Translate

الجمعة، 9 يونيو 2023

ج1.شرح ابْن نَاجِي التنوخي{قَاسم بن عِيسَى بن نَاجِي الْمُتَوفَّى 837 هـ} على متن الرسَالَة للْإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي زيد القيرواني الْمُتَوفَّى سنة 386 هـ



 

ج1.شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

ترجمة مختصرة للمصنف

باب ما تنطق به الألسنة إلى آخره

باب ما يجب منه الوضو والغسل

باب طهارة الماء والثوب والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

باب في الغسل

باب فيمن لم يجد الماء وصفة التيمم

باب في المسح على الخفين

باب أوقات الصلاة وأسمائها

باب الأذان والإقامة

باب صفة العمل في الصلوات المفروضة وما يتصل بها من النوافل والسنن

باب الإمامة وحكم الإمام والمأموم

باب جامع في الصلاة

باب في سجود القرآن

باب في صلاة السفر

باب في صلاة الجمعة

باب في صلاة الخوف

باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

باب في صلاة الخسوف

باب في صلاة الاستسقاء

باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

باب في الدعاء للطفل والصلاة عليه وغسله

باب في الصيام

باب في الاعتكاف

باب في زكاة العين والحرث والماشية

باب في زكاة الماشية

باب في زكاة الفطر

باب في الحج والعمرة

باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان

باب في الجهاد

باب في الأيمان والنذور

باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

باب في العدة والنفقة والاستبراء

باب في البيوع وما شاكل البيوع

باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

باب في أحكام الدماء والحدود

باب في الأقضية والشهادات

باب في الفرائض

باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

باب في الفطرة وختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

باب في الطعام والشراب

باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله سبحانه والقول في السفر

باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم وذكر الكلاب والرفق بالمملوك

باب في الرؤية والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيره والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

شرح ابْن نَاجِي التنوخي{قَاسم بن عِيسَى بن نَاجِي الْمُتَوفَّى 837 هـ} على متن الرسَالَة للْإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي زيد القيرواني الْمُتَوفَّى سنة 386 هـ

أعتنى بِهِ/أَحْمد فريد المزيدي

الْجُزْء الأول 

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة مختصرة للمصنف

هو الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه أبو الفضل وأبو القاسم: قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القيروانى: من القضاة من أهل القيروان.

تعلم فيها وولي القضاء فى عدة أماكن.

له كتب منها: شرح المدونة الكبرى لسحنون.

وزيادات على معالم الإيمان.

شرح رسالة أبو زيد القيروانى.

ومشارق أنوار القلوب , وشرح التهذيب للبراذعى.

- الشافى فى الفقه.

- وانظر: نيل الابتهاج (ص223).

- والبستان (ص149).

- معجم المؤلفين (2/ 646)

كتبه أبو الحسن أحمد فريد المزيدى 

المقدمة

الحمد لله مالك يوم الدين المعبود الموصوف بالقدم والجود، الذى خلق الإنسان من طين وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وشق سمعه وبصره وأنشأه خلقاَ آخر فتبارك الله أحسن الخالقين؛ اخترعه وابتدعه، ثم وفقه لما ارتضاه وشرعه، فسبحان من رفع فى جنته درجة من سبقت له العناية بتفقهه في الدين، وبجمعه ما اقتفى من آثار السلف الصالح وبثه لسائر العالمين، أحمده على ما أسبغ من آلائه وعلم من عظيم دينه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله التي الكريم الرءوف الرحيم، المبعوث بالحنيفية السمحة ليبين للناس ما نزل إليهم من تحليل وتحريم، صلى الله وعلى آله أفضل صلاة يتبعه أفضل تسليم.

وبعد:

فإنه لما كثر إقرائي لرسالة الشيخ الفقيه العالم العامل الورع أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني استخرت الله في وضع تعليق يعين الناظر على ما يتعلق بما تكلم عليه الشيخ من أقوال في المسألة وتتميم لما نطق به الشيخ من ظاهر كلامه إلى غير ذلك من الفوائد فمهما عبرت ببعض شيوخنا فهو الشيخ الفقيه العالم الصالح التقي الزاهد أبو عبدالله محمد ابن الشيخ الصالح المجاور والمرحوم أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمي عرفه الله الخير في الدنيا والآخرة ومهما عبرت به فأكثره من تأليفه المنسوب إليه بعضه تلقيه من بعض من لقيناه وأقله سمعته منه مشافهة نسأل الله تعالى الإعانة وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

{{ الكتاب}} 

 الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته:

الحمد لله ثمانية أحرف والجنة لها ثمانية أبواب فمن قال الحمد لله فتحت له أبواب الجنة الثمانية قاله ابن الخطيب. وابتدأ الشيخ بالحمد لأنه مفتتح كتاب الله الكريم فجعله فاتحة كلامه وأول ما جاء به القرآن في نظامه ولأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه ومواعظه وسنة الخلفاء الراشدين من بعده روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بالحمد لله فهو حرام" وفي رواية: "فهو أقطع" وفي رواية: "فهو أبتر" وبذلك تعقب الشيخ الفقيه أبو محرز على أسد بن الفرات لما بادر في قراءة عقد فقال: هذا ما اشترى الأمير الأجل.

فقال أبو محرز أخطأت يا أسد وبين له خطأه لما سأل عن ذلك بتركه الحمد لله حسبما هو مذكور في كتاب أبي بكر المالكي والمدارك لعياض ولولا الإطالة لذكرت القضية بكمالها وليس المراد بعين لفظ الحمد بل المطلوب إيقاع ذكر من الأذكار إذ المراد بحمدا لله الثناء على الله سبحانه.

وبذلك أجيب عن مالك بن أنس رحمه الله لكونه ابتدأ كتابه الموطأ بوقوت الصلاة فإنه ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم وهو الجواب عن الشيخ أبي القاسم الزجاجي، ومن الشيخ أبي عمر وابن الحاجب وغيرهما.

واختلف هل الحمد أعم من الشكر أم لا على ثلاثة أقوال: فقيل بذلك لأن الشكر إنما يكون في مقابلة الإنعام وقيل عكسه لأن الشكر يكون بالقول والفعل بخلاف الحمد إنما يكون بالقول خاصة وقيل ليس بينهما عموم ولا خصوص فيستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر، والمراد بالإنسان الجنس.

وقول من حمله على عيسى عليه السلام بعيد وأبعد من قول من حمله على آدم عليه السلام والباء في قوله بنعمته للمصاحبة أو السبية أي ابتدأه بسبب أن ينعم عليه والضمير المضاف إليه نعمة يعود على الخالق سبحانه ويجوز عوده على الإنسان لما كانت النعمة ملتبسة به ومصاحبة له.

وظاهر كلام الشيخ أن لله عز وجل على الكافر نعمة وهو كذلك عند أكثر العلماء في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فواضح وأما في الآخرة فلأن ما من نعمة وعذاب إلا وثم ما هو أشد منهما إلا أنه لا يقال إنهم في نعمة لأنهم في محل الانتقام والغضب

(1/6)

والعذاب الشديد لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.

ونقل الشيخ أبو بكر بن العربي عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه قال لا يقال إن لله تعالى على الكافر نعمة لا دينية ولا دنيوية، وجعل التالي الخلاف لفظيا بعيد لما قدمت والله أعلم.

(وصوره في الأرحام بحكمته):

الضمير يعود على الإنسان وهو للجنس فلذلك جمع الأرحام باعتبار ما في الجنس من الجمع، ومعنى بحكمته أي بعلمه ومشيئته وهي وضع الشيء في محله، ألا ترى أنه وضع البصر وجعله في أعلى الجسد لتكون منفعته أعم وأتم وجعل عليه أجفانا كالأغطية تغطي وتقيه من الآفات وجعلها متحركة تنطبق وتنفتح على مقدار حاجته وجعل في أطرافها أشفارا تدع الذباب والهوام إذا نزلت عليها، وجعلها عليه زينة كالحلية لماي حلى وجعل عظم الحاجب ناتئا عليها يقيها ويدفع عنها لما كانت لطيفة في شكلها إلى غير ذلك من المصالح والمنافع والآلاء التي لا يحيط بها إلا خالقها تعالى، هذا بالنظر إلى ما في عضو من أعضائه فما ظنك بسائر جسده.

(وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه):

أي أبرزه من الصلب إلى الرحم وقيل: أوجده وأخرجه من الضيق ضيق الأحشاء إلى الموضع الواسع وخلق تعالى في قلوب عباده الرفق الشفقة عليه ويسر له رزقا لينا في ثدي أمه متوسطا بين الملوحة والعذوبة باردا في الصيف حارا في الشتاء يخرج من عرقين يتغذى من أحدهما يشرب من الآخر، وتكفل برزقه مدة حياته ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسه منة منه تعالى عليه ولطفا به.

واعلم أن مذهب أهل السنة أن الله تعالى يرزق الحلال والحرام فجميع ما يتغذى به الإنسان من حلال أو حرام فهو رزقه. قال الله عز وجل: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود: 6]

وقد علمت أن جميع المكلفين لا يأكلون الحلال كلهم لأنهم قد يسرقون ويغصبون يتغذون به وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها": وأجمع المسلمون على القول بأن الله تعالى هو الذي يرزق البهائم ما تأكله وليس لها ملك فدل ذلك على أن الغذاء يكون رزقا لمن أكله وإن لم

(1/7)

يملكه. وهذا الذي ذكرنا معناه لابن فورك.

(وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيم):

جعل يعدد نعم الله تعالى على عباده وتنقله من طور إلى طور إلى أن يصير هذا الإنسان يعلم مصالح نفسه فيقصدها ويجتنب مضارها فيباعدها قال الله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل: 78]

قال القرافي: وقع في "كان" حديث الفقهاء، هل يجوز إطلاقها على وجوده سبحانه وتعالى أم لا؟ فمنع قوم كثي لإشعارها بانصرام الشيء وعدمه، والصحيح جوازه لأنها أعم فلا دلالة لها على خصوص الانقطاع فجاز أن تقول كان الله سبحانه ولا شيء معه ولا محظور في ذلك.

(ونبهه بآثار صنعته):

أي أيقظه من نوم الغفلة والجهالة بإيجاد آثار صنعته قال الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الذاريات: 21]

وقال تعالى: (ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) [الروم:22]

إلى غير ذلك من الآي فمن وفقه الله ونبهه وأيقظه وتأمل بأدنى فكره مضمون هذه الهيئات وأدار ذهنه على عجائب خلق الأرض والسموات وبدائع فطر الحيوان والنبات علم أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم الغريب لا يستغنى عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره.

وفي كلام الشيخ حذف لا بد من تقديره كأنه قال ونبهه بآثار صنعته على وجوده سبحانه وتعالى ووحدانيته وغير ذلك من صفاته.

(وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه):

الإعذار: المبالغة في طلب المعذرة ومنه الإعذار في الحكم، قالوا: أعذر من أنذر أي بالغ في المعذرة من تقدم إليك بالإنذار وقد ورد النص بذلك في مواضع منها قوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) [طه:134].

(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء:165]

و (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) [فاطر:37]

إلى غير ذلك من الآي.

والألسنة جمع لسان وهو يذكر ويؤنث من ذكره ذهب به مذهب الدليل والبرهان، ومن أنثه ذهب به مذهب اللغة والحجة.

(1/8)

والمرسلون: جمع مرسل وهو المأمور بتبليغ الوحي، وهو أخص من النبي والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم أعجمي إلا خمسة: محمد، واسماعيل، وصالح، وشعيب، وهو على جميع الصلاة والسلام.

والخيرة بتسكين الياء وفتحها ذكر اللغتين الجوهر وغيره، قبل بالفتح المصدر وبالسكون الاسم وقيل بالعكس ذكره ابن جني.

قال التادلي: ويجوز أن يكونا مصدرين وجاء أحدهما مسكن الياء رغبة في التخفيف وفي هذا تنبيه على أن العقل لا يكتفي به عن بعثة الرسل وأنه لا يحسن ولا يقبح فلا حكم إلا ما جاءت به الرسل ولا حسن ولا قبح إلا ما حسنه الشرع وقبحه، وظاهر كلا المصنف يقتضي تفضيل الأنبياء على الملائكة على جميعهم الصلاة والسلام وهو المختار عند أهل الحق على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قال التادلي: وهذا الأخذ يتأتى إذا جعلت "من" في قوله: "من خلقه" لبيان الجنس وإن جعلت للتبعيض فلا.

(فهدى من وفقه بفضله وأضل من خذله بعدله):

الهدى هو البيان والإرشاد ومنه قوله تعالى: (وهديناه النجدين) [البلد:10]

وهديناه السبيل أي بينا له طريق الخير والشر وقيل: هي المعرفة فمن سبقت له العناية الأزلية وهي التوفيق اهتدى وسلك طريق الخير ومن لم تسبق له العناية أضله الله وصرفه عن طريق الخير.

فهداية المهتدين وسلوكهم طريق الخير إنما هو بفضل الله عز وجل إذ ليس ذلك عوضا من شيء ولا سابقة استحقاق للعبد ولا يجب ذلك على الله تعالى بل هو فضل محض والإضلال والخذلان منه عدل إذ هو تعالى مالك لجميع الأشياء ولا حجر عليه فيها وذلك نفى الله تعالى الظلم عن نفسه فقال تعالى: (ومارك بظلام للعبيد) [فصلت:46]. قال بعضهم كل وصف صالح وصالح ورد في القران مكررا مرتين أو أكثر إلا التوفيق فإنه لم يرد إلا مرةواحدة في قوله تعالى: (وما توفيقي إلا بالله) [هود:88]. تنبيها على قلة المتصف به قيل له: قد ذكره في مواضع آخر في قوله تعالى: (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) [النساء:62]

وقوله: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) [النساء:35]

قال هذا توفيق دنيوي والذي لم يتكرر التوفيق الأخروي.

(1/9)

(ويسر المؤمنين لليسرى وشر صدورهم للذكرى فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين)

يسر أي هيأ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "وكل ميسر لما خلق له"

واليسرى قيل المراد بها الجنة أو الخير أو طريقهما لأن طريق الخير عاقبته يسر ويجوز أن يراد بالتيسير تهوين فعل الطاعات بأن يجعلها فيهم محبوبة لهم حتى تكون عليهم أهون الأمور وأيسرها.

ومعنى شرح: فتح ووسع ومنه شرح المسائل إذا بسطها وعبر بالصدور عن القلوب كما يعبر عنها بالأفئدة وهو من التعبير عن الشيء بمحله أو بمجاوره، والذكرى مصدر ويراد به الموعظة فنور قلوبهم، ووسعها حتى قبلوا المواعظ واهتدوا بها، وتعلموا مقتضاها فكان ذلك سببا لإيمانهم بوجود الله تعلى ووحدانيته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأمنوا بالله نطقا واعتقادا وعملا بما أتتهم به الرسل امتثالا وتصديقا بقول الله تعالى: (وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر:7]

ووقفوا عند ما حد لهم.

(أما بعد، أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه):

أي ما بعد ما سبق قيل إن رسول الله صلى الله عليه السلام كان يقولها في خطبه. قال جماعة: هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام، وقيل: هو أول من قالها. وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة، وقيل: كعب بن لؤي وتسمى كلمة إقبال وفصل وتفصيل وفيهما معنى الشرط، والتحقيق أن الفصل والشرط إنما هو في إما خاصة دون بعد فقيل إن أما

(1/10)

حرف تفصيل نابت عن حرف الشرط وفعله.

وبعد بضم الدال وأجاز الفراء أما بعد بالنصب والتنوين وأجازه هشام بفتح الدال دون تنوين، وأنكره النحاس وفي علة ضم يعد للنحويين بضعة عشر قولا وهي كلمة توضع في صدور الرسائل عند إرادة المقصد قال ثعلب: معناها خروج عما نحن فيه إلى غيره وفيها معنى التنبيه. وقول الشيخ، وإياك: خطاب للمؤدب العابد محرز وإن كان دخل معه في الضمير في أعاننا ولكن أراد أن يفرده بالذكر لأنه الذي سأله تأليف الرسالة وهكذا قال غير واحد من التونسيين وغيرهم كابن سلامة وناصر الدين.

وقال أبو زيد عبدالرحمن بن الدباغ القروي صاحب معالم الإيمان الذي سأله تأليفها هو الشيخ الصالح أبو إسحاق إبراهيم السبائي وهو ضعيف ولا يقال إنهما معا سألاه وأسعهما جميعا لأن إفراد الضمير يأباه، وأيضا فإنه قوله: كما تعلمهم حروف القرآن يدل على أنه المؤدب محرز لأني لا أعلم أحدا ممن تعرض لمناقب أبي إسحاق ذكر أنه كان مؤدبا وقدم الشيخ نفسه في الدعاء تأديبا بآداب الشريعة بالكتاب والسنة، أما بالكتاب فقوله تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:19]

(رب اغفر لي ولوالدي) [نوح:28]

(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [الحشر:10]

، وأما بالسنة فروى أو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدأ بنفسه وقال صلى الله عليه وسلم "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" فإذا طلب تقديم النفس في الدنيا فطلبه في أمور الآخرة أولى وقال الشيخ ناصر الدين خلاف ذلك قال: فإن قلت لم قدم نفسه في الدعاء وكان الأولى تقديم غيره فيقول أعانك الله وإياي، إذ هو أتم في الإيثار.

فالجواب لا نسلم أنه قدم نفسه فقط لجواز أن يكون الضمير في أعاننا أراد به نفسه والسائل، فإن قلت: لا فائدة إذن في قوله وإياك قلت فائدته تحقيق الغير في الدخول. والرعاية والحفظ والكلأ والمراقبة، كلها بمعنى واحد وهو القيام بالشيء والاحتفال به.

والودائع: الأمانات وقيل العبادات كالوضوء والصلاة وقيل الجوارح وقيل لا يمتنع أن تكون الودائع مجموعة ما تقدم لأن الإنسان راع على جوارحه وعبادته وجميع

(1/11)

تصرفاته. وقد قال عليه السلام "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" والشرائع جمع شريعة وهي أحكام الله تعالى التي تتلقى من رسله وحفظ الشرائع الإتيان بها من جميع جهاتها من فرض وسنة وفضيلة.

(فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانات):

السؤال والالتماس يكون من المتماثلين والدعاء من الأدنى إلى الأعلى والأمر عكسه هكذا قال بعض من شرحها وليس كذلك قال في الجمل: واللفظ المركب إن دل بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرا ومع الخضوع سؤالا ومع التساوي التماسا والجملة من أجملت الشيء إذا لم تفصله ومنه أجملت الحساب إذا جمعت بعضه إلى بعض والاختصار والتعبير باللفظ القليل عن المعنى الكثير.

والأمور جمع أمر، والأمر تارة يراد به الفعل والشأن وتارة يراد به القول الطالب للفعل على سبيل الاستعلاء فالذي بمعنى القول يجمع على أوامر، والذي بمعنى الفعل، والشأن يجمع على أمور فلذلك أضاف الواجب إلى الأمور لأن الأحكام الشرعية هي المتعلقة بأفعال العباد وأفعال العباد لا تخرج من نطق اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح، والألسنة: جمع لسان يذكر ويؤنث ويقع على العضو المعروف.

ويقع على اللفظ والكلام فمن ذكره ذهب به مذهب الدليل ومن أنثه ذهب به مذهب الحجة. والقلوب: جمع قلب والجوارح الكواسب وهي أعضاء الإنسان التي يكتسب بها الخير والشر.

(وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن ومن مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها):

اعلم أن كل مطلوب بالشرع ليس بواجب يصح أن يطلق عليه مندوب ومسنون ومرغب فيه وفضيلة ونافلة إلا أن الفقهاء لا سيما المالكية خصوصا خصوا كل لفظ بمعنى يخصه فقالوا الفرق بين السنة والفضيلة والنافلة: أن السنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه وأظهره في الجماعة ولم يدل على وجوبه كالوتر، والفضيلة والمرغب فيه ما كان دون السنة في الرتبة إما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في الجماعة كركعتي الفجر أو لم يداوم عليه كصلاة الضحى.

(1/12)

والنوافل: هي أتباع الفرائض ونحو ذلك، وقول الشيخ من مؤكدها بدل من السنن، والآداب: جمع أدب وهو فعل ما يحسن بينه وبين ربه وقصد بذلك ما ذكره في الجامع من آداب الأكل والشرب إلى غير ذلك.

(وجمل من أصول الفقه إلى آخره): يصح في جمل النصب عطفا على جملة مختصرة عطفا على السنن، وأصول الفقه أراد به أمهات المسائل ويدل على أن هذا مراده.

(وفنونه):

أي ما يتفرع منه وما يتقنن، والفنون جمع فن وهو الفرع قال بعضهم ويحتمل أن يريد بأصول الفقه أدلته على ما هو المصطلح عليه عند بعض المتقدمين وقد ذكر شيئا من ذلك في باب جمل من الفرائض والسنن واستعمل فيه طريق القياس على المتعارف عند الأصوليين ومن جملةذلك إن قال الخمر حرام، وقال عليه السلام "كل ما اسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام" فكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر وهو حرام وهذا استعمال للمقدمات والنتائج والله أعلم.

فإن قيل لم طلب السائل أن يكون على مذهب مالك وهو ميت مع تمكنه من تقليد إمام حي وهو مؤلفه ابن أبي زيد وقد أجمع أهل الأصول على منع تقليد الميت كما حكاه القرافي في شرح المحصول قال نص ابن أبي الملحمة في شرح الرسالة على أنه لا يجوز تقليد العالم مع وجود الأعلم وإن كان ميتا لأن يموته أمن من رجوعه عن قوله بخلاف الحي.

قال التادلي: وبصائر أهل الأبصار والأمصار اليوم على ذلك من غير تنازع ولو سد هذا الباب لقلد من لا يستحق التقليد لا سيما وقد فسدت العقول وتبدلت وكثرت البدع وانتشرت، فكان الرجوع والفزع إلى سلفنا الصالح المسلمين وأئمة الدين هو الواجب على المقلدين بل على أكثر المجتهدين واختار الشيخ مذهب مالك لأنه إمام دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعني في قول أكثرهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" وقيل إنما اختاره لأنه جمع بين الشرفين الحديث والفقه وغيره من أئمة الدين

(1/13)

إما فقيه صرف كالشافعي وأبي حنيفة ليس لهما ذكر في الصحيحين وإما محدث صرف كأحمد وداود.

وقيل لأن أئتمته أخذوا عه بعد أخذه عنهم إلا القليل كابن شهاب فقيل أنه لم يأخذ عنه، وقيل لشدة اتباعه السف. وقد قال ليس لأحد رأي مع السنة وما استمر عليه عمل أئمة الهدى وقد أجمع أهل الفضل على فضل مالك رحمه الله تعالى، ولم يزل أئمة الدين المقتدى بهم المعول في التحقيق عليهم يختارون مذهبه ويرجحونه على غيره من المذاهب كله والحمد لله على تمهيده.

وذكر أبو محمد عبد الله بن سلامة أن القاضي أبا بكر لسان الأمة وسيد أهل السنة رضي الله عنه كان في مجلس إقرائه وبين يديه جمع وافر وكان يقرئ المذاهب الأربعة ويرجحها ثم يأخذ في الترجيح والاحتجاج لمذهب الإمام مالك رحمه الله فقال بعض أهل المجلس: ما وجهتموه رضي الله عنكم ليس بواضح، هذه حجة ضعيفة قال: فاصفر لونه وتغير وجهه وأطرق مليا ثم قال: يا هذا أتقول في إمام دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ضعيفة وأين الأدب مع العلم وأهله اخرج من مجلسي واحذر أن تقع عيني عليك بعد هذا اليوم. فلم يقدر أن يسكن معه العراق وانتقل إلى القيروان واستوطنها ودرس فيها مذهب مالك وألف كتابا في مناقب الشيخ أبي بكر وصدره بمسألته هذه فجزاه الله خيرا عن تخلقه وتواضعه.

والمذهب والطريقة قيل هما بمنعى واحد وإنهما لفظان مترادفان وقيل مذهبه ما يفتي به وطريقته ما يفعله في خاصة نفسه فقد يحمل على نفسه أشياء لا يفتي بها غيره، وقيل مذهبه ما قاله وثبت عليه وطريقته ما قال ورجع عنه، والصواب أنه أراد بالمذهب قول مالك والطريقة قول أصحابه إذ طريقة أصحابه طريقته ولذلك تجد الشيخ كثيرا ما يذكر قول بعض أهل المذهب ويترك قول مالك وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو محمد عبد الله ابن الشيخ أبي محمد عبد الله الشبيبي وكان من عادته التكلم بالوعظ في أول ميعاده لكثرة من يحضر عنده من العوام، فتارة يعظ في تفسير كتاب الله عز وجل وهو الأعم والأغلب منحاله وتارة يعظ في تفسيره لمسلم وتارة فيهما وفي قراء العقيدة فقرئ عليه هذا المحل سنة فذكر ما قلناه. وقال: سأعرف بمالك وأصحابه فكان كل يوم يذكر رجلا ورجلين ويعظ على نحو ما يذكر من الحكايات المنقولة في الذي يعرف به إلى أن وصل إلى الشيخ أبي يوسف الدهماني وهو آخر من ذكر الشيخ

(1/14)

صاحب معالم الإيمان نفعنا الله بجميعهم.

وكان الشيخ المذكور يقرئ العلم من طلوع الشمس أو قرب طلوعها إلى أن تحضر صلاة الظهر وكان فصيحا متواضعا لا يعنف على من يستشكل أو يسأل فيخرج لينال شيئا من الطعام ويتوضأ بعد ويصلي الظهر قريبا من العصر ثم يصلي العصر ويجلس ليجود عليه من حينئذ إلى أن تصلي العشاء الآخرة وربما يقرأ عليه بعد ذلك وظهرت له كرامات متعددة والغالب أن من قرأ عليه انتفع من حسن نيته وكثرة بيانه. نسأل الله أن ييسر علي بتأليف كتاب أذكر فيه أيضا فضل الشيخ وما كان عليه.

(مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك إلى آخره):

سهل بمعنى يسر وهون والرسوخ لغة الثبوت فيريد الثابتين في العلم والمتفقهون الفقهاء وأراد بذلك أصحاب مالك كابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم ويقال فقه بكسر القاف إذا فهم وفقه بفتحها إذا سبق غيره للفهم وفقه بضمها إذا صار له الفقه سجية ذكره ابن عطية وغيره. قال صاحب البيان: التفقه في القرآن معرفة أحكامه وحدوده ومفصله ومجمله وعامه وخاصه وناسخه ومنسخوه وذلك أكد من حفظ شواذ حروفه، فإن لم يتفقه فيه ولا عرف شيئا من معانيه فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا.

(لما رغبت إلى آخره):

هذا بيان للسبب الموجب لسؤال السائل تأليف هذه الرسالة وهي الرغبة في تعليمه للولدان أو يكون بيانا لسبب سؤاله أن تكون جملة مختصرة لأنها أقرب للحفظ وأسهل للضبط. والبركة: الخير وزيادته.

(فأجبتك إلى ذلك إلى آخره):

المراد بهذه الجملة ترجي حصول الثواب لهما، هذا بدعائه، وهذا بتعليمه قيل ويحتمل أن تكون "أو" بمعنى الواو إذ كل واحد منهما في الحقيقة داع ومعلم فالشيخ أبو محمد داع بتأليفه مع جهة المعنى ومعلم به، والشيخ أبو محفوظ محرز داع إلى التأليف ومعلم به ولم يقطع بحصول الثواب لأن القبول مغيب وهو متوقف على العاقبة والله أعلم.

(واعلم أن خير القلوب إلى آخره): يعني أن القلوب متفاضلة فأفضلها أكثرها وعيا للخير وأقربها من هذه الحالة قلب

(1/15)

لم يسبق الشر إليه إذ لا مانع فيه وقلوب الصبيان بهذه المثابة.

(وأولى ما عني الناصحون به إلى آخره):

الناصحون المرشدون للخير المحذرون من الشر. والرسوخ الثبوت. والتنبيه هنا الإيقاظ من سنة الغفلة والجهالة والمعالم المراد بها قواعد الدين. وخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" قالها ثلاثا قيل لمن يا رسول الله قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" فهذا من النصح لعامة المسلمين.

(وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم إلى آخره):

قيل يحتمل أن تكون ما استفهامية التقدير أي شيء عليهم في ذلك أي: أي مشقة تلحقهم فيه مع كبير فائدته وهو الرسوخ في القلب والرياضة والتأنيس وحصول شرف الدنيا وعز الآخرة فتحصل لهم المنفعة بهذه الجملة والسيادة بعلمها، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب" ومنهم من حمل قوله وما عليهم على النفي للوجوب وضعف لأن اللفظ لا يساعده.

