Translate

الجمعة، 9 يونيو 2023

ج1.شرح ابْن نَاجِي التنوخي{قَاسم بن عِيسَى بن نَاجِي الْمُتَوفَّى 837 هـ} على متن الرسَالَة للْإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي زيد القيرواني الْمُتَوفَّى سنة 386 هـ



 

ج1.شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

ترجمة مختصرة للمصنف

باب ما تنطق به الألسنة إلى آخره

باب ما يجب منه الوضو والغسل

باب طهارة الماء والثوب والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

باب في الغسل

باب فيمن لم يجد الماء وصفة التيمم

باب في المسح على الخفين

باب أوقات الصلاة وأسمائها

باب الأذان والإقامة

باب صفة العمل في الصلوات المفروضة وما يتصل بها من النوافل والسنن

باب الإمامة وحكم الإمام والمأموم

باب جامع في الصلاة

باب في سجود القرآن

باب في صلاة السفر

باب في صلاة الجمعة

باب في صلاة الخوف

باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

باب في صلاة الخسوف

باب في صلاة الاستسقاء

باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

باب في الدعاء للطفل والصلاة عليه وغسله

باب في الصيام

باب في الاعتكاف

باب في زكاة العين والحرث والماشية

باب في زكاة الماشية

باب في زكاة الفطر

باب في الحج والعمرة

باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان

باب في الجهاد

باب في الأيمان والنذور

باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

باب في العدة والنفقة والاستبراء

باب في البيوع وما شاكل البيوع

باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

باب في أحكام الدماء والحدود

باب في الأقضية والشهادات

باب في الفرائض

باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

باب في الفطرة وختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

باب في الطعام والشراب

باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله سبحانه والقول في السفر

باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم وذكر الكلاب والرفق بالمملوك

باب في الرؤية والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيره والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

شرح ابْن نَاجِي التنوخي{قَاسم بن عِيسَى بن نَاجِي الْمُتَوفَّى 837 هـ} على متن الرسَالَة للْإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي زيد القيرواني الْمُتَوفَّى سنة 386 هـ

أعتنى بِهِ/أَحْمد فريد المزيدي

الْجُزْء الأول 

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة مختصرة للمصنف

هو الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه أبو الفضل وأبو القاسم: قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القيروانى: من القضاة من أهل القيروان.

تعلم فيها وولي القضاء فى عدة أماكن.

له كتب منها: شرح المدونة الكبرى لسحنون.

وزيادات على معالم الإيمان.

شرح رسالة أبو زيد القيروانى.

ومشارق أنوار القلوب , وشرح التهذيب للبراذعى.

- الشافى فى الفقه.

- وانظر: نيل الابتهاج (ص223).

- والبستان (ص149).

- معجم المؤلفين (2/ 646)

كتبه أبو الحسن أحمد فريد المزيدى 

المقدمة

الحمد لله مالك يوم الدين المعبود الموصوف بالقدم والجود، الذى خلق الإنسان من طين وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وشق سمعه وبصره وأنشأه خلقاَ آخر فتبارك الله أحسن الخالقين؛ اخترعه وابتدعه، ثم وفقه لما ارتضاه وشرعه، فسبحان من رفع فى جنته درجة من سبقت له العناية بتفقهه في الدين، وبجمعه ما اقتفى من آثار السلف الصالح وبثه لسائر العالمين، أحمده على ما أسبغ من آلائه وعلم من عظيم دينه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله التي الكريم الرءوف الرحيم، المبعوث بالحنيفية السمحة ليبين للناس ما نزل إليهم من تحليل وتحريم، صلى الله وعلى آله أفضل صلاة يتبعه أفضل تسليم.

وبعد:

فإنه لما كثر إقرائي لرسالة الشيخ الفقيه العالم العامل الورع أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني استخرت الله في وضع تعليق يعين الناظر على ما يتعلق بما تكلم عليه الشيخ من أقوال في المسألة وتتميم لما نطق به الشيخ من ظاهر كلامه إلى غير ذلك من الفوائد فمهما عبرت ببعض شيوخنا فهو الشيخ الفقيه العالم الصالح التقي الزاهد أبو عبدالله محمد ابن الشيخ الصالح المجاور والمرحوم أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمي عرفه الله الخير في الدنيا والآخرة ومهما عبرت به فأكثره من تأليفه المنسوب إليه بعضه تلقيه من بعض من لقيناه وأقله سمعته منه مشافهة نسأل الله تعالى الإعانة وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

{{ الكتاب}} 

 الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته:

الحمد لله ثمانية أحرف والجنة لها ثمانية أبواب فمن قال الحمد لله فتحت له أبواب الجنة الثمانية قاله ابن الخطيب. وابتدأ الشيخ بالحمد لأنه مفتتح كتاب الله الكريم فجعله فاتحة كلامه وأول ما جاء به القرآن في نظامه ولأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه ومواعظه وسنة الخلفاء الراشدين من بعده روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بالحمد لله فهو حرام" وفي رواية: "فهو أقطع" وفي رواية: "فهو أبتر" وبذلك تعقب الشيخ الفقيه أبو محرز على أسد بن الفرات لما بادر في قراءة عقد فقال: هذا ما اشترى الأمير الأجل.

فقال أبو محرز أخطأت يا أسد وبين له خطأه لما سأل عن ذلك بتركه الحمد لله حسبما هو مذكور في كتاب أبي بكر المالكي والمدارك لعياض ولولا الإطالة لذكرت القضية بكمالها وليس المراد بعين لفظ الحمد بل المطلوب إيقاع ذكر من الأذكار إذ المراد بحمدا لله الثناء على الله سبحانه.

وبذلك أجيب عن مالك بن أنس رحمه الله لكونه ابتدأ كتابه الموطأ بوقوت الصلاة فإنه ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم وهو الجواب عن الشيخ أبي القاسم الزجاجي، ومن الشيخ أبي عمر وابن الحاجب وغيرهما.

واختلف هل الحمد أعم من الشكر أم لا على ثلاثة أقوال: فقيل بذلك لأن الشكر إنما يكون في مقابلة الإنعام وقيل عكسه لأن الشكر يكون بالقول والفعل بخلاف الحمد إنما يكون بالقول خاصة وقيل ليس بينهما عموم ولا خصوص فيستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر، والمراد بالإنسان الجنس.

وقول من حمله على عيسى عليه السلام بعيد وأبعد من قول من حمله على آدم عليه السلام والباء في قوله بنعمته للمصاحبة أو السبية أي ابتدأه بسبب أن ينعم عليه والضمير المضاف إليه نعمة يعود على الخالق سبحانه ويجوز عوده على الإنسان لما كانت النعمة ملتبسة به ومصاحبة له.

وظاهر كلام الشيخ أن لله عز وجل على الكافر نعمة وهو كذلك عند أكثر العلماء في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فواضح وأما في الآخرة فلأن ما من نعمة وعذاب إلا وثم ما هو أشد منهما إلا أنه لا يقال إنهم في نعمة لأنهم في محل الانتقام والغضب

(1/6)

والعذاب الشديد لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.

ونقل الشيخ أبو بكر بن العربي عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه قال لا يقال إن لله تعالى على الكافر نعمة لا دينية ولا دنيوية، وجعل التالي الخلاف لفظيا بعيد لما قدمت والله أعلم.

(وصوره في الأرحام بحكمته):

الضمير يعود على الإنسان وهو للجنس فلذلك جمع الأرحام باعتبار ما في الجنس من الجمع، ومعنى بحكمته أي بعلمه ومشيئته وهي وضع الشيء في محله، ألا ترى أنه وضع البصر وجعله في أعلى الجسد لتكون منفعته أعم وأتم وجعل عليه أجفانا كالأغطية تغطي وتقيه من الآفات وجعلها متحركة تنطبق وتنفتح على مقدار حاجته وجعل في أطرافها أشفارا تدع الذباب والهوام إذا نزلت عليها، وجعلها عليه زينة كالحلية لماي حلى وجعل عظم الحاجب ناتئا عليها يقيها ويدفع عنها لما كانت لطيفة في شكلها إلى غير ذلك من المصالح والمنافع والآلاء التي لا يحيط بها إلا خالقها تعالى، هذا بالنظر إلى ما في عضو من أعضائه فما ظنك بسائر جسده.

(وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه):

أي أبرزه من الصلب إلى الرحم وقيل: أوجده وأخرجه من الضيق ضيق الأحشاء إلى الموضع الواسع وخلق تعالى في قلوب عباده الرفق الشفقة عليه ويسر له رزقا لينا في ثدي أمه متوسطا بين الملوحة والعذوبة باردا في الصيف حارا في الشتاء يخرج من عرقين يتغذى من أحدهما يشرب من الآخر، وتكفل برزقه مدة حياته ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسه منة منه تعالى عليه ولطفا به.

واعلم أن مذهب أهل السنة أن الله تعالى يرزق الحلال والحرام فجميع ما يتغذى به الإنسان من حلال أو حرام فهو رزقه. قال الله عز وجل: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود: 6]

وقد علمت أن جميع المكلفين لا يأكلون الحلال كلهم لأنهم قد يسرقون ويغصبون يتغذون به وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها": وأجمع المسلمون على القول بأن الله تعالى هو الذي يرزق البهائم ما تأكله وليس لها ملك فدل ذلك على أن الغذاء يكون رزقا لمن أكله وإن لم

(1/7)

يملكه. وهذا الذي ذكرنا معناه لابن فورك.

(وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيم):

جعل يعدد نعم الله تعالى على عباده وتنقله من طور إلى طور إلى أن يصير هذا الإنسان يعلم مصالح نفسه فيقصدها ويجتنب مضارها فيباعدها قال الله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل: 78]

قال القرافي: وقع في "كان" حديث الفقهاء، هل يجوز إطلاقها على وجوده سبحانه وتعالى أم لا؟ فمنع قوم كثي لإشعارها بانصرام الشيء وعدمه، والصحيح جوازه لأنها أعم فلا دلالة لها على خصوص الانقطاع فجاز أن تقول كان الله سبحانه ولا شيء معه ولا محظور في ذلك.

(ونبهه بآثار صنعته):

أي أيقظه من نوم الغفلة والجهالة بإيجاد آثار صنعته قال الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الذاريات: 21]

وقال تعالى: (ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) [الروم:22]

إلى غير ذلك من الآي فمن وفقه الله ونبهه وأيقظه وتأمل بأدنى فكره مضمون هذه الهيئات وأدار ذهنه على عجائب خلق الأرض والسموات وبدائع فطر الحيوان والنبات علم أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم الغريب لا يستغنى عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره.

وفي كلام الشيخ حذف لا بد من تقديره كأنه قال ونبهه بآثار صنعته على وجوده سبحانه وتعالى ووحدانيته وغير ذلك من صفاته.

(وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه):

الإعذار: المبالغة في طلب المعذرة ومنه الإعذار في الحكم، قالوا: أعذر من أنذر أي بالغ في المعذرة من تقدم إليك بالإنذار وقد ورد النص بذلك في مواضع منها قوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) [طه:134].

(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء:165]

و (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) [فاطر:37]

إلى غير ذلك من الآي.

والألسنة جمع لسان وهو يذكر ويؤنث من ذكره ذهب به مذهب الدليل والبرهان، ومن أنثه ذهب به مذهب اللغة والحجة.

(1/8)

والمرسلون: جمع مرسل وهو المأمور بتبليغ الوحي، وهو أخص من النبي والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم أعجمي إلا خمسة: محمد، واسماعيل، وصالح، وشعيب، وهو على جميع الصلاة والسلام.

والخيرة بتسكين الياء وفتحها ذكر اللغتين الجوهر وغيره، قبل بالفتح المصدر وبالسكون الاسم وقيل بالعكس ذكره ابن جني.

قال التادلي: ويجوز أن يكونا مصدرين وجاء أحدهما مسكن الياء رغبة في التخفيف وفي هذا تنبيه على أن العقل لا يكتفي به عن بعثة الرسل وأنه لا يحسن ولا يقبح فلا حكم إلا ما جاءت به الرسل ولا حسن ولا قبح إلا ما حسنه الشرع وقبحه، وظاهر كلا المصنف يقتضي تفضيل الأنبياء على الملائكة على جميعهم الصلاة والسلام وهو المختار عند أهل الحق على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قال التادلي: وهذا الأخذ يتأتى إذا جعلت "من" في قوله: "من خلقه" لبيان الجنس وإن جعلت للتبعيض فلا.

(فهدى من وفقه بفضله وأضل من خذله بعدله):

الهدى هو البيان والإرشاد ومنه قوله تعالى: (وهديناه النجدين) [البلد:10]

وهديناه السبيل أي بينا له طريق الخير والشر وقيل: هي المعرفة فمن سبقت له العناية الأزلية وهي التوفيق اهتدى وسلك طريق الخير ومن لم تسبق له العناية أضله الله وصرفه عن طريق الخير.

فهداية المهتدين وسلوكهم طريق الخير إنما هو بفضل الله عز وجل إذ ليس ذلك عوضا من شيء ولا سابقة استحقاق للعبد ولا يجب ذلك على الله تعالى بل هو فضل محض والإضلال والخذلان منه عدل إذ هو تعالى مالك لجميع الأشياء ولا حجر عليه فيها وذلك نفى الله تعالى الظلم عن نفسه فقال تعالى: (ومارك بظلام للعبيد) [فصلت:46]. قال بعضهم كل وصف صالح وصالح ورد في القران مكررا مرتين أو أكثر إلا التوفيق فإنه لم يرد إلا مرةواحدة في قوله تعالى: (وما توفيقي إلا بالله) [هود:88]. تنبيها على قلة المتصف به قيل له: قد ذكره في مواضع آخر في قوله تعالى: (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) [النساء:62]

وقوله: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) [النساء:35]

قال هذا توفيق دنيوي والذي لم يتكرر التوفيق الأخروي.

(1/9)

(ويسر المؤمنين لليسرى وشر صدورهم للذكرى فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين)

يسر أي هيأ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "وكل ميسر لما خلق له"

واليسرى قيل المراد بها الجنة أو الخير أو طريقهما لأن طريق الخير عاقبته يسر ويجوز أن يراد بالتيسير تهوين فعل الطاعات بأن يجعلها فيهم محبوبة لهم حتى تكون عليهم أهون الأمور وأيسرها.

ومعنى شرح: فتح ووسع ومنه شرح المسائل إذا بسطها وعبر بالصدور عن القلوب كما يعبر عنها بالأفئدة وهو من التعبير عن الشيء بمحله أو بمجاوره، والذكرى مصدر ويراد به الموعظة فنور قلوبهم، ووسعها حتى قبلوا المواعظ واهتدوا بها، وتعلموا مقتضاها فكان ذلك سببا لإيمانهم بوجود الله تعلى ووحدانيته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأمنوا بالله نطقا واعتقادا وعملا بما أتتهم به الرسل امتثالا وتصديقا بقول الله تعالى: (وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر:7]

ووقفوا عند ما حد لهم.

(أما بعد، أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه):

أي ما بعد ما سبق قيل إن رسول الله صلى الله عليه السلام كان يقولها في خطبه. قال جماعة: هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام، وقيل: هو أول من قالها. وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة، وقيل: كعب بن لؤي وتسمى كلمة إقبال وفصل وتفصيل وفيهما معنى الشرط، والتحقيق أن الفصل والشرط إنما هو في إما خاصة دون بعد فقيل إن أما

(1/10)

حرف تفصيل نابت عن حرف الشرط وفعله.

وبعد بضم الدال وأجاز الفراء أما بعد بالنصب والتنوين وأجازه هشام بفتح الدال دون تنوين، وأنكره النحاس وفي علة ضم يعد للنحويين بضعة عشر قولا وهي كلمة توضع في صدور الرسائل عند إرادة المقصد قال ثعلب: معناها خروج عما نحن فيه إلى غيره وفيها معنى التنبيه. وقول الشيخ، وإياك: خطاب للمؤدب العابد محرز وإن كان دخل معه في الضمير في أعاننا ولكن أراد أن يفرده بالذكر لأنه الذي سأله تأليف الرسالة وهكذا قال غير واحد من التونسيين وغيرهم كابن سلامة وناصر الدين.

وقال أبو زيد عبدالرحمن بن الدباغ القروي صاحب معالم الإيمان الذي سأله تأليفها هو الشيخ الصالح أبو إسحاق إبراهيم السبائي وهو ضعيف ولا يقال إنهما معا سألاه وأسعهما جميعا لأن إفراد الضمير يأباه، وأيضا فإنه قوله: كما تعلمهم حروف القرآن يدل على أنه المؤدب محرز لأني لا أعلم أحدا ممن تعرض لمناقب أبي إسحاق ذكر أنه كان مؤدبا وقدم الشيخ نفسه في الدعاء تأديبا بآداب الشريعة بالكتاب والسنة، أما بالكتاب فقوله تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:19]

(رب اغفر لي ولوالدي) [نوح:28]

(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [الحشر:10]

، وأما بالسنة فروى أو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدأ بنفسه وقال صلى الله عليه وسلم "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" فإذا طلب تقديم النفس في الدنيا فطلبه في أمور الآخرة أولى وقال الشيخ ناصر الدين خلاف ذلك قال: فإن قلت لم قدم نفسه في الدعاء وكان الأولى تقديم غيره فيقول أعانك الله وإياي، إذ هو أتم في الإيثار.

فالجواب لا نسلم أنه قدم نفسه فقط لجواز أن يكون الضمير في أعاننا أراد به نفسه والسائل، فإن قلت: لا فائدة إذن في قوله وإياك قلت فائدته تحقيق الغير في الدخول. والرعاية والحفظ والكلأ والمراقبة، كلها بمعنى واحد وهو القيام بالشيء والاحتفال به.

والودائع: الأمانات وقيل العبادات كالوضوء والصلاة وقيل الجوارح وقيل لا يمتنع أن تكون الودائع مجموعة ما تقدم لأن الإنسان راع على جوارحه وعبادته وجميع

(1/11)

تصرفاته. وقد قال عليه السلام "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" والشرائع جمع شريعة وهي أحكام الله تعالى التي تتلقى من رسله وحفظ الشرائع الإتيان بها من جميع جهاتها من فرض وسنة وفضيلة.

(فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانات):

السؤال والالتماس يكون من المتماثلين والدعاء من الأدنى إلى الأعلى والأمر عكسه هكذا قال بعض من شرحها وليس كذلك قال في الجمل: واللفظ المركب إن دل بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرا ومع الخضوع سؤالا ومع التساوي التماسا والجملة من أجملت الشيء إذا لم تفصله ومنه أجملت الحساب إذا جمعت بعضه إلى بعض والاختصار والتعبير باللفظ القليل عن المعنى الكثير.

والأمور جمع أمر، والأمر تارة يراد به الفعل والشأن وتارة يراد به القول الطالب للفعل على سبيل الاستعلاء فالذي بمعنى القول يجمع على أوامر، والذي بمعنى الفعل، والشأن يجمع على أمور فلذلك أضاف الواجب إلى الأمور لأن الأحكام الشرعية هي المتعلقة بأفعال العباد وأفعال العباد لا تخرج من نطق اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح، والألسنة: جمع لسان يذكر ويؤنث ويقع على العضو المعروف.

ويقع على اللفظ والكلام فمن ذكره ذهب به مذهب الدليل ومن أنثه ذهب به مذهب الحجة. والقلوب: جمع قلب والجوارح الكواسب وهي أعضاء الإنسان التي يكتسب بها الخير والشر.

(وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن ومن مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها):

اعلم أن كل مطلوب بالشرع ليس بواجب يصح أن يطلق عليه مندوب ومسنون ومرغب فيه وفضيلة ونافلة إلا أن الفقهاء لا سيما المالكية خصوصا خصوا كل لفظ بمعنى يخصه فقالوا الفرق بين السنة والفضيلة والنافلة: أن السنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه وأظهره في الجماعة ولم يدل على وجوبه كالوتر، والفضيلة والمرغب فيه ما كان دون السنة في الرتبة إما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في الجماعة كركعتي الفجر أو لم يداوم عليه كصلاة الضحى.

(1/12)

والنوافل: هي أتباع الفرائض ونحو ذلك، وقول الشيخ من مؤكدها بدل من السنن، والآداب: جمع أدب وهو فعل ما يحسن بينه وبين ربه وقصد بذلك ما ذكره في الجامع من آداب الأكل والشرب إلى غير ذلك.

(وجمل من أصول الفقه إلى آخره): يصح في جمل النصب عطفا على جملة مختصرة عطفا على السنن، وأصول الفقه أراد به أمهات المسائل ويدل على أن هذا مراده.

(وفنونه):

أي ما يتفرع منه وما يتقنن، والفنون جمع فن وهو الفرع قال بعضهم ويحتمل أن يريد بأصول الفقه أدلته على ما هو المصطلح عليه عند بعض المتقدمين وقد ذكر شيئا من ذلك في باب جمل من الفرائض والسنن واستعمل فيه طريق القياس على المتعارف عند الأصوليين ومن جملةذلك إن قال الخمر حرام، وقال عليه السلام "كل ما اسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام" فكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر وهو حرام وهذا استعمال للمقدمات والنتائج والله أعلم.

فإن قيل لم طلب السائل أن يكون على مذهب مالك وهو ميت مع تمكنه من تقليد إمام حي وهو مؤلفه ابن أبي زيد وقد أجمع أهل الأصول على منع تقليد الميت كما حكاه القرافي في شرح المحصول قال نص ابن أبي الملحمة في شرح الرسالة على أنه لا يجوز تقليد العالم مع وجود الأعلم وإن كان ميتا لأن يموته أمن من رجوعه عن قوله بخلاف الحي.

قال التادلي: وبصائر أهل الأبصار والأمصار اليوم على ذلك من غير تنازع ولو سد هذا الباب لقلد من لا يستحق التقليد لا سيما وقد فسدت العقول وتبدلت وكثرت البدع وانتشرت، فكان الرجوع والفزع إلى سلفنا الصالح المسلمين وأئمة الدين هو الواجب على المقلدين بل على أكثر المجتهدين واختار الشيخ مذهب مالك لأنه إمام دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعني في قول أكثرهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" وقيل إنما اختاره لأنه جمع بين الشرفين الحديث والفقه وغيره من أئمة الدين

(1/13)

إما فقيه صرف كالشافعي وأبي حنيفة ليس لهما ذكر في الصحيحين وإما محدث صرف كأحمد وداود.

وقيل لأن أئتمته أخذوا عه بعد أخذه عنهم إلا القليل كابن شهاب فقيل أنه لم يأخذ عنه، وقيل لشدة اتباعه السف. وقد قال ليس لأحد رأي مع السنة وما استمر عليه عمل أئمة الهدى وقد أجمع أهل الفضل على فضل مالك رحمه الله تعالى، ولم يزل أئمة الدين المقتدى بهم المعول في التحقيق عليهم يختارون مذهبه ويرجحونه على غيره من المذاهب كله والحمد لله على تمهيده.

وذكر أبو محمد عبد الله بن سلامة أن القاضي أبا بكر لسان الأمة وسيد أهل السنة رضي الله عنه كان في مجلس إقرائه وبين يديه جمع وافر وكان يقرئ المذاهب الأربعة ويرجحها ثم يأخذ في الترجيح والاحتجاج لمذهب الإمام مالك رحمه الله فقال بعض أهل المجلس: ما وجهتموه رضي الله عنكم ليس بواضح، هذه حجة ضعيفة قال: فاصفر لونه وتغير وجهه وأطرق مليا ثم قال: يا هذا أتقول في إمام دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ضعيفة وأين الأدب مع العلم وأهله اخرج من مجلسي واحذر أن تقع عيني عليك بعد هذا اليوم. فلم يقدر أن يسكن معه العراق وانتقل إلى القيروان واستوطنها ودرس فيها مذهب مالك وألف كتابا في مناقب الشيخ أبي بكر وصدره بمسألته هذه فجزاه الله خيرا عن تخلقه وتواضعه.

والمذهب والطريقة قيل هما بمنعى واحد وإنهما لفظان مترادفان وقيل مذهبه ما يفتي به وطريقته ما يفعله في خاصة نفسه فقد يحمل على نفسه أشياء لا يفتي بها غيره، وقيل مذهبه ما قاله وثبت عليه وطريقته ما قال ورجع عنه، والصواب أنه أراد بالمذهب قول مالك والطريقة قول أصحابه إذ طريقة أصحابه طريقته ولذلك تجد الشيخ كثيرا ما يذكر قول بعض أهل المذهب ويترك قول مالك وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو محمد عبد الله ابن الشيخ أبي محمد عبد الله الشبيبي وكان من عادته التكلم بالوعظ في أول ميعاده لكثرة من يحضر عنده من العوام، فتارة يعظ في تفسير كتاب الله عز وجل وهو الأعم والأغلب منحاله وتارة يعظ في تفسيره لمسلم وتارة فيهما وفي قراء العقيدة فقرئ عليه هذا المحل سنة فذكر ما قلناه. وقال: سأعرف بمالك وأصحابه فكان كل يوم يذكر رجلا ورجلين ويعظ على نحو ما يذكر من الحكايات المنقولة في الذي يعرف به إلى أن وصل إلى الشيخ أبي يوسف الدهماني وهو آخر من ذكر الشيخ

(1/14)

صاحب معالم الإيمان نفعنا الله بجميعهم.

وكان الشيخ المذكور يقرئ العلم من طلوع الشمس أو قرب طلوعها إلى أن تحضر صلاة الظهر وكان فصيحا متواضعا لا يعنف على من يستشكل أو يسأل فيخرج لينال شيئا من الطعام ويتوضأ بعد ويصلي الظهر قريبا من العصر ثم يصلي العصر ويجلس ليجود عليه من حينئذ إلى أن تصلي العشاء الآخرة وربما يقرأ عليه بعد ذلك وظهرت له كرامات متعددة والغالب أن من قرأ عليه انتفع من حسن نيته وكثرة بيانه. نسأل الله أن ييسر علي بتأليف كتاب أذكر فيه أيضا فضل الشيخ وما كان عليه.

(مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك إلى آخره):

سهل بمعنى يسر وهون والرسوخ لغة الثبوت فيريد الثابتين في العلم والمتفقهون الفقهاء وأراد بذلك أصحاب مالك كابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم ويقال فقه بكسر القاف إذا فهم وفقه بفتحها إذا سبق غيره للفهم وفقه بضمها إذا صار له الفقه سجية ذكره ابن عطية وغيره. قال صاحب البيان: التفقه في القرآن معرفة أحكامه وحدوده ومفصله ومجمله وعامه وخاصه وناسخه ومنسخوه وذلك أكد من حفظ شواذ حروفه، فإن لم يتفقه فيه ولا عرف شيئا من معانيه فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا.

(لما رغبت إلى آخره):

هذا بيان للسبب الموجب لسؤال السائل تأليف هذه الرسالة وهي الرغبة في تعليمه للولدان أو يكون بيانا لسبب سؤاله أن تكون جملة مختصرة لأنها أقرب للحفظ وأسهل للضبط. والبركة: الخير وزيادته.

(فأجبتك إلى ذلك إلى آخره):

المراد بهذه الجملة ترجي حصول الثواب لهما، هذا بدعائه، وهذا بتعليمه قيل ويحتمل أن تكون "أو" بمعنى الواو إذ كل واحد منهما في الحقيقة داع ومعلم فالشيخ أبو محمد داع بتأليفه مع جهة المعنى ومعلم به، والشيخ أبو محفوظ محرز داع إلى التأليف ومعلم به ولم يقطع بحصول الثواب لأن القبول مغيب وهو متوقف على العاقبة والله أعلم.

(واعلم أن خير القلوب إلى آخره): يعني أن القلوب متفاضلة فأفضلها أكثرها وعيا للخير وأقربها من هذه الحالة قلب

(1/15)

لم يسبق الشر إليه إذ لا مانع فيه وقلوب الصبيان بهذه المثابة.

(وأولى ما عني الناصحون به إلى آخره):

الناصحون المرشدون للخير المحذرون من الشر. والرسوخ الثبوت. والتنبيه هنا الإيقاظ من سنة الغفلة والجهالة والمعالم المراد بها قواعد الدين. وخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" قالها ثلاثا قيل لمن يا رسول الله قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" فهذا من النصح لعامة المسلمين.

(وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم إلى آخره):

قيل يحتمل أن تكون ما استفهامية التقدير أي شيء عليهم في ذلك أي: أي مشقة تلحقهم فيه مع كبير فائدته وهو الرسوخ في القلب والرياضة والتأنيس وحصول شرف الدنيا وعز الآخرة فتحصل لهم المنفعة بهذه الجملة والسيادة بعلمها، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب" ومنهم من حمل قوله وما عليهم على النفي للوجوب وضعف لأن اللفظ لا يساعده.

ومعنى قول الشيخ يطفيئ غضب الله أي النار التي أعد الله لمن خالف أمره ونهيه والمراد إطفاء الغضب عن آبائهم ومن تسبب في تعليمهم أو معلميهم أو عنهم فيما يستقبل من الزمان، وقد ورد: لولا صبيان رضع وشيوخ ركع وبهئائم رتع لصب عليكم العذاب صبا.

(وقد مثلت لك إلى آخره):

الانتفاع بالرسالة ظاهر لا ينكر وقيل فيها أربعة آلاف مسألة والنفع يقع بكل مسألة منها فضلا عن الكل وكل مسألة بحديث فقيها أربعة آلاف حديث وأسندها الأبهري في كتاب سماه مسالك الجلالة في إسناد أحاديث الرسالة.

(وقد جاء إلى آخره):

روى هذا الحديث جماعة منهم ابن وهب في المدونة. ورواه ابن أبي شبية في مصنفه ورواه ميسرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في حديث ميسرة التفريق في المضاجع والعجب أنهم اختلفوا مع ذلك في الوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة،

(1/16)

فقال يحيى بن عمر يؤمر بها إذا عرف يمينه من شماله فقيل بظاهره وقيل إذا ميز الحسنات من السيئات لأن كاتب الحسنات عن يمينه وكاتب السيئات عن شماله وكلا التأويلين نقلهما التادلي.

وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون يؤمر بها إذا أطاقها وإن لم يحتمل. وما روي عن مالك في المجموعة يؤمر بها إذا بلغ الحلم فمحمول على أمر المكلفين. وروى ابن وهب عن مالك في العتبية يضربون عليها لسبع، واختلف في الزمان الذي يفرق بينهم في المضاجع عنده، فقال ابن القاسم: إذا بلغ سبع سنين.

وقال ابن وهب إذا بلغ عشر سنين ولا يؤمر المطيق للصوم به على المشهور وفرق بينهما بثلاثة فروق أذكرها إن شاء الله تعالى في الصوم. قال ابن رشد للصبي حال لا يفهم فيها ولا يعقل، فحاله فيها كالبهيمة فعله جبار، وحال يعقل فيها ينبه فيها الصبيان على الصلاة والزكاة. ثم اختلف في أجر الصبي لمن يكون فقيل للأب وقيل للأم وقيل بينهما قال بعضهم: ولا يمتنع أن يكون للصبي أجر أيضا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الصبي ألهذا حج قال: "نعم ولك أجر".

(فكذلك ينبغي إلى آخره):

العباد جمع عبد وهو يجمع على عباد وعبيد وأعبد القول ما يتلفظ به والعمل ما يتعلق بالجوارح والقلوب وهو يتناول القول بخلاف الفعل فإنه لا يتناوله هكذا أدركت بعض من لقيته يقرره فيكون على هذا عطف الشيخ العمل على القول من باب عطف العام على الخاص، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "وإنما الأعمال بالنيات" فهو يتناول القول بلا شك وحمل بعض الشيوخ كلام المؤلف على أن القول مغاير للعمل لأن الأصل في العطف المغايرة قال: ويقوي ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اللهم أني أعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل" وقد قال بعض الناس في قول النحاة فعل ولم يقولوا علم لأن الفعل يعم القول والعمل.

والبلوغ يكون بالاحتلام اتفاقا، ويكون بالسن واختلف في مقداره على أربعة أقوال: فقيل: خمس عشرة سنة، قاله ابن وهب، وقيل سبع عشرة سنة وقليل ثمان عشرة

(1/17)

سنة وكلاهما لابن القاسم والآخر منهما هو المشهور قاله المازري، وقيل ستة عشر سنة ذكره ابن رشد مع الثلاثة الأول في كتاب المأذون له من المقدمات ولم يعزها. وما ذكرناه هو الذي أعرف في المذهب، وذكر التادلي عن أبي محمد صالح قولا خامسا تسع عشرة سنة ولا أعرفه، واختلف في الإنبات فقيل علامة للبلوغ وقيل لا وكلاهما في المدونة في كتاب السرقة والأول لمالك والثاني لابن القاسم.

قال ابن رشد وهذا فيما يلزمه في ظاهر الحكم من طلاق وحد وفيما بينه وبين الله لا يلزمه وقول الفاكهاني ثالثها يعتبر في الجهاد خاصة لا أعرفه، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بالحيض والحمل وظاهر كلام أهل المذهب أن تغير رائحة الجناحين ليس بعلامة وفي الذخيرة أنه معتبر.

(وسأفصل لك إلى آخره) انتصب بابا على الحال وإن لم يكن مشتقا لكنه بمعنى المشتق إذ هو في معنى مفصل فهو مشتق من التفصيل وفعل ذلك لأنه أعون على الحفظ وأقرب إلى الفهم. ونستخير أي نطلب منك الخيرة وكذلك ينبغي لكل عازم على أمر أن يستخير الله عز وجل في الاقدام عليه فإن في الاستخارة تسليما لأمر الله تعالى. ونستعين أي نطلب منك الإعانة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقال: "أخبرك بتفسيرها" فقلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله فقال: "لا حول عن معصية الله إلا بمعصية الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله" وفي رواية أنه قال كذا أخبرني جبريل عن الله عز وجل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكثروا منقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنه يدفع تسعة وتسعين داء أدناها اللمم".

قال الفاكهاني: اللمم لفظ مشترك والظاهر اللائق بالحديث إن شاء الله تعالى أنه الطرق من الجنون يقال رجل ملموم أي به لمم لأنه من جملة الأدواء وعن مكحول رضي الله عنه من قالها كشف الله عنه سبعين بابا من الشر أدناها الفقر. وأجاز النحويون في لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نصبها من غير تنوين ورفعها مع

(1/18)

التنوين ونصب الأول من غيرتنوين. ورفع الثاني معه والعكس.

وقول الشيخ وصلى الله على سيدنا محمد الصلاة من الله عز وجل رحمة ومن الملائكة استغفار ومن الآدميين تضرع ودعاء والإجماع أن الصلاة عليه واجبة على الجملة. واختلف في الصلاة على غيره صلى الله عليه وسلم فقال عياض في الشفاء وجدت بخط بعض شيوخ مذهب مالك أنه لا يجوز أن يصلى على أحد من الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم وهذا غير معروف من مذهبه. وقد قال في المبسوط ليحي بن اسحاق أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى غير ما أمر به.

وقال يحيى بن يحيى لست آخذا بقوله ولا بأس بالصلاة عل الأنبياء كلهم وعلى غيرهم واحتج بحديث ابن عمرو وما جاء من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم عليه وفيه وعلى أزواجه وعلى آله. ووجدت معلقا عن أبي عمران الفاسي روي عن ابن عباس كراهة الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم قال وبه نقول قال ولم يكن يستعمل فيما مضى وسمي نبينا بمحمد صلى الله عليه وسلم لكثرة خصاله المحمودة وجمهور العلماء على جواز إضافة أل إلى المضمر كما فعله الشيخ في قوله وآله وأنكره الكسائي والنحاس والزبيدي وقالوا لا تصح إضافته إلى المضمر وإنما يضاف إلى الظاهر فيقال على آل محمد، وفي حقيقة الآل مذاهب فقال الشافعي: بنو هاشم وبنو المطلب وقيل: عشيرته وأهل بيته وقيل: جميع الأمة واختاره الأزهري وغيره من المحققين والسلام التحية.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب ما تنطق به الألسنة إلى آخره

الباب هو الطريق للشيء الموصل إليه وهو حقيقة في الأجسام كباب المسجد مجاز في المعاني كباب ما تنطق به الألسنة وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب بيان ما تنطق به الألسنة وما في قوله ماتنطق بمعنى الذي ومن من قوله من واجب أمور الديانات للتبعيض لأن واجب أمورالديانات أعم من أن يكون نطقا أو اعتقادا ويجوز أن تكون لبيان الجنس فيكون مراده ما يجب اعتقادا ونطقا ومتعلقا بهما.

(من ذلك الإيمان إلى آخره):

الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا سواء كان بالقلب أو باللسان أو بهما. وفي الشرع هو التصديق بالقلب بوجود الحق سبحانه وتعالى وصفات كماله وجلاله وصحة الرسالة وما جاءت به الرسل من عنده مع الجزم بذلك كله. وهل يشترط الإقرار باللسان به أم لا، فقيل يشترط وهو مذهب الجمهور، فمن آمن بقلبه، ولم ينطق بلسانه

(1/19)

ومات فإنه كافر وقيل ليس بشرط قاله القاضي أبو بكر الباقلاني.

وبه قال ابن رشد وهو ظاهر المدونة، لو أجمع على الإسلام بقلبه فاغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الظهر ولما كان ظاهرها كما قلنا مخالفا للجمهور نسبه ابن الحاجب للمدونة فقال: وفيه لو أجمع على الإسلام واغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الطهر وأردفها بقوله وهو مشكل. وقال بعض شيوخنا لعله يجمع بين القولين فيحمل الأول على غير العازم على النطق والثاني على العازم أو يحمل الأول على الآبي والثاني على غير الآبي.

واختلف هل يكفي إيمان المقلد أم لا فجمهورهم على أنه كا غير أنه عاص بإهمال النظر المؤدي إلى العلم بالله وما يجب له، وقيده الغزالي يقيد أن يكون لذلك أهلا. قيل لا يكفي قاله القاضي أبو بكر وغيره. ومذهب أهل السنة أنه لا يشترط العمل بالجوارح خلافا للمعتزلة، والواحدة قال أبو المعالي: معناه المتوحد المتعالي عن الانقسام، وقيل معناه الذي لا مثل له. وقال القشيري الواحد: الذي لا قسيم له ولا يستثنى منه.

قال الشافعي وغيره: واسم الجلالة ليس بمشتق. وقال غير واحد بل هو مشتق فإن قلت من جعل اسم الله مشتقا غير مرتجل يلزمه كون القديم مسبوقا بغيره ضرورة لأن المشتق منه سابق على المشتق فالجواب أن المشتق اللفظ لا مدلوله، أو نقول ليس المراد هنا الاشتقاق الذي هو إنشاء فرع عن أصل بل مجاوز وهو تقارب الألفاظ والمعاني صح من تعليق البسيلي رحمه الله.

وقال صاحب الأسرار: والصحيح أنه كان مشتقا ثم صار علما جمعا بين القولين واختلف في اشتقاقه فقيل من لاه إذا علا يقال لاهت الشمس إذا علت إلى غير ذلك من الأقوال. وقول الشيخ لا إله غيره تأكيد ومبالغة في ثبوت الوحدانية ونفي إله آخر لأن صيغة النفي والإثبات أبلغفي نفي الكمية المتصلة والمنفصلة.

وقد اختلف العلماء هل الأفضل للمكلف عند التلفظ بلا إله إلا الله مد الألف من لا النافية أو القصر فمنهم من اختار القصر لئلا تخترمه المنية قبل التلفظ بذكر الله تعالى ومنهم من اختار المد لما فيه من الاستغراق في نفي الألوهية، وفرق الفخر الرازي بين أن يكون أول كلمة فتقصر أو لا فتمد.

(1/20)

(ولا شبيه له إلى آخره):

أي لا شبيه له في ذاته ولا نظير له في صفاته، هكذا فسره بعض الشيوخ وتردد بعضهم في ذلك هل الأمر كما تقدم أو هما لفظان مترادفان، والولد لغة يقع على الذكر والأنثى والوالد يقع على الأب الأدنى والأعلى وهو الجد لكنه حقيقة في الأدنى مجاز في الأعلى.

(ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء):

قال الفاكهاني: يريد أن الله تعالى يجب أن يكون قديما باقيا ويستحيل عدم ذلك عليه سبحانه وتعالى ولا تناقض في كلام المؤلف كما توهمه بعض الناس حيث قال أضاف الأولية والآخرية ثم نفاهما عنه كأنه قال له أولوية لا أولوية له، له آخرية لا آخرية له وليس كما توهم لما قيل إن الأول هو السابق للأشياء والآخر هو الباقي بعد فناء الخلق وليس معنى الآخر ما له انتهاء قاله الخطابي. واعلم أن كل ما له أول له آخر إلا الجنة والنار وينبغي أن يزاد على ذلك أهلهما والله أعلم.

(لا يبلغ كنه صفته الواصفون)

قصد الشيخ بقوله ليس لأوليته ابتداء وبقوله هنا لا يبلغ كنه إلخ إلى تفسير قوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد:3]

فمعنى قوله الظاهر بآياته الباطن عن أن تكيفه العقول والأوهام فلا يبلغ كنهه أي حقيقة صفته وصف واصف لأن كنه عظمه الله لا ينتهي إليها. قال بعض الشيوخ ويفهم من كلام المصنف أن مذهبه نفى العلم بالحقيقة واختاره جماعة من المتقدمين، وأطلق الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه القول بأنه لا يعرف الله إلا الله، واختاره أكثر المتأخرين وهو مذهب الأستاذ الضرير رحمه الله تعالى وكان من المحققين وأنكر الأستاذ أبو بكر هذا القول ورده وتبعه عليه الإمام أبو المعالي مع طائفة.

وقال الباري تعلى يعلم والعلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به فلو تعلق العلم به على خلاف ما هو به لكان العلم جهلا، وقد اجتمعت الأمة على وجوب معرفة الله تعالى، ولو كانت مستحيلة لما اجتمعت عليه الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم "ومن عرف نفسه فقد عرف ربه" أي من عرف نفسه بالافتقار والذل والصغار ونفى عنها العز الاقتدار

(1/21)

عرف ربه موصوفا بالكمال منفردا بالعز والجلال منزها عن لحوق التغير والزوال متعاليا عن الأين والكيف والمثال. قال بعضهم: وخلاف الأئمة عندي في هذه المسألة خلاف في حال، فمن نفى العلم بالحقيقة فإنه مقر بأن الله تعلى لا يحاط بهوبأن جلالته وعظمته وكبرياءه لا يلحقها وهم ولا يقدرها فهم، وأن العقول قاصرة عاجزة عن إدراك ذلك الجلال ومن أثبت العلم بالحقيقة فإنه مقر بأنه تعالى عرفه العارفون بدلالة الآيات وتحققوا اتصافه تعلى بواجب الصفات وتيقنوا تنزيهه عن التشبيه بالمحدثات تقديسه عن الحدود والكيفيات وعلموا بأنه المستبد بابداع الكائنات فهو تعالى الملك المطاع الذي عزه لا يرام وسلطانه لا يضام.

(ولا يحيط بأمره المتفكرون):

يقال حاط وأحاط بمعنيين فمعنى حاطه كلأه ورعاه وأحاط به علما وهو من الواوي لظهورها في المضارع الثلاثي نحو يحوط وتنقلب ياء في المضارع الرباعي والتفكر التأمل.

(يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في مائية ذاته):

آيات الله تعالى عقلية وشرعية، فالعقلية أدلة مخلوقاته وعجائب مصنوعاته.

وفي كل شيء له أية = تدل على أنه واحد

والشرعية آيات كتابه وأدل خطابه وجملة أسراره ومعانيه، والماهية والمائية بمعنى الحقيقة وقد أخذ على الشيخ في إطلاق لفظ المائية على الباري سبحانه وتعالى. قال ابن رشد رد على الشيخ في قوله مائية ذات والصحيح أنه لا مائية لذاته فيقع التفكر. قال عبدالوهاب والمائية لا تكون إلا لذي الجنس والنوع وما له مثالا إلا أن يريد بالمائية ضربا في المجاز والاتساع.

وقوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" [البقرة:255]

: أي بشيء من معلوماته، دل على صحة ذلك الاستثناء والبعضية وإطلاق العلم على المعلوم كثير، وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنهم اللهم اغفر لنا علمك فينا. وفي قضية الخضر على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلخ يريد من معلوم الله تعالى وهذا لا خفاء به. قيل المعلومات كلها خمسة أقسام: قسم لا يعلمه أحد سواه كعلمه بذاته وصفاته وقسم علمه اللوح والقلم وهو معرفة ما جرى به القلم في اللوح وقسم علمه الملائكة وقسم علمه الأنبياء والخامس علمه الأولياء

(1/22)

فسبحانه من لا يخفى عليه شيء.

(وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم):

الكرسي مخلوق عظيم من مخلوقاته سبحانه وتعالى والعرش أعظم منه والسموات والأرض في جنبه كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض وهو بالنسبة إلى العرش أيضا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، كما ثبت في الصحيح. وقيل كرسيه علمه الكرسي العلم في اللغة ومعنى وسع أنه لم يضق عن السموات والأرض لسعته فما ظنك بسعة علم خالقه ومعنى لا يؤوده حفظهما أي لا يشغله وهذه مناسبة ظاهرة لأن النفوس أبدا تجد من التعظيم والهيبة عند سماع الأشياء المحسوسة الدالة على الكبرياء ما لا تجده عند عدم ذلك والمراد بذكر الكرسي والعرش الذي هو أعظم منه استشعار النفوس عند سماع ذلك من عظمة الله وعزة اقتداره لا أنهما محلان للاستقرار، تنزه الخالق عن التحيز والافتقار إلى المحل ولهذا ختم الآية الكريمة بقوله (وهو العلي العظيم) [البقرة: 255]

اسمان من أسمائه تعالي يدلان صريحا على تنزيه الحق وتقديسه عن المكان والجهة وعلى ثبوت العلو والعظمة.

(العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير):

قال القشيري رحمه الله تعالي: اعلم أن العالم من أسمائه سبحانه وتعالي ورد به نص القرآن وهو عالم وعليم وعلام وأعلم والتوقيف في أسمائه سبحانه وتعالى معتبر والإذن في جواز إطلاقها منكر إلا ما ورد به الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة ولهذا لا يسمى عارفا ولا فطنا ولا داريا ولا عاقلا وإن كان الجميع بمعنى واحد وعلمه تعالى نعت من نعوته.

قال غيره والخبير بمعنى العليم، وقد يراد بالخبير المختبر والمدبر. قال الجوهري والتدبير في الأمر أن ينظر إلى ما تؤول إليه عاقبته والتدبر التفكر فيه. وقال غيره هو النظر في أدبار الأمور، وعواقبها ليوقع على الوجه الأصلح والأكمل وهذا من صفات البشر، وأما بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى فمعناه انبرام الأمر وتنفيذ عبر عنه بذلك تقريبا للأفهام وتصويرا لأن الله سبحانه وتعالى عالم بعواقب الأمور كلها من غير نظر ولا فكر يعلم ما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.

واعلم أن المدبر لم يرد في الأسماء الحسنة وورد في القرآن في قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) [السجدة: 5]

واختلف فيما ورد من أسمائه تعالى

(1/23)

بخبر الآحاد فمنعه الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله وحجته قوله تعالى: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) [الأعراف: 28]

وخبر الواحد لا يحصل علما وأجازه الجمهور. قالوا لأنه من باب العمل والعمل يكفي فيه خبر الواحد.

والقدير مبالغة في القدرة لأن قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات دليل على ظهور الأفعال المتقنة، والسميع البصير سواء وهما من أبنية المبالغة من سامع ومبصر والسماع حقيقة في إدراك المسموعات مجاز فيما عداها كإطلاق معنى العلم والإبصار حقيقة في رؤية الموجودات وقد يستعمل بمعنى العلم مجازا.

وقد أثبت تعالى لنفسه السمع والبصر في غير ما موضع من القرآن الكريم ولا خلاف في ذلك بين الأئمة إلا عند البلخي ومن تابعه من معتزلة البغداديين والمراد بالعلي الكبير مكانة ورفعة وشرفا لاستحالة الجسمية والمكان عليه سبحانه.

(وأنه فوق عرشه المجيد بذاته):

روي المجيد بالرفع على أنه خبر مبتدأ وروي بالخفض على النعت للعرش وهذا مما انتقد على الشيخ رحمه الله في قوله بذاته فإنها زيادة على النص فمن مخطئ ومن معتذر، قال الفاكهاني: وسمعت شيخنا أبا علي البجائي يقول أن هذه لفظة دست على المؤلف رضي الله عنه فإن صح هذا فلا اعتراض على الشيخ. وقال الشيخ أبو عبدالله محمد بن محمد بن سلامة الأنصاري من متأخري التونسيين: الفقيه إذا فهم ما ذكر فليس بمنتقد أي ما ذكر اعلم أولا أن هذا الكلام وهو الإطلاق ليس من إطلاق الشيخ المؤلف رحمه الله وإنما هو من إطلاق السلف الصالح والصدر الأول نص، على ذلك الإمام أبو عبدالله بن مجاهد في رسالته قال فيها ما نصه ومما أجمعوا على إطلاقه أنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه يريد إطلاقا شرعيا ولم يرد في الشرع أنه في الأرض.

فلهذا قال دون أضه وهذا مع ثبوت علمهم باستحالة الجهة عليه تعالى فليس هذا عندهم مشكلا لعلمهم بفصاحة العرب واتساعهم في العبارة، ونقل هذا الكلام بعينه الشيخ أبو محمد في مختصره وغير لفظه هنا قصدا للتقريب على المبتدئ، فإذا تقرر هذا فالناس عالة للصدر الأول، وإذا ثبت على إطلاقهم هذا فيتعين علينا تفهمه بالتمثيل والبسط إذا غلبت العجمة على القلوب حتى ظنت أن هذا الإطلاق يلزمه منه إثبات الجهة في حق المنزه عنها تعالى وتقدس، فأما لفظ الفوقية فمشترك بين الحس والمعنى

(1/24)

والقرينة تخصص المراد منهما، ويكون من باب الحقيقة والمجاز فهو حقيقة في الأجرام مجاز في المعنى وكم من مجاز يرجح على الحقيقة.

وأما العرش فهو اسم لكل ما علا وارتفع والمراد به هنا مخلوق عظيم وهو سقف الجنة قال الله تعالى: (والله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [النمل: 26]

، وأما المجد فهو الشرف والرفعة. فإذا تقرر هذا فحمل الفوق على الحس معلوم بالاستحالة بالدليل اليقيني لتقديسه سبحانه على الجواهر والأجسام ومعلوم ذلك من سياق كلام المؤلف رحمه الله بحيث لا يوهم على ربه أنه أراد الحس فهو تعالى فوق العرش فوقيه معنى وجلال وعظمة.

ثم الفوقية المعنوية من حيث هي فوقية إما أن تكون واجبة بالذات أو مستفادة من حكم الغير لا ترجع لمعنى في الذات وإنما ذلك بحكم الله وتشريفه فهو تعالى وصف العرش بالمجد والعظم وجعله أعظم المخلوقات وعلو الله تعالى ومجده ليس كعلو غيره بل هو مخالف لكل المخلوقات مخالفة مطلقة، فمجده تعالى وعظمته وعلياؤه حكم واجب له لذاته لا يشارك فيه وسواء على هذا قلنا إن المجيد نعت للعرش أم لا فأراد المصنف رحمه الله تعالى أن يبين أن ذلك العلو والمجد والجلال الذاتي ليس إلا لله تعالى رب العالمين فكأنه يقول هو العلي المجيد بذاته ليس مستفادا من غيره.

قلت وفي أجوبة عز الدين بن عبد السلام لما سئل عن قول الشيخ وأنه فوق عرشه المجيد بذاته هل يفهم منه القول بالجهة أم لا وهل يكفر معتقدها أم لا؟ فأجاب بأن ظاهر ما ذكره القول بالجهة وأن الأصح أن معتقد الجهة لا يكفر.

(1/25)

(وهو في كل مكان بعلمه):

قال القاضي أبو الوليد بن رشد إنما يقال علمه محيط بكل شيء ولكنه أراد أن يبين قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) [المجادلة:7]

والمقصود أن الله تعالى عالم بكل شيء. قال الفاكهاني: روى ابن عباس صلى الله عليه وسلم ما من عام إلا وهو مخصوص إلا أربع آيات، الأولى قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) [آل عمران: 185]

الثانية قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود:6].

الثالثة: قوله تعالى: (وهو بكل شيء عليم) [الحديد:3].

الرابعة: قوله تعالى: (وهو على كل شيء قدير) [المائدة: 120].

وكان يغلط من يقول إن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات لأن الشيء الممكن المعدوم لا يطلق عليه شيء عندنا يريد حقيقة فما ظنك بالمستحيل.

(1/26)

(خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد):

خلق يكون بمعنى أوجد ويكون بمعنى التقدير وظاهره هنا الإيجاد والإنسان هنا المراد به الجنس ويحتمل أن يراد به آدم عليه السلام وضعفه بعضهم وقال هو عام في غير الأنبياء عليهم السلام لأجل ذكر وسوسة النفس لأنهم معصومون من ذلك والوسوسة ما يختلج في النفس واستعمالها في الغالب في غير الخير فلهذا أضيفت إلى النفس، قال الله تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) [يوسف: 53]

إلى غير ذلك. قال عز الدين في مختصر الرعاية اختلف في أخذ الحذر من الشيطان فقالت طائفة يجوز التحرز منه ليعمل على طاعة الله تعالى ويجعلها بدلا منه.

وقالت طائفة أخذ الحذر مناف للتوكل إذ لا قدرة على الإغواء إلا بمشيئة الله تعالى والفرقتان غالطتان ومخالفتان للإجماع ونصوص القرآن على وجوب الحذر من الكفار الذين نراهم فالحذر من عدو يرانا ولا نراه أولى.

والوريد عرق في العنق وإضافة الحبل إليه من إضافة الجنس إلى نوعه نحو قولهم لا يجوز حي الطير بلحمه وقرب الحق تعالى من الإنسان قرب إحاطة لا قرب مسافة أي أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء من أمور عبيده.

(ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين):

هذا تنبيه على تعلق علمه تعالى بالخفيات والورقة قيل أي ورقة كانت في جميع أقطار الأرض وقيل المراد بها ورقة شجرة تشبه الرمان تحت ساق العرش فيها أوراق على عدد أرواح الخلائق مكتوب في كل ورقة اسم صاحبها وملك الموت ينظر إليها

(1/27)

فإذا اصفرت منها ورقة علم قرب أجل صاحبها فيوجه أعوانه فإذا سقطت قبض روحه.

وفي بعض طرق هذا الأثر أن سقوطها على ظهرها علامة على حسن العاقبة وسقوطها على بطنها علامة على سوء العاقبة، والعياذ بالله، والمراد هنا بالحبة أقل قليل عبر عنه بالحبة تقريبا للأفهام. والرطب واليابس قيل على ظاهرهما. وقيل الرطب قلب المؤمن واليابس قلب الكافر. وقيل الرطب المدائن واليابس البادية.

والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ أخبر تعالى عنه أنه فيه علم كل شيء تقريبا للأفهام فإن الشيء المكتوب لا ينسى فيما يعتاده الخلائق وإلا فعلمه تعالى متعلق بجميع المعلومات على التفصيل. قال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام قال: (علمها عند ربي في كتاب) [طه: 52]

ثم نفى ما يستحيل من ذلك من توقع نسيان وضلال فقال: (لا يضل ربي ولا ينسى) [طه: 52].

(على العرش استوى وعلى الملك احتوى):

وقال ابن عطية قالت فرقة هو بمعنى استولى وقال أبو المعالي وغيره هو بمعنى القهر والغلبة، وقال سفيان الثوري فعل فعلا في العرش سماه استوى. وقال الشعبي وغيره هذا من متشابه القرآن ولا يتعرض لمعناه. قال مالك بن أنس لرجل سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني. زاد غيره والإيمان به واجب فأدبر الرجل وهو يقول يا أبا عبدالله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما وفق أحد فيها توفيقك.

قال القاضي أبو الوليد بن رشد وقول من قال: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة. وقال غيره الاستواء هنا بمعنى الارتفاع وأبطل لكونه يشعر بالانتقال من سفل، ومعنى على الملك احتوى أي كل شيء هو مملوك لله تعالى في قهره وقبصته فيلزم من ذلك استغناؤه تعالى عن كل شيء الغنى المطلق إذ هو منتهى الحاجة وكل ما سواه فقد أحاطت به قدرته ونفذت فيه مشيئته.

(له الأسماء الحسنى والصفات العلي لم يزل بجميع صفاته وأسمائه تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة):

الأسماء جمع اسم وهو مأخوذ من السمو دليله الجمع والتصغير. وقالت المعتزلة

(1/28)

ومن السمة وهو باطل والحسنى أي المستحسنة والحسن ما حسنه الشرع فلا أثر للاشتقاق فلهذا يجوز عالم ولا يجوز عارف فأسماؤه تعالى توقيفية، فالاسم يطلق ويراد به المسمى ويطلق ويراد به التسمية. واختلف هل هو حقيقة في المسمى مجاز في التسمية أم لا على ثلاثة أقوال: فقيل بذلك فقال الجمهور، وقيل بالعكس قاله المعتزلة، وقيل: هو حقيقة فيهما قاله الأستاذ أبو منصور من أئمتنا ومما يدل على المراد أن الاسم يراد به المسمى قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى:1].

وقوله تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءابآؤكم) [يوسف: 40]

مما يدل على أن الاسم يراد به التسمية قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) [الأعراف:180]

وقوله صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعة وتسعين اسما) واستشكل بعض الشيوخ هذا الخلاف لأنه لو أخر الإنسان تسمية ولده شهرا مثلا فجسمه قبل التسمية موجود وإنما طرأ بعد ذلك قال وينبغي أن يحمل اختلافهم على مثل قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى:1]

و (فسبح باسم ربك العظيم) [الحاقة: 52]

هل المراد عظم هذا الاسم فلا ينطق به إلا بالتعظيم والتوقير أو عظم هذا المسمى بتنزيه الله تعالى عن الأضداد والأنداد والشركاء والأولاد والله تعالى أعلم.

وقال غيره سببه الخلاف بيننا وبينهم أنا نقول بإثبات الكلام القديم وهم يقولون بنفيه وكذلك سائر الصفات فلم يثبتوا لله تعالى اسما في أزليته ولا صفات وقد شهدت قضايا العقول ودلائل الشرع المنقول بوجوب اتصاف الخالق سبحانه بصفات، الكمال باستحالة النقص وكل ما ينافي الجلال ولهذا أكد المصنف رحمه الله هذا الفصل بقوله تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة أي أن صفاته تعالى يجب أن تكون قديمة لاستحالة قيام الحوادث به وكذلك أسماؤه لأنها ثابتة في الأزل بكلامه القديم.

(كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه وتجلى للجبل فصار دكا من جلاله):

قال بعض الشيوخ هذا الكلام يتضمن مسائل: الأولى: الكلام على الحقيقة كله لله عز وجل وإضافته لغيره مجاز لأنه إن كان

(1/29)

قديما فهو صفته وإن كان حادثا فهو فعله.

الثانية: الكلام في اللغة ينطلق على ما بين حقيقة ومجاز فيستعمل مجازا في اللفظ المهمل والكتابة والإشارة ودلالة الحال، ويستعمل عند النحاة في الجملة المفيدة فيكون حقيقة عرفية خاصة، ويستعمل في اللفظ الموضوع للمعنى وعلى المعنى القائم بالنفس فقيل حقيقة في المعنى القائم بالنفس وقيل بالعكس وهو مذهب المعتزلة لأنهم ينكرون كلام النفس فالكلام عندهم لا يكون حقيقة إلا في اللفظ.

الثالثة: اتفقوا على أن الله سبحانه متكلم واختلفوا في وجه كونه متكلما فأهل الحق يقولون هو متكلم بكلام قائم به ويعبرون عنه بكلام النفس، وحده بعضهم بأنه قول قائم بالنفس يعبرون عنه بالعبارات والاصطلاح عليه من العلامات، والمعتزلة يقولون حقيقة المتكلم فاعل الكلام وأنه سبحانه يتكلم بكلام يخلقه في جسم واحد.

الرابعة: الله سبحانه كلم موسى عليه السلام ويدل عليه قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما) [النساء: 164]

(ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) [الأعراف: 143]

وقوله: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) [الأعراف: 144]

قال بعضهم اجتمعت الأمة سنيها ومعتزلها على أن الله تعالى كلم موسى في الجملة من غير تفصيل وإنما اختلفوا في الكيفية.

فقال أهل الظاهر نؤمن بالكلام ولا نقول بالكيفية مصيرا منهم إلى أن ذلك من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى واختلف الباقون، فقالت الباطنية خلق الله تعالى لموسى فهما في قلبه وسمعا في أذنيه سمع به كلاما ليس بحرف ولا صوت، وقال بعضهم اتفق أهل الحق على أنه تعالى خلق في موسى إدراكا أدرك به كلامه من غير واسطة وبه اختص سماعه له والله تعالى قادر على مثل ذلك في خلقه وأن موسى علم سماعه كلام الله تعالى إما بوحي وإما بمعجزة نصبها له على ذلك، وخلق فيه علما ضروريا بذلك.

وقالت المعتزلة خلق الله لموسى فهما وصوتا في الشجرة سمعه موسى بإذنه بناء على مذهبهم في إنكار كلام النفس وأن المتكلم حقيقة فاعل الكلام ومذهبهم في ذلك باطل لأنه قد يعلم حقيقة المتكلم من لا يعلم كونه فاعلا ولأنه يلزم أن يكون كل أحد يسمع كلام الله لسماعه الكلام المخلوق لله تعالى فلا يكون بين موسى وغيره ولا بين

(1/30)

الأنبياء وغيرهم فرق ولا خصوصية ولأنه لو جاز أن يكون متكلما بكلام قائم بغيره لجاز أن يكون عالما بعلم قائم بغيره وقادرا بقدرة وإرادة قائمتين بغيره.

(وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد):

قال بعض الشيوخ: القرآن لغة الجمع ومنه قولهم قرأت الماء في الحوض إذا جمعته. وقيل ليس بمشتق من شيء وإنما هو توقيف ويطلق تارة ويراد به الكلام القديم ويطلق تارة ويراد به العبارة عنه التي هي قراءة الخلق ويطلق على المكتوب أيضا لشهرته في الكلام القديم فلا يفهم عند الإطلاق إلا هو، فلهذا امتنع إطلاق القول بالقرآن أنه مخلوق واختلف العلماء إذا كان مقيدا مثل أن يقول كلامي بالقرآن مخلوق أو نطقي به أو ما أشبه ذلك في الصيغ التي ينتفي معها الإيهام. فذهب الإمام أبو عبدالله البخاري وعبدالله بن سعيد الكلاعي إلى جواز ذلك وهو مذهب أكثر المتأخرين وذهب الإمام مالك فلم يسمع عنه في ذلك شيء.

قال بعضهم: والصحيح ما ذهب إليه الإمام البخاري ومن تابعه في ذلك لأن الحكم إذا علل بعلة فإنه ينتفي بانتفائها وأما امتناع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من ذلك حين امتحن على أن يقول بخلق القرآن فأبى فقيل له فقل لفظي بالقرآن مخلوق فقال ولا أقول ذلك، ولا يسمع من التلفظ بالخلق مع ذكر القرآن مع ما في ذكر اللفظ من معنى المج والطرح فاتقى رضي الله عنه أن يوهم المتبدعة على السامعين القول بخلق القرآن ويتوصلون بذلك إلى غرضهم فامتنع من كل إطلاق يؤدي إلى ذلك حسما للذريعة وصبرا على ما أوذي في الله عز وجل. ثم حدثت فرقة أخرى بعد وفاته رحمه الله وقالوا: إنما امتنع من ذلك لأنه يقول بقدم الحروف فاعتقدوا ذلك ونسبوه إليه وتسموا بالحنابلة وحاشاه منهم والله تعالى حسيبهم.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق"

(1/31)

وقال السيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمحضر الجمهور من الصحابة رضي الله عنهم أني ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن وسمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلا وهو يقول يا رب القرآن فنهاه عن ذلك وقال القرآن غير مربوب وإنما المربوب المخلوق فمن قال القرآن مخلوق يؤدب أشد الأدب.

وروي عن مالك أن رجلا سأله عمن يقول القرآن مخلوق فأمر بقتله وقال هو كافر بالله وقال لسائل وإنما حكيته عن غيري فقال له مالك إنما سمعناه منك قيل وهذا من مالك رحمه الله إنما هو على وجه الزجر والتغليظ بدليل أنه لم ينفذ قتله.

(والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره):

وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه قال بعض الأئمة أجمعوا على أن قدر الله هو عين إرادته لقول العرب قدر الله كذا أي أراده، وما ذكرناه عن بعض الأئمة نقله ابن سلامة، ونقل التادلي عن ناصر الدين عن بعضهم أن القدر غير الإرادة واختلفوا في قضائه فمنهم من رده إلى الإرادة ومنهم من رده إلى الفعل والخير المراد به الطاعة والشر المراد به المعصية والحلو لذة الطاعة والمر مشقة المعصية. وقيل الحلو والخير لفظان مترادفان وكذلك الشر مع المر والإيمان بالقدر واجب لا يصح الإيمان بدونه وقد تبرأ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ممن أنكر القدر وقال لا يتقبل الله منهم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا آخرهم أنا".

وقال: "القدرية مجوس هذه الأمة" والقدري هو مدعي القدر لنفسه وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لقدري: أتقدر بالله أم دون الله فإن قلت بالله فأنت مؤمن وإلا ضربت عنقك.

(علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به):

هذا راجع إلى ما تقدم وأن الأفعال مخلوقة لله عز وجل خلافا للقدرية المثبتين مع الله خالقين كثيرين تعالى الله عن قولهم وتقدس مع أنا لا نقول بالجبر المحض بل نثبت للإنسان الكسب التهيؤ الذي أثبته له الشرع وقد نطق به القرآن العزيز في آي كثير كقوله تعالى: (إن كنتم لا تعلمون) [النحل: 43]

(بما كنتم تكسبون) [يونس: 52]

ونحو ذلك ولأن كل واحد يفرق بين حركة المرتعش وغير المرتعش فإن

(1/33)

المرتعش لا اختيار له بخلاف غيره والله أعلم.

(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير):

قيل: ألا مركبة من همزة الاستفهام ولام النفي والاستفهام إذا أدخل على النفي أفاد التحقيق والمعنى ألا يعلم الخالق خلقه أيصدر مخلوق من غير أن يعلمه خالقه فمن في موضع رفع على الفاعلية والمفعول محذوف ولا يصح أن تكون في موضع نصب لأنه يلزم عليه الاعتزال، واللطيف: اسم من اسمائه الحسنى وهو إما يعني ملطف فيكون من أسماء الأفعال أو بمعنى الباطن وهو الذي لا يتصور في الأوهام ولا يتخيل في الضمائر والأفهام فيكون من أسماء الأفعال أو بمعنى التنزيه.

ويحتمل أن يكون بمعنى العليم أي أنه تعالى يعلم الخفيات يعلم السر وأخفى فيكون مبالغة في تعلق العلم فيكون من أسماء الصفات قاله بعضهم وأما الخبير فتقدم معناه.

(يضل من يشاء فيخذله بعدله ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد):

الهداية هي خلق القدر والمقدور موافقا لأمر الله تعالى والضلالة هي خلق القدرة والمقدور مخالفا لأمر الله تعالى وضابط هذا كله أنه لا خالق إلا الله سبحانه فكل مخلوق فعن قدرته حدث وعن إرادته تخصص والهدى والضلال مخلوقان من جنس الكائنات وقد صرح القرآن العزيز بهذا الإطلاق فقال: (يضل من يشاء) [النحل:93]

وغيرها وقال (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف: 17]

وقال: (ومن يهد الله فما له من مضل) [الزمر: 37]

وما ورد من قوله: (بما كنتم تعملون) [المائدة: 105]

بما كنتم تصنعون إلى غير ذلك من الآي التي فيها إضافة الفعل إلى العبيد فالمراد بذلك إضافة مجازية لما لهم من الكسب.

(تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غنى أو يكون خالق لشيء ألا هو رب العباد ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم):

ذكر أنه اجتمع عبد الجبار الهمداني يوما مع الأستاذ أبي الحسن الأشعري فقال عبدالجبار سبحان من تنزه عن الفحشاء ففهم عنه الأستاذ أنه يريد عن خلقها فهي

(1/34)

كلمة حق أريد بها باطل. فقال الأستاذ: سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء فالتفت عبد الجبار وعرف وفهم عنه فقال له: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال له الأستاذ: أفيعصى ربنا قهرا؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردي أحسن إلي أم أساء؟ فقال له الأستاذ إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن كان منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء فانصرف الحاضرون وهم يقولون والله ليس عن هذا جواب.

واختلف العلماء هل يجوز إطلاق القول بأن الله سبحانه أراد الكفر والمعصية أم لا فقال عبدالله بن سعيد القلانسي لا يجوز إطلاق ذلك وإن صح في الاعتقاد لأن الإطلاق يلزم فيه الأدب مع الله تعالى ولأن ذلك يوهم أن تكون المعصية حسنة مأمورا بها كما نقول الأفعال كلها الله تعالى ولا نقول الصاحبة لله تعالى.

وقال غيره يجوز ذلك وليس ما مثل به مطابقا لأن الإيهام في هذا المثال قوي والإيهام في الأول ضعيف وهو من باب لزوم الأدب فيمكن أن يمنع. قال ابن العربي قال شيخنا والصحيح جواز ذلك كله حيث لا إيهام ومنعه حيث الإيهام والرب هو المصلح للمربوب القائم بأموره الخالق لمنافعه الرافع عنه مضاره.

والبتاعث اسم من أسمائه ومعناه هنا الباعث الرسل بالأمر والنهي إلى المكلفين من عباده والأمر والنهي يرجعان إلى كلامه عز وجل فيكون الاسم على هذا من أسماء الصفات والرسول هو المبلغ عن الله عز وجل أمره ونهيه بإذن الله تعالى ووحيه.

وأشار بقوله لإقامة الحجة عليهم إلى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء: 165]

وإلى قوله (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) [المائدة: 19]

الآية. وقالت المعتزلة انبعاث الرسل عليهم السلام حكم واجب بالعقل بناء منهم على التحسين والتقبيح والصلاح والأصلح وهو باطل. وقالت البراهمة انبعاث الرسل محال ولا فائدة في ذلك والمعتزلة أفرطوا وتحكموا على العزيز وهو تعالى حليم لا يعجل والبراهمة فرطوا فجهلوا أمر ربهم.

(ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم فجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) الختم لغة الطبع والتغطية على الشيء بحيث لا يدخله شيء الخاتم الطابع وفيه أربع لغات خاتم بفتح التاء وكسرها وخاتام وخيتام واعلم أنه يلزم من ختم النبوة ختم الرسالة ولا ينعكس، ولذلك قال الشيخ ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة فلو قال النبوة في صدر كلامه لم يمكنه أن يقول بعدها والرسالة والنذارة

(1/35)

والنبوة ولهذا قال الله تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبين) [الأحزاب: 40]

قيل وإنما لم يقل والبشارة بعد قوله والنذارة لوجهين أحدهما أن النذارة تستلزم البشارة لأن من أنذرك بالعقوبة على فعل شيء فقد بشرك بالسلامة من ذلك مع الترك الثاني أن يكون مراعاة لقوله صلى الله عليه وسلم "ذهبت النبوة وبقيت البشارة" يريد الرؤيا والله أعلم.

قال القرافي: الرسالة أفضل من النبوة لأن الرسالة ثمرتها هداية الأمة والنبوة قاصرة على النبي صلى الله عليه وسلم فنسبتها إليه كنسبة العالم إلى العابد. وكان عز الدين يذهب إلى تفضيل النبوة لشرف المتعلق لأن المخاطب بها الأنبياء والمخاطب بالرسالة الأمة وهو ضعيف لأن الرسول مندرج في خطاب التبليغ وورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فالمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

قال أبو ذر رضي الله عنه قلت يا رسول الله من كان أولهم قال: "آدم عليه السلام" قلت: يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال: "نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه" ثم قال: "يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث وأخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم ونوح وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول الرسل آدم وآخرهم محمد" صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين والحديث طويل جدا خرجه أبو بكر الآجري في أربعينه.

واعلم أن البشارة خاصة بالطائعين كما أن النذارة خاصة بالعاصين والدعوة عامة لجميع المكلفين والبشارة خاصة أيضا للمؤمنين قال الفاكهاني: والمعتبر في البشارة الأول خاصة بخلاف النذارة فإنها معتبرة في الجميع قال الفقهاء فيمن قال من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر فبشره واحد بعد واحد لم يعتق غير الأول وفي النذارة يعتق جميعهم. قال وانظر إذا بشره جماعة دفعة واحدة هل يعتقون أم لا، والظاهر عتقهم والفرق بين البشارة والنذارة في هذا المعنى أن مقصود البشارة حصل بالأول بخلاف النذارة فإنه يتزايد الخوف بتزايد المنذرين.

وأما إذا بشره جماعة معا فبالكل وقعت البشارة قيل وإنما وقع الاختصاص بالتسمية بالسراج المنير دون الشمس والقمر لوجهين أحدهما أن الله تعالى شبهه به فيقتصر على ذلك. الثاني أن نور الشمس والقمر لا يؤخذ منهما نور وإذا غابا غاب نورهما ونور السراج تؤخذ منه الأنوار من غير تكلف ومن غير نقص منه وإذا ذهب نور الأصل بقي نور فرعه ونوره عليه السلام كذلك تؤخذ منه الأنوار من غير تكلف

(1/36)

ولا يذهب بذهابه عليه الصلاة والسلام.

قيل والأشياء المنتفع بها في الدنيا بالنسبة إلى الزيادة والنقصان عند الانتفاع بها ثلاثة أقسام؛ قسم إذا انتفع به زاد وهو العلم تعليما وعملا، وقسم إذا انتفع به نقص بل يذهب وهو المال؛ وقسم إذا انتفع به لا يزيد ولا ينقص وهو السراج ونحوه من الاقتباسات ولا يبعد أن يلحق بذلك النظر في المرآة والاستظلال بالجدران.

(وأنزل عليه كتابه وشرح به دينه القويم وهدى به الصراط المستقيم):

الكتاب هو القرآن، قال الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) [النساء:113]

ووصفه بالحكيم إما لأنه أحكمت آياته فلا يقع فيها نسخ بعد إحكامها أو لأنه أحكمت فيه علوم الأولين والآخرين أو لأنه أحكم على وجه لا يقع فيه اختلاف كما قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]

فحكيم على هذا بمعنى محكم قال الشيخ أبو اسحاق: القرآن ستة آلاف آية وستمائة وست وستون والمتحدى به منه ثلاث آيات فهو ألفا معجزة ومائتان ونيف وجعله الله تعالى معجزة باقية إلى قيام الساعة بخلاف غيره من المعجزات فإنها تنقضي بانقضاء وقتها تشريفا منه لسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ودليلا على مكانته وعلو منزلته ومعنى شرح وسع وأفهم والضمير في "به" يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يعود على الكتاب الحكيم والأول أظهر لأنه لو أراد الكتاب لقال فشح بالفاء.

والدين لفظ مشترك والمراد به هنا الإسلام قال الله عز وجل: "إن الدين عند الله الإسلام" [آل عمران:19]

والقويم المستقيم وهدى أي أرشد والضمير في به مثل الذي قبله والصراط المراد به هنا طريق الجنة.

قال الله عز وجل: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: 153]

قال القاضي أبو بكر بن الطيب رضي الله عنه الصراط صراطان حسي ومعنوي فالمعنوي في الدنيا والحسي في القيامة فمن مشى على المعنوي هنا وفق للحسي يوم القيامة.

(وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون):

مما يجب الإيمان به أن الساعة آتية لا ريب فيها بلا امتراء والساعة هي القيامة

(1/37)

سميت بذلك إما بالنسبة إلى كمال قدرته وجلاله كأنها ساعة وإما بالنسبة إلى تسمية الكل باسم البعض.

والريب هو الشك ومعنى لا ريب فيها وإن كان قد ارتيب فيها أي لا ريب فيها في علم الله تعالى وملائكته ورسله والمؤمنين أو ما حقها أن يرتاب فيها أو أنها ليست سببا للريب فيها ولا مظنة له لوضوح الدلالة عقلا ونقلا على إتيانها إلا أنه لا يعلم وقت إتيانها على الحقيقة إلا الله سبحانه لقوله: (إليه يرد علم الساعة) [فصلت: 47]

إلى غير ذلك لكن لها علامات وشروط ومن جملة ذلك بعثه صلى الله عليه وسلم وظهور أمته.

ومنها أشراط مؤكدة للقرب كالدجال والدخان وطلوع الشمس من المغرب ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. واختلف في السابق فقيل أولها فساد البلاد وقيل خراب مكة ونقل حجرها إلى البحر وقيل الدجال وقال ابن وهب وابن حبيب أولها الفتن ثم الدجال ثم نزول عيسى عليه السلام ثم يأجوج ومأجوج ثم طلوع الشمس من مغربها ثم كثرة الشر والأشرار ثم الدابة ثم الدخان ثم الريح ثم نار تسوق الناس إلى المحشر.

وفي مسلم أولها طلوع الشمس من المغرب ويغلق عند ذلك باب التوبة على المؤمن والكافر. قال الله تعالى: (يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) [الأنعام: 158]

ثم تقوم الساعة فينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم اختلف العلماء فمن قائل بعدم السموات والأرض والعرش والكرسي والجنة والنار، ثم يعيدها محتجا بقوله تعالى: "كل من عليها فان" [الرحمن: 26]

(كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص: 88]

وقوله (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا) [الأنبياء: 104]

ومن قائل العرش والكرسي والجنة والنار لا تهلك.

وقال ابن عباس مثله وزيادة القلم واللوح والأرواح قال بعض الشيوخ وأجمع أهل الحق على القول برد الجواهر بأعيانها وإنما اختلفوا في الأعراض، والجمهور على أنها تعاد بأعيانها واختلفوا هل كانت الجواهر عدمت ثم أعيدت يوم القيامة أو كانت متفرقة فجمعها الله تعالى. قال الإمام أبو المعالي رضي الله عنه لم يقم دليل قاطع على تعيين أحد هذين الجائزين والظواهر تقتضي الإعدام بالتفريق فإذا قلنا بالإعدام فترد بأعيانها.

قال الأستاذ أبو الحجاج الضرير رحمه الله تعالى في هذا المعنى:

(1/38)

ورده بعد صريح العدم = إلى الوجوه جائز في الحكم

فخالق الشيء كما ميزه = بالعلم أولا فلن يعجزه

كون الابتداء والإعادة = بالعلم والقدرة والإرادة

وأما إذا قلنا بالتفريق لا بالإعدام فتجتمع الجواهر وتخلق فيها الصفات بأعيانها كما كانت أول مرة وكل ما هو في مادة الإمكانن فالقدرة صالحة لإيقاعه.

(وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات):

أي ضاعف جزاء الحسنات والتضعيف الزيادة والتكثير. قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى والتضعيف خمس مراتب أولها الحسنة بعشر أمثالها قال الله تعالى: (ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160]

الثانية بخمس عشرة في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص "صم يومين ولك ما بقي من الشهر" فالحسنة بخمس عشرة الثالثة بثلاثين في الحديث نفسه "صم يوما ولك ما بقي من الشهر" فالحسنة بثلاثين الرابعة بخمسين في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال "من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف خمسون حسنة لا أقول ألم حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف".

الخامسة بسبعمائة قال الله عز وجل (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبة مائة حبة) [البقرة: 261]

فهذه خمس مراتب التضعيف فيها مقدر ومرتبة سادسة غير مقدرة وهو أجر الصابرين. قال الله تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10]

وذكر غيره قولا ثانيا أن أجره مقدر قال وليس المراد بالحسنة أجر العبادة فإن الصلاة مثلا مشتملة على أنواع من العبادات كالقراءة والتسبيح والخشوع وغير ذلك. وإنما المراد الصلاة بكمالها هي حسنة فمن أتى ببعض صلاة لم يدخل في هذا أيضا إجماعا فإن صلاها فذا فتضاعف له عشرا بالوعد الأصلي فإن صلاها في جماعة فبمائتين وخمسين فإن كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبمائتي ألف وخمسين ألف والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

(1/39)

ويظهر أثر هذا التضعيف مع الموازنة، الصفح هو التجاوز والعفو والنظر في التوبة في عشر مسائل:

الأولى: في حقيقتها قال الإمام أبو المعالي رضي الله عنه حقيقتها الندم على المعصية لرعاية حق الله تعالى. وقال بعضهم حقيقتها نفرة النفس عن المعصية بحيث يحصل منه الندم على المعاصي والعزم على ترك في الاستقبال والإقلاع في الحال فيرد المظالم ويتحلل من الأعراض ويسلم نفسه للقصاص إن أمكن ذلك قال ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "الندم توبة" أي معظمها الندم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة".

الثانية: إذا وقعت التوبة بشرائطها مكملة فهل يقطع بها أم لا فذهب الإمام أبو بكر الباقلاني إلى أنه لا يقطع بها وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أنه يقطع بها والإجماع على قبولها قطعا من الكافر لوجود النص المتواتر قال الله تبارك وتعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38]

بخلاف الآثار والأحاديث الواردة بالعموم فإنها تتناول المغفرة تناولا ظاهرا وليست بنص في المسلم إذا تاب كقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر: 53]

الآية.

وما ورد من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (والتوبة تجب ما قبلها) فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بتوبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه وهذا والذي قبله ذكره القاضي لما قيل له إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن وقد ذكر الشيخ القاضي ابن عطية أن جمهور أهل السنة على قول القاضي أبي بكر قال: والدليل على ذلك دعاء كل واحد من التائبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعا بها لما كان معنى للدعاء في قبولها ذكره في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) [التحريم: 8]

ويرد استدلاله بأن ذلك منه على طريق الإشفاق منهم.

الثالثة: هل يجب عليه تجديد الندم إذا ذكر الذنب أم لا في ذلك قولان للقاضي وإمام الحرمين والخلاف في هذه المسألة يشبه ما تقدم والله أعلم.

(1/40)

الرابعة: إذا تاب ثم عاود الذنب فذهب القاضي إلى أنها منقوضة لأن من شرطها الندم ولا يتحقق إلا بالاستمرار واختاره ابن العربي وذهب إمام الحرمين إلى أنها ماضية وهذه معصية أخرى واختاره المتأخرين ولم يذكر ابن عطية غيره مستدلا بأنها كسائر ما يحصل من العبادات إذ هي عبادة.

الخامسة: هل توبة الكافر نفس إيمانه أو لا بد من الندم على الكفر؟ فأوجبه الإمام وقال غيره بل يكفيه إيمانه لأن كفره ممحق بإيمانه وإقلاعه عنه قال الله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38]

السادسة: إذا لم يرد المظالم إلى أهله مع الإمكان من ذلك فصحح الإمام توبته وهو مذهب الاجمهور وقيل إنها لا تصح.

السابعة: زمانها ما لم يغرغر قال الله تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) [النساء: 18]

وما لم تطلع الشمس من مغربها قال الله تعالى: (يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) [الأنعام: 158]

قال العلماء المراد بها طلوع الشمس من مغربها.

الثامنة: مذهب أهل السنة تصح التوبة من بعض الذنوب دون بعض.

التاسعة: قال صاحب الحلل وغيره اختلف في توبة القاتل عمدا فقيل لا توبة له لقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) [النساء: 93]

الآية وهذا مذهب مالك لأنه قال لا تجوز إمامته قال وليكثر من شرب الماء البارد وقيل تقبل لقوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر) [الفرقان: 68]

الآية.

العاشرة: اختلف هذ يشترط في توبة القاذف تكذيب نفسه أم لا؟ فقال مالك لا يشترط وقال الباجي وغيره يشترط لأنا قضينا بكذبه في الظاهر.

(وغفر الصغائر باجتناب الكبائر):

قال بعضهم في الذنوب كبيرة لا أكبر منها كالشرك وصغيرة لا أصغر منها كحديث النفس وبينها وسائط كل واحدة منها بالإضافة إلى ما فوقها صغيرة وبالإضافة إلى ما دونها كبيرة ومعنى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) [النساء: 31]

الآية أن من عرض له أمران فيهما مأثم واضطر الى ارتكاب أحدهما فارتكب أصغرهما

(1/41)

وترك الآخر كمن أكره على قتل مسلم أو شرب قدح من خمر فارتكب أصغرهما كفر عنه ما ارتكب واعترض الفاكهاني تمثيله الأول وهو قوله كالشرك والأولى أن يقول وهي الشرك إذ الشرك كبيرة لا مثل لها فلا يحسن التشبيه به قال وكذلك تمثيله مسألة الإكراه فيه نظر لأنه مع الإكراه غير آثم قال عياض في الإكمال وقد اختلفت الآثار وأقوال السلف والعلماء في عدد الكبائر فقال ابن عباس كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وسئل أهي سبع فقال هي إلى السبعين أقرب. وروي إلى سبعمائة أقرب. وقال أيضا الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو يغضب أو لعنة أو عذاب ونحوه عن الحسن وقيل هي ما أوعد الله عليه بنار أو حد في الدنيا وعدوا الإصرار على الصغائر من الكبائر فروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. واختلف في حقيقة الإصرار فقال بعضهم هو التكرار على الذنب كأن يعزم على العودة أم لا، وقال بعضهم إن تكريره من غير عزم لا يكون إصرارا وكلاهما نقله القرافي.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه وجماعة من العلماء: الكبيرة جميع ما نهى الله عنه في أول سورة النساء إلى قوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) [النساء: 31]

وقال غيره هي في قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) هي الكفر والشرك (نكفر عنكم سيئاتكم) [النساء: 31]

أي ما سواهما وإنما عبر الشيخ عن ترك المؤاخذة بالكبائر بالصفح وعن ترك المؤاخذة بالصغائر بالغفران لما فيه من عظيم الامتنان وسعة الجود والإحسان لأن محو الكبيرة أبلغ في الدلالة على الكرم من سترها ومغفرتها.

واختلف في مغفرة الصغائر باجتناب الكبائر هل ذلك مقطوع به أو مظنون وكلاهما نقله الفاكهاني ونقله ابن سلامة معبرا عنه بقوله نقله بعض شراح هذه العقيدة واعترضه بقوله لم يعز هذا النقل لأحد من أئمة الدين وليس كل ما يوجد منقولا في الأوراق يعتد به حتى يعزي الإمام من أئمة الدين فحينئذ ينظر فيه إما بإبقائه على ظاهره وإما بتأويله والله الهادي إلى سواء السبيل.

قلت: ويرد بقول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية اختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من المحدثين والفقهاء يرون أن من اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعا بظاهر الآية وظاهر الحديث.

(1/42)

وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة ولو قطعنا بتكفير صغائره لكانت لهم في حكم المباح الذي لا تباعة فيه وذلك نقض لعزائم الشريعة.

(وجعل من لم يتب من الكبائر صائرا إلى مشيئته: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48]).

أجمع أهل الحق على جواز المغفرة لعصاة الموحدين وأنه جائز واقع أما قبل دخول النار فالجواز ثابت بالنسبة إلى آحاد الأشخاص لا إلى جميعهم لانعقاد إجماع أهل السنة أنه لابد أن تدخل طائفة من الموحدين النار وأما بعد دخول النار وأخذها منهم فالعفو عنهم واقع ويخرجون بالشفاعة.

وقالت المرجئة هم في الجنة يإيمانهم ولا تضرهم سيئاتهم وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مختصة بالكفار وآيات الوعد كلها عامة بالمؤمنين تقيهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة إذا كان المذنب صاحب كبيرة فهو في النار مخلد ولا بد.

وقالت الخوارج إذا كان صاحب صغيرة أو كبيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له لأنهم يرون أن الذنوب كلها كبائر وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مختصة بالمؤمن المحسن الذي لم يعص قط والمؤمن التائب وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين.

(ومن عاقبه بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) [الزلزلة:7]).

قيل إن النار بجملتها سبع أطباق فأعلاها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم وفيها أبو جهل ثم الهاوية وإن في كل طبقة منها بابا فالأبواب على هذا بعضها فوق بعض ذكره ابن عطية. وإنما خصص الشيخ العقاب بالنار وإن كان العقاب يكون بغيرها أيضا لأن العقاب بها هو المعظم كقوله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" ولأن النار مشتملة على أنواع العذاب إن كان المراد بالنار الدار نفسها لا نفس النار والباء في قوله بناره يحتمل أن تكون سببية ويحتمل أن تكون للتعدية ورجحه الفاكهاني وأبعد الاحتمالات

(1/43)

أن تكون للاستعانة إذ هي على الله تعالى محال إذ هو المعين للكل والمستغني عنهم.

وقد تقدم قول من قال من دخل النار فلا يخرج منها، واختلف في الذرة فقيل النملة الصغيرة الحمراء وقيل البيضاء وقيل ما يرى من الهباء في شعاع الشمس وقيل غير ذلك. قال الفاكهاني: ولا أعلم للأقوال هنا مستندا ومعنى يره أي جزاءه في الآخرة.

وقال ابن لبابة في خطبه الحمد لله الذي وعد وفا وإذا توعد تجاوز وعفا.

قال عز الدين كلامه يوهم الفرق بين وعد الله تعالى ووعيده وهو لا يجوز على الله تعالى فإن الوعد والوعيد خبران فإذا أخبر الله تعالى عن ثواب أحد أو عقابه ولم يعذبه أو يثبه كان كذبا والله متعال عن ذلك.

وقال عز الدين أيضا في مختصر الرعاية: الخلائق على ثلاثة أقسام؛ قسم ركب فيه العقل دون الشهوات والملل والكراهة وهم الملائكة فلا ثواب لهم لعدم مجاهدتهم أنفسهم، وقسم ركب فيه الشهوات فقد دون العقل وهم البهائم فلا يعاقبون ولا يثابون، وقسم ركب فيه العقل والشهوة كبني آدم فكلفوا لأجل عقولهم وأثيبوا لأجل طاعتهم ومخالفة أهوائهم وعوقبوا على معاصيهم وحسنات الكفار يخفف عنهم بسببها العذاب.

فقد ورد أن حتما يخفف عنه لكرمه ومعروفه وورد ذلك في حق غيره كأبي طالب هكذا قال بعض من شرحها والحق أن التخفيف عن أبي طالب إنما هو بالشفاعة قال عياض في الإكمال وأما الكافر فإنه يكافأ على حسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجازي بها وذهب بعض الناس إلى أنه يخفف عنه من العذاب بقدرها.

(ويخرج منها بشفاعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته):

أجمع السلف والخلف من أهل السنة والحق على قبول الشفاعة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن سائر الرسل والملائكة والمؤمنين مطلقا وأجلها وأعظمها شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لأنها أعظم الشفاعات وأتمها، وأنكرها بعض المعتزلة، قال بعض أئمتنا وحقيق لمن أنكرها أن لا ينالها وتمسك بظاهر قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر: 48]

قوله تعالى: (فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم) [الشعراء: 100، 101]

قيل لهم هذا المراد به الكافرون ولهذا قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28]

فإن قالوا الفاسق ليس بمرتضى قلنا لهم مرتضى على توحيده وإيمانه

(1/44)

وطاعته والشفاعة على ستة أقسام الأولى لأهل الموقف وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والثانية شفاعة لقوم يدخلون الجنة بغير حساب وهي خاصة به أيضا، والثالثة الشفاعة في قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شاء الله من خواص عباده، والرابعة الشفاعة فمن دخل النار من المؤمنين فقد جاء في مجموع الاحاديث إخراجهم من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم وبشفاعة غيره من النبيين والملائكة والمؤمنين، والخامسة الشفاعة في زيادة الدرجات، والسادسة شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب.

قال بعض التونسيين وفي تسمية هذه السادسة شفاعة نظر قلت لا نظر فيها لأنه نقله من غمرات العذاب إلى ضحضاح كما قال في الحديث.

قال الفاكهاني: ولا تنافي في قول المصنف أخرجه منها بإيمانه مع كونه يخرج بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان سبب للشفاعة لتوقفها عليه وسبب السبب سبب ولأن الشيء يضاف إلى الكل تارة وإلى البعض أخرى فيضاف الإخراج تارة إلى مجموع الإيمان والشفاعة وتارة إلى أحدهما.

(وإن الله تعالى قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه):

(1/45)

ما ذكره الشيخ من أن الجنة قد خلقت هو مذهب أهل السنة لقوله تعالى: (أعدت للمتقين) [آل عمران: 133]

ولقوله (ولقد رءاه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى) [النجم: 13 - 15]. ولقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "عرضت علي الجنة فتناول منها عنقودا" الحديث وفيهما: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة" واتفق سلف الأمة ومن تبعهم من الخلف على إجراء هذه الآي على ظاهرها من غير تأويل لها. وأجمعوا على أن تأويلها من غير ضرورة إلحاد في الدين.

وقالت المعتزلة بتأويل هذه الآية والأحاديث وزعموا أنه لا فائدة في خلقها وجعلوا ذلك موجبا لتأويلها وقال إمام الحرمين وهذا انسلاخ عن إجماع المؤمنين وأفعال الله تعالى لا تحمل على الأغراض وهو تعالى يفعل ما يشاء. قال بعضهم ويقال لهم لم قلتم إنه لا فائدة في خلقها بل له فوائد منها الحث بها والحض والترغيب في الطاعات الموصلة إليها، ومنها أن أرواح السعداء تتنعم بها في البرزخ وأرواح الشهداء ترزق منها إلى غير ذلك فإن عارضونا بقوله تعالى: (كل شيء هلك إلا وجهه) [القصص: 88]

فلو خلقت لهلكت لكنها لم تخلق فلم تهلك.

قيل لهم ذلك عموم مخصوص والجنة أحد المستثنيات التي خصها الدليل قال الله: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله) [الزمر: 68]

قال ابن عباس الموجودات المحدثة التي لا تفنى سبعة: اللوح والقلم والعرش والكرسي والجنة والنار والأرواح ومن هذه السبعة ما وافقت على بقائه المعتزلة كالعرش والكرسي واللوح والأرواح وما ذكره من النظر إلى وجه الله الكريم فقد أجمع عليه السلف ومن تبعهم من الخلف وذهب المعتزلة ومن تبعهم إلى استحالة رؤية الله ثم اختلفوا في رؤية نفسه فأحال ذلك بعضهم بناء منهم على أن الرؤية إنما تكون بالحاسة وبنية مخصوصة واتصال الأشعة بالمرئ ومنهم من جوز رؤيته لنفسه ورؤيته تلك بغير حاسة ولا إدراك.

وقد أجمع السلف ومن تبعهم على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الآخرة في دار السلام. وأما رؤيته تعالى في عرصات القيامة ففي السنة ما يقتضي وقوعها للمؤمنين وجوزها بعض المتأخرين للكافرين في العرصات وذلك باطل لقوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [المطففين: 15]

وتمسك بظاهر قوله تعالى:

(1/46)

(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) [الأنعام: 30]

وأجيب بأن المراد بين يدي ربهم للحساب والتوبيخ وكذلك لا حجة لهم في قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) [الملك: 27]

والاحتمال عود الضمير على النبي صلى الله عليه وسلم أو على الحشر أو غير ذلك.

والمراد بالوجه الذات عند الجمهور وذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن الوجه صفة لله تعالى معلومة من الشرع يجب الإيمان بها مع نفي الجارحة المستحيلة وكل ما ينافي الجلال فهو مستحيل، وما ذكر الشيخ من أنها الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام فهو مذهب أهل السنة خلافا لمن زعم أن التي أهبط منها آدم جنة في الأرض بأرض عدن وليست بالجنة التي أعدها الله عز وجل لأوليائه وأنبيائه في الآخرة محتجا على ذلك بأنه تعالى وصف الجنة بالخلد والقرار والإقامة والسلام والجزاء ولا حزن فيها ولا نصب ولا لغو ولا تأثيم ولا كذب ولا حسد ومن دخلها لم يخرج منها لقوله تعالى: (وما هم منها بمخرجين) [الحجر: 48]

وهذه الصفات منتفية عن جنة آدم عليه السلام لأنه أخرج منها وكذب فيها إبليس لعنه الله وأثم وتكبر وحسد وإلى هذا القول ذهب منذر بن سعيد البلوطي حكاه ابن عطية وهي نكتة اعتزالية.

قال بعضهم كان قد رحل إلى المشرق وخالط بعض المعتزلة فدس له ذلك وهو مسبوق بالإجماع ومحجوج به وأيضا فإن صفات الجنة ليست ذاتية لها وإنما هي بفعل الله فجاز وصفها بذلك في وقت دون وقت ويكون وصفها بذلك موقوفا على شرط فلا توصف بها قبل الشرط.

وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته):

وخلق النار فأعدها إلخ هذا خلاف للمعتزلة في خلق النار كقول في خلق الجنة وتقدم الكلام على الرؤية ولو أخرها إلى هنا لكان أولى.

(وإن الله تبارك وتعالى يجئ يوم القيامة والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابها):

معنى تبارك تنزه وتزايد خيره وكثر ومعنى تعالى تعاظم عن صفات المخلوقين وإسناد المجئ إلى الله تعالى المراد به التمثيل لظهور آيات قهره وسلطانه وقيل التقدير

(1/47)

جاء أمره وسلطانه وهو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ومنه حديث النزول ينزل ربنا أي أمره ونهيه على ما تقرر عند أهل السنة فمن تأول فقال: إنه تعالى فعل فعلا سماه مجيئا فكأنه قال وجارء فعل ربك وهذا كالأول ومعنى صفا صفا ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس ونب صفا على الحال وقد وهم بعض النحاة حيث جعله من باب التوكيد اللفظي.

وأشار بعض الشيوخ إلى أن الشيخ اشتمل كلامه على الحقيقة والمجاز لأن مجئ الله سبحانه مغاير لمجئ الملائكة في الحقيقة والبحث فيه كالبحث في قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) [الأحزاب: 56]

والعرض قيل الحساب اليسير وفي الحديث: "أتظنون أنه حساب إنما هو عرض ومن نوقش الحساب عذب" والمحاسبة لأهل اليسار وقد قال تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا) [الانشقاق: 7، 8].

وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرصات فأما العرصتان فاعتذر واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها نشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بمينيه والهالك بشماله. قال الفاكهاني: انظر هل تعرض الأمم كلها مؤمنهم وكافرهم حتى السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب حسبما جاء في الحديث الصحيح حتى أبو لهب وأبو جهل وغيرهما من المشركين والمنافقين أو لا يعرض إلا من يحاسب هذا لم أر فيه نقلا، فمن وجده فليضفه إلى هذا الموضع راجيا ثواب الله الجزيل وبالله التوفيق.

(وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون):

أجمع أهل الحق على وجود ميزان حسي له كفتان ولسان فتوزن فيه صحائف أعمال العباد ليظهر الرابح والخاسر، واختلف هل هو ميزان واحد أو لكل أمة ميزان أو لكل أحد ميزان على ثلاثة أقوال، والصحيح أنه واحد وحمل قوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه) [المؤمنون: 102]

على الموزونات أو على أنه أتى بلفظ الجمع تعظيما لشأنه وتفخيما لأمره وتحذيرا من اكتساب السيئات وتحريضا على اكتساب الطاعات ولو لم يسمع من القرآن إلا هذه الآية لكان للعاقل فيها كفاية لاشتمالها على الوعيد التام لأهل الذنوب والوعد الجميل لأهل الطاعات.

وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا المراد به معادلة الأعمال بالحق فهو وزن معنوي

(1/48)

لتعذر وزن الأعمال حقيقة، قيل لهم توزن صحائف الأعمال فإن قالوا هذا مجاز وليس مجازكم بأولى من مجازنا قيل لهم هذا أولى لأنه استعمال الحقيقة وضم مجاز إليها وما ذكرتموه ترك للحقيقة فكان قولنا أولى، ويؤيد ذلك أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "توزن صحائف الأعمال" والحمل على ما نص عليه السلام أولى من الحمل على غيره.

وقد أجمع السلف الصالح على ذلك وليست المسألة عقلية إنما مأخذها الخبر فالرجوع في ذلك إليه. واختلف هل توزن للكافر أعمال أم لا والأكثر على ذلك لقوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) [المؤمنون: 102، 103]

فهذا الوزن يعم أهل الإيمان والكفران. وقال بعضهم الكافر لا يوزن له لقوله تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) [الكهف: 105]

وجوابه لا نقيم لهم وزنا نافعا جمعا بين الآيتين.

واعلم أنه إذا وقع الوزن فيما بين العباد من المظالم والحقوق ونفدت حسنات الظالم من قبل أن يفرغ ما عليه فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم، نص على ذلك في مسلم ولا معارضة بين هذا وبين قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164]

فإن المراد بالآية شخصان لا حق لواحد منهما عند الآخر وأما ها فبذنبه أخذ وبكسبه عوقب. ومعنى ذلك إذا مات وهو قادر على القضاء وأما إذا مات وهو عاجز عنه فإنه لا يطرح عليه من سيئاته شيء نص على ذلك الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، فإن لم يكن للمظلوم سيئة كالأنبياء عليهم السلام ولا للظالم حسنة كالكافر فإنه يعطي المظلوم من الثواب بقدر ما يستحقه على الظالم ويزاد في عقوبة الظالم بقدر ما كان يأخذ من المظلوم أن لو كان ثم ما يأخذ.

واختلف العلماء إذا كان المظلوم ذميا والظالم مسلما فقال بعضهم يسقط حقه كالحربي وقال آخرون صار حقا للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميا كنت خصيمه يوم القيامة".

(ويؤتون صحائفهم بأعمالهم فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيرا):

(1/49)

قال الفاكهاني رحمه الله: انظر على من يعود الضمير من يؤتون هل هو راجع لكل الأمم فلا يدخل الإنسان أحد الدارين حتى يؤتى صحيفته أو يكون ذلك في بعض الناس دون بعض، لأنه قد جاء أن قوما يقومون من قبورهم إلى قصورهم والصحف هي الكتب التي كتبت الملائكة فيها أعمالهم عند الأكثر.

وفي الخبر عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الكتب كلها تحت العرش فإذا كان في الموقف بعث الله عز وجل ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها (اقرأ كتباك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) [الإسراء: 14]

، وقيل هي صحف يكبتها العبد في قبره كان في الدنيا كاتبا أو لم يكن ذكره الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة له، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت في قبره؟ فقال "يا ابن عباس لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما ينادي به ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول له يا عبد الله اكتب عملك فيقول ليس معي قرطاس ولا دواة ولا قلم فيقول له هيهات هيهات فكفنك قرطاسك ومدادك ريقك وقلمك اصعبك فيقطع له قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا ويتذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد ثم يطوي ذلك الملك تلك الرقعة ويعلقها في عنقه" ثم تلا صلى الله عليه وسلم (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه) [الإسراء: 13]

أي عمله الحديث بطوله.

واعلم أن المؤمن الطائع يأخذ كتابه بيمينه بإجماع وأما العاصي فالأكثر على أنه يأخذه بيمينه ووقف بعضهم في ذلك وقال الله أعلم. وقال الأستاذ أبو الحجاج الضرير في هذا المعنى.

والمذنب الفاسق ذو الإيمان = من آخذي الكتاب بالأيمان

وقيل إن حكمه موقوف = ولم يرد في أمره توقيف

وأما الكافر فقيل تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله خلف ظهره فيأخذ بها كتابه جزاء على نبذه كتاب الله وراء ظهره وقيل تغل يداه وراء ظهره وقيل بل يثقب صدره فتدخل شماله منها فيأخذ بها كتابه من وراء ظهره والعياذ بالله من سخطه.

(1/50)

(وأن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليهم من نار جهنم وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم):

الإيمان بالصراط واجب عند أهل السنة وهو جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف يرده الأولون والآخرون كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام شهاب الدين القرافي في كتاب الانتقاد في الاعتقاد: لم يصح في الصراط أنه أرق من الشعر وأحد من السيف شيء والصحيح أنه عريض وفيه طريقان يمني ويسرى، فأهل السعادة يسلك يهم ذات اليمين وأهل الشقاوة يسلك بهم ذات الشمال، وفيه طاقات كل طاقة تنفذ إلى طبقة من طبقات جهنم وجهنم بين الخلائق وبين الجنة والجسر على متنها منصوب فلا يدخل أحد الجنة حتى يعبر على جهنم وهو معنى قوله عز وجل على أحد الأقوال (وإن منكم إلا واردها) [مريم: 71]

قلت في قوله لم يصح في الصراط أنه أرق من الشعر وأحد من السيف شيء نظر ففي مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه أرق من الشعر وأحد من السيف، ووجه النظر يظهر بما ذكره الإمام الغزالي قال ما نصه: وأما الصراط فهو جسر يضرب على ظهراني جهنم يمر عليه جميع الناس وقد وردت به الأحاديث الصحيحة واستفاضت وهو محمول على ظاهره وفي رواية أنه أرق من الشعر وأحد من السيف.

وقال البيهقي لم أجده في الرواية الصحيحة وإنما يروي عن بعض الصحابة وأشار بذلك إلى ما في مسلم عن أبي سعيد الخدري: بلغني أنه أرق من الشعر وأحد من السيف. قال بعضهم ولو ثبت ذلك لوجب تأويله لتوافق الحديث الآخر في قيام الملائكة على جنبيه وكون الكلاليب والحسك فيه وإعطاء المار فيه من النور قدر موضع قدميه وما هو في دقة الشعر لا يحتمل ذلك فيمكن تأويله بأن مراده أرق من الشعر بأن ذلك يضرب مثلا للخفي الغامض، ووجه غموضه أن يسر الجواز عليه وعسره على قدر الطاعة والمعاصي، وأما تمثيله بحد السيف فلإسراع الملائكة فيه إلى امتثال أمر الله تعالى في إجازة الناس عليه.

واختلف المعتزلة في اثبات الصراط ونفيه وأكثرهم على نفيه وأجازه الجبائي مرة ونفاه أخرى، ومنهم من قال العقل يجوزه ولا يقطع به ومن نفاه تأول ما ورد من الصراط أن المراد به المعنوي لأنه لا يمكن المشي على صفة ما ذكر وهذا من جهلهم أمر ربهم ووقوفهم على معتادهم. وقل سئل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟

(1/51)

قال "إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه" وقال الشيخ أبو الحجاج الضرير رحمه الله في هذا المعنى:

والرب لا يعجزه أمشاؤهم = عليه إذا لم يعيه إنشاؤهم

تبا لقوم ألحدوا في أمره= ما قدروا الإله حق قدره

(والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه ويذاد عنه من بدل وغير):

قد خرج أحاديث الحوض أهل الصحة البخاري ومسلم وغيرهما وأجمع عليه السلف الصالح وأطبقوا على الابتهال إلى الله تعالى أن يسقيهم منه، أسأل الله البر الرحيم أن يسقينا منه ويجعلنا من الواردين عليه بفضله ورحمته. وذكر الشيخ أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله سبحانه أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء أحد من أمتي أن يسمع خريره إلا سمعه" قلت وكيف يا رسول الله قال: "أدخلي إصبعيك في أذنيك وشدي" قالت ففعلت قال "هذا الذي تسمعين هو خرير الكوثر وجريه".

واختلف هل لكل نبي حوض أم هو حوض خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ واحتج من قال بالعموم بما خرجه أبو عيسى الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حوضا وإنهم يتبهون أيهم أكثر واردا وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردا" قال أبو عيسى هذا الحديث حسن غريب والله أعلم بصحته.

اختلف أيضا هل هو قبل الصراط أو بعده؟ واستدل كل واحد من الفريقين بظواهر لا تفيد قطعا، وتوقف القاضي أبو الوليد الباجي في ذلك وقال لا أدري، وقال غيره لم يرد في ذلك خبر ولا له فائدة في النظر. قال الفاكهاني: والقصد بذلك مجرد الإيمان به على ما وردت به الأخبار ولا اعتبار بترتيبها والله أعلم.

