم" ، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك:"إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر"، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

القول في تأويل قوله : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن

(11/153)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)

سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم، وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم، (1) وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر، فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، (2) ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.

* * *

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به:"يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم" ، يقول: ليشهد بينكم ="إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية" ، يقول: وقت الوصية="اثنان ذوا عدل منكم"، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، (3) كما:-

12882 - حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [سورة الطلاق: 2]، قال: ذَوَي عقل. (4)

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ذوا عدل منكم" .

فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم.

__________

(1) انظر تفسير"المرجع" فيما سلف 6: 464/10: 391 ، تعليق: 2.

(2) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ).

(3) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.

(4) الأثر: 12882 -"عبيد الله بن يوسف الجبيري" ، "أبو حفص البصري" ، شيخ الطبري ، ثقة. روي له ابن ماجه. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة: "عبد الله بن يوسف" ، وهو خطأ. ومضى في رقم: 109 ، ولم يترجم هناك.

وهذا الخبر في تفسير الآية الثانية من"سورة الطلاق" ، ولم يذكره أبو جعفر هناك في تفسير الآية. فهذا من ضروب اختصاره تفسيره.

(11/154)

* ذكر من قال ذلك:

12883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال : شاهدان"ذوا عدل منكم"، من المسلمين.

12884 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم" ، من المسلمين.

12885- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: اثنان من أهل دينكم.

12886 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : سألته، عن قول الله تعالى ذكره:"اثنان ذوا عدل منكم" ، قال: من الملة.

12887- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله = إلا أنه قال فيه: من أهل الملة.

12888- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية:"اثنان ذوا عدل منكم" ، قال: من أهل الملة.

12889- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثله.

(11/155)

12890- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة، فذكر مثله.

12891 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي، عن حماد، عن ابن أبي نجيح = وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد، مثله.

12892 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذوا عدل منكم" ، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.

12893 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"ذوا عدل منكم" ، قال: من المسلمين.

12894- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول:"اثنان ذوا عدل منكم" ، أي: من أهل الإسلام.

* * *

وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.

* * *

واختلفوا في صفة"الاثنين" اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي، وما هما؟

فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي.

* * *

وقال آخرون: هما وصيان.

* * *

وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه:"شهادة بينكم" ، ليشهد شاهدان

(11/156)

ذوا عدل منكم على وصيتكم.

* * *

وتأويل الذين قالوا:"هما وصيان لا شاهدان" قولَه:"شهادة بينكم"، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ، من قولك:"شهدت وصية فلان"، بمعنى حضرته. (1)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"اثنان ذوا عدل منكم" ، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم، (2) كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم.

* * *

وأولى المعنيين بقوله:"شهادة بينكم" اليمين، لا"الشهادة" التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. (3) لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزًا صرفُ"الشهادة" في هذا الموضع، إلى"الشهادة" التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.

__________

(1) انظر تفسير"شهد" فيما سلف من فهارس اللغة ، واختلاف معانيها.

(2) في المطبوعة: "من ذكرهم" ، وما في المخطوطة صواب محض.

(3) كان صدر هذه العبارة في المخطوطة: "شهادة بينكم ، لأن الشهادة . . ." ، أسقط لفظ"اليمين" ، وجعل"لا الشهادة" ، "لأن الشهادة" ، وهو فاسد ، والذي في المطبوعة هو الصواب المحض إن شاء الله ، وهو مطابق لما رواه القرطبي في تفسيره 6: 348 ، عن أبي جعفر الطبري.

(11/157)

وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل = وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله (1) "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" = أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن"الشهادة" فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه = وفسادِ ما خالفه.

* * *

فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟

فإن قلتَ:"لا"، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما" ، هما المدعيين.

وإن قلت:"بلى"، قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين = (2)

والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ، فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه. (3)

__________

(1) في المطبوعة هنا"في اليمين بقوله" غير ما في المخطوطة ، وأفسد الكلام. والسياق"وفي حكم الآية . . . باليمين . . . أوضح الدليل . . .".

(2) قوله: "والرجل يعترف" ، معطوف على قوله: "في حكم الرجل . . . .". وكان في المطبوعة هنا"والرجل يعترف . . . فيزعم المعترفة" ، وهو خطأ ، وصوابه ما أثبت كما في المخطوطة.

(3) في المطبوعة: " . . . على الجانبين فيما جنيا فيه" ، وهو لا معنى له هنا. وفي المخطوطة: "على الجانبين فيما صاهما فيه" ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(11/158)

قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه:"شهادة بينكم"، وقولَه:"اثنان ذوا عدل منكم" .

فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله:"شهادة بينكم" ، شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت"الشهادة"، وأقيم"الاثنان" مقامها، فارتفعا بما كانت"الشهادة" به مرتفعة لو جعلت في الكلام. (1) قال: وذلك = في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف = نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف: 82] ، وإنما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت"القرية" بانتصاب"الأهل"، وقامت مقامه، ثم عطف قوله:"أو آخران" على"الاثنين".

* * *

وقال بعض نحويي الكوفة: رفع"الاثنين" ب"الشهادة"، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم.

* * *

وقال آخر منهم: رفعت"الشهادة"، ب"إذا حضر". وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال:"إذا حضر" فجعلها"شهادة" محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لأنه قال تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما يثبت. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"الشهادة" مرفوعة بقوله:"إذا حضر" ، لأن قوله:"إذا حضر"،

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بما كانت الشاهدة به مرتفعة" ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت.

(2) في المطبوعة: "مما ثبت" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/159)

بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، و"الاثنان" مرفوع بالمعنى المتوهَّم، وهو: أن يشهد اثنان = فاكتفي من قيل:"أن يشهد"، بما قد جرى من ذكر"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم".

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن"الشهادة" مصدر في هذا الموضع، و"الاثنان" اسم، والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. (1) فالأمر وإن كان كذلك، فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.

* * *

القول في تأويل قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين.

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أو آخران من غيركم" .

فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه.

* ذكر من قال ذلك:

12859 - حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا (2) حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم" ، من أهل الكتاب.

__________

(1) "الأفعال": المصادر. وانظر فهارس المصطلحات فيما سلف.

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يونس بن معاذ" ، وهو خطأ محض. و"بشر بن معاذ" عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة" إسناد دائر في أكثر صفحات هذا التفسير.

(11/160)

12896- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم" ، من أهل الكتاب.

12897- حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (1)

12898 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، مثله.

12899- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، أنهما قالا في قوله:"أو آخران من غيركم" ، قالا من غير أهل ملتكم.

12900- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة قال ، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول، مثل ذلك.

12901 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز قال : من غير أهل ملتكم.

12902 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.

12903 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين.

12904 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله:"أو آخران من غيركم" ، قالا

__________

(1) الأثر: 12897 -"أبو حفص الجبيري" ، "عبيد الله بن يوسف" ، مضى قريبًا رقم: 12882.

(11/161)

من غير أهل ملتكم. (1)

12905- حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد:"أو آخران من غيركم"، قال: من أهل الكتاب.

12906- حدثنا عمرو قال ، حدثنا محمد بن سواء قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (2)

12907- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.

12908 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.

12909 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. (3) فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرَيْن. (4)

__________

(1) الأثر: 12904 -"أبو قتيبة" هو"سلم بن قتيبة الشعيري الفريابي". مضى برقم: 1899 ، 1924 ، 6395 ، 9714. وكان في المطبوعة: "قتيبة" ، غير كنية ، والصواب من المخطوطة.

(2) الأثر: 12906 -"عمرو" هو"عمرو بن علي الفلاس" ، مضى مرارًا.

و"محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري". صدوق ، ثقة ، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.

وكان في المطبوعة: "محمد بن سوار" وهو خطأ ، وفي المخطوطة: "محمد بن سوا" ، وأساء الناشر قراءته.

(3) في المطبوعة: "فشهادتها" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وسيأتي كذلك في رقم: 12974.

(4) الأثر: 12909 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني المثنى". والصواب ما أثبته ، وسيأتي هذا الخبر في موضعين بهذا الإسناد على الصواب ، وذلك رقم: 12943 ، 12974 ، ولذلك رددته إلى الصواب.

(11/162)

12910 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر.

12911- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية. (1)

12912 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح، نحوه.

12913 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب:"لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا".

12914 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : سألته عن قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير الملة.

12915- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله.

12916- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة، عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.

12917- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن

__________

(1) في المطبوعة: "اليهود والنصارى" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/163)

سيرين، عن عبيدة قال : من غير أهل الصلاة.

12918- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : من غير أهل دينكم.

12919- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : من غير أهل الملة.

12920- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا أبو حرّة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل ملتكم.

12921- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال ، سألت سعيد بن جبير عن [ قول الله:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل ملتكم] . (1)

12922 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

12923- حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال : من غير أهل ملتكم.

12924 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام.

12925 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، قال أبو إسحاق:"أو آخران من غيركم" ، قال: من اليهود والنصارى = قال

__________

(1) الأثر: 12921 - انتهى هذا الأثر في المخطوطة عند قوله: " . . . سعيد بن جبير عن" ووضع الناسخ في المخطوطة حرف (ط) بالأحمر في الهامش ، دلالة على الخطأ والشك. أما المطبوعة ، فزادت ما وضعته بين القوسين ، وهو صواب في المعنى إن شاء الله.

(11/164)

قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا في سفر.

12926 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. (1) قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدِما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. (2)

12927 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا.

12928 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم قال ، حدثنا عوف، عن محمد: أنه كان يقول في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.

12929 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد:"أو آحران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام.

12930- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد قال : من غير أهل الإسلام.

__________

(1) "دقوقا" و"دقوقاء" ، مقصورًا وممدودًا؛ مدينة بين إربل وبغداد معروفة ، لها ذكر في الأخبار والفتوح ، كان بها وقعة للخوارج ، وكثر ذكرها في بعض أشعار الخوارج.

وكان في المطبوعة: " . . . بدقوقا ، ولم يجد أحدًا من المسلمين" ، حذف ما أثبته من المخطوطة.

وأساء. وظاهر من الخبر أن الشعبي قال هذا ، وهو يومئذ بدقوقا. وهو أيضًا ثابت في سنن أبي داود.

(2) الأثر: 12926 - رواه أبو داود في سننه 3: 417 رقم: 3605 .

(11/165)

12931 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية:"شهادة بينكم" الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها. (1)

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم.

* ذكر من قال ذلك:

12932 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. (2)

12933 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال : مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. (3)

12934- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان الحسن يقول:"اثنان ذوا عدل منكم" ، أي: من عشيرته ="أو آخران من غيركم" ، قال: من غير عشيرته.

__________

(1) الأثر: 12931 -"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني" ، "أبو حفص" المصري. مضى برقم: 12177. وكان في المطبوعة: "عبد الله بن عباس" ، وهو خطأ ، وهو على الصواب في المخطوطة.

(2) الأثر: 12932 -"عثمان بن الهيثم بن الجهم بن عيسى العصري العبدي" ، وهو"الأشج العصري" ثقة. علق عنه البخاري. يروي عن عوف الأعرابي ، مترجم في التهذيب.