ومعنى قول الشيخ يطفيئ غضب الله أي النار التي أعد الله لمن خالف أمره ونهيه والمراد إطفاء الغضب عن آبائهم ومن تسبب في تعليمهم أو معلميهم أو عنهم فيما يستقبل من الزمان، وقد ورد: لولا صبيان رضع وشيوخ ركع وبهئائم رتع لصب عليكم العذاب صبا.

(وقد مثلت لك إلى آخره):

الانتفاع بالرسالة ظاهر لا ينكر وقيل فيها أربعة آلاف مسألة والنفع يقع بكل مسألة منها فضلا عن الكل وكل مسألة بحديث فقيها أربعة آلاف حديث وأسندها الأبهري في كتاب سماه مسالك الجلالة في إسناد أحاديث الرسالة.

(وقد جاء إلى آخره):

روى هذا الحديث جماعة منهم ابن وهب في المدونة. ورواه ابن أبي شبية في مصنفه ورواه ميسرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في حديث ميسرة التفريق في المضاجع والعجب أنهم اختلفوا مع ذلك في الوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة،

(1/16)

فقال يحيى بن عمر يؤمر بها إذا عرف يمينه من شماله فقيل بظاهره وقيل إذا ميز الحسنات من السيئات لأن كاتب الحسنات عن يمينه وكاتب السيئات عن شماله وكلا التأويلين نقلهما التادلي.

وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون يؤمر بها إذا أطاقها وإن لم يحتمل. وما روي عن مالك في المجموعة يؤمر بها إذا بلغ الحلم فمحمول على أمر المكلفين. وروى ابن وهب عن مالك في العتبية يضربون عليها لسبع، واختلف في الزمان الذي يفرق بينهم في المضاجع عنده، فقال ابن القاسم: إذا بلغ سبع سنين.

وقال ابن وهب إذا بلغ عشر سنين ولا يؤمر المطيق للصوم به على المشهور وفرق بينهما بثلاثة فروق أذكرها إن شاء الله تعالى في الصوم. قال ابن رشد للصبي حال لا يفهم فيها ولا يعقل، فحاله فيها كالبهيمة فعله جبار، وحال يعقل فيها ينبه فيها الصبيان على الصلاة والزكاة. ثم اختلف في أجر الصبي لمن يكون فقيل للأب وقيل للأم وقيل بينهما قال بعضهم: ولا يمتنع أن يكون للصبي أجر أيضا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الصبي ألهذا حج قال: "نعم ولك أجر".

(فكذلك ينبغي إلى آخره):

العباد جمع عبد وهو يجمع على عباد وعبيد وأعبد القول ما يتلفظ به والعمل ما يتعلق بالجوارح والقلوب وهو يتناول القول بخلاف الفعل فإنه لا يتناوله هكذا أدركت بعض من لقيته يقرره فيكون على هذا عطف الشيخ العمل على القول من باب عطف العام على الخاص، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "وإنما الأعمال بالنيات" فهو يتناول القول بلا شك وحمل بعض الشيوخ كلام المؤلف على أن القول مغاير للعمل لأن الأصل في العطف المغايرة قال: ويقوي ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اللهم أني أعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل" وقد قال بعض الناس في قول النحاة فعل ولم يقولوا علم لأن الفعل يعم القول والعمل.

والبلوغ يكون بالاحتلام اتفاقا، ويكون بالسن واختلف في مقداره على أربعة أقوال: فقيل: خمس عشرة سنة، قاله ابن وهب، وقيل سبع عشرة سنة وقليل ثمان عشرة

(1/17)

سنة وكلاهما لابن القاسم والآخر منهما هو المشهور قاله المازري، وقيل ستة عشر سنة ذكره ابن رشد مع الثلاثة الأول في كتاب المأذون له من المقدمات ولم يعزها. وما ذكرناه هو الذي أعرف في المذهب، وذكر التادلي عن أبي محمد صالح قولا خامسا تسع عشرة سنة ولا أعرفه، واختلف في الإنبات فقيل علامة للبلوغ وقيل لا وكلاهما في المدونة في كتاب السرقة والأول لمالك والثاني لابن القاسم.

قال ابن رشد وهذا فيما يلزمه في ظاهر الحكم من طلاق وحد وفيما بينه وبين الله لا يلزمه وقول الفاكهاني ثالثها يعتبر في الجهاد خاصة لا أعرفه، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بالحيض والحمل وظاهر كلام أهل المذهب أن تغير رائحة الجناحين ليس بعلامة وفي الذخيرة أنه معتبر.

(وسأفصل لك إلى آخره) انتصب بابا على الحال وإن لم يكن مشتقا لكنه بمعنى المشتق إذ هو في معنى مفصل فهو مشتق من التفصيل وفعل ذلك لأنه أعون على الحفظ وأقرب إلى الفهم. ونستخير أي نطلب منك الخيرة وكذلك ينبغي لكل عازم على أمر أن يستخير الله عز وجل في الاقدام عليه فإن في الاستخارة تسليما لأمر الله تعالى. ونستعين أي نطلب منك الإعانة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقال: "أخبرك بتفسيرها" فقلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله فقال: "لا حول عن معصية الله إلا بمعصية الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله" وفي رواية أنه قال كذا أخبرني جبريل عن الله عز وجل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكثروا منقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنه يدفع تسعة وتسعين داء أدناها اللمم".

قال الفاكهاني: اللمم لفظ مشترك والظاهر اللائق بالحديث إن شاء الله تعالى أنه الطرق من الجنون يقال رجل ملموم أي به لمم لأنه من جملة الأدواء وعن مكحول رضي الله عنه من قالها كشف الله عنه سبعين بابا من الشر أدناها الفقر. وأجاز النحويون في لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نصبها من غير تنوين ورفعها مع

(1/18)

التنوين ونصب الأول من غيرتنوين. ورفع الثاني معه والعكس.

وقول الشيخ وصلى الله على سيدنا محمد الصلاة من الله عز وجل رحمة ومن الملائكة استغفار ومن الآدميين تضرع ودعاء والإجماع أن الصلاة عليه واجبة على الجملة. واختلف في الصلاة على غيره صلى الله عليه وسلم فقال عياض في الشفاء وجدت بخط بعض شيوخ مذهب مالك أنه لا يجوز أن يصلى على أحد من الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم وهذا غير معروف من مذهبه. وقد قال في المبسوط ليحي بن اسحاق أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى غير ما أمر به.

وقال يحيى بن يحيى لست آخذا بقوله ولا بأس بالصلاة عل الأنبياء كلهم وعلى غيرهم واحتج بحديث ابن عمرو وما جاء من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم عليه وفيه وعلى أزواجه وعلى آله. ووجدت معلقا عن أبي عمران الفاسي روي عن ابن عباس كراهة الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم قال وبه نقول قال ولم يكن يستعمل فيما مضى وسمي نبينا بمحمد صلى الله عليه وسلم لكثرة خصاله المحمودة وجمهور العلماء على جواز إضافة أل إلى المضمر كما فعله الشيخ في قوله وآله وأنكره الكسائي والنحاس والزبيدي وقالوا لا تصح إضافته إلى المضمر وإنما يضاف إلى الظاهر فيقال على آل محمد، وفي حقيقة الآل مذاهب فقال الشافعي: بنو هاشم وبنو المطلب وقيل: عشيرته وأهل بيته وقيل: جميع الأمة واختاره الأزهري وغيره من المحققين والسلام التحية.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب ما تنطق به الألسنة إلى آخره

الباب هو الطريق للشيء الموصل إليه وهو حقيقة في الأجسام كباب المسجد مجاز في المعاني كباب ما تنطق به الألسنة وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب بيان ما تنطق به الألسنة وما في قوله ماتنطق بمعنى الذي ومن من قوله من واجب أمور الديانات للتبعيض لأن واجب أمورالديانات أعم من أن يكون نطقا أو اعتقادا ويجوز أن تكون لبيان الجنس فيكون مراده ما يجب اعتقادا ونطقا ومتعلقا بهما.

(من ذلك الإيمان إلى آخره):

الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا سواء كان بالقلب أو باللسان أو بهما. وفي الشرع هو التصديق بالقلب بوجود الحق سبحانه وتعالى وصفات كماله وجلاله وصحة الرسالة وما جاءت به الرسل من عنده مع الجزم بذلك كله. وهل يشترط الإقرار باللسان به أم لا، فقيل يشترط وهو مذهب الجمهور، فمن آمن بقلبه، ولم ينطق بلسانه

(1/19)

ومات فإنه كافر وقيل ليس بشرط قاله القاضي أبو بكر الباقلاني.

وبه قال ابن رشد وهو ظاهر المدونة، لو أجمع على الإسلام بقلبه فاغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الظهر ولما كان ظاهرها كما قلنا مخالفا للجمهور نسبه ابن الحاجب للمدونة فقال: وفيه لو أجمع على الإسلام واغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الطهر وأردفها بقوله وهو مشكل. وقال بعض شيوخنا لعله يجمع بين القولين فيحمل الأول على غير العازم على النطق والثاني على العازم أو يحمل الأول على الآبي والثاني على غير الآبي.

واختلف هل يكفي إيمان المقلد أم لا فجمهورهم على أنه كا غير أنه عاص بإهمال النظر المؤدي إلى العلم بالله وما يجب له، وقيده الغزالي يقيد أن يكون لذلك أهلا. قيل لا يكفي قاله القاضي أبو بكر وغيره. ومذهب أهل السنة أنه لا يشترط العمل بالجوارح خلافا للمعتزلة، والواحدة قال أبو المعالي: معناه المتوحد المتعالي عن الانقسام، وقيل معناه الذي لا مثل له. وقال القشيري الواحد: الذي لا قسيم له ولا يستثنى منه.

قال الشافعي وغيره: واسم الجلالة ليس بمشتق. وقال غير واحد بل هو مشتق فإن قلت من جعل اسم الله مشتقا غير مرتجل يلزمه كون القديم مسبوقا بغيره ضرورة لأن المشتق منه سابق على المشتق فالجواب أن المشتق اللفظ لا مدلوله، أو نقول ليس المراد هنا الاشتقاق الذي هو إنشاء فرع عن أصل بل مجاوز وهو تقارب الألفاظ والمعاني صح من تعليق البسيلي رحمه الله.

وقال صاحب الأسرار: والصحيح أنه كان مشتقا ثم صار علما جمعا بين القولين واختلف في اشتقاقه فقيل من لاه إذا علا يقال لاهت الشمس إذا علت إلى غير ذلك من الأقوال. وقول الشيخ لا إله غيره تأكيد ومبالغة في ثبوت الوحدانية ونفي إله آخر لأن صيغة النفي والإثبات أبلغفي نفي الكمية المتصلة والمنفصلة.

وقد اختلف العلماء هل الأفضل للمكلف عند التلفظ بلا إله إلا الله مد الألف من لا النافية أو القصر فمنهم من اختار القصر لئلا تخترمه المنية قبل التلفظ بذكر الله تعالى ومنهم من اختار المد لما فيه من الاستغراق في نفي الألوهية، وفرق الفخر الرازي بين أن يكون أول كلمة فتقصر أو لا فتمد.

(1/20)

(ولا شبيه له إلى آخره):

أي لا شبيه له في ذاته ولا نظير له في صفاته، هكذا فسره بعض الشيوخ وتردد بعضهم في ذلك هل الأمر كما تقدم أو هما لفظان مترادفان، والولد لغة يقع على الذكر والأنثى والوالد يقع على الأب الأدنى والأعلى وهو الجد لكنه حقيقة في الأدنى مجاز في الأعلى.

(ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء):

قال الفاكهاني: يريد أن الله تعالى يجب أن يكون قديما باقيا ويستحيل عدم ذلك عليه سبحانه وتعالى ولا تناقض في كلام المؤلف كما توهمه بعض الناس حيث قال أضاف الأولية والآخرية ثم نفاهما عنه كأنه قال له أولوية لا أولوية له، له آخرية لا آخرية له وليس كما توهم لما قيل إن الأول هو السابق للأشياء والآخر هو الباقي بعد فناء الخلق وليس معنى الآخر ما له انتهاء قاله الخطابي. واعلم أن كل ما له أول له آخر إلا الجنة والنار وينبغي أن يزاد على ذلك أهلهما والله أعلم.

(لا يبلغ كنه صفته الواصفون)

قصد الشيخ بقوله ليس لأوليته ابتداء وبقوله هنا لا يبلغ كنه إلخ إلى تفسير قوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد:3]

فمعنى قوله الظاهر بآياته الباطن عن أن تكيفه العقول والأوهام فلا يبلغ كنهه أي حقيقة صفته وصف واصف لأن كنه عظمه الله لا ينتهي إليها. قال بعض الشيوخ ويفهم من كلام المصنف أن مذهبه نفى العلم بالحقيقة واختاره جماعة من المتقدمين، وأطلق الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه القول بأنه لا يعرف الله إلا الله، واختاره أكثر المتأخرين وهو مذهب الأستاذ الضرير رحمه الله تعالى وكان من المحققين وأنكر الأستاذ أبو بكر هذا القول ورده وتبعه عليه الإمام أبو المعالي مع طائفة.

وقال الباري تعلى يعلم والعلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به فلو تعلق العلم به على خلاف ما هو به لكان العلم جهلا، وقد اجتمعت الأمة على وجوب معرفة الله تعالى، ولو كانت مستحيلة لما اجتمعت عليه الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم "ومن عرف نفسه فقد عرف ربه" أي من عرف نفسه بالافتقار والذل والصغار ونفى عنها العز الاقتدار

(1/21)

عرف ربه موصوفا بالكمال منفردا بالعز والجلال منزها عن لحوق التغير والزوال متعاليا عن الأين والكيف والمثال. قال بعضهم: وخلاف الأئمة عندي في هذه المسألة خلاف في حال، فمن نفى العلم بالحقيقة فإنه مقر بأن الله تعلى لا يحاط بهوبأن جلالته وعظمته وكبرياءه لا يلحقها وهم ولا يقدرها فهم، وأن العقول قاصرة عاجزة عن إدراك ذلك الجلال ومن أثبت العلم بالحقيقة فإنه مقر بأنه تعالى عرفه العارفون بدلالة الآيات وتحققوا اتصافه تعلى بواجب الصفات وتيقنوا تنزيهه عن التشبيه بالمحدثات تقديسه عن الحدود والكيفيات وعلموا بأنه المستبد بابداع الكائنات فهو تعالى الملك المطاع الذي عزه لا يرام وسلطانه لا يضام.

(ولا يحيط بأمره المتفكرون):

يقال حاط وأحاط بمعنيين فمعنى حاطه كلأه ورعاه وأحاط به علما وهو من الواوي لظهورها في المضارع الثلاثي نحو يحوط وتنقلب ياء في المضارع الرباعي والتفكر التأمل.

(يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في مائية ذاته):

آيات الله تعالى عقلية وشرعية، فالعقلية أدلة مخلوقاته وعجائب مصنوعاته.

وفي كل شيء له أية = تدل على أنه واحد

والشرعية آيات كتابه وأدل خطابه وجملة أسراره ومعانيه، والماهية والمائية بمعنى الحقيقة وقد أخذ على الشيخ في إطلاق لفظ المائية على الباري سبحانه وتعالى. قال ابن رشد رد على الشيخ في قوله مائية ذات والصحيح أنه لا مائية لذاته فيقع التفكر. قال عبدالوهاب والمائية لا تكون إلا لذي الجنس والنوع وما له مثالا إلا أن يريد بالمائية ضربا في المجاز والاتساع.

وقوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" [البقرة:255]

: أي بشيء من معلوماته، دل على صحة ذلك الاستثناء والبعضية وإطلاق العلم على المعلوم كثير، وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنهم اللهم اغفر لنا علمك فينا. وفي قضية الخضر على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلخ يريد من معلوم الله تعالى وهذا لا خفاء به. قيل المعلومات كلها خمسة أقسام: قسم لا يعلمه أحد سواه كعلمه بذاته وصفاته وقسم علمه اللوح والقلم وهو معرفة ما جرى به القلم في اللوح وقسم علمه الملائكة وقسم علمه الأنبياء والخامس علمه الأولياء

(1/22)

فسبحانه من لا يخفى عليه شيء.

(وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم):

الكرسي مخلوق عظيم من مخلوقاته سبحانه وتعالى والعرش أعظم منه والسموات والأرض في جنبه كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض وهو بالنسبة إلى العرش أيضا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، كما ثبت في الصحيح. وقيل كرسيه علمه الكرسي العلم في اللغة ومعنى وسع أنه لم يضق عن السموات والأرض لسعته فما ظنك بسعة علم خالقه ومعنى لا يؤوده حفظهما أي لا يشغله وهذه مناسبة ظاهرة لأن النفوس أبدا تجد من التعظيم والهيبة عند سماع الأشياء المحسوسة الدالة على الكبرياء ما لا تجده عند عدم ذلك والمراد بذكر الكرسي والعرش الذي هو أعظم منه استشعار النفوس عند سماع ذلك من عظمة الله وعزة اقتداره لا أنهما محلان للاستقرار، تنزه الخالق عن التحيز والافتقار إلى المحل ولهذا ختم الآية الكريمة بقوله (وهو العلي العظيم) [البقرة: 255]

اسمان من أسمائه تعالي يدلان صريحا على تنزيه الحق وتقديسه عن المكان والجهة وعلى ثبوت العلو والعظمة.

(العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير):

قال القشيري رحمه الله تعالي: اعلم أن العالم من أسمائه سبحانه وتعالي ورد به نص القرآن وهو عالم وعليم وعلام وأعلم والتوقيف في أسمائه سبحانه وتعالى معتبر والإذن في جواز إطلاقها منكر إلا ما ورد به الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة ولهذا لا يسمى عارفا ولا فطنا ولا داريا ولا عاقلا وإن كان الجميع بمعنى واحد وعلمه تعالى نعت من نعوته.

قال غيره والخبير بمعنى العليم، وقد يراد بالخبير المختبر والمدبر. قال الجوهري والتدبير في الأمر أن ينظر إلى ما تؤول إليه عاقبته والتدبر التفكر فيه. وقال غيره هو النظر في أدبار الأمور، وعواقبها ليوقع على الوجه الأصلح والأكمل وهذا من صفات البشر، وأما بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى فمعناه انبرام الأمر وتنفيذ عبر عنه بذلك تقريبا للأفهام وتصويرا لأن الله سبحانه وتعالى عالم بعواقب الأمور كلها من غير نظر ولا فكر يعلم ما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.

واعلم أن المدبر لم يرد في الأسماء الحسنة وورد في القرآن في قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) [السجدة: 5]

واختلف فيما ورد من أسمائه تعالى

(1/23)

بخبر الآحاد فمنعه الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله وحجته قوله تعالى: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) [الأعراف: 28]

وخبر الواحد لا يحصل علما وأجازه الجمهور. قالوا لأنه من باب العمل والعمل يكفي فيه خبر الواحد.

والقدير مبالغة في القدرة لأن قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات دليل على ظهور الأفعال المتقنة، والسميع البصير سواء وهما من أبنية المبالغة من سامع ومبصر والسماع حقيقة في إدراك المسموعات مجاز فيما عداها كإطلاق معنى العلم والإبصار حقيقة في رؤية الموجودات وقد يستعمل بمعنى العلم مجازا.

وقد أثبت تعالى لنفسه السمع والبصر في غير ما موضع من القرآن الكريم ولا خلاف في ذلك بين الأئمة إلا عند البلخي ومن تابعه من معتزلة البغداديين والمراد بالعلي الكبير مكانة ورفعة وشرفا لاستحالة الجسمية والمكان عليه سبحانه.

(وأنه فوق عرشه المجيد بذاته):

روي المجيد بالرفع على أنه خبر مبتدأ وروي بالخفض على النعت للعرش وهذا مما انتقد على الشيخ رحمه الله في قوله بذاته فإنها زيادة على النص فمن مخطئ ومن معتذر، قال الفاكهاني: وسمعت شيخنا أبا علي البجائي يقول أن هذه لفظة دست على المؤلف رضي الله عنه فإن صح هذا فلا اعتراض على الشيخ. وقال الشيخ أبو عبدالله محمد بن محمد بن سلامة الأنصاري من متأخري التونسيين: الفقيه إذا فهم ما ذكر فليس بمنتقد أي ما ذكر اعلم أولا أن هذا الكلام وهو الإطلاق ليس من إطلاق الشيخ المؤلف رحمه الله وإنما هو من إطلاق السلف الصالح والصدر الأول نص، على ذلك الإمام أبو عبدالله بن مجاهد في رسالته قال فيها ما نصه ومما أجمعوا على إطلاقه أنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه يريد إطلاقا شرعيا ولم يرد في الشرع أنه في الأرض.

فلهذا قال دون أضه وهذا مع ثبوت علمهم باستحالة الجهة عليه تعالى فليس هذا عندهم مشكلا لعلمهم بفصاحة العرب واتساعهم في العبارة، ونقل هذا الكلام بعينه الشيخ أبو محمد في مختصره وغير لفظه هنا قصدا للتقريب على المبتدئ، فإذا تقرر هذا فالناس عالة للصدر الأول، وإذا ثبت على إطلاقهم هذا فيتعين علينا تفهمه بالتمثيل والبسط إذا غلبت العجمة على القلوب حتى ظنت أن هذا الإطلاق يلزمه منه إثبات الجهة في حق المنزه عنها تعالى وتقدس، فأما لفظ الفوقية فمشترك بين الحس والمعنى

(1/24)

والقرينة تخصص المراد منهما، ويكون من باب الحقيقة والمجاز فهو حقيقة في الأجرام مجاز في المعنى وكم من مجاز يرجح على الحقيقة.

وأما العرش فهو اسم لكل ما علا وارتفع والمراد به هنا مخلوق عظيم وهو سقف الجنة قال الله تعالى: (والله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [النمل: 26]

، وأما المجد فهو الشرف والرفعة. فإذا تقرر هذا فحمل الفوق على الحس معلوم بالاستحالة بالدليل اليقيني لتقديسه سبحانه على الجواهر والأجسام ومعلوم ذلك من سياق كلام المؤلف رحمه الله بحيث لا يوهم على ربه أنه أراد الحس فهو تعالى فوق العرش فوقيه معنى وجلال وعظمة.

ثم الفوقية المعنوية من حيث هي فوقية إما أن تكون واجبة بالذات أو مستفادة من حكم الغير لا ترجع لمعنى في الذات وإنما ذلك بحكم الله وتشريفه فهو تعالى وصف العرش بالمجد والعظم وجعله أعظم المخلوقات وعلو الله تعالى ومجده ليس كعلو غيره بل هو مخالف لكل المخلوقات مخالفة مطلقة، فمجده تعالى وعظمته وعلياؤه حكم واجب له لذاته لا يشارك فيه وسواء على هذا قلنا إن المجيد نعت للعرش أم لا فأراد المصنف رحمه الله تعالى أن يبين أن ذلك العلو والمجد والجلال الذاتي ليس إلا لله تعالى رب العالمين فكأنه يقول هو العلي المجيد بذاته ليس مستفادا من غيره.

قلت وفي أجوبة عز الدين بن عبد السلام لما سئل عن قول الشيخ وأنه فوق عرشه المجيد بذاته هل يفهم منه القول بالجهة أم لا وهل يكفر معتقدها أم لا؟ فأجاب بأن ظاهر ما ذكره القول بالجهة وأن الأصح أن معتقد الجهة لا يكفر.

(1/25)

(وهو في كل مكان بعلمه):

قال القاضي أبو الوليد بن رشد إنما يقال علمه محيط بكل شيء ولكنه أراد أن يبين قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) [المجادلة:7]

والمقصود أن الله تعالى عالم بكل شيء. قال الفاكهاني: روى ابن عباس صلى الله عليه وسلم ما من عام إلا وهو مخصوص إلا أربع آيات، الأولى قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) [آل عمران: 185]

الثانية قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود:6].

الثالثة: قوله تعالى: (وهو بكل شيء عليم) [الحديد:3].

الرابعة: قوله تعالى: (وهو على كل شيء قدير) [المائدة: 120].

وكان يغلط من يقول إن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات لأن الشيء الممكن المعدوم لا يطلق عليه شيء عندنا يريد حقيقة فما ظنك بالمستحيل.

(1/26)

(خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد):

خلق يكون بمعنى أوجد ويكون بمعنى التقدير وظاهره هنا الإيجاد والإنسان هنا المراد به الجنس ويحتمل أن يراد به آدم عليه السلام وضعفه بعضهم وقال هو عام في غير الأنبياء عليهم السلام لأجل ذكر وسوسة النفس لأنهم معصومون من ذلك والوسوسة ما يختلج في النفس واستعمالها في الغالب في غير الخير فلهذا أضيفت إلى النفس، قال الله تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) [يوسف: 53]

إلى غير ذلك. قال عز الدين في مختصر الرعاية اختلف في أخذ الحذر من الشيطان فقالت طائفة يجوز التحرز منه ليعمل على طاعة الله تعالى ويجعلها بدلا منه.

وقالت طائفة أخذ الحذر مناف للتوكل إذ لا قدرة على الإغواء إلا بمشيئة الله تعالى والفرقتان غالطتان ومخالفتان للإجماع ونصوص القرآن على وجوب الحذر من الكفار الذين نراهم فالحذر من عدو يرانا ولا نراه أولى.

والوريد عرق في العنق وإضافة الحبل إليه من إضافة الجنس إلى نوعه نحو قولهم لا يجوز حي الطير بلحمه وقرب الحق تعالى من الإنسان قرب إحاطة لا قرب مسافة أي أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء من أمور عبيده.

(ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين):

هذا تنبيه على تعلق علمه تعالى بالخفيات والورقة قيل أي ورقة كانت في جميع أقطار الأرض وقيل المراد بها ورقة شجرة تشبه الرمان تحت ساق العرش فيها أوراق على عدد أرواح الخلائق مكتوب في كل ورقة اسم صاحبها وملك الموت ينظر إليها

(1/27)

فإذا اصفرت منها ورقة علم قرب أجل صاحبها فيوجه أعوانه فإذا سقطت قبض روحه.

وفي بعض طرق هذا الأثر أن سقوطها على ظهرها علامة على حسن العاقبة وسقوطها على بطنها علامة على سوء العاقبة، والعياذ بالله، والمراد هنا بالحبة أقل قليل عبر عنه بالحبة تقريبا للأفهام. والرطب واليابس قيل على ظاهرهما. وقيل الرطب قلب المؤمن واليابس قلب الكافر. وقيل الرطب المدائن واليابس البادية.

والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ أخبر تعالى عنه أنه فيه علم كل شيء تقريبا للأفهام فإن الشيء المكتوب لا ينسى فيما يعتاده الخلائق وإلا فعلمه تعالى متعلق بجميع المعلومات على التفصيل. قال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام قال: (علمها عند ربي في كتاب) [طه: 52]

ثم نفى ما يستحيل من ذلك من توقع نسيان وضلال فقال: (لا يضل ربي ولا ينسى) [طه: 52].

(على العرش استوى وعلى الملك احتوى):

وقال ابن عطية قالت فرقة هو بمعنى استولى وقال أبو المعالي وغيره هو بمعنى القهر والغلبة، وقال سفيان الثوري فعل فعلا في العرش سماه استوى. وقال الشعبي وغيره هذا من متشابه القرآن ولا يتعرض لمعناه. قال مالك بن أنس لرجل سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني. زاد غيره والإيمان به واجب فأدبر الرجل وهو يقول يا أبا عبدالله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما وفق أحد فيها توفيقك.

قال القاضي أبو الوليد بن رشد وقول من قال: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة. وقال غيره الاستواء هنا بمعنى الارتفاع وأبطل لكونه يشعر بالانتقال من سفل، ومعنى على الملك احتوى أي كل شيء هو مملوك لله تعالى في قهره وقبصته فيلزم من ذلك استغناؤه تعالى عن كل شيء الغنى المطلق إذ هو منتهى الحاجة وكل ما سواه فقد أحاطت به قدرته ونفذت فيه مشيئته.

(له الأسماء الحسنى والصفات العلي لم يزل بجميع صفاته وأسمائه تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة):

الأسماء جمع اسم وهو مأخوذ من السمو دليله الجمع والتصغير. وقالت المعتزلة

(1/28)

ومن السمة وهو باطل والحسنى أي المستحسنة والحسن ما حسنه الشرع فلا أثر للاشتقاق فلهذا يجوز عالم ولا يجوز عارف فأسماؤه تعالى توقيفية، فالاسم يطلق ويراد به المسمى ويطلق ويراد به التسمية. واختلف هل هو حقيقة في المسمى مجاز في التسمية أم لا على ثلاثة أقوال: فقيل بذلك فقال الجمهور، وقيل بالعكس قاله المعتزلة، وقيل: هو حقيقة فيهما قاله الأستاذ أبو منصور من أئمتنا ومما يدل على المراد أن الاسم يراد به المسمى قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى:1].