(وإن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون فيها النقص وبها الزيادة):

قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي الفقيه الأديب الشافعي

(1/52)

المحقق رحمه الله تعالى في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما ابن مزين فقال: الإسلام الكلمة والإيمان العمل واحتج بالآية أعني قوله تعالى: (قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) [الحجرات: 14]

الآية. وذهب غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد واحتج بقوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) [الذاريات: 35، 36]. قال الخطابي وقد تكلم في هذا الباب رجلان من أكابر أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين القولين، ورد الآخر منهما على المتقدم وصنف فيه كتابا يبلغ عدد أوراقه المائتين، قال الخطابي رحمه الله والصحيح في ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق وذلك أن مسلم قد يكون مؤمنا مسلما في بعض الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، فإذا حملت الأمر على هذا استقام لك معنى الآية واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منه وأصل الإيمان التصديق.

وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن وقد يكون المرء صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر.

وما ذكر الشيخ من أن الإيمان يطلق على عمل الجوارح صحيح، دليله قوله تعالى:" وما كان الله ليضيع إيمانكم) [البقرة: 143]

أجمعوا على أن المراد به صلاتكم، وما ذكر أن يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال هو مذهب السلف رضي الله عنهم والمحدثين وجماعة المتكلمين. وروي عن مالك وقيل عكسه. قال جماعة من المتكلمين لأنه متى قبل الزيادة والنقصان، كان شكا وكفرا وقيل يزيد لا ينقص مراعاة للإطلاق الشرعي في ذلك وهو قوله تعالى: (فزادهم إيمانا) [آل عمران: 173]

ولم يرد نقصهم في الشرع وهو قول مالك أيضا، وظاهر كلام بعضهم أنه المشهور عنه وأراد الأولون كما صرحوا به أن المراد بالزيادة والنقصان باعتبار زيادة ثمرات الإيمان وهي الأعمال ونقصانها لا نفس التصديق وهذا إذا تأملت تجده في المعنى موافقا لعكسه والله أعلم.

قال بعضهم إن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النفر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بخلاف غيرهم كالمؤلفة قلوبهم ومن قاربهم وهذا مما لم يمكن إنكاره ولا يشك أحد في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس.

(1/53)

ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة إني أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام، واعلم أن قول الشيخ باللسان وبالقلب تأكيد أن القول لا يكون إلا باللسان والإخلاص لا يكون إلا بالقلب ونظيره قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم) [الأنعام: 38]

، وقوله تعالى: (يقولون بألسنتهم من ليس في قلوبهم) [الفتح: 11]

وأما قوله وعمل بالجوارح فتأسيس، لأن العمل قد يكون بالقلب يقال عمل قلبي وعمل بدني وقد يكون بهما معا كالوضوء والصلاة وغير ذلك من العبادات البدنية المفتقرة إلى النية، وخصص بعض المتأخرين من أهل الخلاف الأعمال بما لا يكون قولا وأخرج القول من ذلك وأبعده بعض الشيوخ. قال النووي في شرح البخاري: اختلف السلف رضي الله عنهم هل يجوز أن يقال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى أم لا؟ فذهبت طائفة إلى تقييده بالمشيئة وحكي عن أكثر المتكلمين وذهبت طائفة أخرى إلى الإطلاق من غير تقييد، وذهب الأوزاعي إلى التخيير.

وفيها قول رابع بالفرق بين الحال والمآل فيجوز التقييد في الحال فإن المؤمن مشفق من التقصير لا أنه شاك في الحق. وقال عياض في مداركه قد فشا اختلاف بعد الثلاثمائة هل يقال أنا مؤمن عند الله أم لا؟ وجرى بين ابن التبان وابن أبي زيد والمسيسي وأبدى ان أبي ميسرة وغيرهم في ذلك وجوها ومطالبات، والصحيح ما ذهب إليه ابن أبي زيد أنه إن كانت سريرته مثل علانيته فهو مؤمن عند الله تعالى.

وأما ابن التبان وغيره فأطلق القول بأنا مؤمن. قال النووي: للشافعية خلاف كبير في الكافر هل يقال هو كافر إن شاء الله أم لا؟ فمنهم من قال بالإطلاق من غير تقييد ومنهم من قال كالمسلم.

(ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة):

هذا كالتصريح بأن التصديق من غير قول لا يكون إيمانا وهو كذلك عند الجمهور خلافا للقاضي أبي بكر بن الطيب، وقد تقدم ذلك. وقول الشيخ بنية من قوله ولا قول ولا عمل إلا بنية أي خالصة لله تعالى، والإجماع على أن الإخلاص في العبادات فرض والإخلاص هو إفراد المعبود بالعبادة وقيل تصفية العمل وقيل هو سر جعله الله في قلب من أحب من عباده وقيل هو سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه

(1/54)

ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده.

وقيل الإخلاص هو ما استوى فيه السر والعلانية فهذا هو الإخلاص، وهذه الألفاظ يقرب بعضها من بعض. وقيل الإخلاص هو أن يكون العمل لله تعالى ويعتقد ذلك في قلبه إلى تمامه ويكتمه بعد فراغه منه فيخلص العمل بهذه الثلاثة شروط فإذا ابتدأ العمل، لغير الله فسد باتفاق. وإذا ابتدأه لله بقلبه وأحب أن يحمد عليه فلا يضره ذلك لقوله تعالى: (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) [آل عمران: 188]

فدليل الخطاب إذا أحبوا الحمد بما فعلوا فلا بأس به وإن ابتدأ العمل لله وتمادى على ذلك إلى أثناء العمل. فاطلع عليه فيه فأحب بقلبه أن يحمد على ذلك الفعل ومر عليه ولم يرفعه من قلبه فما بعد ذلك يبطل باتفاق. وما قبل ذلك فقيل يبطل وقيل يصح والمشهور البطلان وأما إن أبى ذلك بقلبه ودفعه فلا يبطل عليه باتفاق.

واختلف في النية مع الإخلاص هل هما بمعنى واحد أو هما شيئان؟ والنية هي القصد، والإخلاص هو إفراد المعبود بالعبودية، فمن نظر إلى أن النية لا تصح إلا بالإخلاص قال هما بمعنى واحد ومن نظر إلى أن النية من الكافر والمرائي تصح قال هما شيئان. فالنية روح العمل والإخلاص روح النية قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [البينة: 5]

وقال صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات".

وقال بعضهم: مراده بالنيات الإيمان فكأنه قال ولا نطق باللسان ولا عمل بالجوارح إلا بشرط الإيمان بالقلب. وضعفه بعض التونسيين بأنه يلزم منه أن يسمى التصديق بالقلب من غير نطق إيمانا لأن الشرط يغاير المشروط وقد تقدم أن مذهب الجمهور خلافه.

واعلم أن العبادة المحضة تفتقر إلى النية بإجماع وذلك كالصلاة وعكس ذلك رد الودائع والمغصوبات وشبهه، واختلف فيما فيه شائبتان كالطهارة وقول الشيخ ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة مجمع عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قالوا: وما الواحدة يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".

(1/55)

وقال الحسن عمل قليل في سنة خير من عمل كثيل في بدعة. وقال بعضهم: أبواب الخير كلها مسدودة إلا لمن قصدها من باب محمد صلى الله عليه وسلم.

(وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة):

قال صاحب الحلل: أهل القبلة عبارة عن أهل الصلاة، وقيل هو اسم لكل مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم صلى أو لم يصل، وما ذكر الشيخ هو قول جماعة أهل السنة سلفا وخلفا. وقالت المعتزلة من مات غير تائب فهو مخلد في النار ولا يطلق عليه اسم كافر ولا مؤمن إنما يسمى فاسقا. وقالت المرجئة: لا يدخل النار من كان في قلبه الإيمان وهذا منهم بناء على التحسين والتقبيح العقليين وهو باطل من وجوه منها: أنه لو سلم ذلك فالعقل لا يوجب إحباط خدمة العبد لسيده مائة سنة بزلة واحدة في الشاهد فكذلك في الغائب. ومنها أن الذنب لو كان الإصرار عليه محبطا للطاعة لوجب أن لا تصح معه طاعة كالخروج عن الملة وذلك خلاف الإجماع، لأن شارب الخمر مثلا تصح صلاته وصومه وحجه ويترحم عليه، ومنها أن الإيمان في اللغة التصديق ومحله القلب وفسقه لا يزيل تصديقه، ومنها أنه لو كان الذنب موجبا للكفر لما نصبت على المعاصي الزواجر والحدود بل كان الواجب القتل كالردة ولا قائل بذلك، وهذا الأخير للفاكهاني وما سبق لغيره.

(وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون):

الشهداء جمع شاهد وشهيد المراد بالشهيد هنا قتيل الكفار. واختلف في أسباب تسميته شهيدا فقيل: إنه مشهود له بالجنة فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل لأن الملائكة تشهده وقيل غير ذلك. ودليل ما ذكر الشيخ قول الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169]

الآية.

واختلف العلماء رضي الله عنهم في معنى الحياة المسندة إليهم بعد الإجماع على تزويج نسائهم وإرثهم وتنفيذ وصاياهم، فقيل هي حياة غير مكيفة ولا معقولة للبشر فيجب الإيمان بها بظاهر الشرع ويكف عن كيفيتها إذ لا طريق للعلم بها إلا من الخبر فيجوز أن يجمع الله تعالى جملة من أجزاء الشهيد فيحييها فتتنعم بالأكل والشرب أو على ما أراد الله تعالى من ذلك.

وقيل حياة مجازية بأن فضلهم الله تعالى بدوام حالهم التي كانوا عليه من الرزق وإجراء الثواب عليهم كالأحياء بخلاف أرواح سائل المؤمنين، فلما أشبهوا الأحياء في

(1/56)

ذلك وصفوا بالحياة، قال بعضهم أجمعوا على أن أرواحهم لا تعود إلى أجسادهم على ما كانت عليه في الدنيا إلا إذا كان يوم القيامة، وأجمعوا أن لهم مزية وزيادة على غيرهم من المؤمنين لأنهم خصوا بالرزق والفرح وغير ذلك.

واختلف العلماء هل يتنعمون حالة كونهم في الجنة أم لا فقيل بذلك وهو مذهب الجمهور.

وقيل الشهداء يأكلون من الجنة وليسوا فيها وإنما يدخلون الجنة يوم القيامة، وأنكر هذا القول أبو عمر بن عبد البر ورده الشيخ أبو القاسم السهيلي بما خرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة في قبة خضراء يأتيهم رزقهم فيها بكرة وعشية".

قيل: وقد يمكن الجمع في ذلك بأن تكون أحوالهم مختلفة أو للجميع في أوقات مختلفة والله أعلم.

(وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين):

واختلف في الروح والنفس هل هما لفظان مترادفان أو بمعنيين اختلافا شديدا واختلف في الروح فقيل إنه عرض وهو اسم للحياة القائمة بالجسم، واختاره الأستاذ أبو إسحاق، واختار أبو المعالي أنه جسم لطيف، وبه قال ابن فورك وهو ظاهر كلام الشيخ أبي الحسن، واحتجوا بحجج يطول ذكرها وهي مبسوطة في محلها وأهل السعادة المراد بهم أهل الجنة نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يحرمنا إياها، وأهل الشقاوة أهل النار نسأل الله أن يسلمنا منها والدليل على ما ذكر الشيخ ما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل

(1/57)

الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله".

(وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة):

الافتتان هو الاخبار والواو في قوله ويسألون واو الحال فتكون بمعنى إذ لأن السؤال هو بعينه الاختبار، ولا غرابة في سؤالهم مرة واحدة للجم الغفير في أقاليم مختلفة فيخيل لكل واحد منهم أن المخاطب هو دون من سواه أو يكون الله يحجب سمعه من مخاطبة الموتى لهما.

وخالف الملحدة فأنكروا فتنة القبر واحتجاجهم بالعيان مضادة لبلوغ الأخبار في ذلك مبلغ التواتر. وظاهر كلام الشيخ أن الصبي يفتن في قبره وهو كذلك قاله القرطبي في تذكرته قائلا: ويكمل لهم العقل ليعرفوا بذلك منزلتهم وسعادتهم ويلهمون الجواب عما يسألون عنه. وقد جاء أن القبر ينضم عليهم كم ينضم على الكبار. قال الفاكهاني: انظر هل يسأل المجانين والبله وأهل الفترة أم لا.

وأما الملائكة فالظاهر عدم سؤالهم وظاهر كلام الشيخ أيضا أن الكافر لا يسأل وهو كذلك نص عليه الشيخ أبو عمر بن عبد البر قائلا الأخبار دلت على ذلك بخلاف المنافق فإنه يسأل لكونه حقن دمه وماله ودخل في حزب المؤمنين فيسأل ليتميز، وأما الكافر فهو متميز بظاهره عنهم والاخبار تدل على أن الفتنة مرة واحدة وعن بعضهم أن المؤمن يفتن سبعا، والمنافق أربعين صباحا.

قال القرطبي: جاء في حديث البخاري ومسلم سؤال الملكين وكذلك في حديث الترمذي وجاء في حديث أبي داود سؤال ملك واحد، وفي حديثه الآخر سؤال ملكين ولا تعارض في ذلك والحمد لله بل كل ذلك صحيح المعنى بالنسبة إلى الأشخاص قرب شخص يأتيانه جميعا ويسألانه جميعا في حالة واحدة ليكون ذلك السؤال عليه أهون والفتنة في حقه أعظم وأشد، وذلك بحسب ما اقترف من الآثام. وآخر يأتيانه قبل انصراف الناس عنه وآخر يأتيانه كل واحد منهما على الانفراد فيكون ذلك أخف عليه في السؤال وأقل في المراجعة والعتاب لما عمله من صالح الأعمال. وقد يحتمل في حديث أبي داود وجها آخر وهو أن الملكين يأتيان جميعا ويكون السائل أحدهما وإن تشاركا في الإتيان ويكون الراوي اقتصر على الملك السائل وترك غيره لأنه لم يقبل في الحديث لا يأتيه إلى قبره إلا ملك واحد، فلو قال هذا صريحا لكان الجواب عنه ما

(1/58)

قدمناه من أحوال الناس والله أعلم. وقد يكون من الناس من يوقي فتنتهما ولا يأتيه واحد منهما والقول الثابت هو لا إله إلا الله في الحياة الدنيا عند الموت وفي الآخرة عند سؤال الملكين، والقبر أول منزل من منازل الآخرة.

(وإن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم): الحفظة جمع حافظة ككاتب وكتبة وسموا حفظة لحفظهم ما يصدر من الإنسان من قول وعمل وعلمهم به.

واختلف هل هما اثنان بالليل واثنان بالنهار أو هما اثنان لا يفارقان الشخص والأكثر هو الأول بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" الحديث. وقال الآخر يحتمل أن يكون المتعاقبون غير الحفظة، وعلى الأول فالملائكة الذين يأتون اليوم غدا وهلم جرا مادام حيا. واستدل قائل هذا بقول الملكين أراحنا الله منه فبئس القرين ولا يقولان ذلك لمن يكونان معه يوما واحدا أو بعض يوم لأن ذلك خلاف لسان العرب.

وقال ابن السكيت: القرين الصاحب وقال الجوهري: قرينة الرجل صاحبته واعلم أن لسانك قلم الحفظة، وريقك مدادهم كذا جاء في الحديث، وظاهر كلام الشيخ أن المباح يكتب ولا يسقط وهو كذلك قاله بعض الشيوخ مستدلا بقوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق:18]

، فقول نكرة جاءت في سياق النفي فعمت. وقيل إنه لا يكتب وظاهر كلامه أن الحفظة على الكافر كالمؤمن، والصحيح خصوصهم بالمؤمن قال عياض في الإكمال.

واختلف فيما يتعلق بالقلب فقيل يكتبونه وأن الله تعالى يجعل لهم عليه علامة وقيل لا يكتبونه لأنهم لا يطلعون عليه. وفي كتب ما عزم عليم مصمما ولم يفعله، قولان للباقلاني والأكثر واعلم أن على الإنسان ملائكة غير الحفظة قال الله تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) [الرعد: 11]

فهؤلاء غير الكاتبين بلا خلاف. وقال الهروي في التفصيل ما نصه.

وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا فقال: "ملك عن يمينه على حسناته وهو أمين

(1/59)

على الذي على يساره فإذا عملت حسنة كتبت عشر أو إذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين اكتب فيقول لا لعله يستغفر الله عز وجل ويتوب فإذا لم يتب قال نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين، ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه لقوله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) وملكان من بين يديك ومن خلفك لقول الله عز وجل: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) وملك قائم على ناصيتك فإذا تواضعت لله عز وجل رفعك وإذا تجبرت على الله عز وجل قصمك وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وملك قائم على فيك لا يدع الحية أن تدخله وملكان على عينيك فؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تنزل ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل غير ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وأولاده بالليل".

(وإن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه):

ما ذكره الشيخ هو قول مجاهد وقتادة وغيرهما وقيل ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه يقبضها وعلى الأول فنص قتادة وغيره على أن له أعوانا وأطلق القول بذلك.

(1/60)

وقال الغزالي في كشف أمور الآخرة: إن الميت إذا حان أجله نزل عليه أربعة من الملائكة ملك يجذب نفسه من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى وملك يجذبها من يده اليمنى وملك يجذبها من يده اليسرى ثم يطعنه ملك الموت بحربة فيقبض نفسه. ومن الناس من يقبض وهو قائم يصلي أو نائم أو سائر في بعض أشغاله أو منعكف على لهو وهي ميتة البغتة فيقبض نفسه مرة واحدة، ومن الناس من إذا بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين من الموتى وحيئنذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إلا الإنس لو سمعه لهلك وصعق.

وظاهر كلام الشيخ أنه يقبض روح غير الآدمي من الحيوانات وهو كذلك وقال بعض المبتدعة أعوانه تتولى قبض أرواح الحيوانات، ونص الشيخ أبو الحسن على أن الموت صفة وجودية وهي ضد الحياة، قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: الموت راجع إلى عدم الحياة وبينهما احتجاج يطول ذكره وهو مبسوط في كتبه.

(وإن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم):

اختلف في مقدار القرن على أحد عشر قولا فقيل عشر سنين، وقيل عشرون وقيل ثلاثون وقيل أربعون وقيل خمسون وقيل ستون وقيل سبعون وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل مائة وعشرون، وقيل من عشرة إلى مائة وعشرين، وقال الجوهري القرن من الناس أهل زمان واحد وأنشد:

إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم = وخلفت في قرن فأنت غريب

والمقصود بهذا اعتبار تفاوت القرن في الفضل، وفسر الشيخ القرن بمن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به ثم من رآهم ثم من رأى من رآهم وبهذا فسره أكثر العلماء.

وقال المغيرة: أفضل القرون الصحابة ثم أبناؤهم ثم أبناء أبنائهم واختلف فيما بعد ذلك من القرون فقيل إنها سواء لا مزية لأحدها على الآخر قاله ابن رشد. وقال المغيرة وغيره لا يزال التفاوت كذلك إلى قيام الساعة ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "ما من يوم إلا الذي بعده شر منه" وروي في كل عام ترذلون وإنما يسرع بخياركم.

(وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون الهادون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم):

اختلف في الصحابي من هو فقيل هو اسم لمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه فيصدق

(1/61)

الاسم على من رآه ولو مرة واحدة بشرط الاتباع، وإلى هذا ذهب البخاري وأحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر، وقال الآخرون لا يسمى صحابيا من كان صغيرا في زمانه صلى الله عليه وسلم وقال ابن المسيب ولا من كا كبيرا ورآه مرة أو مرتين أو شهرا وإنما لمن كثرت صحبته كالسنة ونحوها.

وقال أبو عمر بن عبد البر يصدق الاسم على من ولد في حياته وإن لم يره وأبعده بعضهم، واختلف في التفضل بين الصحابة، فمنهم من وقف قال مالك أدركت جماعة من أهل بلدنا لا يفضلون من الصحابة أحدا على أحد ويقولون الكل فضلاء وأكثر الناس على القول بالتفضيل، وعليه فأفضل الصحابة أهل الحديبية قال الله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [الفتح: 18]

قيل نزلت في أهل الحديبية وأهل بدر. خرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اطلع الله على أهل بدر فقال "يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأهل بدر أفضلهم العشرة وأفضل العشرة الخلفاء الأربع ثم هم في الفضل على ترتيبهم في الخلاف وقيل بالوقف عن التفضيل فيما بين عثمان وعلي رضي الله عن جميعهم والقولان لمالك ورجع إلى تفضيل عثمان.

واختلف في التفضيل بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما فتوقف الأشعري في ذلك واحتج لتفضيل فاطمة رضي الله عنها بقوله صلى الله عليه وسلم "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو تكوني سيدة نساء هذه الأمة". واحتج لتفضيل عائشة رضي الله عنها بكونها مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وفاطمة مع علي وشتان ما بين المنزلتين. واعترض بأن بقية أزواجه يكن معه في الجنة ولا قائل بتفضيلهن على فاطمة. وقال النووي في شرح البخاري أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وخديجة واختلف في أيتهما أفضل.

وظاهر كلام أبي المعالي رضي الله عنه أن التفضيل بينهما ظني وليس بقطعي ولفظه. ولم يقم عندنا دليل قاطع بتفضيل بعض الأئمة على بعض إذ العقل لا يشهد على ذلك والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة ولكن الغالب على الظن أن أبا بكر رضي الله عن أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر بعده، وتعارضت الظنون بين عثمان

(1/62)

وعلي رضي الله عنهما. وانعقد إجماع المسلمين على أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين وأحب الخلق إلى رب العالمين صلى الله عليه وسلم والصحيح المعروف أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

(وأن لا يذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر):

دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم من آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ومن أذى الله يوشك أن يأخذه".

وقال: "لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، وقال صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقال صلى الله عليه وسلم "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا".

وقال أبو أيوب السختياني من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق ومن انتقص أحدا منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح وأخاف ألا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه لهم سليما.

(والإمساك: عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب):

الإمساك الكف والسكوت وشجر معناه وقع واختلط ويريد ماوقع بين علي ومعاوية رضي الله الله عنهما. وقال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: تلك دماء لم يخضب الله فيها أيدينا فلا نخضب بها ألسنتنا.

وروي أن أهل البصرة أرسلوا إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يسألونه عن أمر علي ومعاوية فقال رضي الله عنه (تلك أمة قد خلت) [البقرة: 134]

الآية. وقال

(1/63)

بعض العلماء: ضابط هذا أنهم عدول وأعيان اختارهم الله لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولنصرة دينه وأثنى عليهم في كتابه، فكل ما وقع بينهم في ذلك فليس عن هوى ولا لتحصيل دنيا وإنما هو عن اجتهاد ورأي. وقول الشيخ وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج لا يعارضه ما تقدم من وجوب الكف لان هذا خاص بالعلماء الذين يميزون بين الصحيح والسقيم ويفرقون بين الغث والسمين وما تقدم لعوام الناس.

(والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم):

الإمام هو القائم بأمور المسملين والولي هو النائب، والإمامة أعم من الخلافة إذ كل إمام خليفة ولا ينعكس. قال الغزالي: وشرائط الإمام بعد الإسلام والتكليف خمسة: الذكورية والورع والعلم والكفاية ونسبة قريش وكونه واحدا وغير متغلب. واختلف إذا انعقدت الإمامة لاثنين في وقت واحد في بلدين فقيل إنها للذي عقدت له في بلد الإمام الميت. وقيل يقرع بينهما وقيل إن كان العقد لكل واحد منهما دفعها عن نفسه للآخر.

وقيل إن كان العقد لهما في وقت واحد فسد كزوجين عقد لهما على امرأة واحدة. وزاد صاحب العروة وأن يكون من أفضل القوم في عصره عند الأشعري والقاضي، والصحيح أنه لا يشترط. وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد، وقيل تنعقد بواحد إذا كان أهلا لما ذكر، وقيل لابد من اثنين وقيل لابد من أربعة، وقيل خمسة وقيل لابد من بيعة جميع العلماء وحضورهم عند البيعة واتفاقهم على واحد، وشرط أصحابنا اشتهار العقد كالنكاح والأصلي فيما ذكر الشيخ قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا أطعيوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء: 59]

وعنه صلى الله عليه وسلم "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني فطاعتهم واجبة) إذ بهم تقام الأحكام وتصلح الأحوال وتحفظ الفروج والأموال.

واعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قيل كان الخليفة يقول أطيعوني ما عدلت فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم عن مسلمة بن عبد الملك أنه قال لهم: ألستم أمرتم بطاعتي في قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)؟ فقالوا له أو ليس يرغب عنكم

(1/64)

إذا خالفتم لقوله تعالى: (فإن تنزاعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) [النساء: 59].

(واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم إلخ):

السلف الصالح وصف لازم يختص عند الإطلاق بالصحابة ولا يشاركهم غيرهم فيه قاله صاحب الحلل والاقتفاء والاتباع معناهما واحد. واعلم أن العبد الصالح يطلق على النبي والولي قال الله تعالى في اسماعيل وادريس وذا الكفل (كل من الصابرين) [الأنبياء: 85]. وقال تعالى في صفة يحيى (نبيا من الصالحين) [الصافات: 112]

وقال تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين) [النساء: 69]

والاستغفار طلب المغفرة وأصلها من الغفر وهو الستر فمعنى غفر الله ذنوبك أي سترها.

(وترك المراء والجدال في الدين وترك كل ما أحدثه المحدثون إلخ):

اعلم أن المراء والجدال لفظان مترادفان وقال الجوهري: المراء هو الجدال وأراد الشيخ كراهية مناظرة أهل الأهواء والمبتدعة ومجادلتهم والندب إلى ترك مكالمتهم وإلا فالمناظرة حسنة، قال عبد الوهاب في المناظرة خمس فوائد: إيضاح الحق وإبطال الشهبة ورد المخطئ إلى الصواب والضال إلى الرشاد والزائغ إلى صحة الاعتقاد مع الذهاب إلى التعليم وطلب التحقيق.

وللمناظرة أحكام وآداب، فمن أحكامها أن يقصد بها وجه الله تعالى وإظهار قول الحق وأن يجتنب فيها الرياء والسمعة والمباهاة واللجاج وغير ذلك مما ينافي تقوي الله تعالى، ومن آدابها أن يكون الكلام مناوبة لا مناهبة وأن يعتدل في رفع صوته ويتحرز من التعنت والتعصب والمداهنة والله الهادي إلى سواء السبيل.

قال القرافي رحمه الله: الأصحاب رضي الله عنهم فيما علمت متفقون على إنكار البدع والحق أنها على خمسة أقسام:

الأول: أنها بدعة واجبة إجماعا وهو تدين قواعد الواجب كتدوين القرآن والشرائع إذ خيف عليها الضياع، فإن تبليغها لمن بعد واجب إجماعا وإهمالها حرام إجماعا.

والثاني: بدعة محرمة إجماعا وهي ما تناولته أدلة التحريم وقواعده كالمكوس وتقديم الجهلاء على العلماء وتولية المناصب الشرعية بالتوارث لمن لا يصلح لها وفي

(1/65)

مثل هذا القسم الذي ذكرنا أنشد الشيخ أبو حيان رحمه الله تعالى ورضي الله عنه:

بلينا بقوم صدروا في المجالس = لا قراء علم ضل عنهم مراشده

لقد آخر التصدير عن مستحقه = وقدم غمر خامد الذهن جامده

وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم = من الله عقبى ما أكنت عقائده

علا عقله فيهم هواه وما درى = بأن هوى الإنسان للنار قائده

الثالث: بدعة مندوب إليها كصلاة التراويح وإقامة صون الأئمة والقضاة والولاة بالمراكب والملابس هو خلاف ما كانت عليه الأئمة والصحابة، فإن التعظيم كان في الصدر الأل بالدين فلما اختل النظام وصار الناس لا يعظمون إلى بالصون صار مندوبا حفظان لنظام الخلق.

الرابع: بدعة مكروهة وهي ما تناولته قواعد الكراهة كتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادات ومنه الزيادة على القرب المندوبة كالتسبيح ثلاثا وثلاثين والتحميد والتكبير والتهليل فيفعل أكثر من ذلك ما حده الشرع فهو مكروه لما فيه من الاستظهار على ما وقته الشرع وقلة الأدب معه، فإن شأن العظماء إذا حدوا حدا يوقف عنده ويعد الخروج عنه قلة أدب.

الخامس: بدعة مباحة وهي ما تناولته قواعد الإباحة كاتخاذ المناخل لإصلاح الأقوات واللباس الحسن والمسكن الحسن ونحوه فالحق في البدعة إذا عرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب ما يجب منه الوضو والغسل

اعلم أنه يقال الوضوء بفتح الواو وضمها فقيل الفتح للماء والضم للفعل وقيل بالعكس، وقيل لفظان مترادفان. قال ابن دقيق العيد: وإذا قلنا إن الفتح اسم للماء فهل هو اسم لمطلق الماء أو له بعد كونه معدا للوضوء أو بعد كونه مستعملا في العبادة فيه نظر ثم رجح الثالث لأنه الحقيقة. وخرج عليه مسألة فقهية من قول جابر في الحديث: "فصب عليه من وضوئه" ظاهره الماء المستعمل. واختار الشيخ عبارة موجبات الوضوء وعبر غيره بنواقض الوضوء وجمع القاضي أبو محمد عبدالوهاب بينهما في تلقينه. وكذلك يقال الغسل بالفتح والضم فالمعنى على ما تقدم، وأما الغسل بالكسر

(1/66)

فهو اسم للذي يغسل به الرأس من طفل وغيره.

(الوضوء يجب لما يخرج من أحد المخرجين من بول أو غائط أو ريح):

قال غير واحد ينقض الوضوء باتفاق كل خارج معتاد من المخرج المعتاد على سبيل الصحة والاعتياد، واختلف إذا خرج ما ليس بمعتاد من المخرج المعتاد كالدود فأوجب منه الوضوء ابن عبد الحكم اعتبارا بالمخرج، قيل إنه لا أثر له قاله في المدونة وهو المشهور، وقيل إن خرجت معه بلة توضأ وإلا فلا، قاله ابن نافع وبه كان بعض من لقيته من القرويين يفتي، واختلف إذا تكرر خروج البول مثلا والمشهور سقوطه.

قال المازري: روي عن مالك أنه يجب منه الوضوء وعبر عنه ابن الحاجب بقوله. وقال المازري: وإن تكرر وشق. واعترضه ابن عبد السلام بأنه رواه فقط ومراد الشيخ بقوله أو ريح إذا كان من الدبر وأما إذا كان من القبل فكالعدم على ظاهر المذهب. وذهب بعض الشافعية إلى نقض الوضوء به ويتخرج مثله من قول ابن عبد الحكم السابق، لأنه إنما يعتبر المخرج مع زيادة اعتبار الصور النادرة ولا خلاف في المذهب فيما علمت أن الوضوء لا يجب إلا بعد دخول الوقت.

وقال التادلي: قد يقال إن ظاهر كلام الشيخ يقتضي إيجاب الوضوء ايجابا موسعا عند وجود الخارج لأنه علق الوجوب بالخارج وهو أحد قولي ناصر الدين، قلت هذا تكلف لا يحتاج إليه وهذا القول ليس بمذهبي، قالوا والوضوء مما خص الله به هذه الأمة إكراما لها واعتذروا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي" بأنه لم يصح وإن صح فالخصوصية للأنبياء لا للأمة ولأن فضيلته في الدار الآخرة إنما هي لهذه الأمة للغرة والتحجيل لهم في المحشر دون سائر الأمم.

(أو لما يخرج من الذكر من مذي مع غسل الذكر كله منه وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند اللذة بالإتعاظ عند الملاعبة أو التذكار):

ما ذكر الشيخ أنه يغسل كل الذكر هو قول أكثر الإفريقيين وهو ظاهر رواية

(1/67)

علي في المدونة وقيل يقتصر على محل الأذى خاصة قاله اللخمي مع جميع البغداديين وعلى الأول فقال بعضهم يفتقر إلى نية ورآه عبادة. وقال أبو محمد: لا يفتقر إليها.

واختلف إذا اقتصر على محل الأذى وصلى فقال الأبياني يعيد أبدا، وقال يحيى بن عمر: لا إعادة عليه، وقيل يعيد في الوقت قاله أبو محمد بن أبي زيد نقله القفصي في أسئلة عنه وبه قال بعض من لقيته من القرويين يفتي وظاهر كلام الشيخ أن الإنعاظ لا أثر له وإن كان كاملا وهو كذلك عند مالك. وقال ابن شعبان: الإنعاظ البين ينقض الوضوء واختاره اللخمي إن كانت عادته خروج المذي عقبه أو اختلفت عادته وإن كان الأمر على خلاف ذلك فلا، وفي كلام الشيخ تقديم التصديق على التصور وقد علمت أنه مجتنب.

وقال ابن هارون لا يلزم ذكر التصور لأنا نحكم على الملائكة بالوجود ولا نعرف صورهم سلمنا لكن لا فرق بين أن يكون قبل الحكم أو بعده يليه، قلت يرد الأول بأنا لم نكلف ذلك فلذلك لم يضرنا جهلنا بصفة الملائكة ويرد الثاني بأن إطباقهم على أن المطلوب تقديم التصور قبل التصديق يدل على ضعفه والله أعلم، نعم الجواب الحقيقي أحد أمرين، أحدهما أن المطلوب مطلق الشعور لا تحصيل كل الماهية وذلك يحصل بالإخبار بالحكم الثاني أن المشترط عندهم إنما هو التصور في نفس المتكلم على الحكم لا السامع والأول هو الذي عرج عليه غير واحد ممن أدركتهم والثاني هو اختيار أبي علي ناصر الدين الجائي رحمه الله تعالى.

(وأما الودي فهو ماء أبيض خاثر يخرج بإثر البول يجب منه ما يجب من البول):

ما ذكر أنه يخرج بإثر البول يريد في الأعم الأغلب ونبه عليه القاضي أبو محمد عبد الوهاب.

(وأما المني فهو الماء الدافق يخرج عن اللذة الكبرى رائحه كرائحة الطلع وماء المرأة رقيق أصفر يجب منه الطهر فيجب من هذا طهر جميع الجسد كما يجب من طهر الحيضة):

يريد كونه يخرج عند اللذة الكبرى بالجماع في الأعم الأغلب وإلا فقد يخرج بمجرد النظرة والفكرة وما ذكر أن رائحته كرائحة الطلع يعني به طلع فحل النخل يسقط منه غبار رائحته كرائحة المني ولا رائحة لطلع إناثها تشبهه قاله التادلي، ويعرف في حال يبسه بجعل نقطة من ماء عليه فإن نشفها بسرعة فهو مني قاله صاحب الحلل وإنما شبهه الشيخ بطلع النخل لوجهين، إما لأن النخل خلقت من طين آدم على نبينا

(1/68)

وعليه الصلاة والسلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "أكرموا عماتكم النخل" وإما لأن أطوارالإنسان سبعة كأطوار حمل النخل.

(وأما دم الاستحاضة فيجب منه الوضوء ويستحب لها ولسلس البول أن يتوضأ لكل صلاة):

اعلم أن دم الاستحاضة وسائر الأسلاس على ثلاثة أقسام: تارة تكون ملازمته أكثر من مفارقته فهذا يستحب منه الوضوء وعكسه المشهور يجب وأسقطه البغداديون، وتارة تستوى ملازمته مفارقته ففي الوضوء قولان متساويان، وتارة يلازم دائما فهذا لا يجب ولا يسحب إذ لا فائدة فيه. والقسمان الأولان هما اللذان أراد الشيخ بقوله يجب ويستحب أي يجب حيث تكون مفارقته أكثر ويستحب حيث تكون الملازمة أكثر فلا تناقض في كلامه وهذا أحسن ما قيل في الاعتذار عن الشيخ.

وأجيب بأجوبة أخر لم أذكرها لطولها وعدم الحاجة إليها. وقال الشيخ ابن عبدالسلام: القياس في دم الاستحاضة سقوط الوضوء منه مطلقا لأن الأصل في الدم ليس هو من نواقض الوضوء فلا مبالاة بقلته ولا بكثرته كبعض ما قيل في المني الخارج لغير اللذة، وحيث يستحب من السلس الوضوء فقال سحنون: لا يستحب غسل فرجه لأن النجاسة أخف من الحدث.

وقال صاحب الطراز: بل يستحب كهو واختلف هل يلزم صاحبه أن يعد خرقة عند صلاته أم لا؟ على قولين للأبياني وسحنون وكلاهما نقله القرافي ومن كثر عليه المذي بطول عزبة أو تذكر، فقال ابن الحاجب: المشهور الوضوء في مقابل التداوي قولان وأفتى الشيخ أبو الحسن اللخمي بتيمم من جرت عادته إن توضأ أحدث وإن تيمم فلا.

(ويجب الوضوء من زوال العقل بنوم مستثقل أو إغماء أو سكر أو تخبط جنون):

أخبر الشيخ أن زوال العقل موجب للوضوء، بين أن زواله بأربعة أشياء كما ذكر إلا أن قوله زوال العقل فيه مسامحة والأولى أن يقول استتار العقل إذ العقل لا يزيله النوم ولا الإغماء ولا السكر، وإنما يستره خاصة ولهذا سميت الخمر خمرا لأنها تغطي العقل وكذلك المجنون الذي يصيبه الجن ثم يعوده إلى حاله بخلاف المطبق الذي لا يفيق

(1/69)

أصلا فإنه قد زال عقله لا محالة، ولذلك اتفق على عدم خطابه مطلقا قاله الفاكهاني. وظاهر كلام الشيخ أن النوم سبب للحدث لكونه اشترط فيه الثقل وهو المشهور، وقيل إنه حدث قاله ابن القاسم في كتاب ابن القصار. ورواه أبو الفرج عن مالك كذا عزاه ابن بشير.

وأشار ابن الحاجب إلى أنه يؤخذ من المدونة وذلك أنه لما ذكر أنه سبب وتكلم في أقسامه كما سنقوله بعد إن شاء الله تعالى قال وفيها إذا قمتم يعني من النوم. واعلم أن اللخمي اعتبر النوم فقسمه على أربعة أقسام طويل ثقيل ينقض مقابله لا ينقض طويل خفيف يستحب مقابله قولان وذكر غيره في القسم الثالث قولين.

قال ابن عبد السلام: فيحتمل أن يكونا بالوجوب والاستحباب، ويحتمل أن يكون بالوجوب والسقوط، واعتبر الشيخ عبد الحميد الصائغ حالات النائم فقال ما معناه لا يخلو ذلك من أربعة أوجه، تارة يكون على هيئة يتيسر فيها الطول والحدث كالساجد ينقض مقابله كالقائم والمحتبي لا ينقض وتارة يتيسر فيها الطول دون الحدث والعكس كالجالس مستندا والراكع ففي النقض بذلك قولان، وظاهر كلام الشيخ أن الجنون والإغماء حدثان لكونه لم يشترط فيهما الثقل، كما اشترطه في النوم وهو كذلك قاله مالك وابن القاسم. ونقل اللخمي عن عبد الوهاب أنهما سببان وخرج على القولين من جن قائما أو قاعدا بحضرة قوم ولم يحسوا أنه خرج منه شيء واعترض كلامه من وجهين أحدهما لابن بشير أن عبد الوهاب أطلق عليهما أنهما سببان إلا أنه أوجب منهما الوضوء دون تفصيل. والثاني: لبعض شيوخنا أنه لا يلزم من عدم إحساسهم عدم خروجه قال ويلزمه في النوم.

(ويجب الوضوء من الملامسة للذة والمباشرة بالجسد للذة والقبلة للذة):

اعلم أن الملامسة على أربعة أقسام تارة يقصد ويجد فالوضوء باتفاق وعكسه لا وضوء باتفاق، وتارة يقصد ولا يجد فروى أشهب لا أثر له وروى عيسى عن ابن القاسم ينقض وهو ظاهر المدونة، وكلاهما حكاه ابن رشد. وجعل اللخمي المنصوص النقض وخرج من الرفض عدمه وضعفه ابن عبد السلام بأنه انضم هنا إلى النية فعل وهو اللمس فليسا سواء وتارة يجد ولا يقصد فالوضوء باتفاق عند ابن الحاجب.

وقال الرجراجي في النقض قولان قائمان من المدونة وهذا الخلاف إذا كان اللمس مباشرة، وأما إن كان من فوق حائل فروى ابن القاسم كالمباشرة، وروى

(1/70)

علي بن زياد إن كان خفيفا فحمله ابن رشد على التفسير، وحمله اللخمي على الخلاف قائلا رواية علي أحسن إن كان باليد وإن كان ضمها إليه فالكثيف كالخفيف، وذكر الشيخ المباشرة بالجسد بعد الملامسة حشو ويريد إذا كان مما يلتذ بلمسها عادة، وأما الصغيرة فلمسها لا أثر له لأن لمسها لا يوجب لذة وكذلك المحرم لقيام المانع العادي وظاهر كلام الشيخ ولو كان الملموس ظفرا أو شعرا وهو كذلك نص عليه ابن الجلاب.

وقيل أنهما لا يلحقان بما عداهما من الجسد لأن اللذة ليست بلمسهما وإنما هي بالنظر ولا أثر له، نقله ابن عبدالسلام عن بعض الشيوخ. وظاهر كلام الشيخ سواء كانت القبلة على الفم أم لا لأنه يعتبر قصد اللذة وهو كذلك في أحد القولين والمشهور أن القبلة في الفم تنقض مطلقا للزوم اللذة غالبا ما لم تكن قرينة صارفة عن قصد اللذة كقبلة الوداع.

(ومن مس الذكر)

اختلف في مس الذكر على ثمانية أقوال: فقيل ينقض بباطن الكف خاصة رواه أشهب وهو ظاهر كلام الشيخ في باب الغسل حيث قال: ويحذر أن يمس ذكره في تدلك بباطن كفه وقيل مثله مع زيادة باطن الأصابع قاله ابن القاسم في المدونة ونصها.

قال مالك: ولا ينتقض الوضوء من مس شيء من البدن إلا من مس الذكر وحده بباطن الكف.

قال ابن القاسم: وبباطن الأصابع مثله فحمله ابن رشد على التفسيرن ومقتضى كلام اللخمي أنه خلاف، وقيل مثله مع زيادة باطن الذراع قاله أبو بكر الوقار، وقيل إن التذ توضأ وإلا فلا قاله العراقيون. وقيل إن تعمد توضأ وإن لم يلتذ وإن نسي فلا شيء عليه رواه ابن وهب.

وقيل إن مس الكمرة توضأ وإلا فلا حكاه الشارقي عن ابن نافع. وقيل إن الوضوء منه حسن وليس بسنة.

(1/71)

وقيل: إن الوضوء منه ساقط وكلاهما عن مالك.

واختلف إذا مسه من فوق حائل على ثلاثة أقوال ثالثها إن كان خفيفا انتقض وإلا فلا. وإذا فرعنا على ما في المدونة فهل ينتقض الوضوء بحرف اليد والأصابع، في ذلك قولان حكاهما ابن العربي وفي النقض بإصبع زائدة قولان.

(واختلف في مس المرأة فرجها في إيجاب الوضوء):

اختلف قول مالك في مس المرأة فرجها على أربع مقالات: فقيل لا ينقض. رواه ابن القاسم وأشهب وهو مذهب المدونة. وقيل ينقض رواه علي بن زياد وقيل إن ألطفت توضأت وإلا فلا، رواه ابن أبي أويس. وقيل إن الوضوء منه مستحب حكاه ابن رشد عن مالك، فمن الشيوخ من راد القولين الأولين إلى الثالث ومنهم من قال إنها أقوال متباينة.

وأما الدبر فالمنصوص أنه لا أثر له هوخرجه حمديس على مس فرج المرأة، ورد بوجهين أحدهما عدم صحة القياس فإن الدبر لا يسمى فرجا وهذا لابن بشير. الثاني: عدم وجود اللذة في مس الدبر قاله عبد الحق ومثله لابن بشير أيضا.

وفي ابن عبد السلا ما يرد على ابن بشير، وذلك أنه قال لابن عبد البر ميل إلى مذهب الشافعي لقوله عليه السلام: "من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ". والدبر فرج لقوله صلى الله عليه وسلم في مريد قضاء الحاجة: "لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه".

وكذلك تفريق عبد الحق ضعفه ابن سابق بأن حمديسًا لم يعلل باللذة بل بمجرد اللمس، قلت وهو الصواب وقول ابن بشير كلهم يحومون على اللذة بعيد.

(ويجب الظهر مما ذكرنا من خروج الماء الدافق للذة في نوم أو يقظة من رجل أو امرأة):

قال صاحب الطراز خروج ماء المرأة ليس يشترط في جنابتها لأن عادته ينعكس إلى الرحم ليخرج منه الولد فإذا أحست بنزوله وجب عليها الغسل وإن لم يبرز. وظاهر كلام الشيخ أن وجود المني في مسألة النوم موجب الغسل وإن لم يتذكر الموطن وهو كذلك عندنا. وشذ بعض المتقدمين فرأى اعتبار تذكر الموطن وظاهر كلام الشيخ سواء

(1/72)

كانت معتادة أو غير معتادة وهو كذلك عند سحنون وابن شعبان. وقيل لا يجب في اللذة غر المعتادة وختلف إذا أمنى لغير لذة كمن ضرب فأمنى، ففي وجوب الغسل قولان لابن شعبان وابن سحنون والأخير منهما جعله ابن بشير هو المشهور. وسبب اختلافهم في هذين الفرعين اختلافهم في الصور النادرة هل تراعي أم لا؟ وإذا فرعنا على عدم وجوب الغسل فهل يجب الوضوء أم لا؟ فيه اختلاف والجاري على أصول المذهب أنه لا يجب لأنه ليس بمعتاد في نواقض لوضوء فأشبه الحصى.

(وانقطاع دم الحيضة أو الاستحاضة أو النفاس):

أما انقطاع دم الحيض والنفاس فالإجماع على وجوب الغسل كما قال الشيخ وأما دم الاستحاضة فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل لا أثر له وقيل تتطهر استحبابا وكلاهما قاله مالك ورجع إلى الأخير والقولان في المدونة. وقيل إنها تغتسل وجوبا على ظاهر نقل الباجي، قال مالك مرة تغتسل ومرة ليس ذلك عليها، وقال ابن القاسم ذلك واسع فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لا اعتراض على الشيخ في قوله إن الغسل واجب.

قال ابن عبد السلام: ظاهر كلام الشيخ أبي محمد الوجوب واستشكله غير واحد، قلت ورده بعض شيوخنا بأنه إن كانت مخالفة المدونة فالمشهور لا يتقيد به وإن كان لعدم وجود فقصور لما سبق، وظاهر كلام الشيخ أنها إذا ولدت ولدا جافا أنه لا يجب الغسل عليها وهو أحد القولين في نقل ابن بشير وحكاهما ابن الحاجب روايتين.

وفي العتبية من سماع أشهب من ولدت بغير دم اغتسلت ثانيا ولم يجزها الأول قال اللخمي: هذا استحسان لأن الغسل للدم لا للولادة ولو اغتسلت لخروج الولد دون الدم اغتسلت ثانيا ولم يجزها الأول، وقال ابن رشد معنى سماع اشهب دون دم كثير إذ خروج الولد بلا دم معه ولا بعده محال عادة، قلت: وكان بعض من أدركناه يحكي عمن يثق بقوله إنه شاهد خروج الولد من زوجته بلا دم البتة ولم يعقبه بعده دم.

(أو بمغيب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل):

قال أبو محمد صالح يعني في محل الافتضاض، وأما في محل البول فلا أثر له وأبعده التادلي قائلا لأن غاية أمره أن يكون كالدبر وهو يوجب الغسل، قلت يريد في مشهور المذهب. وحكى ابن رشد رواية عن مالك لا غسل من الوطء في الدبر وخرجها على القول بمنع الوطء فيه ورده بعض شيوخنا بأن اتفاق الأكثر على المنع من الوطء، وعلى

(1/73)

وجوب الغسل يريد تخريجه والبهيمة كالآدمي نص عليه غير واحد كابن العربي عن المذهب.

وقال الشيخ أبو القاسم بن محرز ثلاث وجبات: مغيب الحشفة في قبل أو دبر من آدمي، قال بعض شيوخنا ظاهره أن وطء البهيمة دون إنزال لا أثر له إلا أن يريد لمن عليه الوجوب لا لسببه، وظاهر كلام الشيخ أن الحشفة إذا غابت موجبة الغسل وإن دخلت ملفوفة وهو كذلك ومعناه إذا كان اللف رقيقا، وأما الكثيف فلا ونص عليه ابن العربي. وكان بعض من لقيناه يخرج فيه قولان بوجوب الغسل مطلقا من أحد القولين في لمس النساء من فوق حائل كثيف. قلت ولا يتخرج فيه قول بنفي الغسل مطلقا من أحد الأقوال في مس الذكر لأن الوطء أخص في استدعاء اللذة.

وقال التادلي: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: ثالثها إن كان الحائل رقيقا وجب وإلا فلا وهو الأشبه بمذهبنا، وما ذكره لا أعرفه وأراد بقوله وهو الأشبه بمذهبنا أي الجاري على أصول المذهب المشهور قياسا على مس الذكر والله أعلم.

وظاهر كلام الشيخ أن بعض الحشفة لغو وهو كذلك على ظاهر المدونة. ونص على هذا اللخمي ونقل صاحب الحلل عن غير اللخمي إذا غاب الثلثان منها وجب وإلا فلا، قلت: وما ذكره لا أعرفه.

(ومغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل ويوجب الحد ويوجب الصداق ويحصن الزوجين ويحل المطلقة ثلاثا للذي طلقها ويفسد الحد ويفسد الصوم):

إنما كرر كون مغيب الحشفة يوجب الغسل ليركب عليه ما بعده وإلا فقد ذكر ذلك. ومعنى يوجب الصداق أي كماله وإلا فالنصف حاصل بالعقد، واختلف إذا وطئها في دبرها هل هلا جميع الصداق كالوطء في القبل أم النصف فقط كلاهما حكاه اللخمي، قلت وأخذ بعض شيوخنا الأول من قول رجم المدونة وطؤها في دبرها جماع لأن شك فيه.

واختلف إذا افتضها بإصبعه على ثلاثة أقوال قيل: لها كل المهر قاله ابن القاسم وقيل لها النصف وما شأنها قاله في سماع أصبغ وقيل إن لم يرج لها إنها لا تتزوج بعد ذلك إلا بمهر ثيب فلها جميعه، قاله اللخمي. وما ذكر أن المطلقة ثلاثا تحل بالوطء بمغيب الحشفة هو كذلك عندنا خلافا للحسن في قوله لا تحل إلا بالإنزال وقيل إن العقد كاف في الإحلال، قاله سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. قال أبو عمران: وإلى

(1/74)

هذا القول ذبه ابن اللباد الفرضي في النكاح.

قلت: وأخذه المغربي من قول أشهب في النكاح الثالث من المدونة ونصها قال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح تحريم للأمة كان يطؤها أم لا، ذكر قول أشهب هذا فيما إذا وطئ أمة بملك ثم تزوج أختها، والمشهور أنه يشترط في التحليل الانتشار قال بعض من لقيناه وانظر هل يتخرج هذا الخلاف في وجوب الغسل أم لا، ولم أر فيه نصا وهو قصور لنقل أبي محمد عن ابن شعبان إذا أدخلت زوجة العنين ذكره في فرجها لزمها الغسل قال أبو محمد لا أعرف فيه خلافا.

(وإذا رأت المرأة القصة البيضاء تطهرت وكذلك إذا رأت الجفوف تطهرت مكانها رأته بعد يوم أو يومين أو ساعة):

قال ابن الحاجب: الحيض الدم الخارج بنفسه من فرج الممكن حملها عادة غير زائد على خمسة عشر يوما من غير ولادة واعترض بأربعة أوجه:

أحدها: استعمال لفظ بنفسه في غير موضعه لأنه إنما يستعمل إذا أريد تأكيد الذات كقولك جاء زيد نفسه.

الثاني: أنه غير مانع لدخول نوع من دم الاستحاضة فيه وهو ما زاد على العادة أو العادة والاستظهار إذا كان أقل من خمسة عشر يوما.

الثالث: أن في حده الحشو وهو قوله من غير ولادة فإن قوله بنفسه يغني عنه. وهذه الثلاثة حكاها ابن عبدالسلام ويجاب عن الثاني بأن قول مالك فلا يعترض بها هو مختلف اختلافا قويا إذ هو في المدونة.

الرابع: ذكره ابن هارون بأنه يخرج عن كلامه دم الحامل فإنه فيه تفصيلا بين أول الحمل وآخره ففي أوله خمسة عشر يوما ونحوها وبعد ستة العشرين ونحوها، قلت ويجاب بأن أشهب روى عن مالك أنها كغيرها فكلامه جار على قول مالك أيضا وظاهر كلام الشيخ أن القصة والجفوف سيان وإليه ذهب الداودي وعبدالوهاب قال ابن القاسم القصة أبلغ.

وقال ابن عبد الحكم: الجفوف أبلغ وهذا في حق المعتادة وأما المبتدئة فقال ابن القاسم تنتظر الجفوف. قال الباجي: هذا نزوع منه إلى قول ابن عبد الحكم، ورده المازري بأن المبتدئة لم تتقرر في حقها عادة أحدهما فإذا رأت الجفوف أولا فهي علامة، والأصل عدم القصة في حقه فلا معنى للتأخير لأمر مشكوك فيه. وإذا رأت المرأة القصة أولا

(1/75)

أخرت لأنه لا بد أن يعقبها الجفوف فكان التأخير لأمر محقق وليس كذلك المعتادة.

(ثم إن عاودها دم أو رأت صفرة أو كدرة تركت الصلاة ثم إذا انقطع عنها اغتسلت وصلت ولكن ذلك كله كدم واحد في العدة والاستبراء حتى يبعد ما بين الدمين):

أما الدم فلا خلاف فيه أن الأمر كما ذكر وكذلك الصفرة والكدرة في مشهور المذهب مطلقا، وقيل هما كالدم ما لم يكونا بعد اغتسال قبل تمام طهرها فإنه لا أثر لخروجها قاله ابن الماجشون قائلا: يجب منهما الوضوء فقط. قال اللخمي: وهو خلاف نص المدونة وجعله الباجي والمازري المذهب.