(3) الأثر: 12933 -"صالح بن أبي الأخضر اليمامي" ، خادم الزهري ، مضى برقم: 9312.

(11/166)

12935 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل حيِّكم.

12936- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير حيكم.

12937- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا ثابت بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل حيه = يعني: من المسلمين.

12938- حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك، كلهم من المسلمين.

12939- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قوله:"أو آخران من غيركم" ، قال: مسلمين من غير حيكم.

12940 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" ، إلى قوله:"والله لا يهدي القوم الفاسقين" ، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما، أتراهما من [غير] أهل المرء الموصي، (1) أم هما من غير

__________

(1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها. وفي المخطوطة كما كانت في المطبوعة ، إلا أن الناسخ وضع في الهامش علامة الشك ، وهي هكذا (1) ، فأثبت الصواب إن شاء الله.

(11/167)

المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا، فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين، فيقسمان بالله:"إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [استحقا إثمًا في شيء من ذلك، فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك ] ، (1) قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة، فيقسمان بالله لشهادتنا [ أحق من شهادتكما] ، (2) على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به ="وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين" ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" ، الآية.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند

__________

(1) هذه الجملة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، ووضع في المطبوعة مكانها: "فإن عثر" ، واقتصر على ذلك ، واستظهرت الجملة من سياق أبي جعفر.

(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من الآية والسياق.

(11/168)

الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم = أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.

فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه. (1)

وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى:"ذوا عدل منكم" ، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه.

وإذ صح ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله:"أو آخران من غيركم" ، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [غير] أهل الإسلام. (2)

* * *

القول في تأويل قوله : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "صرف مغلق كلام الله" ، وفي المخطوطة: "معلق" ، وصواب قراءتها"معنى"

(2) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، وإلا فسد الكلام.

(11/169)

وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر:"الضارب في الأرض". (1)

="فأصابتكم مصيبة الموت" ، يقول: فنزل بكم الموت. (2)

* * *

ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم = وإنما فعل ذلك من فعله، لأنه وجَّه معنى"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم" ، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم، أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك:

12941 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"ذوا عدل منكم" ، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.

12942 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: اثنان من أهل دينكم ="أو آخران من غيركم" ، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم.

12943 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"شهادة بينكم" إلى قوله:"أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة.

__________

(1) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593/7: 332/9: 123.

(2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف 8: 514 ، 538 ، 555/10: 393 ، 404

(11/170)

12944 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" ، قال: هذا في الحضر="أو آخران من غيركم" ، في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، (1) فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما.

12945 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر، فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب.

12946 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم" ، فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين.

* * *

ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد

__________

(1) في المطبوعة: "هذا الرجل" ، زاد"في" ، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي على الصواب في رقم: 12954.

(11/171)

يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. (1) وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.

* * *

القول في تأويل قوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما = أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت، فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه، (2) فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما = يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو:"فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال"، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة ="فيقسمان بالله إن ارتبتم" ، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها = و"الارتياب"، هو الاتهام (3) ="لا نشتري به ثمنًا" ،

__________

(1) في المطبوعة: "وقد يأمن الرجل على ماله" ، وفي المخطوطة: "سمى الرجل" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت."أمن الرجل على كذا ، وائتمنه ، واتمنه" (الأخيرة ، مشددة التاء). وانظر ما سلف 5: 298 ، تعليق: 4.

(2) في المطبوعة في المواضع كلها"ائتمن" مكان"اتمن" ، وانظر التعليق السالف.

(3) انظر تفسير"الارتياب" فيما سلف 6: 78 ، وتفسير"الريب" فيما سلف 8: 592 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.

(11/172)

يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، (1) أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم. (2)

* * *

و"الهاء" في قوله:"به"، من ذكر"الله" ، والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فعُرِف معنى الكلام، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. (3)

="ولو كان ذا قربى" ، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. (4)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.

* ذكر من قال ذلك:

12947- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا.

* * *

وقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة" ، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام:

__________

(1) انظر تفسير"الاشتراء" و"الثمن" فيما سلف من فهارس اللغة (شرى) و (ثمن).

(2) في المطبوعة: "أوصى إلينا وإليهم وصيهم" ، غير ما في المخطوطة مع وضوحه!!

(3) في المطبوعة: "فيعرف من معنى الكلام ، واكتفى به . . ." ، وفي المخطوطة: "فيعرف معنى الكلام" ، والصواب ما أثبت ، بجعل"فيعرف""فعرف" ، وحذف"من" ، وحذف الواو من"واكتفى".

(4) انظر تفسير"ذو القربى" فيما سلف 2: 292/3: 344/8: 334 .

(11/173)

أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى.

* * *

واختلفوا في"الصلاة" التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال:"تحبسونهما من بعد الصلاة" .

فقال بعضهم: هي صلاة العصر.

* ذكر من قال ذلك:

12948 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. (1)

12949 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر.

12950 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.

12951 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة

__________

(1) الأثر: 12948 - انظر الأثر السالف رقم: 12926 ، والتعليق عليه. والأثر التالي رقم: 12953.

(11/174)

قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى"فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان.

12952 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا.

12953- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن القطان قال ، حدثنا زكريا قال ، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا، وأن هذه الوصية. فأجازها. (1)

* * *

وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.

* ذكر من قال ذلك:

12954 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم" ، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال : هذا في الحضر="أو آخران من غيركم" في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، هذا، الرجل

__________

(1) الأثر: 12953 - انظر التعليق على رقم: 12948.

(11/175)

يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم" . قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، (1) ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له:"إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال:"تحبسونهما من بعد صلاة العصر". لأن الله تعالى عرَّف"الصلاة" في هذا الموضع بإدخال"الألف واللام" فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت"الصلاة" في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم

__________

(1) "العلج" (بكسر العين وسكون اللام): الرجل من كفار العجم.

(11/176)

صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات (1) = كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة"، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس.

* * *

وكان ابن زيد يقول في قوله:"لا نشتري به ثمنًا" ، ما:-

12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا نشتري به ثمنًا" ، قال: نأخذ به رشوة.

* * *

القول في تأويل قوله : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) }

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار:( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة"الشهادة" إلى"الله" ، وخفض اسم الله تعالى = يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.

* * *

وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:-

12956 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر: أنه كان يقرأ:( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) = بقطع"الألف"، وخفض اسم الله = هكذا حدثنا به ابن وكيع.

* * *

وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا،

__________

(1) انظر خبر العجلانيين في السنن الكبرى للبيهقي 7: 398 ، وما بعدها.

(11/177)

ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.

* * *

وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما:-

12957- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي: أنه قرأ:( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) = (1) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن"شهادة" ويخفض"الله" على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع"الألف" على الاستفهام. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. (3)

* * *

وقرأها بعضهم:( ولا نكتم شهادة الله ) ، بتنوين"الشهادة"، ونصب اسم"الله" بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ:( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة"الشهادة" إلى اسم"الله" ، وخفض اسم"الله" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "شهادة الله" ، هو خطأ ، صوابه في المخطوطة. وقراءة الشعبي أو قراءاته التي رويت عنه - مذكورة في تفسير أبي حيان 4: 44 ، والمحتسب لابن جني ، فراجعها هناك.

(2) الأثر: 12957 -"أحمد بن يوسف التغلبي الأحول" ، مضى برقم: 5919 ، 5954 ، 7664 ، وكان في المطبوعة هنا"الثعلبي" ، وهو خطأ بيناه هناك.

و"عباد بن عباد الرملي الأرسوفي" ، "أبو عتبة الخواص". روى عن ابن عون. مترجم في التهذيب.

(3) في المطبوعة: "وخفض إنا لقراءة الشعبي" ، وهو خلط لا معنى له ، صوابه من المخطوطة.

(11/178)

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (1)

12958 - حدثني بذلك يونس قال ، أخبرنا ابن زيد، عنه.

القول في تأويل قوله : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن عُثِر" ، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. (2)

وأصل"العثر"، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم:"عثرت إصبع فلان بكذا"، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس:

بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا (3)

__________

(1) في المطبوعة: "وإن كان صاحبها بعيدًا" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأنا في شك منه على كل حال ، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. ولم أجد مقالة ابن زيد فيما بين يدي من الكتب.

(2) في المطبوعة: "فيهما" ، والصواب"منهما".

(3) ديوانه: 83 ، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي ، وقد مضى خبرها 2: 94 ، تعليق: 1 ، ومضى منها أبيات في 1: 106/2: 540 ، وقيل البيت في ذكر أرض مخوفة الليل ، وهي"البلدة" المذكورة في البيت التالي: وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الجَوًّابُ دُلْجَتَهَا ... حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا

لاَ يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤَنِّسُهُ ... بِاللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُومِ والضُّوَعَا

كَلَّفْتُ مَجْهُولَها نَفْسِي، وَشَايَعَنِي ... هَمِّي عَلَيْهَا، إذَا مَا آلُهَا لَمَعَا

"الدلجة": سير الليل. و"الشيع" الأصحاب. و"النئيم": صوت البوم ، أو الصوت الضعيف من صوته. و"الضوع" ، طائر من طيور الليل ، إذا أحس بالصباح صدح ، وقيل هو: "الكروان". و"الآل" السراب ، و"اللوث": القوة ، يصف ناقته أنها ذات لحم وشحم ، قوية على السير. وقوله: "بذات لوث" ، متعلق بقوله: "كلفت" و"عفرناة" (بفتح العين والفاء) صفة للناقة بأنها قوية كأنها من نشاطها مجنونة. و"التعس"؛ الانحطاط والعثور.

وقوله: "ولعًا" ، كلمة تقال للعاثر ، يدعى له بأن ينتعش من عثرته ، ومعناها الارتفاع ، "لعا لفلان" أي أقامه الله من عثرته ، لما وصف الأعشي ناقته بالقوة والنشاط ، أنكر أن يكون لها عثرة في سرعتها ، فإذا عثرت ، كان الدعاء عليها بأن يكبها الله لمنخريها ، أولى به من أن يدعو بإقالة عثرتها.

(11/179)

يعني بقوله:"عثرت"، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. (1) ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم:(عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ)، بمعنى: وقعت. (2)

* * *

وأما قوله:"على أنهما استحقا إثمًا" ، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية = بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله ="على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما (3) ="فآخران يقومان مقامهما" ، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.

__________

(1) في المطبوعة: "ميسم خفها حجر أو غيره" ، والصواب ما أثبت. و"المنسم" (بفتح فسكون فكسر): طرف خف البعير ، والنعامة والفيل. و"منسما البعير" ظفراه اللذان في يديه ، وهما له كالظفر للإنسان.