وقوله تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءابآؤكم) [يوسف: 40]

مما يدل على أن الاسم يراد به التسمية قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) [الأعراف:180]

وقوله صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعة وتسعين اسما) واستشكل بعض الشيوخ هذا الخلاف لأنه لو أخر الإنسان تسمية ولده شهرا مثلا فجسمه قبل التسمية موجود وإنما طرأ بعد ذلك قال وينبغي أن يحمل اختلافهم على مثل قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى:1]

و (فسبح باسم ربك العظيم) [الحاقة: 52]

هل المراد عظم هذا الاسم فلا ينطق به إلا بالتعظيم والتوقير أو عظم هذا المسمى بتنزيه الله تعالى عن الأضداد والأنداد والشركاء والأولاد والله تعالى أعلم.

وقال غيره سببه الخلاف بيننا وبينهم أنا نقول بإثبات الكلام القديم وهم يقولون بنفيه وكذلك سائر الصفات فلم يثبتوا لله تعالى اسما في أزليته ولا صفات وقد شهدت قضايا العقول ودلائل الشرع المنقول بوجوب اتصاف الخالق سبحانه بصفات، الكمال باستحالة النقص وكل ما ينافي الجلال ولهذا أكد المصنف رحمه الله هذا الفصل بقوله تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة أي أن صفاته تعالى يجب أن تكون قديمة لاستحالة قيام الحوادث به وكذلك أسماؤه لأنها ثابتة في الأزل بكلامه القديم.

(كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه وتجلى للجبل فصار دكا من جلاله):

قال بعض الشيوخ هذا الكلام يتضمن مسائل: الأولى: الكلام على الحقيقة كله لله عز وجل وإضافته لغيره مجاز لأنه إن كان

(1/29)

قديما فهو صفته وإن كان حادثا فهو فعله.

الثانية: الكلام في اللغة ينطلق على ما بين حقيقة ومجاز فيستعمل مجازا في اللفظ المهمل والكتابة والإشارة ودلالة الحال، ويستعمل عند النحاة في الجملة المفيدة فيكون حقيقة عرفية خاصة، ويستعمل في اللفظ الموضوع للمعنى وعلى المعنى القائم بالنفس فقيل حقيقة في المعنى القائم بالنفس وقيل بالعكس وهو مذهب المعتزلة لأنهم ينكرون كلام النفس فالكلام عندهم لا يكون حقيقة إلا في اللفظ.

الثالثة: اتفقوا على أن الله سبحانه متكلم واختلفوا في وجه كونه متكلما فأهل الحق يقولون هو متكلم بكلام قائم به ويعبرون عنه بكلام النفس، وحده بعضهم بأنه قول قائم بالنفس يعبرون عنه بالعبارات والاصطلاح عليه من العلامات، والمعتزلة يقولون حقيقة المتكلم فاعل الكلام وأنه سبحانه يتكلم بكلام يخلقه في جسم واحد.

الرابعة: الله سبحانه كلم موسى عليه السلام ويدل عليه قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما) [النساء: 164]

(ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) [الأعراف: 143]

وقوله: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) [الأعراف: 144]

قال بعضهم اجتمعت الأمة سنيها ومعتزلها على أن الله تعالى كلم موسى في الجملة من غير تفصيل وإنما اختلفوا في الكيفية.

فقال أهل الظاهر نؤمن بالكلام ولا نقول بالكيفية مصيرا منهم إلى أن ذلك من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى واختلف الباقون، فقالت الباطنية خلق الله تعالى لموسى فهما في قلبه وسمعا في أذنيه سمع به كلاما ليس بحرف ولا صوت، وقال بعضهم اتفق أهل الحق على أنه تعالى خلق في موسى إدراكا أدرك به كلامه من غير واسطة وبه اختص سماعه له والله تعالى قادر على مثل ذلك في خلقه وأن موسى علم سماعه كلام الله تعالى إما بوحي وإما بمعجزة نصبها له على ذلك، وخلق فيه علما ضروريا بذلك.

وقالت المعتزلة خلق الله لموسى فهما وصوتا في الشجرة سمعه موسى بإذنه بناء على مذهبهم في إنكار كلام النفس وأن المتكلم حقيقة فاعل الكلام ومذهبهم في ذلك باطل لأنه قد يعلم حقيقة المتكلم من لا يعلم كونه فاعلا ولأنه يلزم أن يكون كل أحد يسمع كلام الله لسماعه الكلام المخلوق لله تعالى فلا يكون بين موسى وغيره ولا بين

(1/30)

الأنبياء وغيرهم فرق ولا خصوصية ولأنه لو جاز أن يكون متكلما بكلام قائم بغيره لجاز أن يكون عالما بعلم قائم بغيره وقادرا بقدرة وإرادة قائمتين بغيره.

(وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد):

قال بعض الشيوخ: القرآن لغة الجمع ومنه قولهم قرأت الماء في الحوض إذا جمعته. وقيل ليس بمشتق من شيء وإنما هو توقيف ويطلق تارة ويراد به الكلام القديم ويطلق تارة ويراد به العبارة عنه التي هي قراءة الخلق ويطلق على المكتوب أيضا لشهرته في الكلام القديم فلا يفهم عند الإطلاق إلا هو، فلهذا امتنع إطلاق القول بالقرآن أنه مخلوق واختلف العلماء إذا كان مقيدا مثل أن يقول كلامي بالقرآن مخلوق أو نطقي به أو ما أشبه ذلك في الصيغ التي ينتفي معها الإيهام. فذهب الإمام أبو عبدالله البخاري وعبدالله بن سعيد الكلاعي إلى جواز ذلك وهو مذهب أكثر المتأخرين وذهب الإمام مالك فلم يسمع عنه في ذلك شيء.

قال بعضهم: والصحيح ما ذهب إليه الإمام البخاري ومن تابعه في ذلك لأن الحكم إذا علل بعلة فإنه ينتفي بانتفائها وأما امتناع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من ذلك حين امتحن على أن يقول بخلق القرآن فأبى فقيل له فقل لفظي بالقرآن مخلوق فقال ولا أقول ذلك، ولا يسمع من التلفظ بالخلق مع ذكر القرآن مع ما في ذكر اللفظ من معنى المج والطرح فاتقى رضي الله عنه أن يوهم المتبدعة على السامعين القول بخلق القرآن ويتوصلون بذلك إلى غرضهم فامتنع من كل إطلاق يؤدي إلى ذلك حسما للذريعة وصبرا على ما أوذي في الله عز وجل. ثم حدثت فرقة أخرى بعد وفاته رحمه الله وقالوا: إنما امتنع من ذلك لأنه يقول بقدم الحروف فاعتقدوا ذلك ونسبوه إليه وتسموا بالحنابلة وحاشاه منهم والله تعالى حسيبهم.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق"

(1/31)

وقال السيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمحضر الجمهور من الصحابة رضي الله عنهم أني ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن وسمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلا وهو يقول يا رب القرآن فنهاه عن ذلك وقال القرآن غير مربوب وإنما المربوب المخلوق فمن قال القرآن مخلوق يؤدب أشد الأدب.

وروي عن مالك أن رجلا سأله عمن يقول القرآن مخلوق فأمر بقتله وقال هو كافر بالله وقال لسائل وإنما حكيته عن غيري فقال له مالك إنما سمعناه منك قيل وهذا من مالك رحمه الله إنما هو على وجه الزجر والتغليظ بدليل أنه لم ينفذ قتله.

(والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره):

وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه قال بعض الأئمة أجمعوا على أن قدر الله هو عين إرادته لقول العرب قدر الله كذا أي أراده، وما ذكرناه عن بعض الأئمة نقله ابن سلامة، ونقل التادلي عن ناصر الدين عن بعضهم أن القدر غير الإرادة واختلفوا في قضائه فمنهم من رده إلى الإرادة ومنهم من رده إلى الفعل والخير المراد به الطاعة والشر المراد به المعصية والحلو لذة الطاعة والمر مشقة المعصية. وقيل الحلو والخير لفظان مترادفان وكذلك الشر مع المر والإيمان بالقدر واجب لا يصح الإيمان بدونه وقد تبرأ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ممن أنكر القدر وقال لا يتقبل الله منهم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا آخرهم أنا".

وقال: "القدرية مجوس هذه الأمة" والقدري هو مدعي القدر لنفسه وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لقدري: أتقدر بالله أم دون الله فإن قلت بالله فأنت مؤمن وإلا ضربت عنقك.

(علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به):

هذا راجع إلى ما تقدم وأن الأفعال مخلوقة لله عز وجل خلافا للقدرية المثبتين مع الله خالقين كثيرين تعالى الله عن قولهم وتقدس مع أنا لا نقول بالجبر المحض بل نثبت للإنسان الكسب التهيؤ الذي أثبته له الشرع وقد نطق به القرآن العزيز في آي كثير كقوله تعالى: (إن كنتم لا تعلمون) [النحل: 43]

(بما كنتم تكسبون) [يونس: 52]

ونحو ذلك ولأن كل واحد يفرق بين حركة المرتعش وغير المرتعش فإن

(1/33)

المرتعش لا اختيار له بخلاف غيره والله أعلم.

(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير):

قيل: ألا مركبة من همزة الاستفهام ولام النفي والاستفهام إذا أدخل على النفي أفاد التحقيق والمعنى ألا يعلم الخالق خلقه أيصدر مخلوق من غير أن يعلمه خالقه فمن في موضع رفع على الفاعلية والمفعول محذوف ولا يصح أن تكون في موضع نصب لأنه يلزم عليه الاعتزال، واللطيف: اسم من اسمائه الحسنى وهو إما يعني ملطف فيكون من أسماء الأفعال أو بمعنى الباطن وهو الذي لا يتصور في الأوهام ولا يتخيل في الضمائر والأفهام فيكون من أسماء الأفعال أو بمعنى التنزيه.

ويحتمل أن يكون بمعنى العليم أي أنه تعالى يعلم الخفيات يعلم السر وأخفى فيكون مبالغة في تعلق العلم فيكون من أسماء الصفات قاله بعضهم وأما الخبير فتقدم معناه.

(يضل من يشاء فيخذله بعدله ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد):

الهداية هي خلق القدر والمقدور موافقا لأمر الله تعالى والضلالة هي خلق القدرة والمقدور مخالفا لأمر الله تعالى وضابط هذا كله أنه لا خالق إلا الله سبحانه فكل مخلوق فعن قدرته حدث وعن إرادته تخصص والهدى والضلال مخلوقان من جنس الكائنات وقد صرح القرآن العزيز بهذا الإطلاق فقال: (يضل من يشاء) [النحل:93]

وغيرها وقال (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف: 17]

وقال: (ومن يهد الله فما له من مضل) [الزمر: 37]

وما ورد من قوله: (بما كنتم تعملون) [المائدة: 105]

بما كنتم تصنعون إلى غير ذلك من الآي التي فيها إضافة الفعل إلى العبيد فالمراد بذلك إضافة مجازية لما لهم من الكسب.

(تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غنى أو يكون خالق لشيء ألا هو رب العباد ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم):

ذكر أنه اجتمع عبد الجبار الهمداني يوما مع الأستاذ أبي الحسن الأشعري فقال عبدالجبار سبحان من تنزه عن الفحشاء ففهم عنه الأستاذ أنه يريد عن خلقها فهي

(1/34)

كلمة حق أريد بها باطل. فقال الأستاذ: سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء فالتفت عبد الجبار وعرف وفهم عنه فقال له: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال له الأستاذ: أفيعصى ربنا قهرا؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردي أحسن إلي أم أساء؟ فقال له الأستاذ إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن كان منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء فانصرف الحاضرون وهم يقولون والله ليس عن هذا جواب.

واختلف العلماء هل يجوز إطلاق القول بأن الله سبحانه أراد الكفر والمعصية أم لا فقال عبدالله بن سعيد القلانسي لا يجوز إطلاق ذلك وإن صح في الاعتقاد لأن الإطلاق يلزم فيه الأدب مع الله تعالى ولأن ذلك يوهم أن تكون المعصية حسنة مأمورا بها كما نقول الأفعال كلها الله تعالى ولا نقول الصاحبة لله تعالى.

وقال غيره يجوز ذلك وليس ما مثل به مطابقا لأن الإيهام في هذا المثال قوي والإيهام في الأول ضعيف وهو من باب لزوم الأدب فيمكن أن يمنع. قال ابن العربي قال شيخنا والصحيح جواز ذلك كله حيث لا إيهام ومنعه حيث الإيهام والرب هو المصلح للمربوب القائم بأموره الخالق لمنافعه الرافع عنه مضاره.

والبتاعث اسم من أسمائه ومعناه هنا الباعث الرسل بالأمر والنهي إلى المكلفين من عباده والأمر والنهي يرجعان إلى كلامه عز وجل فيكون الاسم على هذا من أسماء الصفات والرسول هو المبلغ عن الله عز وجل أمره ونهيه بإذن الله تعالى ووحيه.

وأشار بقوله لإقامة الحجة عليهم إلى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء: 165]

وإلى قوله (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) [المائدة: 19]

الآية. وقالت المعتزلة انبعاث الرسل عليهم السلام حكم واجب بالعقل بناء منهم على التحسين والتقبيح والصلاح والأصلح وهو باطل. وقالت البراهمة انبعاث الرسل محال ولا فائدة في ذلك والمعتزلة أفرطوا وتحكموا على العزيز وهو تعالى حليم لا يعجل والبراهمة فرطوا فجهلوا أمر ربهم.

(ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم فجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) الختم لغة الطبع والتغطية على الشيء بحيث لا يدخله شيء الخاتم الطابع وفيه أربع لغات خاتم بفتح التاء وكسرها وخاتام وخيتام واعلم أنه يلزم من ختم النبوة ختم الرسالة ولا ينعكس، ولذلك قال الشيخ ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة فلو قال النبوة في صدر كلامه لم يمكنه أن يقول بعدها والرسالة والنذارة

(1/35)

والنبوة ولهذا قال الله تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبين) [الأحزاب: 40]

قيل وإنما لم يقل والبشارة بعد قوله والنذارة لوجهين أحدهما أن النذارة تستلزم البشارة لأن من أنذرك بالعقوبة على فعل شيء فقد بشرك بالسلامة من ذلك مع الترك الثاني أن يكون مراعاة لقوله صلى الله عليه وسلم "ذهبت النبوة وبقيت البشارة" يريد الرؤيا والله أعلم.

قال القرافي: الرسالة أفضل من النبوة لأن الرسالة ثمرتها هداية الأمة والنبوة قاصرة على النبي صلى الله عليه وسلم فنسبتها إليه كنسبة العالم إلى العابد. وكان عز الدين يذهب إلى تفضيل النبوة لشرف المتعلق لأن المخاطب بها الأنبياء والمخاطب بالرسالة الأمة وهو ضعيف لأن الرسول مندرج في خطاب التبليغ وورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فالمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

قال أبو ذر رضي الله عنه قلت يا رسول الله من كان أولهم قال: "آدم عليه السلام" قلت: يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال: "نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه" ثم قال: "يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث وأخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم ونوح وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول الرسل آدم وآخرهم محمد" صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين والحديث طويل جدا خرجه أبو بكر الآجري في أربعينه.

واعلم أن البشارة خاصة بالطائعين كما أن النذارة خاصة بالعاصين والدعوة عامة لجميع المكلفين والبشارة خاصة أيضا للمؤمنين قال الفاكهاني: والمعتبر في البشارة الأول خاصة بخلاف النذارة فإنها معتبرة في الجميع قال الفقهاء فيمن قال من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر فبشره واحد بعد واحد لم يعتق غير الأول وفي النذارة يعتق جميعهم. قال وانظر إذا بشره جماعة دفعة واحدة هل يعتقون أم لا، والظاهر عتقهم والفرق بين البشارة والنذارة في هذا المعنى أن مقصود البشارة حصل بالأول بخلاف النذارة فإنه يتزايد الخوف بتزايد المنذرين.

وأما إذا بشره جماعة معا فبالكل وقعت البشارة قيل وإنما وقع الاختصاص بالتسمية بالسراج المنير دون الشمس والقمر لوجهين أحدهما أن الله تعالى شبهه به فيقتصر على ذلك. الثاني أن نور الشمس والقمر لا يؤخذ منهما نور وإذا غابا غاب نورهما ونور السراج تؤخذ منه الأنوار من غير تكلف ومن غير نقص منه وإذا ذهب نور الأصل بقي نور فرعه ونوره عليه السلام كذلك تؤخذ منه الأنوار من غير تكلف

(1/36)

ولا يذهب بذهابه عليه الصلاة والسلام.

قيل والأشياء المنتفع بها في الدنيا بالنسبة إلى الزيادة والنقصان عند الانتفاع بها ثلاثة أقسام؛ قسم إذا انتفع به زاد وهو العلم تعليما وعملا، وقسم إذا انتفع به نقص بل يذهب وهو المال؛ وقسم إذا انتفع به لا يزيد ولا ينقص وهو السراج ونحوه من الاقتباسات ولا يبعد أن يلحق بذلك النظر في المرآة والاستظلال بالجدران.

(وأنزل عليه كتابه وشرح به دينه القويم وهدى به الصراط المستقيم):

الكتاب هو القرآن، قال الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) [النساء:113]

ووصفه بالحكيم إما لأنه أحكمت آياته فلا يقع فيها نسخ بعد إحكامها أو لأنه أحكمت فيه علوم الأولين والآخرين أو لأنه أحكم على وجه لا يقع فيه اختلاف كما قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]

فحكيم على هذا بمعنى محكم قال الشيخ أبو اسحاق: القرآن ستة آلاف آية وستمائة وست وستون والمتحدى به منه ثلاث آيات فهو ألفا معجزة ومائتان ونيف وجعله الله تعالى معجزة باقية إلى قيام الساعة بخلاف غيره من المعجزات فإنها تنقضي بانقضاء وقتها تشريفا منه لسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ودليلا على مكانته وعلو منزلته ومعنى شرح وسع وأفهم والضمير في "به" يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يعود على الكتاب الحكيم والأول أظهر لأنه لو أراد الكتاب لقال فشح بالفاء.

والدين لفظ مشترك والمراد به هنا الإسلام قال الله عز وجل: "إن الدين عند الله الإسلام" [آل عمران:19]

والقويم المستقيم وهدى أي أرشد والضمير في به مثل الذي قبله والصراط المراد به هنا طريق الجنة.

قال الله عز وجل: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: 153]

قال القاضي أبو بكر بن الطيب رضي الله عنه الصراط صراطان حسي ومعنوي فالمعنوي في الدنيا والحسي في القيامة فمن مشى على المعنوي هنا وفق للحسي يوم القيامة.

(وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون):

مما يجب الإيمان به أن الساعة آتية لا ريب فيها بلا امتراء والساعة هي القيامة

(1/37)

سميت بذلك إما بالنسبة إلى كمال قدرته وجلاله كأنها ساعة وإما بالنسبة إلى تسمية الكل باسم البعض.

والريب هو الشك ومعنى لا ريب فيها وإن كان قد ارتيب فيها أي لا ريب فيها في علم الله تعالى وملائكته ورسله والمؤمنين أو ما حقها أن يرتاب فيها أو أنها ليست سببا للريب فيها ولا مظنة له لوضوح الدلالة عقلا ونقلا على إتيانها إلا أنه لا يعلم وقت إتيانها على الحقيقة إلا الله سبحانه لقوله: (إليه يرد علم الساعة) [فصلت: 47]

إلى غير ذلك لكن لها علامات وشروط ومن جملة ذلك بعثه صلى الله عليه وسلم وظهور أمته.

ومنها أشراط مؤكدة للقرب كالدجال والدخان وطلوع الشمس من المغرب ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. واختلف في السابق فقيل أولها فساد البلاد وقيل خراب مكة ونقل حجرها إلى البحر وقيل الدجال وقال ابن وهب وابن حبيب أولها الفتن ثم الدجال ثم نزول عيسى عليه السلام ثم يأجوج ومأجوج ثم طلوع الشمس من مغربها ثم كثرة الشر والأشرار ثم الدابة ثم الدخان ثم الريح ثم نار تسوق الناس إلى المحشر.

وفي مسلم أولها طلوع الشمس من المغرب ويغلق عند ذلك باب التوبة على المؤمن والكافر. قال الله تعالى: (يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) [الأنعام: 158]

ثم تقوم الساعة فينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم اختلف العلماء فمن قائل بعدم السموات والأرض والعرش والكرسي والجنة والنار، ثم يعيدها محتجا بقوله تعالى: "كل من عليها فان" [الرحمن: 26]

(كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص: 88]

وقوله (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا) [الأنبياء: 104]

ومن قائل العرش والكرسي والجنة والنار لا تهلك.

وقال ابن عباس مثله وزيادة القلم واللوح والأرواح قال بعض الشيوخ وأجمع أهل الحق على القول برد الجواهر بأعيانها وإنما اختلفوا في الأعراض، والجمهور على أنها تعاد بأعيانها واختلفوا هل كانت الجواهر عدمت ثم أعيدت يوم القيامة أو كانت متفرقة فجمعها الله تعالى. قال الإمام أبو المعالي رضي الله عنه لم يقم دليل قاطع على تعيين أحد هذين الجائزين والظواهر تقتضي الإعدام بالتفريق فإذا قلنا بالإعدام فترد بأعيانها.

قال الأستاذ أبو الحجاج الضرير رحمه الله تعالى في هذا المعنى:

(1/38)

ورده بعد صريح العدم = إلى الوجوه جائز في الحكم

فخالق الشيء كما ميزه = بالعلم أولا فلن يعجزه

كون الابتداء والإعادة = بالعلم والقدرة والإرادة

وأما إذا قلنا بالتفريق لا بالإعدام فتجتمع الجواهر وتخلق فيها الصفات بأعيانها كما كانت أول مرة وكل ما هو في مادة الإمكانن فالقدرة صالحة لإيقاعه.

(وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات):

أي ضاعف جزاء الحسنات والتضعيف الزيادة والتكثير. قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى والتضعيف خمس مراتب أولها الحسنة بعشر أمثالها قال الله تعالى: (ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160]

الثانية بخمس عشرة في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص "صم يومين ولك ما بقي من الشهر" فالحسنة بخمس عشرة الثالثة بثلاثين في الحديث نفسه "صم يوما ولك ما بقي من الشهر" فالحسنة بثلاثين الرابعة بخمسين في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال "من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف خمسون حسنة لا أقول ألم حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف".

الخامسة بسبعمائة قال الله عز وجل (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبة مائة حبة) [البقرة: 261]

فهذه خمس مراتب التضعيف فيها مقدر ومرتبة سادسة غير مقدرة وهو أجر الصابرين. قال الله تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10]

وذكر غيره قولا ثانيا أن أجره مقدر قال وليس المراد بالحسنة أجر العبادة فإن الصلاة مثلا مشتملة على أنواع من العبادات كالقراءة والتسبيح والخشوع وغير ذلك. وإنما المراد الصلاة بكمالها هي حسنة فمن أتى ببعض صلاة لم يدخل في هذا أيضا إجماعا فإن صلاها فذا فتضاعف له عشرا بالوعد الأصلي فإن صلاها في جماعة فبمائتين وخمسين فإن كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبمائتي ألف وخمسين ألف والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

(1/39)

ويظهر أثر هذا التضعيف مع الموازنة، الصفح هو التجاوز والعفو والنظر في التوبة في عشر مسائل:

الأولى: في حقيقتها قال الإمام أبو المعالي رضي الله عنه حقيقتها الندم على المعصية لرعاية حق الله تعالى. وقال بعضهم حقيقتها نفرة النفس عن المعصية بحيث يحصل منه الندم على المعاصي والعزم على ترك في الاستقبال والإقلاع في الحال فيرد المظالم ويتحلل من الأعراض ويسلم نفسه للقصاص إن أمكن ذلك قال ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "الندم توبة" أي معظمها الندم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة".

الثانية: إذا وقعت التوبة بشرائطها مكملة فهل يقطع بها أم لا فذهب الإمام أبو بكر الباقلاني إلى أنه لا يقطع بها وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أنه يقطع بها والإجماع على قبولها قطعا من الكافر لوجود النص المتواتر قال الله تبارك وتعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38]

بخلاف الآثار والأحاديث الواردة بالعموم فإنها تتناول المغفرة تناولا ظاهرا وليست بنص في المسلم إذا تاب كقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر: 53]

الآية.

وما ورد من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (والتوبة تجب ما قبلها) فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بتوبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه وهذا والذي قبله ذكره القاضي لما قيل له إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن وقد ذكر الشيخ القاضي ابن عطية أن جمهور أهل السنة على قول القاضي أبي بكر قال: والدليل على ذلك دعاء كل واحد من التائبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعا بها لما كان معنى للدعاء في قبولها ذكره في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) [التحريم: 8]

ويرد استدلاله بأن ذلك منه على طريق الإشفاق منهم.

الثالثة: هل يجب عليه تجديد الندم إذا ذكر الذنب أم لا في ذلك قولان للقاضي وإمام الحرمين والخلاف في هذه المسألة يشبه ما تقدم والله أعلم.

(1/40)

الرابعة: إذا تاب ثم عاود الذنب فذهب القاضي إلى أنها منقوضة لأن من شرطها الندم ولا يتحقق إلا بالاستمرار واختاره ابن العربي وذهب إمام الحرمين إلى أنها ماضية وهذه معصية أخرى واختاره المتأخرين ولم يذكر ابن عطية غيره مستدلا بأنها كسائر ما يحصل من العبادات إذ هي عبادة.

الخامسة: هل توبة الكافر نفس إيمانه أو لا بد من الندم على الكفر؟ فأوجبه الإمام وقال غيره بل يكفيه إيمانه لأن كفره ممحق بإيمانه وإقلاعه عنه قال الله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38]

السادسة: إذا لم يرد المظالم إلى أهله مع الإمكان من ذلك فصحح الإمام توبته وهو مذهب الاجمهور وقيل إنها لا تصح.

السابعة: زمانها ما لم يغرغر قال الله تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) [النساء: 18]

وما لم تطلع الشمس من مغربها قال الله تعالى: (يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) [الأنعام: 158]

قال العلماء المراد بها طلوع الشمس من مغربها.

الثامنة: مذهب أهل السنة تصح التوبة من بعض الذنوب دون بعض.

التاسعة: قال صاحب الحلل وغيره اختلف في توبة القاتل عمدا فقيل لا توبة له لقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) [النساء: 93]

الآية وهذا مذهب مالك لأنه قال لا تجوز إمامته قال وليكثر من شرب الماء البارد وقيل تقبل لقوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر) [الفرقان: 68]

الآية.

العاشرة: اختلف هذ يشترط في توبة القاذف تكذيب نفسه أم لا؟ فقال مالك لا يشترط وقال الباجي وغيره يشترط لأنا قضينا بكذبه في الظاهر.

(وغفر الصغائر باجتناب الكبائر):

قال بعضهم في الذنوب كبيرة لا أكبر منها كالشرك وصغيرة لا أصغر منها كحديث النفس وبينها وسائط كل واحدة منها بالإضافة إلى ما فوقها صغيرة وبالإضافة إلى ما دونها كبيرة ومعنى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) [النساء: 31]

الآية أن من عرض له أمران فيهما مأثم واضطر الى ارتكاب أحدهما فارتكب أصغرهما

(1/41)

وترك الآخر كمن أكره على قتل مسلم أو شرب قدح من خمر فارتكب أصغرهما كفر عنه ما ارتكب واعترض الفاكهاني تمثيله الأول وهو قوله كالشرك والأولى أن يقول وهي الشرك إذ الشرك كبيرة لا مثل لها فلا يحسن التشبيه به قال وكذلك تمثيله مسألة الإكراه فيه نظر لأنه مع الإكراه غير آثم قال عياض في الإكمال وقد اختلفت الآثار وأقوال السلف والعلماء في عدد الكبائر فقال ابن عباس كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وسئل أهي سبع فقال هي إلى السبعين أقرب. وروي إلى سبعمائة أقرب. وقال أيضا الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو يغضب أو لعنة أو عذاب ونحوه عن الحسن وقيل هي ما أوعد الله عليه بنار أو حد في الدنيا وعدوا الإصرار على الصغائر من الكبائر فروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. واختلف في حقيقة الإصرار فقال بعضهم هو التكرار على الذنب كأن يعزم على العودة أم لا، وقال بعضهم إن تكريره من غير عزم لا يكون إصرارا وكلاهما نقله القرافي.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه وجماعة من العلماء: الكبيرة جميع ما نهى الله عنه في أول سورة النساء إلى قوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) [النساء: 31]

وقال غيره هي في قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) هي الكفر والشرك (نكفر عنكم سيئاتكم) [النساء: 31]

أي ما سواهما وإنما عبر الشيخ عن ترك المؤاخذة بالكبائر بالصفح وعن ترك المؤاخذة بالصغائر بالغفران لما فيه من عظيم الامتنان وسعة الجود والإحسان لأن محو الكبيرة أبلغ في الدلالة على الكرم من سترها ومغفرتها.