(مثل ثمانية أيام أو عشرة فيكون حيضا مؤتنفا):

اختلف في أقل الطهر على خمسة أقوال: فقيل: خمسة أيام قاله ابن الماجشون وقيل ثمانية أيام قاله سحنون وقيل عشرة أيام قاله ابن حبيب وقيل خمسة عشر يوما قاله ابن مسلمة وجعله ابن شاس وابن الحاجب المشهور. وقيل ما يراه النساء قاله مالك من رواية ابن القاسم. وأما أكثر الطهر فلا حد له اتفاقا واعلم أن الشيخ أراد بقوله مثل ثمانية أيام أو عشرة الإخبار بأن المسألة اختلف فيها على قولين فكأنه يقول مثل ثمانية أيام في قول أو عشرة في قول، وكثيرا ما يفعل ذلك ومنه وترفع يديك حذو منكبيك ودون ذلك.

وقوله: وإذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع أو ما يصلي فيه عشرين صلاة أتم الصلاة، ولا يقال إن كلامه غير مطرد في ذلك ألا ترى إلى قوله تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك لأن قرينة قوله وذلك واسع يفهم منه إرادة التخيير فقط.

(ومن تمادى بها الدم بلغت خمسة عشر يوما ثم هي مستحاضة تتطهر وتصوم وتصلي ويأتيها زوجها):

ظاهر كلامه سواء كانت معتادة أو مبتدئة أو حاملا وهو كذلك في أحد الأقوال عموما فأما المبتدئة ففي المدونة تمكث خمسة عشر يوما وروى علي بن زياد تطهر لعادة لداتها وروى ابن وهب وثلاثة أيام استظهارا.

(1/76)

وقال عبد الوهاب مثله ما لم تزد على خمسة عشر يوما، وقال اللخمي لو قيل تطهر لعادة أمثالها من قرابتها لكان حسنا، ومثل هذا اللفظ لا يعد قولا حسبما نص عليه صاحب اللمع فيما إذا قال المجتهد لو قال بهذا قائل لكان مذهبا فإنه لا يعد قولا. وأما المعتادة ففي المدونة خمسة عشر يوما وترجع إلى عادتها مع الاستظهار بثلاثة أيام ما لم تزد على خمسة عشر يوما، وقيل عادتها فقط قاله ابن عبد الحكم. وقيل خمسة عشر يوما واستظهار يوم أو يومين، وقيل بل تستظهر بثلاثة أيام قاله ابن نافع فهذه خمسة أقوال.

واختلف على القول باعتبار العادة مع الاستظهار فقيل العادة الأكثرية وهو المشهور، وقيل الأقلية ابن حبيب وابن لبابة، وكذلك اختلف فيما بين العادة والعادة مع الاستظهار إلى خمسة عشر يوما هل هي طاهرة حقيقة أو تحتاط على قولين، وأما الحامل فالأكثر على أنها تحيض، ووقع لابن القاسم ما يقتضي أنها لا تحيض كقول ابن لبابة وذلك أنه قال فيمن اعتدت بالحيض ثم ظهر حملها لو علمته حيضا مستقيما لرجمته فأخذ منه غير واحد ما قلناه.

قال ابن بشير في شرحه على ابن الجلاب إنما هو إشارة للتشكيك كقول الداودي لو أخذ فيه بالأحواط لكان حسنا وعلى الأول فقال مالك يجتهد لها وليس في ذلك حد وليس أول الحمل كآخره، وقال ابن القاسم تمكث بعد ثلاثة أشهر ونحوها خمسة عشر يوما ونحوه بعد ستة أشهر العشرين ونحوها، واختلف أصحابنا من التونسيين هل هو خلاف لقول مالك السابق أو هو تفسير له؟ وروى أشهب أن الحامل كغيرها والخلاف في الحامل أكثر من المعتادة ولولا الإطالة لذكرناه.

(وإذا انقطع دم النفساء وإن كان قرب الولادة اغتسلت وصلت):

قال ابن الحاجب: النفاس الدم الخارج للولادة قال ابن عبد السلام: وكان يلزم على طريقه في حد الحيض أن يقول غير زائد على ستين إلا أن يعتذر عنه بأن الخمسة عشر هناك على الأكثر على المشهور، والذي رجع إليه في النفاس أن يسأل عنه النساء فيمكن ذكر الزمان هناك ولم يكن هنا وفيه نظر، قلت وجه النظر الذي أشار إليه والله أعلم هو أن القول المرجوع إليه هناك أيضا العادة مع الاستظهار ما لم تبلغ خمسة عشر يوما، فلو كان المعتبر إنما هو القول المرجوع إليه لما قال في الحيض غير زائد على خمسة عشر يوما.

(1/77)

قال الجوهري: ويقال نفست بضم النون وفتحها في الولادة وبالفتح في الحيض فقط، وحكى الأصمعي وأبو حاتم الوجهين معا ولا خلاف أعلمه بين أهل العلم أنه إذا انقطع دم النفساء أنها تغتسل، وجملة نساء عوام إفريقية يعتقدون أنها تمكث أربعين يوميا ولو انقطع عنها الدم وهو جهل منهن فليعلمن.

(وإن تمادى بها الدم جلست ستين ليلة ثم اغتسلت وكانت مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ):

ما ذكر أنها تجلس ستين يوما هو قول مالك. قال مطرف: بذلك رأيته يفتي وقيل ما يراه النساء وإليه رجع مالك والقولان معا في المدونة، وقال ابن الماجشون: السبعون أحب إلي من الستين. قلت: وسمعت بعض من لقيته ممن يظن به حفظ المذهب ينقل غير ما مرة: أن بعض أهل المذهب حكى قولا في المذهب باعتبار أربعين ليلة. قال: وغاب عني ناقله وأكثر أهل المذهب إنما يعزون لأبي حنيفة.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب طهارة الماء والثوب والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

والمصلي يناجي ربه فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء أو بالطهر إن وجب عليه الطهر، ويكون ذلك بماء طاهر غير مشوب بنجاسة ولا بماء قد تغير لونه لشيء خالطه من شيئ نجس أو طاهر. انظر لأي شيء ذكر الشيخ في هذه الترجمة ما يجزئ من اللباس في الصلاة وذكر ذلك في الصلاة أمس ولذلك كرر الشيخ ذلك في جامع الصلاة. والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة.

وفي الاصطلاح قال المازري: إزالة النجس أو ما في معناه بالماء أو ما في معناه

(1/78)

واعترضه بعض شيوخنا بأن كلامه إنما يتناول التطهير، والطهارة غير التطهير لثبوتها دونه فيما لم يتنجس وفي المطهر بعد الإزالة. وأما الطهارة فهي صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أول فالأولان من خبث والأخير من حدث والطهورية توجب له كونه الموصوف بحيث يصير المزال به نجاسته طاهرا قال: فهي ثلاثة حقائق.

(إلا ما غيرت لونه الأرض التي هو بها من سبخة أو حماة ونحوهما):

إنما جاز الوضوء بماء السبخة والحماة ونحوهما لأن ذلك ملازم للماء فألحق بالمطلق لعدم الانفكاك فلابد من معرفة المطلق. قال ابن الحاجب: المطلق الطهور وهو الباقي على أصل خلقته واعترضه بعض شيوخنا بأنه ينتقض بماء الورد وشبهه ولا يجاب بإطلاق المطلق لأنه المعرف، واختلف المذهب فميا غير لونه ورق حشيش أو شجر غالبا على ثلاثة أقوال: فقيل إنه لا يضر قاله العراقيون وقيل عكسه قاله الأبياني وقيل يكره أخذا من قول السليمانية تعاد الصلاة بوضوئه في الوقت مراعات للخلاف، قلت في هذا الأخذ نظر، لأن المكروه لا تعاد منه الصلاة في الوقت وإنما يحمل هذا القول على أنه لا يجوز ابتداء ولكن تعاد الصلاة في الوقت مراعاة للخلاف، وكذلك اختلف في الماء المغير بحبل السانية على ثلاثة أقوال: فقيل إنه طهور.

قاله ابن زرقون وعكسه قاله ابن الحاج، وقيل بالأول إن كان تغيره غير فاحش قاله ابن رشد. وفي التغير بالملح ثلاثة أقوال: فقيل إنه لا أثر له قاله ابن القصار وعكسه قاله القابسي وقيل الفرق بين المعدني فالأول والمصنوع فالثاني قاله الباجي وزعم البلنسي أنه المشهور والكلام في هذا الفصل متسع جدا ومحله المدونة وابن الحاجب.

(وما غير لونه بشيء طاهر حل فيه فذلك الماء طاهر غير مطهر في وضوء أو طهر أو زوال نجاسة):

ما ذكره في الوضوء والطهر متفق عليه وفي النجاسة هو كذلك عند الأكثر وقيل إنها تزال بكل مائع، قال ابن الحاجب: وقيل كنحو الخل يريد كماء الورد وشبهه لا أنها تزال بالخل لأنه إدام.

قال ابن عبد السلام: وهذا القول هو القياس للاتفاق على عدم اشتراط النية، قلت ما ذكره من الاتفاق نقله ابن القصار بلفظ الإجماع وحكى القرافي عن التلخيص أنها تفتقر إلى نية. قال ابن العربي: ولو جففت الشمس موضع بول لم يطهر على المشهور.

(1/79)

(وما غيرته النجاسة فليس بطاهر ولا مطهر)

ظاهر كلام الشيخ: سواء كان التغير في اللون أو في الطعم أو في الريح، فأما الطعم واللون فالأكثر على أن من توضأ به يعيد أبدا، ونقل ابن زرقون عن ابن شعبان عن ابن القاسم أن من توضأ بماء تغير بموت دابة برية سائلة النفس فإنه يعيد في الوقت كذا نقله عن بعض شيوخنا وظاهر نقله وسياقه ولو تغير باللون أو الطعم وليس كذلك بل إنما نقله ابن زرقون في تغير الريح فقط، واختلف في تغير الريح على ثلاثة أقوال: فقيل إنه يؤثر.

وقال ابن الماجشون: لا أثر له وقيل بالأول إن تغير شديدا أخذ من قول سحنون أن من توضأ بماء تغير بما حل فيه تغيرا شديدا يعيد أبدا، وهذه الأقوال حكاها ابن رشد وقال عياض: أجمعوا على نجاسة ما غير ريحه نجس وضعف نقله بما سبق، وقال ابن بشير في قول ابن الماجشون: ولعل قصد التغيير بالمجاورة ورده غير واحد من شيوخنا وغيرهم بنقل الباجي عن ابن الماجشون إن وقعت فيه ميتة لم يضره إن تغير ريحه فقط.

(وقليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره):

ما ذكر من أنه نجس هو قول ابن القاسم وهو ظاهر المدونة عند بعضهم في قولها يتمم ويتركه، فإن توضأ به وصلى أعاد في الوقت، فقول المدونة يتيمم يقتضي أنه نجس وإنما قال يعيد في الوقت مراعاة للخلاف وقيل إنه مكروه.

قال ابن رشد وهو المشهور وتأول على المدونة أيضا لقولها يعيد في الوقت وقيل مشكوك فيه فيجمع بينه هو وبين التيمم، وهذا القول تأوله القاضي عبد الوهاب على المدونة أيضا وضعف لبعده من اللفظ وبه قال ابن الماجشون وسحنون وضعفه ابن رشد؛ لأن الشك في الحكم ليس بمذهب وإنما هو وقف غيره وإنما المشكوك ما شك في حلول النجاسة فيه.

قال ابن هارون: وفيه نظر لأن الشك في الحكم قد يكون لتعارض الأدلة عند المجتهد فيرى في المسألة بالاحتياط وقيل إنه طاهر من غير كراهة نقله اللخمي عن أبي

(1/80)

مصعب واعترضه ابن بشير بعدم وجوده وإنما الموجود الطهورية مع الكراهة لأن البغداديين قالوا بالكراهة ومعولهم رواية عن أبي مصعب قال ابن هاروبن: وهو ضعيف لأنه شهادة على النفي، وأيضا فإن أبا مصعب حكى عن مالك أنه قال: الماء كله طاهر ما لم يتغير أحد أوصافه معينا كان أو غير معين وظاهره نفي الكراهة.

وقال المازري: ذهب بعض من قال إن الماء طهور إلى الكراهة وهذا يدل على أن بعضهم لم يقل بالكراهة، ونقل هذا القول الإمام فخر الدين عن الحسن البصري والنخعي ومالك وداود قال: وإليه ما الغزالي في الإحياء، واختلف على القول بأنه مشكوك، فقيل يتوضأ ويتيمم لصلاة واحدة قاله ابن الماجشون ورواه ابن مسلمة وقيل بتيمم ثم يتوضأ لصلاتين قاله ابن سحنون.

(وقلة الماء مع أحكام الغسل سنة والسرف منه غلو وبدعة وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد وهو وزن رطل وثلث وتطهر بصاع وهو أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم):

قال ابن هارون: ظاهر كلام الشيخ في قوله السرف منه غلو وبدعة أن طرح الماء ممنوع، وهو خلاف المشهور من المذهب في الدجاج والأوز المخلاة أن الماء يراق بخلاف الطعام لاستجازة طرح الماء فظاهره جواز طرحه بغير سبب، قال: وقد يحمل جواز الطرح على ما حصل فيه شبهة كلاذي يشربه ما عادته استعمال النجاسة والمنع على ما كان من غيرسبب، قلت: لا معارضة بين قول الشيخ وغيره وإنما كان السرف منه بدعة فيما ذكر الشيخ لأنه إسراف في عبادة وقد جاء في الشرع التقليل من ذلك، وأما إراقة الماء لا في استعمال العبادة فذلك جائز اختيارا والله أعلم. وقوله وقد توضأ صلى الله عليه وسلم بمد إلى آخره المشهور من المذهب أن الواجب الإسباغ فمهما حصل الإسباغ ولو بأقل من المد فإنه يجزئ، وكذلك في الغسل بأقل من الصاع وقال ابن شعبان: لا يجزئ أقل من المد والصاع لأنه لا أحد أرطب من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(وطهارة البقعة للصلاة واجبة):

وكذلك طهارة الثوب فقيل إن ذلك فيهما واجب وجوب الفرائض وقيل

(1/81)

وجوب السنن المؤكدة اختلف المذهب في إزالة النجاسة على خمسة أقوال: فقيل أن ذلك واجب وليس بشرط وهذان قولان هما اللذان أرد الشيخ بقوله: فقيل إن ذلك فيهما إلخ، كذا فهمه غير واحد كابن الحاجب. والأقرب أن الشيخ إنما أراد بذينك الوجوب والسنة المؤكدة كذا فهمه وعليه حمله ابن هارون فهذه ثلاثة أقوال.

والرابع: أنه واجبة مع الذكر والقدرة ساقطة مع العجز والنسيان وهو ظاهر المدونة وقيل فضيلة حكاه ابن رشد في المقدمات، وزعم الشيخ عبد الحق في تهذيب الطالب أن المشهور من المذهب القول بالسنية وهو كذلك.

قال الشيخ أبو الحجاج الصنهاجي- أحد شيوخ الفاكهاني رحمهم الله- وهذا يعني النجاسة الظاهرة، واخلتف في النجاسة الباطنة كمن شرب خمرا ولم يسكر ففي كتاب ابن المواز اعتبار ذلك لأنه أدخله في جوفه اختيارا وقال التونسي لغو. قال الفاكهاني: وانظر لم جعل المؤلف البقعة أصلا وحمل طهارة الثوب عليه ولم يشرك بينهما بواو العطف؟! فيقول طهارة البقعة والثوب وربما كان طلب الطهارة في الثوب أكد منه في البقعة بدليل أنه يصلي على حصير بطرفه الآخر نجاسة لا تماس، ولا يصلي بثوب فيه شيء من النجاسة وإن لم تماس وانظر أيضا لم يذكر طهارة البدن وهو أيضا مشترط في صحة الصلاة؟ قلت لأن كلامه دل عليه من باب أحرى فلذلك لم يذكره، والله أعلم.

(وينهى عن الصلاة في معاطن الإبل ومحجة الطريق وظهر بيت الله الحرام):

قال المازري: خص ابن الكاتب النهي بالمعطن المعتاد وأما ما كان لمبيت ليلة واحدة فلا، لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم لبعيره في السفر. قلت: ورده بعض شيوخنا باحتمال كونه في غير معطن، وظاهر كلام الشيخ أن مرابض البقر والغنم الصلاة فيها جائزة وهو كذلك على المنصوص، وخرج بعضهم البقر على الإبل للتعليل بالنفور ورده عبد الوهاب لشدته في الإبل وخرجها بعضهم على الإبل على قول ابن القاسم الشاذ أن بول ما يؤكل لحمه وروثه نجس وهي رواية موسى بن معاوية الصمادحي حكاه ابن رشد.

وقوله: ومحجة الطريق قال ابن رشد قال ابن حبيب: ويعيد العامد والجاهل أبدا والساهي في الوقت، وأما المضطر للطريق فتجوز صلاته بها، وفي المدونة أكره الصلاة بما لما يقع فيها من أرواث الدواب وأبوالها وصلاة من صلى بها تامة ولو كان بها.

وقوله: وظهر بيت الله الحرام ظاهر كلام الشيخ أن الصلاة في الجوف جائزة وهو كذلك فسواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا قاله اللخمي.

(1/82)

وقيل: أما النافلة فجائزة وأما الفريضة فلا وهو المشهور فيحصل من هذا أن النفل لا خلاف في جوازه، وأما الفرض ففيه قولان وإلى هذا أشار ابن الحاجب بقوله: والمشهور جواز النفل في الكعبة لا الفرض يريد، والشاذ جواز الفرض كالنفل.

وقال ابن عبد السلام: الشاذ منع النفل كالفرض واعترضه بعض شيوخنا بأن تفسيره يرد بالنقل والفهم، أما النقل فإنه لم يقل بمنع النفل إلا داود، وأما الفهم فأن ابن الحاجب إنما أراد جواز الفرض كالنفل فإن صلى الفريضة في الكعبة فقال في المدونة يعيد في الوقت وحمل على الناسي.

وقال ابن حبيب: يعيد أبدا وقال أشهب: لا إعادة عليه وإن صلى فوق الكعبة فقيل يعيد أبدا وقيل لا إعادة عليه. وقيل إن أقام ساترا فكالصلاة في الجوف تعاد في الوقت وإلا فأبدا، وقيل: إن ترك بين يديه قطعة من سطحها فكالصلاة في الجوف نقله ابن شاس عن المازري عن أشهب وتبعه ابن الحاجب وابن عبد السلام ووهمهم بعض شيوخنا بأن المازري إنما عزاه لأبي حنيفة فقط.

(والحمام حيث لا يوقن منه بطهارة والمزبلة والمجزرة):

ظاهر كلام الشيخ إن أيقن بطهارته أن الصلاة فيه جائزة، وهو كذلك على مشهور المذهب، وقيل إن الصلاة فيه مكروهة نقله اللخمي عن القاضي عبد الوهاب المتقدم، وسمعت بعض من من لقيته من القرويين ممن تولى قضاء الجماعة بتونس يحكي أن الشيخ أبا القاسم بن زيتون لما قدم من الشرق إلى تونس سأله المنتصر أميرها عن الصلاة بالحمام فقال جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144]

وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وأجمعت الأمة على ذلك واعترضته بقول القاضي عبد الوهاب المتقدم فلا إجماع مع وجوده فلم يجيبني إلا بما لا يصلح أن يكون جوابا ويمكن أن يقال: إن المكروه من قبيل الجائز بالنسبة إلى صحة الصلاة على أن الذي ذكره في الحديث يمكن أن يكون مخصوصا وفي الترمذي ونهى عن الصلاة في سبعة فذكر منها الحمام والمسلخ، محمول على الطهارة حتى تظهر النجاسة، نص عليه القاضي ابن رشد.

(1/83)

(ومقبرة المشركين):

ظاهره أن مقابر المسلمين الصلاة فيها جائزة وهو قول ابن حبيب قائلا: إن مقبرة المشركين حفرة من حفر النار وألحق بمقابر المشركين مقابر المسلمين إذا نبشت لأجل النجاسة وقيل تكره الصلاة بالمقبرة مطلقا وقيل تجوز مطلقا، وقال عبد الوهاب: تكره في الجديدة ولا تجوز في القديمة إن نبشت إلا ببساط طاهر عليها.

(وكنائسهم):

إنما نهى عن الصلاة في الكنائس للنجاسة والصور؛ فإن وقعت الصلاة في الكنيسة العامرة فإن تحققت نجاستها فواضح وإن لم تتحقق فاختلف في إعادة الصلاة على ثلاثة أقوال: فقيل: تعاد وقتا قاله سحنون.

وقل مثله ما لم يضطر فلا يعيد وهو سماع أشهب وعزاه ابن رشد للمدونة أيضا وقيل يعيد العامد والجاهل أبدا والمضطر والناسي في الوقت قاله ابن حبيب، والصلاة في الكنيسة الدائرة من آثار أهلها جائزة باتفاق إن اضطر إلى النزول فيها وإلا كره وهو ظاهر قول ابن عمر.

ونقل المازري عن ابن حبيب أن من صلى ببيت كافر أو مسلم لا يتنزه من نجاسة يعيد أبدا، وسمع ابن القاسم لا بأس بالصلاة في مساجد الأفنية يدخلها الدجاج والكلام قال ابن رشد يريد ما لم يكثر دخولها.

(وأقل ما يصلي فيه الرجل من اللباس في الصلاة ثوب ساتر من درع أو رداء والدرع القميص):

اعلم أن ستر العورة عن أعين الناظرين لا خلاف في وجوبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الناظر والمنظور إليه"، وأما سترها في الخلو فالمعروف أن ذلك مستحب ولم يحك المازري غيره، وقيل إن ذلك واجب حكاه ابن شاس واختاره ابن عبد السلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم فاستحيوا منهم وأكرموهم".

وإذا فرعنا على القول الأول فقيل إنها تجب في الصلاة وقيل لا، وقال ابن بشير لا خلاف أن ذلك واجب وإنما الخلاف في الشرطية وعدمها، وانتقد على اللخمي حكاية الخلاف بالوجوب والسنية.

(1/84)

قال ابن هارون وهو منه تعسف؛ لأن من حفظ مقدم على من لم يحفظ وقد حكى ما ذكره اللخمي أبو القاسم بن محرز وابن رشد والباجي وغيرهم.

واختلف في عورة الرجل على ستة أقوال: فقيل سوأتاه خاصة قال أصبغ وقيل سوأتاه وفخذاه قاله ابن الجلاب.

وقيل في السرة إلى الركبة قاله جمهور أصحابنا نقله الباجي وقيل: من السرة حتى الركبة قاله بعض أصحاب مالك، وقيل السوأتان مثقلها وإلى سرته وركبتيه مخففها قاله الباجي، وقيل الفخذ عورة وليس كالعورة نفسها قاله أبو محمد في باب الفطرة وأخذ الأبهري من المدونة من كتاب الأيمان والنذور أن ستر جميع الجسد في الصلاة واجب.

(ويكره أن يصلي الرجل بثوب ليس على أكتافه منه شيء فإن فعل لم يعد):

لا معنى لقوله فإن فعل لم يعد مع قوله ويكره ويمكن على "يعد" أن يكون إنما ذكره لئلا يفهم منه أن تكون الكراهة للتحريم واختلف الشيوخ في تأويل الكراهة فقيل لأنه يصف.

وقيل لأنه من زي الأعاجم وضعف بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في جبة شامية ضيقة الأكمام وهي من زي الأعاجم، وما ذكره الشيخ من أنه لا يعيد هو المشهور مطلقا وقال أشهب: من صلى بسراويل فإنه يعيد قال ابن حارث والإزار مثله قلت إن كان نصا فمسلم وإلا فمشكل لأن السراويل تصف العورة.

(وأقل ما يجزئ المرأة من اللباس في الصلاة الدرع الحصيف السابغ الذي يستر ظهور قدميها وخمار تتقنع به وتباشر بكفيها الأرض في السجود مثل الرجل):

اعلم أن المرأة كلها عورة حتى دلاليها وقصتها قاله الباجي ما عدا الوجه والكفين وقيل وقدميها حكاه ابن عبد البر، فإن صلت عريانة الصدر أو الشعر أو القدمين أعادة في الوقت وقيل إنها لا تعيد مطلقا وقيل تعيد أبدا، وإلى هذه الأقوال الثلاثة أشار ابن الحاجب بقوله ورأس الحرة وصدرها وأطرافها كالفخذ للأمة على تفسير ابن عبد السلام، وأما إن صلت عريان اختيارا فالمنصوص تعيد أبدًا، وخرج اللخمي من قول أشهب في الرجل يعيد في الوقت أن تكون هي في ذلك مثله ورده بعض شيوخنا بأن تعريها أشنع، قلت ويجاب بأن الشناعة إنما بالنسبة إلى أعين الناظرين وأما في الصلاة فلا فرق بينها وبين الرجل والله أعلم. ونقل ابن هارون عن

(1/85)

أشهب أنها تصلي في الوقت ولا أعرف له نصا بل بالتخريج كما تقدم وفي المدونة، ومن تؤمر بالصلاة كالبالغة في الستر وروى اللخمي بنت إحدى عشرة سنة كالبالغة وبنت ثمان أخف إن صلت بغير قناع أعادت في الوقت وكذلك الصبي يصلي عريانا فإن صليا بغير وضوء أعادا أبدا قاله أشهب.

وقال سحنون يعيدان فيما قرب كاليومين والثلاثة، قلت وقول أشهب بعيد لأنه قلب النفل فرضا للاتفاق على أن من لم يبلغ إنما يؤمر بالصلاة تمرينا فكيف يعيدها بعد بلوغه على ظاهر قوله يعيد أبدا أرأيت إن كان لا يصلي أيقول يعيد أبدا فتأمله.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

الاستنجاء: غسل موض الخبث بالماء، والاستجمار: إزالة ما على المخرجين من الأذى بكل جامد طاهر منق ليس بمطعوم ولا بذي حرمة ولا بذي سرف ولا يتعلق به حق، لذي حق وسمي ذلك استجمارا من الجمار وهي الحجارة الصغار وقيل من الاستجمار بالبخور والحجر يطيب المحل مثل ما يطيب البخور، وقد يطلق الاستنجاء على الاستجمار أيضا.

(وليس الاستنجاء مما يجب أن يوصل به الوضوء لا في سنن الوضوء ولا في فرائضه وهو من باب إيجاب زوال النجاسة أو بالاستجمار لئلا يصلي بها في جسده ويجزئ فعله بغير نية وكذلك غسل الثوب النجس):

الضمير المجرور بحرف الجر وهو قوله به عائد على الماء لانجرار ذكره في الباب السابق ولو لم يجر له ذكر فللعلم به، ويقوم من كلام الشيخ أن من حلف ليتوضأ فغسل أعضاء الوضوء ولم يستنج أنه لا يحنث وهو واضح بناء على اعتبار الألفاظ، وأما على اعتبار المقاصد فأكثر العوام أو كلهم يعتقدون أن الاستنجاء من الوضوء فيجب أن يسألوا عن قصدهم.

وقوله يجزئ فعله بغير نية وكذلك غسل الثوب النجس قال ابن القصار: الإجماع على أن النجاسة لا تفتقر إلى نية، قلت وحكى القرافي عن التلخيص أنها تفتقر إلى النية، ورأى ابن عبد السلام أن قولهم تفتقر إلى نية يدل على أنها معقولة المعنى وقولهم لا تزال إلا بالماء المطلق عند أكثر العلماء يدل على أنها عبادة فهو تناقض، وما ذكر صحيح لا شك فيه وأوردته في كثير من دروس أشياخي فلم يقع عليه جواب إلا

(1/86)

بما لا يصلح.

(وصفة الاستنجاء أن يبدأ بعد غسل يديه فيغسل مخرج البول ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده ثم يحكها بالأرض ويغسلها ثم يستنجي بالماء يواصل صبه):

ما ذكر الشيخ من أنه يغسل يديه جميعا هو خلاف قول ابن الحاجب ويغسل اليسرى ثم محل البول ثم الآخر قال ابن عبد السلام: وهو أولى من قول الشيخ أبي محمد إذا لا موجب لغسل اليمنى لأن حكم الغسل إنما هو لتقليل الرائحة وذلك يحصل ببلها دون غسلها، وما ذكر الشيخ أنه يستنجي عند قضاء الحاجة صحيح إن كان يعلم فاعل ذلك أن مزاجه يقطع البول وإن لم يعلم فاعل ذلك أن مزاجه لا يقطع البول فلا بد من التربص حتى يتحقق قطعه، ومهما علقت رائحته بيده وعسر زوالها فذلك معفو عنه.

(ويسترخى قليلا):

إنما ذكر الشيخ ذلك ليكون أقرب لزوال النجاسة التي في غضون المحل وذلك أن المحل ذو غضون تنقبض عند مس الماء على ما تعلق به من الأذى فإذا استرخى تمكن من الإنقاء، وقيل ليتمكن بذلك من تقطير البول وغيره والوجهان حكاهما أبو عمران الحوراني، قلت: ولم أزل أسمع من غير واحد أن الشيخ لم يسبقه أحد إلى التنبيه على الاسترخاء.

(وليس عليه غسل ما بطن من المخرجين):

يريد ولا له ذلك لوجهين اثنين وهما: التعمق في الدين وخشية الضرر في جسده

(1/87)

قال التادلي: والصواب إفراد المخرجين إذ مخرج البول من الرجل لا يمكن غسل داخله.

(ولا يستنجي من ريح):

ظاهر كلامه النهي عن ذلك وهو كذلك وخرج بعض من لقيناه قولا بأنه يستحب الاستنجاء منه من قول مالك يستحب غسل يديه من نتف إبطيه وكنت أرد عليه بوجهين:

أحدهما: أن هذا التخريج فاسد الوضع لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من استنجى من ريح" قيل معناه ليس بهدينا ولا متبع لسنتنا.

الثاني: أن الجاعل يده تحت إبطيه لا يضطر إلى ذلك إلا عند زوال ما هنالك من الشعر، ولا يتكرر ذلك وخروج الريح أمر يتكرر لم يكن له جواب عن الأول ولأن هذا الحديث لم ينقله أهل الصحيح.

(ومن استجمر بثلاثة أحجار يخرج آخرهن نقيا أجزأه):

ظاهر كلامه أن من استجمر بدون الثلاثة وأنقى أنه لا يجزئه وبه قال ابن شعبان والمشهور الإجزاء، وعلى الأول ففي كون حجر ذي ثلاث شعب قولان، وفي إمرار كل حجر من الثلاثة على جميع المحل أول لكل جهة واحدة والثالث للوسط قولان وظاهر كلام الشيخ أن غير الحجر كالمدر لا يجزئ وهو قول موجود في المذهب، وتمسك قائله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار" فرأى أن هذه رخصة لا يقاس عليها غيرها والمشهور أنه كالحجر وظاهر كلامه الأحجار تجزئ وإن كان الماء موجودا، وهو كذلك خلاف لابن حبيب القائل أنها تجزئ إلا عند عدم الماء ولا شك أن الاستجمار يكفي في المعتاد كالبول، وكذلك رأى أبو عمر بن عبد البر حكم غير المعتاد من السبيلين.

وقال صاحب الطراز: جوز القاضي عبد الوهاب الاستجمار من القيح والدم وشبهه ويحتمل المنع، ونص القرافي على أنه لا يجزئ المرأة الاستجمار من البول

(1/88)

لتعدية محله لجهة المقعدة وكذلك الحصى، واختلف في المذي هل يكفي فيه الاستجمار أم لا؟ والمشهور لا يكفي.

(والماء أطهر وأطيب وأحب إلى العلماء):

يعني أن الاقتصار على الماء أحسن في الإجزاء من الاقتصار على الأحجار لأن الماء يزيل الأثر والعين، وليس مراده التكلم على أن الجمع بين الماء والأحجار أولى من الاقتصار على أحدهما لأنه سبق له ذلك قبل في قوله: وصفة الاستنجاء أن يبدأ إلى آخره ومن لم يخرج منه بول ولا غائط وتوضأ لحدث أو نوم أو لغير ذلك مما يوجب الوضوء فلابد من غسل يديه قبل دخولهما في الإناء.

اختلف العلماء في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء على ثلاثة أقوال: فقيل سنة وهو المشهور وهو الذي أراد الشيخ بقوله فلا بد، وقيل إن ذلك مستحب حكاه ابن رشد وحكى ابن حارث عن ابن غافق التونسي أن من أدخل يديه في ماء قبل غسلهما وهما طاهرتان فقد أفسد الماء وهو يدل على الوجوب. وقال ابن عبد السلام: اتفق المذهب فيما علمت أن غسل اليدين سنة ولذلك تأول ما ذكره الشيخ ابن الجلاب من الاستحباب بأنه عبارة العراقيين الذين يطلقون على السنة الاستحباب، قلت ويرد نقله بما تقدم من الخلاف وما ذكره من التأويل خلال ما ذكره أبو الطاهر بن بشير في شرحه على ابن الجلاب.

قال: حكي عن مالك الاستحباب وذكر القاضي عبد الوهاب أن ذلك سن واختلف هل غسلهما عبادة أو للنظافة؟ على قولين لابن القاسم وأشهب قال المازري: وأجرى عليهما الأصحاب إذا أحدث قرب غسلهما، قلت وهو قصور لاختلاف قول مالك في ذلك وأخذ ابن القاسم بالغسل وأشهب بعدمه نص على ذلك أبو الوليد الباجي ونبه عليه بعض شيوخنا، ونقل ابن رزقو عن مالك أنه يغسلهما مفترقتين وعن ابن القاسم مجتمعتين، قلت الجاري على أصل ابن القاسم أن غسلهما عبادة أن يغسلهما مفترقتين فهو تناقض منه وشاع في المذكرات أن أشهب يقول بقول مالك يغسلهما مفترقتين وأنه ناقض أصله ولم يقف المازري على النص السابق بل أجرى ذلك على ما سبق هل غسلهما للعبادة أو للنظافة؟

(ومن سنة الوضوء غسل اليدين قبل دخولهما في الإناء والمضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين وباقيه فريضة):

لما قال فلا بد من غسل يديه خاف أن يتوهم عنه أنه أراد الفريضة فنبه بما قاله

(1/89)

وما ذكر أن المضمضة والاستنشاق سنتنان هو المعروف من المذهب، وذكر الشيخ أبو الطاهر بن بشير في شرحه على ابن الجلاب قولا بأنهما فضيلتان ثم وقفت على مثله وفي عد الاستثنار سنة مستقلة خلاف.

قال التادلي: ومعنى قوله وباقيه فريضة أي باقي أفعال الهيئة، قال ولا يعترض برد اليدين لأنه زائد على الإيعاب الواجب قلت: أراد بقوله أفعال الهيئة أي ما يفعل من الأعضاء على طريق الاستقلال فالرد تبع لأن المسح قد حصل وكذلك وتجديد الماء للأذنين والترتيب فليسا بعضوين، فكأنه يقول وباقي الأعضاء فريضة واختلف في الترتيب على أربعة أقوال: فقيل سنة وهو المشهور وقيل فضيلة وقبل واجب وقيل فرض مع الذكرة والقدرة ساقط مع العجز والنسيان وكل هذا فيما بين الفرائض أنفسها، وأما فيما بين السنن والفرائض فإن ذلك مستحب وقيل سنة وأما تقديم الميامن قبل المياسر فلا خلاف أن ذلك فضيلة.

(فمن قام إلى وضوء من نوم أو غيره فقد قال بعض العلماء يبدأ فيسمي الله ولم يره بعضهم من الأمر المعروف):

اختلف في حكم التسمية على ثلاثة أقوال: فقيل فضيلة وهو المشهور وبه قال ابن حبيب، وقيل منكر وهو الذي أراد الشيخ بقوله ولم يره بعضهم من الأمر المعروف يعني بل ذلك من الأمر المنكر، وقيل إن ذلك مباح وكل هذه الأقوال عن مالك. ويظهر من كلام الشيخ أنه لم يقف على القولين اللذين ذكرا عن مالك لكونه عزا كل قول من قوليه لبعض وذلك يدل على التبري والله أعلم، وهذا المحل هو أحد الأمكنة التي التسمية فيها مطلوبة.

وكذلك الغسل والتيمم وذبح النسك وقراءة والقرآن والأكل والشرب والجماع قال القرافي: بعد ذكر ما قلنا وتارة تكره التسمية كعند الأذان والحج والعمرة والأذكار والدعاء وتارة تحرم التسمية وذلك عند فعل المحرمات.

(وكون الإناء على يمينه أمكن له في تناوله):

صرح ابن رشد أن كون الإناء على اليمين فضيلة والمراد إذا كان واسعا، وأما الضيق فكونه على اليسار أمكن له قاله عياض عن اختيار أهل العلم، قلت وكان بعض من لقيناه يحمل على الشيخ أنه لم يرد الفضيلة وإنما جعله من باب الإمكان. ومن الفضائل أن يبدأ بمقدم رأسه وأن يبدأ باليمين والسواك وتكرار المغسول ثلاثا في قول

(1/90)

الشيخ عبدالسلام بن غالب المسراتي في وجيزه وأن لا يتكلم حالة الوضوء. (ويبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن كان قد بال أن تغوط غسل ذلك منه ثم توضأ):

لم يزل أشياخنا بأجمعهم ينبهون على أن غسل اليدين الذي هو سنة إنما هو بعد الاستنجاء لا قبله نص عليه المتيوي، وهو واضح لأن الاستنجاء ليس من الوضوء بوجه كما تقدم، فإذا عرفت هذا فقول الشيخ فإن كان قد بال أو تغوط غسل ذلك منه جملة اعتراضية والله أعلم.

(ثم يدخل يده في الإناء فيمضمض فاه ثلاثا من غرفة واحدة إن شاء أو من ثلاث غرفات):

حقيقة المضمضة غسل باطن الفم بنية، وما ذكر أنه بالخيار بين أن يمضمض ثلاثا من غرفة واحدة أو يفعل ذلك من ثلاث غرفات. وذكر بعد ذلك أن له جمع المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة وهو كذلك.

واختلف أيهما أولى فقيل يفعل المضمضة والاستنشاق بغرفة ثم يفعلهما من غرفة ثانية ثم يفعلهما من غرفة ثالثة، وقيل الأولى لكل واحدة ثلاثا، وكلا القولين حكاه الباجي عن الأصحاب فيما فهم من قول مالك في الموطأ. وقال ابن الحاجب: الاستنشاق بغرفة ثلاثا كالمضمضة أو كلاهما بغرفة قال ابن عبد السلام: في صحة اختيار الصورة الثانية نظر والمعروف جوازها، وأما اختيارها فليس بصحيح وإنما صرحوا باختيار النهاية والله أعلم.

(وإن استاك بإصبعه فحسن):

حكم السواك مندوب إليه بمعنى الفضيلة واختار بعض شيوخنا أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته صلى الله عليه وسلم والأمر به وإظهاره، وقال أحمد بن حنبل وغيره إنه فرض وقال الفخر في معالمه الإجماع على أنه مندوب إليه واعترضه ابن هارون بما سبق لأحمد بن حنبل مع غيره، وروى ابن العربي يكون بقضيب الشجر وأفضله الأراك وكرهه بعضهم بذي صبغ لأجل التشبه بالنساء وضعفه ابن العربي بجواز الاكتحال وفيه التشبيه بهن، ورده بعض شيوخنا لكراهة مالك الاكتحال لذلك أيضا وفي إجزاء المضمضة بغسول قولان لابن العربي وغيره، وفي سماع ابن القاسم من لم يجد سواكا فإصبعه يكفي قال ابن عبد السلام: وظاهر كلام الشيخ أبي محمد أن الإصبع كغيره ولو

(1/91)

قيل إنه عنده الأصل ما بعد قلت قيد كلامه التادلي بأنه أراد مع فقد غيره وكلام الشيخ قابل للتقييد فحمله على ما قال التادلي أولى من حمله على العموم. وفي الإصبع عشر لغات تحريك الباء بثلاث حركات مع فتح الهمزة وبالثلاثة مع ضمها وبالثلاثة مع كسرها والعاشرة أصبوع والعوام عندما بإفريقية يقولون صبع وهو لم ينقل عن أهل اللغة.

(ثم يستنشق بأنفه الماء ويستنثره ثلاثا يجعل يده على أنفه كامتخاطه ويجزئه أقل من ثلاث في المضمضة والاستنشاق وله جمع ذلك في غرفة واحدة والنهاية أحسن):

قال عياض في الإكمال والحكمة في تقديم المضمضمة والاستنشاق على الوجه اختبار رائحة الماء وطعمه لكونه مشاهدا بالعين فجعل هذا أول الوضوء لئلا يبتدئ بما لا يجوز، وقال ابن الحاجب: الاستنشاق أن يجذب الماء بأنفه ويستنثره بنفسه وإصبعه واعترضه ابن عبد السلام بأن حقيقته إنما هي في جذبه خاصة ولذلك ما عد غير واحد الاستنثار سنة أخرى قلت كلامه عندي معترض من وجهين:

أحدهما: إن قوله ولذلك ما عد غير واحد الاستثنار سنة أخرى ينافي ما ذكره في حقيقته إلا أن تحمل ما من قوله ما عد زائدة الثاني: إن حكم الاستنثار مختلف فيه وقد علمت أن مثل هذا لا يعترض به وإنما يعترض بمسألة متفق عليها، واختلف إذا ترك المضمضة والاستنشاق وصلى على أربعة أقوال: فقيل يعيد في الوقت ساهيا كان أو عامدا وهو اختيار اللخمي وقيل لا إعادة مطلقا حكاه غير واحد. وقيل يعيد العامد في الوقت والناسي لا يعيد.

قال ابن القاسم في سماع يحيى وقيل يعيد العامد في الوقت أبدا خرجه ابن رشد على من ترك سنة عامدا وزعم الاتفاق على أن الناسي لا يعيد مطلقا قلت ويرد تخريجه بأن سنة الصلاة أقوى لأنها المقصود والوضوء وسيلة.

(ثم يأخذ الماء إن شاء بيديه جميعا إلى آخره):

ظاهر كلام الشيخ أن نقل الماء باليد شرط وهو ظاهر كلام ابن حبيب وعزاه ابن رشد لابن الماجشون وسحنون، وقيل إنه لا يشترط بل إنما المطلوب إيقاع الماء على سطح الوجه كيفما أمكن ولو بميزاب وهذا القول هو المشهور، وأخذ من قول ابن القاسم من مسألة خائض النهر ولم يحفظ ابن عبد السلام غير الثاني.

واختلف إذ ألقى رأسه إلى رش ماء ومسحه بيده، فقال ابن عبد السلام:

(1/92)

المنصوص أنه لا يكفيه وغلط فيه بعض المتأخرين، قلت واعترضه بعض شيوخنا بقول ابن رشد يجزئ عند ابن القاسم وأجمعوا على إجزاء انغماس الجنب في الماء ودلكه فيه وناقل الإجماع المذكور ابن رشد، وانظر هل هو مما يرجح المشهور أم لا وظاهر كلام المصنف أن التدلك واجب وهو المشهور. وقيل لا يجب وقيل يجب لإيصال الماء إلى العضو لا لذاته.

قال ابن عبدالسلام: وأضرب ابن الحاجب عن الثالث ورأى أنه يرجع إلى الثاني وعده غيره ثالثا، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يأخذ شيئا من شعر الرأس وهو كذلك لأنه أراد منابت الشعر المعتاد وهو أحد نقلي شيوخنا وهما جاريان على اختلاف الأصوليين فيما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا؟ ومنه اختلاف أهل المذهب هل يجب إمساك جزء من الليل أم لا بالنسبة على الصوم، واختلف المذهب في ما بين العذار والأذن هل يجب غسله أم لا؟ على أربعة أقوال والمشهور وجوبه وقيل لا يجب وقيل يجب فيمن لا شعر له وقيل سنة، قاله عبد الوهاب واعترضه ابن هارون بأنه صلى الله عليه وسلم كان يغسله وهو عندي ضعيف لأن فعله أعم من كونه واجبا أو سنة وقد علمت أن الوجه مأخوذ من المواجهة وما بين العذار إلى الأذن لا يواجه.

(ويمر يديه إلى آخره):

ما ذكره أنه يمر يديه على ما غار من ظاهر أجفانه صحيح وكذلك يجب عليه أن يمد يديه على ظاهر شفتيه ونص عليه اللخمي.

(1/93)

(وليس عليه تخليلها في الوضوء في قول مالك):

قال المغربي: ظاهر كلام الشيخ أنه يستحب له التخليل لأنه إنما نفى الوجوب وهو خلاف ظاهر المدونة قال فيها ويمر يديه عليها من غير تخليل فظاهرها كراهة التخليل، قلت الأقرب أن الشيخ إنما أراد كراهة ذلك لأن الاستحباب لم يقل به مالك فيما قد علمت وإنما هو قول ابن حبيب حسبما يأتي إن شاء الله.

واختلف في تخليلها في الوضوء على ثلاثة أقوال: فقيل: إن ذلك مكروه وهو ظاهر المدونة والعتبية وبه قال ربيعة.

وقيل مستحب قاله ابن حبيب في واضحته، وقيل تخليلها واجب قال مالك في روايتي ابن وهب وابن نافع وبه قال ابن عبد الحكم، وكل هذا الخلا في اللحية الكثيفة وأما الخفيفة التي لا تستر البشرة فإنه يجب إيصال الماء إليها وإذا قلنا بوجوب التخليل فقيل إلى داخل الشعر فقط رواه ابن وهب وبه قال بعض شيوخ المازري.

وقيل لابد من وصوله إلى البشرة نقله المازري عن الحذاق وقول الشيخ في قول مالك إشارة لعدم ارتضائه لذلك كقول ابن الحاجب، والمذهب وظاهر كلام الشيخ أنه يخلل في الغسل وبه الفتوى عندنا لعدم المشقة بخلاف الوضوء لتكرره.

(ويجري عليها يديه إلى آخره)

ظاهر كلام الشيخ ولو طالت، وهو كذلك وعزه ابن رشد لمعلوم المذهب وقيل لا يجب فيما طال منها، قاله مالك في رواية ابن القاسم وبه قال الأبهري. واختلف هل يجب غسل محل اللحية إذا سقطت أم لا؟ على قولين ومن هذا المعنى إذا حلق رأسه أو قلم أظفاره فقال في المدونة هو لغو وقال عبدالعزيز وابن الماجشون يعيد المسح واختار اللخمي أن وضوءه ينتقض، حكاه عياض وابن يونس عن عبدالعزيز أيضًا، وأسقط البرادعي من المدونة تقليم الأظفار ونقله ابن يونس عنها وكذلك سلم ابن عبد السلام وغيره قول ابن الحاجب، وفيها لو حلق رأسه وقلم أظفاره لم يعد ونص

(1/94)

اللخمي على أن من قطعت بضعة من لحمه فإنه يغسلها أو يمسحها إن عجز ورأى بعض الشيوخ أن قول المدونة في حلق الرأس خلافه.

(ثم يغسل يده اليمنى إلى آخره): انظر لأي شيء خير في غسل يديه مرتين أو ثلاثا ولم يخير في الوجه والرجلين والبداءة بالميامن قبل المياسر لا خلاف أنها مستحبة لأنهما كالعضو الواحد، ولذلك لما استدل مالك على من قال بوجوب الترتيب بقوله وقد قال علي وابن مسعود: ما نبالي بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا ولم يرتضه كل من لقيناه لأنه لم يمس المحل إذ لم يقل أحد بوجود ذلك إذ هما كالعضو الواحد.

(ويخلل أصابع يديه إلى آخره):

واختلف في تخليل أصابع اليدين على ثلاثة أقوال: فقيل إن ذلك واجب قاله مالك وابن حبيب وقيل مستحب قاله ابن شعبان، وقيل إن ذلك منكر قاله مالك أيضًا.

قال ابن الحارث عن ابن وهب رجع ابن مالك من إنكاره إلى وجوبه لما أخبرت بحديث ابن لهيعة، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصابعه في الوضوء". قلت: رجوع مالك إلى الوجوب لتخليله صلى الله عليه وسلم فيه نظر، إذ تخليله أعم عن الوجوب والندب، ورجوع مالك إلى ما قال ابن وهب إشارة إلى مكانته في الحديث وهو كذلك وقد قرأ رضي الله عنه على أربعمائة عالم ومع ذلك كان يقول لولا مالك والليث لضللت.

واختلف في إجالة الخاتم على ثلاثة أقوال: فقيل يجال وقيل لا يجال وقيل بالأول في الضيق وقال ابن عبد الحكم: ينزع فقيل إنه خلاف قول مالك وأصحابه، وقال ابن بشير يحتمل الوجوب والاستحباب، قلت: وكان بعض من لقيناه يقول كل هذا الخلاف إنما هو إذا لم يقصد بلباسه المعصية. وأما لو قصد ذلك فالاتفاق على النزع وما ذكره لا أعرفه وأصول المذهب تدل على الخلاف عموما، ألا ترى أن المسافر العاصي اختلف فيه هل يجوز له أن يقصر أم لا؟ وهل يمسح على خفيه أم لا؟ وهل يباح له أكل الميتة أم لا؟.

(ويبلغ فيهما بالغسل إلى المرفقين يدخلهما في غسله وقد قيل إليهما حد الغسل فليس بواجب ادخالهما فيها وادخالهما فيه أحوط لزوال تكلف التحديد):

القول الأول بدخول المرفقين وجوبا هو المشهور والقول بعدم ادخالهما رواه

(1/95)

ابن نافع من مالك وهو قول أبي الفرج أيضًا. وقول الشيخ: وإدخالهما فيه أحوط أراد به قولا ثالثا بالاستحباب ومثله للقاضي عبد الوهاب وغيره، ولو نبت ذراع في ذراع لوجب غسلهما ولو نبت في العضو ولم يمتد إلى الذراع الأصلية لم يجب، وإن امتد إليه وجب غسلهما نقله عبد الحميد الصائغ عن بعض الأئمة.

قال عبدالحميد: وفيه نظر، وذكر في السليمانية أن من خلقت كفه بمنكبه بلا عضد ولا ساعد أنه غسل ذلك الكف وأن من خلق بلا يدين ولا رجلين ولا ذكر ولا دبر ويتغوط ويبول من سرته أنه يغسل مكان الأذى ويفعل من فرائض الوضوء وسنته ما يتعلق بوجهه ورأسه خاصة.

وقيل فيها في امرأة خلقت من سرتها إلى أسفل خلقة امرأة وإلى فوق خلقه امرأتين تغسل محل الأذى وتغسل الوجهين فرضا وسنة وتمسح الرأسين وتغسل الأيدي الأربع والرجلين قبل أفتوطأ هذه المرأة؟ قال: نعم وتعقبه عياض أنهما أختان، قلت ومنع بعض شيوخنا قوله إنهما أختان لوحدة منفعة الوطء لاتحاد محله.

(ثم يأخذ الماء بيده اليمنى إلى آخره):

ما ذكره الشيخ من الصفة هو المشهور في المذهب وقيل يبدأ من ناصيته ذاهبا إلى مقدم رأسه ثم إلى قفاه ثم إلى ناصيته حكاه الباجي عن أحمد بن داود من أصحابنا قلت: وحكاه أبو عمران الفاسي من رواية علي قال ما نصه: رأيت بخط ابن التبان أن علي بن زياد روى عن مالك ما تأول بعض الناس في أن معنى بدأ من مقدم رأسه أنه بدأ من الناصية، قال وما رأيته لغيره ولو كانت الرواية صحيحة لنقلها ابن عبدوس ولقد أرانا الشيخ أبو علي حسان صفتين ذكر أن أبا محمد بن الحجاج وصفهما له، إحداهما ما في رواية علي والأخرى أن يبدأ بمقدم رأسه.

قلت: وصفة ابن الجلاب ثالثة، وخارج المذهب قول بأنه يبدأ من المؤخر مقبلا إلى المقدم ثم يرجع إلى المؤخر، قال ابن عبد السلام: المشهور أنه يبدأ من المقدم وقيل من وسط رأسه وقيل من مؤخره. قلت: ظاهره أنه في المذهب ولا أعرفه والبداءة من مقدم الرأس فضيلة وقيل سنة حكاه ابن رشد وظاهر كلام الشيخ أنه لا يأخذ شيئا من الوجه، والكلام فيه مثل ما تقدم في الوجه ومنتهى الرأس الجمجمة. وقال ابن شعبان

(1/96)

آخر شعر القفا المعتاد وقال اللخمي ليس بحسن.

(وكيفما مسح أجزأه إلى آخره):

ظاهر كلام الشيخ أنه إن ترك بعضه وإن قل فلا يجزئه وهو كذلك عند مالك وقال محمد بن مسلمة يجزئ ثلثاه، وقال أبو الفرج الثلث. وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأه وعنه إن لم يعم رأسه أجزأه. قال ابن عبد السلام: وانظر هل أراد بقوله هذا مثل قول الشافعي في ثلاث شعرات في قول أو بعض شعره في قول لكن قوله إن لم يعمم رأسه ظاهر في أنه لا بد من جزء معتبر، قلت: وكان بعض من لقيته يحكي عن ابن عطية أن هذا الخلاف إنما هو إذا وقع المسح من مقدم الرأس.

وأما إذا وقع من غير ذلك فلا يجزئه اتفاقا ويمرضه أن الاتفاق على البداءة بمقدم الرأس وليست بفرض وإذا كان كذلك فلا فرق في الحقيقة بين البداءة بمقدم الرأس وغيره ويرد بأن قول ابن عطية كل هذا الخلاف إلى آخره يقتضي أنه وقف لهم على النص بذلك فتكون البداءة بمقدم الرأس التي ليست بفرض اتفاقا إنما هي حيث التكملة أما حيث الاقتصار على البعض فلا. قال ابن عبدالسلام: كل هذا الخلاف إنما هو بعد الوقوع وكان بعض أشياخي يحكي عن بعض الأندلسيين أن الخلاف فيه ابتداء ولم أقف عليه.