(2) هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 181 ، الأمثال للميداني 1: 395 ، والأمثال لأبي هلال العسكري: 142. قوله"بأخرة" (بفتح الألف والخاء والراء) أي: أخيرًا. تقول: "ما عرفته إلا بأخرة" ، أي: أخيرًا."ونجد" ، هي الأرض المعروفة."قردة". وجمعها"قرد" (كله بفتحات) ، هو: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد ، وهو نفاية الصوف. وأصله أن المرأة تترك الغزل وهي تجد ما تغزل من قطن أو كتان ، حتى إذا فاتها ، تتبعت القرد (نفاية الصوف) في القمامات ، ملتقطة لتغزله. ويضرب مثلا في التفريط مع الإمكان ، ثم الطلب مع الفوت. قال أبو هلال: "وهذا مثل قول العامة: نعوذ بالله من الكسلان إذا نشط". وروى هذا المثل صاحب لسان العرب في (قرد) ، ونصه"عكرت على الغزل . . ." ، وفسره"عكرت ، أي: عطفت". وهو بهذه الرواية لا شاهد فيه.

(3) قوله"فأثما . . . بربهما" ، انظر ما قلت في"أثم بربه" فيما سلف 4: 530 تعليق: 3 ، / ثم 6: 92 ، تعليق: 2 ، وبيانه هناك.

(11/180)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

12959 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا.

12960 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.

12961 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو آخران من غيركم" ، من غير المسلمين="تحبسونهما من بعد الصلاة"، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد". فذلك قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد"، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.

19262 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.

* * *

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين

(11/181)

بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، (1) بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا.

فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. (2) وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله.

* ذكر من قال ذلك:

12963 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"ذوا عدل منكم" ، من أهل الإسلام ="أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض" إلى:"فيقسمان بالله" ، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى ذكره من الفريضة، (3) يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام="فآخران يقومان مقامهما" ، من أولياء الميت، فيحلفان بالله:"ما كان صاحبنا ليوصي بهذا"، أو:"إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما".

12964 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السديّ قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين" ، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير

__________

(1) في المخطوطة: "فمن نقلها" ، والصواب ما في المطبوعة ، أو شبيه بالصواب.

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لغير الذي يجوز" ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(3) "الفريضة" ، يعني المواريث.

(11/182)

مرضيين عندهم، أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما، أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، (1) وحلفوا بالله:"لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا". فذلك قوله:"فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان".

* * *

وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. (2)

* ذكر من قال ذلك:

12965 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" ، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" . أي بدعواهما لأنفسهما ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" ، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه = أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم

__________

(1) في المطبوعة: "فأقبل الأولياء فشهدوا" ، وفي المخطوطة: "فأقبل الأولياء شهدوا" ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(2) في المخطوطة: "إذا ارتابا".

(11/183)

دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك = ولا -إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، (1) ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه.

وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد (2) = من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال:"ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله".

على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى به حين نزلت هذه الآية، بين الذين نزلت فيهم وبسببهم.

* ذكر من قال ذلك:

__________

(1) في المطبوعة: "فلم نجد ذلك كذلك صح . . ." ، وأثبت ما في المخطوطة ، وسياقه"ولا . . . صح بخير عن الرسول" ، وقوله: "إذا لم نجد ذلك كذلك" اعتراض.

(2) السياق: "فالقول بأن الشاهدين . . . أفسد" ، يعني: أفسد من القول السابق.

(11/184)

12966- حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، (1) فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" . (2)

__________

(1) "الجام": إناء من فضة ، وهو عربي صحيح."مخوص بالذهب": عليه صفائح من ذهب على هيئة خوص النخل ، وهو ورقه. و"التخويص": أن يجعل على الشيء صفائح من الذهب ، على قدر عرض خوص النخل.

(2) الأثر: 12966 -"محمد بن أبي القاسم" ، الطويل ، الكوفي. روى عن أبيه ، وعبد الله وعبد الملك ، ابني سعيد بن جبير ، وعن عكرمة. وروى عنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، وأبو أسامة ، وحماد بن أسامة. وثقه ابن معين ، وأبو حاتم. وقال البجيري وقال البخاري": "لا أعرف محمد بن أبي القاسم كما أشتهي ، وكان علي بن عبد الله يستحسن هذا الحديث (يعني حديث تميم الداري) قيل له: رواه غير محمد بن أبي القاسم؟ قال: لا. قال: وروى عنه أبو أسامة ، إلا أنه غير مشهور". وقال الحافظ ابن حجر ، بعد ذكر محمد بن أبي القاسم: "وما له في البخاري ، ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد بن جبير ، غير هذا الحديث الواحد. ورجال الإسناد الإسناد ، ما بين علي بن عبد الله المديني (شيخ البخاري) ، وابن عباس ، كوفيون".

و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" ، الكوفي ، عزيز الحديث ، ثقة. مضى برقم: 12776.

و"تميم الداري" ، هو"تميم بن أوس بن خارجة اللخمي" ، منسوب إلى جده"الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم" ، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سنة تسع وأسلم. وكان نصرانيا ، وهو الذي قال لرسول الله: "ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشأم!" فصنع المنبر. وكان عابدًا.

وأما "عدي بن بداء" (بتشديد الدال) ، فكان نصرانيا ، ذكر أنه أسلم ، ولكن صحح ابن حجر في ترجمته في الإصابة أنه مات نصرانيًّا.

وهذا الحديث ، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5: 307 309) ، وفي التاريخ الكبير 1/1/215 ، وأبو داود في سننه 3: 418 ، ورقم: 3606 ، والبيهقي في السنن الكبرى 10: 165 ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133 ، وأحكام القرآن للجصاص 2: 490 ، والترمذي في سننه (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن غريب ، وهو حديث ابن أبي زائدة".

وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 266 ، نقلا عن الطبري ، ولم يذكر روايته في صحيح البخاري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342 ، فقصر في نسبته إلى البخاري في صحيحه ، ونسبه إليه في التاريخ ، ثم زاد نسبته إلى ابن المنذر ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(11/185)

12967 - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال ، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب، عن ابن عباس، عن تميم الدرايّ في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" ، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء = وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جامُ فضّة يريد به الملك، وهو عُظم تجارته، (1) فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء، [فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألوا عنه] ، (2) فقلنا: ما ترك غيرَ هذا، وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثَّمت من ذلك، (3) فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمئة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، (4) فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

__________

(1) في المخطوطة: "وهي عظم" ، وأثبت ما في المطبوعة ، لمطابقته لما في المراجع الأخرى. وقوله: "عظم تجارته" ، أي: معظمها ، يعني أن الجام كان أنفس ما معه وأغلاه ثمنًا.

(2) هذه الجملة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، وهي ثابتة في المراجع الأخرى ، وأثبتها من نص الناسخ والمنسوخ.

(3) "تأثم من الشيء" ، تحرج منه ، ووجده إثمًا يريد البراءة منه.

(4) قوله: "فوثبوا إليه" ، حذفها ناشر المطبوعة ، وهي ثابتة في المخطوطة ، وفي الناسخ والمنسوخ.

(11/186)

فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"أن ترد أيمان بعد أيمانهم" ، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، (1) فنزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء. (2)

12968 - حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وابن سيرين وغيره = قال، وثنا الحجاجُ، عن ابن جريج، عن عكرمة = دخل حديث بعضهم في بعض:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال : كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم ، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حوَّلا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه، ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ (3) قالا لا! قالوا: فهل تَجَر

__________

(1) في المخطوطة: "حلفا" ، بغير فاء ، وأثبت ما في المطبوعة والمراجع.

(2) الأثر: 12967 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني" ، "أبو مسلم الحراني" ، ثقة مأمون ، مضت ترجمته برقم: 10411 ، وكان في المطبوعة هنا: "الحسن بن أبي شعيب" أسقط"بن أحمد" ، مع ثبوتها في المخطوطة ، وعذره أنه رأى الناسخ كتب"الحسن بن يحيى أحمد قال ابن أبي شعيب" ، وضرب على"يحيى" وعلى"قال" ، فضرب هو أيضا على"بن أحمد" فحذفها! ! وهو تساهل رديء.

و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي" ، ثقة ، مضت ترجمته برقم: 175 ، وقد ورد في إسناد محمد ابن إسحق ، مئات من المرات.

و"أبو النضر" هو"محمد بن السائب الكلبي" ، ضعيف جدًا ، رمي بالكذب. وقد روى الثوري عن الكلبي نفسه أنه قال: "ما حدثت عني ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فهو كذب ، فلا تروه". مضت ترجمته برقم: 72 ، 246 ، 248.

وأما "باذان ، مولى أم هانئ" ، أو "باذام" فهو "أبو صالح" ، ثقة ، مضى برقم: 112 ، 168 وغيرها. وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/144 ، وابن أبي حاتم 1/1/431.

وكان في المطبوعة والمخطوطة ، والناسخ والمنسوخ جميعًا"زاذان ، مولى أم هانئ" ، وهذا شيء لم يقله أحد ، ولذلك غيرته إلى الصواب الذي أجمعوا عليه ، وكأنه خطأ من الناسخ.

وأما "تميم الداري" ، و"عدي بن بداء" فقد سلفا في الأثر السابق.

وأما "بريل بن أبي مريم" ، مولى بني سهم ، أو مولى عمرو بن العاص السهمي ، صاحب هذه التجارة ، فقد ترجم له ابن حجر في الإصابة في"بديل" بالدال ، وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة. وكان بديل مسلمًا من المهاجرين.

يقال في اسمه"بديل بن أبي مريم" ، و"بديل بن أبي مارية" ، ثم اختلف في"بديل" ، فروي بالدال ، وروي"بريل" بالراء ، وروي"بزيل" بالزاي ، وروي"برير" ، وقال ابن الأثير: "والذي ذكره الأئمة في كتبهم: يزيل ، بضم الباء وبالزاي ، ونحن نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى". هكذا قال ووعد ، ثم لم أجد له ذكرًا في كتابه بعد ذلك ، فلا أدري أنسي ابن الأثير ، أم في كتابه خرم أو نقص!!

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5: 308 ، ما لم يذكره في الإصابة ، فقال: "بزيل" بموحدة ، وزاي ، مصغر. وكذا ضبطه ابن ماكولا ، ووقع في رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن تميم نفسه عنه الترمذي والطبري (يعني هذا الخبر): بديل ، بدال ، بدل الزاي. ورأيته في نسخة من تفسير الطبري: بريل ، براء بغير نقطة. ولابن مندة من طريق السدي ، عن الكلبي: بديل بن أبي مارية". ثم قال: "ووهم من قال فيه: بديل بن ورقاء ، فإنه خزاعي ، وهذا سهمي ، وكذا وهم من ضبطه بذيل ، بالذال المعجمة".

وكان في المطبوعة"بديل" ، ولكني أثبت ما في المخطوطة ، وأخشى أن تكون مخطوطتنا هذه ، هي"النسخة الصحيحة من تفسير الطبري" التي ذكرها الحافظ ابن حجر ، أو هي منقولة عن النسخة التي ذكرها ووصفها وصححها.

وهذا الخبر ، رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133 ، والترمذي في سننه في كتاب التفسير؛ بهذا الإسناد نفسه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح. وأبو النضر ، الذي روى عنه محمد بن إسحق هذا الحديث ، هو عندي : محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، وقد تركه أهل العلم بالحديث ، وهو صاحب التفسير. سمعت محمد بن إسمعيل. يقول: محمد بن سائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، ولا نعرف لسالم أبي النضر المديني رواية عن أبي صالح (باذان) مولى أم هانئ. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار ، عن غير هذا الوجه" ، ثم ساق الترمذي الأثر السالف بإسناده.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في المعرفة.