واختلف في مغفرة الصغائر باجتناب الكبائر هل ذلك مقطوع به أو مظنون وكلاهما نقله الفاكهاني ونقله ابن سلامة معبرا عنه بقوله نقله بعض شراح هذه العقيدة واعترضه بقوله لم يعز هذا النقل لأحد من أئمة الدين وليس كل ما يوجد منقولا في الأوراق يعتد به حتى يعزي الإمام من أئمة الدين فحينئذ ينظر فيه إما بإبقائه على ظاهره وإما بتأويله والله الهادي إلى سواء السبيل.

قلت: ويرد بقول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية اختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من المحدثين والفقهاء يرون أن من اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعا بظاهر الآية وظاهر الحديث.

(1/42)

وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة ولو قطعنا بتكفير صغائره لكانت لهم في حكم المباح الذي لا تباعة فيه وذلك نقض لعزائم الشريعة.

(وجعل من لم يتب من الكبائر صائرا إلى مشيئته: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48]).

أجمع أهل الحق على جواز المغفرة لعصاة الموحدين وأنه جائز واقع أما قبل دخول النار فالجواز ثابت بالنسبة إلى آحاد الأشخاص لا إلى جميعهم لانعقاد إجماع أهل السنة أنه لابد أن تدخل طائفة من الموحدين النار وأما بعد دخول النار وأخذها منهم فالعفو عنهم واقع ويخرجون بالشفاعة.

وقالت المرجئة هم في الجنة يإيمانهم ولا تضرهم سيئاتهم وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مختصة بالكفار وآيات الوعد كلها عامة بالمؤمنين تقيهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة إذا كان المذنب صاحب كبيرة فهو في النار مخلد ولا بد.

وقالت الخوارج إذا كان صاحب صغيرة أو كبيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له لأنهم يرون أن الذنوب كلها كبائر وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مختصة بالمؤمن المحسن الذي لم يعص قط والمؤمن التائب وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين.

(ومن عاقبه بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) [الزلزلة:7]).

قيل إن النار بجملتها سبع أطباق فأعلاها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم وفيها أبو جهل ثم الهاوية وإن في كل طبقة منها بابا فالأبواب على هذا بعضها فوق بعض ذكره ابن عطية. وإنما خصص الشيخ العقاب بالنار وإن كان العقاب يكون بغيرها أيضا لأن العقاب بها هو المعظم كقوله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" ولأن النار مشتملة على أنواع العذاب إن كان المراد بالنار الدار نفسها لا نفس النار والباء في قوله بناره يحتمل أن تكون سببية ويحتمل أن تكون للتعدية ورجحه الفاكهاني وأبعد الاحتمالات

(1/43)

أن تكون للاستعانة إذ هي على الله تعالى محال إذ هو المعين للكل والمستغني عنهم.

وقد تقدم قول من قال من دخل النار فلا يخرج منها، واختلف في الذرة فقيل النملة الصغيرة الحمراء وقيل البيضاء وقيل ما يرى من الهباء في شعاع الشمس وقيل غير ذلك. قال الفاكهاني: ولا أعلم للأقوال هنا مستندا ومعنى يره أي جزاءه في الآخرة.

وقال ابن لبابة في خطبه الحمد لله الذي وعد وفا وإذا توعد تجاوز وعفا.

قال عز الدين كلامه يوهم الفرق بين وعد الله تعالى ووعيده وهو لا يجوز على الله تعالى فإن الوعد والوعيد خبران فإذا أخبر الله تعالى عن ثواب أحد أو عقابه ولم يعذبه أو يثبه كان كذبا والله متعال عن ذلك.

وقال عز الدين أيضا في مختصر الرعاية: الخلائق على ثلاثة أقسام؛ قسم ركب فيه العقل دون الشهوات والملل والكراهة وهم الملائكة فلا ثواب لهم لعدم مجاهدتهم أنفسهم، وقسم ركب فيه الشهوات فقد دون العقل وهم البهائم فلا يعاقبون ولا يثابون، وقسم ركب فيه العقل والشهوة كبني آدم فكلفوا لأجل عقولهم وأثيبوا لأجل طاعتهم ومخالفة أهوائهم وعوقبوا على معاصيهم وحسنات الكفار يخفف عنهم بسببها العذاب.

فقد ورد أن حتما يخفف عنه لكرمه ومعروفه وورد ذلك في حق غيره كأبي طالب هكذا قال بعض من شرحها والحق أن التخفيف عن أبي طالب إنما هو بالشفاعة قال عياض في الإكمال وأما الكافر فإنه يكافأ على حسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجازي بها وذهب بعض الناس إلى أنه يخفف عنه من العذاب بقدرها.

(ويخرج منها بشفاعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته):

أجمع السلف والخلف من أهل السنة والحق على قبول الشفاعة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن سائر الرسل والملائكة والمؤمنين مطلقا وأجلها وأعظمها شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لأنها أعظم الشفاعات وأتمها، وأنكرها بعض المعتزلة، قال بعض أئمتنا وحقيق لمن أنكرها أن لا ينالها وتمسك بظاهر قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر: 48]

قوله تعالى: (فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم) [الشعراء: 100، 101]

قيل لهم هذا المراد به الكافرون ولهذا قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28]

فإن قالوا الفاسق ليس بمرتضى قلنا لهم مرتضى على توحيده وإيمانه

(1/44)

وطاعته والشفاعة على ستة أقسام الأولى لأهل الموقف وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والثانية شفاعة لقوم يدخلون الجنة بغير حساب وهي خاصة به أيضا، والثالثة الشفاعة في قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شاء الله من خواص عباده، والرابعة الشفاعة فمن دخل النار من المؤمنين فقد جاء في مجموع الاحاديث إخراجهم من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم وبشفاعة غيره من النبيين والملائكة والمؤمنين، والخامسة الشفاعة في زيادة الدرجات، والسادسة شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب.

قال بعض التونسيين وفي تسمية هذه السادسة شفاعة نظر قلت لا نظر فيها لأنه نقله من غمرات العذاب إلى ضحضاح كما قال في الحديث.

قال الفاكهاني: ولا تنافي في قول المصنف أخرجه منها بإيمانه مع كونه يخرج بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان سبب للشفاعة لتوقفها عليه وسبب السبب سبب ولأن الشيء يضاف إلى الكل تارة وإلى البعض أخرى فيضاف الإخراج تارة إلى مجموع الإيمان والشفاعة وتارة إلى أحدهما.

(وإن الله تعالى قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه):

(1/45)

ما ذكره الشيخ من أن الجنة قد خلقت هو مذهب أهل السنة لقوله تعالى: (أعدت للمتقين) [آل عمران: 133]

ولقوله (ولقد رءاه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى) [النجم: 13 - 15]. ولقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "عرضت علي الجنة فتناول منها عنقودا" الحديث وفيهما: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة" واتفق سلف الأمة ومن تبعهم من الخلف على إجراء هذه الآي على ظاهرها من غير تأويل لها. وأجمعوا على أن تأويلها من غير ضرورة إلحاد في الدين.

وقالت المعتزلة بتأويل هذه الآية والأحاديث وزعموا أنه لا فائدة في خلقها وجعلوا ذلك موجبا لتأويلها وقال إمام الحرمين وهذا انسلاخ عن إجماع المؤمنين وأفعال الله تعالى لا تحمل على الأغراض وهو تعالى يفعل ما يشاء. قال بعضهم ويقال لهم لم قلتم إنه لا فائدة في خلقها بل له فوائد منها الحث بها والحض والترغيب في الطاعات الموصلة إليها، ومنها أن أرواح السعداء تتنعم بها في البرزخ وأرواح الشهداء ترزق منها إلى غير ذلك فإن عارضونا بقوله تعالى: (كل شيء هلك إلا وجهه) [القصص: 88]

فلو خلقت لهلكت لكنها لم تخلق فلم تهلك.

قيل لهم ذلك عموم مخصوص والجنة أحد المستثنيات التي خصها الدليل قال الله: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله) [الزمر: 68]

قال ابن عباس الموجودات المحدثة التي لا تفنى سبعة: اللوح والقلم والعرش والكرسي والجنة والنار والأرواح ومن هذه السبعة ما وافقت على بقائه المعتزلة كالعرش والكرسي واللوح والأرواح وما ذكره من النظر إلى وجه الله الكريم فقد أجمع عليه السلف ومن تبعهم من الخلف وذهب المعتزلة ومن تبعهم إلى استحالة رؤية الله ثم اختلفوا في رؤية نفسه فأحال ذلك بعضهم بناء منهم على أن الرؤية إنما تكون بالحاسة وبنية مخصوصة واتصال الأشعة بالمرئ ومنهم من جوز رؤيته لنفسه ورؤيته تلك بغير حاسة ولا إدراك.

وقد أجمع السلف ومن تبعهم على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الآخرة في دار السلام. وأما رؤيته تعالى في عرصات القيامة ففي السنة ما يقتضي وقوعها للمؤمنين وجوزها بعض المتأخرين للكافرين في العرصات وذلك باطل لقوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [المطففين: 15]

وتمسك بظاهر قوله تعالى:

(1/46)

(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) [الأنعام: 30]

وأجيب بأن المراد بين يدي ربهم للحساب والتوبيخ وكذلك لا حجة لهم في قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) [الملك: 27]

والاحتمال عود الضمير على النبي صلى الله عليه وسلم أو على الحشر أو غير ذلك.

والمراد بالوجه الذات عند الجمهور وذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن الوجه صفة لله تعالى معلومة من الشرع يجب الإيمان بها مع نفي الجارحة المستحيلة وكل ما ينافي الجلال فهو مستحيل، وما ذكر الشيخ من أنها الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام فهو مذهب أهل السنة خلافا لمن زعم أن التي أهبط منها آدم جنة في الأرض بأرض عدن وليست بالجنة التي أعدها الله عز وجل لأوليائه وأنبيائه في الآخرة محتجا على ذلك بأنه تعالى وصف الجنة بالخلد والقرار والإقامة والسلام والجزاء ولا حزن فيها ولا نصب ولا لغو ولا تأثيم ولا كذب ولا حسد ومن دخلها لم يخرج منها لقوله تعالى: (وما هم منها بمخرجين) [الحجر: 48]

وهذه الصفات منتفية عن جنة آدم عليه السلام لأنه أخرج منها وكذب فيها إبليس لعنه الله وأثم وتكبر وحسد وإلى هذا القول ذهب منذر بن سعيد البلوطي حكاه ابن عطية وهي نكتة اعتزالية.

قال بعضهم كان قد رحل إلى المشرق وخالط بعض المعتزلة فدس له ذلك وهو مسبوق بالإجماع ومحجوج به وأيضا فإن صفات الجنة ليست ذاتية لها وإنما هي بفعل الله فجاز وصفها بذلك في وقت دون وقت ويكون وصفها بذلك موقوفا على شرط فلا توصف بها قبل الشرط.

وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته):

وخلق النار فأعدها إلخ هذا خلاف للمعتزلة في خلق النار كقول في خلق الجنة وتقدم الكلام على الرؤية ولو أخرها إلى هنا لكان أولى.

(وإن الله تبارك وتعالى يجئ يوم القيامة والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابها):

معنى تبارك تنزه وتزايد خيره وكثر ومعنى تعالى تعاظم عن صفات المخلوقين وإسناد المجئ إلى الله تعالى المراد به التمثيل لظهور آيات قهره وسلطانه وقيل التقدير

(1/47)

جاء أمره وسلطانه وهو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ومنه حديث النزول ينزل ربنا أي أمره ونهيه على ما تقرر عند أهل السنة فمن تأول فقال: إنه تعالى فعل فعلا سماه مجيئا فكأنه قال وجارء فعل ربك وهذا كالأول ومعنى صفا صفا ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس ونب صفا على الحال وقد وهم بعض النحاة حيث جعله من باب التوكيد اللفظي.

وأشار بعض الشيوخ إلى أن الشيخ اشتمل كلامه على الحقيقة والمجاز لأن مجئ الله سبحانه مغاير لمجئ الملائكة في الحقيقة والبحث فيه كالبحث في قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) [الأحزاب: 56]

والعرض قيل الحساب اليسير وفي الحديث: "أتظنون أنه حساب إنما هو عرض ومن نوقش الحساب عذب" والمحاسبة لأهل اليسار وقد قال تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا) [الانشقاق: 7، 8].

وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرصات فأما العرصتان فاعتذر واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها نشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بمينيه والهالك بشماله. قال الفاكهاني: انظر هل تعرض الأمم كلها مؤمنهم وكافرهم حتى السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب حسبما جاء في الحديث الصحيح حتى أبو لهب وأبو جهل وغيرهما من المشركين والمنافقين أو لا يعرض إلا من يحاسب هذا لم أر فيه نقلا، فمن وجده فليضفه إلى هذا الموضع راجيا ثواب الله الجزيل وبالله التوفيق.

(وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون):

أجمع أهل الحق على وجود ميزان حسي له كفتان ولسان فتوزن فيه صحائف أعمال العباد ليظهر الرابح والخاسر، واختلف هل هو ميزان واحد أو لكل أمة ميزان أو لكل أحد ميزان على ثلاثة أقوال، والصحيح أنه واحد وحمل قوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه) [المؤمنون: 102]

على الموزونات أو على أنه أتى بلفظ الجمع تعظيما لشأنه وتفخيما لأمره وتحذيرا من اكتساب السيئات وتحريضا على اكتساب الطاعات ولو لم يسمع من القرآن إلا هذه الآية لكان للعاقل فيها كفاية لاشتمالها على الوعيد التام لأهل الذنوب والوعد الجميل لأهل الطاعات.

وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا المراد به معادلة الأعمال بالحق فهو وزن معنوي

(1/48)

لتعذر وزن الأعمال حقيقة، قيل لهم توزن صحائف الأعمال فإن قالوا هذا مجاز وليس مجازكم بأولى من مجازنا قيل لهم هذا أولى لأنه استعمال الحقيقة وضم مجاز إليها وما ذكرتموه ترك للحقيقة فكان قولنا أولى، ويؤيد ذلك أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "توزن صحائف الأعمال" والحمل على ما نص عليه السلام أولى من الحمل على غيره.

وقد أجمع السلف الصالح على ذلك وليست المسألة عقلية إنما مأخذها الخبر فالرجوع في ذلك إليه. واختلف هل توزن للكافر أعمال أم لا والأكثر على ذلك لقوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) [المؤمنون: 102، 103]

فهذا الوزن يعم أهل الإيمان والكفران. وقال بعضهم الكافر لا يوزن له لقوله تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) [الكهف: 105]

وجوابه لا نقيم لهم وزنا نافعا جمعا بين الآيتين.

واعلم أنه إذا وقع الوزن فيما بين العباد من المظالم والحقوق ونفدت حسنات الظالم من قبل أن يفرغ ما عليه فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم، نص على ذلك في مسلم ولا معارضة بين هذا وبين قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164]

فإن المراد بالآية شخصان لا حق لواحد منهما عند الآخر وأما ها فبذنبه أخذ وبكسبه عوقب. ومعنى ذلك إذا مات وهو قادر على القضاء وأما إذا مات وهو عاجز عنه فإنه لا يطرح عليه من سيئاته شيء نص على ذلك الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، فإن لم يكن للمظلوم سيئة كالأنبياء عليهم السلام ولا للظالم حسنة كالكافر فإنه يعطي المظلوم من الثواب بقدر ما يستحقه على الظالم ويزاد في عقوبة الظالم بقدر ما كان يأخذ من المظلوم أن لو كان ثم ما يأخذ.

واختلف العلماء إذا كان المظلوم ذميا والظالم مسلما فقال بعضهم يسقط حقه كالحربي وقال آخرون صار حقا للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميا كنت خصيمه يوم القيامة".

(ويؤتون صحائفهم بأعمالهم فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيرا):

(1/49)

قال الفاكهاني رحمه الله: انظر على من يعود الضمير من يؤتون هل هو راجع لكل الأمم فلا يدخل الإنسان أحد الدارين حتى يؤتى صحيفته أو يكون ذلك في بعض الناس دون بعض، لأنه قد جاء أن قوما يقومون من قبورهم إلى قصورهم والصحف هي الكتب التي كتبت الملائكة فيها أعمالهم عند الأكثر.

وفي الخبر عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الكتب كلها تحت العرش فإذا كان في الموقف بعث الله عز وجل ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها (اقرأ كتباك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) [الإسراء: 14]

، وقيل هي صحف يكبتها العبد في قبره كان في الدنيا كاتبا أو لم يكن ذكره الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة له، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت في قبره؟ فقال "يا ابن عباس لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما ينادي به ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول له يا عبد الله اكتب عملك فيقول ليس معي قرطاس ولا دواة ولا قلم فيقول له هيهات هيهات فكفنك قرطاسك ومدادك ريقك وقلمك اصعبك فيقطع له قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا ويتذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد ثم يطوي ذلك الملك تلك الرقعة ويعلقها في عنقه" ثم تلا صلى الله عليه وسلم (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه) [الإسراء: 13]

أي عمله الحديث بطوله.

واعلم أن المؤمن الطائع يأخذ كتابه بيمينه بإجماع وأما العاصي فالأكثر على أنه يأخذه بيمينه ووقف بعضهم في ذلك وقال الله أعلم. وقال الأستاذ أبو الحجاج الضرير في هذا المعنى.

والمذنب الفاسق ذو الإيمان = من آخذي الكتاب بالأيمان

وقيل إن حكمه موقوف = ولم يرد في أمره توقيف

وأما الكافر فقيل تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله خلف ظهره فيأخذ بها كتابه جزاء على نبذه كتاب الله وراء ظهره وقيل تغل يداه وراء ظهره وقيل بل يثقب صدره فتدخل شماله منها فيأخذ بها كتابه من وراء ظهره والعياذ بالله من سخطه.

(1/50)

(وأن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليهم من نار جهنم وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم):

الإيمان بالصراط واجب عند أهل السنة وهو جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف يرده الأولون والآخرون كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام شهاب الدين القرافي في كتاب الانتقاد في الاعتقاد: لم يصح في الصراط أنه أرق من الشعر وأحد من السيف شيء والصحيح أنه عريض وفيه طريقان يمني ويسرى، فأهل السعادة يسلك يهم ذات اليمين وأهل الشقاوة يسلك بهم ذات الشمال، وفيه طاقات كل طاقة تنفذ إلى طبقة من طبقات جهنم وجهنم بين الخلائق وبين الجنة والجسر على متنها منصوب فلا يدخل أحد الجنة حتى يعبر على جهنم وهو معنى قوله عز وجل على أحد الأقوال (وإن منكم إلا واردها) [مريم: 71]

قلت في قوله لم يصح في الصراط أنه أرق من الشعر وأحد من السيف شيء نظر ففي مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه أرق من الشعر وأحد من السيف، ووجه النظر يظهر بما ذكره الإمام الغزالي قال ما نصه: وأما الصراط فهو جسر يضرب على ظهراني جهنم يمر عليه جميع الناس وقد وردت به الأحاديث الصحيحة واستفاضت وهو محمول على ظاهره وفي رواية أنه أرق من الشعر وأحد من السيف.

وقال البيهقي لم أجده في الرواية الصحيحة وإنما يروي عن بعض الصحابة وأشار بذلك إلى ما في مسلم عن أبي سعيد الخدري: بلغني أنه أرق من الشعر وأحد من السيف. قال بعضهم ولو ثبت ذلك لوجب تأويله لتوافق الحديث الآخر في قيام الملائكة على جنبيه وكون الكلاليب والحسك فيه وإعطاء المار فيه من النور قدر موضع قدميه وما هو في دقة الشعر لا يحتمل ذلك فيمكن تأويله بأن مراده أرق من الشعر بأن ذلك يضرب مثلا للخفي الغامض، ووجه غموضه أن يسر الجواز عليه وعسره على قدر الطاعة والمعاصي، وأما تمثيله بحد السيف فلإسراع الملائكة فيه إلى امتثال أمر الله تعالى في إجازة الناس عليه.

واختلف المعتزلة في اثبات الصراط ونفيه وأكثرهم على نفيه وأجازه الجبائي مرة ونفاه أخرى، ومنهم من قال العقل يجوزه ولا يقطع به ومن نفاه تأول ما ورد من الصراط أن المراد به المعنوي لأنه لا يمكن المشي على صفة ما ذكر وهذا من جهلهم أمر ربهم ووقوفهم على معتادهم. وقل سئل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟

(1/51)

قال "إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه" وقال الشيخ أبو الحجاج الضرير رحمه الله في هذا المعنى:

والرب لا يعجزه أمشاؤهم = عليه إذا لم يعيه إنشاؤهم

تبا لقوم ألحدوا في أمره= ما قدروا الإله حق قدره

(والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه ويذاد عنه من بدل وغير):

قد خرج أحاديث الحوض أهل الصحة البخاري ومسلم وغيرهما وأجمع عليه السلف الصالح وأطبقوا على الابتهال إلى الله تعالى أن يسقيهم منه، أسأل الله البر الرحيم أن يسقينا منه ويجعلنا من الواردين عليه بفضله ورحمته. وذكر الشيخ أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله سبحانه أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء أحد من أمتي أن يسمع خريره إلا سمعه" قلت وكيف يا رسول الله قال: "أدخلي إصبعيك في أذنيك وشدي" قالت ففعلت قال "هذا الذي تسمعين هو خرير الكوثر وجريه".

واختلف هل لكل نبي حوض أم هو حوض خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ واحتج من قال بالعموم بما خرجه أبو عيسى الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حوضا وإنهم يتبهون أيهم أكثر واردا وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردا" قال أبو عيسى هذا الحديث حسن غريب والله أعلم بصحته.

اختلف أيضا هل هو قبل الصراط أو بعده؟ واستدل كل واحد من الفريقين بظواهر لا تفيد قطعا، وتوقف القاضي أبو الوليد الباجي في ذلك وقال لا أدري، وقال غيره لم يرد في ذلك خبر ولا له فائدة في النظر. قال الفاكهاني: والقصد بذلك مجرد الإيمان به على ما وردت به الأخبار ولا اعتبار بترتيبها والله أعلم.

(وإن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون فيها النقص وبها الزيادة):

قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي الفقيه الأديب الشافعي

(1/52)

المحقق رحمه الله تعالى في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما ابن مزين فقال: الإسلام الكلمة والإيمان العمل واحتج بالآية أعني قوله تعالى: (قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) [الحجرات: 14]

الآية. وذهب غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد واحتج بقوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) [الذاريات: 35، 36]. قال الخطابي وقد تكلم في هذا الباب رجلان من أكابر أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين القولين، ورد الآخر منهما على المتقدم وصنف فيه كتابا يبلغ عدد أوراقه المائتين، قال الخطابي رحمه الله والصحيح في ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق وذلك أن مسلم قد يكون مؤمنا مسلما في بعض الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، فإذا حملت الأمر على هذا استقام لك معنى الآية واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منه وأصل الإيمان التصديق.

وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن وقد يكون المرء صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر.

وما ذكر الشيخ من أن الإيمان يطلق على عمل الجوارح صحيح، دليله قوله تعالى:" وما كان الله ليضيع إيمانكم) [البقرة: 143]

أجمعوا على أن المراد به صلاتكم، وما ذكر أن يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال هو مذهب السلف رضي الله عنهم والمحدثين وجماعة المتكلمين. وروي عن مالك وقيل عكسه. قال جماعة من المتكلمين لأنه متى قبل الزيادة والنقصان، كان شكا وكفرا وقيل يزيد لا ينقص مراعاة للإطلاق الشرعي في ذلك وهو قوله تعالى: (فزادهم إيمانا) [آل عمران: 173]

ولم يرد نقصهم في الشرع وهو قول مالك أيضا، وظاهر كلام بعضهم أنه المشهور عنه وأراد الأولون كما صرحوا به أن المراد بالزيادة والنقصان باعتبار زيادة ثمرات الإيمان وهي الأعمال ونقصانها لا نفس التصديق وهذا إذا تأملت تجده في المعنى موافقا لعكسه والله أعلم.

قال بعضهم إن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النفر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بخلاف غيرهم كالمؤلفة قلوبهم ومن قاربهم وهذا مما لم يمكن إنكاره ولا يشك أحد في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس.

(1/53)

ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة إني أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام، واعلم أن قول الشيخ باللسان وبالقلب تأكيد أن القول لا يكون إلا باللسان والإخلاص لا يكون إلا بالقلب ونظيره قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم) [الأنعام: 38]

، وقوله تعالى: (يقولون بألسنتهم من ليس في قلوبهم) [الفتح: 11]

وأما قوله وعمل بالجوارح فتأسيس، لأن العمل قد يكون بالقلب يقال عمل قلبي وعمل بدني وقد يكون بهما معا كالوضوء والصلاة وغير ذلك من العبادات البدنية المفتقرة إلى النية، وخصص بعض المتأخرين من أهل الخلاف الأعمال بما لا يكون قولا وأخرج القول من ذلك وأبعده بعض الشيوخ. قال النووي في شرح البخاري: اختلف السلف رضي الله عنهم هل يجوز أن يقال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى أم لا؟ فذهبت طائفة إلى تقييده بالمشيئة وحكي عن أكثر المتكلمين وذهبت طائفة أخرى إلى الإطلاق من غير تقييد، وذهب الأوزاعي إلى التخيير.

وفيها قول رابع بالفرق بين الحال والمآل فيجوز التقييد في الحال فإن المؤمن مشفق من التقصير لا أنه شاك في الحق. وقال عياض في مداركه قد فشا اختلاف بعد الثلاثمائة هل يقال أنا مؤمن عند الله أم لا؟ وجرى بين ابن التبان وابن أبي زيد والمسيسي وأبدى ان أبي ميسرة وغيرهم في ذلك وجوها ومطالبات، والصحيح ما ذهب إليه ابن أبي زيد أنه إن كانت سريرته مثل علانيته فهو مؤمن عند الله تعالى.

وأما ابن التبان وغيره فأطلق القول بأنا مؤمن. قال النووي: للشافعية خلاف كبير في الكافر هل يقال هو كافر إن شاء الله أم لا؟ فمنهم من قال بالإطلاق من غير تقييد ومنهم من قال كالمسلم.

(ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة):

هذا كالتصريح بأن التصديق من غير قول لا يكون إيمانا وهو كذلك عند الجمهور خلافا للقاضي أبي بكر بن الطيب، وقد تقدم ذلك. وقول الشيخ بنية من قوله ولا قول ولا عمل إلا بنية أي خالصة لله تعالى، والإجماع على أن الإخلاص في العبادات فرض والإخلاص هو إفراد المعبود بالعبادة وقيل تصفية العمل وقيل هو سر جعله الله في قلب من أحب من عباده وقيل هو سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه

(1/54)

ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده.

وقيل الإخلاص هو ما استوى فيه السر والعلانية فهذا هو الإخلاص، وهذه الألفاظ يقرب بعضها من بعض. وقيل الإخلاص هو أن يكون العمل لله تعالى ويعتقد ذلك في قلبه إلى تمامه ويكتمه بعد فراغه منه فيخلص العمل بهذه الثلاثة شروط فإذا ابتدأ العمل، لغير الله فسد باتفاق. وإذا ابتدأه لله بقلبه وأحب أن يحمد عليه فلا يضره ذلك لقوله تعالى: (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) [آل عمران: 188]

فدليل الخطاب إذا أحبوا الحمد بما فعلوا فلا بأس به وإن ابتدأ العمل لله وتمادى على ذلك إلى أثناء العمل. فاطلع عليه فيه فأحب بقلبه أن يحمد على ذلك الفعل ومر عليه ولم يرفعه من قلبه فما بعد ذلك يبطل باتفاق. وما قبل ذلك فقيل يبطل وقيل يصح والمشهور البطلان وأما إن أبى ذلك بقلبه ودفعه فلا يبطل عليه باتفاق.

واختلف في النية مع الإخلاص هل هما بمعنى واحد أو هما شيئان؟ والنية هي القصد، والإخلاص هو إفراد المعبود بالعبودية، فمن نظر إلى أن النية لا تصح إلا بالإخلاص قال هما بمعنى واحد ومن نظر إلى أن النية من الكافر والمرائي تصح قال هما شيئان. فالنية روح العمل والإخلاص روح النية قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [البينة: 5]

وقال صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات".

وقال بعضهم: مراده بالنيات الإيمان فكأنه قال ولا نطق باللسان ولا عمل بالجوارح إلا بشرط الإيمان بالقلب. وضعفه بعض التونسيين بأنه يلزم منه أن يسمى التصديق بالقلب من غير نطق إيمانا لأن الشرط يغاير المشروط وقد تقدم أن مذهب الجمهور خلافه.