(ولو أدخل يديه في الإناء إلى آخره):

يريد وكذلك لو نصبهما على الماء ومسح لأجزأه، واختلف إذا جف بلل اليدين قبل استيعابه فقيل يجدد رواه ابن حبيب في المرأة وسمعه أشهب فيها وفي الرجل، وقيل إنه لا يجدد قاله إسماعيل القاضي وهو ظاهر قول ابن القاسم إن مسحها بإصبع واحدة أجزأه وقيد عبد الحق قول ابن القاسم هذا فقال يريد ويستأنف وأطلقه اللخمي كما قلنا واختلف في غسل رأسه في الوضوء فقال ابن شعبان يجزئه.

قال ابن سابق وأباه غيره وكرهه آخرون فقول ابن شعبان يجزئه إنما هو بعد الوقوع والنزول وليس في المذهب نص بجوازه ابتداء. وقال ابن الحاجب: وغسله ثالثها يكره قال ابن عبدالسلام: فظاهر هذا النقل فيه قولا بالجواز ابتداء، وفي وجوده في المذهب عندي نظر فهو قد أشار إلى أن المنقول في المذهب كما صرحنا به والله أعلم.

(1/97)

(ثم يفرغ الماء على سبابتيه وإبهاميه إلى آخره):

قال ابن الحاجب: ظاهرهما بإبهاميه وباطنهما بإصبعيه، قال ابن عبد السلام: لو قال بسبابتيه بدلا من قوله بإصبعيه لكان أحسن كما أشار إليه ابن أبي زيد لأن المسح بالبسابتين أمكن منه بغيرهما، قلت إنما أراد ابن الحاجب بالإصبعين السبابتين نعم لو صرح به لكان أولى. واختلف المذهب في تجديد الماء للأذنين على ثلاثة أقوال: فقيل مستحب قاله مالك وقيل سنة على ظاهر قول ابن الحاجب فتركه كتركهما.

وقال محمد بن مسلمة إن شاء جدد وإن شاء لم يجدد، وقال ابن عبد السلام: تجديد الماء لهما فيه قولان منصوصان قلت لا أعرف من نص على أنه لا يجدد، وأما مسح الأذنين ففيه طريقان: منهم من يعمم الخلاف ويذكر على المشهور أن مسحهما نفل وعن ابن مسلمة والأبهري أن ذلك فرض.

قال عبد الوهاب داخلهما سنة وفي فرض الظاهر قولان وفي كون الظاهر ما يلي الرأس أو ما يواجهه قولان ذهب إلى الأول ابن سابق وغيره، وذهب إلى الثاني بعضهم والطريق الأخرى سلكها ابن الحاجب، وفي وجوب ظاهرهما قولان وظاهرهما ما يلي الرأس وقيل ما يواجه، وإذا تأملت كلامه تجد فيه التناقض لأن أول كلامه يقتضي أن الباطن لا خلاف أنه سنة وتفسيره الظاهر بأنه مما يلي الوجه يقتضي أن فيه قولا بالوجوب والله أعلم، وفي المدونة: والأذنان من الرأس فحملها اللخمي على ظاهرها من الوجوب وهو ظاهر كلام ابن الحاجب وقال ابن يونس يريد في الصفة لا في الحكم.

(ولا تمسح على الوقاية إلخ):

يريد وكذلك الرجل لا يمسح على العمامة وهذا مع الاختيار وأما مع الاضطرار فجائز. قال ابن حنبل يجوز ذلك اختيارا ووافقه على ذلك جماعة من أصحابه بالإطلاق وفرق بعض أصحابه بين أن يكون لها حنائك أم لا، فإن كان لعذر فجائز كالخف واحتج أحمد ابن حنبل بأنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة وحمله بعض أصحابنا على احتمال أن يكون لعذر، وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنه أقرب وهو الذي يميل إليه بعض أصحابنا لأن الأصل عدم الأعذار وكونه صلى الله عليه وسلم دوام على غيره لا يدل على قول أهل المذهب لأن مداومته تدل على أن فعله لذلك مرة واحدة يؤذن بالإباحة.

(1/98)

(ثم يغسل رجليه إلخ): ما ذكر الشيخ أن الرجلين يغسلان هو مذهبنا ومذهب العلماء المفسرين، وما ذكر من غسلهما ثلاثا مثله في الجلاب وهو ظاهر قول ابن الحاجب في الفضائل، وأن يكون المغسول ثلاثا أفضل فظاهره مدخول الرجلين في ذلك والمنصوص لغير من ذكرنا لا تحديد في ذلك، وحمل غير واحد ما ذكرناه على الخلاف والصواب عندي أنهما يرجعان إلى قول واحد وأن معنى قول الشيخ ومن ذكر معه إذا كانتا نقيتين، ومعنى قول غيرهما إذا كانتا وسختين لقول الإمام المازري في شرح الجوزقي إذا كانتا نقيتين فكسائر الأعضاء يطلب فيهما التكرار وإلا فلا تحديد إجماعا.

(وإن شاء .. إلخ):

اختلف في تخليل أصابع الرجلين على خمسة أقوال: الوجوب والندب والإنكار والرابع الإباحة وهو الذي ذكره الشيخ ولم أره لغيره والخامس تخليل ما بين الإبهام والذي يليه خاصة وبه كان شيخنا أبو محمد عبد الله الشبيبي يفتي إلى أن مات، ووجهه أنه لا جرح فيه لانفراجه بخلاف بقية الأصابع لأن تخليلها من باب الحرج المسقوط عن هذه الأمة، ويقول شيخنا هذا أقول والقول بالندب ذهب إليه ابن حبيب فهو قائل بالوجوب في اليدين والفرق بينهما من ثلاث أوجه:

إحداهما: ما أشرنا إليه من انفراج أصابع اليدين بخلاف الرجلين.

الثاني: أن اليدين لم يختلف في أن فرضهما المسح أو الغسل أو التخيير.

الثالث: أن الرجلين يسقط فرض غسلهما بالمسح على الخفين ويسقطان في التيمم واليدين بخلاف ذلك لأنهما لا بد من غسلهما في الوضوء ومسحهما في التيمم.

(فإنه جاء الأثر إلخ):

قال ابن الصلاح: الفقهاء يطلقون الأثر على ما جاء عن الصحابي، والخبر على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقول الشيخ معترض على هذا ونبه عليه بعض من شرح كلام الشيخ وهو عندي بمنجاة منه لأن هذا الإطلاق إنما هو عرف المتأخرين، وأما المتقدمون فلا فرق عندهم في ذلك بين الأثر وبين الخبر، ألا ترى إلى قوله في المدونة: وقدا ختلفت الآثار في التوقيت فقد أطلق على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن المحدثين يطلقون الأثر عليهما فلعل الشيخ سلك طريقهم في ذلك والأمر خفيف، قال عياض

(1/99)

والويل كلمة تقال لمن وقع في الهلاك وقيل لمن يستحق الهلاك وقيل الهلاك نفسه وقيل مشقة العذاب وقيل الحزن وقيل واد في جهنم.

(وليس عليه تحديد غسل أعضائه ثلاثا ثلاثا بأمر لا يجزئ دونه إلخ):

اعلم أنه لا خلاف أن الغرفة الأولى إذا أسبغ بها واختلف في الثانية والثالثة على خمسة أقوال: فقيل فضيلتان وقيل سنتان وقيل الأولى سنة والثانية فضيلة وهذه الأقوال الثلاثة حكاها عياض عن شيوخه.

وقيل عكس الثالث نقله شيخنا أبو محمد عبدالله الشبيبي وغيره من متأخري القرويين وبه قال بعض متأخري التونسيين أيضًا. وكان بعض من لقيناه يوجهه بأن فيه الحرص على تحصيل الفضيلة لكون السنة متأخرة فالغالب عدم تركها بخلاف القول الذي قبله، فإذا حصلت السنة بالغرفة الثانية فقد يتهاون بالفضيلة، وحكى الإسفراييني عن مالك وجوب الغرفة الثانية ولا يقتصر على الغرفة الواحدة.

قال المازري: للحض على الفضلة والعامة لا تكاد تستوعبه بالواحدة ولذلك روى ابن زياد إلا من العالم قال وهذه هي التي غرت الإسفرايني في نقله عن مالك وجوب الغرفة الثانية، وأما الرابعة فقال ابن بشير لا تجوز بإجماع قال ابن الحاجب: تكره الزيادة وقال ابن عبدالسلام: وربما فهم من أبحاثهم التحريم.

قلت وظاهر كلامه أنه حمل الكراهة على بابها والصواب حملها على ما قال ابن بشير المراد بذلك التحريم.

وقال ابن الجلاب: والفرض في تطهير الأعضاء مرة مرة والفضل في تكرير مغسولها ثلاثا ثلاثا، وفي كلامه رحمه الله مناقشة لفظية وهي أن كلامه يوهم أن الرابعة فضيلة لقوله والفضل إلخ فهو أمر زائد على الفرض ولم يرد ذلك.

واختلف إذا شك هل هي ثالثة أو رابعة فقيل إنه يفعلها كركعات الصلاة.

وقيل لا لترجيح السلامة من ممنوع على تحصيل الفضيلة، قلت وهذا هو الحق عندي وبه أدركت كل من لقيته يفتي، وخرج المازري على هذين القولين صوم عرفة لمن شك في كونه عاشرا.

قال ابن بشير في شرحه على ابن الجلاب قيل له ما تختار من القولين حفظك الله؟ قال الصوم قيل له بناء على استصحاب الحال؟ قال نعم.

(1/100)

(وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ" إلخ):

(1/101)

المراد بقوله: "فأحسن الوضوء" تحصيله بفرائضه وسننه وفضائله ورفع الطرف وهو النظر إلى السماء لأنها قبلة الدعاء ولأنها أعظم المخلوقات المرئية لنا في الدنيا فيشغل بصره بها ويعرض بقلبه عن كون الدنيا فيكون ذلك أدعى لحضور قلبه لا لغير ذلك والمراد بتفتيح أبواب الجنة الحقيقة.

وقيل المراد به الطاعات قلت وهو عندي تقريبي والأصل الحقيقة ولا مانع يمنع من ذلك والقولان حكاهما غير واحد كالتادلي، وظاهر الحديث أن هذا الشرف العظيم يحصل بفعل مرة واحدة وهو اللائق بفضل مولانا سبحانه وتعالى ولا معارضة بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم "إن في الجنة بابا يقال له باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخل آخرهم أغلق" لأن التخيير لا يستلزم الدخول منه قال التادلي: بعد أن ذكر الحديث أنه معارض، وفرق آخر وهو أن المتوضئ المحسن يوفق حتى يكون من أهل الصوم قلت والأقرب هو الأول وقد رأيت كثيرًا ممن يحسن الوضوء جدا لا يصوم غير الفرض إلى مماته وكذلك العكس ويعرف الإنسان هذا من نفسه.

(وقد استحب بعض العلماء إلى آخره):

سمعت من بعض من لقيته يذكر أن الشيخ أراد بقوله بعض العلماء ابن حبيب وكذلك مهما ذكره وما ذكره نص عليه التادلي في باب ما يفعل بالمحتضر وفي نفسي منه شيء فتأمله.

(1/102)

(ويجب عليه أن يعمل إلى آخره):

لا شك أن الشيخ جرى على الترتيب الوجودي في هذا الباب وهو حسن في التأليف وما عدا هذا المحل فإن محله إما عند غسل اليدين وإما عند غسل الوجه على الخلاف المعلوم في محل النية لأن كلامه راجع إليها. وما ذكر الشيخ من أن النية في الوضوء فرض هو المشهور. وحكى المازري قولان أنه لا يفتقر إليه وخرجه في الغسل.

قال ابن هارون: ويحتمل أن يفرق بأن الوضوء قد يتلمح فيه معنى النظافة لاختصاصه بالأعضاء التي لا تخلق من وسخ ودون ذلك يناسب عدم الافتقار إلى النية بخلاف أعضاء الغسل، وأما التيمم فاتفق المذهب على النية فيه، وقال الأوزعي لا يفتقر إليها، وقال ابن الحاجب: والإجماع على وجوب النية في محض العبادة، قال ابن عبد السلام: كالصلاة والتيمم ويعترض تمثيله بما تقدم إذ عادة ابن الحاجب إذا قال بإجماع أراد به سائر أهل العلم بخلاف الاتفاق، واختلف إذا تقدمت النية على الوضوء بالزمان اليسير على قولين، قال البلنسي: والصحيح البطلان.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الغسل

قد تقدم أنه يقال بفتح الغين وضمها وفرائضه النية على المنصوص، واستيعاب جميع البدن بالغسل إجماعا وبالدلك على المشهور والموالاة كالوضوء، وسنته أربع: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء والمضمضة والاستنشاق ومسح الصماخين وفي تخليل اللحية روايتان: فقيل فرض وقيل لا. وفضائله خمسة: التسمية والسواك والبداءة باليمين قبل الشمال وبالأعلى قبل الأسفل وتقديم الوضوء قبله.

(أما الطهر فهو من الجنابة ومن الحيضة والنفاس سواه):

قال عياض عن الأزهري معنى الجنابة: البعد فإن من أجنب فقد قصي عن مواضع القرب، وقال الشافعي معناه المخالطة من قولهم أجنب الرجل إذا خالط امرأته وهو ضد الأول لانه القرب يريد الشيخ بقوله سواء في الصفة ويلحق بذلك سائر الاغتسالات الشرعية، ولم يرد بذلك التكلم على الحكم لأن ذلك سبق له بزيادة دم الاستحاضة.

(1/103)

(فإن اقتصر إلى آخره):

قال ابن عبد السلام: لا خلاف فيما قد علمت في المذهب أنه لا فضل في الوضوء بعد الغسل وإنما اختلف في سقوط الوضوء تقديرا أو يقدر الآتي بالغسل آتيا بالوضوء معه حكما، قلت: ما زعم من الاتفاق يرد بنقل الباجي عن مالك: إن أخر غسل رجليه من وضوء أعاد وضوءه بعد غسله وبقول التهذيب: ويؤمر الجنب بالوضوء قبل غسله فإن أخره بعده أجزأه ونبه على هذه بعض شيوخنا وما ذكره من الخلاف لا أعرف صورته فتدبره، لا يقال: إن صورته إذا لم يأت بالوضوء فهل يثاب عليه أم لا؟

للاتفاق على أن تقديمه مطلوب فلو كان يثاب عليه بتقديمه لاندراجه في الغسل لما كان لقولهم المطلوب تقديمه فائدة ويحتمل أن يكون أراد بالخلاف في التسمية فقط.

(وأفضل له أن يتوضأ بعد أن يبدأ بغسل ما بفرجه أو جسده من الأذى ثم يتوضأ وضوء الصلاة إلى آخره):

ما ذكر أن تقديم الوضوء فضيلة هو كذلك تشريفا لها ومعنى قوله: بعد أن يبدأ بغسل ما بفرجه أو جسده من الأذى يعني به على طريق الاستحباب، ويريد ثم يغسل ذكره ثم يتوضأ. فلو غسله بنية الجنابة ولم يغسل محل الأذى فإنه يجزئه، وقال ابن الجلاب: غسل النجاسة سنة إلا أن تكون في أعضاء الوضوء فيجب إزالتها لارتفاع الحدث لا لذاتها. وروى بعض من لقيناه أن قوله في أعضاء الوضوء وصف طردي، بل وكذلك أعضاء الغسل للعلة التي ذكرها ولو غسل المحل بنية الجنابة والنجاسة فإنه يجزئه.

قال بعض الشيوخ قال المازري وهو متعقب: متى اعتقد المتطهر عدم فرض زوال النجاسة قلت إنما هو متعقب على أحد القولين فيمن جمع بين الجمعة والجنابة في غسل واحد، هل التنافي في النية حاصل لأنه لا يمكن اجتماع نفل وفرض في نية واحدة أو لا تنافي؟ لأن النفل جزء الفرض على أن تسليمه إذا اعتقد فرضيتها فيه نظر لأن غسل النجاسة لا يفتقر إلى نية والجنابة تفتقر فكان التنافي حاصل، وقد حكى عن أحد قولي المذهب إذا نوى رفع الحدث والتبرد أنه لا يجزئه وظاهر كلام الشيخ أنه يغسل أعضاء وضوئه ثلاثا ثلاثا، وهو ظاهر كلام غيره أيضًا.

وقال عياض لم يأت في تكراره شيء، وقال بعض الشيوخ لا فضيلة فيه واختلف

(1/104)

هل المطلوب تقديم غسل الرجلين أم لا؟ فقيل بذلك وقيل المطلوب تأخيرهما، وقيل إن كان الموضع نقيا قدمهما وإن كان وسخا أخرهما وقيل مخير وهو الذي ذكر الشيخ رحمه الله.

(فيخلل بهما أصول شعر رأسه إلى آخره):

اعلم أن للتخليل فائدتين فقهية وطبية، هما سرعة إيصال الماء إلى البشرة وتأنيس رأسه بالماء فلا يتأذى لانقباضه على المسام إذا مس بالماء، وما ذكر أنه يخلل رأسه هو المنصوص، وخرج القاضي عبدالوهاب قولا بعدم التخليل من الاختلاف في تخليل اللحية ورده الباجي بأن بشرة الرأس ممسوحة في الوضوء مغسولة في الغسل، فاختلف بذلك حكم شعرها وبشرة الوجه مغسولة فيهما فاتحد حكم شعرها.

وقال ابن الحاجب: الأشهر وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما وسلمه ابن عبدالسلام، وقال ابن هارون: اعتمد في ذلك على نقل أبي الطاهر بن بشير والذي يحكيه غيرهما أن الخلاف في الرأس إنما هو بالتخريج كما تقدم.

وقول الشيخ غاسلا له يحتمل أن يعم بكل غرفة غرفة وهو ظاهر كلام أهل المذهب وبه الفتوى.

وقال الباجي: يحتمل أن يكون لما ورد في الطهارة من التكرار أو لأن الغرفة الواحدة لا تكفي في الرأس، وقال غيره الثلاث غرفات مستحبة والتكرار غير مشروع في الغسل فيحتمل أن تكون اثنتين لشقي الرأس والثالثة لأعلاه ويدل على هذا قوله في الحديث: أخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فأفرغ على رأسه.

وكلاهما نقله ابن هارون، قلت: والصواب الجزم بهذا الاحتمال جريا على الاستجمار في أحد القولين.

(وليس عليها حل عقاصها إلى آخره):

يريد إذا كان رخوا بحيث يدخل الماء وسطه وإلا كان غسلها باطلا وهذا يكفي عند قيد المسألة بما إذا كانت خيوط عليه يسيرة وأما إذا كانت كثيرة فلا. قال عبد الوهاب: ومن له شعر معقوص من الرجال فليس عليه حله، قال صاحب الحلل يريد من له عادة في العقص كالأعراب وأهل الرفق والرقص في الأعراس فإنهم يعقصون شعورهم بالعقاص كالنساء، وأما من لم تكن له عادة بذلك وعرض له العقص لعلة ما فلا رخصة له في ترك نقضه.

(1/105)

قال التادلي: جعل عقص الفساق رخصة مسقطة لحل عقاصهم بخلاف من عرضت له علة لا رخصة له في ذلك، وحاشا أن يحمل كلام عبد الوهاب على هذا الترخص المضحك، وقد نص البلنسي في شرح الرسالة على أنه لا يجوز للرجال أن يضفروا رءوسهم، قلت: كلام التادلي يحتمل وجهين: إما أن يحمل كلام القاضي عبد الوهاب على عكس ما فسره به صاحب الحلل وإما أن يحمل على العموم وهو الأقرب عندي على الشرط الذي ذكرناه أولا وهو إذا كان الضفر رخوا، وأما إن صح ما قال البلنسي فلا يضر في صحة الصلاة.

(ويتدلك بيديه بإثر صب الماء حتى يعم جسده):

المشهور من المذهب أن التدلك فرض، وقيل لا يجب، رواه مروان الظاهري، وقيل واجب لغيره قاله أبو الفرج، وقد تقدم أن ابن الحاجب لم ينقل الثالث وكأنه رأى أنه راجع إلى الثاني والمعنى يقتضيه؛ لأنه إذا لم يتحقق إيصال الماء إلى العضو إلا به فلا بد منه، وإذا حقق سقط عند من يقول بأنه ساقط وما عجز عنه من التدلك ساقط اتفاقا وأفاض عليه الماء وفي وجوب ما أمكنه بنيابة أو خرقة ثالثها إن كثر لسحنون وابن حبيب وابن القصار وظاهر كلام الشيخ أنه لا يشترط المقارنة وهو كذلك عنده خلافا لأبي الحسن القابسي.

(وما شك أن يكون الماء أخذه من جسده عاوده بالماء ودلكه بيده حتى يوعب جميع جسده فيتابع عمق سرته):

قال التادلي: ظاهره أن الظن يبني عليه وفي الصحيح لم يخلل بيديه أصول شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليها الماء. وقال ابن اللتبية في أحكامه فيه دليل على الاكتفاء بغلبة الظن، وقال تقي الدين: لا دليل فيه لأنه أفاض على رأسه الماء بعد ذلك ثلاثا وفيما قاله نظر وإذا ثبت العمل بالظن ثبت في سائر الجسد إذ لا قائل بالفرق.

(وتحت حلقه ويخلل شعر لحيته إلى آخره):

(1/106)

الصواب أن يقول وتحت ذقنه والأليتان بفتح الهمزة وسكون اللام المقعدتان والرفغان باطنا الفخذين وقيل ما بين القبل والدبر.

ويحذر أن يمس ذكره إلى آخره:

قال التادلي: ظاهر كلامه كقول اشهب إن مس الذكر بباطن الكف خاصة هو الناقض للوضوء لا بزيادة باطن الأصابع، وما ذكر الشيخ أنه إذا مس ذكره بعد تكلمة غسله أنه يعيد الوضوء هو كذلك باتفاق ويريد بنية وهو المشهور من المذهب على الإطلاق. وحكى المازري قولان بأنه إذا كان بالقرب لا يفتقر إلى نية وهو بعيد.

وما ذكر الشيخ أنه يفقر إلى نية في أثناء الوضوء إذا مسه في أثناء غسله خالفه فيه صاحبه أبو الحسن القابسي. رأى أنه لا يفتقر إلى نية، وفي المدونة: من مس ذكره في غسله من جنابته أعاد وضوءه إذا فرغ من غسله إلا أن يمر بيديه على مواضع الوضوء في غسله فيجزئه.

قال ابن الحاجب: وظاهرها للقابسي يعني لكونه لم يذكر النية ولو كانت شرطا لذكرها. ولابن عبدالسلام اعتراض عليه لم أذكره لطوله وضعفه ومعنى قوله على ما ينبغي من ذلك يعني من الترتيب والموالاة وعدد المرات قال التادلي.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب فيمن لم يجد الماء وصفة التيمم

التيمم في اللغة هو القصد قال الله تعالى: "فتيمموا صعيدا طيبا" [النساء: 43]

(1/107)

أي اقصدوا وقال تعالى: (ولا ءامين البيت الحرام) [المائدة: 2]

أي قاصدين، وفي الاصطلاح: طهارة ترابية تستعمل عند عدم الماء أو عند عدم القدرة على استعماله.

وحكمه الوجوب من حيث الجملة بإجماع.

وأما حكمته فقال بعض الشيوخ لما علم الله تعالى من النفس الكسل والميل إلى ترك الطاعة وترك العمل الذي فيه صلاحها شرع لها التيمم عند عدم الماء حتى لا تصعب عليها الصلاة عند وجوده، وقيل تكون طهارته دائرة بين الماء والتراب الذي منها أصل خلقته وقوام بنيته. وقيل لما كان أصل حياته الماء ومصيره بعد موته إلى التراب شرع له التيمم ليستشعر بعدم الماء موته وبالتراب إقباره فيذهب عنه الكسل.

قلت: ليس المراد أنها أقوال متباينة فإن من علل بالأول مثلا نفى ما بعده بل كل من ظهرت له حكمة تكلم بها والمراد الجميع وغير ذلك مما لم يظهر لنا والله أعلم.

(التيمم يجب لعدم الماء في السفر إذا يئس أن يجده في الوقت):

ما ذكر الشيخ أنه واجب على المسافر العادم الماء هو كذلك باتفاق إلا أنه اختلف هل المراد به كل مسافر سواء كان سفرا تقصر فيه الصلاة أم لا؟ وإليه ذهب القاضي عبد الوهاب، أو إنما المراد به إذا كان سفرا تقصر فيه الصلاة؟ وأما إذا كان دون مسافة القصر فيختلف فيه كالحضر وفي ذلك قولان وظاهر كلام الشيخ سواء كان سفر معصية كالمحارب والعاق لوالديه، وهو كذلك في أحد القولين، قال ابن الحاجب: ولا يترخص بالعصيان على الأصح والقول بعدم الترخص هو قول القاضي عبد الوهاب، واختار ابن عبد السلام أنه يترخص له قائلا: كل رخصة يظهر أثرها في السفر والحضر كالتيمم والمسح على الخفين فلا يمنع العصيان منها بخلاف الرخصة التي يظهر أثرها في السفر خاصة كالقصر والفطر ومعنى هذا لابن رشد.

قال التادلي: وظاهر كلام الشيخ أن حكم التيمم للمسافر عزيمة واجبة وفي مختصر ابن جماعة أنه رخصة، والحق عندي أنه عزيمة في حق العادم الماء رخصة في حق الواجد له العاجز عن استعماله. والقول بالرخصة مطلقا لا يستقيم في حق العاجز فإن الرخصة تقتضي إمكان الفعل المرخص فيه وتركه كالفطر في السفر بخلاف عادم الماء لا سبيل له إلى تركه التيمم. قال وقول من قال إن الرخصة قد تنتهي إلى الوجوب غير مسلم فإنها إذا انتهت إليه صارت عزيمة، وزال عنها حكم الرخصة.

(وقد يجب مع وجوده إذا لم يقدر على مسه إلخ):

عدم القدرة على استعماله إن كان يخاف منه الموت فالاتفاق على التيمم وإن

(1/108)

كان يخشى زيادة مرض أو تأخير برء أو تجديد مرض فالمشهور كذلك وقيل لا يتيمم ويستعمل الماء قاله مالك، وقلت والأقرب هو الأول لقول الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78]

و (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [البقرة: 286].

ولقد أحسن أشهب رضي الله عنه في قوله لما سئل عن مريض: لو تكلف الصوم والصلاة قائما لقدر لكن بشقة وتعب، فأجاب بأن قال: فليفطر وليصل جالسا ودين الله يسر والمشهور أن الجنب كغيره فمهما تعذر غسله تيمم، وقال عياض في الإكمال قال أحمد بن ابراهيم المصري عرف بابن الطبري من أصحاب ابن وهب: من خاف على نفسه المشقة من الغسل أجزأه الوضوء لحديث ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، واختلف في الحضري إذا خاف خروج الوقت إن هو استعمل الماء والمشهور التيمم، وعليه إن خاف فوات الجمعة على ثلاثة أقوال: فقيل يتيمم لها، نقله ابن القصار وأبو بكر الأبهري عن بعض أصحابنا واختار ابن القصار أنه لا يتيمم لها.

ونقله ابن هارون عن أشهب فقط قائلا عنه: ولو أحدث فيها وخشي فوات وقت الصلاة لذهابه للوضوء، ونقل القرافي عن بعضهم أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ ويعيد. وحكاه غير واحد بلفظ لو قيل يتيمم ويدرك الجمعة ثم يتوضأ ويعيد احتياطا ما بعد وبهذا القول كان شيخنا أبو محمد عبدالله الشبيبي يفتي إلى أن مات. قلت وأشهب رحمه الله ناقض أصله وذلك أنه قال فيمن ذكر صلاة منسية وهو في الجمعة إن خاف فواتها تمادى وإن لم يخف قطع وقضى فجعل وقتها لا يمتد فتأمله.

(وكذلك مسافر يقرب منه الماء ويمنعه منه خوف لصوص أو سباع):

إذا خاف من سباع فلا خلاف أنه يتيمم؛ لأنه يخاف على نفسه وكذلك اللصوص إذا كان يخاف منهم على ماله خاصة فقيل يتيمم وقيل لا، واستبعده ابن بشير. قلت: الجاري على أصل المذهب أنه إن كان يحتاج إليه فإنه يتيمم مطلقا وإن كان لا يحتاج إليه فإن كان بحيث يجب عليه بذله في الشراء لقلته فإنه لا يتيمم وإلا تيمم فالقولان ينبغي أن يكونا خلافا في حال والله أعلم.

وقال ابن عبد السلام: ينبغي أن يفصل في المال بين القليل والكثير وهو الذي أراد المؤلف، فظاهره أن القولين الذين ذكرهما ابن الحاجب في قوله أو على ماله على الأصح إنما هو في اليسير دون الكثير والحق ما قلناه والله أعلم.

(1/109)

واختلف في المقدار الذي يبذل في شراء الماء إن كان لا يضطر إليه فقيل يرجع فيه إلى العرف وهو الذي رجع إليه مالك ذكره اللخمي، قال: أما الرخيص فيشتريه وإن زيد في ثمنه مثله وروى أشهب ما لا يلزم شراؤه بالثمن المعروف وهو بعيد، وقال ابن الجلاب لا حد لمقدار ثمن الماء في الغلاء فيحتمل أن يحد بالثلث.

(وإذا أيقن المسافر بوجود الماء إلخ):

في كلامه رحمه الله مخالفة للمذهب وذلك أن ظاهر كلامه في الراجي لا يؤخر بل يتيمم وسط الوقت وليس كذلك بل حكمه كالموقن، ولقد قال ابن هارون لا أعلم من قال في الراجي: إنه يتيمم وسط الوقت غير ابن الحاجب ويمكن أن يريد بقوله وكذلك إن خاف هو راجع إلى القسم الأول لا إلى ما يليه وما ذكر من التفصيل هو المشهور، وروي عن مالك آخره في الجميع وروى ابن عبد الحكم المسافر مطلقا يتيمم أوله وفي المجموعة الراجي آخره وغيره وسطه وقيل الجميع آخره إلا اليائس أوله، والمراد بالوقت الذي ذكره الشيخ هو الاختياري نقله أبو محمد في مختصره عن ابن عبدوس وظهر لي أنه يتخرج قول باعتبار الضروري من قول ابن رشد: من تمادى به الرعاف فإنه يعتبر الضروري وكان من لقيته ممن تولى قضاء الجماعة بتونس لا يرتضي مني هذا التخريج حين ذكر له في درسه ويقول: النجاسة أشد بدليل أن من صلى بنجاسة مضطرا فإنه يعيدها في الوقت ومن تيمم وصلى ثم وجد الماء فلا إعادة عليه جملة، فإن قدم ذو التأخير ثم وجد الماء أعاد في الوقت وقيل أبدا قاله ابن عبدوس وغيره، وقيل إن ظن إدراكه ففي الوقت وإن أيقن فأبدا قاله ابن حبيب، وإن قدم ذو التوسط ففي إعادته في الوقت المختار خلاف ولا يعيد بعده اتفاقًا.

(ومن تيمم من هؤلاء ثم أصاب الماء في الوقت إلخ):

ما ذكر الشيخ أنه يعيد هو كذلك إلا أن كلامه يحتمل أبدًا، وفي الوقت والأقرب من كلامه الإعادة في الوقت بقرينة قوله ثم أصاب الماء في الوقت، وقال ابن الحاجب: يعيد في الوقت ويحتمل أبدًا، قلت: والأقرب أنه لا إعادة مطلقا بالنسبة إلى المريض لأنه إذا لم يجد من يناوله إياه إنما ترك الاستعداد للماء قبل دخول الوقت وهو مندوب إليه على ظاهر المذهب، وذلك لا يضر فلا إعادة مطلقا. وأما الخائف وما بعده فالأقرب فيه الإعادة في الوقت كمن صلى بالنجاسة أو عريانا، إلا أن يقال إن النجاسة آكد كما تقدم، ومثل ما ذكر الشيخ المطلع على الماء بقربه والإعادة في هذا

(1/110)

واضحة لأن معه ضربا من التفريط ولو وجد الماء بعد التيمم وقبل الدخول في الصلاة؛ فإن التيمم يبطل إن اتسع الوقت وإن ضاق.

فقال عبد الوهاب: لا يبطل وخرجه اللخمي على التيمم حينئذ، وقال المازري: هذا آكد لحصوله بموجبه وأما إن وجده في الصلاة فالمنصوص لا يبطل، وخرج اللخمي قولا بالقطع من العريان يجد ثوبا وهو في الصلاة ومن ذكر صلاة من صلاة ومن نوي الإتمام ومن إذا قدم وال في الجمعة ورده بعض شيوخنا بأن مسألة التعدي لا بدل لها، ومسألة ذاكر صلاة في صلاة سبقية العلم بالصلاة المنسية فكان معه ضرب من التفريط وفي مسألة ناوي الإتمام هو قد تسبب في ذلك ومسألة قدوم الوالي بأن العزل يتقرر بالنزول.

قال ابن عبد السلام: خرج القطع من ذاكر الصلاة في الصلاة ورده بما تقدم قلت: كلامه يوهم أنه لم يخرج إلا منها فقط وليس كذلك.

(1/111)

(ولا يصلي صلاتين بتيمم واحد من هؤلاء إلا مريض لا يقدر على مس الماء لضرر بجسمه مقيم وقد قيل يتيمم لكل صلاة، وقد روى عن مالك فيمن ذكر صلاة أن يصليها بتيمم واحد):

القول الأول: ومن الثلاثة التي ذكر الشيخ عزاه في النوادر لبعض أصحابنا وهو اختيار التونسي، قال ابن الحاجب أبو إسحاق: يجوز للمريض قال ابن عبد السلام: هو ابن شعبان، قلت إنما فسره به ولم يفسره بالتونسي لنص ابن شاس بذلك وتعقبه بعض شيوخنا بأن الزاهي إنما فيه من جمع بين صلاتين بتيمم، قلت حكاه ابن يونس عن أبي محمد بن أبي زيد قائلا: أخبرت به عن ابن شعبان لعدم وجوب الطلب عليه، والقول الثاني من أقوال الشيخ هو المشهور ومرضه الشيخ بوجهين وهما تقدمة الشيخ القول عليه، وقوله وقد قيل ولم يقل وقيل، والقول الثالث: رواه أبو الفرج عن مالك وعزاه ابن يونس لقوله أيضًا، وعزاه ابن الحاجب لقوله فلا يعترض عليه إذ هو قوله بلا شك.

ونصه أبو الفرج في الفوائت وأخذ بعض من لقيناه من رواية أبي الفرج أن من عليه صلوات كثيرة أن يقيم لها إقامة واحدة وأجبته بيسر الإقامة لأنها قولية وعسر التيمم لأنه فعلي، فإذا قلنا بالمشهور وجمع بين صلاتين بتيمم واحد فأما الأولى فصحيحة باتفاق. واختلف في الثانية على أربعة أقوال: فقيل يعيدها وقتا، وقيل أبدا، وقيل إن كانتا مشتركتين أعادها وقتا وإلا أعادها أبدا وقيل يعيدها ما لم يطل كاليومين والثلاثة قاله سحنون ذكر جميع الأربعة ابن يونس.

قال ابن عبد السلام: وانظر في الفائتين إذا كانتا غير مشتركين الوقت هل تكونان كالمشتركين أم لا؟ والمذهب جواز النفل بتيمم الفريضة بعدها متصلا أو ما هو في حكم المتصل وقال التونسي ما لم يطل تنفله جدا وقال الشافعي، يتنفل إلى دخول وقت الفريضة الثانية وارتضاه ابن عبد السلام للتبعية وعدمها.

(والتيمم بالصعيد الطاهر وهو ما ظهر على وجه الأرض منها من تراب أو رمل أو حجارة أو سبخة):

لم يرد الشيخ بقوله من تراب إلخ الحصر بل يتيمم على غير ذلك كالشب والنورة والزرنيخ وشبه ذلك كالكحل والكبريت والزاج اللخمي يمنع بالجير والآجر والجص بعد حرقه والياقوت والزبرجد والرخام، والذهب، والفضة، فإن فقد سوى ما منع وضاق الوقت يتيمم به، نص على ذلك جميع البغداديين وقيل لا يتيمم على الشب

(1/112)

ولا على ما بعد نقله أبو بكر الوقار وقيل بالأول وإن لم يجد غيره وضاق الوقت وكذلك يتيمم على الثلج عند مالك من رواية ابن القاسم. وروى أشهب أنه لا يتيمم عليه وقيل إن عدم الصعيد فالأول وإلا فالثاني ورابعها يعيد في الوقت بالصعيد.

(واختلف في الملح على أربعة أقوال):

ثالثها الفرق بين المعدني والمصنوع، ورابعها للسليمانية إن لم يجد غيره وضاق الوقت يتيمم وإلا فلا، نقله ابن يونس، واختلف في التيمم على الزرع والخشب على قولين، وأخذ الجواز من قول يحيى بن سعيد في المدونة، ما حال بينك وبين الأرض فهو منها، وظاهر كلام الشيخ أنه يتيمم على غير التراب وإن كان التراب موجودا وهو المشهور.

وقال ابن شعبان: لا يتيمم إلا على التراب خاصة سواء كان منبتا أم لا، وقال ابن حبيب يتيمم على غير التراب مع فقده، وأخذه ابن الحاجب من قول المدونة، ويتيمم على الجبل والحصباء من لم يجد ترابا وأنكر هذا الأخذ بعض المشارقة قائلا إنما وقع هذا الشرط في المدونة من كلام السائل لا من كلام ابن القاسم فيحتمل أن يكون مقصودا ويحتمل أن الجواز عموما وقبله ابن عبد السلام، وظاهر كلام الشيخ أنه يتيمم على التراب المنقول وهو كذلك خلافا لابن بكير، قال ابن عبد السلام: وظاهر كلام الشيخ أنه يتيمم وهذا إذا عمل في وعاء وأما لو جعلت على وجه الأرض فاسم الصعيد باق عليه.

(ويضرب بيديه الأرض وإن تعلق بهما شيء نفضهما نفضا خفيفا ثم يمسح بهما وجهه كله مسحا ثم يضرب بيديه الأرض فيمسح يمناه بيسراه يجعل أصابع يده اليسري على أطراف أصابع يده اليمني ثم يمر أصابعه على ظاهر يده وذراعه وقد حنى عليه أصابعه، حتي يبلغ المرفقين ثم يجعل كفه على باطن ذراعه من طي مرفقه قابضا عليه حتى يبلغ الكوع من يده اليمني ثم يجري باطن بهمه على ظهر بهم يده اليمني ثم يمسح اليسرى باليمنى هكذا فإذا بلغ الكوع مسح كفه اليمني بكفه اليسرى إلى آخر أطرافه ولو مسح اليمني باليسرى واليسرى باليمنى كيف شاء وتيسر عليه وأوعب المسح لأجزأه):

اعلم أن المشهور استحباب صفته، وقال ابن عبد الحكم: لا تسحب وما ذكر الشيخ من الصفة هول تأويله على المدونة، وقيل تأويله عليها أنه لا ينتقل إلى يده

(1/113)

اليسرى حتى يكملها وصوب إذ الانتقال إلى الثانية قبل كمال الأولى مفوت فضيلة الترتيب الذي بين الميامن والمياسر. فإن قلت إنما اغتفر هذا عند القائل بالصفة الأولى وهو الشيخ أبو محمد حفظا على النقل وهو أشد في الطلب، قلت النقل لم يشترطه الشيخ ألا ترى إلى قوله يتيمم على الحجر، وما ذكر الشيخ من إمرار الإبهام مثله لابن الطلاع وظاهر الروايات مسح ظاهر إبهام اليمني مع ظاهر أصابعها، ونبه على هذا بعض شيوخنا.

قال ابن عبدالحكم: وينزع الخاتم، وقال ابن شعبان يخلل أصابعه، قال اللخمي على قول ابن مسلمة ترك القليل من العضو عفو يصح دون نزع أو تخليل، وقال أبو محمد في قول ابن شعبان لا أعرفه لغيره.

قلت: وعادة الشيخ إذا قال مثل هذا أراد أن المذهب على خلافه كمن قال يا فلان فعل الله بك كذا، فقال ابن شعبان تبطل صلاته قال الشيخ لا أعرفه، وقول ابن بكير من التذ بالفكرة في القلب انتقض وضوؤه، وقال أيضا لا أعرفه ففهم عنه أهل المذهب ما قلناه، فإذا عرفت هذا فقول ابن الحاجب. قالوا ويخلل أصابعه متعقبا لانفراد ابن شعبان به وأشار إليه ابن رشد وصرح به خليل رحمه الله تعالى، وما ذكر الشيخ أنه ينتهي إلى المرفقين هو المعروف عند مالك وعنه إلى الكوعين، وعنه كذلك إلا أنه يستحب إلى المرفقين حكاه عنه أبو الجهم وأبو الفرج وقيل إلى المنكبين ينتهي مطلقا قاله ابن مسلمة وقيل الجنب إلى المنكبين. والمحدث الحدث الأصغر إلى الكوعين حكاه ابن رشد عن ابن لبابة فتحصل في ذلك خمسة أقوال.

واختلف إذا اقتصر على ضربة واحدة أو إلى الكوعين على أربعة أقوال، فقيل يعيد في الوقت، وقيل أبدًا، وقيل لا إعادة عليه، وقيل لا يعيد في الأولى ويعيد في الثانية في الوقت وهو المشهور.

(وإذا لم يجد الجنب أو الحائض الماء للطهر تيمما وصليا فإذا وجدا الماء تطهرا ولم يعيدا ما صليا):

أما ذكر الشيخ أن الجنب والحائض إذا لم يجدا الماء تيمما هو المشهور بل هو مذهبنا وعن ابن مسعود الجنب ليس من أهل التيمم فلا يصلي، ويعزي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وما ذكر أنهما يغتسلان إذا وجدا الماء هو المنصوص. وخرج القاضي عبد الوهاب عدم الغسل على القول بأنه يرفع الحدث، ورده المازري بأن من

(1/114)

قال يرفع الحدث إنما أراد أنه يصلي به ما شاء إلى وجود الماء أما أنه لا يغتسل فلا، وقال ابن الحاجب: وصفته أنه ينوي استباحة الصلاة محدثا أو جنبا لا رفع الحدث فإنه لا يرفعه على المشهور وعليهما وجوب الغسل لما يستقبل.

قال ابن عبد السلام: هو مشكل لأنه لا يعلم خلاف بين فقهاء الأمصار في وجوب الغسل إذا وجد الماء من قال منهم بأنه يرفع الحدث، ومن لم يقل إلا ما حكي عن بعض التابعين فجعله هذا الفرع ثمرة للخلاف لا يصح، واعتذرنا بأن ضمير التثنية عائد على المحدث والجنب من قوله وعليهما في المعنى والغسل عليهما قال وهو بعيد من حيث أن الغسل إذا أطلق في الاصطلاح إنما المراد به الطهارة الكبرى لا الصغرى.

قلت هذا تكلف لا يحتاج إليه إذ ما سلكه ابن الحاجب هي طريقة القاضي عبد الوهاب فليس عليه في ذلك درك والله أعلم، وما ذكر أنهما لا يعيدان ما صليا هو كذلك في المدونة وقيدت بما إذا لم تكن في بدنه نجاسة.

وقال أبو بكر ابن اللباد: وكذلك إذا كانت الجنابة من وطء لأن فرجه تنجس من بلة فرج المرأة.

ولا يطأ الرجل امرأته التي انقطع عنها دم حيض أو نفاس بالتطهر بالتيمم حتى يجد من الماء ما تتطهر به المرأة ثم ما يتطهران به جميعا وفي باب جامع الصلاة شيء من مسائل التيمم):

ما ذكر الشيخ أنه لا يطؤها بالتيمم هو المشهورن وقال ابن شعبان ذلك جائز. قال ابن بكير يكره له أن يطأها قبل الاغتسال، واختلف هل يجب على الزوج شراء الماء لزوجته؟ على قولين: الأول حكاه عبد الحق في النكت قياسا على النفقة، قلت: الأقرب إن كانت جنابتهما منه وجب عليه وإلا فلا يغلب على ظني أني وجدته منصوصا قول الشيخ حتى يجدا كالنص في أنه يجب عليه إذا أراد وطأها ولا يجب عليه إذا لم يرده والله أعلم.

(1/115)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في المسح على الخفين

مثل هذا الترتيب أعني تأخير هذا الباب عن باب التيمم سلك ابن الحاجب فأورد ابن هارون سؤالا وهو إن قلت لأي شيء أخر هذا الباب عن باب التيمم مع أن كل واحد منهما بدل عن طهارة الماء؟ وأجاب بأن التيمم ثبت بالقرآن ومسح الخفين ثبت بالسنة، والقرآن مقدم قلت وما ذكره صحيح ولذلك اختير في البقر الذبح لكونه بالقرآن لقوله تعالى: (تذبحوا بقرة) [البقرة: 67]

ونحرها إنما جاء بالسنة من فعله صلى الله عليه وسلم ورجع اسم العشاء على اسم العتمة لقول الله عز وجل (ومن بعد صلاة العشاء) [النور: 58].

(وله أن يمسح على الخفين في الحضر والسفر ما لم ينزعهما):

ظاهر كلام الشيخ أن مسح الخفين رخصة وهو كذلك في قول وقيل سنة وقيل فرض وكلها حكاها ابن الطلاع قائلا: والأحسن أن نفس المسح فرض والانتقال إليه رخصة، قلت: كلامه يوهم أن ما اختاره رابع في المسألة وليس كذلك بل من قال بالسنة والرخصة إنما أراد ذلك والله أعلم، وكذلك من قال بالفرضية إنما يريد إذا أراد أن يمسح أن ينوي الفرضية لأن ذلك فرض بالإطلاق والله أعلم. وما ذكر أنه يمسح المسافر والمقيم هو إحدى الروايات عن مالك.

وروي المسافر خاصة وكلاهما في المدونة، وروي عنه لا يمسح مطلقا قال وفي المجموعة أقوال اليوم مقالة ما قلتها قط في ملأ قط من الناس. أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان في خلافتهم فذلك خمس وثلاثون سنة فلم يرهم أحد يمسحون وإنما هي الأحاديث، وكتاب الله أحق أن يتبع ويعمل به. قال ابن وهب

(1/116)

فرأيته يكره المسح في الحضر والسفر وقال ابن العربي في القبس لا ينكره إلا الرافضة والإجماع على جوازه، قال التادلي وقد قال بعض من نبذ مذهبهم:

أشكو إلى الله ما لقيت = من شؤم قوم بهم بليت

لا أبغض الصالحين دهري = ولا تشيعت ما حييت

أمسح خفي ببطن كفي = ولو على جيفة وطيت

قال الفاكهاني: وإنما قدم المصنف رحمه الله تعالى الحضر اهتماما به لما صح عنده أنه الذي رجع إليه مالك فكأنه اقتدى بقوله تعالى: (يوصي بها أو دين) [النساء: 12]

: فقدم تعالى الوصية على الدين وهو آكد لما ذكرنا من الاهتمام بأمرها إذ كانت الوصية شرعية أعني أنها لم تكن معهودة في الجاهلية بخلاف الدين فإن أمره معلوم عند كل واحد، وظاهر كلام الشيخ أنه يمسح عليهما وإن طال جدا وهو كذلك على المشهور.

وقال ابن نافع: حده للمقيم من الجمعة إلى الجمعة فأطلقه الأكثر وحمله ابن يونس على الندب كغسل الجمعة، وفي كتاب السي: ر للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة واختاره ابن عبدالسلام لموافقته حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وإن كانت تلك الرسالة منكرة عند شيوخ المذهب. وروى أشهب للمسافر ثلاثة أيام وسكت عن المقيم فيحتمل أن يقول بما في كتاب السير ويحتمل أن يقول بعدم المسح للمقيم قاله ابن عبد السلام.

(وذلك إذا أدخل فيهما رجليه بعد أن غسلهما في وضوء تحل به الصلاة فهذا الذي إذا أحدث وتوضأ مسح عليهما وإلا فلا):

ظاهر كلام الشيخ أنه إذا غسل رجله اليمنى وأدخلها في الخف ثم غسل

(1/117)

الرجل اليسرى وأدخلها في الخف أنه لا يمسح وهو كذلك خلافا المطرف وسبب الخلاف على أحد الطريقين هل كل عضو يطهر بانفراده أم لا.

وظاهر كلام الشيخ أنه يمسح عليهما إذ لبسهما عقب الغسل من الجنابة لأنه إذا كان يمسح عقب الوضوء فأحرى عقب الغسل لأنه وضوء وزيادة وهو المشهور. وحكى صاحب الطراز عن بعض المتأخرين أنه لا يمسح وهو قول غري بعيد وظاهر كلام الشيخ أنه لا يمسح إذا لبسهما عقب طهارة التيمم وهو كذلك خلافا الأصبغ ويشترط في الخف أن يكون ساترا لمحل الوضوء صحيحا، فإن كان غير ساتر فلا يمسح. وروى الوليد بن مسلم عن مالك أنه يمسح ويغسل ما ظهر، وضعفه الباجي بأن هذا القول معروف للأوزاعي لا لمالك وهو كثير الرواية عنه فأشار إلى احتمال وهمه، ومثله قال المازري ورده ابن عبد السلام بأنه أحد الرجال الثبت الذي لم ينسبه أحد إلى الوهم، وأجابه بعض شيوخنا بأن الذهبي والمزي ذكرا فيه عن بعضهم أنه مدلس ولم يفضلاه ومقتضى كلام الثلاثة الباجي والمازري وابن عبد السلام انفراده بالرواية.

ونص ابن رشد ومفهومه عدم الانفراد بالرواية والاقتصار على مسحه دون غسل ما بقي قال وروى علي وأبو مصعب والوليد أنه يمسح، وزاد الأوزاعي غسل ما

(1/118)

بقي قال: ورووا لا يمسح على الخف المخرق إذا كان خرقه كثيرا وذلك أن يظهر جل القدم، وقال العراقيون ما يتعذر مداومة المشي فيه.

(وصفة المسح أن يجعل يده اليمنى من فوق الخف من طرف الأصابع ويده اليسرى من تحت ذلك ثم يذهب بيديه إلى حد الكعبين وكذلك يفعل باليسرى ويجعل يده اليسرى من فوقها واليمنى من أسفلها):

ما ذكره الشيخ من الصفةة خالفه فيها صاحبه الشيخ أبو القاسم ابن شبلون وقال اليسرى كاليمنى على ظاهر المدونة، وحكى عنه ابن بشير تأويلا على المدونة أيضا أنه يمسح الرجلين مرة واحدة ويده اليمني من فوقها واليسرى من أسفلها، ولا يعترض عليه بترك بعض المسح؛ لأن المسح مبني على التخفيف وقيل يبدأ من الكعبين حكاه الشيخ بعده.

وقال ابن عبد الحكم: يده اليمنى على ظاهر أطراف أصابع اليمنى واليسرى على مؤخر خفه من عقبه يمر بها إلى آخر أصابعه واليمنى إلى عقبه فلو مسح أعلاه بها أو أسفله فقال أشهب يجزئه، وقال نافع لا يجزئه وصوب وقال في المدونة لا يجزئه مسح أعلاهما دون أسفلهما ولا أسفلهما دون أعلاهما إلا أنه إن اقتصر على الأعلى أعاد في الوقت لأن عروة كان لا يمسح أسفلهما.

قلت: في قول المدونة مناقشة وفائدة، أما المناقشة فإن في كلامه التنافي لأن قوله لا يجزئه ظاهر في التكلم بعد الوقوع فيعيد أبدا، وقوله بعد يعيد في الوقت في الاقتصار على الأعلى ينافيه فهو أراد ولا يجوز، ففي كلامه التسامح، والفائدة أن مالكا يعلم من هذا أن مذهبه أنه يرعى القائل الواحد إذا قوي دليله لما علم أن المسح مبني على التخفيف يدل عليه قول أشهب السابق، وقد علمت أن اشتهار الخلاف هل يراعي كل خلاف أو لا يراعي إلا الخلاف القوي، وهل القوي ما كثر قائله أو ما قوي دليله ومن غسل خفه فالمنصوص يجزئ مع الكراهة.

قال ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف في غسل يراعي أصله فيجزئ لأن مسحه بدل من الغسل ولا كذلك الرأس لأن المسح فيه أصلي والله أعلم والمذهب أنه لا يتتبع الغضون.

(ولا يمسح على طين في أسفل خفه أو ورث دابة حتى يزيله بمسح أو غسل وقيل يبدأ في مسح أسفله من الكعبين إلى أطراف الأصابع لئلا يصل إلى عقب خفه شيء من

(1/119)

رطوبة ما سمح من خفيه من القشب):

حمل القاضي عبد الوهاب قوله بمسح أو غسل على التخيير، وحمله صاحب الحلل على ضرب من اللف والأقرب هو الأول إذا كان كل منهما كافيا، وإن لم يكف المسح تعين الغسل على طريق الوجوب ابتداء حسبما قدمنا عن المدونة، وعليه حمله القاضي عبد الوهاب وحمله الفاكهاني على الاستحباب لقول المدونة يعيد في الوقت وهو بعيد بل إنما قاله للخلاف على أن الشيخ يحتمل أن يكون إنما أشار بكلامه إلى قول مالك في الخف إذا أصابه روث الدواب هل يكفي فيه المسح أم لا والله أعلم.

(وإن كان في أسفله طين فلا يمسح عليه حتى يزيله):

هذا عندي تكرار لا شك فيه ولا ريب والله أعلم.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب أوقات الصلاة وأسمائها

(1/120)

قال المازري: الوقت حركة الأفلاك ورده بعض شيوخنا بأنه صالح لغة لا عرفا قال وهو كون الشمس أو نظيرها بدائرة أفق معين أو بدرجة علم قدر بعدها منه والصلاة أداء وقضاء. قال ابن الحاجب: فوقت الأداء ما قيد الفعل به أولا والقضاء ما بعده وأراد بقوله أولا الخطاب، الأول على رأي الأصوليين أن القضاء بأمر جديد هكذا كان يفهمه بعضهم وانظر بقية كلام ابن عبد السلام فيه، وقال بعض شيوخنا وقت الأداء ابتداء تعلق وجوبها باعتبار المكلف والقضاء انقضاؤه، والأداء اختياري وهو المذكور غير المنهي عن تأخير فعلها عنه وإليه وضروري وهو المذكور المنهي عنه وإليه فلا تنافي بين الأداء والعصيان، قال وعلى تفسير المازري بأنه وقت مطابقة امتثال الأمر يتنافيان.