(3) قولهم: "فهل استهلك من متاعه شيئًا" ، أي: أضاعه وافتقده ، وهذا حرف لم تقيده كتب اللغة ، استظهرت معناه من السياق. وقد جاء في حديث عائشة (صحيح مسلم 2: 59 ، وتفسير الطبري رقم: 9640) أن عائشة: "استعارت من أسماء قلادة فهلكت" ، أي: ضاعت ، كما فسرته فيما سلف 8: 404 ، رقم: 2. فقوله: "استهلك" هنا ، من معنى هذا الحرف الذي لم تقيده كتب اللغة ببيان واضح ، وهو"استفعل" ، بمعنى: وجده قد ضاع. وهو من صحيح القياس وجيده ، وهذا شاهده إن شاء الله.

(11/187)

تجارة؟ (1) قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"إنا إذا لمن الآثمين". قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا". قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا، (2) ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب، (3) فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم، ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! (4) فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأخرى:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! (5)

12969- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" ، الآية كلها. قال : هذا شيء [كان] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة، (6) وكانت الأرض كلها كفرًا، (7) فقال الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" ، من المسلمين ="أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر، فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم ="فيقسمان بالله إن ارتبتم" ، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، أنما حلفا على باطل وكذب ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" بالميت ="فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين" ، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما، فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه، (8) فأقسما، ثم ضمن هذان. قال الله تعالى:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، (9) فتبطل أيمانهم ="واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين" ، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له، وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ، وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت:

__________

(1) "تجر يتجر تجرًا وتجارة" (على وزن: نصر ينصر): باع وشرى. وأرادوا به هنا معنى الشراء بالعوض ، فيما أستظهر ، فإنهم قد سألوه قبل عن البيع والابتياع.

(2) في المطبوعة: "فمكثنا ما شاء الله أن نمكث" ، غير الناشر ما في المخطوطة ، وأفسد.

(3) "ظهر" (بالبناء للمجهول) ، أي: عثر معها على إناء.

(4) في المخطوطة: "نفسا" غير منقوطة ، ولو شئت قرأتها: "نفسينا" ، مكان"أنفسنا" ، وهما صواب.

(5) الأثر: 12968 -"أبو سفيان" هو: المعمري ، "محمد بن حميد اليشكري" ، مضى برقم: 1787 ، 8829.

و"الحسين" الراوي عنه ، هو"سنيد بن داود" ، مضى مرارًا.

و"ابن أبي مارية" ، هو"بديل بن أبي مارية" ، وقد بينت ذلك في التعليق على الأثر السالف.

وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(6) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها للسياق ، وكان في المخطوطة: " . . . لم يكن السلام" ، والصواب ما في المطبوعة.

(7) في المطبوعة: "كفر" بالرفع ، وأخشى أن يكون الأصل: "وكانت الأرض كلها دار كفر" ، أو ما أشبه ذلك ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وهو صواب أيضًا.

(8) "القسامة" (بفتح القاف) ، أراد بها هنا: اليمين.

(9) قوله تعالى: "بعد أيمانهم" لم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة ، والصواب إثباتها.

(11/189)

كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم، ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان.

12970- حدثنا الربيع قال ، حدثنا الشافعي قال ، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان = قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك = في قول الله:"اثنان ذوا عدل منكم" ، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين، أحدهما تميمي، والآخر يماني، صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة، فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. (1) فمرض القرشي، فجعل وصيته إلى الداريّين، فمات، وقبض الداريّان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال، فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، (2) وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى آخر الآية. فلما نزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات:"ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنا لا نشتري بأيماننا

__________

(1) "البز": الثياب ، أو ضروب منها ، وبائعها يقال له: "البزاز". و"الرقة" (بكسر الراء وفتح القاف): الفضة ، وأصلها"الورق" (بفتح الواو وكسر الراء) ، ثم حذفت الواو ، وجعلت الهاء في آخرها عوضًا عن الواو.

(2) يقال: "وضع في تجارته يوضع ضعة ، ووضيعة فهو موضوع فيها" ويقال: "أوضع" (كلاهما بالبناء للمجهول) ، ويقال: "وضع في تجارته وضعًا" (مثل: فرح فرحًا): غبن فيها ، وخسر من رأس المال.

(11/191)

ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت، فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا، فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"فإن عثر" ، يقول: فإن اطُّلع ="على أنهما استحقا إثمًا"، يعني الداريين، إن كتما حقًّا ="فآخران"، من أولياء الميت ="يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فيقسمان بالله:"إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ، وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، هذا قول الشاهدين أولياء الميت ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك. (1)

* * *

قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين = وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [أنهما استحقا إثمًا]، في أيمانهما، (2) ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إن القوم ادَّعوا

__________

(1) الأثر: 12970 -"معاذ بن موسى الجعفري" ، "أبو سعيد" ، لم أجد له ترجمة إلا في تعجيل المنفعة: 406 ، لم يزد على أن قال: "معاذ بن موسى ، عن بكير بن معروف.

وعند الشافعي ، رحمه الله تعالى". وكان في المطبوعة: "سعيد بن معاذ بن موسى" وهو خطأ ، مخالف للمخطوطة.

و"بكير بن معروف الأسدي" ، "أبو معاذ النيسابوري ، الدامغاني" صاحب التفسير ، وهو صاحب مقاتل. قال ابن عدي: "ليس بكثير الرواية ، وأرجو أنه لا بأس به ، وليس حديثه بالمنكر جدًا" ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/117 ، وابن أبي حاتم 1/1/406.

وكان في المطبوعة: "بكر" ، وهو خطأ صرف.

وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 164 من طريق إسمعيل بن قتيبة ، عن أبي خالد يزيد بن صالح ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان. ثم رواه (10: 165) من طريق أبي العباس الأصم ، عن الربيع بن سليمان ، عن الشافعي ، ثم أحال لفظه على الذي قبله.

(2) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، استظهرتها من نص الآية.

(11/192)

فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي= وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. (1)

وفيها أيضًا، (2) البيانُ الواضح على أن معنى"الشهادة" التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، [سورة النور:6]. فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل:"أشهد بالله إني لمن الصادقين"، (3) وكذلك معنى قوله:"شهادة بينكم" إنما هو: قسَم بينكم ="إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية" ، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما، أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. (4) وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال :"فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما" . ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما، غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما" ، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما = وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر

__________

(1) في المطبوعة: "مما قلنا من التأويل" ، وفي المخطوطة: "ما قبلنا من التأويل" ، وصواب القراءة ما أثبت.

(2) قوله: "وفيها أيضًا" ، الضمير عائد على قوله في أول الفقرة السالفة: "ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا" ، وهي عطف عليه.

(3) في المطبوعة: "إنه لمن الصادقين" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(4) انظر ما كتبه في"اتمن" فيما سلف ص: 172 ، تعليق: 1 ، 2

(11/193)

الله ذكره تعالى في قوله:"أحق من شهادتهما" = صحَّ أن معنى قوله:"شهادة بينكم" ، بمعنى:"الشهادة" في قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما" ، وأنها بمعنى القسم.

* * *

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"من الذين استحق عليهم الأوليان" .

فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ، بضم"التاء".

* * *

وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ، بفتح"التاء".

* * *

واختلفت أيضًا في قراءة قوله:"الأوليان" .

فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة:(الأَوْلَيَان).

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة:(الأَوَّلِينَ).

* * *

وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ).

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله:"من الذين استحق عليهم" ، قراءة من قرأ بضم"التاء"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله، (1) وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم،

__________

(1) في المطبوعة: "مع مساعدة أهل التأويل" ، وفي المخطوطة: "مع مساعه" غير منقوطة ، وآثرت قراءتها كما كتبتها. و"المشايعة" ، الموافقة والمتابعة.

(11/194)

يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت.

وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل، ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك:

12971 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شهادة بينكم" ، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان ="فإن عثر" وُجد.........، (1) حلف الاثنان الأوليان من الورثة، فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين.

* * *

وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح"التاء"، أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى:"فآخران يقومان مقامهما"، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و"الاستحقاق به عليهما"، دعواهما قِبَلهما = من"الذين استحقَّ" على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. (2) وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح"التاء" = و"الأوليان"، (3) على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها، غير أنا نختار الأخرى،

__________

(1) في المطبوعة: "فإن عثر ، وجد لطخ حلف الاثنان . . ." ، وقوله: "لطخ" هنا من عجائب الكلام ، وفي المخطوطة بعد: "فإن عثر وجد" بياض إلى آخر السطر ، مع علامات بعد الكلام بالحمرة. والظاهر أن النسخة التي نقل عنها ناشر المطبوعة ، كان فيها في هذا الموضع حرف (ط) دلالة على الخطأ ، فكتب مكانها ما كتب. ووضعت أنا مكان البياض في المخطوطة نقطًا ، والظاهر أن سياق الكلام كان: "فإن عثر ، وجد أنها استحقا إثمًا" حلف الاثنان . . ." ، ولكني آثرت ترك البياض كما هو في المخطوطة ، والمعنى ظاهر.

(2) في المطبوعة: "في الأوليان" بزيادة"في" ، أثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.

(3) في المطبوعة ، حذف قوله: "والأوليان" ، وساق الكلام على سياق واحد. وأثبت ما في المخطوطة.

(11/195)

لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين.

12972- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانْ). (1)

12973 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن واصل مولى أبي عُيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان). (2)

* * *

قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله:"الأوليان" عندي،

__________

(1) الأثر: 12972 -"أبو إسحق" ، هو السبيعي.

و"أبو عبد الرحمن" هو"السلمي" القارئ ، "عبد الله بن حبيب" مضى برقم: 82.

و"كريب" هو"كريب بن أبي كريب" ، روى عن علي. وروى عنه أبو إسحق ، مترجم في الكبير4/1/231 ، وابن أبي حاتم 3/2/168 ، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه في لسان الميزان ، وقال: "يروي المقاطيع ، من ثقات ابن حبان".

(2) الأثر: 12973 -"مالك بن إسمعيل بن درهم النهدي" ، "أبو غسان" ، مضى برقم: 2989 ، 4433 ، 4926 ، 8292. وأخشى أن يكون راوي هذا الخبر هو"مؤمل بن إسمعيل العدوي" ، لا"مالك بن إسمعيل" ، ولكن هكذا ثبت في المخطوطة.

و"حماد بن زيد بن درهم الأزدي" ، مضى برقم: 856 ، 1682 ، 5454.

و"واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة" ، ثقة ، روى عن يحيى بن عقيل الخزاعي ، والحسن البصري ، ورجاء بن حيوة ، وأبي الزبير المكي. روى عنه هشام بن حسان من أقرانه ، ومهدي بن ميمون ، وحماد بن زيد ، وغيرهم. مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/172 ، وابن أبي حاتم 4/2/30. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وائل بن أبي عبيدة" ، وهو خطأ لا شك فيه ، بيانه في التاريخ الكبير للبخاري.

و"يحيى بن عقيل الخزاعي البصري" ، روى عن يحيى بن يعمر ، وابن أبي أوفى ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال ابن معين: "ليس به بأس" ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/292 وابن أبي حاتم 4/2/176.