واعلم أن العبادة المحضة تفتقر إلى النية بإجماع وذلك كالصلاة وعكس ذلك رد الودائع والمغصوبات وشبهه، واختلف فيما فيه شائبتان كالطهارة وقول الشيخ ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة مجمع عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قالوا: وما الواحدة يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".

(1/55)

وقال الحسن عمل قليل في سنة خير من عمل كثيل في بدعة. وقال بعضهم: أبواب الخير كلها مسدودة إلا لمن قصدها من باب محمد صلى الله عليه وسلم.

(وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة):

قال صاحب الحلل: أهل القبلة عبارة عن أهل الصلاة، وقيل هو اسم لكل مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم صلى أو لم يصل، وما ذكر الشيخ هو قول جماعة أهل السنة سلفا وخلفا. وقالت المعتزلة من مات غير تائب فهو مخلد في النار ولا يطلق عليه اسم كافر ولا مؤمن إنما يسمى فاسقا. وقالت المرجئة: لا يدخل النار من كان في قلبه الإيمان وهذا منهم بناء على التحسين والتقبيح العقليين وهو باطل من وجوه منها: أنه لو سلم ذلك فالعقل لا يوجب إحباط خدمة العبد لسيده مائة سنة بزلة واحدة في الشاهد فكذلك في الغائب. ومنها أن الذنب لو كان الإصرار عليه محبطا للطاعة لوجب أن لا تصح معه طاعة كالخروج عن الملة وذلك خلاف الإجماع، لأن شارب الخمر مثلا تصح صلاته وصومه وحجه ويترحم عليه، ومنها أن الإيمان في اللغة التصديق ومحله القلب وفسقه لا يزيل تصديقه، ومنها أنه لو كان الذنب موجبا للكفر لما نصبت على المعاصي الزواجر والحدود بل كان الواجب القتل كالردة ولا قائل بذلك، وهذا الأخير للفاكهاني وما سبق لغيره.

(وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون):

الشهداء جمع شاهد وشهيد المراد بالشهيد هنا قتيل الكفار. واختلف في أسباب تسميته شهيدا فقيل: إنه مشهود له بالجنة فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل لأن الملائكة تشهده وقيل غير ذلك. ودليل ما ذكر الشيخ قول الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169]

الآية.

واختلف العلماء رضي الله عنهم في معنى الحياة المسندة إليهم بعد الإجماع على تزويج نسائهم وإرثهم وتنفيذ وصاياهم، فقيل هي حياة غير مكيفة ولا معقولة للبشر فيجب الإيمان بها بظاهر الشرع ويكف عن كيفيتها إذ لا طريق للعلم بها إلا من الخبر فيجوز أن يجمع الله تعالى جملة من أجزاء الشهيد فيحييها فتتنعم بالأكل والشرب أو على ما أراد الله تعالى من ذلك.

وقيل حياة مجازية بأن فضلهم الله تعالى بدوام حالهم التي كانوا عليه من الرزق وإجراء الثواب عليهم كالأحياء بخلاف أرواح سائل المؤمنين، فلما أشبهوا الأحياء في

(1/56)

ذلك وصفوا بالحياة، قال بعضهم أجمعوا على أن أرواحهم لا تعود إلى أجسادهم على ما كانت عليه في الدنيا إلا إذا كان يوم القيامة، وأجمعوا أن لهم مزية وزيادة على غيرهم من المؤمنين لأنهم خصوا بالرزق والفرح وغير ذلك.

واختلف العلماء هل يتنعمون حالة كونهم في الجنة أم لا فقيل بذلك وهو مذهب الجمهور.

وقيل الشهداء يأكلون من الجنة وليسوا فيها وإنما يدخلون الجنة يوم القيامة، وأنكر هذا القول أبو عمر بن عبد البر ورده الشيخ أبو القاسم السهيلي بما خرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة في قبة خضراء يأتيهم رزقهم فيها بكرة وعشية".

قيل: وقد يمكن الجمع في ذلك بأن تكون أحوالهم مختلفة أو للجميع في أوقات مختلفة والله أعلم.

(وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين):

واختلف في الروح والنفس هل هما لفظان مترادفان أو بمعنيين اختلافا شديدا واختلف في الروح فقيل إنه عرض وهو اسم للحياة القائمة بالجسم، واختاره الأستاذ أبو إسحاق، واختار أبو المعالي أنه جسم لطيف، وبه قال ابن فورك وهو ظاهر كلام الشيخ أبي الحسن، واحتجوا بحجج يطول ذكرها وهي مبسوطة في محلها وأهل السعادة المراد بهم أهل الجنة نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يحرمنا إياها، وأهل الشقاوة أهل النار نسأل الله أن يسلمنا منها والدليل على ما ذكر الشيخ ما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل

(1/57)

الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله".

(وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة):

الافتتان هو الاخبار والواو في قوله ويسألون واو الحال فتكون بمعنى إذ لأن السؤال هو بعينه الاختبار، ولا غرابة في سؤالهم مرة واحدة للجم الغفير في أقاليم مختلفة فيخيل لكل واحد منهم أن المخاطب هو دون من سواه أو يكون الله يحجب سمعه من مخاطبة الموتى لهما.

وخالف الملحدة فأنكروا فتنة القبر واحتجاجهم بالعيان مضادة لبلوغ الأخبار في ذلك مبلغ التواتر. وظاهر كلام الشيخ أن الصبي يفتن في قبره وهو كذلك قاله القرطبي في تذكرته قائلا: ويكمل لهم العقل ليعرفوا بذلك منزلتهم وسعادتهم ويلهمون الجواب عما يسألون عنه. وقد جاء أن القبر ينضم عليهم كم ينضم على الكبار. قال الفاكهاني: انظر هل يسأل المجانين والبله وأهل الفترة أم لا.

وأما الملائكة فالظاهر عدم سؤالهم وظاهر كلام الشيخ أيضا أن الكافر لا يسأل وهو كذلك نص عليه الشيخ أبو عمر بن عبد البر قائلا الأخبار دلت على ذلك بخلاف المنافق فإنه يسأل لكونه حقن دمه وماله ودخل في حزب المؤمنين فيسأل ليتميز، وأما الكافر فهو متميز بظاهره عنهم والاخبار تدل على أن الفتنة مرة واحدة وعن بعضهم أن المؤمن يفتن سبعا، والمنافق أربعين صباحا.

قال القرطبي: جاء في حديث البخاري ومسلم سؤال الملكين وكذلك في حديث الترمذي وجاء في حديث أبي داود سؤال ملك واحد، وفي حديثه الآخر سؤال ملكين ولا تعارض في ذلك والحمد لله بل كل ذلك صحيح المعنى بالنسبة إلى الأشخاص قرب شخص يأتيانه جميعا ويسألانه جميعا في حالة واحدة ليكون ذلك السؤال عليه أهون والفتنة في حقه أعظم وأشد، وذلك بحسب ما اقترف من الآثام. وآخر يأتيانه قبل انصراف الناس عنه وآخر يأتيانه كل واحد منهما على الانفراد فيكون ذلك أخف عليه في السؤال وأقل في المراجعة والعتاب لما عمله من صالح الأعمال. وقد يحتمل في حديث أبي داود وجها آخر وهو أن الملكين يأتيان جميعا ويكون السائل أحدهما وإن تشاركا في الإتيان ويكون الراوي اقتصر على الملك السائل وترك غيره لأنه لم يقبل في الحديث لا يأتيه إلى قبره إلا ملك واحد، فلو قال هذا صريحا لكان الجواب عنه ما

(1/58)

قدمناه من أحوال الناس والله أعلم. وقد يكون من الناس من يوقي فتنتهما ولا يأتيه واحد منهما والقول الثابت هو لا إله إلا الله في الحياة الدنيا عند الموت وفي الآخرة عند سؤال الملكين، والقبر أول منزل من منازل الآخرة.

(وإن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم): الحفظة جمع حافظة ككاتب وكتبة وسموا حفظة لحفظهم ما يصدر من الإنسان من قول وعمل وعلمهم به.

واختلف هل هما اثنان بالليل واثنان بالنهار أو هما اثنان لا يفارقان الشخص والأكثر هو الأول بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" الحديث. وقال الآخر يحتمل أن يكون المتعاقبون غير الحفظة، وعلى الأول فالملائكة الذين يأتون اليوم غدا وهلم جرا مادام حيا. واستدل قائل هذا بقول الملكين أراحنا الله منه فبئس القرين ولا يقولان ذلك لمن يكونان معه يوما واحدا أو بعض يوم لأن ذلك خلاف لسان العرب.

وقال ابن السكيت: القرين الصاحب وقال الجوهري: قرينة الرجل صاحبته واعلم أن لسانك قلم الحفظة، وريقك مدادهم كذا جاء في الحديث، وظاهر كلام الشيخ أن المباح يكتب ولا يسقط وهو كذلك قاله بعض الشيوخ مستدلا بقوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق:18]

، فقول نكرة جاءت في سياق النفي فعمت. وقيل إنه لا يكتب وظاهر كلامه أن الحفظة على الكافر كالمؤمن، والصحيح خصوصهم بالمؤمن قال عياض في الإكمال.

واختلف فيما يتعلق بالقلب فقيل يكتبونه وأن الله تعالى يجعل لهم عليه علامة وقيل لا يكتبونه لأنهم لا يطلعون عليه. وفي كتب ما عزم عليم مصمما ولم يفعله، قولان للباقلاني والأكثر واعلم أن على الإنسان ملائكة غير الحفظة قال الله تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) [الرعد: 11]

فهؤلاء غير الكاتبين بلا خلاف. وقال الهروي في التفصيل ما نصه.

وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا فقال: "ملك عن يمينه على حسناته وهو أمين

(1/59)

على الذي على يساره فإذا عملت حسنة كتبت عشر أو إذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين اكتب فيقول لا لعله يستغفر الله عز وجل ويتوب فإذا لم يتب قال نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين، ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه لقوله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) وملكان من بين يديك ومن خلفك لقول الله عز وجل: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) وملك قائم على ناصيتك فإذا تواضعت لله عز وجل رفعك وإذا تجبرت على الله عز وجل قصمك وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وملك قائم على فيك لا يدع الحية أن تدخله وملكان على عينيك فؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تنزل ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل غير ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وأولاده بالليل".

(وإن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه):

ما ذكره الشيخ هو قول مجاهد وقتادة وغيرهما وقيل ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه يقبضها وعلى الأول فنص قتادة وغيره على أن له أعوانا وأطلق القول بذلك.

(1/60)

وقال الغزالي في كشف أمور الآخرة: إن الميت إذا حان أجله نزل عليه أربعة من الملائكة ملك يجذب نفسه من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى وملك يجذبها من يده اليمنى وملك يجذبها من يده اليسرى ثم يطعنه ملك الموت بحربة فيقبض نفسه. ومن الناس من يقبض وهو قائم يصلي أو نائم أو سائر في بعض أشغاله أو منعكف على لهو وهي ميتة البغتة فيقبض نفسه مرة واحدة، ومن الناس من إذا بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين من الموتى وحيئنذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إلا الإنس لو سمعه لهلك وصعق.

وظاهر كلام الشيخ أنه يقبض روح غير الآدمي من الحيوانات وهو كذلك وقال بعض المبتدعة أعوانه تتولى قبض أرواح الحيوانات، ونص الشيخ أبو الحسن على أن الموت صفة وجودية وهي ضد الحياة، قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: الموت راجع إلى عدم الحياة وبينهما احتجاج يطول ذكره وهو مبسوط في كتبه.

(وإن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم):

اختلف في مقدار القرن على أحد عشر قولا فقيل عشر سنين، وقيل عشرون وقيل ثلاثون وقيل أربعون وقيل خمسون وقيل ستون وقيل سبعون وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل مائة وعشرون، وقيل من عشرة إلى مائة وعشرين، وقال الجوهري القرن من الناس أهل زمان واحد وأنشد:

إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم = وخلفت في قرن فأنت غريب

والمقصود بهذا اعتبار تفاوت القرن في الفضل، وفسر الشيخ القرن بمن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به ثم من رآهم ثم من رأى من رآهم وبهذا فسره أكثر العلماء.

وقال المغيرة: أفضل القرون الصحابة ثم أبناؤهم ثم أبناء أبنائهم واختلف فيما بعد ذلك من القرون فقيل إنها سواء لا مزية لأحدها على الآخر قاله ابن رشد. وقال المغيرة وغيره لا يزال التفاوت كذلك إلى قيام الساعة ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "ما من يوم إلا الذي بعده شر منه" وروي في كل عام ترذلون وإنما يسرع بخياركم.

(وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون الهادون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم):

اختلف في الصحابي من هو فقيل هو اسم لمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه فيصدق

(1/61)

الاسم على من رآه ولو مرة واحدة بشرط الاتباع، وإلى هذا ذهب البخاري وأحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر، وقال الآخرون لا يسمى صحابيا من كان صغيرا في زمانه صلى الله عليه وسلم وقال ابن المسيب ولا من كا كبيرا ورآه مرة أو مرتين أو شهرا وإنما لمن كثرت صحبته كالسنة ونحوها.

وقال أبو عمر بن عبد البر يصدق الاسم على من ولد في حياته وإن لم يره وأبعده بعضهم، واختلف في التفضل بين الصحابة، فمنهم من وقف قال مالك أدركت جماعة من أهل بلدنا لا يفضلون من الصحابة أحدا على أحد ويقولون الكل فضلاء وأكثر الناس على القول بالتفضيل، وعليه فأفضل الصحابة أهل الحديبية قال الله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [الفتح: 18]

قيل نزلت في أهل الحديبية وأهل بدر. خرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اطلع الله على أهل بدر فقال "يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأهل بدر أفضلهم العشرة وأفضل العشرة الخلفاء الأربع ثم هم في الفضل على ترتيبهم في الخلاف وقيل بالوقف عن التفضيل فيما بين عثمان وعلي رضي الله عن جميعهم والقولان لمالك ورجع إلى تفضيل عثمان.

واختلف في التفضيل بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما فتوقف الأشعري في ذلك واحتج لتفضيل فاطمة رضي الله عنها بقوله صلى الله عليه وسلم "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو تكوني سيدة نساء هذه الأمة". واحتج لتفضيل عائشة رضي الله عنها بكونها مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وفاطمة مع علي وشتان ما بين المنزلتين. واعترض بأن بقية أزواجه يكن معه في الجنة ولا قائل بتفضيلهن على فاطمة. وقال النووي في شرح البخاري أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وخديجة واختلف في أيتهما أفضل.

وظاهر كلام أبي المعالي رضي الله عنه أن التفضيل بينهما ظني وليس بقطعي ولفظه. ولم يقم عندنا دليل قاطع بتفضيل بعض الأئمة على بعض إذ العقل لا يشهد على ذلك والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة ولكن الغالب على الظن أن أبا بكر رضي الله عن أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر بعده، وتعارضت الظنون بين عثمان

(1/62)

وعلي رضي الله عنهما. وانعقد إجماع المسلمين على أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين وأحب الخلق إلى رب العالمين صلى الله عليه وسلم والصحيح المعروف أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

(وأن لا يذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر):

دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم من آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ومن أذى الله يوشك أن يأخذه".

وقال: "لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، وقال صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقال صلى الله عليه وسلم "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا".

وقال أبو أيوب السختياني من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق ومن انتقص أحدا منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح وأخاف ألا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه لهم سليما.

(والإمساك: عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب):

الإمساك الكف والسكوت وشجر معناه وقع واختلط ويريد ماوقع بين علي ومعاوية رضي الله الله عنهما. وقال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: تلك دماء لم يخضب الله فيها أيدينا فلا نخضب بها ألسنتنا.

وروي أن أهل البصرة أرسلوا إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يسألونه عن أمر علي ومعاوية فقال رضي الله عنه (تلك أمة قد خلت) [البقرة: 134]

الآية. وقال

(1/63)

بعض العلماء: ضابط هذا أنهم عدول وأعيان اختارهم الله لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولنصرة دينه وأثنى عليهم في كتابه، فكل ما وقع بينهم في ذلك فليس عن هوى ولا لتحصيل دنيا وإنما هو عن اجتهاد ورأي. وقول الشيخ وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج لا يعارضه ما تقدم من وجوب الكف لان هذا خاص بالعلماء الذين يميزون بين الصحيح والسقيم ويفرقون بين الغث والسمين وما تقدم لعوام الناس.

(والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم):

الإمام هو القائم بأمور المسملين والولي هو النائب، والإمامة أعم من الخلافة إذ كل إمام خليفة ولا ينعكس. قال الغزالي: وشرائط الإمام بعد الإسلام والتكليف خمسة: الذكورية والورع والعلم والكفاية ونسبة قريش وكونه واحدا وغير متغلب. واختلف إذا انعقدت الإمامة لاثنين في وقت واحد في بلدين فقيل إنها للذي عقدت له في بلد الإمام الميت. وقيل يقرع بينهما وقيل إن كان العقد لكل واحد منهما دفعها عن نفسه للآخر.

وقيل إن كان العقد لهما في وقت واحد فسد كزوجين عقد لهما على امرأة واحدة. وزاد صاحب العروة وأن يكون من أفضل القوم في عصره عند الأشعري والقاضي، والصحيح أنه لا يشترط. وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد، وقيل تنعقد بواحد إذا كان أهلا لما ذكر، وقيل لابد من اثنين وقيل لابد من أربعة، وقيل خمسة وقيل لابد من بيعة جميع العلماء وحضورهم عند البيعة واتفاقهم على واحد، وشرط أصحابنا اشتهار العقد كالنكاح والأصلي فيما ذكر الشيخ قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا أطعيوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء: 59]

وعنه صلى الله عليه وسلم "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني فطاعتهم واجبة) إذ بهم تقام الأحكام وتصلح الأحوال وتحفظ الفروج والأموال.

واعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قيل كان الخليفة يقول أطيعوني ما عدلت فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم عن مسلمة بن عبد الملك أنه قال لهم: ألستم أمرتم بطاعتي في قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)؟ فقالوا له أو ليس يرغب عنكم

(1/64)

إذا خالفتم لقوله تعالى: (فإن تنزاعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) [النساء: 59].

(واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم إلخ):

السلف الصالح وصف لازم يختص عند الإطلاق بالصحابة ولا يشاركهم غيرهم فيه قاله صاحب الحلل والاقتفاء والاتباع معناهما واحد. واعلم أن العبد الصالح يطلق على النبي والولي قال الله تعالى في اسماعيل وادريس وذا الكفل (كل من الصابرين) [الأنبياء: 85]. وقال تعالى في صفة يحيى (نبيا من الصالحين) [الصافات: 112]

وقال تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين) [النساء: 69]

والاستغفار طلب المغفرة وأصلها من الغفر وهو الستر فمعنى غفر الله ذنوبك أي سترها.

(وترك المراء والجدال في الدين وترك كل ما أحدثه المحدثون إلخ):

اعلم أن المراء والجدال لفظان مترادفان وقال الجوهري: المراء هو الجدال وأراد الشيخ كراهية مناظرة أهل الأهواء والمبتدعة ومجادلتهم والندب إلى ترك مكالمتهم وإلا فالمناظرة حسنة، قال عبد الوهاب في المناظرة خمس فوائد: إيضاح الحق وإبطال الشهبة ورد المخطئ إلى الصواب والضال إلى الرشاد والزائغ إلى صحة الاعتقاد مع الذهاب إلى التعليم وطلب التحقيق.

وللمناظرة أحكام وآداب، فمن أحكامها أن يقصد بها وجه الله تعالى وإظهار قول الحق وأن يجتنب فيها الرياء والسمعة والمباهاة واللجاج وغير ذلك مما ينافي تقوي الله تعالى، ومن آدابها أن يكون الكلام مناوبة لا مناهبة وأن يعتدل في رفع صوته ويتحرز من التعنت والتعصب والمداهنة والله الهادي إلى سواء السبيل.

قال القرافي رحمه الله: الأصحاب رضي الله عنهم فيما علمت متفقون على إنكار البدع والحق أنها على خمسة أقسام:

الأول: أنها بدعة واجبة إجماعا وهو تدين قواعد الواجب كتدوين القرآن والشرائع إذ خيف عليها الضياع، فإن تبليغها لمن بعد واجب إجماعا وإهمالها حرام إجماعا.

والثاني: بدعة محرمة إجماعا وهي ما تناولته أدلة التحريم وقواعده كالمكوس وتقديم الجهلاء على العلماء وتولية المناصب الشرعية بالتوارث لمن لا يصلح لها وفي

(1/65)

مثل هذا القسم الذي ذكرنا أنشد الشيخ أبو حيان رحمه الله تعالى ورضي الله عنه:

بلينا بقوم صدروا في المجالس = لا قراء علم ضل عنهم مراشده

لقد آخر التصدير عن مستحقه = وقدم غمر خامد الذهن جامده

وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم = من الله عقبى ما أكنت عقائده

علا عقله فيهم هواه وما درى = بأن هوى الإنسان للنار قائده

الثالث: بدعة مندوب إليها كصلاة التراويح وإقامة صون الأئمة والقضاة والولاة بالمراكب والملابس هو خلاف ما كانت عليه الأئمة والصحابة، فإن التعظيم كان في الصدر الأل بالدين فلما اختل النظام وصار الناس لا يعظمون إلى بالصون صار مندوبا حفظان لنظام الخلق.

الرابع: بدعة مكروهة وهي ما تناولته قواعد الكراهة كتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادات ومنه الزيادة على القرب المندوبة كالتسبيح ثلاثا وثلاثين والتحميد والتكبير والتهليل فيفعل أكثر من ذلك ما حده الشرع فهو مكروه لما فيه من الاستظهار على ما وقته الشرع وقلة الأدب معه، فإن شأن العظماء إذا حدوا حدا يوقف عنده ويعد الخروج عنه قلة أدب.

الخامس: بدعة مباحة وهي ما تناولته قواعد الإباحة كاتخاذ المناخل لإصلاح الأقوات واللباس الحسن والمسكن الحسن ونحوه فالحق في البدعة إذا عرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب ما يجب منه الوضو والغسل

اعلم أنه يقال الوضوء بفتح الواو وضمها فقيل الفتح للماء والضم للفعل وقيل بالعكس، وقيل لفظان مترادفان. قال ابن دقيق العيد: وإذا قلنا إن الفتح اسم للماء فهل هو اسم لمطلق الماء أو له بعد كونه معدا للوضوء أو بعد كونه مستعملا في العبادة فيه نظر ثم رجح الثالث لأنه الحقيقة. وخرج عليه مسألة فقهية من قول جابر في الحديث: "فصب عليه من وضوئه" ظاهره الماء المستعمل. واختار الشيخ عبارة موجبات الوضوء وعبر غيره بنواقض الوضوء وجمع القاضي أبو محمد عبدالوهاب بينهما في تلقينه. وكذلك يقال الغسل بالفتح والضم فالمعنى على ما تقدم، وأما الغسل بالكسر

(1/66)

فهو اسم للذي يغسل به الرأس من طفل وغيره.

(الوضوء يجب لما يخرج من أحد المخرجين من بول أو غائط أو ريح):

قال غير واحد ينقض الوضوء باتفاق كل خارج معتاد من المخرج المعتاد على سبيل الصحة والاعتياد، واختلف إذا خرج ما ليس بمعتاد من المخرج المعتاد كالدود فأوجب منه الوضوء ابن عبد الحكم اعتبارا بالمخرج، قيل إنه لا أثر له قاله في المدونة وهو المشهور، وقيل إن خرجت معه بلة توضأ وإلا فلا، قاله ابن نافع وبه كان بعض من لقيته من القرويين يفتي، واختلف إذا تكرر خروج البول مثلا والمشهور سقوطه.

قال المازري: روي عن مالك أنه يجب منه الوضوء وعبر عنه ابن الحاجب بقوله. وقال المازري: وإن تكرر وشق. واعترضه ابن عبد السلام بأنه رواه فقط ومراد الشيخ بقوله أو ريح إذا كان من الدبر وأما إذا كان من القبل فكالعدم على ظاهر المذهب. وذهب بعض الشافعية إلى نقض الوضوء به ويتخرج مثله من قول ابن عبد الحكم السابق، لأنه إنما يعتبر المخرج مع زيادة اعتبار الصور النادرة ولا خلاف في المذهب فيما علمت أن الوضوء لا يجب إلا بعد دخول الوقت.

وقال التادلي: قد يقال إن ظاهر كلام الشيخ يقتضي إيجاب الوضوء ايجابا موسعا عند وجود الخارج لأنه علق الوجوب بالخارج وهو أحد قولي ناصر الدين، قلت هذا تكلف لا يحتاج إليه وهذا القول ليس بمذهبي، قالوا والوضوء مما خص الله به هذه الأمة إكراما لها واعتذروا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي" بأنه لم يصح وإن صح فالخصوصية للأنبياء لا للأمة ولأن فضيلته في الدار الآخرة إنما هي لهذه الأمة للغرة والتحجيل لهم في المحشر دون سائر الأمم.

(أو لما يخرج من الذكر من مذي مع غسل الذكر كله منه وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند اللذة بالإتعاظ عند الملاعبة أو التذكار):

ما ذكر الشيخ أنه يغسل كل الذكر هو قول أكثر الإفريقيين وهو ظاهر رواية

(1/67)

علي في المدونة وقيل يقتصر على محل الأذى خاصة قاله اللخمي مع جميع البغداديين وعلى الأول فقال بعضهم يفتقر إلى نية ورآه عبادة. وقال أبو محمد: لا يفتقر إليها.

واختلف إذا اقتصر على محل الأذى وصلى فقال الأبياني يعيد أبدا، وقال يحيى بن عمر: لا إعادة عليه، وقيل يعيد في الوقت قاله أبو محمد بن أبي زيد نقله القفصي في أسئلة عنه وبه قال بعض من لقيته من القرويين يفتي وظاهر كلام الشيخ أن الإنعاظ لا أثر له وإن كان كاملا وهو كذلك عند مالك. وقال ابن شعبان: الإنعاظ البين ينقض الوضوء واختاره اللخمي إن كانت عادته خروج المذي عقبه أو اختلفت عادته وإن كان الأمر على خلاف ذلك فلا، وفي كلام الشيخ تقديم التصديق على التصور وقد علمت أنه مجتنب.

وقال ابن هارون لا يلزم ذكر التصور لأنا نحكم على الملائكة بالوجود ولا نعرف صورهم سلمنا لكن لا فرق بين أن يكون قبل الحكم أو بعده يليه، قلت يرد الأول بأنا لم نكلف ذلك فلذلك لم يضرنا جهلنا بصفة الملائكة ويرد الثاني بأن إطباقهم على أن المطلوب تقديم التصور قبل التصديق يدل على ضعفه والله أعلم، نعم الجواب الحقيقي أحد أمرين، أحدهما أن المطلوب مطلق الشعور لا تحصيل كل الماهية وذلك يحصل بالإخبار بالحكم الثاني أن المشترط عندهم إنما هو التصور في نفس المتكلم على الحكم لا السامع والأول هو الذي عرج عليه غير واحد ممن أدركتهم والثاني هو اختيار أبي علي ناصر الدين الجائي رحمه الله تعالى.

(وأما الودي فهو ماء أبيض خاثر يخرج بإثر البول يجب منه ما يجب من البول):

ما ذكر أنه يخرج بإثر البول يريد في الأعم الأغلب ونبه عليه القاضي أبو محمد عبد الوهاب.

(وأما المني فهو الماء الدافق يخرج عن اللذة الكبرى رائحه كرائحة الطلع وماء المرأة رقيق أصفر يجب منه الطهر فيجب من هذا طهر جميع الجسد كما يجب من طهر الحيضة):

يريد كونه يخرج عند اللذة الكبرى بالجماع في الأعم الأغلب وإلا فقد يخرج بمجرد النظرة والفكرة وما ذكر أن رائحته كرائحة الطلع يعني به طلع فحل النخل يسقط منه غبار رائحته كرائحة المني ولا رائحة لطلع إناثها تشبهه قاله التادلي، ويعرف في حال يبسه بجعل نقطة من ماء عليه فإن نشفها بسرعة فهو مني قاله صاحب الحلل وإنما شبهه الشيخ بطلع النخل لوجهين، إما لأن النخل خلقت من طين آدم على نبينا

(1/68)

وعليه الصلاة والسلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "أكرموا عماتكم النخل" وإما لأن أطوارالإنسان سبعة كأطوار حمل النخل.

(وأما دم الاستحاضة فيجب منه الوضوء ويستحب لها ولسلس البول أن يتوضأ لكل صلاة):

اعلم أن دم الاستحاضة وسائر الأسلاس على ثلاثة أقسام: تارة تكون ملازمته أكثر من مفارقته فهذا يستحب منه الوضوء وعكسه المشهور يجب وأسقطه البغداديون، وتارة تستوى ملازمته مفارقته ففي الوضوء قولان متساويان، وتارة يلازم دائما فهذا لا يجب ولا يسحب إذ لا فائدة فيه. والقسمان الأولان هما اللذان أراد الشيخ بقوله يجب ويستحب أي يجب حيث تكون مفارقته أكثر ويستحب حيث تكون الملازمة أكثر فلا تناقض في كلامه وهذا أحسن ما قيل في الاعتذار عن الشيخ.