ويكون وقت الضرورة لغير ذي عذر قضاء، وهو قد رضي قول ابن القصار أنه وقت أداء وتنافيهما عزاه التونسي للمخالف ونفيه لنا والاختياري فضيلة أن نرجح فعلها فيه على اختياري آخر وإلا فتوسعة، والوجوب يتعلق بكل الوقت وقيل بما يسع الفعل منه مجهولا بعينه الواقع خرجه الباجي على المذهب في خصال الكفارة وهل يشترط في جواز التأخير العزم على الأداء قاله القاضي عبد الوهاب وغيره أو لا يشترط قاله الباجي وغيره في ذلك قولان.

(1/121)

(أما صلاة الصبح فهي الصلاة الوسطى عند أهل المدينة وهي صلاة الفجر فأول وقتها انصداع الفجر المعترض بالضياء في أقصى المشرق ذاهبا من القبلة إلى د بر القبلة حتى يرتفع فيعم الأفق):

ما ذكر الشيخ أن لها ثلاثة أسماء الصبح والفجر والوسطى صحيح أما الصبح فلوجوبها حينئذ والصبح والصباح أول النهار وقيل مأخوذ من الحمرة التي فيه كصباحة الوجه مأخوذة من الحمرة التي فيه وأما الفجر فلوجوبها عند ظهوره، والوسطى لأن الظهر والعصر مشتركتان والمغرب والعشاء كذلك الصبح مستقل بنفسه فكانت وسطى بهذا الاعتبار؛ ولأن المغرب والعشاء صلاتا الليل والظهر والعصر صلاتا النهار وهي وقتها مستقل لا من الليل ولا من النهار وبقي عليه أنها تسمى صلاة الغذاة لأنها تجب غدوة أول النهار وما ذكر الشيخ من أنها تسمى الوسطى فهو إشارة إلى معنى قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) [البقرة: 238]

وهذا هو المشهور من المذهب.

وقال ابن حبيب هي العصر واختاره ابن عبد السلام وابن العربي وبه قال أبو حنيفة والشافعي، واضطرب العلماء في الصلاة الوسطى على أربعة عشر قولا وقول الشيخ عند أهل المدينة يحتمل أن يكون مرتضيا لذلك وهو الأقرب، ويحتمل أن يكون متبرئا من ذلك لخصوصية نسبة هذه المسألة لهم دون غيرهم لا يقال إنما ذكر هذه المسألة للاختلاف فيها فهو إنما ذكر ذلك ارتضاء واحتجاجا على المخالف فيها لأنه

(1/122)

لم يطرد ألا ترى إلى قوله والصناع ضامنون لما غابوا عليه، ولم يقل عند أهل المدينة أو ما أشبه ذلك ليحتج به على من نفى الضمان مطلقا وهو الشافعي أو بقيد أن يعمله بغير أجر وهو أبو حنيفة كقول القاضي عبد الوهاب أجمع على ضمانهم الصحابة وكقول مالك في المدونة قضى الخلفاء بتضمينهم.

(وآخر الوقت الإسفار البين الذي إذا سلم منها بدا حاجب الشمس وما بين هذين وقت واسع):

واختلف في آخر وقت الصبح فقيل طلوع الشمس رواه ابن وهب وبه قال الأكثر وأخذه الباجي من قول مالك من رجا وجود الماء قبل طلوع الشمس فلا يتيمم وقيل الإسفار الأعلى، رواه ابن القاسم، وبه قال الأكثر وأخذ الباجي من رواية ابن نافع صلاتها أول الوقت فذا أحب إلي منها جماعة في الإسفار.

قال ابن الحاجب في تفسيره ابن أبي زيد الإسفار يرجع بهما إلى وفاق قلت: وقيل إن الخلاف حقيقة وإن الإسفار المراد به ما تبين به الأشياء قاله ابن العربي ونقله عبد الحق عن بعض المتأخرين.

(وأفضل ذلك أوله):

ظاهره للفذ والجماعة صيفا وشتاء وهو كذلك، وقال ابن حبيب: يؤخرها الأئمة في الصيف إلى الإسفار لقصر الليل وغلبة النوم نقله عنه أبو محمد ونقل اللخمي عنه تؤخر إلى نصف الوقت، قال ابن رشد في أجوبته المذهب أن أول الوقت أفضل إلا في مساجد الجماعة فتأخيرها عنه شيئا قليلا أفضل.

(ووقت الظهر إذا زالت الشمس عن كبد السماء وأخذ الظل في الزيادة):

سميت الظهر من ظهور زوال الشمس بعد وقوفها ومن الارتفاع لبلوغها غاية ارتفاعها والظهور الارتفاع، وقيل سميت بذلك لأن وقتها أظهر الأوقات وتسمى أيضا الهجيرة وقد جاء في الحديث اسمها بذلك مأخوذ من الهاجرة وهي شدة الحر، وتسمى الأولى لأنها أول صلاة صلاها جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ابتدأ غير واحد بها ولا خلاف أن أول وقتها زوال الشمس كما قال الشيخ رحمه الله قال في المدونة: وما دام الظل في نقصان فهو غداة وأقام المغربي منها ما في سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق فيمن حلف لغريمه لأقضينك حقك غدوة أن له أن يقضيه حقه ما بينه وبين الزوال ولا حنث عليه.

(1/123)

ورده بعض من لقيناه بافتراق المأخذين، وذلك أن ما ههنا نظر فيه إلى اللغة، وما في العتبية نظر فيه إلى العرف ولو كان العرف على خلاف ذلك عمل عليه.

(يستحب أن تؤخر في الصيف إلى أن يزيد ظل كل شيء ربعه بعد الظل الذي زالت عليه الشمس):

لا مفهوم لقوله في الصيف بل وكذلك في الشتاء قال في التهذيب، قال مالك أحب إلي أن تصلي الظهر في الصيف والشتاء والفيء ذراع كما قال عمر وظاهر كلام الشيخ في هذا القول أن حكم الفذ مساو لحكم الجماعة يدل عليه ما يقوله بعد، وكذلك هو ظاهر التهذيب وبه قال عبد الوهاب وغيره.

(وقيل إنما يستحب ذلك في المساجد ليدرك الناس الصلاة وأما الرجل في خاصته فأول الوقت أفضل له):

هذا القول لابن حبيب حكاه أبو عمر بن عبد البر عن ابن عبد الحكم، وبه قال البغداديون واختاره اللخمي قائلا وكذلك حكم الجماعة إذا لم ينتظروا غيرهم.

(وقيل أما في شدة الحر فأفضل له أن يبرد بها وإن كان وحده لقول النبي صلى الله عليه وسلم "أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" وآخر الوقت أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل نصف النهار):

ظاهر كلام الشيخ أنه أراد بهذا القول أن في شدة الحر يبرد بها، وفي غير ذلك تصلى الفيء ذراع وبقي في المسألة قول رابع وهو أنه لا مزية لأول الوقت على آخره حكاه غير واحد، وأما الجمعة فنقل ابن حبيب عن مالك أن من سنة الجمعة تقديمها عند الزوال وبعد ذلك بيسير.

وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي بهم الجمعة ثم ينصرفون فيقيلون قائلة الضحى يريد يستدركون ذلك والحكم ما تقدم سواء قلنا إنها أصل أو بدل عن الظهر للسنة كما تقدم.

(وأول وقت العصر آخر وقت الظهر)

(1/124)

يعني أن وقت آخر الظهر تشاركها فيها العصر فإذا زاد الظل أدنى زيادة على القامة الثانية فيختص الوقت بالعصر وهو قول مالك في المجموعة واختاره عبد الوهاب، وروى أشهب الاشتراك فيما قبل القامة فيما قبل القامة فيما يسع إحداهما واختاره التونسي. وقيل إن الظهر تشارك العصر في القامة الثانية بمقدار أربع ركعات قاله أشهب في مدونته نقله اللخمي عنه، وحكاه ابن بشير ولم يسم قائله وقال ابن حبيب لا اشتراك ونحوه حكى اللخمي عن عبد الملك وابن المواز وصوب ابن العربي قول ابن حبيب قالا تالله ما بينهما اشتراك وقد زلت في ذلك أقدام العلماء. وقال أبو محمد منكر القول ابن حبيب وليس بقول مالك وقيل بينهما فاصل يسير حكاه ابن رشد.

(وآخر الوقت أن يصير ظل كل شيء مثليه بعد ظل نصف النهار):

هذا أحد قولي مالك من رواية ابن عبد الحكم وبه قال ابن المواز وابن حبيب.

(وقيل إذا استقبلت الشمس بوجهك وأنت قائم غير منكس رأسك ولا مطأطئ له فإن نظرت إلى الشمس فقد دخل الوقت وإن لم ترها ببصرك فلم يدخل الوقت وإن نزلت عن بصرك فقد تمكن دخول الوقت):

أنكر ابن الفخار على الشيخ قوله هذا لأن الشمس تكون مرتفعة في الصيف ومنخفضة في الشتاء، قلت: وهذا الاعتراض لا يرد إلا على صاحب القول لا على الشيخ ولا يقال إن الاعتراض وارد على الشيخ أيضا لأن من نقل قولا ولم يمرضه دليل على أنه ارتضاه لأن تقدمة القول الأول عليه دليل على ضعفه عند الشيخ والله أعلم.

(والذي وصف مالك أن الوقت فيها ما لم تصفر الشمس):

هذا القول مروي عن مالك كما قال من رواية ابن القاسم إلا أن في كلام الشيخ عندي قصورا لأن كلامه يقتضي أن القول الأول باعتبار القامتين ليس هو عن مالك وليس كذلك بل هو عنه من رواية ابن عبد الحكم نص عليه في المختصر، وقال إسحاق بن راهويه وداود آخر وقتها أن يدرك المصلي منها ركعة وحجتها قول النبي صلى الله عليه وسلم "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".

(ووقت المغرب وهي صلاة الشاهد يعني الحاضر يعني أن المسافر لا يقصرها

(1/126)

ويصليها كصلاة الحاضر فوقتها غروب الشمس فإذا توارت بالحجاب وجبت الصلاة لا تؤخر وليس لها إلا وقت واحد لا تؤخر عنه):

ما ذكر الشيخ أن لها اسمين المغرب وصلاة الشاهد، أما المغرب فلكونها تصلى عند الغروب وأما صلاة الشاهد فلما ذكر وهو أن المسافر يشهدها كما يشهدها الحاضر، ونقض الفاكهاني عليه بالصبح، وقال إنما تسمى بالشاهد لأن نجما يطلع عند الغروب يسمى بذلك فسميت المغرب به والذي علل به أولى مما قال الشيخ قال وقد رأيت للتونسي ما يدل على ذلك، قال الذي جاء في الحديث من أن الشاهد النجم أولى بالصواب. مما قال مالك رحمه الله ولا يقال لها لعشاء فقد جاء في الحديث النهي عن ذلك، وقد قال في المدونة ونومه قدر ما بين العشاءين طويل فظاهره أنه يقال لها العشاء.

قال ابن هارون إلا أن يقال أنه من باب التغليب كالأبوين وفيه نظر لأنه مجاز والأصل عدمه وما ذكر أن وقتها غروب الشمس وقع الإجماع عليه والمراد غروب قرص الشمس دون شعاعها وأثرها وقد صرح به القاضي عبد الوهاب، وقد نقل ابن هارون عن بعضهم من حال بينه وبينها جبال من ناحية المغرب فيعتبر ابتداء الظلام من المشرق وما ذكر أن وقتها لا يمتد هو قول الأكثر، وقيل إن وقتها يمتد إلى مغيب الشفق أخذه ابن عبد البر وابن رشد واللخمي والمازري من قول الموطأ إذا غاب الشفق خرج وقت المغرب، ودخل وقت العشاء.

وأخذه بعض الشيوخ من المدونة من موضعين من قولها لا بأس أن يمر المسافر الميل ونحوه، ومن قولها إذا طمع من خرج من قرية إلى قرية وهو مسافر في المساء قبل

(1/127)

مغيب الشفق فإنه يؤخر المغرب إليه ورده المغربي بأنه قد تقرر أن للمسافر خصوصيات ليست للحاضر، قلت: ويرد بأن المنصوص في المذهب على أن المسافر يتيمم للظهر مثلا إذا خاف دخول الوقت من القامة الثانية فلو كانت المغرب لا يمتد وقتها لأمر بالتيمم لها حينئذ، والله أعلم. وإذا قلنا بعدم الامتداد فالمعتبر قدر الوضوء والأذان والإقامة وليس الثياب.

(ووقت صلاة العتمة وهي صلاة العشاء وهذا الاسم أولى بها غيبوبة الشفق والشفق الحمرة الباقية في المغرب من بقايا شعاع الشمس)

(1/128)

اختلف في تسميتها العتمة على ثلاثة أقوال: أحدها ما ذكر الشيخ ولا أعرفه لغيره وقيل يكره تسميتها بالعتمة وهو في سماع ابن القاسم، قال أكره تسميتها بالعتمة وأستحب تعليم الأهل والولد تسمية العشاء وأرجو سعة تكليم من لا يفهمها إلا بالعتمة وقيل يحرم تسميتها بالعتمة وهو ظاهر نقل ابن رشد عن كتاب ابن مزين من قال عتمة كتبت عليه سيئة.

(والشفق الحمرة إلى آخره):

ما ذكره الشيخ هو نقل الأكثر وقال ابن شعبان أكثر أجوبة مالك الحمرة فأخذ اللخمي وابن العربي منه أن أقل أجوبته البياض ورده المازري باحتمال إرادة رواية ابن القاسم أرجو أنه الحمرة والبياض أبين وهذا تردد وليس بجزم، قال عياض والقول بالبياض عندي أبين للخروج من خلاف أهل اللسان والفقه واحتج بعض الشيوخ للمشهور بوجهين أحدهما أن الغوارب ثلاثة أنوار: الشمس والشفقان والطوالع ثلاثة الفجران والشمس.

والحكم يتعلق بالوسط من الطوالع وكذلك يتعلق بالوسط من الغوارب الثاني أنه روي عن الخليل بن أحمد رضي الله عنه أنه قال ارتقبت البياض أربعين صباحا فوجدته يبقى إلى آخر الليل وفي مختصر ما ليس في المختصر عنه إلى نصف الليل فلو رتب الحكم عليه للزم تأخير العشاء إلى نصف الليل أو آخره وما ذكر أن وقتها المختار ثلث الليل هو المشهور. وقال ابن حبيب النصف وبه قال ابن المواز بالأول قال الشافعي وبالثاني قال أبو حنيفة.

(والمبادرة بها أولى ولا بأس أن يؤخرها أهل المساجد قليلا لاجتماع الناس):

يعني أن المنفرد أول الوقت أفضل له وأما الجماعة فتأخيرها قليلا أحسن وما

(1/129)

ذكر من أن التأخير قليلا للجماعة هو قول مالك وهو أحد الأقوال الخمسة وقيل عنه إنها تؤخر إلى ثلث الليل وكلاهما حكاه ابن عبد البر، وقيل تقديمها أفضل وهي رواية العراقيين على أنه يمكن رد هذا القول لما قال الشيخ، وقال ابن حبيب تؤخر شيئا قليلا في الشتاء وفوقه في رمضان، وقال اللخمي تأخيرها أفضل إن تأخروا وتقديمها أفضل إن تقدموا وعزاه ابن عبد السلام لأكثر نصوص أهل المذهب وفيما قاله نظر.

(ويكره النوم قبلها والحديث لغير شغل بعدها):

ما ذكر من أن النوم قبلها مكروه هو سماع ابن القاسم قيل فبعد الصبح قال ما أعلمه حراما وظاهر كلام الشيخ أنه يكره ولو وكل من يوقظه وحديث الوادي يدل على جوازه، ويقوم من كلام الشيخ أنه يكره للرجل الخروج قبل دخول الوقت من منزله إلى مكان يحدث فيه مثلا على أميال دون ما إذا كان شك هل فيه ماء أم لا، وانظر إذا كان يتحقق أنه ليس فيه ماء هل يجب حمل الماء أو يستحب فقط لأن الطهارة لا تجب ولا بعد دخول الوقت فذلك استعداد الماء لها وشاهدت في حال صغرى فتوى شيخنا أبي محمد عبد الله الشبيبي رحمه الله تعالى بالأمر بذلك ولا أدري هل ذلك منه على طريق الوجوب أو على طريق الندب ونفسي أميل إلى الوجوب.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب الأذان والإقامة

(1/130)

الأذان في اللغة الإعلام ومنه قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم) [الأعراف: 44]

ومنه قول الشاعر:

أذنت ببينها أسماء = ليت شعري متى يكون اللقاء

وحقيقته في الاصطلاح الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة المؤداة في الوقت وثمرته قصد الاجتماع لها وأن الدار دار إيمان وإظهار لشعائر الإسلام، واختلف هل يؤذن للفوائت أم لا على ثلاثة أقوال: فقيل لا يؤذن لها قاله أشهب وهو نقل الأكثر، وعلي العمل، وقيل يؤذن لأول الفوائت حكاه الأبهري رواية عن المذهب، واختار إن رجي اجتماع الناس لها أذن لها وإلا فلا وهذان القولان حكاهما عياض في الإكمال، وقول ابن عبد السلام: المذهب أنه لا يؤذن للفوائت والنظر يقتضي أنه مندوب إليه لحديث الوادي قصور لما تقدم وأما غير الفرائض، فلا يؤذن لها قال ابن عبد السلام: اتفاقًا.

وحكى زياد النداء للعيدين قلت: إن عنى بالنداء الأذان حقيقة فهو ينقض الاتفاق الذي ذكر وإن عنى به "الصلاة جامعة" مثلا فهما مسألتان فلا تناقض والذي تلقيناه عن شيوخنا أن مثل هذا اللفظ بدعة.

(الأذان واجب في المساجد والجماعات الراتبة):

أراد الفريضة وذهب بعض البغداديين إلى أنه سنة وفي الموطأ إنما يجب الأذان في مساجد الجماعات واختلف تأويل الشيوخ في معناه بالفرضية والسنية فحمله أبو محمد على الفرضية وحمله عبد الوهاب على السنية وكلا التأويلين ذكره ابن بشير، وحمل الفاكهاني قول الشيخ على السنة وهو بعيد لما ذكرنا من تأويله على الموطأ فتفسير قوله بقوله أولى والله أعلم.

والمراد بالفرض هنا فرض كفاية ولم يذهب أحد إلى أنه فرض عين، وقال ابن الحاجب: الأذان سنة وقيل فرض، وفي الموطأ إنما يجب الأذان في مساجد الجماعات وقيل فرض كفاية على كل بلد يقاتلون عليه لا يقال ظاهر يقتضي أن القول الثاني فرض عين ليكون مغايرا لما بعده لأن المغايرة حاصلة على غير هذا الوجه وذلك أن كلامه يدل على أنه أراد بقوله، وقيل فرض أي فرض كفاية على كل مسجد يدل عليه قول

(1/131)

الموطأ وما بعد كما صرح به فرض كفاية على كل بلد فاعمله والله أعلم وبهذا التفسير فسره ابن هارون رحمه الله.

(وأما الرجل في خاصة نفسه فإن أذن فحسن ولا بد له من الإقامة):

ما ذكر الشيخ أن المنفرد إن أذن فحسن مثله الجماعة الذين لا يدعون أحدا بأذانهم وهذا قول مالك ووقع له لا يؤذنون فحمله اللخمي والمازري على الخلاف ورده ابن بشير بحمل نهيه على نفي تأكده فليسوا كالأئمة في مساجد الجماعات، وإن أذنوا فهو ذكر والذكر لا ينهي عنه من أراده ولا سيما إذا كان من جنس المشروع، واستحب مالك وبن حبيب للفذ المسافر ولو بفلاة الأذان لما ورد فيه حكاه ابن عبد البر وقول ابن الحاجب وابن بشير استحبه المتأخرون للمسافر، وإن انفرد لحديث أبي سعيد وحديث ابن المسيب قصور ونبه علي بعض شيوخنا.

وحكى ابن عبد البر عن رواية أشهب إن تركه مسافر عمدًا أعاد صلاته فهذا يقتضي أنه فرض لكونه وحده فأشبه إذا تركه أهل مصر عمدا أن صلاتهم باطلة حسبما رواه الطبري عن مالك وتحمل رواية أشهب على الإعادة في الوقت. وقال ابن عبد السلام: وقع في ترك الأذان والإقامة الإعادة في الوقت.

(ولابد له من الإقامة):

قال التادلي: ظاهر كلامه يقتضي الوجوب كقول ابن كنانة أن من تركها عمدا بطلت صلاته، وإنما أراد الشيخ والله أعلم أن الإقامة في حقه سنة وعليه حمله عبد الوهاب، قلت: ما ذكر لابن كنانة نحوه، نقله ابن يونس عنه وعن عبد الملك وابن زياد نافع ووجهه بما يقتضي البطلان. وقال في المدونة ويستغفر الله العامد ووجهه غير واحد ممن أدركتهم أن تركه الإقامة عمدا مشعر بأنه فعل ذنبا ولم يشعر به فالاستغفار إنما هو لغير الإقامة وهذا وإن كان بعيدا فللضرورة يحسن والله أعلم.

وحكم الإقامة السنة في مشهور المذهب ومنصوصه، وقال مالك في المبسوط من دخل مسجدا فوجد أهله قد صلوا فأحب إلي إن يقيم قال اللخمي فجعلها فضيلة وقبله بعضهم، ويرد بالتبعية لأهل المسجد فلهذا جعلها مستحبة، وقال ابن هارون فيما قاله نظر لاحتمال أن يريد بقوله أحب إلى السنة. كقول ابن الحاجب يستحب لمن استيقظ من نومه غسل يديه والإقامة يطلب بها كل مصل فرض عين سواء كانت حاضرة أو فائتة، قال في المدونة وعلى من ذكر صلوات إقامة لكل صلاة قلت وخرج

(1/132)

بعض من لقيناه من رواية أبي الفرج يتيمم للفوائت تيممًا واحدًا وإقامة واحدة أن من عليه صلوات كثيرة أن يقيم لها إقامة واحدة وأجبته بيسر الإقامة لكونها قولية بخلاف التيمم لأنه فعلي والله أعلم.

(وأما المرأة فإن أقامت فحسن وإلا حرج):

ما ذكر من الإقامة للمرأة حسن هو نص المدونة، وفي ابن الجلاب عن ابن عبد الحكم روى في الطراز عدم استحسانها إذ لم يرو عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن يقمن وأما الأذان لها فيمنع اتفاقا لأن صوتها عورة ولذا قيل:

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وإنما أجيز بيعها وشراؤها للضرورة واعترض أبو محمد صالح قول المدونة وليس عل المرأة أذان من حيث أنه إنما نفي الوجوب بقول علي فكلامه يدل على أن ذلك جائز وليس كذلك.

قال الفاكهاني: والحرج بفتح الحاء والراء وفيه لغة أخرى بكسر الحاء وإسكان الراء وهو التضييق.

(ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها إلا الصبح فلا بأس أن يؤذن لها في السدس الأخير من الليل):

ما ذكره هو قول ابن وهب وسحنون وهو المشهور وقيل يؤذن لها إذا خرج وقت العشاء المختار، وقيل إذا صليت العشاء قاله أبو بكر الوقار، فمنهم من أطلقه ومنهم من قيده بما قبله يليه، وقال صاحب الطراز يؤذن لها آخر الليل دون تحديد وإليه أشار في الموطأ، ونقل ابن هارون عن ابن عبدالحكم يؤذن لها عند الثلث الآخر من الليل فتحصل في وقت نداء الصبح خمسة أقوال، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينادى لها إلا بعد دخول وقتها كغيرها. وظاهر كلام الشيخ أن الجمعة كغيرها وهو كذلك.

ونقل القرافي عن ابن حبيب أنه يؤذن لها قبل الزوال والاتفاق على أنها لا تصلى إلا بعد الزوال ومرض بعض شيوخنا نقله عن ابن حبيب بقوله لا أعرفه بل نقل أبو محمد عنه يؤذن للصبح وحدها قبل دخول الوقت، وقال ابن حارث اتفقوا على منعه قبل الوقت إلا الصبح.

(والأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله ثم ترجع بأرفع من صوتك أول مرة فتكرر

(1/133)

التشهد فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح فإن كنت في نداء الصبح زدت ههنا الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، لا تقل ذلك في غير الصبح الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله مرة واحدة).

اختلف المذهب هل يرفع المؤذن صوته بالتكبير ابتداء أم لا والمشهور الرفع وذكر بعضهم أن مذهب مالك ليس إلا الإخفاء وهي إحدى المسائل التي خالف فيها الأندلسيون مذهب مالك، وكلام الشيخ يحتمل القولين وذلك أن قوله ثم ترجع بأرفع من صوتك أول مرة يحتمل عوده على التكبير، ويحتمل عوده على التشهدين وكذلك اختلف الشيوخ في معنى المدونة فحملها اللخمي على القول الأول، وحملها أبو عمران على القول الثاني.

واحتج بما في رواية ابن وهب وسماع أشهب عن مالك أنه يخفض صوته بالتكبير والتشهد وظاهر كلام الشيخ أن الترجيع لا بد منه ولو كثر المؤذنون، وهو كذلك عن مالك إذا كثروا فيرجع الأول خاصة وما ذكر من تكرير الصلاة خير من النوم هو نص المدونة، وقل مرة واحدة قاله ابن وهب في أحد قوليه وظاهر كلام الشيخ أنه يقول الصلاة خير من النوم ولو لم يكن ثم واحد وهو كذلك.

وروى ابن شعبان: من تنحى في ضيعته عن الناس أرجو أن يكون من تركها في سعة حكاه اللخمي عنه قلت: والأقرب هو الأول إذ يلزمه ذلك الأذان أجمع إذا قلنا إن أصل مشروعيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم لا عن عمر.

وشروط المؤذن الإسلام والذكورية والعقل فلا يعتد بأذان كافر ولا مجنون ولا امرأة قاله غير واحد كابن الحاجب.

قال الفاكهاني: ويكون أذانه إسلاما له قلت إذا كان كذلك فلم لا يجزئ لكونه مسلما، وقد قال في المدونة إذا أجمع على الإسلام بقلبه واغتسل أجزأه.

واختلف في جواز أذانه إسلاما له قلت إذا كان كذلك فلم لا يجزئ لكونه مسلما، وقد قال في المدونة إذا أجمع على الإسلام بقلبه واغتسل أجزأه.

واختلف في جواز أذان الصبي على أربعة أقوال: فقيل: لا يؤذن قاله في التهذيب، ونصه، لا يؤذن إلا من احتلم زاد في المدونة لأن المؤذن إمام ولا يكون من لم يحتلم إماما، قال ابن أبي زمنين لأن الناس يقتدون به في أوقات الصلاة؛ ولذلك كانوا يختارون للأذان أهل الصلاح والمعرفة، وقيل يؤذن رواه أبو الفرج وقيل كذلك إن لم يوجد غيره رواه أشهب، وقيل إن كان ضابطا تابعا لبالغ فإنه يؤذن وإلا فلا، قاله

(1/134)

اللخمي.

واختلف في أذان الجنب خارج المسجد، فقال ابن القاسم لا يؤذن وحمله اللخمي على الكراهة وقال سحنون وابن نافع بل يؤذن، قلت: وبه كان شيخنا أبو محمد الشبيبي رحمه الله تعالى يفتي إلى أن مات وهو الأقرب عندي لأنه ذكر كما لا يمنع من الأذكار اتفاقا غير القرآن فكذلك الأذان والله أعلم.

وحكاية المؤذن مستحبة وأطلق ابن زرقون عليها الوجوب وهو غريب وفروع الحكاية كثيرة ولولا الإطالة لذكرتها.

(والإقامة وتر: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله مرة واحدة):

قال المازري: اختلف إذا شفع الإقامة غلط فقال بعض أصحابنا يجزئ والمشهور لا يجزئ، قلت: وعن ابن يونس الأول لأصبغ ولهذه المسألة نظائر منها من غسل رأسه في وضوئه بدلا من مسحه ومن قطع جميع الرأس في الذبح ومن بجبهته قروح فكان فرضه الإيماء وسجد على أنفه وليست مثلها أي المسألة من وجبت عليها شاة فأخرج عنها بعير وإن كان فيها خلاف لعدم المجانسة والله أعلم.

ولو أراد أن يؤذن فأقام فإنه لا يجزئ باتفاق وإذا قطعت الصلاة لذكر نجاسة فإنه يعيد الإقامة قاله في المدونة فمنهم من أطلقها ومنهم من قيدها بما إذا بعد أما مع القرب فلا، وأما إذا أقيمت لمعين فلم يمكن فهل تعاد أم لا؟ اختلف في ذلك على قولين لابن العربي وغيره ولا بأس أن يقيم خارج المسجد للإسماع، وروى علي بن زياد وإن كان على المنار أو على ظهر المسجد وإن كان يخص رجلا بالإسماع فداخل المسجد أحب إلي.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب صفة العمل في الصلوات المفروضة وما يتصل بها من النوافل والسنن

لما فرغ رحمه الله من الأذان والإقامة لم يبق إلا التكلم على كيفية الصلاة، واعلم أن لها شروطا وفرائض وسننا وفضائل، فالشروط طهارة الخبث والحدث وستر العورة

(1/135)

واستقبال القبلة، وترك الكلام وترك الأفعال الكثيرة، وقال ابن عبد السلام: عد الأخيرين في الشروط فيه نظر لأن ما هو مطلوب الترك إنما يعد من الموانع.

قال ابن الحاجب: والفرائض تكبيرة الإحرام والفاتحة والقيام لها والركوع والرفع والسجود والرفع والاعتدال والطمأنينة على الأصح والجلوس للتسليم، والسنن سورة مع الفاتحة في الأوليين والقيام لها والجهر والإسرار والتكبير، وسمع الله لمن حمده، والجلوس الأول وتشهده والزائد على قدر الاعتدال والتسليم من الثاني وتشهده والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الأصح والفضائل ما سواها. قلت: وقوله سورة مع الفاتحة في الأوليين فيه مسامحة لأن كلامه يقتضي أنها ليست بسنة حيث لا أخيرتين كالصبح ولهذا بينه بعد قوله والصبح والجمعة.

(والإحرام في الصلاة أن تقول الله أكبر لا يجزئ غير هذه الكلمة)

معنى الإحرام في الصلاة الدخول في حرمها لأنه إذا أحرم حرم عليه كل ما هو

(1/136)

مباح له قبل التلبس بها ومعنى الله أكبر عند بعضهم الله أكبر من كل شيء، قال عياض وأباه آخرون قائلين إنما المراد الكبير قال تعالى: (هو أهون عليه) [الروم: 27]

أي هين، قال المازري في شرحه: حكى بعض أصحابنا البغداديين أن تكبيرة الإحرام ركن لا شرط، وقال أبو حنيفة: شرط وقال في تعلقة الجوزقي حكى الشيخ عبد الحميد الصائغ قولين في كون الإحرام والسلام من نفس الصلاة أم لا؟ فظاهره أن الخلاف مذهبي واتفق أهل المذهب على أن غير الله أكبر لا يجزئ ولو كان اللفظ مجانسا كما إذا قال الله أكبر، ويقوم منه أن من أبدل سمع الله لمن حمده بربنا ولك الحمد في ثلاث ركعات فأكثر فإن صلاته باطلة.

ووجه الإقامة هنا أنهم أطبقوا أن المجانسة لا اعتبار بها في قولهم لا يجزئ الله أكبر فيلزم اطراده وبهذا كان شيخنا أبو محمد الشبيبي رحمه الله يفتي ويوجه فتواه بأن المستحب لا يقوم مقام السنة، وكان بعض شيوخنا يفتي بالصحة ويحتج بأن المحل لم

(1/137)

يخل من ذكر مجانس، وقد قال ابن بشير كل سنة في الوضوء لم يعر موضعها عن فعل فإنها إذا تركت لا تعاد كمن ترك غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء والاستثنار ورد اليدين في مسح الرأس ولا خلاف أن الأخرس تكفيه النية.

واختلف في العاجز لعجمته على ثلاثة أقوال: فقال الأبهري: يدخل بنية وقال أبو الفرج: يدخل بالحرف الذي دخل به الإسلام وقيل: يترجم عنه بلغته قاله بعض شيوخ القاضي عبد الوهاب قال في المدونة: وينتظر الإمام به قدر تسوية الصفوف، ونقل ابن عبد السلام عن ابن عبد البر أنه مخير في الانتظار والإحرام عند قد قامت الصلاة ووهمه بعض شيوخنا بأنه إنما حكاه عن أحمد بن حنبل لا غير.

(وترفع يديك حذو منكبيك أو دون ذلك):

اختلف في حكم رفع اليدين على ثلاثة أقوال: فقيل: فضيل وهو نقل الأكثر وقيل: سنة حكاه ابن يونس وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يرفع حكاه ابن شعبان وفي ثاني حج المدونة تضعيفه. واختلف في منتهى الرفع فروى أشهب حذو صدره وقيل إلى المنكبين وهوالمشهور والمدونة محتملة لهما في قولها يرفع شيئا قليلا وقطع ابن رشد بأن الأول وهو ظاهرها وهذان القولان هما اللذان أراد الشيخ بقوله وترفع يديك حذو منكبيك أو دون ذلك، وقال عياض: جمع بعض مشايخنا بين روايات الحديث وقول مالك يجعلهما مقابلة أعلى صدره وكفاه حذو منكبيه، وأطراف أصابعه حذو أذنيه.

قلت: قال بعض من لقيناه وفي هذا القول مسامحة؛ لأن اليد لا تطول لذلك وإنما المراد على طريق المقاربة، ولذلك عده غير واحد خلافا كابن الحاجب وليس كما قال والعيان والحس يشهدان بحقيقته وظاهر كلام الشيخ أن الرفع مما يختص بتكبيرة الإحرام، وهو كذلك في مشهور المذهب وروى ابن عبد الحكم يرفع في رفع الركوع أيضًا.

وقال ابن وهب: وعند الركوع وعنه إذا قام من اثنين وروى ابن خويز منداد يرفع في كل خفض ورفع حكاه ابن عبد البر في المحصول لحاصل خمسة أقوال: وحكمة الرفع إما لنبذ الدنيا وراءه ظهره وإما لإتيان المنافقين بأصنامهم، وإما علم على التكبير ليرى ذلك من قرب ومن بعد وإما لإتمام القيام إلى غير ذلك، وفي صفة رفعه قولان أحدهما أنه يبسط يديه ويجعل ظهورهما مما يلي السماء وبطونهما مما يلي الأرض وهذه صفة الراهب. والثاني: أنه يرفعهما منبسطتين فيجعل بطون أصابعهما مما يلي السماء

(1/138)

وهذه صفة النابذ للدنيا وراء ظهره، واستحب بعض الشيوخ هذه الصفة لأنه يمكن بها الجمع بين الأحاديث الواردة في منتهى الرفع.

(ثم تقرأ):

مثل هذا اللفظ في المدونة وفيه مسامحة من حيث أن ثم تقتضي المهلة ولقد أحسن ابن الحاجب في قوله الفاتحة إثر التكبير ولا يتربص إلا أن قوله ولا يتربص كالمستغني، عنه والجواب عن الشيخ أنه إنما قصد بذلك مقتضى العطف باتفاق وهذا معلوم من مذهبه في تكلمه على صفة الصلاة، واختلف المذهب في قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" بني التكبير والفاتحة على ثلاثة أقوال: فقيل يكراهة ذلك وهو المشهور ونص عليه في المدونة، وقيل إنه جائز رواه ابن شعبان عن مالك أنه كان يقوله مع سماع ابن القاسم لا بأس بقوله إذا كبر: "سبحانك اللهم وبحمدك" وقيل إنه مستحب حكاه ابن رشد عن رواية النسائي.

وخرج اللخمي عليه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" وصوبه، لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(فإن كنت في الصبح قرأت جهرا بأم القرآن لا تستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم في أم القرآن ولا في السورة التي بعدها):

اختلف في حكم الجهر على ثلاثة أقوال: فقيل سنة وهو المنصوص وروي عن مالك أنه لا سجود في تركه، وقال ابن القاسم تبطل الصلاة بتركه عمدا فأخذ الباجي من الرواية الفضيلة، ومن قول ابن القاسم الفرضية قلت ورد باحتمال كون البطلان لترك السنة عمدا، ومذهبنا تعيين أم القرآن لاي قوم غيرها مقامها وقال أبو حنيفة لا تتعين ومن تركها في ركعة أو في أكثر فيأتي الكلام عليه حيث يتكلم الشيخ عليه إن شاء الله تعالى.

وما ذكر الشيخ أن البطلان مسألة غير مشروعة هو قول مالك وهو المشهور عنه وقيل إنها مستحبة قاله ابن مسملة وقيل إنها واجبة قاله ابن نافع، وقيل إنها مباحة قاله مالك في المبسوط الأربعة حكاها ابن عات، وهذا بالنسبة إلى الفرض، وأما النفل فقال ابن رشد في ذلك روايتان يقرؤها ولا يقرؤها، وقال عياض من رواية ابن نافع لا تترك بحال قلت: وقول المدونة يقتضي الإباحة ونصها وله أن يتعوذ ويبسمل في النافلة

(1/139)

قال الفاكهاني: وفي ظني أن في قراءة سورة الوتر خلافا هل يفصل بينهما ببسملة أم لا وأظنه في النوادر.

(فإذا قلت (ولا الضالين) [الفاتحة: 7]

فقيل آمين إن كنت وحدك أو خلف إمام وتخفيها):

اعلم أن حكم التأمين الاستحباب وقال ابن عبد السلام: الأقرب أن يبعد في السنن.

قلت وقول التادلي هو سنة للمأموم وفضيلة للإمام والفذ لا أعرفه وقصور منه في حفظه المذهب إذ المذهب الاستحباب مطلقا، وبعد كتبي ما ذكر وقفت على ما قال لابن رشد في المقدمات وقبله خليل ولغات أربع: المد، والقصر مع تخفيف الميم، والوجهان مع شدها ولا خلاف أن الفذ يقولها، وكذلك المأموم إذا كان يقرأ أو يسمع صوت الإمام في الجهر، وأما إن كان بعيدا بحيث لا يسمع فقيل يتحرى فراغ الإمام، ويؤمن قاله ابن عبدوس ولقمان.

وقيل لا يتحرى وقيل هو بالخيار قاله في سماع ابن نافع وصوب ابن رشد الثاني بقوله: المصلي ممنوع من الكلام والتأمين كلام أبيح له في موضعه فإذا تحراه قد يضعه في غير موضعه، ورأى بعض شيوخنا أن قوله والتامين كلام أبيح له يقتضي أن التأمين عنده مباح فناقضه بقوله في المقدمات لا فرق بينه وبين سائر المستحبات إلا أنه آكد فضلا، قلت لم يرد الشيخ ما صرح به عنه وإنما أراد التأمين مشروع عند قول الإمام (ولا الضالين) [الفاتحة:7]

فإذا تحراه المأموم البعيد فقد يضعه في غير محله، ففي كلامه مسامحة فقط، ولم يرد ما قال والله أعلم، وظاهر كلام الشيخ أنه يقولها خفية ولو كانت الصلاة جهرية وهو كذلك، وقيل يجهر الإمام في الجهر ليقتدي به وقيل فيه أنه مخير.

(ولا يقولها الإمام فيما جهر فيه، ويقولها فيما أسر فيه وفي قو له إياها في الجهر اختلاف):

تحصيل ما ذكر أنه إذا أسر يؤمن اتفاقا وفي الجهر خلاف على أن في كلامه رحمه الله قلقا والقول بالتأمين رواه المدنيون عن مالك، والقول بعدمه رواه المصريون عنه. وفي المسألة قول ثالث بالتخيير قاله ابن بكير.

(ثم تقرأ سورة من طوال المفصل وإن كانت أطول من ذلك فحسن بقدر التغليس

(1/140)

اختلف في حكم السورة على ثلاثة أقوال: فقيل سنة وهو المنصوص، وقيل فضيلة أخذه اللخمي من قول مالك وأشهب لا يسجد لتركها سهوا، ورده ابن بشير باحتمال قصر السجود على ما ورد ولم يرد فيها وأجابه ابن هارون، بأن أصل مذهب مالك أن السجود لا يقتصر فيه على ما ورد قال ولا نعلم فيه خلافا، ولو لزم ذلك لزم ترك السجود في جل مسائل السهو.

وقيل إنها فرض أخذه اللخمي أيضا من قول عيسى بن دينار: من تركها عمدا بطلت صلاته.

ورده المازري باحتمال أن يكون البطلان لترك السنة عمدا وليست بكمالها سنة، وإنما مطلق الزيادة على أم القرآن هو السنة وتكميلها فضيلة، وما ذكرناه من حكمها إنما هو بالنسبة إلى الفرض، وأما قراءتها في النفل فقال ابن رشد هي مستحبة لسماع ابن القاسم لا سجود لتركها في الوتر، ونقل الشيخ في نوادره عن رواية ابن عبد الحكم أنه لا بأس في النفل بأم القرآن فقط.

ونقل ابن عبد السلام من كتاب ابن شعبان يقرأ في تحية المسجد بأم القرآن فقط وهو المشهور في ركعتي الفجر ولا يقرأ ببعض سورة قاله في المختصر.

وروى الواقدي: لا بأس بمثل آية الدين وقال عياض: المشهور كمالها وظاهر كلام الشيخ كقول ابن حبيب يقرا في الصبح والظهر من البقرة إلى عبس، وقال الفاكهاني: إنما أراد الشيخ بقوله أطول ما يقارب طوال المفصل لا أنه يقرأ البقرة ونحوها لأنه لا يبقى معه التغليس في الغالب.

قال التادلي: واختلف إذا افتتح سورة طويلة ثم بدا له عنها فقيل يلزمه تمامها وقيل لا وقيل إن نذرها لزمه وإلا فلا قلت: وما ذكره لا أعرفه نصا والذي تلقيته عن غير واحد من الشيوخ إجراء ذلك على من افتتح نافلة قائما ثم شاء الجلوس.

(1/141)

(فإذا تمت السورة كبرت في انحطاطك إلى الركوع فتمكن يديك من ركبتيك وتسوي ظهرك مستويا ولا ترفع رأسك ولا تطأطئه وتجافي بضبعيك عن جنبيك وتعتقد الخضوع بذلك في ركوع وسجودك)

(1/142)

الركوع في اللغة الانحناء وفي الشرع ما قال الشيخ، ووضع اليدين على الركبتين مستحب فإن لم يضعهما عليهما فصلاته مجزئة نقله ابن يونس عن مالك في المجموعة ولم يحك غيره وظاهر المدونة وجوب ذلك ونصها: وإذا مكن يديه من ركبتيه في الركوع وإن لم يسبح وأمكن جبهته وأنفه من الأرض في السجود فقد تم ذلك إذا تمكن مطمئنا. قال ابن عبد السلام: وانظر إن نكس رأسه إلى الأرض هل يجزئه عند من يوجب الطمأنينة أم لا؟ قلت الصواب أنه يجزئه لأن الطمأنينة تحصل مع ذلك وانحناؤه لا يضر لأنه أتى بالمطلوب وزيادة ومجافاة الضبعين مستحبة اتفاقا.

(ولا تدع في ركوعك وقل إن شئت سبحان ربي العظيم وبحمده وليس في ذلك توقيت قول ولا حد في الليث):

(1/143)

اعلم أن هذا أحد الأمكنة التي يكره الدعاء فيها وثانيها بعد الإحرام وثالثها بعد الجلوس، وقبل التشهد وهذه ذكرها عبد الحق في نكته، وزاد ابن الطلاع وبعد سلام الإمام وقبل سلام المأموم وزاد غيرهما وبعد التشهد الأول.

(ثم ترفع رأسك وأنت قائل سمع الله لمن حمده، ثم تقول اللهم ربنا ولك الحمد إلى آخره):

اختلف المذهب في الرفع من الركوع فقيل فرض وهو نقل الأكثر وقيل سنة حكاه ابن رشد وأ جرى عليهما قول مالك في عقد الركعة هل هو الركوع، أو رفع الرأس منه وحكم سمع الله لمن حمده السنة اتفاقا، وهل مجموعة في الصلاة سنة واحدة أو كل تسميعة سنة يجري عندي على الخلاف في التكبير حسبما حكاه ابن رشد وحكم ربنا ولك الحمد الفضيلة باتفاق، وما ذكر الشيخ أن الفذ يجمع بينهما هو كذلك باتفاق، وكذلك حكم الإمام في القول الشاذ والمشهور يقول سمع الله لمن حمده فقط.

وما ذكر أن المأموم يقول ربنا ولك الحمد فقط هو المشهور، وقال عيسى إنه يجمع بينهما كالفذ ومثله لابن نافع حكاه الباجي عنهما ومثله نقل المازري وغلطهما عياض في الإكمال فانظره، وروى ابن القاسم ولك الحمد بإثبات الواو كما قال الشيخ وروى ابن وهب لك بإسقاط الواو وما ذكر من إثبات اللهم هو نص المدونة وغيرها وقيل بإسقاطها قاله ابن حارث ومثله في المعلم والإكمال وغيرهما.

(وتستوي قائتما مطمئنا مترسلا):

المطلوب كمال الرفع كما قال الشيخ واختلف إذا رفع ولم يعتدل فقال ابن القاسم يجزئه ويستغفر الله وقال أشهب لا يجزئه وهو قول ابن القصار وابن الجلاب وابن عبد البر، وبه أفتى كل من قرأت عليه وقيل إن قارب الاعتدال أجزأه وإلا فلا قاله القاضي عبد الوهاب وغيره.

واختلف في الطمأنينة فقيل فرض سنة ومعنى قول الشيخ مترسلا أي ساكنا قاله في مختصر العين.

(ثم تهوي ساجدا لا تجلس ثم تسجد وتكبر في انحطاطك للسجود فتمكن جبهتك وأنفك من الأرض):

حقيقة السجود ما ذكر الشيخ وهو تمكين الجبهة والأنف من الأرض، ولا

(1/144)

يشترط تمكين الجبهة كلها بل بعضها كاف صرح بذلك ابن عبد السلام، فإن قلت ما نسبته لابن عبد السلام أليس أنه مأخوذ من المدونة قال فيها ومن صلى على كور العمامة كرهته ولا يعيد وأحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى يمس الأرض بذلك، قلت: ليس كذلك لأنه سجد ببعض جبهته على العمامة فهو قد مكن جميع جبهته بعضها مباشرة وبعضها بحائل.

واختلف إذا ترك السجود على الجبهة والأنف على أربعة أقوال: فقال ابن حبيب يعيد أبدا وقيل لا إعادة عليه حكاه ابن الحاجب وقيل إن سجد على الجبهة صحت صلاته وعلى الأنف يعيد أبدا قاله في المدونة وقيل إن سجد على الأنف يعيد في الوقت خاصة حكاه أبو الفرج عن ابن القاسم قال في المدونة ومن بجبهته قروح أومأ ولم يسجد على أنفه، ونص أشهب على أنه سجد عليه أجزأه وألزم الخمي على قول ابن حبيب السابق أنه يسجد عليه وجوبا.

واختلف هل قول أشهب وفاق أم لا؟ فذهب ابن يونس وشيخه عتيق إلى أنه وفاق وقال ابن القصار هو خلاف وإليه ذهب بعض شيوخ ابن يونس فإن سجد على كور عمامته ففي المدونة تكره وتصح، وقال ابن عبد الحكم: وابن حبيب إن كانت يسيرة كالطاقة وإن كانت كثيرة أعاد في الوقت إن مس بأنفه الأرض ذكره الباجي رواية لابن حبيب فحمل التونسي قول ابن حبيب على الوفاق وظاهر كلام المازري أنه خلاف.

وقال التادلي: اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: ثالثها إن عظمت أعاد أبدا فكلامه يدل على أن في المذهب قولا بالبطلان مطلقا ولا أعرفه.

(وتباشر بكفيك الأرض بسطا يديك مستويتين إلى القبلة تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك وذلك واسع غير أنك لا تفترش ذراعيك في الأرض ولا تضم عضديك إلى جنبيك ولكن تجنح بهما تجنيحا وسطا):

مباشرة الأرض بالكفين مستحبة ومثله مباشرة الأرض بالوجه وفي غيرها مخير واختلف أين يضع يديه على أربعة أقوال: فقيل لا تحديد في ذلك قاله في المدونة وقيل حذو منكبيه نقله صاحب الطراز عن ابن مسلمة وقيل حذو أذنيه قاله ابن مسلم أيضًا، واختاره اللخمي وقيل حذو صدره قاله ابن شعبان، وقول الشيخ حذو أذنيك أو دون ذلك أراد بذلك الإخبار أن في المسألة قولين إلا أن قوله أو دون ذلك يحتمل

(1/145)

المنكبين أو الصدر وهو الأقرب والله أعلم، وأشار بقوله وذلك واسع إلى عدم فرضية ما ذكر على أنه يحتمل وكأنه الأقرب أن إشارته إنما هي إلى التوسعة بعدم التحديد كما قال في المدونة.

(وتكون رجلاك في سجودك قائمتين وبطون إبهاميهما إلى الأرض):

قال ابن القصار والسجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة فيما يقوى في نفسي وظاهر كلام اللخمي وغيره أن ذلك واجب، وقول ابن العربي أجمعوا على وجوب السجود على السبعة الأعضاء قصور، وقال ابن الحاجب: أما الركبتان وأطراف القدمين فسنة فيما يظهر، وقيل واجب، فظاهره أن القول الأول لم يسبقه إليه غيره وليس كذلك بل هو كلام ابن القصار.

(وتقول إن شئت في سجودك سبحانك ربي ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي أو غير ذلك إن شئت وتدعو في السجود إن شئت وليس لذلك وقت وأقله أن تطمئن مفاصلك متمكنا):

حكم الدعاء في السجود الفضيلة، وقال يحيى بن يحيى وعيسى بن دينار من لم يذكر الله في ركوعه ولا في سجودة أعاد صلاته أبدا، قال عياض فتأوله القاضي التميمي لتركه الطمأنينة الواجبة، وتأوله ابن رشد لتعمده تركه حتى التكبير كتعمد ترك السنة قال في البيان إنما قالاه استحبابا لا وجوبا، والمطلوب أن يجمع في دعائه بين مصالح دينه ودنياه قال في المدونة ولا بأس بالدعاء على الظالم.

قلت: وأفتى بعض شيوخه غير ما مرة بأن يدعي على المسلم العاصي بالممات على غير الإسلام، واحتج بدعاء موسى عليه الصلاة والسلام بذلك على فرعون، فقال تبارك وتعالى حاكيا عنه (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) [يونس: 88]

والصواب عندي أنه لا يجوز وليس في الآية دليل لأنه فرق بين الكافر الميئوس منه، كفرعون وبين المسلم العاصي المقطوع له بالجنة إما أولا، وإما ثانيا. وقد قال عياض في إكماله في قوله عليه السلام "لعن الله السارق" وهو حجة في لعن من لم يسم.

وكذلك ترجم عليه البخاري لأنه لعن للجنس لا المعين ولعن الجنس جائز لأن

(1/146)

الله تعالى قد أوعدهم وينفذ الوعيد على من يشاء منهم وإنما يكره، وينهى عن لعن المعين والدعاء عليه بالإبعاد من رحمة الله عز وجل وهو من معنى اللعن وقد ذهب بعض المتكلمين على معاني الحدي أن اللعن جائز على أهل المعاصي، وإن كان معينا ما لم يحد لأن الحدود كفارات لأهلها، وهذا الكلام غير سديد ولا صحيح لنهيه عليه الصلاة والسلام عن اللعن في الجملة وحمله على المعين أولى ليجمع بين الأحاديث.

واختلف إن قال يا فلان فعل الله بك كذا وكذا فقال ابن شعبان صلاته باطلة والمذهب على خلافه قال ابن العربي في القبس: اختلفت الصوفية هل الدعاء أفضل من الذكر المجرد أم العكس؟ فقيل بالأول لقوله تعالى: (ادعوني استجب لكم) [غافر: 60]

ولأن الدعاء المأثور عنه عليه الصلاة والسلام أكثر من الذكر المأثور ومنهم من قال بالثاني لقوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن الله عز وجل: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".

(ثم ترفع رأسك بالتكبير فتجلس فتثني رجلك اليسرى في جلوسك بين السجدتين وتنصب اليمنى وبطون أصابعها إلى الأرض):

اعلم أن الرفع من السجود فرض بلا خلاف وفي الاعتدال والطمأنينة خلاف قال ابن الحاجب: والرفع منه، والاعتدال والطمأنينة كالركوع وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ظاهره يقتضي أن فيه خلافا لقوله كالركوع وهو ممتنع لتوقف الثالثة عليه، وأجيب عنه بأنه إنما قصد إلى ثبوت أصل الطلب في الرفع من السجود كما هو في الرفع من الركوع، ولم يقصد أن الرفع من السجود مختلف فيه كما اختلف في الرفع من الركوع.

قال ابن عبد السلام: وفي هذا الجواب نظر لأنه بتقدير صحته يكون كلام المؤلف قاصرا في عدم التعرض للخلاف الذي في الاعتدال والطمأنينة في الرفع من السجود، وبالجملة فإن قصد المؤلف حقيقة التشبيه لزم الإشكال المذكور وإن قصد ما قال هذا المجيب لزم قصور كلامه من حيث إنه لم يتعرض للخلاف الذي في الاعتدال والطمأنينة.

قلت هذا كله لا يحتاج إليه وليس في كلامه ما يدل على خلاف السنة؛ لأن قوله الرفع منه هو آخر الكلام لكونه ترجمة؛ ولأنه قال أحد الفرائض السابقة الرفع منه، ثم استأنف التفريع في مسائلة فقال: والاعتدال في الطمأنينة كالركوع أي اختلف فيها كالركوع، ومثل هذا لابن هارون رحمه الله تعالى، ومن علم طريقة ابن الحاجب في هذا

(1/147)

الفصل فقد علم ما قلناه، وإن سلمنا أن الأمر كما قالوا فابن الحاجب لم يحك خلافا في الرفع من الركوع هل هو فرض ابتداء أم لا نعم حكي بعد الوقوع خلافا، وهنا فرض ذلك متعذر فهو أراد التشبيه في الحكم ابتداء، وذلك صحيح وهو الفرضية بلا خلاف.