وأما "يحيى بن يعمر القيس الجدلي" ، فهو ثقة جليل ، يروي عن الصحابة والتابعين. كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن ، وهو أول من نقط المصاحف. مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/311 ، وابن أبي حاتم 4/2/196.

(11/196)

فقراءة من قرأ:(الأَوْلَيَانِ) لصحة معناها. (1) وذلك لأن معنى:"فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان":فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ] فيهم الإثم، (2) ثم حذف"الإثم"، وأقيم مقامه"الأوليان"، لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت، (3) كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم، (4) وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. (5) ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله:"شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان" ، ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما قال:"فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا"، فقال:"به"، فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر، والمراد به:"لا نشتري بالقسم بالله"، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر"الأوليين" من ذكر"الإثم" الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته، وذلك قوله:"فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا" .

* * *

وأما الذين قرءوا ذلك(الأَوَّلِينَ)، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن"الذين"، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذْ كان"الذين" جميعًا، (6) وخفضًا،

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بصحة معناها" بالباء ، والصواب ما أثبته.

(2) الذي وضعته بين الأقواس ، هو حق السياق والمعنى ، فإن السياق يقتضي أن يذكر الآية ، ثم يذكر تأويلها ، وهكذا فعلت ، وهو الصواب إن شاء الله.

(3) في المطبوعة: "ائتمنهما" ، وانظر ما كتبته سالفًا ص: 172 ، تعليق 1 ، 2 ، وص: 193 تعليق: 4.

(4) "الفعل" ، هو المصدر ، كما سلف مرارًا ، وانظر فهارس المصطلحات.

(5) انظر ما سلف ص: 160.

(6) في المطبوعة: "جمعا" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/197)

إذ كان"الذين" مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل، غير أنه إنما يقال للشيء"أوّل"، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم، فهم إلى أن يكونوا = إذ كانت أيمانهم آخرًا = أولى أن يكونوا"آخرين"، من أن يكونوا"أوّلين"، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها.

* * *

وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب.

* * *

واختلف أهل العربية في الرافع لقوله:"الأوليان" ، إذا قرئ كذلك.

فكان بعض نحويي البصرة (1) يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من:"آخران" في قوله:"فآخران يقومان مقامهما" . وقال: إنما جاز أن يبدل"الأوليان"، وهو معرفة، من"آخران" وهو نكرة، لأنه حين قال:"يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم" ، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى، فقال:"الأوليان"، فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا = مما يجري على المعنى = كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: (2)

عَلَيَّ يَوْمَ يَمْلِكُ الأُمُورَا... صَوْمُ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا

وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا (3)

__________

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعض نحويي . . ." ، والصواب ما أثبت.

(2) لم أعرف قائله.

(3) "البادن": الضخم السمين المكتنز ، ولم أجدهم قالوا: "البادن" وأرادوا به"البدنة" (بفتح الباء والدال) ، وهي الناقة التي كانوا يسمنونها ثم تهدى إلى البيت ، ثم تنحر عنده. ولعل الراجز استعملها على الصفة ، ومع ذلك فهي عندي غريبة تقيد. و"المقلد" ، الذي وضعت عليه القلائد ، إشعارًا بأنه هدي يساق إلى الكعبة. ذكر الراجز ما نذره إذا ولى هذا الرجل أمور الناس.

(11/198)

قال: فجعله: عليَّ واجب، لأنه في المعنى قد أوجب. (1)

* * *

وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون"الأوليان" بدلا من:"آخران" ، من أجل أنه قد نَسَق"فيقسمان" على"يقومان" في قوله (2) "فآخران يقومان" ، فلم يتمّ الخبر بعد"مِنْ". (3) قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. (4) وقال: غير جائز:"مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد"، و"زيد" بدل من"رجل".

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:"الأوليان" مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله، وهو قوله:(اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما، (5) فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام:"فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة"، فوضع"الأوليان" موضع"الإثم" كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة: 19]، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر

__________

(1) تركت هذه الجملة كما هي في المخطوطة والمطبوعة. وإن كنت أرجح أنه استشهد بالرجز على أنه نصب"صوم شهور" ، وعطف عليه"وبادنًا مقلدًا منحورًا" ، على معنى: قد أوجبت على نفسي صوم شهور ، وبادنًا مقلدًا منحورًا. فإن صح ذلك فيكون صواب هذه العبارة: "فجعله: على واجب = لأنه في المعنى: قد أوجبت".

(2) "نسق" ، أي: عطف.

(3) في المطبوعة: "فلم يتم الخبر عند من قال . . ." ، غير ما في المخطوطة ، وهذا خطأ محض. الصواب ما في المخطوطة ، يريد: بعد"من الذين استحق عليهم الأوليان".

(4) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بغير واو ، والصواب إثباتها كما يدل عليه السياق.

ثم كتب في المطبوعة بعد ذلك"كما قال: غير جائز . . ." ، بزيادة"كما" ، وهي في المخطوطة ، مكتوبة متصلة بالراء ، فآثرت قراءتها"وقال" ، لأنه حق السياق.

(5) في المطبوعة: "وأنهما موضع الخبر" أسقط"وضعا" ، وهي ثابتة في المخطوطة.

(11/199)

= وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ، [سورة البقرة: 93]، وكما قال بعض الهذليين. (1)

يُمَشِّي بَيْنَنَا حَانُوتُ خَمْرٍ... مِنَ الخُرْسِ الصَّرَاصِرَةِ الْقِطَاطِ (2)

وهو يعني: صاحب حانوت خمر، فأقام"الحانوت" مقامه، لأنه معلوم أن"الحانوت"، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف"الصاحب"، واجتزأ بذكر"الحانوت" منه. فكذلك قوله:"من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان" ، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما، فحذفت"الخيانة" وأقيم"المختانان"، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر.

* * *

وأما قوله:"عليهم" في هذا الموضع، فإن معناها: فيهم، كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، [سورة البقرة: 102]، يعني: في

__________

(1) هو المنخل الهذلي

(2) ديوان الهذليين 2: 21 ، والمعاني الكبير: 472. واللسان (حنت) (قطط) (خرص) ، من قصيدة له طويلة ، يذكر مواضي أيامه ، ثم يقول بعد البيت في صفة الخمر: رَكُودٍ في الإنَاءِ لَهَا حُمَيَّا ... تَلَذُّ بأَخْذِها الأَيْدِي السَّوَاطِي

مُشَعْشَعَةٍ كَعَيْنِ الدَّيكِ، لَيْسَتَْتْ، ... إذَا ذِيقَتْ، مِنَ الخَلِّ الخِمَاطِ

وقوله: "الخرس" ، جمع"أخرس" ، وهو الذي ذهب كلامه عيًا أو خلقة. ويعني به: خدمًا من العجم لا يفصحون ، فلذلك سماهم"خرسًا". وروى بعضهم"من الخرص" ، وهو خطأ ، فيه نبّه عليه الأزهري رحمه الله.

و"الصراصرة" نبط الشأم. وعندي أنهم سموا بذلك ، لشيء كان في أصواتهم وهم يتكلمون ، في أصواتهم صياح وارتفاع وامتداد ، كأنه صرصة البازي. و"القطاط" جمع"قطط" (بفتحتين) و"قط" (بفتح وتشديد): وهو الرجل الشديد جعودة الرأس. وقوله: "ركود في الإناء" ، يعني أنها صافية ساكنة. و"حميا الخمر" ، سورتها وأخذها بالبدن. و"الأيدي السواطي" ، التي تسطو إليها ، أي: تتناولها معجلة شديدة الرغبة فيها. و"مشعشعة": قد أرقها مزجها بالماء. و"الخماط" من الخمر: التي أصابتها ريح ، فلم تستحكم ولم تبلغ الحموضة.

(11/200)

ملك سليمان، وكما قال: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: 71]. ف"في" توضع موضع"على"، و"على" في موضع"في"، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، (1)

ومنه قول الشاعر: (2)

مَتَى مَا تُنِْكرُوها تَعْرِفُوهَا... عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ (3)

وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان"، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين

* ذكر من قال ذلك:

12974 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على

__________

(1) انظر ما سلف 1: 299/2 : 411 ، 412 ، وغيرها من المواضع في باب تعاقب الحروف.

(2) هو أبو المثلم الهذلي.

(3) ديوان الهذليين 2: 224 ، مشكل القرآن: 295 ، 430 ، والمعاني الكبير: 969 ، 970 ، والاقتضاب: 451 ، والجواليقي: 373 ، واللسان (نفث) وغيرها. من أبيات في ملاحاة بينه وبين صخر الغي ، من جراد دم كان أبو المثلم يطلب عقله ، أي ديته ، وقبل البيت: لَحَقٌ بَنِي شُغَارَةَ أن يَقُولوا ... لِصَخْرِ الغَيِّ: مَاذَا تَسْتَبِيثُ?

أي: ماذا تستثير؟ وإنما أراد الحرب ، فقال له بعد: "متى ما تنكروها . . ." ، أي: إذا جاءت الحرب أنكرتموها ، ولكن ما تكادون تنكرونها ، حتى تروا الدم يقطر من نواحيها ، يعني كتائب المحاربين. و"العلق": الدم ، و"الأقطار": النواحي. و"النفيث" ، الدم الذي تنفثه القروح والجروح.

وقد خلط البطليوسي في شرح هذا الشعر ، فزعم أن الضمير في قوله: "متى ما تنكروها" ، عائد"إلى المقالة" ، يعني هذا الهجاء بينهما ، وأتى في ذلك بكلام لا خير فيه ، أراد به الإغراب كعادته.

(11/201)

وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. (1)

12975 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر" ، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين.

12976 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال : كان ابن عباس يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، كيف يكون"الأوليان"، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟

12977- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال : كان يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما؟

قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة، من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين، أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين.

وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة، دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل = الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره:"فآخران يقومان مقامهما" = أولى به.

__________

(1) الأثر: 12974 - مضى هذا الخبر برقم: 12909 ، 12943 ، وانظر التعليق على رقم: 12909.

(11/202)

وأما قوله"الأوليان" ، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. (1) وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى = ثم حذف"منهما"، (2) والعرب تفعل ذلك فتقول:"فلان أفضل"، وهي تريد:"أفضل منك"، وذلك إذا وضع"أفعل" موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه"الألف واللام"، فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى، فقالوا:"هذا الأفضل، وهذا الأشرف"، يريدون: هو الأشرف منك.

* * *

وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.

12978 - حدثني يونس، عن ابن وهب، عنه.

* * *

القول في تأويل قوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: ="لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما" ، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة = في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها="وما اعتدينا"، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا.

* * *

وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، المجاوزة في الشيء حدَّه. (3)

* * *

__________

(1) السياق: "الأولى بالميت . . . فالأولى".

(2) في المطبوعة: "ثم حذف فيهما" ، وهو خطأ صرف ، وهي في المخطوطة غير منقوطة.

(3) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).

(11/203)

ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

"إنا إذًا لمن الظالمين" يقول:"إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين ="لمن الظالمين" ، يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه، (1) ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. (2)

* * *

القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك" ، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء = إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة، واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت ="أدنى" لهم"أن يأتوا بالشهادة على وجهها" ، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم، (3) ولا يكتموا، ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا (4) ="أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم" ، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله، أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب، فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "لمن عدا ومن يأخذ" ، غير ما في المخطوطة ، وأساء أقبح الإساءة.