وأجيب بأجوبة أخر لم أذكرها لطولها وعدم الحاجة إليها. وقال الشيخ ابن عبدالسلام: القياس في دم الاستحاضة سقوط الوضوء منه مطلقا لأن الأصل في الدم ليس هو من نواقض الوضوء فلا مبالاة بقلته ولا بكثرته كبعض ما قيل في المني الخارج لغير اللذة، وحيث يستحب من السلس الوضوء فقال سحنون: لا يستحب غسل فرجه لأن النجاسة أخف من الحدث.

وقال صاحب الطراز: بل يستحب كهو واختلف هل يلزم صاحبه أن يعد خرقة عند صلاته أم لا؟ على قولين للأبياني وسحنون وكلاهما نقله القرافي ومن كثر عليه المذي بطول عزبة أو تذكر، فقال ابن الحاجب: المشهور الوضوء في مقابل التداوي قولان وأفتى الشيخ أبو الحسن اللخمي بتيمم من جرت عادته إن توضأ أحدث وإن تيمم فلا.

(ويجب الوضوء من زوال العقل بنوم مستثقل أو إغماء أو سكر أو تخبط جنون):

أخبر الشيخ أن زوال العقل موجب للوضوء، بين أن زواله بأربعة أشياء كما ذكر إلا أن قوله زوال العقل فيه مسامحة والأولى أن يقول استتار العقل إذ العقل لا يزيله النوم ولا الإغماء ولا السكر، وإنما يستره خاصة ولهذا سميت الخمر خمرا لأنها تغطي العقل وكذلك المجنون الذي يصيبه الجن ثم يعوده إلى حاله بخلاف المطبق الذي لا يفيق

(1/69)

أصلا فإنه قد زال عقله لا محالة، ولذلك اتفق على عدم خطابه مطلقا قاله الفاكهاني. وظاهر كلام الشيخ أن النوم سبب للحدث لكونه اشترط فيه الثقل وهو المشهور، وقيل إنه حدث قاله ابن القاسم في كتاب ابن القصار. ورواه أبو الفرج عن مالك كذا عزاه ابن بشير.

وأشار ابن الحاجب إلى أنه يؤخذ من المدونة وذلك أنه لما ذكر أنه سبب وتكلم في أقسامه كما سنقوله بعد إن شاء الله تعالى قال وفيها إذا قمتم يعني من النوم. واعلم أن اللخمي اعتبر النوم فقسمه على أربعة أقسام طويل ثقيل ينقض مقابله لا ينقض طويل خفيف يستحب مقابله قولان وذكر غيره في القسم الثالث قولين.

قال ابن عبد السلام: فيحتمل أن يكونا بالوجوب والاستحباب، ويحتمل أن يكون بالوجوب والسقوط، واعتبر الشيخ عبد الحميد الصائغ حالات النائم فقال ما معناه لا يخلو ذلك من أربعة أوجه، تارة يكون على هيئة يتيسر فيها الطول والحدث كالساجد ينقض مقابله كالقائم والمحتبي لا ينقض وتارة يتيسر فيها الطول دون الحدث والعكس كالجالس مستندا والراكع ففي النقض بذلك قولان، وظاهر كلام الشيخ أن الجنون والإغماء حدثان لكونه لم يشترط فيهما الثقل، كما اشترطه في النوم وهو كذلك قاله مالك وابن القاسم. ونقل اللخمي عن عبد الوهاب أنهما سببان وخرج على القولين من جن قائما أو قاعدا بحضرة قوم ولم يحسوا أنه خرج منه شيء واعترض كلامه من وجهين أحدهما لابن بشير أن عبد الوهاب أطلق عليهما أنهما سببان إلا أنه أوجب منهما الوضوء دون تفصيل. والثاني: لبعض شيوخنا أنه لا يلزم من عدم إحساسهم عدم خروجه قال ويلزمه في النوم.

(ويجب الوضوء من الملامسة للذة والمباشرة بالجسد للذة والقبلة للذة):

اعلم أن الملامسة على أربعة أقسام تارة يقصد ويجد فالوضوء باتفاق وعكسه لا وضوء باتفاق، وتارة يقصد ولا يجد فروى أشهب لا أثر له وروى عيسى عن ابن القاسم ينقض وهو ظاهر المدونة، وكلاهما حكاه ابن رشد. وجعل اللخمي المنصوص النقض وخرج من الرفض عدمه وضعفه ابن عبد السلام بأنه انضم هنا إلى النية فعل وهو اللمس فليسا سواء وتارة يجد ولا يقصد فالوضوء باتفاق عند ابن الحاجب.

وقال الرجراجي في النقض قولان قائمان من المدونة وهذا الخلاف إذا كان اللمس مباشرة، وأما إن كان من فوق حائل فروى ابن القاسم كالمباشرة، وروى

(1/70)

علي بن زياد إن كان خفيفا فحمله ابن رشد على التفسير، وحمله اللخمي على الخلاف قائلا رواية علي أحسن إن كان باليد وإن كان ضمها إليه فالكثيف كالخفيف، وذكر الشيخ المباشرة بالجسد بعد الملامسة حشو ويريد إذا كان مما يلتذ بلمسها عادة، وأما الصغيرة فلمسها لا أثر له لأن لمسها لا يوجب لذة وكذلك المحرم لقيام المانع العادي وظاهر كلام الشيخ ولو كان الملموس ظفرا أو شعرا وهو كذلك نص عليه ابن الجلاب.

وقيل أنهما لا يلحقان بما عداهما من الجسد لأن اللذة ليست بلمسهما وإنما هي بالنظر ولا أثر له، نقله ابن عبدالسلام عن بعض الشيوخ. وظاهر كلام الشيخ سواء كانت القبلة على الفم أم لا لأنه يعتبر قصد اللذة وهو كذلك في أحد القولين والمشهور أن القبلة في الفم تنقض مطلقا للزوم اللذة غالبا ما لم تكن قرينة صارفة عن قصد اللذة كقبلة الوداع.

(ومن مس الذكر)

اختلف في مس الذكر على ثمانية أقوال: فقيل ينقض بباطن الكف خاصة رواه أشهب وهو ظاهر كلام الشيخ في باب الغسل حيث قال: ويحذر أن يمس ذكره في تدلك بباطن كفه وقيل مثله مع زيادة باطن الأصابع قاله ابن القاسم في المدونة ونصها.

قال مالك: ولا ينتقض الوضوء من مس شيء من البدن إلا من مس الذكر وحده بباطن الكف.

قال ابن القاسم: وبباطن الأصابع مثله فحمله ابن رشد على التفسيرن ومقتضى كلام اللخمي أنه خلاف، وقيل مثله مع زيادة باطن الذراع قاله أبو بكر الوقار، وقيل إن التذ توضأ وإلا فلا قاله العراقيون. وقيل إن تعمد توضأ وإن لم يلتذ وإن نسي فلا شيء عليه رواه ابن وهب.

وقيل إن مس الكمرة توضأ وإلا فلا حكاه الشارقي عن ابن نافع. وقيل إن الوضوء منه حسن وليس بسنة.

(1/71)

وقيل: إن الوضوء منه ساقط وكلاهما عن مالك.

واختلف إذا مسه من فوق حائل على ثلاثة أقوال ثالثها إن كان خفيفا انتقض وإلا فلا. وإذا فرعنا على ما في المدونة فهل ينتقض الوضوء بحرف اليد والأصابع، في ذلك قولان حكاهما ابن العربي وفي النقض بإصبع زائدة قولان.

(واختلف في مس المرأة فرجها في إيجاب الوضوء):

اختلف قول مالك في مس المرأة فرجها على أربع مقالات: فقيل لا ينقض. رواه ابن القاسم وأشهب وهو مذهب المدونة. وقيل ينقض رواه علي بن زياد وقيل إن ألطفت توضأت وإلا فلا، رواه ابن أبي أويس. وقيل إن الوضوء منه مستحب حكاه ابن رشد عن مالك، فمن الشيوخ من راد القولين الأولين إلى الثالث ومنهم من قال إنها أقوال متباينة.

وأما الدبر فالمنصوص أنه لا أثر له هوخرجه حمديس على مس فرج المرأة، ورد بوجهين أحدهما عدم صحة القياس فإن الدبر لا يسمى فرجا وهذا لابن بشير. الثاني: عدم وجود اللذة في مس الدبر قاله عبد الحق ومثله لابن بشير أيضا.

وفي ابن عبد السلا ما يرد على ابن بشير، وذلك أنه قال لابن عبد البر ميل إلى مذهب الشافعي لقوله عليه السلام: "من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ". والدبر فرج لقوله صلى الله عليه وسلم في مريد قضاء الحاجة: "لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه".

وكذلك تفريق عبد الحق ضعفه ابن سابق بأن حمديسًا لم يعلل باللذة بل بمجرد اللمس، قلت وهو الصواب وقول ابن بشير كلهم يحومون على اللذة بعيد.

(ويجب الظهر مما ذكرنا من خروج الماء الدافق للذة في نوم أو يقظة من رجل أو امرأة):

قال صاحب الطراز خروج ماء المرأة ليس يشترط في جنابتها لأن عادته ينعكس إلى الرحم ليخرج منه الولد فإذا أحست بنزوله وجب عليها الغسل وإن لم يبرز. وظاهر كلام الشيخ أن وجود المني في مسألة النوم موجب الغسل وإن لم يتذكر الموطن وهو كذلك عندنا. وشذ بعض المتقدمين فرأى اعتبار تذكر الموطن وظاهر كلام الشيخ سواء

(1/72)

كانت معتادة أو غير معتادة وهو كذلك عند سحنون وابن شعبان. وقيل لا يجب في اللذة غر المعتادة وختلف إذا أمنى لغير لذة كمن ضرب فأمنى، ففي وجوب الغسل قولان لابن شعبان وابن سحنون والأخير منهما جعله ابن بشير هو المشهور. وسبب اختلافهم في هذين الفرعين اختلافهم في الصور النادرة هل تراعي أم لا؟ وإذا فرعنا على عدم وجوب الغسل فهل يجب الوضوء أم لا؟ فيه اختلاف والجاري على أصول المذهب أنه لا يجب لأنه ليس بمعتاد في نواقض لوضوء فأشبه الحصى.

(وانقطاع دم الحيضة أو الاستحاضة أو النفاس):

أما انقطاع دم الحيض والنفاس فالإجماع على وجوب الغسل كما قال الشيخ وأما دم الاستحاضة فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل لا أثر له وقيل تتطهر استحبابا وكلاهما قاله مالك ورجع إلى الأخير والقولان في المدونة. وقيل إنها تغتسل وجوبا على ظاهر نقل الباجي، قال مالك مرة تغتسل ومرة ليس ذلك عليها، وقال ابن القاسم ذلك واسع فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لا اعتراض على الشيخ في قوله إن الغسل واجب.

قال ابن عبد السلام: ظاهر كلام الشيخ أبي محمد الوجوب واستشكله غير واحد، قلت ورده بعض شيوخنا بأنه إن كانت مخالفة المدونة فالمشهور لا يتقيد به وإن كان لعدم وجود فقصور لما سبق، وظاهر كلام الشيخ أنها إذا ولدت ولدا جافا أنه لا يجب الغسل عليها وهو أحد القولين في نقل ابن بشير وحكاهما ابن الحاجب روايتين.

وفي العتبية من سماع أشهب من ولدت بغير دم اغتسلت ثانيا ولم يجزها الأول قال اللخمي: هذا استحسان لأن الغسل للدم لا للولادة ولو اغتسلت لخروج الولد دون الدم اغتسلت ثانيا ولم يجزها الأول، وقال ابن رشد معنى سماع اشهب دون دم كثير إذ خروج الولد بلا دم معه ولا بعده محال عادة، قلت: وكان بعض من أدركناه يحكي عمن يثق بقوله إنه شاهد خروج الولد من زوجته بلا دم البتة ولم يعقبه بعده دم.

(أو بمغيب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل):

قال أبو محمد صالح يعني في محل الافتضاض، وأما في محل البول فلا أثر له وأبعده التادلي قائلا لأن غاية أمره أن يكون كالدبر وهو يوجب الغسل، قلت يريد في مشهور المذهب. وحكى ابن رشد رواية عن مالك لا غسل من الوطء في الدبر وخرجها على القول بمنع الوطء فيه ورده بعض شيوخنا بأن اتفاق الأكثر على المنع من الوطء، وعلى

(1/73)

وجوب الغسل يريد تخريجه والبهيمة كالآدمي نص عليه غير واحد كابن العربي عن المذهب.

وقال الشيخ أبو القاسم بن محرز ثلاث وجبات: مغيب الحشفة في قبل أو دبر من آدمي، قال بعض شيوخنا ظاهره أن وطء البهيمة دون إنزال لا أثر له إلا أن يريد لمن عليه الوجوب لا لسببه، وظاهر كلام الشيخ أن الحشفة إذا غابت موجبة الغسل وإن دخلت ملفوفة وهو كذلك ومعناه إذا كان اللف رقيقا، وأما الكثيف فلا ونص عليه ابن العربي. وكان بعض من لقيناه يخرج فيه قولان بوجوب الغسل مطلقا من أحد القولين في لمس النساء من فوق حائل كثيف. قلت ولا يتخرج فيه قول بنفي الغسل مطلقا من أحد الأقوال في مس الذكر لأن الوطء أخص في استدعاء اللذة.

وقال التادلي: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: ثالثها إن كان الحائل رقيقا وجب وإلا فلا وهو الأشبه بمذهبنا، وما ذكره لا أعرفه وأراد بقوله وهو الأشبه بمذهبنا أي الجاري على أصول المذهب المشهور قياسا على مس الذكر والله أعلم.

وظاهر كلام الشيخ أن بعض الحشفة لغو وهو كذلك على ظاهر المدونة. ونص على هذا اللخمي ونقل صاحب الحلل عن غير اللخمي إذا غاب الثلثان منها وجب وإلا فلا، قلت: وما ذكره لا أعرفه.

(ومغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل ويوجب الحد ويوجب الصداق ويحصن الزوجين ويحل المطلقة ثلاثا للذي طلقها ويفسد الحد ويفسد الصوم):

إنما كرر كون مغيب الحشفة يوجب الغسل ليركب عليه ما بعده وإلا فقد ذكر ذلك. ومعنى يوجب الصداق أي كماله وإلا فالنصف حاصل بالعقد، واختلف إذا وطئها في دبرها هل هلا جميع الصداق كالوطء في القبل أم النصف فقط كلاهما حكاه اللخمي، قلت وأخذ بعض شيوخنا الأول من قول رجم المدونة وطؤها في دبرها جماع لأن شك فيه.

واختلف إذا افتضها بإصبعه على ثلاثة أقوال قيل: لها كل المهر قاله ابن القاسم وقيل لها النصف وما شأنها قاله في سماع أصبغ وقيل إن لم يرج لها إنها لا تتزوج بعد ذلك إلا بمهر ثيب فلها جميعه، قاله اللخمي. وما ذكر أن المطلقة ثلاثا تحل بالوطء بمغيب الحشفة هو كذلك عندنا خلافا للحسن في قوله لا تحل إلا بالإنزال وقيل إن العقد كاف في الإحلال، قاله سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. قال أبو عمران: وإلى

(1/74)

هذا القول ذبه ابن اللباد الفرضي في النكاح.

قلت: وأخذه المغربي من قول أشهب في النكاح الثالث من المدونة ونصها قال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح تحريم للأمة كان يطؤها أم لا، ذكر قول أشهب هذا فيما إذا وطئ أمة بملك ثم تزوج أختها، والمشهور أنه يشترط في التحليل الانتشار قال بعض من لقيناه وانظر هل يتخرج هذا الخلاف في وجوب الغسل أم لا، ولم أر فيه نصا وهو قصور لنقل أبي محمد عن ابن شعبان إذا أدخلت زوجة العنين ذكره في فرجها لزمها الغسل قال أبو محمد لا أعرف فيه خلافا.

(وإذا رأت المرأة القصة البيضاء تطهرت وكذلك إذا رأت الجفوف تطهرت مكانها رأته بعد يوم أو يومين أو ساعة):

قال ابن الحاجب: الحيض الدم الخارج بنفسه من فرج الممكن حملها عادة غير زائد على خمسة عشر يوما من غير ولادة واعترض بأربعة أوجه:

أحدها: استعمال لفظ بنفسه في غير موضعه لأنه إنما يستعمل إذا أريد تأكيد الذات كقولك جاء زيد نفسه.

الثاني: أنه غير مانع لدخول نوع من دم الاستحاضة فيه وهو ما زاد على العادة أو العادة والاستظهار إذا كان أقل من خمسة عشر يوما.

الثالث: أن في حده الحشو وهو قوله من غير ولادة فإن قوله بنفسه يغني عنه. وهذه الثلاثة حكاها ابن عبدالسلام ويجاب عن الثاني بأن قول مالك فلا يعترض بها هو مختلف اختلافا قويا إذ هو في المدونة.

الرابع: ذكره ابن هارون بأنه يخرج عن كلامه دم الحامل فإنه فيه تفصيلا بين أول الحمل وآخره ففي أوله خمسة عشر يوما ونحوها وبعد ستة العشرين ونحوها، قلت ويجاب بأن أشهب روى عن مالك أنها كغيرها فكلامه جار على قول مالك أيضا وظاهر كلام الشيخ أن القصة والجفوف سيان وإليه ذهب الداودي وعبدالوهاب قال ابن القاسم القصة أبلغ.

وقال ابن عبد الحكم: الجفوف أبلغ وهذا في حق المعتادة وأما المبتدئة فقال ابن القاسم تنتظر الجفوف. قال الباجي: هذا نزوع منه إلى قول ابن عبد الحكم، ورده المازري بأن المبتدئة لم تتقرر في حقها عادة أحدهما فإذا رأت الجفوف أولا فهي علامة، والأصل عدم القصة في حقه فلا معنى للتأخير لأمر مشكوك فيه. وإذا رأت المرأة القصة أولا

(1/75)

أخرت لأنه لا بد أن يعقبها الجفوف فكان التأخير لأمر محقق وليس كذلك المعتادة.

(ثم إن عاودها دم أو رأت صفرة أو كدرة تركت الصلاة ثم إذا انقطع عنها اغتسلت وصلت ولكن ذلك كله كدم واحد في العدة والاستبراء حتى يبعد ما بين الدمين):

أما الدم فلا خلاف فيه أن الأمر كما ذكر وكذلك الصفرة والكدرة في مشهور المذهب مطلقا، وقيل هما كالدم ما لم يكونا بعد اغتسال قبل تمام طهرها فإنه لا أثر لخروجها قاله ابن الماجشون قائلا: يجب منهما الوضوء فقط. قال اللخمي: وهو خلاف نص المدونة وجعله الباجي والمازري المذهب.

(مثل ثمانية أيام أو عشرة فيكون حيضا مؤتنفا):

اختلف في أقل الطهر على خمسة أقوال: فقيل: خمسة أيام قاله ابن الماجشون وقيل ثمانية أيام قاله سحنون وقيل عشرة أيام قاله ابن حبيب وقيل خمسة عشر يوما قاله ابن مسلمة وجعله ابن شاس وابن الحاجب المشهور. وقيل ما يراه النساء قاله مالك من رواية ابن القاسم. وأما أكثر الطهر فلا حد له اتفاقا واعلم أن الشيخ أراد بقوله مثل ثمانية أيام أو عشرة الإخبار بأن المسألة اختلف فيها على قولين فكأنه يقول مثل ثمانية أيام في قول أو عشرة في قول، وكثيرا ما يفعل ذلك ومنه وترفع يديك حذو منكبيك ودون ذلك.

وقوله: وإذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع أو ما يصلي فيه عشرين صلاة أتم الصلاة، ولا يقال إن كلامه غير مطرد في ذلك ألا ترى إلى قوله تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك لأن قرينة قوله وذلك واسع يفهم منه إرادة التخيير فقط.

(ومن تمادى بها الدم بلغت خمسة عشر يوما ثم هي مستحاضة تتطهر وتصوم وتصلي ويأتيها زوجها):

ظاهر كلامه سواء كانت معتادة أو مبتدئة أو حاملا وهو كذلك في أحد الأقوال عموما فأما المبتدئة ففي المدونة تمكث خمسة عشر يوما وروى علي بن زياد تطهر لعادة لداتها وروى ابن وهب وثلاثة أيام استظهارا.

(1/76)

وقال عبد الوهاب مثله ما لم تزد على خمسة عشر يوما، وقال اللخمي لو قيل تطهر لعادة أمثالها من قرابتها لكان حسنا، ومثل هذا اللفظ لا يعد قولا حسبما نص عليه صاحب اللمع فيما إذا قال المجتهد لو قال بهذا قائل لكان مذهبا فإنه لا يعد قولا. وأما المعتادة ففي المدونة خمسة عشر يوما وترجع إلى عادتها مع الاستظهار بثلاثة أيام ما لم تزد على خمسة عشر يوما، وقيل عادتها فقط قاله ابن عبد الحكم. وقيل خمسة عشر يوما واستظهار يوم أو يومين، وقيل بل تستظهر بثلاثة أيام قاله ابن نافع فهذه خمسة أقوال.

واختلف على القول باعتبار العادة مع الاستظهار فقيل العادة الأكثرية وهو المشهور، وقيل الأقلية ابن حبيب وابن لبابة، وكذلك اختلف فيما بين العادة والعادة مع الاستظهار إلى خمسة عشر يوما هل هي طاهرة حقيقة أو تحتاط على قولين، وأما الحامل فالأكثر على أنها تحيض، ووقع لابن القاسم ما يقتضي أنها لا تحيض كقول ابن لبابة وذلك أنه قال فيمن اعتدت بالحيض ثم ظهر حملها لو علمته حيضا مستقيما لرجمته فأخذ منه غير واحد ما قلناه.

قال ابن بشير في شرحه على ابن الجلاب إنما هو إشارة للتشكيك كقول الداودي لو أخذ فيه بالأحواط لكان حسنا وعلى الأول فقال مالك يجتهد لها وليس في ذلك حد وليس أول الحمل كآخره، وقال ابن القاسم تمكث بعد ثلاثة أشهر ونحوها خمسة عشر يوما ونحوه بعد ستة أشهر العشرين ونحوها، واختلف أصحابنا من التونسيين هل هو خلاف لقول مالك السابق أو هو تفسير له؟ وروى أشهب أن الحامل كغيرها والخلاف في الحامل أكثر من المعتادة ولولا الإطالة لذكرناه.

(وإذا انقطع دم النفساء وإن كان قرب الولادة اغتسلت وصلت):

قال ابن الحاجب: النفاس الدم الخارج للولادة قال ابن عبد السلام: وكان يلزم على طريقه في حد الحيض أن يقول غير زائد على ستين إلا أن يعتذر عنه بأن الخمسة عشر هناك على الأكثر على المشهور، والذي رجع إليه في النفاس أن يسأل عنه النساء فيمكن ذكر الزمان هناك ولم يكن هنا وفيه نظر، قلت وجه النظر الذي أشار إليه والله أعلم هو أن القول المرجوع إليه هناك أيضا العادة مع الاستظهار ما لم تبلغ خمسة عشر يوما، فلو كان المعتبر إنما هو القول المرجوع إليه لما قال في الحيض غير زائد على خمسة عشر يوما.

(1/77)

قال الجوهري: ويقال نفست بضم النون وفتحها في الولادة وبالفتح في الحيض فقط، وحكى الأصمعي وأبو حاتم الوجهين معا ولا خلاف أعلمه بين أهل العلم أنه إذا انقطع دم النفساء أنها تغتسل، وجملة نساء عوام إفريقية يعتقدون أنها تمكث أربعين يوميا ولو انقطع عنها الدم وهو جهل منهن فليعلمن.

(وإن تمادى بها الدم جلست ستين ليلة ثم اغتسلت وكانت مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ):

ما ذكر أنها تجلس ستين يوما هو قول مالك. قال مطرف: بذلك رأيته يفتي وقيل ما يراه النساء وإليه رجع مالك والقولان معا في المدونة، وقال ابن الماجشون: السبعون أحب إلي من الستين. قلت: وسمعت بعض من لقيته ممن يظن به حفظ المذهب ينقل غير ما مرة: أن بعض أهل المذهب حكى قولا في المذهب باعتبار أربعين ليلة. قال: وغاب عني ناقله وأكثر أهل المذهب إنما يعزون لأبي حنيفة.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب طهارة الماء والثوب والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

والمصلي يناجي ربه فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء أو بالطهر إن وجب عليه الطهر، ويكون ذلك بماء طاهر غير مشوب بنجاسة ولا بماء قد تغير لونه لشيء خالطه من شيئ نجس أو طاهر. انظر لأي شيء ذكر الشيخ في هذه الترجمة ما يجزئ من اللباس في الصلاة وذكر ذلك في الصلاة أمس ولذلك كرر الشيخ ذلك في جامع الصلاة. والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة.

وفي الاصطلاح قال المازري: إزالة النجس أو ما في معناه بالماء أو ما في معناه

(1/78)

واعترضه بعض شيوخنا بأن كلامه إنما يتناول التطهير، والطهارة غير التطهير لثبوتها دونه فيما لم يتنجس وفي المطهر بعد الإزالة. وأما الطهارة فهي صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أول فالأولان من خبث والأخير من حدث والطهورية توجب له كونه الموصوف بحيث يصير المزال به نجاسته طاهرا قال: فهي ثلاثة حقائق.

(إلا ما غيرت لونه الأرض التي هو بها من سبخة أو حماة ونحوهما):

إنما جاز الوضوء بماء السبخة والحماة ونحوهما لأن ذلك ملازم للماء فألحق بالمطلق لعدم الانفكاك فلابد من معرفة المطلق. قال ابن الحاجب: المطلق الطهور وهو الباقي على أصل خلقته واعترضه بعض شيوخنا بأنه ينتقض بماء الورد وشبهه ولا يجاب بإطلاق المطلق لأنه المعرف، واختلف المذهب فميا غير لونه ورق حشيش أو شجر غالبا على ثلاثة أقوال: فقيل إنه لا يضر قاله العراقيون وقيل عكسه قاله الأبياني وقيل يكره أخذا من قول السليمانية تعاد الصلاة بوضوئه في الوقت مراعات للخلاف، قلت في هذا الأخذ نظر، لأن المكروه لا تعاد منه الصلاة في الوقت وإنما يحمل هذا القول على أنه لا يجوز ابتداء ولكن تعاد الصلاة في الوقت مراعاة للخلاف، وكذلك اختلف في الماء المغير بحبل السانية على ثلاثة أقوال: فقيل إنه طهور.

قاله ابن زرقون وعكسه قاله ابن الحاج، وقيل بالأول إن كان تغيره غير فاحش قاله ابن رشد. وفي التغير بالملح ثلاثة أقوال: فقيل إنه لا أثر له قاله ابن القصار وعكسه قاله القابسي وقيل الفرق بين المعدني فالأول والمصنوع فالثاني قاله الباجي وزعم البلنسي أنه المشهور والكلام في هذا الفصل متسع جدا ومحله المدونة وابن الحاجب.

(وما غير لونه بشيء طاهر حل فيه فذلك الماء طاهر غير مطهر في وضوء أو طهر أو زوال نجاسة):

ما ذكره في الوضوء والطهر متفق عليه وفي النجاسة هو كذلك عند الأكثر وقيل إنها تزال بكل مائع، قال ابن الحاجب: وقيل كنحو الخل يريد كماء الورد وشبهه لا أنها تزال بالخل لأنه إدام.

قال ابن عبد السلام: وهذا القول هو القياس للاتفاق على عدم اشتراط النية، قلت ما ذكره من الاتفاق نقله ابن القصار بلفظ الإجماع وحكى القرافي عن التلخيص أنها تفتقر إلى نية. قال ابن العربي: ولو جففت الشمس موضع بول لم يطهر على المشهور.

(1/79)

(وما غيرته النجاسة فليس بطاهر ولا مطهر)

ظاهر كلام الشيخ: سواء كان التغير في اللون أو في الطعم أو في الريح، فأما الطعم واللون فالأكثر على أن من توضأ به يعيد أبدا، ونقل ابن زرقون عن ابن شعبان عن ابن القاسم أن من توضأ بماء تغير بموت دابة برية سائلة النفس فإنه يعيد في الوقت كذا نقله عن بعض شيوخنا وظاهر نقله وسياقه ولو تغير باللون أو الطعم وليس كذلك بل إنما نقله ابن زرقون في تغير الريح فقط، واختلف في تغير الريح على ثلاثة أقوال: فقيل إنه يؤثر.