(وترفع يديك عن الأرض على ركبتيك ثم تسجد الثانية كما فعلت أولا):

أما وضعهما على الركبتين فلا خلاف أن ذلك مستحب وأما رفعهما عن الأرض فقال سحنون اختلف أصحابنا إذا لم يرفعهما، فقال بعضهم بالإجزاء وقال بعضهم بعدمه، قلت: وبه أدركت جماعة ممن لقيت يفتون، وقد أخبرت أن بعض متأخري إفريقية كان يفتي بالبطلان إذا لم يرفعهما معا وبالصحة إذا رفع واحدة.

(ثم تقوم من الأرض كما أنت معتمدا على يديك لا ترجع جالسا لتقوم من جلوس ولكن كما ذكرت لك وتكبر في حال قيامك):

ما ذكر أنه يعتمد على يديه يريد على طريق الاستحباب وهو قول مالك وخفف تركه في المدونة، قال فيها فإن شاء اعتمد على يديه في القيام أو ترك فظاهره الإباحة وروى عن مالك يكره ترك اعتماده وما ذكر الشيخ أنه لا يرجع للجلوس هو المشهور واستحب ابن العربي أن يجلس لثبوته عنه علي السلام، وبه قال الشافعي.

قال ابن عبد السلام: وهو المختار وعلى الأول فإن رجع جالسا عمدا فلا سجود والصلاة مجزئة باتفاق مراعاة للخلاف وإن رجع ساهيا ففي السجود قولان.

(ثم تقرأ كما قرأت في الأولى أو دون ذلك وتفعل مثل ذلك سواء):

اعلم أن المذهب اختلف في قراءة الثانية فقال في المختصر لا بأس بطول قراءة ثانية الفريضة على الأولى وفي الواضحة الاستحباب وعكسه، فجعلها المازري قولين وجهل ابن العربي من لم يطل الأولى على الثانية. قلت: فقول الشيخ كما فرأت في الأولى أو دون ذلك إن أراد المسألة ذات قولين كعادته فالقول الأول من قوليه خلاف ما تقدم ولا أعرفه.

(غير أنك تقنت بعد الركوع وإن شئت قنت قبل الركوع بعد تمام القراءة):

اختلف في حكم القنوت والمشهور من المذهب أن ذلك فضيلة وقيل سنة قاله ابن سحنون وعلي بن زياد، وهو ظاهر السليمانية يسجد لسهوه وهو مذهب المدونة، قال فيها عن ابن مسعود: القنوت في الفجر سنة ماضية والأصل الحقيقة وإتيان سحنون بذلك يدل على ارتضائه له وقال يحيى بن يحيى لا يقنت وإنما قال ذلك لما في الموطأ

(1/148)

كان ابن عمر لا يقنت.

قال بعض الشيوخ: واستمر العمل بذلك في مسجد يحيى بعد موته، وإذا قلنا بأنه فضيلة فلا سجود له كسائر الفضائل فإن سجد له بطلت صلاته قاله أشهب حكاه ابن رشد ومثله للطليطي، وإذا قلنا بالسنة فنص علي بن زياد على أنه إن لم يسجد بطلت، وهو قائل بذلك في كل سنة، وقال بعض المتأخرين: من أراد أن يخرج من الخلاف فليسجد بعد السلام وبه أفتى بعض من لقيته غير ما مرة ونص ابن الحاجب على أنه لا بأس برفع يديه في دعاء القنوت.

قلت وظاهر المدونة خلافه قال فيها: ولا يرفع يديه إلا في الافتتاح شيئا خفيفا والمشهور أنه لا يكبر له قبل، وروى علي أن مالكا كبر حين قنت، واختلف ما الأفضل في محله فقيل قبل الركوع أفضل.

وقال ابن حبيب: بعده أفضل وهو ظاهر كلام الشيخ، وفي المدونة والقنوت في الصبح قبل الركوع وبعده واسع والذي أخذ به مالك في خاصته قبل.

(والقنوت اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد):

ما ذكره مثله في المدونة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر القاضي عبد الوهاب في تلقينه هذا الدعاء من أوله إلى نحفد وزاد اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، ولا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت.

قال ابن عبد السلام: واختار ابن شعبان الجمع بينهما مع زيادة الدعاء على الكفار والدعاء للمسلمين، ومعنى نستعينك أي نطلب منك العون، ونستغفرك: أي نطلب منك المغفرة، ونؤمن بك: أي نصدق بوجودك ونخنع أي نخضع، ونخلع: أي ربقة الكفر من أعناقنا، ونترك من يكفرك: أي لا نحب دينه ولا يعترض على هذا بإباحة نكاح الكتابية لكوننا إذا تزوجناها ملنا إليها لأن النكاح في باب المعاملات، والمراد هنا كما تقدم إنما هو بعض الدين وحكاية البهلول بن راشد المذكور في المدارك وغيرها، إنما خرج ذلك منه على طريق الورع ولولا الإطالة لذكرناها وتقديم المفعول في قوله إياك نعبد إشارة للحصر أي لا نعبد إلا إياك، وعطف السجود على الصلاة لأنه مخها ومعنى نحفد أي نخدم بسرعة وقوله نرجو رحمتك، ونخاف عذابك

(1/149)

الجد إلخ فيه الإشارة إلى أن الجمع بين الرجاء والخوف من المطلوب وهو كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمعان في قلب عبد المؤمن إلا أعطاه الله ما يرجوه منه، وأمنه مما يخاف" إلا أنه في حال الشبوبية والكهولية يغلب الخوف، وفي حال الشيخوخية والمرض يغلب الرجاء.

قال الفاكهاني: والجد بكسر الجيم أي الحق وقيل معناه الدائم الذي لا يفنى ويروى الجد بالفتح مصدر جد والكسر أكثر وأشهر وهي روايتنا في هذا الكتاب وملحق فيه الكسر والفتح، فالكسر بمعنى لاحق وبالفتح أي يلحقه بالكافرين وهي رواية في الرسالة.

(فإذا جلست بين السجدتين نصبت رجلك اليمنى وبطون أصابعها إلى الأرض وثنيت اليسرى وأفضيت بأليتك إلى الأرض ولا تقعد على رجلك اليسرى وإن شئت حنيت اليمنى في انتصابها فجعلت جنب بهمها إلى الأرض فواسع):

اختلف المذهب في الجلوسين على ثلاثة أقوال: فقيل سنتان وهو المشهور وروى أبو معصب وجوب الآخر منهما.

وقال ابن زرقون ظاهر نقل أبي عمر بن عبد البر وجوبهما معا.

وهذا كله في غير مقدار ما يوقع فيه السلام وأما مقدار ما يوقع فيه السلام ففرض باتفاق، وما ذكر الشيخ من التخيير في جنب الإبهام هو خلاف قول الباجي يكون باطن إبهامهما ما يلي الأرض لا جنبهما. قال الفاكهاني: عن الغريب كأن الشيخ أبا محمد رحمه الله وهم في قوله بهما وإنما يقال إبهام كما هو المعروف قال الجوهري الإبهام الإصبع العظمى والبهم هو أولاد الضأن كما أن السخل أولاد المعز.

(ثم تشهد):

حكم التشهد السنة باتفاق على ظاهر كلام الأكثر وقال ابن بزيزة في حكم التشهدين ثلاثة أقوال: المشهور سنة وقيل فضيلة وقيل الأول سنة والثاني فرض وقبله خليل.

(والتشهد: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلخ):

سمي التشهد تشهدا لتضمنه الشهادتين، وإنما اختار مالك هذا التشهد لأنه تشهد

(1/150)

عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ كان يعلمه الناس على المنبر من غير نكير عليه، قلت: وليس جميعه سنة بل بعضه هو السنة قياس على السورة والله أعلم.

وأقيم من هنا الرجل إذا لقي رجلا فأخبره أن فلانا يسلم عليه ولم يأمره بذلك أنه غير كاذب لقوله المصلي ما يدل عليه، وهو قوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لأن المراد بذلك المؤمنون وهذه إقامة ظاهرة إذا كان القائل لذلك يعلم أن المنقول عنه يعلم ما وقعت الإشارة إليه من كونه يفهم معنى ما هو متكلم به، وقول الشيخ فإن سلمت بعد هذا أجزأك وصف طردي وكذلك إذا قال بعضه أو تركه جملة.

(ومما تزيده إن شئت: وأشهد أن الذي جاء به محمد حق وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور):

قال عبد الوهاب: هذه الزيادة مروية عن السلف الصالح رضي الله عنهم، ومعنى أشهد: أتحقق وأوقن، وذكر الجنة وما بعدها من باب عطف الخاص على العام وأراد الشيخ أن الجنة والنار موجودتان لا أنهما سيوجدان وذهبت المعتزلة إلى ما نفيناه، وذكره القبر إما لأنه الأعم الأغلب، وإما لأن قبر كل شيء بحسبه.

(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا وآل محمد وبارك في محمد وعلى آل محمد كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد):

اختلف المذهب في حكم التصلية في التشهد الذي يوقع فيه السلام على ثلاثة أقوال: فقيل سنة وهو المشهور وقيل فرض وقيل فضيلة نقل هذا الخلاف عياض عن بعض البغدادين عن المذهب، وقال ابن محرز: وقول ابن المواز بالفرضية لعله يريد في الجملة واعترض الشيخ أبو بكر بن العربي على الشيخ في قوله وارحم محمدا بقوله وهم شيخنا أبو محمد وهما قبيحا خفي عليه علم الأثر والنظر فزاد، وارحم محمدا وهي كلمة لا أصل لها إلا حديث ضعيف وردت فيه خمسة ألفاظ، وهي اللهم صل على محمد وارحم محمدا وبارك وتحنن وسلم، وهذا لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه في العبادات فحذار أن يقوله أحد.

قلت: يرد احتمال أن يكون هذا الحديث المذكور صح عند الشيخ ولو سلمنا أنه لم يصح فيعتذر عنه بما اعتذر عياض، وذلك أنه قال: اختلف أصحابنا في الدعاء بالرحمة له عليه الصلاة والسلام فاختار ابن عبد البر منعه وأجاز ذلك غير واحد وهو

(1/151)

مذهب الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، وقد جاء في بعض الطرق: اللهم اغفر لمحمد وتقبل شفاعته، وهو بمعنى وارحمه والمطلوب أن يتلمس للشيخ تأويلا وإن بعد، وقد علمت اعتذاره عما يقع لأهل المذهب متقدمهم ومتأخرهم فمثل الشيخ أبي محمد لا يخاطب بالكلام الذي ذكر لعلمه وصلاحه إذ يستحي الإنسان من سماعه، ولولا هذا الذي ذكرناه لكان عدم ذكر اعتراضه خيرا من كتبه والله أعلم. واختلف في الآل فقيل قرابته وقيل أهل بيته وقيل أمته إلى غير ذلك.

(اللهم صل على ملائكتك والمقربين وعلى أنبيائك والمرسلين وعلى أهل طاعتك أجمعين):

قيل أن أكثر النسخ فيها إثبات الواو من قوله والمقربين والمرسلين وصح أقل النسخ بإسقاطها والأول أحسن لشموله جميع الملائكة، وإنما خصص المقربين والمرسلين تشريفا. والمراد بالمقربين قرب رضا لا قرب مكان، وذلك كجبريل وميكائيل وأخذ التادلي من قول الشيخ وعلى أهل طاعتك أجمعين، جواز الصلاة على غير الأنبياء والصحيح قصرها على الأنبياء قلت: كلام الشيخ إنما يدل على أن الصلاة على غير الأنبياء والصحيح قصرها على الأنبياء قلت: كلام الشيخ إنما يدل على أن الصلاة على غير الأنبياء تجوز بحكم التبع للأنبياء لا أن الصلاة بالاستقلال جائزة والله أعلم.

(اللهم اغفر لي ولوالدي ولأئمتنا ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزما):

أول ما بدأ الشيخ بالدعاء له وثنى بوالديه إلخ، وذلك هو المطلوب إذ ذلك من كمال الأدب ليظهر كمال الافتقار إلى الله تعالى، والأئمة أراد بهم الجمع المركب من العلماء والأمراء والله أعلم، وأشار بقوله: ومن سبقنا بالإيمان إلى الامتثال لقوله تعالى: (والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [الحشر: 10]

ومعنى عزما أي لا غنى لنا عن مغفرتك ولو قال إن شئت لكان فيه إظهار الغنى، وفي كلام الشيخ عندي دليل على أن المطلوب لمن أراد زيارة القبور أن يبدأ بوالديه ثم بمن قرأ عليه لأن للتقديم مزية، وكان بعض من مضى من العلماء يبدأ بمن تعلم عليه العلم قبل أبويه.

ويحتجا بأن معلمه قد تسبب له في حياته الباقية، وأبويه إنما تسببا له في حياته الفانية، قلت والحق عندي هو الأول وبه كان بعض من لقيته يفتي لأن الشرع دل على ذلك، ألا ترى أن نفقة الأبوين إذا كانا فقيرين تجب على الولد القادر عليها، ولم يقل أحد من أهل العلم فيما قد علمت بوجوب ذلك لمن تعلم عليه العلم.

(1/152)

(اللهم إني أسألك من كل خير سألك منه محمد نبيك صلى الله عليه وسلم إلخ):

هذا اللفظ عام والمراد به الخصوص إذ الشفاعة العظمى مختصة به عليه الصلاة والسلام لا يشاركه غيره فيها.

(اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا):

في كلام الشيخ إشارة إلى أن المجانسة في الدعاء حسنة.

(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار):

اختلف في الحسنة في الدنيا فقيل المال الحلال، وقيل العلم والعبادة وقيل الزوجة الحسنة وقيل غير ذلك وأما قوله تعالى: (وفي الآخرة حسنة) [البقرة: 201]

فالجنة بإجماع قاله ابن عطية.

(وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن فتنة القبر ومن فتنة المسيح الدجال ومن عذاب النار وسوء المصير):

أراد والله أعلم بفتنة المحيا ما يفتتن به الإنسان في حياته، ومن فتنة الممات حضور الشيطان له عند حضور أجله والمسيح يروى بالحاء المهملة مأخوذ من مسحه البركة، ويروى بالخاء لمسخ صورته، وقول الشيخ وسوء المصير إن أراد به سوء الخاتمة كما قيل فهو حشو لقوله والممات، وإن أراد سوء المنقلب فهو حشو لقوله من عذاب النار ويبعد أن يريد بقوله والممات ما يدرك الإنسان بعد موته لذكره فتنة القبر والنار والله أعلم.

(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين):

إنما كرره لأن السلام المطلوب أن يكون عقبه، ومن كان مصليا وحده فحسن أن يذكر في تشهده ما ذكر الشيخ، ومن كان وراءه جماعة وهو يعلم أنه يشق عليهم ذلك فليقتصر عن إكماله، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ "أفتان أنت يا معاذ" لما كان يطول في صلاته.

(ثم تقول السلام عليكم تسليمة واحدة عن يمينك تقصد بها قبالة وجهك وتتيامن برأسك قليلا هكذا يفعل الإمام والرجل وحده):

مذهب مالك المعروف تعيين السلام عليكم قال الباجي، ووقع لابن القاسم أن

(1/153)

من أحدث في آخر صلاته أجزأته صلاته، قال ابن زرقون ويرد نقلا ومعنى أما نقلا فلان المنقول عن ابن القاسم أن من أحدث في آخر صلاته وهو في جماعة صلوا خلف إمام فأحدث إمامهم فسلموا هم لأنفسهم فسئل عن ذلك فقال تجزئهم صلاتهم أي تجزئ صلاة المأمومين فقط.

وأما معنى فلان الأئمة على قولين: منهم من يرى لفظ السلام بعينه وهو مالك ومنهم من لا يرى لفظ السلام ولكن يشترط أن ينوي بكل مناف الخروج من الصلاة.

أما ما حكاه الباجي من إطلاق كلامه فهو خلاف ما عليه الأئمة. وقبل ابن عبد السلام قول ابن زرقون هذا ويرد الثاني بأن سبقية الخلاف لا تمنع من نقل قول ثالث أو اختياره، والمطلوب أن يقول السلام عليكم غير منون فلو نكر، فقال الشيخ أبو محمد وعبد الوهاب لا يجزئ، وروي عن مالك وقال أبو القاسم بن شبون يجزئ وكل هذا الخلاف بعد الوقوع، وأما ابتداء فالمطلوب عدمه واختار بعض أصحاب الباجي ترجيحه على التعريف ولو عرف ونون فالمنصوص لمتأخري أشياخنا عدم الإجزاء ونقل غير واحد ممن شرحها كالتادلي قولا بالإجزاء جريا على اللحن، وأما إذا قال عليكم السلام ففي الصحة قولان حكاهما صاحب الحلل، ولا أعرف القول بالصحة.

وفي كلام الشيخ تناف فلم يزل أشياخنا ينبهونا عليه وهو أن قوله عن يمينك ينافي قوله تقصد بها قبالة وجهك وتتيامن برأسك قليلا، وما ذكر أن الإمام الفذ يسلمان تسليمة واحدة وهو المشهور، وروي عن مالك أنهما يسلمان تسليمتين.

(وأما المأموم فيسلم واحدة يتيامن بها قليلا ويرد أخرى على الإمام قبالته يشير بها إليه ويرد على من كان سلم عليه عن يساره فإن لم يكن سلم عليه أحد لم يرد على يساره شيئا):

ما ذكر هو المشهور وروي عن مالك أنه يبدأ بالسلام على من على يساره ثم على الإمام، وظاهر كلام الشيخ أن لو كان على يسار المسلم مسبوق لا يسلم عليه، وظاهر كلام ابن الحاجب أنه يسلم عليه لعموم قوله أمامه ثم يساره إن كان فيه أحد، واختلف في المسبوق إذا قضى كيف يسلم، فقيل كالمأموم وقيل كالفذ وكلاهما لمالك رحمه الله، وسبب الخلاف انسحاب حكم المأموم عليه ونفيه فإن شرط الرد الاتصال، قال الإمام المازري هذا يدل أن الخلاف باق ولو كان من يرد عليه حاضرا، قال وزعم بعض أشياخي الاتفاق إذا كان حاضرا أنه يسلم عليه. قاله ابن سعدون ولو كان المأموم

(1/154)

بين يدي الإمام فإنه يسلم على الإمام وهو على حاله وينوي الإمام ولا يلتفت إليه.

(ويجعل يديه في تشهده على فخذيه ويقبض أصابع يده اليمنى وببسط السبابة يشير بها وقد نصب حرفها إلى وجهه):

جعل اليد في التشهد على الفخذ مستحب، وكذلك القبض وهو شبه عاقد ثلاث وعشرين قاله ابن بشير، وقال ابن الحاجب: شبه تسعة وعشرين والمروي شبه ثلاثة وخمسين، وأما الإشارة فقال ابن رشد هي سنة من فعله عليه الصلاة والسلام، وذهب ابن العربي إلى إنكار ذلك، وعلى الأول فقيل في جميع التشهد وقيل عند التوحيد خاصة وصفة ذلك قيل يمينا وشمالا كالمذبة وقيل إلى السماء والأرض، وقيل عند التوحيد كما في القول الثاني وعند غيره كالأول، وهذه الأقوال الثلاثة حكاها بعض من شرح الرسالة.

(واختلف في تحريكها فقيل يعتقد بالإشارة بها أن الله أحد ويتأول من يحركها أنا مقمعة للشيطان وأحسب تأويل ذلك أن يذكر بذلك من أمر الصلاة ما يمنعه إن شاء الله عن السهو فيها والشغل عنها):

يحتمل أن يريد بالخلاف التحريك وعدمه، ويحتمل في علة التحريك فقط، وأنكر ابن العربي العلة ليطرد بها الشيطان فلا يسهو، وقال إن الشيطان لا يطرد بتحريك الإصبع وإنما يطرد بذكر الله تعالى وإن حركتم إليه إصبعا حرك إليكم عشرا وإياكم وما وقع من ذلك في العتبية فإنها بلية.

قال التادلي: والعجب منه كيف ينكر هذا وهو مصرح به في مسلم ففيه أنها مذبة للشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه، قال الباجي فهذا يدل على أن في تحريكها القمع للشيطان ونفي السهو، وكثير من الأشياخ يعتقد أن الإشارة والتحريك معناهما واحد وهو باطل إذ يمكن أن يشير بها ولا يحركها.

(ويبسط يده اليسرى على فخذه الأيسر ولا يحركها ولا يشير بها):

بسط اليد اليسرى مستحب وهل التحريك مرادف للإشارة أو مغاير قولان كما تقدم، ولأن ظاهر كلام الشيخ المغايرة لعطفه الإشارة على التحريك، قال النووي ولو كان مقطوع اليد اليمنى فلا ينتقل إلى اليد اليسرى لأن شأنها البسط، قال التادلي: وفيه مجال لأن اليسرى قد يقال إنما شأنها البسط من وجود اليمنى، وأما مع فقدها فلا.

(ويستحب الذكر بإثر الصلوات يسبح الله ثلاثا وثلاثين ويحمد الله ثلاثا وثلاثين،

(1/155)

ويكبر الله ثلاثين ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير):

الأصل فيما ذكر الشيخ أن فقراء المهاجرين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال: "وما ذاك" فقالوا يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا تتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون وتحمدون، وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة وتختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

قال أبو محمد صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" فقال الفقهاء لا خصوصية للفقراء في هذا الحديث لقوله، "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"، وقال الصوفية بل قوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يريد بذلك أن هذا الفضل مخصوص بهم لا يلحقهم غيرهم في ذلك.

(ويستحب بإثر صلاة الصبح التمادي في الذكر والاستغفار والتسبيح والدعاء إلى طلوع الشمس أو قرب طلوعها وليس بواجب):

اعلم إن قوله وليس بواجب مستغنى عنه إذ قوله، ويستحب يدل على ذلك وإنما كان ذلك مستحبا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" قال الترمذي: هذا حديث حسن. قلت: ويظهر من يقرأ القرآن في هذا الوقت يحصل له هذا الشرف لأنه من أشرف الأذكار فهذا داخل فيما قال الشيخ والله أعلم.

وروى بعض من لقيناه أنه غير داخل في قوله في الذكر لقرينة قوله والاستغفار زاعما أن ابن عبد البر نص على ذلك وهو بعيد قال في المدونة، وكان مالك يسأل بعد

(1/156)

طلوع الفجر حتى تقام الصلاة ثم لا يجيب من يسأله بعد الصلاة بل يقبل على الذكر حتى تطلع الشمس، وقال التادلي: فيقوم منها أن الاشتغال بالذكر في هذا الوقت أفضل من قراءة العلم فيه.

وقال الأشياخ: تعلم العلم فيه أولى قلت وهو الصواب وبه كان يفتي بعض من لقيناه ولا سيما في زماننا اليوم لقلة الحاملين له على الحقيقة وسمع ابن القاسم: مرة صلاة النافلة أحب إلي من مذاكرة العلم ومرة العناية بالعلم بنية أفضل، قلت: وبهذا القول أقول وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية وعلم ينتفع به بعد موته" فتعليم العلم مما يبقي بعده كما قال عليه الصلاة والسلام.

(ويركع ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح بعد الفجر يقرأ في كل ركعة بأم القرآن يسرها):

حكم ركعتي الفجر الفضيلة عند الأكثر، وقيل سنة، والوتر آكد منها ولا شك إن وقتها، كما قال الشيخ قال في المدونة: ومن تحرى الفجر في غيم فركع فإذا هو قبل الفجر أعادهما بعده، ولا يعارضها قول أضحيتها إذا تحرى من لا إمام لهم ذبح أقرب الأئمة إليهم فأخطئوا فإنهم لا يعيدون ليسر إعادة الركعتين وعسر إعادة الأضحية والله أعلم.

وقال ابن حبيب: إذا أخطأ في وقت ركعتي الفجر فإنه لا يعيدها، وبه قال ابن الماجشون وما ذكر أن القراءة تكون بأم القرآن فقط هو المشهور، وهو قول جمهور أصحاب مالك، وقيل وسورة قصيرة قاله مالك حكاه اللخمي من رواية ابن شعبان في مختصر ما ليس في المختصر، وقال أحمد بن خالد: يقرأ مع أم القرآن بالكافرون والإخلاص، وقيل (قولوا ءامنا بالله) [البقرة: 136]

(قل يا أهل الكتاب تعالوا) [آل عمران: 64]

قاله ابن حبيب وخرج فيه حديثا، وخارج المذهب قولان آخران أحدهما أنه لا يقرأ فيهما جملة، خرجه الطحاوي عن قوم وذهب النخعي إلى إطالة القراة فيهما واختاره الطحاوي.

وما ذكر الشيخ أن القراءة تكون سرا هو قول كافة العلماء لقول عائشة رضي

(1/157)

الله عنها كان عليه الصلاة والسلام يخفف حتى أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا، وهذا القول هو المشهور في المذهب، وحكى اللخمي قولا في المذهب أنه يقرأ فيهما جهرا، والضجعة بعد ركعتي الفجر غير مشروعة على المشهور خلافا لابن حبيب وصوبه ابن عبد السلام قائلا لاسيما لمن اتصل قيامه بطلوع الفجر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها، وروي عنه أنه أمر بها وخارج المذهب قول بوجوبها وهو شذوذ.

(والقراءة في الظهر بنحو القراءة في الصبح من الطوال أو دون ذلك قليلا ولا يجهر فيها بشيء من القراءة ويقرأ في الأولى والثانية في ركعة بأم القرآن وسورة سرا):

يعني أن المذهب اختلف هل قراءة الظهر مساوية لقراءة الصبح أم لا؟ فقيل إنهما سواء قاله أشهب وابن حبيب، وقيل إن الصبح أطول قليلا قاله مالك ويحيى، وقد نبهناك على أن الشيخ إذا أتى بأو في كلامه إنما يريد بها عوض، وقيل فكأنه قال والقراءة في الظهر بنحو القراءة في الصبح من الطول في قول أو دون ذلك في قول آخر والله أعلم.

(وفي الأخيرتين بأم القرآن وحدها سرا):

ما ذكر أنه يقرأ في الركعتين الأخريين بأم القرآن فقط هو المعروف في المذهب، وقيل يقرأ بسورة مع أم القرآن في كل ركعة كالأوليين، قاله ابن عبد الحكم. وعلى الأول فإن قرأ في كل ركعة منهما بسورة فلا سجود عليه، قال ابن الحاجب: وذكر لي بعض أصحابنا عن أشهب أنه قال في هذه المسألة عليه السجود، قلت إنما قال في هذه المسالة عليه السجود إشارة منه إلى أنه لو قرأ بذلك في ركعة فقط فإن أشهب يقول لا يسجد، فالخلاف إنما هو حيث القراءة بذلك في الركعتين، وقال ابن الحاجب: وزيادة سورة في نحو الثالثة مغتفر على الأصح وتعقبه ابن عبد السلام بأن كلامه يقتضي أن الخلاف في السجود في زيادة ركعة وليس كذلك.

(ويتشهد في الجلسة الأولى إلى قوله، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله):

ظاهر كلامه أن الدعاء فيه لا ينبغي وليس بموضع له وهو كذلك في رواية علي بن زياد، وقيل يجوز الدعاء فيه كالثاني في رواية ابن نافع وغيره عن مالك.

(ثم يقوم فلا يكبر حتى يستوي قائما هكذا يفعل الإمام والرجل وحده وأما المأموم فبعد أن يكبر الإمام يقوم المأموم أيضا فإذا استوى قائما كبر ويفعل في بقية صلاة الظهر من صفة الركوع والسجود والجلوس نحو ما تقدم ذكره في الصبح):

(1/158)

ما ذكر أن الإمام والفذ لا يكبران حتى يقع الاستواء منهما هو المعروف، واختار ابن العربي أن يكبر حال القيام ووقع في بعض نسخ تقريب، خلف عن ابن الماجشون مثله والقول الأول علل بثلاثة علل وهي العمل، وكونه لم ينتقل عن ركن ولقول عائشة رضي الله عنها "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر" فالقائم إلى الثلاثة كالمستفتح لصلاة جديدة.

(ويستحب له أن يتنفل بأربع ركعات يسلم من كل ركعتين):

المطلوب أن النافلة لا تكون إلا ركعتين يسلم منهما كما قال الشيخ رحمه الله وهذا هو مذهبنا، واضطرب العلماء في ذلك اضطرابا شديدا، فلو صلى ركعتين وسها فإن ذكر قبل عقد الثالثة رجع وسجد بعد السلام اتفاقا وإن عقدها تمادى مطلقا وأكمل أربعا على المشهور، وقيل إن كانت نافلة نهار فكما تقدم وإن كانت نافلة ليل رجع قاله ابن مسلمة، وحيث يتمادى فهل يسجد قبل السلام أو بعده؟ فقال في المدونة يسجد قبل السلام وقيل إنه يسجد بعده، ووجه القول الأول بوجهين، وهما إما لنقص السلام وإما لنقله عن محله، وضعف الأول بأنه يلزم عليه البطلان وضعف الثاني أيضا بأن ذلك منقوض بمن صلى الظهر خمسا ساهيا فإنه يسجد بعد السلام مع أنه نقله عن محله.

ولهذا الذي ذكرناه اختار ابن عبد السلام عدم السجود مطلقا قائلا لأن أمرهم بالتمادي مع أمرهم بالسجود متناقض قلت: لا مناقضة في ذلك للاحتياط، وذلك أن التمادي مراعاة للخلاف والسجود مراعاة لمذهبنا فجمع بذلك بين المذهبين احتياطا والله أعلم، فإن قلت ما بال الشيخ أبي القاسم بن الجلاب رحمه الله نسب السجود قبل السلام لابن عبد الحكم مع أنه في المدونة كما ذكرتم على أنه يقع له ذلك كثيرا، ألا ترى إلا قوله وأما المرأة فإن قامت فحسن قاله ابن عبد الحكم.

قلت: كان أهل بغداد يعتنون بكتاب ابن عبد الحكم كل الاعتناء ويرجحونه على غيره، حتى إن الأبهري شيخ ابن الجلاب شرح كتابه، فهم أهل بغداد إذا وجدوا قولا لابن عبد الحكم وغيره عزوه لابن عبد الحكم وهم في الغير في الاختيار بين أن يذكروه أم لا، كنحن بالنسبة إلى قول ابن القاسم مع غيره. قال التادلي: وتعقب على الشيخ في تحديده التنفل بأربع ركعات مع أنه في المدونة قال: إنما يوقت في هذا أهل العراق، قلت: لم أزل أسمع بعض من لقيته يقول إن ما ذكر الشيخ هو نص ابن حبيب

(1/159)

في واضحته للأحاديث فإن صح فلا اعتراض على الشيخ لأن الرسالة لا تقيد المدونة.

(ويستحب له مثل ذلك قبل صلاة العصر ويفعل في صلاة العصر كما وصفنا في الظهر سواء إلا أنه يقرأ في الركعتين الأوليين بالقصار من السور):

أكثر أهل المذهب على أن التنفل قبل العصر من الرواتب، وقال عياض في الإكمال حكى العنبري من شيوخنا العراقيين أنه لا رواتب قبل العصر جملة.

(مثل والضحى وإنا أنزلناه ونحوهما)

ظاهر قول الشيخ ونحوهما خلاف قول ابن حبيب يقرأ في العصر والمغرب من الضحى إلى آخر القرآن، ولو افتتح في العصر سورة طويلة تركها، وإن قرأ نصفها ركع، ولو افتتح قصيرة بدل طويلة فإن أتمها زاد غيرها وإن ركع بها فلا سجود عليه روى جميع ذلك ابن حبيب.

(وأما العشاء الأخيرة وهي العتمة واسم العشاء أخص بها وأولى إلخ):

كلام الشيخ يقتضي أن المغرب تسمى عشاء لوصفه العشاء بالأخيرة وقد تقدم ما في ذلك، وكذلك قدمنا أن في تسميتها بالعتمة ثلاثة أقوال: الجواز والكراهة والتحريم على ظاهر ما في كتاب ابن مزين من قال عتمة كتبت عليه سيئة.

(ويكره النوم قبلها والحديث بعدها لغير ضرورة):

وجه كراهية النوم قبلها خشية أن تفوته صلاة الجماعة أو نسيانها وقد قدمنا أن ظاهر كلامه، ولو وكل بذلك من يوقظه، ووجهه إن سلم خشية أن ينام الموكل، وحديث الوادي يدل على الجواز، ووجه كراهية الحديث بعدها إما خشية فوات صلاة الصبح جماعة وإما خشية خروج وقتها، وكل هذا ما لم تكن ضرورة فإن كان كالعروس وناظر كتب العلم فجائز كما أشار إليه الشيخ في قوله لغير ضرورة.

(والقراءة التي يسر بها في الصلوات كلها هي بتحريك اللسان بالتكلم بالقرآن وأما الجهر فأن يسمع نفسه ومن يليه إن كان وحده):

اعلم أن أدنى السر أن يحرك لسانه بالقرآن وأعلاه أن يسمع نفسه فقط فمن قرأ في قلبه فكالعدم، ولذلك يجوز للجنب أن يقرأ في قلبه. وأدنى الجهر أن يسمع نفسه ومن يليه وأعلاه لا حد له وقول الشيخ بالتكلم بالقرآن أراد بالقراءة كما قال الشاعر:

يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

(1/160)

أي قراءة فلا مؤاخذة على الشيخ البتة وقد أطنبوا في الأخذ عليه.

(والمرأة دون الرجل في الجهر وهي في هيئة الصلاة مثله):

يعني تسمع نفسها فقط كالتلبية كما قال في المدونة، ووجه ذلك أن صوتها عورة ولذلك لا تؤذن اتفاقا وبيعها وشراؤها إنما أجيز للضرورة.

(غير أنها تنضم ولا تفرج فخذيها ولا عضديها وتكون منضمة منزوية في سجودها وجلوسها وأمرها كله):

ما ذكر الشيخ هو معنى ما روي عن علي بن زياد، تجلس على وركها الأيسر وفخذها اليمنى على اليسرى، ثم تضم بعضها إلى بعض قدرالطاقة ولا تفرج بخلاف الرجل، وفي المختصر جلوسها وكل شأنها في صلاتها كالرجل إلا في اللباس، قال أبو محمد يريد الانضمام، قلت والجهر ونبه عليه بعض شيوخنا، وفي المدونة جلوسها كالرجل قال الفاكهاني: وقول ولا تفرج رويناه بتفح التاء وإسكان الفاء وضم الراء وهو تفسير لقوله تنضم، وكان ترك الواو أولى، وقوله وتكون منضمة منزوية تكرار لا معنى له فيما يظهر لأن الانضمام هو الانزواء وقد تقدم قوله تنضم فأغنى عن منضمة أيضًا.

(ثم يصلي الشفع والوتر جهرا وكذلك يستحب في نوافل الليل الإجهار وفي نوافل النهار الإسرار إلخ):

الوتر بكسر الواو وفتحها لغتان مشهورتان، وحكم الشفع الفضيلة، وأما الوتر فالمشهور أنه سنة وهو المنصوص، وقال سحنون يحرج تاركه، وقال أصبغ يؤدب فأخذ اللخمي وابن زرقون منهما الوجوب واعتذر بعض شيوخ المازري عن الأول بأن تركه، علامة على استخفافه بأمور الدين، واعتذر المازري عن الثاني بأن تأديبه لاستخفافه بالسنة، كقول ابن خويز منداد تارك السنة فسق وإن تمادى عليه أهل بلد حوربوا، وقال ابن عبد السلام: تخريج اللخمي عندي حسن قوي من قول أصبغ

(1/161)

ضعيف من قول سحنون، قلت: إذا كان ضعيفا من قول سحنون فليس إذا بحسن فكلام الشيخ ابن عبد السلام متناقض فيما يظهر والله أعلم.

وقال ابن الحاجب: الوتر غير واجب على المشهور، واستدل اللخمي بقول سحنون يحرج وأصبغ يؤدب واعترض من حيث جعل فعل المحرج منصوصا، قال أبو عمر بن عبد البر ضارع مالك من قال بوجوبه من قوله تقطع الصلاة له، والمطلوب الجهر في الوتر ولا يسر إلا لضرورة كتشويش المصلين بعضهم على بعض، وقال ابن الحاجب: والسر في النافل جائز، وكذلك الوتر على الشمهور فتعقب لأنه خلاف ما سبق، وقد قال الأبياني من أسر في وتره متعمدا أعاد وأنكره عبد الحق، والشفع قبل الوتر قيل للفضيلة، وقيل للصحة، وهل يشترط تعيين ركعتين له من آخر تهجده وينويهما له أم لا يلزمه ذلك قولان ثم في شرط الاتصال بالوتر قولان.

(وإن جهر في النهار في تنفله فذلك واسع وأقل الشفع ركعتان):

ما ذكر هو أحد قولي أهل المذهب، وقيل إن ذلك مكروه، وتجوز صلاة النافلة جماعة ليلا ونهارا قاله في المدونة فأطلقه اللخمي وقيده ابن أبي زمنين وغيره برواية ابن حبيب، وقوله إن قلة الجماعة كالثلاث، وخفي محل قيامهم، إلا كره وسلك ابن بشير هذه الطريقة قائلا وكرهه ابن حبيب، وهو مقتضى المذهب، قال ومنه ما يفعل في بعض البلاد من الجمع ليلة النصف من شعبان وليلة عاشوراء، ولا يختلف المذهب في كراهته، وينبغي للأئمة أن يتقدموا في النهي عنه.

(ويستحب أن يقرأ في الأولى بأم القرآن وسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بأم القرآن وقل يا أيها الكافرون يتشهد ويسلم):

(ثم يصلي الوتر ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وقل هو الله أحد والمعوذتين وإن زاد من الإشفاع جعل آخر ذلك الوتر):

ما ذكر الشيخ هو قول القاضي عبد الوهاب، وفي المدونة قول بعدم التحديد وكلاهما لمالك، وقال ابن العربي يقرأ فيه المتهجد من تمام حزبه وغيره بقل هو الله أحد فقط لحديث الترمذي وهو أصح من حديث قراءته بها مع المعوذتين، وانتهت

(1/162)

الغفلة بقوم يصلون التراويح فإذا انتهوا للوتر قرءوا فيه بقل هو الله أحد والمعوذتين.

(وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل اثنتى عشرة ركعة ثم يوتر بواحدة وقيل عشر ركعات ثم يوتر بواحدة):

مداومته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر تدل على أن قيام جميع الليل مرجوح، واختلف في ذلك قول مالك بالكراهة والجواز وحكاهما عياض في الإكمال، قال واختلفلوا هل طول القيام أفضل وإن قل السجود أم لا؟ فقيل طول القيام أفضل وقيل كثرة السجود أفضل، وقيل بالأول في نوافل الليل وبالثاني في نوافل النهار، قلت وكان بعض من لقيناه من القرويين يفتي وهو شيخنا أبو محمد الشبيبي رحمه الله بأنه ينظر إلى المصلي في خاصة نفسه فالذي يجد الحلاوة فيه أكثر القيام للقراءة أحسن والعكس للعكس، وأفتى غيره ممن أدركناه من القرويين أيضًا بالعكس لأنه إذا مالت النفس لشيء لابد فيه من آفة.

ويذكر أن شيخا من الفضلاء دخل مسجدا ليبيت فيه فأحبت نفسه الصلاة وعزم عليها بعد أن خالفها مرارا فقام ليفتش المسجد فوجد رجلا ملفوفا في حصير من حصر المسجد فعلم أنها مكيدة منها، وكنت أجيبه بأن النفس لا قدرة لها على معرفة هذا وهو إنما وقع اتفاقيا فلا يضر، وبالقول الذي قبله أقول والإنسان يعلم حسن ذلك من نفسه، وأما التعليق بالحبل فنهى عنه أبو بكر، وقطع الجبل لمن فعله وبه قال حذيفة ورخص فيه آخرون.

وأما الاتكاء على العصا فلم يختلف في جوازه إلا لشيء روي عن ابن سيرين في أنه مكروه وهذا والذي قبله نقله عياض في الإكمال، واختلف المذهب في جواز النافلة مضطجعا على ثلاثة أقوال: ثالثها يجوز للمريض لعذره لا لغيره.

(وأفضل الليل آخره في القيام فيمن أخر تنفله ووتره فذلك أفضل إلا من الغالب عليه أن لا يتنبه فليقدم وتره مع ما يريد من النوافل أول الليل ثم إن شاء إذا استيقظ في آخره تنفل ما شاء مثنى مثنى):

ما ذكره الشيخ قال به جميع أهل المذهب لحديث: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه" والمعنى ينزل أمره ورحمته ومغفرته، وقوله ولا يعيد الوتر ما ذكره هو مشهور المذهب، وقيل إنه يعيده قاله ابن عبدالسلام: والأول

(1/163)

والجاري على قواعد المذهب من حيث إن القول بإعادته ملزوم لرفض العبادة بعد الفراغ منها، وأمر في المدونة من أراد أن يتنفل فليتربص قليلا بعد الوتر.

(ومن غلبته عيناه عن حزبه فله أن يصليه ما بينه وبين طلوع الفجر وأول الإسفار):

ظاهر كلامه أنه لو أخر حزبه عمدا أنه لا يصليه وهو كذلك عند غيره خلافا لابن الجلاب، قال بعض من لقيناه وهو عندي ظاهر التهذيب قال فيه: ومن فاته حزبه من الليل أو تركه حتى طلع الفجر فليصله ما بينه وبين طلوع الفجر إلى صلاة الصبح.

وما ذلك من عمل الناس إلا من غلبته عيناه فلا بأس به قال فظاهر قوله أو تركه ولو عمدا.

وقوله وما ذاك إلخ، أراد به التكلم ابتداء على معنى أنه لا ينبغي أن يتركه عمدا ولكن إن تركه عمدا ووقع ذلك فإنه يصليه وهو الذي أراد والله أعلم قال صاحب البيان التقريب، ونقل البراذعي هذه المسألة نقلا فاسدا لأن مالكا لم يقل فيها إذا تركه فليصله وإنما قال ذلك فيما إذا فاته غلبة، والشيخ في الرسالة لم يذكر إلا مسألة الغلبة.

(ثم يوتر ويصلي الصبح):

لا خلاف أن الأمر كما قال وذلك إذا اتسع الوقت واختلف إذا بقي لطلوع الشمس مقدار ركعتين فالأكثر أنه يصلي الصبح، وقال أصبغ يصلي الوتر ويدرك من الصبح ركعة، وقال ابن الحاجب: إن اتسع الوقت لثانية فالوتر على المنصوص، وتعقبه ابن عبد السلام بأنه خلاف المدونة لأنه قال فيها ومن لم يقدر إلا على الصبح صلاها، وترك ركعة الوتر ولا قضاء عليه للوتر قال، ويقال إن متقدمي الشيوخ كانوا إذا نقلت لهم المسألة من غير المدونة وهي موافقة لما في المدونة عدوها خطأ فكيف ينقل خلاف ما فيها ويترك ما فيها.

واختلف إذا اتسع الوقت لأربع ركعات فقيل يصلي الوتر والصبح قيل يصلي الشفع والوترويدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس، وأما إذا بقي مقدار خمس ركعات وقد كان تنفل ففي تقديم الشفع على ركعتين الفجر قولان.

(1/164)

(ولا يقضي الوتر من ذكره بعد أن صلى الصبح):

ما ذكر الشيخ هو المذهب وعلى تخريج اللخمي أنه فرض يلزم أن يقضي وكذلك سائر السنن فإنها لا تقضي قال ابن الحاجب: ولا تقضي سنة، وجاء إذا ضاق الوقت عن ركعتي الفجر تقضي بعد طلوع الشمس على المشهور فقيل مجاز، فأشار بقوله وجاء إلى أن قولهم لا تقضي سنة كالوتر مع قوله يقضي الفجر تناقض، وكان بعض من لقيناه يجيب عن ذلك بأن الفجر لما كان من صلاة النهار ناسب أن يقضي بالنهار، ولما كان الوتر من صلاة الليل ناسب أن لا يقضي بعد صلاة الصبح.

وإنما أبيحت صلاته بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح لأن ما قرب من الشيء أعطي حكمه وهذا الجواب وإن نهض في الوتر فهو لا ينهض في غيره من السنن، وقال ابن عبد السلام: قولهم لا تقضي سنة هو الأصل إذا فرع على مذهب الأصوليين وأن الأزمنة لها خصوصية في المأمور به، وأما إذا فرع على مذهب الفقهاء فقد قال عليه الصلاة والسلام "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فالأصل القضاء، وقد ثبت القضاء في ركعتي الفجر يوم الوادي بعد طلوع الشمس عنه عليه

(1/168)

السلام وشغله صلى الله عليه وسلم الوفد عن الركعتين اللتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم واظب عليهما بعد ذلك الوقت وأنت تعلم أن الركعتين بعد الظهر دون ركعتي الفجر في الفضل.

وتعلم صحة النهي عن الصلاة بعد العصر ولم يمنع ذلك من قضاء النافلة وهذا ينفي المجاز الذي قيل نعم من اعتقد مذهب الأصوليين، ولم يحفظ القضاء إلا في ركعتي الفجر قصره عليه، واختلف فيمن ذكر الوتر في الصبح على أربعة أقوال: فقيل يقطع استحبابا، لأنه لو تمادى على الصبح لفاتت، وقيل يتمادى وجوبا وقيل يقطع إن كان فذا فقط، وقيل يقطع الفذ والإمام دون المأموم، وهل هذا الخلاف وإن عقد ركعة أو إن عقد ركعة تمادى قولا واحدا في ذلك قولان.

(ومن دخل المسجد على وضوء فلا يجلس حتى يصلي ركعتين إن كان وقت يجوز فيه الركوع):

تحية المسجد فضيلة واختار ابن عبد السلام أنها سنة وإن جلس قبل أن يركع فإنه يقوم ويصلي خلافا للشافعي وإن صلى الفريضة فإنها تكفي، قلت: ولا يقال الصواب لا تكفي لخصوصية أمره عليه الصلاة والسلام بركعتين، والأصل أن العبادة الواحدة لا تقوم مقام العبادتين، لأن ذلك مع التساوي بين العبادتين، أما إذا كانت إحداهما آكد كما هنا فإنها تنوب عنهما معا بدليل الاتفاق على أن من اغتسل للجنابة ونوى النيابة عن الجمعة أنه يحصل له ثواب الغسلين معا، ويريد الشيخ ما لم يتكرر دخوله فإن تكرر فإن التحية تسقط كنظائرها، واختلف إذا خرج من المسجد بعد أن صلى التحية ثم رجع عن قرب فقيل يركع ثانيا، وقيل لا والأول نقله بعض من لقيناه، والثاني نقله الفاكهانين وكان بعض من لقيته يفتي بأنه إن خرج ليعود فإنه لا يركع وإلا ركع وظاهر كلام الشيخ أنه إن كان مارا فإنه لا يفتقر في دخوله إلى ركوع وهو كذلك.

وقال ابن الحاجب: وتحية المسجد ركعتان قبل أن يجلس، وإن كان مارا جاز الترك ولم يأخذ به مالك واعترضه ابن عبد السلام بأن كلامه يقتضي أن مالكا يقول يركع وليس كذلك، وما ذكرناه من جواز المرور وهو كذلك إلا أن يكثر فإذا أكثر ففيه تغير الحبس ويقرأ في ركعتي التحية بأم القرآن وسورة كغيرها ووقع في كتاب ابن شعبان أنه يقرأ بأم القرآن فقد كركعتي الفجر في المشهور ذكره ابن عبد السلام.

(1/169)

(ومن دخل المسجد ولم يركع للفجر أجزأه لذلك ركعتا الفجر):

المطلوب أن يقتصر على ركعتي الفجر دون زيادة فقول الشيخ أجزأه كأنه خلاف ذلك وما ذكرناه هو المشهور، وقال القابسي يصلي التحية وركعتي الفجر، وفي المذهب قول ثالث بإباحة ما خف من النوافل وصوب ابن عبد السلام قول القابسي قائلا لأن العبادة الواحدة لا تقوم مقام الاثنين، وكان صاحب القول الأول رأى أن المقصود أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين وقد حصل ثم إنه استغنى بالأوكد وهو ركعتا الفجر عما دونه وهو تحية المسجد، قال ولا يبعد أن يسلك بهما ما في المشهور من نية غسل الجنابة وغسل الجمعة.

(وإن ركع الفجر في بيته ثم أتى المسجد فاختلف فيه فقيل يركع وقيل لا يركع):

ما ذكر من القولين كلاهما لمالك قال ابن عبد السلام: والظاهر ركوعه ولا مانع يمنع والحديث "لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر" لا يقوى قوة "إذ أتى أحدكم إلى المسجد" وقيد أبو عمران وأبو بكر بن عبد الرحمن وغيرهما القول بالركوع بأنه يصلي ركعتين بنية التحية، وحكى ابن بشير قولا بأنه يعيدهما بنية الفجر حقيقة وضعف.

(ولا صلاة نافلة بعد الفجر إلا ركعتا الفجر إلى طلوع الشمس):

لما كان قوله قبل ومن دخل المسجد ولم يركع للفجر أجزأه لذلك ركعتا الفجر يوهم جواز صلاة التحية لقوله أجزأه كما قلنا نفاه بقوله ولا صلاة نافلة بعد الفجر والله أعلم، وقول الشيخ يحتمل الكراهة والتحريم كقول ابن الحاجب، وأوقات المنع قال ابن عبد السلام: وظاهر قوله بعد ومن أحرم في وقت منع قطع يقتضي التحريم، قلت: ليس فيه دليل لأن من تلبس بمكروه، ثم ذكر ابن رشد ثلاثة أقوال: في النافلة بعد صلاة الجمعة للمأموم أحدها أن ذلك مكروه فيثاب لتركه ولا يأثم لفعله.

وعزاه لأول صلاة المدونة فقول ابن الحاجب قطع يحتمل أن يكون على الاستحباب والله أعلم، وظاهر كلام الشيخ أن الفائتة يصليها في هذا الوقت وهو كذلك حتى عند الطلوع وعند الغروب، وقد تقدم من فاته حزبه فإنه يصليه بعد طلوع الفجر، وفي العمد خلاف وبالله التوفيق.

(1/170)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب الإمامة وحكم الإمام والمأموم

لما كان اجتماع الناس على رجل يصلي بهم مطلوبا وذلك من توفرت فيه شروط يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ترجم عليه المؤلف رحمه الله تعالى بالإمامة، واعلم أن المذهب اختلف في صلاة الجماعة على أربعة أقوال: فقيل سنة مؤكدة قاله أكثر شيوخ المذهب وقيل فرض كفاية نقله ابن محرز وغيره من بعض أصحابنا، وقيل مندوب إليها مؤكدة الفضل قاله عبد الوهاب في تلقينه ومثله لابن العربي في عارضته هي مندوبة يحث عليها

وقال ابن رشد مستحبة للرجل في خاصته فرض في الجملة سنة بكل مسجد، واختلف هل تتفاضل بالكثرة أم لا؟ والمشهور أنها لا تتفاضل خلافا لابن حبيب، وحمل بعض الشيوخ المذهب على قول ابن حبيب وجعل المشهور أن الجماعة سواء بالنسبة إلى عدم الإعادة في جماعة نقله ابن عبد السلام، وأقل الجماعة اثنان باتفاق المذهب.

(ويؤم الناس أفضلهم وأفقههم):

قال ابن الحاجب: وشرط الإمام أن يكون ذكرا مسلما بالغا عاقلا عالما بما لا تصح الصلاة إلا به فقها وقراءة قادرا عليها، واختلف المذهب في إعادة مأموم إمام كافر ظنه مسلما فقيل يعيد أبدا، وقيل تصح فيما جهر فيه إن أسلم، وقيل إن كان إماما وأسلم بعد ذلك على ثلاثة أقوال: فقيل يقتل، وقيل ينكل ويطال سجنه ثم يرسل وقيل إن كان آمنا قتل وإلا فلا.

قلت: وهذا الخلاف فيه ضعف عندي لقول إسحاق بن راهوية أجمعوا على أن من رأيناه يصلي فإن ذلك دليل على إيمانه، واختلف في إمامة اللحان على أربعة أقوال، فقيل صحيحة وعكسه، وقيل بالأول إن كان في غير الفاتحة، وبالثاني إن كان في الفاتحة، وبهذا القول الفتوى عندنا بإفريقية وهو قول أبي بكر بن اللباد وابن شلبون، وقيل بالأول إن لم يغير المعنى، وبالثاني إن غيره كأنعمت ضما وكسرا.

قال اللخمي: والأحسن المنع إن وجد غيره فإن أم لم يعد مأمومه، وقال المازري: لا أعرف القول بالصحة ممرضا بذلك نقل اللخمي له قلت وأجابه بعض شيوخنا بأن ابن رشد حكاه عن ابن حبيب والقول الثالث الذي به الفتوى هو عندي ضعيف لأنه لا يخلو إما أن يكون اللحان ممن صار بلحنه متكلما بغير القرآن أم لا،

(1/171)

وعلى كل حال فلا فرق، وأجابني بعض من كان يفتي به بأنا نختار قسما ثالثا وهو أن يصير كالتارك وأجبته بأنه يلزم عليه الصحة مطلقا لأنه إذا قل لحنه في أم القرآن فقصارى أمره على ما ذكرتم أن يكون تاركا لبعض آية وذلك لا يضر والله تعالى أعلم.

(ولا تؤم المرأة في فريضة ولا نافلة لا رجالا ولا نساء):

ما ذكره هو المشهور وأحد الأقوال الثلاثة، وروى ابن أيمن أنها تؤم النساء وإلا كره قال عياض في الإكمال واختاره بعض شيوخنا، وقال الخمي إن عدم الرجال أمت النساء وإلا كره وصحت، وعلى المشهور فمن أمته أعاد أبدا، لو كانت امرأة على ظاهر قول ابن حبيب من صلى خلفها أعاد أبدا وبه الفتوى، قال أبو إبراهيم الأندلسي من أمت من النساء أعدن في الوقت وحيث تؤم فإنها تقف في الصف قاله ابن هارون.

قلت: وكان بعض من لقيناه يذهب إلى أنها تقف آخرهن وحدها وهن أمامها لقوله عليه السلام "أخروهن حيث أخرهن الله" وكنت أجيبه بأن معنى الحديث إنما هو حيث تكون مأمومة وأما إذا أمت النساء على القول به فتصير كرجل مع رجال والله أعلم.