(2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(3) انظر تفسير"أدنى" فيما سلف 6: 78/7: 548.

(4) انظر تفسير"على وجهه" فيما سلف 2: 511.

(11/204)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم، نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم.

12979 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن عُثر على أنهما استحقّا إثمًا" ، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا ="فآخران يقومان مقامهما" ، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام، وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين.

12980 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة" الآية، يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العَقِب. (1)

12981 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم" ، قال: فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمانُ هؤلاء.

* * *

وقال آخرون: [معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، على أنهما استحقا إثمًا، فآخران يقومان مقامهما]. (2)

* ذكر من قال ذلك:

__________

(1) في المطبوعة: "وأن يخافوا العقاب" ، والصواب ما في المخطوطة و"العقب" (بفتح فكسر): العاقبة ، وذلك عاقبة أمرهما في وبطلان أيمانهم ، وعاقبة رد الفضيحة على أنفسهم.

(2) هذه الجملة كلها مضطربة المعنى ، ولا تطابق الأثر التالي ، وظني أن في الكلام سقطًا ، أسقط الناسخ سطرًا أو نحوه ، وتركتها على حالها في المخطوطة والمطبوعة ، ولكني وضعتها بين قوسين ، شكًّا مني في صحتها.

(11/205)

12982 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله:"لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته". فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا:"إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما". فإن قال لهما ذلك، فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها

القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله، وأن تخونوا من اتَّمنكم (1) ="واسمعوا"، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به، وانتهوا إليه ="والله لا يهدي القوم الفاسقين"، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه.

* * *

وكان ابن زيد يقول:"الفاسق"، في هذا الموضع، هو الكاذب. (2)

12983 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد:"والله لا يهدي القومَ الفاسقين" ، الكاذبين، يحلفون على الكذب.

* * *

__________

(1) انظر ما كتبته في"اتمن" فيما سلف ص: 197 ، تعليق: 3.

(2) انظر تفسير"الفاسق" بهذا المعنى من تفسير ابن زيد ، فيما سلف رقم: 12103 في الجزء 10: 376. ثم انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).

(11/206)

وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ، إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ، فذلك على معاني"الفسق" كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له.

* * *

ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخ، أو هو مُحكَم ثابت؟

فقال بعضهم: هو منسوخ

* ذكر من قال ذلك:

12984 - حدثنا أبو كريب قال ، ثنا ابن إدريس، عن رجل قد سماه، عن حماد، عن إبراهيم قال : هي منسوخة.

12985 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هي منسوخة = يعني هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" ، الآية.

* * *

وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ (1) وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام، من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أنّ من ادُّعِي عليه

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أن حكم الآية منسوخ" ، وهو خطأ فاحش ، فإن أبا جعفر يقول بعد ذلك أنها غير منسوخة ، كما سترى ، فالصواب ما أثبته.

(11/207)

دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه = وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [عليه] سلعةً له، (1) فادَّعَى أنها له دون الذي في يده، فقال الذي هي في يده:"بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي"، أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه.

فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم، إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم، فحينئذ ألزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورثَة الميِّت اليمين، لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء، فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، (2) أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما"، الآية.

__________

(1) في المطبوعة: "وأنه إن اعترف وفي يدي المدعي سلعة" ، غير ما في المخطوطة ، وفيها: "وأنه إن اعترف في يد المدعي سلعة" ، فأثبت ذلك ، وهو الصواب ، وزدت"عليه" بين القوسين ، لأنه حق المعنى.

وقوله: "اعترف" بمعنى: عرفها وميزها ، كما سيأتي في سائر الفقرة.

(2) في المطبوعة: " . . . تصحح دعواهما ، وورثة الميت رب السلعة" ، حذف قوله"وصارت" ، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها ، وهي في المخطوطة ثابتة ، إلا أن الناسخ أساء كتابتها.

(11/208)

فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة، لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحته عقل، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ.== 

تفسير سورة المائدة من الاية 104 الي 108.تفسير سورة المائدة من الاية 109 الي113.  

تفسير سورة المائدة من الاية 109 الي113.

 يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

======

المائدة - تفسير ابن كثير

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (109) }

وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، كما قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6] وقال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر:92، 93] .

وقول الرسل: { لا عِلْمَ لَنَا } قال مجاهد، والحسن البصري، والسُّدِّي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم.

قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } فيفزعون فيقولون: { لا عِلْمَ لَنَا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حَكَّام، حدثنا عَنْبَسَة قال: سمعت شيخًا يقول: سمعت الحسن يقول في قوله: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } الآية، قال: من هول ذلك اليوم.

وقال أسباط، عن السُّدِّي: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك: أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر، فشهدوا على قومهم. رواه ابن جرير.

ثم قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الحجاج، عن ابن جُرَيْج قوله: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ قالوا: { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يقولون للرب، عز وجل: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منا.

رواه ابن جرير. ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة (1) ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب، عز وجل، أي: لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره، لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء. فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم، فإنك { أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }

__________

(1) تفسير الطبري (11/211).

(3/222)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) }

يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات، فقال تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي: في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء { وَعَلى وَالِدَتِكَ } حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة، { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو جبريل، عليه السلام، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرًا، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك (1) إلى عبادتي؛ ولهذا قال تعالى: { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن "تكلم" تدعو؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب.

وقوله: { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: الخط والفهم { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك.

وقوله: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي: تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرًا بإذني، أي: فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه.

وقوله: { وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي } قد تقدم الكلام على ذلك (2) في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.

وقوله: { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } أي: تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته، وإرادته ومشيئته.

وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا محمد بن طلحة -يعني ابن مُصَرِّف-عن أبي بِشْر، عن أبي الهذيل قال: كان عيسى ابن مريم، عليه السلام، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين، يقرأ في الأولى: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [سورة الملك]، وفي الثانية: { الم. تَنزيلُ الْكِتَابِ }

__________

(1) في د: "ودعوت".

(2) في د: "عليه".

(3/223)

[سورة السجدة]. فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه، ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد -وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر: يا حي، يا قيوم، يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، يا نور السموات والأرض، وما بينهما ورب العرش العظيم، يا رب.

وهذا أثر عجيب جدًا. (1)

وقوله: { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي: واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك (2) إليَّ، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم. وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة. وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وقوله: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } وهذا أيضًا من الامتنان عليه، عليه السلام، بأن جعل له أصحابًا وأنصارًا. ثم قيل: المراد بهذا الوحي وحي إلهام، كما قال: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } الآية [القصص:7]، وهذا (3) وحي إلهام بلا خوف، وكما قال تعالى: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا } الآية [النحل:68، 69]. وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا } [أي: بالله وبرسول الله] (4) { وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي: ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا.

قال الحسن البصري: ألهمهم الله. عز وجل ذلك، وقال السُّدِّي: قذف في قلوبهم ذلك.

ويحتمل أن يكون المراد: وإذ أوحيت إليهم بواسطتك، فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، واستجابوا لك وانقادوا (5) وتابعوك، فقالوا: { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }

__________

(1) وهو من أخبار بني إسرائيل التي لم يرد ما يؤيدها والأقرب بطلانها.

(2) في د: "فرفعتك".

(3) في د: "وهو".

(4) زيادة من د.

(5) في د: "فانقادوا".

(3/224)

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) }

==============

المائدة - تفسير القرطبي

109- {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}

قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} يقال: ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها؟ فالجواب: أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و {يَوْمِ} ظرف زمان والعامل فيه {وَاسْمَعُوا} أي واسمعوا خبر يوم. وقيل: التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل عن الزجاج. وقيل: التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل، والمعنى متقارب؛ والمراد التهديد والتخويف. {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى

(6/360)

توحيدي ؟ {قَالُوا} أي فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} . واختلف أهله التأويل في المعنى المراد بقولهم: {لا عِلْمَ لَنَا} فقيل: معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا؛ لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء؛ وهذا مروي عن النبي عليه الله عليه وسلم. وقيل: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، فحذف؛ عن ابن عباس ومجاهد بخلاف. وقال ابن عباس أيضا: معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم يذهلون من هول ذلك ويفزعون من الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} قال الحسن ومجاهد والسدي. قال النحاس: وهذا لا يصح؛ لأن الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

قلت: هذا في أكثر مواطن القيامة؛ ففي الخبر "إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة"

قلت: فإن كان السؤال عند زفرة جهنم كما قال بعضهم فقول مجاهد والحسن صحيح؛ والله أعلم. قال النحاس: والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار؛ فيقولون: لا علم لنا؛ فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها. وقال ابن جريج: معنى قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} ماذا عملوا بعدكم؟ قالوا: { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} . قال أبو عبيد: ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يرد علي أقوام الحوض فيختلجون فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وكسر الغين من الغيوب حمزة والكسائي وأبو بكر، وضم الباقون. قال الماوردي فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني: أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.

(6/361)

110- {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا؛ قاله المهدوي. و {عِيسَى} يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون {ابْنَ مَرْيَمَ} نداء ثانيا، ويجوز أن يكون في موضع نصب؛ لأنه نداء منصوب كما قال:

يا حكم بن المنذر بن الجارود

ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال.

قوله تعالى: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة، وميزهما به من علو المنزلة. الثاني: ليؤكد به حجته، ويرد به جاحده. ثم أخذ في تعديد نعمه فقال: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} يعني قويتك؛ مأخوذ من الأيد وهو القوة، وقد تقدم. وفي {رُوحُ الْقُدُسِ}

(6/362)

وجهان: أحدهما: أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} الثاني: أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح، كما تقدم في {البقرة}. {تُكَلِّمُ النَّاسَ} يعني وتكلم الناس في المهد صبيا، وفي الكهولة نبيا، وقد تقدم ما في هذا في {آل عمران} فلا معنى لإعادته .{كَفَفْتُ} معناه دفعت وصرفت {بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ} حين هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية. {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك. {إِنْ هَذَا} أي المعجزات. {إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} . وقرأ حمزة والكسائي {سِاحْرٌ} أي إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر.

111- {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}

قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} قد تقدم القول في معاني هذه الآية. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام: وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية؛ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام قال أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، {وَإِلَى } صلة يقال: وحى وأوحى بمعنى؛ قال الله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وقال العجاج:

وحى لها القرار فاستقرت

أي أمرها بالقرار فاستقرت. وقيل: {أَوْحَيْتُ} هنا بمعنى أمرتهم وقيل: بينت لهم. {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} على الأصل؛ ومن العرب من يحذف إحدى النونين؛ أي واشهد يا رب. وقيل: يا عيسى بأننا مسلمون لله.