وقال ابن الماجشون: لا أثر له وقيل بالأول إن تغير شديدا أخذ من قول سحنون أن من توضأ بماء تغير بما حل فيه تغيرا شديدا يعيد أبدا، وهذه الأقوال حكاها ابن رشد وقال عياض: أجمعوا على نجاسة ما غير ريحه نجس وضعف نقله بما سبق، وقال ابن بشير في قول ابن الماجشون: ولعل قصد التغيير بالمجاورة ورده غير واحد من شيوخنا وغيرهم بنقل الباجي عن ابن الماجشون إن وقعت فيه ميتة لم يضره إن تغير ريحه فقط.

(وقليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره):

ما ذكر من أنه نجس هو قول ابن القاسم وهو ظاهر المدونة عند بعضهم في قولها يتمم ويتركه، فإن توضأ به وصلى أعاد في الوقت، فقول المدونة يتيمم يقتضي أنه نجس وإنما قال يعيد في الوقت مراعاة للخلاف وقيل إنه مكروه.

قال ابن رشد وهو المشهور وتأول على المدونة أيضا لقولها يعيد في الوقت وقيل مشكوك فيه فيجمع بينه هو وبين التيمم، وهذا القول تأوله القاضي عبد الوهاب على المدونة أيضا وضعف لبعده من اللفظ وبه قال ابن الماجشون وسحنون وضعفه ابن رشد؛ لأن الشك في الحكم ليس بمذهب وإنما هو وقف غيره وإنما المشكوك ما شك في حلول النجاسة فيه.

قال ابن هارون: وفيه نظر لأن الشك في الحكم قد يكون لتعارض الأدلة عند المجتهد فيرى في المسألة بالاحتياط وقيل إنه طاهر من غير كراهة نقله اللخمي عن أبي

(1/80)

مصعب واعترضه ابن بشير بعدم وجوده وإنما الموجود الطهورية مع الكراهة لأن البغداديين قالوا بالكراهة ومعولهم رواية عن أبي مصعب قال ابن هاروبن: وهو ضعيف لأنه شهادة على النفي، وأيضا فإن أبا مصعب حكى عن مالك أنه قال: الماء كله طاهر ما لم يتغير أحد أوصافه معينا كان أو غير معين وظاهره نفي الكراهة.

وقال المازري: ذهب بعض من قال إن الماء طهور إلى الكراهة وهذا يدل على أن بعضهم لم يقل بالكراهة، ونقل هذا القول الإمام فخر الدين عن الحسن البصري والنخعي ومالك وداود قال: وإليه ما الغزالي في الإحياء، واختلف على القول بأنه مشكوك، فقيل يتوضأ ويتيمم لصلاة واحدة قاله ابن الماجشون ورواه ابن مسلمة وقيل بتيمم ثم يتوضأ لصلاتين قاله ابن سحنون.

(وقلة الماء مع أحكام الغسل سنة والسرف منه غلو وبدعة وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد وهو وزن رطل وثلث وتطهر بصاع وهو أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم):

قال ابن هارون: ظاهر كلام الشيخ في قوله السرف منه غلو وبدعة أن طرح الماء ممنوع، وهو خلاف المشهور من المذهب في الدجاج والأوز المخلاة أن الماء يراق بخلاف الطعام لاستجازة طرح الماء فظاهره جواز طرحه بغير سبب، قال: وقد يحمل جواز الطرح على ما حصل فيه شبهة كلاذي يشربه ما عادته استعمال النجاسة والمنع على ما كان من غيرسبب، قلت: لا معارضة بين قول الشيخ وغيره وإنما كان السرف منه بدعة فيما ذكر الشيخ لأنه إسراف في عبادة وقد جاء في الشرع التقليل من ذلك، وأما إراقة الماء لا في استعمال العبادة فذلك جائز اختيارا والله أعلم. وقوله وقد توضأ صلى الله عليه وسلم بمد إلى آخره المشهور من المذهب أن الواجب الإسباغ فمهما حصل الإسباغ ولو بأقل من المد فإنه يجزئ، وكذلك في الغسل بأقل من الصاع وقال ابن شعبان: لا يجزئ أقل من المد والصاع لأنه لا أحد أرطب من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(وطهارة البقعة للصلاة واجبة):

وكذلك طهارة الثوب فقيل إن ذلك فيهما واجب وجوب الفرائض وقيل

(1/81)

وجوب السنن المؤكدة اختلف المذهب في إزالة النجاسة على خمسة أقوال: فقيل أن ذلك واجب وليس بشرط وهذان قولان هما اللذان أرد الشيخ بقوله: فقيل إن ذلك فيهما إلخ، كذا فهمه غير واحد كابن الحاجب. والأقرب أن الشيخ إنما أراد بذينك الوجوب والسنة المؤكدة كذا فهمه وعليه حمله ابن هارون فهذه ثلاثة أقوال.

والرابع: أنه واجبة مع الذكر والقدرة ساقطة مع العجز والنسيان وهو ظاهر المدونة وقيل فضيلة حكاه ابن رشد في المقدمات، وزعم الشيخ عبد الحق في تهذيب الطالب أن المشهور من المذهب القول بالسنية وهو كذلك.

قال الشيخ أبو الحجاج الصنهاجي- أحد شيوخ الفاكهاني رحمهم الله- وهذا يعني النجاسة الظاهرة، واخلتف في النجاسة الباطنة كمن شرب خمرا ولم يسكر ففي كتاب ابن المواز اعتبار ذلك لأنه أدخله في جوفه اختيارا وقال التونسي لغو. قال الفاكهاني: وانظر لم جعل المؤلف البقعة أصلا وحمل طهارة الثوب عليه ولم يشرك بينهما بواو العطف؟! فيقول طهارة البقعة والثوب وربما كان طلب الطهارة في الثوب أكد منه في البقعة بدليل أنه يصلي على حصير بطرفه الآخر نجاسة لا تماس، ولا يصلي بثوب فيه شيء من النجاسة وإن لم تماس وانظر أيضا لم يذكر طهارة البدن وهو أيضا مشترط في صحة الصلاة؟ قلت لأن كلامه دل عليه من باب أحرى فلذلك لم يذكره، والله أعلم.

(وينهى عن الصلاة في معاطن الإبل ومحجة الطريق وظهر بيت الله الحرام):

قال المازري: خص ابن الكاتب النهي بالمعطن المعتاد وأما ما كان لمبيت ليلة واحدة فلا، لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم لبعيره في السفر. قلت: ورده بعض شيوخنا باحتمال كونه في غير معطن، وظاهر كلام الشيخ أن مرابض البقر والغنم الصلاة فيها جائزة وهو كذلك على المنصوص، وخرج بعضهم البقر على الإبل للتعليل بالنفور ورده عبد الوهاب لشدته في الإبل وخرجها بعضهم على الإبل على قول ابن القاسم الشاذ أن بول ما يؤكل لحمه وروثه نجس وهي رواية موسى بن معاوية الصمادحي حكاه ابن رشد.

وقوله: ومحجة الطريق قال ابن رشد قال ابن حبيب: ويعيد العامد والجاهل أبدا والساهي في الوقت، وأما المضطر للطريق فتجوز صلاته بها، وفي المدونة أكره الصلاة بما لما يقع فيها من أرواث الدواب وأبوالها وصلاة من صلى بها تامة ولو كان بها.

وقوله: وظهر بيت الله الحرام ظاهر كلام الشيخ أن الصلاة في الجوف جائزة وهو كذلك فسواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا قاله اللخمي.

(1/82)

وقيل: أما النافلة فجائزة وأما الفريضة فلا وهو المشهور فيحصل من هذا أن النفل لا خلاف في جوازه، وأما الفرض ففيه قولان وإلى هذا أشار ابن الحاجب بقوله: والمشهور جواز النفل في الكعبة لا الفرض يريد، والشاذ جواز الفرض كالنفل.

وقال ابن عبد السلام: الشاذ منع النفل كالفرض واعترضه بعض شيوخنا بأن تفسيره يرد بالنقل والفهم، أما النقل فإنه لم يقل بمنع النفل إلا داود، وأما الفهم فأن ابن الحاجب إنما أراد جواز الفرض كالنفل فإن صلى الفريضة في الكعبة فقال في المدونة يعيد في الوقت وحمل على الناسي.

وقال ابن حبيب: يعيد أبدا وقال أشهب: لا إعادة عليه وإن صلى فوق الكعبة فقيل يعيد أبدا وقيل لا إعادة عليه. وقيل إن أقام ساترا فكالصلاة في الجوف تعاد في الوقت وإلا فأبدا، وقيل: إن ترك بين يديه قطعة من سطحها فكالصلاة في الجوف نقله ابن شاس عن المازري عن أشهب وتبعه ابن الحاجب وابن عبد السلام ووهمهم بعض شيوخنا بأن المازري إنما عزاه لأبي حنيفة فقط.

(والحمام حيث لا يوقن منه بطهارة والمزبلة والمجزرة):

ظاهر كلام الشيخ إن أيقن بطهارته أن الصلاة فيه جائزة، وهو كذلك على مشهور المذهب، وقيل إن الصلاة فيه مكروهة نقله اللخمي عن القاضي عبد الوهاب المتقدم، وسمعت بعض من من لقيته من القرويين ممن تولى قضاء الجماعة بتونس يحكي أن الشيخ أبا القاسم بن زيتون لما قدم من الشرق إلى تونس سأله المنتصر أميرها عن الصلاة بالحمام فقال جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144]

وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وأجمعت الأمة على ذلك واعترضته بقول القاضي عبد الوهاب المتقدم فلا إجماع مع وجوده فلم يجيبني إلا بما لا يصلح أن يكون جوابا ويمكن أن يقال: إن المكروه من قبيل الجائز بالنسبة إلى صحة الصلاة على أن الذي ذكره في الحديث يمكن أن يكون مخصوصا وفي الترمذي ونهى عن الصلاة في سبعة فذكر منها الحمام والمسلخ، محمول على الطهارة حتى تظهر النجاسة، نص عليه القاضي ابن رشد.

(1/83)

(ومقبرة المشركين):

ظاهره أن مقابر المسلمين الصلاة فيها جائزة وهو قول ابن حبيب قائلا: إن مقبرة المشركين حفرة من حفر النار وألحق بمقابر المشركين مقابر المسلمين إذا نبشت لأجل النجاسة وقيل تكره الصلاة بالمقبرة مطلقا وقيل تجوز مطلقا، وقال عبد الوهاب: تكره في الجديدة ولا تجوز في القديمة إن نبشت إلا ببساط طاهر عليها.

(وكنائسهم):

إنما نهى عن الصلاة في الكنائس للنجاسة والصور؛ فإن وقعت الصلاة في الكنيسة العامرة فإن تحققت نجاستها فواضح وإن لم تتحقق فاختلف في إعادة الصلاة على ثلاثة أقوال: فقيل: تعاد وقتا قاله سحنون.

وقل مثله ما لم يضطر فلا يعيد وهو سماع أشهب وعزاه ابن رشد للمدونة أيضا وقيل يعيد العامد والجاهل أبدا والمضطر والناسي في الوقت قاله ابن حبيب، والصلاة في الكنيسة الدائرة من آثار أهلها جائزة باتفاق إن اضطر إلى النزول فيها وإلا كره وهو ظاهر قول ابن عمر.

ونقل المازري عن ابن حبيب أن من صلى ببيت كافر أو مسلم لا يتنزه من نجاسة يعيد أبدا، وسمع ابن القاسم لا بأس بالصلاة في مساجد الأفنية يدخلها الدجاج والكلام قال ابن رشد يريد ما لم يكثر دخولها.

(وأقل ما يصلي فيه الرجل من اللباس في الصلاة ثوب ساتر من درع أو رداء والدرع القميص):

اعلم أن ستر العورة عن أعين الناظرين لا خلاف في وجوبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الناظر والمنظور إليه"، وأما سترها في الخلو فالمعروف أن ذلك مستحب ولم يحك المازري غيره، وقيل إن ذلك واجب حكاه ابن شاس واختاره ابن عبد السلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم فاستحيوا منهم وأكرموهم".

وإذا فرعنا على القول الأول فقيل إنها تجب في الصلاة وقيل لا، وقال ابن بشير لا خلاف أن ذلك واجب وإنما الخلاف في الشرطية وعدمها، وانتقد على اللخمي حكاية الخلاف بالوجوب والسنية.

(1/84)

قال ابن هارون وهو منه تعسف؛ لأن من حفظ مقدم على من لم يحفظ وقد حكى ما ذكره اللخمي أبو القاسم بن محرز وابن رشد والباجي وغيرهم.

واختلف في عورة الرجل على ستة أقوال: فقيل سوأتاه خاصة قال أصبغ وقيل سوأتاه وفخذاه قاله ابن الجلاب.

وقيل في السرة إلى الركبة قاله جمهور أصحابنا نقله الباجي وقيل: من السرة حتى الركبة قاله بعض أصحاب مالك، وقيل السوأتان مثقلها وإلى سرته وركبتيه مخففها قاله الباجي، وقيل الفخذ عورة وليس كالعورة نفسها قاله أبو محمد في باب الفطرة وأخذ الأبهري من المدونة من كتاب الأيمان والنذور أن ستر جميع الجسد في الصلاة واجب.

(ويكره أن يصلي الرجل بثوب ليس على أكتافه منه شيء فإن فعل لم يعد):

لا معنى لقوله فإن فعل لم يعد مع قوله ويكره ويمكن على "يعد" أن يكون إنما ذكره لئلا يفهم منه أن تكون الكراهة للتحريم واختلف الشيوخ في تأويل الكراهة فقيل لأنه يصف.

وقيل لأنه من زي الأعاجم وضعف بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في جبة شامية ضيقة الأكمام وهي من زي الأعاجم، وما ذكره الشيخ من أنه لا يعيد هو المشهور مطلقا وقال أشهب: من صلى بسراويل فإنه يعيد قال ابن حارث والإزار مثله قلت إن كان نصا فمسلم وإلا فمشكل لأن السراويل تصف العورة.

(وأقل ما يجزئ المرأة من اللباس في الصلاة الدرع الحصيف السابغ الذي يستر ظهور قدميها وخمار تتقنع به وتباشر بكفيها الأرض في السجود مثل الرجل):

اعلم أن المرأة كلها عورة حتى دلاليها وقصتها قاله الباجي ما عدا الوجه والكفين وقيل وقدميها حكاه ابن عبد البر، فإن صلت عريانة الصدر أو الشعر أو القدمين أعادة في الوقت وقيل إنها لا تعيد مطلقا وقيل تعيد أبدا، وإلى هذه الأقوال الثلاثة أشار ابن الحاجب بقوله ورأس الحرة وصدرها وأطرافها كالفخذ للأمة على تفسير ابن عبد السلام، وأما إن صلت عريان اختيارا فالمنصوص تعيد أبدًا، وخرج اللخمي من قول أشهب في الرجل يعيد في الوقت أن تكون هي في ذلك مثله ورده بعض شيوخنا بأن تعريها أشنع، قلت ويجاب بأن الشناعة إنما بالنسبة إلى أعين الناظرين وأما في الصلاة فلا فرق بينها وبين الرجل والله أعلم. ونقل ابن هارون عن

(1/85)

أشهب أنها تصلي في الوقت ولا أعرف له نصا بل بالتخريج كما تقدم وفي المدونة، ومن تؤمر بالصلاة كالبالغة في الستر وروى اللخمي بنت إحدى عشرة سنة كالبالغة وبنت ثمان أخف إن صلت بغير قناع أعادت في الوقت وكذلك الصبي يصلي عريانا فإن صليا بغير وضوء أعادا أبدا قاله أشهب.

وقال سحنون يعيدان فيما قرب كاليومين والثلاثة، قلت وقول أشهب بعيد لأنه قلب النفل فرضا للاتفاق على أن من لم يبلغ إنما يؤمر بالصلاة تمرينا فكيف يعيدها بعد بلوغه على ظاهر قوله يعيد أبدا أرأيت إن كان لا يصلي أيقول يعيد أبدا فتأمله.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

الاستنجاء: غسل موض الخبث بالماء، والاستجمار: إزالة ما على المخرجين من الأذى بكل جامد طاهر منق ليس بمطعوم ولا بذي حرمة ولا بذي سرف ولا يتعلق به حق، لذي حق وسمي ذلك استجمارا من الجمار وهي الحجارة الصغار وقيل من الاستجمار بالبخور والحجر يطيب المحل مثل ما يطيب البخور، وقد يطلق الاستنجاء على الاستجمار أيضا.

(وليس الاستنجاء مما يجب أن يوصل به الوضوء لا في سنن الوضوء ولا في فرائضه وهو من باب إيجاب زوال النجاسة أو بالاستجمار لئلا يصلي بها في جسده ويجزئ فعله بغير نية وكذلك غسل الثوب النجس):

الضمير المجرور بحرف الجر وهو قوله به عائد على الماء لانجرار ذكره في الباب السابق ولو لم يجر له ذكر فللعلم به، ويقوم من كلام الشيخ أن من حلف ليتوضأ فغسل أعضاء الوضوء ولم يستنج أنه لا يحنث وهو واضح بناء على اعتبار الألفاظ، وأما على اعتبار المقاصد فأكثر العوام أو كلهم يعتقدون أن الاستنجاء من الوضوء فيجب أن يسألوا عن قصدهم.

وقوله يجزئ فعله بغير نية وكذلك غسل الثوب النجس قال ابن القصار: الإجماع على أن النجاسة لا تفتقر إلى نية، قلت وحكى القرافي عن التلخيص أنها تفتقر إلى النية، ورأى ابن عبد السلام أن قولهم تفتقر إلى نية يدل على أنها معقولة المعنى وقولهم لا تزال إلا بالماء المطلق عند أكثر العلماء يدل على أنها عبادة فهو تناقض، وما ذكر صحيح لا شك فيه وأوردته في كثير من دروس أشياخي فلم يقع عليه جواب إلا

(1/86)

بما لا يصلح.

(وصفة الاستنجاء أن يبدأ بعد غسل يديه فيغسل مخرج البول ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده ثم يحكها بالأرض ويغسلها ثم يستنجي بالماء يواصل صبه):

ما ذكر الشيخ من أنه يغسل يديه جميعا هو خلاف قول ابن الحاجب ويغسل اليسرى ثم محل البول ثم الآخر قال ابن عبد السلام: وهو أولى من قول الشيخ أبي محمد إذا لا موجب لغسل اليمنى لأن حكم الغسل إنما هو لتقليل الرائحة وذلك يحصل ببلها دون غسلها، وما ذكر الشيخ أنه يستنجي عند قضاء الحاجة صحيح إن كان يعلم فاعل ذلك أن مزاجه يقطع البول وإن لم يعلم فاعل ذلك أن مزاجه لا يقطع البول فلا بد من التربص حتى يتحقق قطعه، ومهما علقت رائحته بيده وعسر زوالها فذلك معفو عنه.

(ويسترخى قليلا):

إنما ذكر الشيخ ذلك ليكون أقرب لزوال النجاسة التي في غضون المحل وذلك أن المحل ذو غضون تنقبض عند مس الماء على ما تعلق به من الأذى فإذا استرخى تمكن من الإنقاء، وقيل ليتمكن بذلك من تقطير البول وغيره والوجهان حكاهما أبو عمران الحوراني، قلت: ولم أزل أسمع من غير واحد أن الشيخ لم يسبقه أحد إلى التنبيه على الاسترخاء.

(وليس عليه غسل ما بطن من المخرجين):

يريد ولا له ذلك لوجهين اثنين وهما: التعمق في الدين وخشية الضرر في جسده

(1/87)

قال التادلي: والصواب إفراد المخرجين إذ مخرج البول من الرجل لا يمكن غسل داخله.

(ولا يستنجي من ريح):

ظاهر كلامه النهي عن ذلك وهو كذلك وخرج بعض من لقيناه قولا بأنه يستحب الاستنجاء منه من قول مالك يستحب غسل يديه من نتف إبطيه وكنت أرد عليه بوجهين:

أحدهما: أن هذا التخريج فاسد الوضع لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من استنجى من ريح" قيل معناه ليس بهدينا ولا متبع لسنتنا.

الثاني: أن الجاعل يده تحت إبطيه لا يضطر إلى ذلك إلا عند زوال ما هنالك من الشعر، ولا يتكرر ذلك وخروج الريح أمر يتكرر لم يكن له جواب عن الأول ولأن هذا الحديث لم ينقله أهل الصحيح.

(ومن استجمر بثلاثة أحجار يخرج آخرهن نقيا أجزأه):

ظاهر كلامه أن من استجمر بدون الثلاثة وأنقى أنه لا يجزئه وبه قال ابن شعبان والمشهور الإجزاء، وعلى الأول ففي كون حجر ذي ثلاث شعب قولان، وفي إمرار كل حجر من الثلاثة على جميع المحل أول لكل جهة واحدة والثالث للوسط قولان وظاهر كلام الشيخ أن غير الحجر كالمدر لا يجزئ وهو قول موجود في المذهب، وتمسك قائله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار" فرأى أن هذه رخصة لا يقاس عليها غيرها والمشهور أنه كالحجر وظاهر كلامه الأحجار تجزئ وإن كان الماء موجودا، وهو كذلك خلاف لابن حبيب القائل أنها تجزئ إلا عند عدم الماء ولا شك أن الاستجمار يكفي في المعتاد كالبول، وكذلك رأى أبو عمر بن عبد البر حكم غير المعتاد من السبيلين.

وقال صاحب الطراز: جوز القاضي عبد الوهاب الاستجمار من القيح والدم وشبهه ويحتمل المنع، ونص القرافي على أنه لا يجزئ المرأة الاستجمار من البول

(1/88)

لتعدية محله لجهة المقعدة وكذلك الحصى، واختلف في المذي هل يكفي فيه الاستجمار أم لا؟ والمشهور لا يكفي.

(والماء أطهر وأطيب وأحب إلى العلماء):

يعني أن الاقتصار على الماء أحسن في الإجزاء من الاقتصار على الأحجار لأن الماء يزيل الأثر والعين، وليس مراده التكلم على أن الجمع بين الماء والأحجار أولى من الاقتصار على أحدهما لأنه سبق له ذلك قبل في قوله: وصفة الاستنجاء أن يبدأ إلى آخره ومن لم يخرج منه بول ولا غائط وتوضأ لحدث أو نوم أو لغير ذلك مما يوجب الوضوء فلابد من غسل يديه قبل دخولهما في الإناء.

اختلف العلماء في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء على ثلاثة أقوال: فقيل سنة وهو المشهور وهو الذي أراد الشيخ بقوله فلا بد، وقيل إن ذلك مستحب حكاه ابن رشد وحكى ابن حارث عن ابن غافق التونسي أن من أدخل يديه في ماء قبل غسلهما وهما طاهرتان فقد أفسد الماء وهو يدل على الوجوب. وقال ابن عبد السلام: اتفق المذهب فيما علمت أن غسل اليدين سنة ولذلك تأول ما ذكره الشيخ ابن الجلاب من الاستحباب بأنه عبارة العراقيين الذين يطلقون على السنة الاستحباب، قلت ويرد نقله بما تقدم من الخلاف وما ذكره من التأويل خلال ما ذكره أبو الطاهر بن بشير في شرحه على ابن الجلاب.

قال: حكي عن مالك الاستحباب وذكر القاضي عبد الوهاب أن ذلك سن واختلف هل غسلهما عبادة أو للنظافة؟ على قولين لابن القاسم وأشهب قال المازري: وأجرى عليهما الأصحاب إذا أحدث قرب غسلهما، قلت وهو قصور لاختلاف قول مالك في ذلك وأخذ ابن القاسم بالغسل وأشهب بعدمه نص على ذلك أبو الوليد الباجي ونبه عليه بعض شيوخنا، ونقل ابن رزقو عن مالك أنه يغسلهما مفترقتين وعن ابن القاسم مجتمعتين، قلت الجاري على أصل ابن القاسم أن غسلهما عبادة أن يغسلهما مفترقتين فهو تناقض منه وشاع في المذكرات أن أشهب يقول بقول مالك يغسلهما مفترقتين وأنه ناقض أصله ولم يقف المازري على النص السابق بل أجرى ذلك على ما سبق هل غسلهما للعبادة أو للنظافة؟

(ومن سنة الوضوء غسل اليدين قبل دخولهما في الإناء والمضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين وباقيه فريضة):

لما قال فلا بد من غسل يديه خاف أن يتوهم عنه أنه أراد الفريضة فنبه بما قاله

(1/89)

وما ذكر أن المضمضة والاستنشاق سنتنان هو المعروف من المذهب، وذكر الشيخ أبو الطاهر بن بشير في شرحه على ابن الجلاب قولا بأنهما فضيلتان ثم وقفت على مثله وفي عد الاستثنار سنة مستقلة خلاف.

قال التادلي: ومعنى قوله وباقيه فريضة أي باقي أفعال الهيئة، قال ولا يعترض برد اليدين لأنه زائد على الإيعاب الواجب قلت: أراد بقوله أفعال الهيئة أي ما يفعل من الأعضاء على طريق الاستقلال فالرد تبع لأن المسح قد حصل وكذلك وتجديد الماء للأذنين والترتيب فليسا بعضوين، فكأنه يقول وباقي الأعضاء فريضة واختلف في الترتيب على أربعة أقوال: فقيل سنة وهو المشهور وقيل فضيلة وقبل واجب وقيل فرض مع الذكرة والقدرة ساقط مع العجز والنسيان وكل هذا فيما بين الفرائض أنفسها، وأما فيما بين السنن والفرائض فإن ذلك مستحب وقيل سنة وأما تقديم الميامن قبل المياسر فلا خلاف أن ذلك فضيلة.

(فمن قام إلى وضوء من نوم أو غيره فقد قال بعض العلماء يبدأ فيسمي الله ولم يره بعضهم من الأمر المعروف):

اختلف في حكم التسمية على ثلاثة أقوال: فقيل فضيلة وهو المشهور وبه قال ابن حبيب، وقيل منكر وهو الذي أراد الشيخ بقوله ولم يره بعضهم من الأمر المعروف يعني بل ذلك من الأمر المنكر، وقيل إن ذلك مباح وكل هذه الأقوال عن مالك. ويظهر من كلام الشيخ أنه لم يقف على القولين اللذين ذكرا عن مالك لكونه عزا كل قول من قوليه لبعض وذلك يدل على التبري والله أعلم، وهذا المحل هو أحد الأمكنة التي التسمية فيها مطلوبة.

وكذلك الغسل والتيمم وذبح النسك وقراءة والقرآن والأكل والشرب والجماع قال القرافي: بعد ذكر ما قلنا وتارة تكره التسمية كعند الأذان والحج والعمرة والأذكار والدعاء وتارة تحرم التسمية وذلك عند فعل المحرمات.

(وكون الإناء على يمينه أمكن له في تناوله):

صرح ابن رشد أن كون الإناء على اليمين فضيلة والمراد إذا كان واسعا، وأما الضيق فكونه على اليسار أمكن له قاله عياض عن اختيار أهل العلم، قلت وكان بعض من لقيناه يحمل على الشيخ أنه لم يرد الفضيلة وإنما جعله من باب الإمكان. ومن الفضائل أن يبدأ بمقدم رأسه وأن يبدأ باليمين والسواك وتكرار المغسول ثلاثا في قول

(1/90)

الشيخ عبدالسلام بن غالب المسراتي في وجيزه وأن لا يتكلم حالة الوضوء. (ويبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن كان قد بال أن تغوط غسل ذلك منه ثم توضأ):

لم يزل أشياخنا بأجمعهم ينبهون على أن غسل اليدين الذي هو سنة إنما هو بعد الاستنجاء لا قبله نص عليه المتيوي، وهو واضح لأن الاستنجاء ليس من الوضوء بوجه كما تقدم، فإذا عرفت هذا فقول الشيخ فإن كان قد بال أو تغوط غسل ذلك منه جملة اعتراضية والله أعلم.

(ثم يدخل يده في الإناء فيمضمض فاه ثلاثا من غرفة واحدة إن شاء أو من ثلاث غرفات):

حقيقة المضمضة غسل باطن الفم بنية، وما ذكر أنه بالخيار بين أن يمضمض ثلاثا من غرفة واحدة أو يفعل ذلك من ثلاث غرفات. وذكر بعد ذلك أن له جمع المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة وهو كذلك.

واختلف أيهما أولى فقيل يفعل المضمضة والاستنشاق بغرفة ثم يفعلهما من غرفة ثانية ثم يفعلهما من غرفة ثالثة، وقيل الأولى لكل واحدة ثلاثا، وكلا القولين حكاه الباجي عن الأصحاب فيما فهم من قول مالك في الموطأ. وقال ابن الحاجب: الاستنشاق بغرفة ثلاثا كالمضمضة أو كلاهما بغرفة قال ابن عبد السلام: في صحة اختيار الصورة الثانية نظر والمعروف جوازها، وأما اختيارها فليس بصحيح وإنما صرحوا باختيار النهاية والله أعلم.