(6/363)

112- {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } على ما تقدم من الإعراب. {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} . قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد {هَلْ تَسْتَطِيعُ} بالتاء {رَبُّكَ} بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من {هَلْ} في التاء. وقرأ الباقون بالياء، {رَبُّكَ} بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الأولى؛ فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته {أَنْ يُنَزِّلَ} فيستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} . وقال عليه السلام: "لكل نبي حواري وحواري الزبير" ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم؛ فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكما قال من قال من قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} على ما يأتي بيانه في {الأَعْرَافِ} إن شاء الله تعالى. وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي

(6/364)

وقد علمت أنه يستطيع؛ فالمعنى: هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك؛ كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} كما قال إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

قلت: وهذا تأويل حسن؛ وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين؛ على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره؛ قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شيء ممكن؟! وأما قراءة {التاء} فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما؛ قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قالت: ولكن {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}. وروي عنها أيضا أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: {هل تستطيع ربك} وعن معاذ بن جبل قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وقال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله؛ والمعنى متقارب، ولا بد من محذوف كما قال: {وَاسْأَلِ

(6/365)

الْقَرْيَةَ} وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف. {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى.

113- {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}

قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} نصب بأن {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفى قولهم: {نَأْكُلَ مِنْهَا} وجهان: أحدهما: أنهم أرادوا الأكل منها لحاجة الداعية إليها؛ وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء؛ فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: {قُلْ لَهُمْ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} الآية. الثاني: {نَأْكُلَ مِنْهَا} لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها، قال الماوردي: وهذا أشبه؛ لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا الثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا الثالث: تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا؛ ذكرها الماوردي وقال المهدوي: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي: نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا. {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا}

(6/366)

بأنك رسول الله {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم.

============

المائدة - تفسير الطبري

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

القول في تأويل قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (109) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله، أيها الناس. واسمعوا وَعْظه إياكم وتذكيرَه لكم، واحذروا يَوْم يَجْمع الله الرسل = ثم حذف"واحذروا"، واكتفى بقوله:"واتقوا الله واسمعوا" ، عن إظهاره، كما قال الراجز:

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا (1)

يريد:"وسقيتها ماء باردًا"، فاستغنى بقوله"علفتها تبنًا" من إظهار"سقيتها"، إذ كان السامع إذا سَمِعه عرف معناه. فكذلك في قوله:"يوم يجمع الله والرسل" ، حذف"واحذروا" لعلم السامع معناه، اكتفاءً بقوله:"واتقوا الله واسمعوا" ، إذ كان ذلك تحذيرًا من أمر الله تعالى ذكره، خلقَه عقابَه على معاصيه.

* * *

وأما قوله:"ماذا أُوجبتم" ، فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم، (2) حين

__________

(1) مضى تخريج البيت وتفسيره فيما سلف 1: 264 ، وكان في المطبوعة هنا: "حتى غدت همالة" ، غير ما في المخطوطة.

(2) انظر تفسير"ماذا" فيما سلف 4: 292 ، 346 ، 347/8: 359.

(11/209)

دعوتموهم إلى توحيدي، والإقرار بي، والعمل بطاعتي، والانتهاء عن معصيتي؟ ="قالوا لا علم لنا".

* * *

فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى قولهم:"لا علم لنا" ، لم يكن ذلك من الرسل إنكارًا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم، ولكنهم ذَهِلوا عن الجواب من هَوْلِ ذلك اليوم، ثم أجابوا بعد أن ثَابَتْ إليهم عقولهم بالشَّهادة على أممهم.

* ذكر من قال ذلك:

12986 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل. قال ، حدثنا أسباط، عن السديّ:"يوم يجمع الله الرسل فيقول مَاذا أجبتم قالوا لا علم لنا" ، قال: فذلك أنهم نزلوا منزلا ذَهِلت فيه العقول، (1) فلما سئلوا قالوا:"لا علم لنا"، ثم نزلوا منزلا آخر، فشهدوا على قومهم.

12987 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة......... قال : سمعت الحسن يقول في قوله:"يوم يجمع الله الرسل" ، الآية، قال : من هول ذلك اليوم. (2)

12988 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم" ، فيفزعون، فيقول: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا !

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علّمتنا.

__________

(1) في المطبوعة: "ذلك أنهم لما نزلوا" ، وفي المخطوطة: "فذلك أنهم لما نزلوا" وأثبت ما في المخطوطة ، وحذفت"لما" لأنه لا موضع لها هنا ، وكأنها زيادة من عجلة الناسخ.

(2) الأثر: 12987 - هذا إسناد ناقص بلا شك ، بين"عتبة" ، و"الحسن البصري" ، فوضعت مكانه النقط ، وقد أعجلت أن أجد مثله فيما سلف ، فتركته حتى أجد تمامه.

(11/210)

* ذكر من قال ذلك:

12989- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، فيقولون: = لا علم لنا إلا ما علمتنا ="إنك أنتَ علام الغيوب".

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا، إلا علمٌ أنت أعلَمُ به منَّا.

* ذكر من قال ذلك:

12990- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا" ، إلا علم أنت أعلم به منا.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك:"ماذا أجبتم" ، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟

* ذكر من قال ذلك:

12991 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم" ، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ ="قالوا قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب".

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منّا"، لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا:"لا علم لنا إنَّك أنتَ علام الغيوب" ، أي: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفيِّ العلوم وجليِّها. فإنما نَفى القومُ أن يكون لهم بما سُئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره = لا أنَّهم نَفَوا أن يكونوا علموا ما شاهدُوا. كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنَّهم يُخْبرون بما أجابتهم به الأمم،

(11/211)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

وأنهم يسْتشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء، (1) فقال تعالى ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [سورة البقرة:143].

* * *

وأما الذي قاله ابن جريج، من أن معناه:"ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟" فتأويل لا معنَى له. لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يَحدُث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك، وإذا سئلت عَمَّا عملت الأمم بعدها والأمر كذلك، فإنما يقال لها: ماذا عَرَّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهرُ خَبر الله تعالى ذكره عن مسألته إيّاهم، يدلّ على غير ذلك.

* * *

القول في تأويل قوله : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يومَ يجمع الله الرسلَ فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا ="إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس".

* * *

ف"إذْ" من صلة"أجبتم"، كأنّ معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "سيشهدون على تبليغهم" ، حرف ما في المخطوطة وأساء.

(11/212)

فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إيَّاها في عهد عيسى، ولم يكن في عهد عيسى من الرُّسل إلا أقلُّ ذلك؟ (1)

قيل: جائزٌ أن يكون الله تعالى ذكره عنى بقوله:"فيقول ماذا أجبتم"، الرسلَ الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى، فخرَج الخبر مخرج الجميع، والمراد منهم من كان في عهد عيسى، كما قال تعالى ذكره: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران : 173] ، والمراد واحدٌ من الناس، وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس. (2)

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام:"إذ قال الله" ، حين قال ="يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس" ، يقول: يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك، (3) إذ قوّيتك برُوح القُدس و أعنتُك به. (4)

* * *

وقد اختلف أهل العربية في"أيدتك"، ما هو من الفعل.

فقال بعضهم: هو"فعّلتك"، ["من الأيد"]، كما قولك:"قوّيتك""فعّلت" من"القوّة". (5)

* * *

وقال آخرون: بل هو"فاعلتك" من"الأيد".

__________

(1) في المطبوعة: "إلا أقل من ذلك" ، زاد"من" ، فأفسد الكلام ، والصواب ما في المخطوطة.

(2) انظر ما سلف: 405 413.

(3) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة (نعم).

(4) انظر تفسير"أيد" فيما سلف 2: 319/5: 379/6: 242.

(5) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها. وفي المطبوعة: "كما في قوله" بزيادة"في" ، والصواب ما في المخطوطة بحذفها.

(11/213)

وروي عن مجاهد أنه قرأ:(إذْ آيَدْتُك)، بمعنى"أفعلتك"، من القوّة والأيد. (1) .

* * *

وقوله:"بروح القدس" ، يعني: بجبريل. يقول: إذ أعنتك بجبريل.

* * *

وقد بينت معنى ذلك، وما معنى"القدس"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)

* * *

القول في تأويل قوله : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قِيله، لعيسى:"اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس" ، في حال تكليمك الناسَ في المهدِ وكهلا.

* * *

وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد،

__________

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 325. وهذا الذي ذكره هنا في"أيدتك" تفصيل أغفله في بيانه السالف في: 2: 319 ، وهذا من ضروب اختصاره في التفسير ، وهو دال أيضًا على طريقته في تأليف هذا التفسير.

(2) انظر تفسير"روح القدس" فيما سلف 2: 320 ، 321/5: 379.

(11/214)

وكهلا كبيرًا = فردّ"الكهل" على قوله"في المهد"، لأن معنى ذلك: صغيرًا، كما قال الله تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ، [سورة يونس: 12] .

* * *

وقوله:"وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك"إذ علمتك الكتاب"، وهو الخطّ ="والحكمة"، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك، وهو الإنجيل ="وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير"، يقول: كصورة الطير...... (1) ="بإذني" ، يعني بقوله"تخلق" تعمل وتصلح -"من الطين كهيئة الطير بإذني"، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به ="فتنفخ فيها" ، يقول: فتنفخ في الهيئة، قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني ="وتبرئ الأكمه" ، يقول: وتشفي"الأكمهَ"، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر="والأبرص بإذني".

* * *

وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرًا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)

* * *

__________

(1) مكان هذا النقط بياض في المخطوطة ، وفي هامشها حرف (ط) ، دلالة على موضع خطأ. فأثبتها كذلك. وإن كنت أرجح أن سياق أبي جعفر يقتضي أن تكون عبارته هكذا:

{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ، يعني بقوله: "تخلق" ، تعمل وتصلح"من الطين كهيئة الطير" ، يقول: كصورة الطير: "بإذني" ، يقول: بعوني على ذلك . . . ومع ذلك ، فقد تركت ما في المخطوطة على ما هو عليه.

(2) انظر تفسير"المهد" فيما سلف 6: 417 = وتفسير"الكهل" 6: 417 ، 418 = وتفسير"الكتاب" ، و"الحكمة" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) و (حكم) = وأما تفسير"خلق" و"هيأة" بهذا المعنى ، فلم يذكره فيما سلف ، وإن كان ذلك مضى في 6: 424 وتفسير"أبرأ" 6: 428 = وتفسير"الأكمه" 6: 428 - 430 = وأما "الأبرص" فلم يفسره = وتفسير"الإذن" فيما سلف 10: 145 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

(11/215)

وقوله"وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات" ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، (1) وقد هموا بقتلك ="إذ جئتهم بالبينات" ، يقول: إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، (2) وحقيقة ما أرسلتك به إليهم. (3) ="فقال الذين كفروا منهم"، يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدُوا نبوَّتك وكذبوك من بني إسرائيل="إن هذا إلا سحر مبين".

* * *

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عمَّا أتى به لمن رأه ونظر إليه، أنه سحر لا حقيقةَ له.

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة:( إن هذا إلا ساحر مبين ) ، بمعنى:"ما هذا"، يعني به عيسى،"إلا ساحر مبين"، يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق. (4)

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتَا المعنى، متفقتان غير مختلفتين. وذلك أن كل من كان موصوفًا بفعل"السحر"، فهو موصوف بأنه"ساحر". ومن كان موصوفًا بأنه"ساحر"، فأنه موصوف بفعل

__________

(1) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548 ، 579/ 9: 29/10: 101

(2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف من فهارس اللغة (بين).