(وإن استاك بإصبعه فحسن):

حكم السواك مندوب إليه بمعنى الفضيلة واختار بعض شيوخنا أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته صلى الله عليه وسلم والأمر به وإظهاره، وقال أحمد بن حنبل وغيره إنه فرض وقال الفخر في معالمه الإجماع على أنه مندوب إليه واعترضه ابن هارون بما سبق لأحمد بن حنبل مع غيره، وروى ابن العربي يكون بقضيب الشجر وأفضله الأراك وكرهه بعضهم بذي صبغ لأجل التشبه بالنساء وضعفه ابن العربي بجواز الاكتحال وفيه التشبيه بهن، ورده بعض شيوخنا لكراهة مالك الاكتحال لذلك أيضا وفي إجزاء المضمضة بغسول قولان لابن العربي وغيره، وفي سماع ابن القاسم من لم يجد سواكا فإصبعه يكفي قال ابن عبد السلام: وظاهر كلام الشيخ أبي محمد أن الإصبع كغيره ولو

(1/91)

قيل إنه عنده الأصل ما بعد قلت قيد كلامه التادلي بأنه أراد مع فقد غيره وكلام الشيخ قابل للتقييد فحمله على ما قال التادلي أولى من حمله على العموم. وفي الإصبع عشر لغات تحريك الباء بثلاث حركات مع فتح الهمزة وبالثلاثة مع ضمها وبالثلاثة مع كسرها والعاشرة أصبوع والعوام عندما بإفريقية يقولون صبع وهو لم ينقل عن أهل اللغة.

(ثم يستنشق بأنفه الماء ويستنثره ثلاثا يجعل يده على أنفه كامتخاطه ويجزئه أقل من ثلاث في المضمضة والاستنشاق وله جمع ذلك في غرفة واحدة والنهاية أحسن):

قال عياض في الإكمال والحكمة في تقديم المضمضمة والاستنشاق على الوجه اختبار رائحة الماء وطعمه لكونه مشاهدا بالعين فجعل هذا أول الوضوء لئلا يبتدئ بما لا يجوز، وقال ابن الحاجب: الاستنشاق أن يجذب الماء بأنفه ويستنثره بنفسه وإصبعه واعترضه ابن عبد السلام بأن حقيقته إنما هي في جذبه خاصة ولذلك ما عد غير واحد الاستنثار سنة أخرى قلت كلامه عندي معترض من وجهين:

أحدهما: إن قوله ولذلك ما عد غير واحد الاستثنار سنة أخرى ينافي ما ذكره في حقيقته إلا أن تحمل ما من قوله ما عد زائدة الثاني: إن حكم الاستنثار مختلف فيه وقد علمت أن مثل هذا لا يعترض به وإنما يعترض بمسألة متفق عليها، واختلف إذا ترك المضمضة والاستنشاق وصلى على أربعة أقوال: فقيل يعيد في الوقت ساهيا كان أو عامدا وهو اختيار اللخمي وقيل لا إعادة مطلقا حكاه غير واحد. وقيل يعيد العامد في الوقت والناسي لا يعيد.

قال ابن القاسم في سماع يحيى وقيل يعيد العامد في الوقت أبدا خرجه ابن رشد على من ترك سنة عامدا وزعم الاتفاق على أن الناسي لا يعيد مطلقا قلت ويرد تخريجه بأن سنة الصلاة أقوى لأنها المقصود والوضوء وسيلة.

(ثم يأخذ الماء إن شاء بيديه جميعا إلى آخره):

ظاهر كلام الشيخ أن نقل الماء باليد شرط وهو ظاهر كلام ابن حبيب وعزاه ابن رشد لابن الماجشون وسحنون، وقيل إنه لا يشترط بل إنما المطلوب إيقاع الماء على سطح الوجه كيفما أمكن ولو بميزاب وهذا القول هو المشهور، وأخذ من قول ابن القاسم من مسألة خائض النهر ولم يحفظ ابن عبد السلام غير الثاني.

واختلف إذ ألقى رأسه إلى رش ماء ومسحه بيده، فقال ابن عبد السلام:

(1/92)

المنصوص أنه لا يكفيه وغلط فيه بعض المتأخرين، قلت واعترضه بعض شيوخنا بقول ابن رشد يجزئ عند ابن القاسم وأجمعوا على إجزاء انغماس الجنب في الماء ودلكه فيه وناقل الإجماع المذكور ابن رشد، وانظر هل هو مما يرجح المشهور أم لا وظاهر كلام المصنف أن التدلك واجب وهو المشهور. وقيل لا يجب وقيل يجب لإيصال الماء إلى العضو لا لذاته.

قال ابن عبدالسلام: وأضرب ابن الحاجب عن الثالث ورأى أنه يرجع إلى الثاني وعده غيره ثالثا، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يأخذ شيئا من شعر الرأس وهو كذلك لأنه أراد منابت الشعر المعتاد وهو أحد نقلي شيوخنا وهما جاريان على اختلاف الأصوليين فيما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا؟ ومنه اختلاف أهل المذهب هل يجب إمساك جزء من الليل أم لا بالنسبة على الصوم، واختلف المذهب في ما بين العذار والأذن هل يجب غسله أم لا؟ على أربعة أقوال والمشهور وجوبه وقيل لا يجب وقيل يجب فيمن لا شعر له وقيل سنة، قاله عبد الوهاب واعترضه ابن هارون بأنه صلى الله عليه وسلم كان يغسله وهو عندي ضعيف لأن فعله أعم من كونه واجبا أو سنة وقد علمت أن الوجه مأخوذ من المواجهة وما بين العذار إلى الأذن لا يواجه.

(ويمر يديه إلى آخره):

ما ذكره أنه يمر يديه على ما غار من ظاهر أجفانه صحيح وكذلك يجب عليه أن يمد يديه على ظاهر شفتيه ونص عليه اللخمي.

(1/93)

(وليس عليه تخليلها في الوضوء في قول مالك):

قال المغربي: ظاهر كلام الشيخ أنه يستحب له التخليل لأنه إنما نفى الوجوب وهو خلاف ظاهر المدونة قال فيها ويمر يديه عليها من غير تخليل فظاهرها كراهة التخليل، قلت الأقرب أن الشيخ إنما أراد كراهة ذلك لأن الاستحباب لم يقل به مالك فيما قد علمت وإنما هو قول ابن حبيب حسبما يأتي إن شاء الله.

واختلف في تخليلها في الوضوء على ثلاثة أقوال: فقيل: إن ذلك مكروه وهو ظاهر المدونة والعتبية وبه قال ربيعة.

وقيل مستحب قاله ابن حبيب في واضحته، وقيل تخليلها واجب قال مالك في روايتي ابن وهب وابن نافع وبه قال ابن عبد الحكم، وكل هذا الخلا في اللحية الكثيفة وأما الخفيفة التي لا تستر البشرة فإنه يجب إيصال الماء إليها وإذا قلنا بوجوب التخليل فقيل إلى داخل الشعر فقط رواه ابن وهب وبه قال بعض شيوخ المازري.

وقيل لابد من وصوله إلى البشرة نقله المازري عن الحذاق وقول الشيخ في قول مالك إشارة لعدم ارتضائه لذلك كقول ابن الحاجب، والمذهب وظاهر كلام الشيخ أنه يخلل في الغسل وبه الفتوى عندنا لعدم المشقة بخلاف الوضوء لتكرره.

(ويجري عليها يديه إلى آخره)

ظاهر كلام الشيخ ولو طالت، وهو كذلك وعزه ابن رشد لمعلوم المذهب وقيل لا يجب فيما طال منها، قاله مالك في رواية ابن القاسم وبه قال الأبهري. واختلف هل يجب غسل محل اللحية إذا سقطت أم لا؟ على قولين ومن هذا المعنى إذا حلق رأسه أو قلم أظفاره فقال في المدونة هو لغو وقال عبدالعزيز وابن الماجشون يعيد المسح واختار اللخمي أن وضوءه ينتقض، حكاه عياض وابن يونس عن عبدالعزيز أيضًا، وأسقط البرادعي من المدونة تقليم الأظفار ونقله ابن يونس عنها وكذلك سلم ابن عبد السلام وغيره قول ابن الحاجب، وفيها لو حلق رأسه وقلم أظفاره لم يعد ونص

(1/94)

اللخمي على أن من قطعت بضعة من لحمه فإنه يغسلها أو يمسحها إن عجز ورأى بعض الشيوخ أن قول المدونة في حلق الرأس خلافه.

(ثم يغسل يده اليمنى إلى آخره): انظر لأي شيء خير في غسل يديه مرتين أو ثلاثا ولم يخير في الوجه والرجلين والبداءة بالميامن قبل المياسر لا خلاف أنها مستحبة لأنهما كالعضو الواحد، ولذلك لما استدل مالك على من قال بوجوب الترتيب بقوله وقد قال علي وابن مسعود: ما نبالي بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا ولم يرتضه كل من لقيناه لأنه لم يمس المحل إذ لم يقل أحد بوجود ذلك إذ هما كالعضو الواحد.

(ويخلل أصابع يديه إلى آخره):

واختلف في تخليل أصابع اليدين على ثلاثة أقوال: فقيل إن ذلك واجب قاله مالك وابن حبيب وقيل مستحب قاله ابن شعبان، وقيل إن ذلك منكر قاله مالك أيضًا.

قال ابن الحارث عن ابن وهب رجع ابن مالك من إنكاره إلى وجوبه لما أخبرت بحديث ابن لهيعة، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصابعه في الوضوء". قلت: رجوع مالك إلى الوجوب لتخليله صلى الله عليه وسلم فيه نظر، إذ تخليله أعم عن الوجوب والندب، ورجوع مالك إلى ما قال ابن وهب إشارة إلى مكانته في الحديث وهو كذلك وقد قرأ رضي الله عنه على أربعمائة عالم ومع ذلك كان يقول لولا مالك والليث لضللت.

واختلف في إجالة الخاتم على ثلاثة أقوال: فقيل يجال وقيل لا يجال وقيل بالأول في الضيق وقال ابن عبد الحكم: ينزع فقيل إنه خلاف قول مالك وأصحابه، وقال ابن بشير يحتمل الوجوب والاستحباب، قلت: وكان بعض من لقيناه يقول كل هذا الخلاف إنما هو إذا لم يقصد بلباسه المعصية. وأما لو قصد ذلك فالاتفاق على النزع وما ذكره لا أعرفه وأصول المذهب تدل على الخلاف عموما، ألا ترى أن المسافر العاصي اختلف فيه هل يجوز له أن يقصر أم لا؟ وهل يمسح على خفيه أم لا؟ وهل يباح له أكل الميتة أم لا؟.

(ويبلغ فيهما بالغسل إلى المرفقين يدخلهما في غسله وقد قيل إليهما حد الغسل فليس بواجب ادخالهما فيها وادخالهما فيه أحوط لزوال تكلف التحديد):

القول الأول بدخول المرفقين وجوبا هو المشهور والقول بعدم ادخالهما رواه

(1/95)

ابن نافع من مالك وهو قول أبي الفرج أيضًا. وقول الشيخ: وإدخالهما فيه أحوط أراد به قولا ثالثا بالاستحباب ومثله للقاضي عبد الوهاب وغيره، ولو نبت ذراع في ذراع لوجب غسلهما ولو نبت في العضو ولم يمتد إلى الذراع الأصلية لم يجب، وإن امتد إليه وجب غسلهما نقله عبد الحميد الصائغ عن بعض الأئمة.

قال عبدالحميد: وفيه نظر، وذكر في السليمانية أن من خلقت كفه بمنكبه بلا عضد ولا ساعد أنه غسل ذلك الكف وأن من خلق بلا يدين ولا رجلين ولا ذكر ولا دبر ويتغوط ويبول من سرته أنه يغسل مكان الأذى ويفعل من فرائض الوضوء وسنته ما يتعلق بوجهه ورأسه خاصة.

وقيل فيها في امرأة خلقت من سرتها إلى أسفل خلقة امرأة وإلى فوق خلقه امرأتين تغسل محل الأذى وتغسل الوجهين فرضا وسنة وتمسح الرأسين وتغسل الأيدي الأربع والرجلين قبل أفتوطأ هذه المرأة؟ قال: نعم وتعقبه عياض أنهما أختان، قلت ومنع بعض شيوخنا قوله إنهما أختان لوحدة منفعة الوطء لاتحاد محله.

(ثم يأخذ الماء بيده اليمنى إلى آخره):

ما ذكره الشيخ من الصفة هو المشهور في المذهب وقيل يبدأ من ناصيته ذاهبا إلى مقدم رأسه ثم إلى قفاه ثم إلى ناصيته حكاه الباجي عن أحمد بن داود من أصحابنا قلت: وحكاه أبو عمران الفاسي من رواية علي قال ما نصه: رأيت بخط ابن التبان أن علي بن زياد روى عن مالك ما تأول بعض الناس في أن معنى بدأ من مقدم رأسه أنه بدأ من الناصية، قال وما رأيته لغيره ولو كانت الرواية صحيحة لنقلها ابن عبدوس ولقد أرانا الشيخ أبو علي حسان صفتين ذكر أن أبا محمد بن الحجاج وصفهما له، إحداهما ما في رواية علي والأخرى أن يبدأ بمقدم رأسه.

قلت: وصفة ابن الجلاب ثالثة، وخارج المذهب قول بأنه يبدأ من المؤخر مقبلا إلى المقدم ثم يرجع إلى المؤخر، قال ابن عبد السلام: المشهور أنه يبدأ من المقدم وقيل من وسط رأسه وقيل من مؤخره. قلت: ظاهره أنه في المذهب ولا أعرفه والبداءة من مقدم الرأس فضيلة وقيل سنة حكاه ابن رشد وظاهر كلام الشيخ أنه لا يأخذ شيئا من الوجه، والكلام فيه مثل ما تقدم في الوجه ومنتهى الرأس الجمجمة. وقال ابن شعبان

(1/96)

آخر شعر القفا المعتاد وقال اللخمي ليس بحسن.

(وكيفما مسح أجزأه إلى آخره):

ظاهر كلام الشيخ أنه إن ترك بعضه وإن قل فلا يجزئه وهو كذلك عند مالك وقال محمد بن مسلمة يجزئ ثلثاه، وقال أبو الفرج الثلث. وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأه وعنه إن لم يعم رأسه أجزأه. قال ابن عبد السلام: وانظر هل أراد بقوله هذا مثل قول الشافعي في ثلاث شعرات في قول أو بعض شعره في قول لكن قوله إن لم يعمم رأسه ظاهر في أنه لا بد من جزء معتبر، قلت: وكان بعض من لقيته يحكي عن ابن عطية أن هذا الخلاف إنما هو إذا وقع المسح من مقدم الرأس.

وأما إذا وقع من غير ذلك فلا يجزئه اتفاقا ويمرضه أن الاتفاق على البداءة بمقدم الرأس وليست بفرض وإذا كان كذلك فلا فرق في الحقيقة بين البداءة بمقدم الرأس وغيره ويرد بأن قول ابن عطية كل هذا الخلاف إلى آخره يقتضي أنه وقف لهم على النص بذلك فتكون البداءة بمقدم الرأس التي ليست بفرض اتفاقا إنما هي حيث التكملة أما حيث الاقتصار على البعض فلا. قال ابن عبدالسلام: كل هذا الخلاف إنما هو بعد الوقوع وكان بعض أشياخي يحكي عن بعض الأندلسيين أن الخلاف فيه ابتداء ولم أقف عليه.

(ولو أدخل يديه في الإناء إلى آخره):

يريد وكذلك لو نصبهما على الماء ومسح لأجزأه، واختلف إذا جف بلل اليدين قبل استيعابه فقيل يجدد رواه ابن حبيب في المرأة وسمعه أشهب فيها وفي الرجل، وقيل إنه لا يجدد قاله إسماعيل القاضي وهو ظاهر قول ابن القاسم إن مسحها بإصبع واحدة أجزأه وقيد عبد الحق قول ابن القاسم هذا فقال يريد ويستأنف وأطلقه اللخمي كما قلنا واختلف في غسل رأسه في الوضوء فقال ابن شعبان يجزئه.

قال ابن سابق وأباه غيره وكرهه آخرون فقول ابن شعبان يجزئه إنما هو بعد الوقوع والنزول وليس في المذهب نص بجوازه ابتداء. وقال ابن الحاجب: وغسله ثالثها يكره قال ابن عبدالسلام: فظاهر هذا النقل فيه قولا بالجواز ابتداء، وفي وجوده في المذهب عندي نظر فهو قد أشار إلى أن المنقول في المذهب كما صرحنا به والله أعلم.

(1/97)

(ثم يفرغ الماء على سبابتيه وإبهاميه إلى آخره):

قال ابن الحاجب: ظاهرهما بإبهاميه وباطنهما بإصبعيه، قال ابن عبد السلام: لو قال بسبابتيه بدلا من قوله بإصبعيه لكان أحسن كما أشار إليه ابن أبي زيد لأن المسح بالبسابتين أمكن منه بغيرهما، قلت إنما أراد ابن الحاجب بالإصبعين السبابتين نعم لو صرح به لكان أولى. واختلف المذهب في تجديد الماء للأذنين على ثلاثة أقوال: فقيل مستحب قاله مالك وقيل سنة على ظاهر قول ابن الحاجب فتركه كتركهما.

وقال محمد بن مسلمة إن شاء جدد وإن شاء لم يجدد، وقال ابن عبد السلام: تجديد الماء لهما فيه قولان منصوصان قلت لا أعرف من نص على أنه لا يجدد، وأما مسح الأذنين ففيه طريقان: منهم من يعمم الخلاف ويذكر على المشهور أن مسحهما نفل وعن ابن مسلمة والأبهري أن ذلك فرض.

قال عبد الوهاب داخلهما سنة وفي فرض الظاهر قولان وفي كون الظاهر ما يلي الرأس أو ما يواجهه قولان ذهب إلى الأول ابن سابق وغيره، وذهب إلى الثاني بعضهم والطريق الأخرى سلكها ابن الحاجب، وفي وجوب ظاهرهما قولان وظاهرهما ما يلي الرأس وقيل ما يواجه، وإذا تأملت كلامه تجد فيه التناقض لأن أول كلامه يقتضي أن الباطن لا خلاف أنه سنة وتفسيره الظاهر بأنه مما يلي الوجه يقتضي أن فيه قولا بالوجوب والله أعلم، وفي المدونة: والأذنان من الرأس فحملها اللخمي على ظاهرها من الوجوب وهو ظاهر كلام ابن الحاجب وقال ابن يونس يريد في الصفة لا في الحكم.

(ولا تمسح على الوقاية إلخ):

يريد وكذلك الرجل لا يمسح على العمامة وهذا مع الاختيار وأما مع الاضطرار فجائز. قال ابن حنبل يجوز ذلك اختيارا ووافقه على ذلك جماعة من أصحابه بالإطلاق وفرق بعض أصحابه بين أن يكون لها حنائك أم لا، فإن كان لعذر فجائز كالخف واحتج أحمد ابن حنبل بأنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة وحمله بعض أصحابنا على احتمال أن يكون لعذر، وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنه أقرب وهو الذي يميل إليه بعض أصحابنا لأن الأصل عدم الأعذار وكونه صلى الله عليه وسلم دوام على غيره لا يدل على قول أهل المذهب لأن مداومته تدل على أن فعله لذلك مرة واحدة يؤذن بالإباحة.

(1/98)

(ثم يغسل رجليه إلخ): ما ذكر الشيخ أن الرجلين يغسلان هو مذهبنا ومذهب العلماء المفسرين، وما ذكر من غسلهما ثلاثا مثله في الجلاب وهو ظاهر قول ابن الحاجب في الفضائل، وأن يكون المغسول ثلاثا أفضل فظاهره مدخول الرجلين في ذلك والمنصوص لغير من ذكرنا لا تحديد في ذلك، وحمل غير واحد ما ذكرناه على الخلاف والصواب عندي أنهما يرجعان إلى قول واحد وأن معنى قول الشيخ ومن ذكر معه إذا كانتا نقيتين، ومعنى قول غيرهما إذا كانتا وسختين لقول الإمام المازري في شرح الجوزقي إذا كانتا نقيتين فكسائر الأعضاء يطلب فيهما التكرار وإلا فلا تحديد إجماعا.

(وإن شاء .. إلخ):

اختلف في تخليل أصابع الرجلين على خمسة أقوال: الوجوب والندب والإنكار والرابع الإباحة وهو الذي ذكره الشيخ ولم أره لغيره والخامس تخليل ما بين الإبهام والذي يليه خاصة وبه كان شيخنا أبو محمد عبد الله الشبيبي يفتي إلى أن مات، ووجهه أنه لا جرح فيه لانفراجه بخلاف بقية الأصابع لأن تخليلها من باب الحرج المسقوط عن هذه الأمة، ويقول شيخنا هذا أقول والقول بالندب ذهب إليه ابن حبيب فهو قائل بالوجوب في اليدين والفرق بينهما من ثلاث أوجه:

إحداهما: ما أشرنا إليه من انفراج أصابع اليدين بخلاف الرجلين.

الثاني: أن اليدين لم يختلف في أن فرضهما المسح أو الغسل أو التخيير.

الثالث: أن الرجلين يسقط فرض غسلهما بالمسح على الخفين ويسقطان في التيمم واليدين بخلاف ذلك لأنهما لا بد من غسلهما في الوضوء ومسحهما في التيمم.

(فإنه جاء الأثر إلخ):

قال ابن الصلاح: الفقهاء يطلقون الأثر على ما جاء عن الصحابي، والخبر على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقول الشيخ معترض على هذا ونبه عليه بعض من شرح كلام الشيخ وهو عندي بمنجاة منه لأن هذا الإطلاق إنما هو عرف المتأخرين، وأما المتقدمون فلا فرق عندهم في ذلك بين الأثر وبين الخبر، ألا ترى إلى قوله في المدونة: وقدا ختلفت الآثار في التوقيت فقد أطلق على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن المحدثين يطلقون الأثر عليهما فلعل الشيخ سلك طريقهم في ذلك والأمر خفيف، قال عياض

(1/99)

والويل كلمة تقال لمن وقع في الهلاك وقيل لمن يستحق الهلاك وقيل الهلاك نفسه وقيل مشقة العذاب وقيل الحزن وقيل واد في جهنم.

(وليس عليه تحديد غسل أعضائه ثلاثا ثلاثا بأمر لا يجزئ دونه إلخ):

اعلم أنه لا خلاف أن الغرفة الأولى إذا أسبغ بها واختلف في الثانية والثالثة على خمسة أقوال: فقيل فضيلتان وقيل سنتان وقيل الأولى سنة والثانية فضيلة وهذه الأقوال الثلاثة حكاها عياض عن شيوخه.

وقيل عكس الثالث نقله شيخنا أبو محمد عبدالله الشبيبي وغيره من متأخري القرويين وبه قال بعض متأخري التونسيين أيضًا. وكان بعض من لقيناه يوجهه بأن فيه الحرص على تحصيل الفضيلة لكون السنة متأخرة فالغالب عدم تركها بخلاف القول الذي قبله، فإذا حصلت السنة بالغرفة الثانية فقد يتهاون بالفضيلة، وحكى الإسفراييني عن مالك وجوب الغرفة الثانية ولا يقتصر على الغرفة الواحدة.

قال المازري: للحض على الفضلة والعامة لا تكاد تستوعبه بالواحدة ولذلك روى ابن زياد إلا من العالم قال وهذه هي التي غرت الإسفرايني في نقله عن مالك وجوب الغرفة الثانية، وأما الرابعة فقال ابن بشير لا تجوز بإجماع قال ابن الحاجب: تكره الزيادة وقال ابن عبدالسلام: وربما فهم من أبحاثهم التحريم.

قلت وظاهر كلامه أنه حمل الكراهة على بابها والصواب حملها على ما قال ابن بشير المراد بذلك التحريم.

وقال ابن الجلاب: والفرض في تطهير الأعضاء مرة مرة والفضل في تكرير مغسولها ثلاثا ثلاثا، وفي كلامه رحمه الله مناقشة لفظية وهي أن كلامه يوهم أن الرابعة فضيلة لقوله والفضل إلخ فهو أمر زائد على الفرض ولم يرد ذلك.

واختلف إذا شك هل هي ثالثة أو رابعة فقيل إنه يفعلها كركعات الصلاة.

وقيل لا لترجيح السلامة من ممنوع على تحصيل الفضيلة، قلت وهذا هو الحق عندي وبه أدركت كل من لقيته يفتي، وخرج المازري على هذين القولين صوم عرفة لمن شك في كونه عاشرا.

قال ابن بشير في شرحه على ابن الجلاب قيل له ما تختار من القولين حفظك الله؟ قال الصوم قيل له بناء على استصحاب الحال؟ قال نعم.

(1/100)

(وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ" إلخ):

(1/101)

المراد بقوله: "فأحسن الوضوء" تحصيله بفرائضه وسننه وفضائله ورفع الطرف وهو النظر إلى السماء لأنها قبلة الدعاء ولأنها أعظم المخلوقات المرئية لنا في الدنيا فيشغل بصره بها ويعرض بقلبه عن كون الدنيا فيكون ذلك أدعى لحضور قلبه لا لغير ذلك والمراد بتفتيح أبواب الجنة الحقيقة.

وقيل المراد به الطاعات قلت وهو عندي تقريبي والأصل الحقيقة ولا مانع يمنع من ذلك والقولان حكاهما غير واحد كالتادلي، وظاهر الحديث أن هذا الشرف العظيم يحصل بفعل مرة واحدة وهو اللائق بفضل مولانا سبحانه وتعالى ولا معارضة بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم "إن في الجنة بابا يقال له باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخل آخرهم أغلق" لأن التخيير لا يستلزم الدخول منه قال التادلي: بعد أن ذكر الحديث أنه معارض، وفرق آخر وهو أن المتوضئ المحسن يوفق حتى يكون من أهل الصوم قلت والأقرب هو الأول وقد رأيت كثيرًا ممن يحسن الوضوء جدا لا يصوم غير الفرض إلى مماته وكذلك العكس ويعرف الإنسان هذا من نفسه.

(وقد استحب بعض العلماء إلى آخره):

سمعت من بعض من لقيته يذكر أن الشيخ أراد بقوله بعض العلماء ابن حبيب وكذلك مهما ذكره وما ذكره نص عليه التادلي في باب ما يفعل بالمحتضر وفي نفسي منه شيء فتأمله.

(1/102)

(ويجب عليه أن يعمل إلى آخره):

لا شك أن الشيخ جرى على الترتيب الوجودي في هذا الباب وهو حسن في التأليف وما عدا هذا المحل فإن محله إما عند غسل اليدين وإما عند غسل الوجه على الخلاف المعلوم في محل النية لأن كلامه راجع إليها. وما ذكر الشيخ من أن النية في الوضوء فرض هو المشهور. وحكى المازري قولان أنه لا يفتقر إليه وخرجه في الغسل.

قال ابن هارون: ويحتمل أن يفرق بأن الوضوء قد يتلمح فيه معنى النظافة لاختصاصه بالأعضاء التي لا تخلق من وسخ ودون ذلك يناسب عدم الافتقار إلى النية بخلاف أعضاء الغسل، وأما التيمم فاتفق المذهب على النية فيه، وقال الأوزعي لا يفتقر إليها، وقال ابن الحاجب: والإجماع على وجوب النية في محض العبادة، قال ابن عبد السلام: كالصلاة والتيمم ويعترض تمثيله بما تقدم إذ عادة ابن الحاجب إذا قال بإجماع أراد به سائر أهل العلم بخلاف الاتفاق، واختلف إذا تقدمت النية على الوضوء بالزمان اليسير على قولين، قال البلنسي: والصحيح البطلان.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الغسل

قد تقدم أنه يقال بفتح الغين وضمها وفرائضه النية على المنصوص، واستيعاب جميع البدن بالغسل إجماعا وبالدلك على المشهور والموالاة كالوضوء، وسنته أربع: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء والمضمضة والاستنشاق ومسح الصماخين وفي تخليل اللحية روايتان: فقيل فرض وقيل لا. وفضائله خمسة: التسمية والسواك والبداءة باليمين قبل الشمال وبالأعلى قبل الأسفل وتقديم الوضوء قبله.

(أما الطهر فهو من الجنابة ومن الحيضة والنفاس سواه):

قال عياض عن الأزهري معنى الجنابة: البعد فإن من أجنب فقد قصي عن مواضع القرب، وقال الشافعي معناه المخالطة من قولهم أجنب الرجل إذا خالط امرأته وهو ضد الأول لانه القرب يريد الشيخ بقوله سواء في الصفة ويلحق بذلك سائر الاغتسالات الشرعية، ولم يرد بذلك التكلم على الحكم لأن ذلك سبق له بزيادة دم الاستحاضة.

(1/103)

(فإن اقتصر إلى آخره):

قال ابن عبد السلام: لا خلاف فيما قد علمت في المذهب أنه لا فضل في الوضوء بعد الغسل وإنما اختلف في سقوط الوضوء