(3) في المطبوعة: "وحقية ما أرسلتك" ، غيرها كما فعل مرارًا كثيرة فيما سلف ، والصواب ما في المخطوطة ، وانظر ما سلف 10: 242 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(4) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (بين).

(11/216)

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

"السحر". فالفعل دالٌ على فاعله، والصفة تدلُّ على موصوفها، والموصوف يدل على صفته، والفاعلُ يدلُّ على فعله. فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.

* * *

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر أيضًا، يا عيسى، إذ ألقيت (1) ="إلى الحواريين"، وهم وزراء عيسى على دينه.

* * *

وقد بينا معنى ذلك، ولم قيل لهم"الحواريون"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (2)

* * *

وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله:"وإذ أوحيت" ، وإن كانت متفقة المعاني.

فقال بعضهم، بما:-

12992 - حدثني به محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل

__________

(1) انظر تفسير"أوحى" فيما سلف 6: 405 ، 406/9 : 399.

(2) انظر تفسير"الحواريون" فيما سلف 6: 449 - 451.

(11/217)

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أوحيت إلى الحواريين" ، يقول: قدفت في قلوبهم.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم.

* * *

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذْ ألقيتُ إلى الحواريين أنْ صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا:"آمنا"، أي: صدقنا بما أمرتنا أن نؤمنَ يا ربنا ="واشهد" علينا"بأننا مسلمون" ، يقول: واشهد علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك.

* * *

القول في تأويل قوله : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا عيسى، أيضًا نعمتي عليك، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف"إذ"، الثانية من صلة"أوحيت".

* * *

واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يستطيع ربك"

فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين:(هَلْ تَسْتَطِيعُ) بالتاء(رَبَّكَ) بالنصب، بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو: هل تستطيع أن تدعوَ ربَّك؟

(11/218)

أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكِّين أن الله تعالى ذكره قادرٌ أن ينزل عليهم ذلك، وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟ (1)

12993 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة، ولكن قالوا: يا عيسى هل تَسْتطيع ربَّك؟

12994- حدثني أحمد بن يوسف التَّغْلِبيّ قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا ابن مهدي، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن حسّان بن مخارق، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك:(هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ)، وقال: تستطيع أن تسأل ربَّك. وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟ (2)

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق:(هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء(رَبُّكَ)، بمعنى: أن ينزل علينا ربُّك، كما يقول الرجل لصاحبه:"أتستطيع أن تنهض معنا في كذا"؟ وهو يعلم أنه يستطيع، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مرادُ قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويُطِيعك أنْ تنزل علينا؟

* * *

__________

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 325.

(2) الأثر: 12994 -"أحمد بن يوسف التغلبي" ، مضى قريبًا برقم: 12957 ، وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "الثعلبي" ، وهو خطأ.

و"جابر بن يزيد بن رفاعة العجلي" ، ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/210 ، وابن أبي حاتم 1/1/498.

"حسان بن مخارق". قال البخاري: "أراه: الشيباني" ، مترجم في الكبير 2/1/31 ، وابن أبي حاتم 1/2/235 ، وقال المعلق على تاريخ البخاري: "في الثقات رجلان ، أحدهما في التابعين: حسان بن مخارق الكوفي ، يروي عن أم سلمة. روى عنه أبو إسحق الشيباني = والآخر في أتباع التابعين: حسان بن مخارق الشيباني ، وقد قيل: حسان بن أبي المخارق ، أبو العوام ، يروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ: هل تستطيع ربك. روى عنه جابر بن يزيد ، وجعلهما ابن أبي حاتم واحدًا".

وكان في المطبوعة: "حيان بن مخارق" حرف ما هو صواب في المخطوطة.

(11/219)

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب، قراءة من قرأ ذلك:(هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء(رَبُّكَ) برفع"الربّ"، بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟

وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب، لما بيّنّا قبلُ من أن قوله:"إذ قال الحواريون" ، من صلة:"إذ أوحيت"، وأنَّ معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريون أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربَّك؟ فبيِّنٌ إذ كان ذلك كذلك، أن الله تعالى ذكره قد كرِه منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قِيلهم ذلك، والإقرارِ لله بالقدرة على كل شيء، وتصديقِ رسوله فيما أخبرهم عن ربِّهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم، عند قيلهم ذلك له، استعظامًا منه لما قالوا:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" . ففي استتابة الله إيّاهم، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك، واستعظام نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم = (1) الدلالةُ الكافيةُ من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع"الرب"، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له:"هل تستطيع أن تسأل ربَّك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟ أن يُستكبر هذا الاستكبار.

فإن ظنّ ظانّ أنّ قولهم ذلك له إنما استُعظِمَ منهم، (2) لأنّ ذلك منهم كان مسألة آيةٍ، [فقد ظنّ خطأ]. (3) فإن الآيةَ، إنّما يسألها الأنبياء مَنْ كان بها مكذّبًا

__________

(1) السياق: " . . . ففي استتابة الله إياهم . . . الدلالة الكافية . . ." ، وما بينهما عطوف.

(2) في المطبوعة: "إنما هو استعظام منهم" ، غير ما في المخطوطة وزاد على نصها ، فضرب على الكلام فسادا لا يفهم!! و"استعظم" بالبناء للمجهول.

(3) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، لا أشك أن الناسخ قد أسقطها غفلة ، فاضطرب سياق الكلام ، وسياق حجة أبي جعفر ، فاضطر الناشر أن يعبث بكلمات أبي جعفر لكي تستقيم معه ، فأفسد الكلام إفسادًا بينًا لا يحل له. وقد رددت الكلام إلى أصله ، كما سترى في التعليقات التالية.

(11/220)

ليتقرَّر عنده حقيقةُ ثبوتها وصحَّة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصَّفَا ذهبًا، ويفجر فجَاج مكة أنهارًا، مَنْ سأله من مشركي قومه = وكما كانت مسألة صالح الناقةَ من مكذّبي قومه = ومسألة شُعَيْب أن يسقط كِسْفًا من السماءِ، من كفّار من أرسل إليه. (1)

فإنْ وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، (2) على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلّهم الذين قرءوا ذلك ب"التاء" ونصب"الرب" محلا أعظم من المحلِّ الذي ظنوا أنَّهم يحيدون بهم عنه (3) = أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسلٌ، وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر.

فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إيَّاه ذلك على نحو ما يسأل أحدُهم نبيَّه، إذا كان فقيرًا، أن يسأل له ربه أن يُغْنيه = وإن عرضتْ له حاجة، (4) أن يسأل له ربه أن يقضيَها، فليسَ ذلك من مسألةَ الآية في شيء، (5) بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيَّه مسألةَ ربه أن يقضيها له.

وخبر الله تعالى ذكره عن القوم، ينبئ بخلاف ذلك. وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="نُريد أن نأكل منها وتطمئنَّ

__________

(1) في المطبوعة: "من أرسل إليهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب محض.

(2) في المطبوعة: "وكان الذين سألوا . . ." ، حذف"فإن" ، وعطف الكلام بعضه على بعض فاضطرب اضطرابًا فاحشًا.

(3) في المطبوعة: "الذي ظنوا أنهم نزهوا ربهم عنه" ، سبحانه وتعالى ، ولكن ما فعله الناشر بنص المخطوطة جعل هذا الكلام كله لا معنى له. وكان في المخطوطة: "يحمدوا ربهم" ، مضطربة الكتابة ، فأساء الناشر قراءتها ، وأبلغ في الإساءة حين غير الكلام على الوجه الذي نشره به.

(4) في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرضت به حاجة" ، وهو غير عربي ، عربيته ما أثبت

(5) في المطبوعة: "فأنى ذلك من مسألة الآية" ، وفي المخطوطة: "فإن ذلك" وصواب ذلك ما أثبت.

(11/221)

قلوبنا ونعلم أنْ قد صدقتنا" . فقد أنبأ هذا من قِيلهم، (1) أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدَقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته. فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبَهم مرضٌ وشك فى دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سَألوا ما سألوا من ذلك اختبارًا.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

12995 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس: أنه كان يحدِّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجرَ العامل على من عمل له! ففعلوا، ثم قالوا: يا معلِّم الخير، قلت لنا:"إن أجر العامل على من عمل له"، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نفرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبُنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين" ، إلى قوله:"لا أعذبه أحدًا من العالمين" . قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.

12996 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" ، قالوا: هل يطيعك ربُّك، إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها.

* * *

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أنبأ هذا عن قيلهم" ، وهو خطأ محض ، مخل بالسياق.

(11/222)

وأما"المائدة" فإنها"الفاعلة" من:"ماد فلان القوم يَميدهم مَيْدًا"، إذا أطعمهم ومارهم، ومنه قول رؤبة:

نُهْدِي رُؤُوسَ المتْرَفينَ الأنْدَادْ... إلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (1)

يعني بقوله:"الممتاد"، المستعْطَى. ف"المائدة" المطعِمة، سميت"الخوان" بذلك، لأنها تطعم الآكل ممّا عليها. و"المائد"، المُدَار به في البحر، يقال:"مادَ يَمِيدُ مَيْدًا".

* * *

وأما قوله:"قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ، فإنه يعني: قال عيسى للحواريّين القائلين له:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" = راقبوا الله، أيها القوم، وخافوه (2) أن يَنزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به، فاتقوا الله أن يُنزل بكم نقمته ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟

* * *

__________

(1) ديوانه: 40 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 183 ، واللسان (ميد) ، وسيأتي في التفسير 12: 84 (بولاق) ، من رجز تمدح فيه بنفسه ، ومدح قومه تميما وسعدًا وخندفًا. ثم قبله في آخرها يذكر قومه: نَكْفِي قُريشًا مَنْ سَعَى بِالإفْسَادْ ... مِنْ كُلِّ مَرْهُوبِ الشِّقَاقِ جَحَّادْ

ومُلْحِدٍ خَالَطَ أَمْرَ الإلْحَادْ

وقوله: "نهدي" بالنون ، لا بالتاء كما في لسان العرب ، وكما كان في المطبوعة هنا. و"المترفون": المتنعمون المتوسعون في لذات الدنيا وشهواتها. و"الأنداد" جمع"ند" (بكسر النون) وهو هنا بمعنى"الضد" ، يقال للرجل إذا خالفك ، فأردت وجهًا تذهب إليه ، ونازعك في ضده: "هو ندى ، ونديدي". ويأتي أيضًا بمعنى"المثل والشبيه". ورواية الديوان ، ورواية أبي جعفر في المكان الآتي بعد: "الصداد" ، جمع"صاد" ، وهو المعرض المخالف. يقول: نقتل الخارجين على أمير المؤمنين ، ثم نهدي إليه رؤوسهم ، وهو المسئول دون الناس.

(2) في المطبوعة: "وخافوا" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/223)

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

القول في تأويل قوله : { قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ، في قولكم لي"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" =: إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء ="وتطمئن قلوبنا" ، يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد، (1) "ونعلم أن قد صدقتنا"، ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث ="ونكون عليها" ، يقول: ونكون على المائدة ="من الشاهدين" ، يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك. (2)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492/9 : 165.

(2) انظر تفسير"الشاهد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد).

================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...