قال ابن بشير والخنثى كامرأة ولا خلاف أن الصبي لا يؤم في الفرض فإن أم ففي إعادة من ائتم به ثلاثة أقوال: يعيد أبدا وهو المشهور، وقيل لا يعيد نقله أبو محمد عن أبي مصعب، وقيل إن استخلف لتمامها يعيد في الوقت قال أشهب. وزعم الشيخ أبو القاسم الليبدي أن أبا محمد وهم في نقله قوله أبي مصعب فإنه ليس في كتاب أ [ي مصعب، قال اللبيدي فهم أبو محمد بإصلاحه بعد مطالعته للكتاب المذكور فاختر منه المنية، وفي إمامة الصبي في النافلة روايتان. قلت: والعمل عندنا بإفريقية استمر على جوازه في التراويح.

(1/172)

(ويقرأ مع الإمام فيما يسر فيه ولا يقرأ معه فيما يجهر فيه):

ما ذكر أنه يقرأ مع الإمام في السرية هو المشهور، وقيل لا يقرأ معه فيها قاله ابن حبيب وغيره، وعلى الأول فحكم ذلك الاستحباب عند الأكثر وقيل إن ذلك سنة؛ حكاه ابن عبد البر عن مالك، وما ذكر الشيخ أنه لا يقرأ معه في الجهرية هو كذلك، وظاهر كلامه: ولو كان لا يسمع صوت الإمام وهو كذلك على المنصوص. وأشار ابن عبد البر إلى أنه يتخرج فيه قول بأنه يقرأ من قول من قال من أصحاب مالك أنه يجوز التكلم لمن لم يسمع خطبة الإمام، وقيل إن كان الإمام يسكت بين التكبير والقراءة فإنه يقرأ حينئذ حكاه الباجي عن رواية ابن نافع.

(ومن أدرك ركعة فأكثر فقد أدرك الجماعة فليقض بعد سلام الإمام ما فاته على نحو ما فعل الإمام في القراءة وأما في القيام والجلوس ففعله كفعل الباني المصلي وحده):

ما ذكر أنه إذا أدرك ركعة فقد أدرك الجماعة هو كذلك بلا خلاف، وما ذكر أنه يكون بانيا في الأفعال قاضيا في الأقوال هو المشهور من المذهب وقيل يكون قاضيا مطلقا، وقيل يكون بانيا مطلقا، حكى هذه الأقوال الثلاثة اللخمي وسلم ابن بشير وغيره هذه الأقوال له، ومهما أدرك المصلي ركعتين قام بتكبير وإن أدرك واحدة أو ثلاثا قام بغير تكبير قاله في المدونة. وقيل إنه يقوم بتكبير مطلقا قاله ابن الماجشون قائلا: إنما كبر مع الإمام موافق له وبعد سلامه يبني على حكم نفسه، وإنما كان مدرك ركعة أو ثلاث يقوم بغير تكبير على المشهور؛ لأن تكبيرة القيام جلس بها.

وقال في المدونة في مدرك التشهد الآخر يقوم بتكبير، فرأى كثير من الشيوخ أنه يناقض ما في المدونة كابن رشد، وقال ابن عبد السلام: المناقضة بينة إلا أنه في المدونة لم يجعل التكبير هنا بالمتأكد مثل غيره من التكبير، قالوا لأنه لما لم يدرك من الصلاة ما يعتد به صار كمبتدئ الصلاة فلذلك أمر بتكبير، في أولها وعارضوا قولها في مدرك التشهد الآخر أنه يقوم بتكبير لقول ابن القاسم في صلاة العيدين من المدونة إن

(1/173)

من أدرك مع الإمام منها الجلوس كبر وجلس ثم يقضي بعد سلام الإمام باقي التكبير.

ووجه المعارضة أنه في المسألة المعارض بها اعتد بتكبيرة الجلوس مع الإمام وههنا يأمره بالاعتداد بها وفرق بأن صلاة العيدين الركعة الأولى مشغولة بالتكبير فاستغنى لأجل ذلك عن الإتيان بتكبير يشبه تكبيرة الإحرام، بخلاف غير صلاة العيد لأنه لو لم يأت بتكبير في أول الركعة مع أنها الركعة الأولى صار كمتبدئ الصلاة من غير تكبير وسلم ابن عبد السلام هذا الفرق.

(ومن صلى وحده فله أن يعيد في الجماعة للفضل في ذلك إلا المغرب وحدها):

اعلم أن من صلى وحده فإنه يستحب له أن يعيد في جماعة نص عليه عبد الوهاب في تلقينه وهو الذي أراد الشيخ، وإنما قال فله لنفي ما يتوهم من الوجوب ويدل على ما قلناه قوله للفضل في ذلك، وعبارة المدونة كعبارة الشيخ، ونصها: ومن صلى وحده فله إعادتها في جماعة، وكذلك قول الموطأ لا بأس أن يعيد كل ذلك نفيا لما يتوهم من الوجوب.

وهذا كله ما لم تقم الصلاة عليه وهو في المسجد فإن أقيمت عليه فقال ابن الحاجب: الظاهر لزومها أراد والله أعلم أن ثم قول غير ظاهر بعدم لزومها، فإن قلت أحمله على أنه اختار ذلك من نفسه لكونه لم يقف عليه منصوصا لغيره فهو لم يقصد بذلك ذكر الخلاف، قلت: مثل هذا الشيخ لا يليق به ذلك لأن المسألة من المدونة قال فيها: ومن سمع الإقامة وقد صلى وحده فليس بواجب عليه إعادتها إلا أن يشاء، ولو كان في المسجد لدخل مع الإمام إلا في المغرب فإنه يخرج فظاهر كلامه يقتضي اللزوم، ولم يتعرض ابن عبدالسلام إلى ما تعرضنا إليه وإنما نبه على قول كالتي لم يصليها.

قال: تشبيه المؤلف واقع في أصل الحكم لأن الحكم في حق من صلى مأخوذ من الحكم في حق من لم يصل لظهور الفارق، قال ابن هارون كلامه يدل على أن في المسألة قولا بعدم اللزوم، ويحتمل أن يريد الظاهر في النطق ويقتضي أن فيه احتمالا أيضا بعدم اللزوم مقابلا للظاهر، قال وأظن القاضي عياضا حكى في المسألة قولين وظاهر كلام الشيخ أنه لا يعيد مع الواحد وهو المعروف في المذهب.

وحكى ابن الحاجب قولا بأنه يعيد معه ونصه: ويستحب إعادة المنفرد مع اثنين فصاعدا لا مع واحد على الأصح، فكثير من الشيوخ ممن أدركناهم يمرضونه بعدم

(1/174)

وقوفهم عليه وحفظه ابن هارون لصاحب اللباب عن ظاهر المذهب.

قلت: وكان بعض من لقيناه يقول إن نقل صاحب اللباب لا يعول عليه لأنه لم يكن بذاك قال: ويكفي فيما قلناه أنه جعله ظاهر المذهب مع أن الأول هو المذهب وعزوه إياه للقابسي فقط قصور بل قال به أبو عمران وغيره، وظاهر كلام الشيخ أن من صلى بامرأته فإنه لا يعيد وهو كذلك عند أكثر القرويين، وقيل إنه يعيد قاله ابن كنانة والأزهري وابن مغيث وغيرهم، وكذلك عند أكثر القرويين اختلف إذا صلى مع صبي فقيل يعيد قاله أبو بكر بن عبد الرحمن وغيره، وقيل لا يعيد قاله بعض شيوخ عبد الحق.

واختلف بأي نية يعيد على أربعة أقوال فقيل: بنية التفويض، وقيل بنية الفرض وقيل إكمال الفرض وقيل بنية النفل واستبعد ابن عبد السلام الأول بأنها نية مترددة واستبعد الثاني بأن الذمة قد برئت بالصلاة الأولى فعمارتها ثانيا يفتقر إلى دليل ولا وجود له سوى دليل مطلق الإعادة، ولا إشعار له، واستبعد القول بنية النافلة؛ لأن الأمر بالنفل المجرد من غير أن يكمل به الفرض السابق لا معنى له.

وما ذكر الشيخ أن المغرب لا تعاد لم يرد به الحصر بل وكذلك العشاء الآخرة إذا أوتر، ومثل عبارة الشيخ عبر صاحب المدونة وذهب المغيرة إلى إعادة الجميع وفي المسألة قول ثالث حكاه اللخمي فانظره.

(ومن أدرك ركعة فأكثر من صلاة الجماعة فلا يعيدها في جماعة):

ظاهر كلام الشيخ أن المساجد الثلاثة كغيرها فمن صلى في جماعة في غيرها فإنه لا يعيد فيها جماعة، وهو كذلك خلافا لابن حبيب وهذه طريقة ابن بشير ومن تابعه كابن الحاجب وجعل غيرهم المذهب هو قول ابن حبيب، وألزم اللخمي ابن حبيب أن يعيد فيها فذا وتمسك المازري معه بقول المدونة من أتى أحد المساجد الثلاثة، وقد صلى فيها وهو يرجو جماعة في غيره فإنه يصلي فيه فذا، وذلك أفضل من جماعة في غيره، ولما ذكر ابن بشير إلزام اللخمي قال يلزمه ذلك من طريق القياس إلا أن يقال إنما ورد الأمر بإعادة الفذ في جماعة، وهذا عكسه والموضع موضع عبادة فلا يتعدى به ما ورد، ورأي بعض شيوخنا أن قول ابن بشير يلزم ابن حبيب ذلك من طريق القياس مع ما بعده تناقض، وتما تمسك به المازري لم يرتضه غير واحد من أشياخي لأنه إذا صلى في جماعة ذلك حكم مضى كما إذا صلى خلف إمام مفضول أو في جماعة صغرى فإنه لا يعيد إلا على أصل ابن حبيب القائل بأن الجماعة تتفاضل بالكثرة

(1/175)

بخلاف إذا كان ذلك ابتداء.

(ومن لم يدرك إلا التشهد أو السجود فله أن يعيد في جماعة):

ولو صلى وحده ودخل مع الإمام في الجلوس ظنا منه أنه الجلوس الأول فإنه إذا سلم الإمام سلم وانصرف، قاله في سماع ابن القاسم، وقد قال ولو ركع ركعتين قال ابن رشد: إنما أمره بالانصراف لأنه دخل بنية الفرض لا النفل، وقيل إن نوى رفضها أتمها وإن لم يرفض الأولى لم يلزمه إتمامها قاله مالك من رواية اسماعيل نقله اللخمي، وقيل ينبغي أن يجلس ولا يحرم فإن كانت ثانية أحرم وإلا انصرف، نقله أبو محمد عن مالك من رواية علي بن زياد.

(والرجل الواحد مع الإمام يقوم عن يمينه ويقوم الرجلان فأكثر خلفه فإن كانت امرأة معهما قامت خلفهم فإن كان معهما رجل صلى على يمين الإمام والمرأة خلفهما ومن صلى بزوجته قامت خلفه والصبي إن صلى مع رجل واحد خلف الإمام قاما خلفه إن كان الصبي يعقل لا يذهب ويدع من يقف معه):

ما ذكر الشيخ من الرتبة حكمها الاستحباب فلا تضر مخالفتها قال في المدونة وإن صلت امرأة بين صفوف الرجال أو صلى رجل بين صفوف النساء لضيق المسجد فلا بأس به، ونبه صاحب الطراز على أن قوله لضيق المسجد وصف طردي، ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم عن ابن القاسم أنها باطلة كالحنفي ومرضه بعض شيوخنا بقوله لا أعرفه.

وقال لعله وهمه نقل قول ابن زرقون عن ابن القاسم لا يأثم النساء بمن لم ينو إمامتهن كالحنفي، والخنثى يكون بين صفوف الرجال والنساء قال الشيخ القرافي الصف الأول معل بثلاث علل: سماع القراءة وإرشاد الإمام وتوقع الاستخلاف وهذه العلل موجودة في الصف الثاني والثالث مما يلي الإمام؛ فيلزم أن يكون أفضل من طرف الصف الأول.

واعلم أن المصلي بالنسبة إلى الصف الأول والبكور إلى المسجد على أربعة أقسام: رجل أتى أول الوقت وصلى في الصف الأول فهذا أشرفها وعكسه أشرها ورجل أتى آخر الوقت وصلى في الصف الأول وعكسه قيل هما على حد السواء، وقال ابن العربي عندي أن الأول منهما أفضل من الثاني، ومن صلى وبين يديه فرجة اختيارا فلا يضره، وقيل إن صلاته باطلة نقله المازري عن ابن وهب.

(1/176)

(والإمام الراتب إن صلى وحده قام مقام الجماعة):

ما ذكره هو معروف المذهب، وقال أبو عمر في الكافي يعيد المنفرد ولو كان إماما راتبا، قلت وألزم عليه بعض شيوخنا أن من صلى وحده فإنه لا يعيد معه، وأقام الشيخ أبو القاسم الغبريني رحمه الله من ههنا مسألتين إحداهما: أن الإمام الراتب إذا كان وحده ليلة المطر فإنه يجمع، والثانية: إذا كان وحده أيضًا يقول سمع الله لمن حمده ولا يزيد ربنا ولك الحمد، وسلم له بعض من كان معاصرا له من أشياخنا المسألة الأولى، وخالفه في اثانية ورأى أنه يجمع بينهما والأقرب عندي هو الأول والله أعلم.

(ويكره في كل مسجد له إمام راتب أن تجمع فيه الصلاة مرتين):

ظاهر كلام الشيخ أن الكراهة على بابها وحمله التادلي على التحريم وعبر ابن الحاجب بالكراهة كالشيخ، وعبر ابن بشير بالمنع قائلا من غير خلاف قلت: وأخذ من قول أشهب الجواز، وذلك أنه دخل مسجدا فوجد أهله قد صلوا فقال لأصبغ تباعد عني وائتم بي وأنت تعلم أن هذا فعل عالم، وقد علمت ما فيه، قال ابن العربي في القبس وانفرد مالك من بين سائر الفقهاء بأنه لا يصلي في مسجد واحد مرتين.

وظاهر كلام الشيخ أن الكراهة باقية ولو أذن الإمام وهذا الذي شاهدت غير واحد من شيوخنا يفتون به، ونقله سند عن ظاهر المذهب قائلا لأن من أذن لرجل أن يؤذيه لا يجوز له ذلك ومثله لابن عطاء الله، وقال اللخمي أنه جائز، وظاهر كلامه أنه إذا لم يكن فيه إمام راتب أنه يجوز وهو كذلك، وأما إذا كان إماما راتبا في بعض الصلوات دون بعض فالصلوات التي هو إمام راتب فيها لا تعاد الجماعة فيها، والصلوات الأخر اختلف في كراهية الإعادة فيها واختار ابن عبد السلام الجواز، وهذا كله إذا صلى الإمام في وقته المعلوم، ولو قدم عن وقته فأتت الجماعة فإنهم يعيدون فيه جماعة وكذلك العكس.

(ومن صلى صلاة فلا يؤم فيها أحدا):

ما ذكر هو المنصوص وقال ابن بشير قد يلزم من قال إنه يعيد بنية النفل وبصحة الرفض أنه يؤم فيها، هذا إن لم يراع فيها الخلاف، وإذا فرعنا على النصوص وأم، فقيل يعيد مأمومه أبدا، قاله ابن حبيب وقيل ما لم يطل قاله سحنون، وظاهر قول المدونة وأعاد من ائتم به أنهم يعيدون جماعة.

وقال ابن حبيب أفذاذا ولم يحك ابن بشير غيره قاله وهذا لأن الصلاة الأولى

(1/177)

تجزئهم عند الشافعي وغيره وإذا أعادوها جماعة صار عند هؤلاء كمعبد في جماعة بعد أن صلى في جماعة فيراعى في الإعادة مذهب المخالف لا مذهب نفسه، وقال اللخمي إن أعاد بنية الفرض صحت على القول بالرفض، وإن أعاد بنية التفويض صحت إن بطلت الأولى، وإن أعاد بنية النفل صحت على إمامة الصبي ورده المازري بأنه ينوي الفرض، قلت ونية الفرض منه محالة عادة.

(وإذا سها الإمام وسجد لسهوه فليتبعه من لم يسه معه ممن خلفه):

اعلم أن هذه المسألة لا تخلو إما أن يكون سجود الإمام قبل السلام أو بعده، فإن كان قبل السلام وأدرك معه ركعة فإن يسجد معه على المشهور، ونقل ابن عبدوس قولا أنه لا يسجد معه فخرجه ابن رشد على أن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته، ولم يرتضه بعض شيوخنا بل لزومه حكم الإمام يقتضي تبعيته مطلقا ووجهه باحتمال سهو يحدث عليه فأخر تخفيفا عليه، ويرد بعدم اطراده إذ المنصوص عليه في المقيم يصلي خلف المسافر فإنه يسجد معه للنقص، ويجب بأن المسبوق يقضي ما تدقم من صلاة الإمام فلذلك يؤخر سجوده حتى يستكملها بخلاف المقيم فإنه يتيم لنفسه فيسجد لموافقة الإمام وإن كان لم يدرك معه ركعة، فقال ابن القاسم لا يسجد معه، وهو المشهور وقال ابن عبد السلام: فإن سجد بطلت صلاته هكذا قالوا قال: والظاهر لبادئ الرأي قول سحنون أنه يتبعه.

قلت: وإنما قال الظاهر ما قال لأنه لما أحرم معه انسحب عليه حكم المأمومية بحيث لو تعمد الإمام بطلان صلاته لبطلت عليه، وأظن أن أبا حفص العطار نبه على هذا وإنما تبرأ من قولهم أن من سجد بطلت صلاته؛ لأنه من أصل مذهبنا مراعاة الخلاف، ومراعاة خلاف أهل المذهب أولى وأحرى والله أعلم، ولهذا أفتى بعض المتأخرين فيها بالصحة.

وأما السجود البعدي فلا يتبعه فيه باتفاق فإن سجد معه سهوا فلا يضر وسجد بعد قضائه، وأما إن كان عامدا فسمع عيسى ابن القاسم أن صلاته مجزئة وبه كان بعض من لقيناه من القرويين يفتي مراعاة لقول سفيان أنه يسجد معه، واختار عيسى أنها باطلة، وبه الفتوى بتونس. وانظر إذا كان على الإمام سجود سهو قبل السلام فسها عنه حتى سلم وقصد إلى أن يسجد بعد فهل يسجده الذي حصلت له ركعة معه اعتبارا بأصله أو لا يسجده اعتبارا بما آل الأمر إليه؟ لم أر في ذلك نصا للمتقدمين

(1/178)

والذي ارتضاه بعض من لقيناه أنه إن كان هذا السجود مما تبطل الصلاة بتركه لو لم يسجده الإمام فإنه يسجد معه وإلا فلا.

(ولا يرفع أحد رأسه قبل الإمام ولا يفعل إلا بعد فعله ويفتح بعده ويقوم من اثنتين بعد قيامه ويسلم بعد سلامه، وما سوى ذلك فواسع أن يفعله معه وبعده أحسن):

إنما قال ذلك لقوله عليه السلام "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله وجهه وجه حمار" فلو رفع لاعتقاده أن الإمام رفع فليرجع إليه ما لم يلحقه فيتمادى خلافا لسحنون في قوله لابد من رجوعه ليقع رفعه بعده، وظاهر كلام الشيخ أن المأموم لا يفعل الفعل كالركوع مثلا إلا بعد أن يحصله الإمام أجمع وهو كذلك في قول، وقيل إذا شرع الإمام اتبعه المأموم والقولان لمالك إلا أن في كلام الشيخ تنافيا. وهو قوله وما سوى ذلك فواسع أن يفعله معه إذ هو مناقض لعموم قوله ولا يفعل إلا بعد فعله، ونبه على هذا ابن عبد السلام بقوله وفي لفظ الشيخ ابن أبي زيد في رسالته اضطراب.

قلت: ويجاب بأنه بيان منه أن نهيه أولا ليس على طريق التحريم والله أعلم، والأكثر على أنه إذا أحرم مع إمامه أنه لا يجزئه، وقال ابن القاسم أنه يجزئه. وسئل سحنون عن رجلين ائتم أحدهما بالآخر نسيا قبل إكمال الصلاة من الإمام منهما، فقال إن سبق أحدهما بالسلام أعاد الصلاة وإن سلما معا جرت على اختلاف أصحابنا في المساواة في الإحرام، ولهذا الاختلاف المذكور كان المطلوب أن يخطف الإمام إحرامه وسلامه لئلا يشاركه المأموم فتبطل صلاته، قلت وهذه إحدى المسائل التي يعلم بها فقه الإمام، وثانيها تقصير الجلوس الوسط، وثالثها دخوله المحراب بعد فراغ الإقامة والله أعلم.

(وكل سهو سهاه المأموم فالإمام يحمله عنه إلا ركعة أو سجدة أو تكبيرة الإحرام والسلام أو اعتقاد نية الفريضة):

اعلم أنه بقي على الشيخ الجلوس للسلام فإن المأموم لو سلم وهو قائم فإنه لا يحمل ذلك عنه الإمام، والاعتذار عنه بأنه اكتفى بالسلام الضعيف؛ لأنهما منفكان ومثله الرفع من الركوع، والقيام للإحرام وبقي عليه أيضًا ترتيب الأداء فإنه لو سها المأموم فسجد ثم ركع فإنه لا يحمل عنه.

(1/179)

وذكره الركعة لا معنى له لأنه إذا كان لا يحمل السجدة فأحرى الركعة أجمع إذ هي سجدة وزيادة، ولا يقال إنما أراد بذلك ركوع ركعة لأن مجاز وما ذكر أنه لا يحمل عنه تكبيرة الإحرام هو كذلك في القول المشهور، قيل إنه يحملها عنه رواه ابن وهب، وعزاه ابن يونس له والأشهب بزيادة، والأفضل إعادة الصلاة احتياطا وعزاه ابن زرقون لرواية المتيطي.

وقال التادلي: الصواب حذف الاعتقاد والاقتصار على النية لأن الاعتقاد هو العزم على الشيء والتصميم عليه، والنية هي الإرادة للفعل والعزم سابق عليها لأنه يعزم أولا على أن ينوي فإذا حصل العزم عقبته النية.

(وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه ولينصرف إلا أن يكون في محله فذلك واسع):

لا خصوصة لقوله إلا أن يكون في محله بل وكذلك في السفر قال صاحب الحلل، ويلزم من يعلل أصل المسألة بخوف العجب أن ينصرف مطلقا، قلت: إنما يخشى العجب حيث يكون معه غيره أما إذا كان وحده فلا وكذلك في السفر لقلة المصلين خلفه لأنه مظنة للقلة؛ فالغالب نفي ذلك والله أعلم.

قال الشيخ القرافي: كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقب الصلوات المكتوبة جهرا للحاضرين، فيجتمع لهذا الإمام التقديم وشرف كونه ينصب نفسه واسطة بين الله تعالى وبين عباده في تحصيل مصالحهم على يديه بالدعاء، فيوشك أن يعظم نفسه ويفسد قلبه ويعصي ربه في هذه الحالة أكثر مما يطيعه.

وروي أن بعض الأئمة استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يدعو لقومه بدعوات بعد الصلاة فقال له لا لأني أخشى عليك أن تنتفخ حتى تصل إلى الثريا، وهذه الإشارة لما ذكرناه. قال ويجري هذا المجرى كل من نصب نفسه للدعاء لغيره. قلت واستمر العمل عندنا بإفريقية على جواز ذلك، وكان بعض من لقيته ينصره بأن الدعاء ورد الحث عليه من حيث الجملة فقال تعالى: (ادعوني استجب لكم) [غافر: 60]

وقال: (قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم) [الفرقان: 77]

وإذا صار شائعا ذائعا فعله كما هو عندنا فالغالب على من نصب نفسه لذلك نفي العجب والله أعلم.

(1/180)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب جامع في الصلاة

قال التادلي: جرت عادة الشيوخ فيما تباعدت أوصافه وتباينت أطرافه وكانت معانيه لا ترتبط ومقاصده لا تنضبط بأن يرسم له باب جامع لذلك، وأول من اخترعه مالك بن أنس في موطئه إذ هو للتأليف أول سالك، قلت: ويعترض على الشيخ لكونه ذكر في الباب مسائل ليست من الصلاة كقوله: ومن أيقن بالوضوء وشك في الحدث ابتدأ الوضوء، وكقوله: وإن لم يقدر على مس الماء لضرر به أو لأنه لا يجد من يناوله إياه تيمم ويجاب بأن أكثر ما ذكره في الصلاة.

(وأقل ما يجزئ المرأة من اللباس في الصلاة الدرع الحصيف السابغ الذي يستر ظهور قدميها وهو القميص والخمار الحصيف ويجزئ الرجل في الصلاة ثوب واحد)

انظر لأي شيء كرر هذا الكلام مع سبقيته في باب طهارة الماء والثوب والبقعة، وقد قدمنا أن ستر العورة في الصلاة اختلف فيه على ثلاثة أقوال فقيل: فرض شرط، وقيل لا تعلق للصلاة به، وقيل سنة حسبما تقدم بسط ذلك وقد قدمنا أيضًا في المرأة

(1/181)

إذا صلت عريانة الأطراف هل تعيد أبدا أم في الوقت أم لا إعادة، أنها إذا صلت عريانة العورة فالمنصوص أنها تعيد أبدا وخرج اللخمي من قول أشهب في الرجل يعيد في الوقت أن تكون هي كذلك ورد بأن تعريها أشنع.

وأجيب عنه بأن شناعة إنما هي بالنسبة إلى عيون الناظرين أما بالنسبة إلى الصلاة فلا فرق بينها وبين الرجل والله أعلم.

(ولا يغطي أنفه أو وجهه في الصلاة أو يضم ثيابه أو يكفت شعره):

يعني على طريق الكراهة وذلك عام في الرجل والمرأة، أما تغطية الأنف بالنسبة إلى الرجل فللكبر، وأما بالنسبة إلى المرأة فلما في ذلك من التعميق في الدين، وأما تغطية الوجه فيهما فإنه يكره للتعمق في الدين والله أعلم.

وأما من جرت عادته بالتنقب ولم يقصد بذلك الكبر فإن ذلك جائز، ونص عليه ابن رشد في مرابطي الأندلس قائلا لأنه زيهم وبه عرفوا ويستحب تركه في الصلاة، قلت: وخرج بعض من لقيناه جوازه في الصلاة من قول المدونة ومن صلى محتزما أو جمع شعره، أو شمر كميه فإن كان ذلك لباسه أو كان في عمل فلا بأس به.

وكان بعض أشياخي يحصل قول المدونة أو كان في عمل إذا كان يعود إليه ثانيا أما إذا كان لا يعود إليه فإنه يكره له ذلك، وحمل بعضهم المدونة على عمومها، والأول أقرب إلى المعنى وظاهر كلام الشيخ أن التلثم جائز وهو كذلك.

وقيل إنه مكروه كالتنقيب والقولان عن مالك حكاهما صاحب الطراز.

(وكل سهو في الصلاة بزيادة فليسجد له سجدتين بعد السلام يتشهد لها ويسلم منهما):

هذا عموم أريد به الخصوص لأن من دعا مثلا في ركوعه فلا يسجد لأنه إنما تكلم بذكر، ويعني أيضًا ما لم تكثر الزيادة أما إن كثرت فهي مبطلة كمن تكلم ساهيا وأطال أو زاد في صلاته مثلها.

واختلف في الحكم السجود البعدي فقيل إنه سنة قاله عبد الوهاب وغيره، وقيل إنه واجب قاله صاحب الطراز، واعترض ابن رشد وابن هارون وخليل قول ابن الحاجب، وللسهو سجدتان.

وفي وجوبها قولان بقولهم لا خلاف في السجود البعدي أنه غير واجب، ومثله لابن عبد السلام وقواه بقولهم إذا ذكر السجود البعدي في صلاة فإنها لا تقطع بل يأتي

(1/182)

به بعدها، قلت هذا منهم قصور إذ هو قول سند كما قلناه وترد التقوية بأنه لا يلزم من كونه واجبا أن تقطع له الصلاة، إما مراعاة للخلاف وإما لكونه ضعيفا لذاته لكونه في الأصل يوقع خارج الصلاة ولا خلاف به يتشهد لهما ويسلم منهما، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يحرم للسجود البعدي وهو نقل الأكثر وقيل إنه يحرم له وقيل إن سها وطال أحرم وإلا فلا.

واختلف قول مالك هل يجهر بالسلام البعدي أو يسر على قولين.

(وكل سهو بنقص فليسجد له قبل السلام إذا تم تشهده ثم يتشهد ويسلم وقيل لا يعيد التشهد):

هذا كلام عام أريد به الخصوص أيضًا لأن من نقص فضيلة كالتأمين فإنه لا يسجد بل إن سجد بطلت صلاته، وكذلك التكبيرة الواحدة وشبهها حسبما يقوله الشيخ بعد، وما ذكر من السجود قبل السلام في النقص هو المشهور وفي المجموعة هو بالخيار إما قبل وإما بعد.

واختلف في حكم السجود القبلي على ثلاثة أقوال: فقيل سنة، وقيل واجب وقيل إن ترتب على ثلاث سنن فواجب وعن سنتين فسنة والقولان اللذان ذكر الشيخ في التشهد كلاهما عن مالك واستمر العمل عندنا على التشهد.

(ومن نقص وزاد سجد قبل السلام):

ما ذكر من أنه يسجد قبل السلام في الزيادة والنقصان هو نقل الأكثر، وقيل إنه يسجد بعد، قاله في العتبية وأخذه ابن لبابة من قول ابن القاسم يسجد مصلي النافلة خمسا سهوا بعد السلام لنقص السلام وزيادة الركعة، وروي عن مالك أنه مخير وقال عبد العزيز بن الماجشون يسجد قبل وبعد ونفسي ليه أميل وليس في ذلك مشقة إذ اجتماع الزيادة والنقصان ليس بأكثر بخلاف أحدهما.

(ومن نسي أن يسجد بعد السلام فليسجد متى ما ذكر وإن طال ذلك مثل ما ذكر الشيخ في المدونة بزيادة ولو بعد شهر وفي غيرها ولو بعد سنة):

والمراد أبدا ووجهه أن البعدي ترغيم للشيطان فناسب أن يسجده وإن بعد وظاهر كلام الشيخ والمدونة وغيرهما ولو كان ذكره في الوقت المنهي عنه، وقيل لا يسجد في ذلك الوقت حكاه غير واحد كابن عبد السلام واعتذر رحمه الله عن الظاهر المذكور بأنه قد يقال إنما المراد عدم سقوطه البتة لقرينة قوله ولو بعد شهر.

(1/183)

وقال عبد الحق عن بعض شيوخه: إن ترتب عن فرض أتى به حيث الذكر ولو كان في وقت نهي كالصلاة المنسية وإن ترتب عن نفل فلا يسجد إلا في الأوقات المباحة، وقول الشيخ فليسجد متى ما ذكر عام أريد به الخصوص كما تقدم أن من ذكره في صلاته فلا تقطع قال التادلي: وظاهر كلام الشيخ أنه إن ترتب من صلاة الجمعة فإنه لا يرجع إلى الجامع ثم نقل عن المذهب أنه يرجع وأما القبلي فإنه يرجع.

(وإن كان قبل السلام سجد إن كان قريبا وإن بعد ابتدأ صلاته إلا أن يكون ذلك من نقص شيء خفيف كالسورة مع أم القرآن أو تكبيرتين أوالتشهدين وشبه ذلك فلا شيء عليه):

قيد التادلي قول الشيخ في السورة بكونه وقف لها قائلا إنها ثلاث سنن فعلى تفسيره يكون الذي دل عليه قول المؤلف إن ترك سنتين صحت، وإن كان أكثر بطلت والأقرب عندي أن الشيخ أراد أن السورة بجملتها لا تبطل لأن الجهر والإسرار صفة للقراءة فهي سنة تابعة، وهذا هو الفارق بينها وبين الجلوس الوسط.

ولهذا قال في المدونة: ومن ترك السورة عمدا فلا شيء عليه ومن ترك ثلاث تكبيرات بطلت صلاته، واختلف المذهب إذا لم يسجد للنقص المأمور بالسجود له على خمسة أقوال: فقيل تبطل وقيل تصح، وقيل تبطل إن كان عن نقص فعل لا قول، وقيل تبطل إن كان عن الجلوس والفاتحة، وقيل تبطل إن كان عن تكبرتين أو سمع الله لمن حمده مرتين وظاهر كلام الشيخ في قوله لا شيء عليه لا بطلان ولا سجود وهو كذلك، وفي الجلاب يسجد.

(ولا يجزئ سجود السهو لنقص ركعة ولا سجدة ولا لترك القراءة في الصلاة كلها أو في ركعتين منه وكذلك في ترك القراءة في ركعة من الصبح):

أما الركعة والسجدة فالإجماع على ذلك وبالجملة كل ركن من أركان الصلاة فمتفق عليه، وأما ترك القراءة في الصلاة كلها فالأمر كما قال الشيخ عند الأكثر.

وروى الوافدي عن مالك: أن صلاته مجزئة قال الباجي وهو شذوذ من القول وروى علي بن زياد أحب إلى أن يعيد، وظاهره الاستحباب وأما ترك القراءة من ركعتين أو ثلاث فإنه مؤثر في البطلان أيضا، وقيل لا شيء عليه إن قرأ أم القرآن في ركعة لقوله

(1/184)

عليه الصلاة والسلام "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" وأجاب ابن عبد السلام بأن الحديث يتقيد بالحال والسياق، وأن محل أم القرآن من الصلاة كالقيام فيها كما لو قيل كل صلاة لم يركع فيها لم يسجد فيها، واشتهر الخلاف هل القراءة تجب في كل ركعة أم في ركعة كما سبق أو في النصف أو في الجل.

(واختلف في السهو عن القراءة في ركعة من غيرها فقيل يجزئ فيه سجود السهو قبل السلام وقيل يلغيها ويأتي بركعة وقيل يسجد قبل السلام ولا يأتي بركعة ويعيد الصلاة احتياطيا وهذا أحسن ذلك إن شاء الله تعالى):

ما ذكر من الأقوال الثلاثة كلها عن مالك، واختلف الشيوخ ما الذي اختار ابن القاسم منها فقيل إنه اختار القول الثاني بالإلغاء قاله بعضهم، وقال آخرون إنما اختار القول الثالث من أقوال الشيخ وهو الإعادة مع السجود وكلاهما تأول على قول ابن القاسم في المدونة.

وبقي في المسألة قول بالإعادة أبدا مفرع على القول بالسجود واعترض بأنه يقتضي عدم صحة الصلاة، والجبر بالسجود يقتضي صحتها فيتناقضان وأجاب ابن هارون بأن الصلاة في هذا القول غير صحيحة وإنما جبرها بالسجود مراعاة لقول من يصححها.

(ومن سها عن تكبيرة أو عن سمع الله لمن حمده مرة أو القنوت فلا سجود عليه):

ما ذكر من أنه لا سجود في التكبيرة الواحدة هو المشهور ووقع لابن القاسم أنه يسجد، وأخذ في المدونة من قولها إذا أبدل الله أكبر بسمع الله لمن حمده أو العكس على رواية أو عارض ابن الحاجب قولهم هنا بعدم السجود للتكبيرة الواحدة بقوله يسجد لترك السورة ونصه وإن كان قولا قليلا كالتكبيرة فيغتفر، وقيل يسجد لترك السورة ونصه وإن كان قولا قليلا كالتكبيرة وإن كان أكثر فثالثها يسجد بعدها وجاء في السورة يسجد وأشار إلى ما ذكرناه بقوله، وأجاب ابن عبد السلام بأن محافظة السلف على الزيادة على أم القرآن أكثر من محافظتهم على التكبيرة الواحدة، وذلك يدل على أنهم بينوا أن الزيادة على أم القرآن آكد من التكبيرة الواحدة.

قلت: والصواب عندي أنه لا معارضة بينهما كما تقدم من أن السورة إما ثلاث

(1/185)

سنن أو سنتان وصفة القراءة تابعة على أنه يمكن وهو الأقرب أن يكون إنما قصد بمعارضة ذلك لما يليه وهو أن المذهب اختلف في ترك أكثر من تكبيرة واحدة، هل يسجد قبل أو بعد أولا يسجد كما ذكر ولم يختلف أنه في السورة يسجد قبل السلام على ظاهر نقله، وهذا يفتقر إلى مزيد نظر ومحله غير هذا التصنيف وإنما قصدنا إلى تمرين المبتدئ على بعض مناقضات له لتعلق فكرته والأعمال بالنيات.

وأما من ترك القنوت فقد تقدم أن المشهور السجود عليه خلافا لابن سحنون، وعلي بن زياد ولا يقال يقوم من كلام الشيخ أن القنوت سنة لقرينة ذكره مع ما هو سنة لأن ذلك وصف طردي، ألا ترى إلى قوله في المدونة ولا يصلي في الكعبة فريضة ولا الوتر ولا ركعتي الفجر فقد ساوى بين الوتر وركعتي الفجر في أنهما لا يصليان في الكعبة، ولا أعلم أحدا من أهل المذهب أخذ منها أن الفجر سنة كالوتر.

(من انصرف من الصلاة ثم ذكر أنه بقي عليه شيء منها فليرجع إن كان بقرب ذلك فيكبر تكبيرة يحرم بها ثم يصلي ما بقي عليه وإن تباعد ذلك أو خرج من المسجد ابتدأ صلاته):

ظاهر كلام الشيخ أنه لا يرجع بإحرام إن كان قريبا جدا لقوله ثم وهو كذلك لنقل الباجي عن ابن القاسم عن مالك أن كل من جاز له أن يبني بالقرب فليرجع بإحرام.

وزعم ابن بشير الاتفاق فيه على عدم الإحرام وتبعه ابن الحاجب، وأما إذا كان القرب متوسطا ففي الإحرام قولان حكاهما غير واحد، فيتحصل في الإحرام ثلاثة أقوال: ثالثها إن قرب جدا فلا إحرام، وحيث يرجع بإحرام وذكر قائما فهل يكبر ثم يجلس ثم يقوم أو يجلس إذ ذاك يكبر ثم يقوم أو يكبر ويتمادى ولا يرجع في ذلك ثلاثة أقوال لابن القاسم وابن شبلون وابن نافع، وهل يرجع إلى مصلاه أو إلى حيث شاء في ذلك قولان حكاهما الباجي.

قلت: وهذا لا أعرفه وظاهر المذهب يقتضي أنه يصلي بمكانه فورا فإن لم يفعل وصلى بمكان آخر وكان بعيدا بطلت صلاته والله أعلم؛ فإن ترك الإحرام ورجع بنية فقط فقيل إن صلاته باطلة قاله أبو محمد وابن شبلون وابن أخي هشام، وقال الأصيلي إنها تجزئه، قلت: وهو الأقرب عندي مراعاة للخلاف ويظهر أنه يرفع يديه على القول الأول، وذلك محتمل على القول الثاني والله أعلم.

(1/186)

وما ذكر أنه لا يبني إن بعد هو المشهور، وقال أشهب يبني كما إذا قرب وهي رواية في المبسوط، وظاهر كلام الشيخ أنه إذا خرج من المسجد أنه لا يبني ولو صلى بقرب بابه، وهو ظاهر المدونة لأن عبارتها كما صرح بها إليه وبه كان بعض من لقيناه يفتي من القرويين، ويحمل المذهب عليه وأفتى بعض من لقيناه أيضا بالصحة واعتذر عن قول ابن القاسم وغير بأن الخروج من المسجد مظنة للطول وهو بعيد والله أعلم.

والأقرب هو الأول لأن العطف يقتضيه والله أعلم، ومن حيث المعنى أن المسجد لما كان محلا للصلاة فخروجه منه يتنزل منزلة البعد، إذا بقي فيه والله أعلم.

(وكذلك من نسي السلام):

ما ذكر من أن السلام كسائر الفروض فإن أتى به صحت إن كان قريبا وإن تباعد بطلت هو كذلك، وهل الحدث يقوم مقامه أم لا؟ المعروف من المذهب أنه لا يقوم مقامه، وحكى الباجي عن ابن القاسم أن من أحدث في آخر صلاته أجزأته صلاته، وتقدم رد ابن زرقون على ذلك واختلف إذا سلم على شك ثم ظهر الكمال فقيل إنها باطلة، واختاره ابن رشد وبه الفتوى عندنا وبإفريقية وفي النوادر أنها مجزئة قياسا على من تزوج امرأة لها زوج غائب لا يدري أحي هو أو ميت ثم يتبين أنه قد مات لمثل ما تنقضي فيه عدتها قبل نكاحه إياها أن النكاح ماض.

(ومن لم يدر ما صلى أثلاث ركعات أم أربعا بنى على اليقين وصلى ما شك فيه وأتى برابعة وسجد بعد سلامه):

ما ذكر الشيخ أنه يسجد بعد السلام هوالمشهور، ونقل الباجي والمازري عن ابن لبابة أنه يسجد قبل السلام قلت: وبه أقول لنص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حسبما هو في مسلم ولم يزل الأشياخ حديثا وقديما يستشكلون قول الشيخ، وأتى برابعة إذ قوله وصلى ما شك فيه يغني عنه وأجاب عنه بعض من لقيناه بوجهين.

أحدهما أنه من باب عطف التفسير وهو جائز قال الله تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) [التوبة: 61].

الثاني: أن قوله وصلى ما شك أراد به العموم في كل مشكوك فيه، وإن قوله وأتى برابعة يرجع إلى المسألة المفروضة.

(ومن تكلم ساهيا سجد بعد السلام):

يعني ما لم يكثر فتبطل صلاته قاله غير واحد وظاهر كلامه لو تكلم عامدا أو

(1/187)

جاهلا بطلت صلاته وهو كذلك في العامد باتفاق وفي الجاهل على المشهور، ولو تكلم عمدا لوجوب ذلك عليه كإنقاذ أعمى وشبهه فهو كغيره صلاته باطلة مطلقا.

وقال اللخمي: إن ضاق الوقت اغتفر كالمقاتلة ولم يرتضه المازري مفرقا بأن المقاتلة في الصلاة أول الوقت مغتفرة بخلاف واجب الكلام في الصلاة في أول الوقت واختلف في المتكلم لإصلاح الصلاة ففي المدونة لا يضر، وقال أكثر أصحاب مالك ومنهم ابن كنانة أنها تبطل.

وقال سحنون إن كان بعد السلام من اثنتين فلا تبطل، وهذا كله إذا تكلم بغير الذكر، وأما إذا تكلم بذكر فإن كان اتفق على ذلك في قراءته كاتفاق: (ادخلوها بسلام ءامنين) [الحجر: 46]

فلا يضر اتفاقا وإن لم يتفق له ذلك بل قرأها لمجرد التفهم ففي البطلان قولان.

(ومن لم يدر أسلم أم لم يسلم سلم ولا سجود عليه):

يريد إذا كان قريبا لا متوسطا في القرب وأما إن كان متوسطا في القرب فإنه يسجد، وإن تباعد ابتدأ صلاته قال بعض الشيوخ وإنما كان لا سجود عليه لأنه إن كان سلم فهذا السلام الثاني وقع خارج الصلاة فلا أثر له وإن كان لم يسلم فقد سلم الآن.

(ومن استنكحه الشك في السهو فليله عنه ولا إصلاح عليه ولكن عليه أن يسجد بعد السلام وهو الذي يكثير ذلك منه يشك كثيرا أن يكون سها زاد أو نقص ولا يوقن فليسجد بعد السلام فقط):

إنما لم يؤمر بالإصلاح للمشقة وما ذكر أنه يسجد بعد السلام هو قول ابن القاسم وغيره، وقيل إنه يسجد قبل رواه أبو مصعب وغيره، وقيل لا يسجد لا قبل ولا بعد قاله ابن نافع، وأشار الشيخ بقوله فليله عنه إلى أن الوسواس ليس له دواء إلا الترك وهو كذلك مجرب.

وقد حكى القاضي أبو الفضل عياض في مداركه لما عرف بعبد الله بن المبارك رضي الله عنه أن توضأ يوما فوسوسه الشيطان بأنه لم يمسح رأسه فقال له إنك عدوي فلا أقبل قولك فإن كنت صادقا فأقم على البينة غيرك، فقد أشار ابن المبارك رضي الله عنه إلى هذا الذي قلناه قال الفاكهاني: وقول المصنف فليله عنه رويناه بفتح الهاء ليس إلا وهو القياس في العربية لأن ماضيه لهي يلهى مثل علم يعلم فلما دخل الجازم حذف الألف فبقيت الهاء مفتوحة على حالها، وإنما ذكرت هذا مع ظهوره لأني رأيت من

(1/188)

يقرأه بالضم وهو خطأ.

قلت: وفي كلام الشيخ تكرار وهو قوله آخر فليسجد بعد السلام فقط إذ قوله قبل ولكن عليه أن يسجد بعد السلام يغني عنه وفي كلامه تقديم التصديق على التصور، وقد علمت أنه مجتنب وأكثر ما يجيب عنه بعض شيوخنا بأن حكم المسألة يشعر بصورتها فكأنها مصورة وهو ضعيف لأن الشعور لا يحصل في كثير من المسائل المعترضة بهذا.

(وإذا أيقن بالسهو وسجد بعد إصلاح صلاته):

أخبر في كلامه على أن المستنكح له حالتان حالة يشك وهي الحالة السابقة وحالة يوقن وهي هذه، من هنا تعلم أن قول أهل المذهب الشك في النقصان كتحققه مخصوص بهذه المسألة.

(فإن كثر ذلك منه فهو يعتريه كثير أصلح صلاته ولم يسجد لسهوه):

ما ذكر الشيخ من عدم السجود هي رواية محمد وقال فضل يسجد.

(ومن قام من اثنتين رجع ما لم يفارق الأرض بيديه وركبتيه فإذا فارقها تمادى ولم يرجع وسجد قبل السلام):

(1/189)

اعلم أن له ثلاث حالات تارة يذكر قبل مفارقته الأرض بيديه وركبتيه فهذا لا سجود علهي على المشهور، والقولان حكاهما ابن بشير، وتارة يفارق الأرض بذلك ولم يستقل قائما ففي ذلك ثلاثة أقوال: فقيل يتمادى كما قال الشيخ هو مشهور المذهب.

وقال عبد الملك يرجع وقال القاضيان ابن القصار وعبد الوهاب إن كان إلى القيام أقرب تمادى وإلا رجع، وتارة يستقل قائما فيتمادى ولا يرجع من غير خلاف قال ابن بشير قلت: ويتخرج من قول أبي مصعب أن الجلوس فرض أنه يرجع كسائر الفروض، وكان بعض من لقيناه لا يرتضي مني هذا الترجيح لاحتمال أن يراعى الخلاف ويقوم من كلام الشيخ أن من ذكر المضمضة والاستنشاق بعد غسل الوجه أنه يتمادى على وضوئه ويفعلهما بعد فراغه.

وبه كان يفتي غير واحد من شيوخنا من القرويين كالشيخ الصالح أبي محمد عبد الله الشبيبي رحمه الله تعالى، وأفتى بعضهم بالرجوع لنص مالك في الموطأ بذلك، والأول هو الأقرب الجاري على نظائر هذه المسألة كمن نسي السورة أو تكبيرة العيدين أو الجهر أو الإسرار حتى ركع، وبالجملة كل من نسي سنة فلم يذكرها حتى شرع في الفرض، ونص مالك في الموطأ بالرجوع لا يدل على أنه المذهب إذ ليس كل ما في الموطأ هو المشهور، ورد بعض أصحابنا الثاني بأن السنة في الصلاة ينوب عنها السجود شرعا وتأخير السنة في الوضوء تنكيس من غير ضرورة، فإن رجع عامدا بعد الاستقلال فقال ابن القاسم تصح وقال غيره تبطل وأفتى بعض من لقيناه من القرويين بالأول وبعض التونسيين بالثاني، قلت: والأقرب هو الأول مراعاة لمن يقول خارج المذهب بالرجوع وعلى الصحة ففي محل سجوده قولان قاله ابن بشير في كتاب الأيمان والنذور: من وجب عليه سجود سهو قبل السلام فأعرض عنه وأعاد الصلاة ثانيا لم يجزه والسجود باق في ذمته لأنه أتى بما لم يؤمر به.

(1/191)

(ومن ذكر صلاة صلاها متى ما ذكرها على نحو ما فاتته ثم أعاد ما كان في وقته مما صلى بعدها):

اعلم أن تارك الصلاة لا يخلو إما أن يتركها سهوا أو عمدا، فإن تركها سهوا فالقضاء بلا خلاف وإن تركها عمدا فكذلك على معروف المذهب، وقال عياض سمعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولة شاذة بسقوط القضاء ولا يصح عنه ولا من غيره من الأئمة سوى داود وأبي عبدالرحمن الشافعي، وخرجه صاحب الطراز على قول ابن حبيب بتكفيره؛ لأنه مرتد تاب.

قلت: وكان بعض من لقيته يخرج من عدم الكفارة في يمين الغموس أن ذلك أعظم من أن يكفر وكذلك الصلاة وإن كان هذا مصادرة للقياس الحلي في كلام الشارع وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فإن الله تعالى يقول (وأقم الصلاة لذكري) [طه: 14]

فإذا كان يقضي فيما ذكر فأحرى مع العمد وظاهر كلام الشيخ أن قضاء الفوائت على الفور ولا يجوز تأخيرها ويريد لا لعذر، وهو كذلك في نقل أكثر المذهب وهو ظاهر الحديث السابق.

وقال ابن رشد في البيان ليس وقت ذكر المنسية بمضيق لا يجوز تأخيرها عنه بحال كغروب الشمس للعصر وطلوعها للصبح لقولهم إذا ذكرها مأموم تمادى، وكذلك الفذ عن ابن حبيب ومثل هذا قال في آخر أجوبته إنما يؤمر بتعجيلها خوف معالجة الموت فيجوز تأخيرها حيث يغلب على ظنه أداؤها، ونقل التادلي أن من قضى يومين في يوم لم يكن مفرطأ وهو أقل القضاء وما ذكره لا أعرفه لغيره، وأفتى ابن رشد بأن من عليه فوائت لا يتنفل سوى الوتر والفجر، ونحوهما قائلا فإن فعل أثيب وأتم لترك القضاء.

وقال ابن العربي يجوز له أن يتنفل ولا يحرم من الفضيلة ورجح التادلي قول ابن رشد لقولهم لا يجوز عتق من أحاط الدين بماله قلت ويرد باتفاق أهل العلم فيما قد علمت على أن دين الآدميين واجب قضاؤه فورا ولا كذلك في الصلاة المنسية على ما تقدم، ومعنى قول الشيخ على نحو ما فاتته إن سفرا فركعتين وإن حضر فأربعا وإن تركها وهو صحيح ثم مرض فإنه يصليها على قدر طاقته، وإن تركها وهو مريض ثم

(1/192)

صح قضاها على أتم وجوهها ولا معارضة لما سبق لأن صلاة السفر قد قيل إنها أصل، ولا كذلك صلاة المريض إذا صح وإنما أمر بقضائها إذا مرض على قدر طاقته لأن القضاء على الفور فصارت كالحاضرة لاسيما إذا قلنا إن القضاء بأمر جديد، والمراد بالوقت الذي ذكر الشيخ قيل القامة في الظهر والقامتان في العصر، وقيل الاصفرار وقيل الغروب وفي الليل الثلث وقيل نصف الليل وقيل طلوع الفجر حكى هذا الخلاف المتيوي.

(وإن كانت يسيرة أقل من صلاة يوم وليلة بدأ بهن وإن فات ما هو في وقته وإن كثرت بدأ بما يخاف فوات وقته):

ما ذكر من أن اليسير أربع صلوات هو أحد الأقوال الثلاثة، وقيل إن الأربع هو حيز الكثير وهما تأويلان على المدونة ونصها وإن كانت صلوات كثيرة مثل الثلاثة وما قرب في وقت صلاة بدأ بهن فهل قوله وما قرب كالاثنين أو كالأربع فيه خلاف والأكثر على الثاني، وقيل إن الخمس في حيز اليسير حكاه ابن بشير وما ذكره من أن ذلك مقدم على الحاضرة مع خوف خروج وقتها هو المشهور، وقال ابن وهب بتقديم الحاضرة وقال أشهب هو الخيار.

(إن كثرت بدأ بما يخاف فوات وقته):

اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: فقيل يقدمها على الوقتية إن قدر على الإتيان بها في وقتها وإلا قدم الوقتية، قاله ابن القاسم وابن حبيب وقيل يصلي ما قدر عليه فإن ضاق فالوقتية، قاله ابن عبد الحكم وهو عندي ظاهر كلام الشيخ والله أعلم.

وقيل يقدمه وإن خرج وقت الحاضرة إن كان يستوفي ما عليه، قاله ابن مسلمة وكلها حكاها اللخمي، والوقت في ذلك المختار قاله ابن حبيب وقيل الاصفرار نقله يحيى بن عمر عن ابن القاسم.

وقيل الغروب نقله سحنون عن ابن القاسم أيضًا وما ذكرناه من العزو هو لابن رشد، وعن اللخمي الغروب لمالك مع ابن القاسم وعزا القول بالاصفرار لمالك أيضا وعزا قول ابن حبيب له ولأشهب.

(ومن ذكر صلاة في صلاة فسدت هذه عليه):

لا لخصوصية لقوله ذكر صلاة بل وكذلك حكم الأربع وبالجملة كل ما يقدم

(1/193)

على الحاضرة ولو خاف خروج الوقت فحكمه كالواحدة، وقد علمت الخلاف في قدر ذلك، وظاهر كلام الشيخ أن القطع واجب وهو أحد القولين، وقيل إنه مستحب حكاه غير واحد واستشكله ابن عبد السلام بأن الترتيب عنده لا يخلو إما أن يكون واجبا أو مستحبا فإن كان واجبا لزم القطع وإن كان مستحبا وجب التمادي، وفي المدونة إن ذكرها قبل عقد ركعة قطع وبعدها شفعها فإن عقد الثالثة أتمها.

وقال ابن القاسم بقطع بعد ثلاث أحب إلي وفي بعض الروايات أحب إليه يعني إلى مالك، ثم قال وإن ذكر مكتوبة في نافلة فليقطع إن لم يكن ركع وإن ركع واحدة شفعها، وقد كان مالك يقول يقطع واستحب ابن القاسم أن يشفع، وإنما قال في هذا القول يقطع ليظهر أثر الذكر إذا قطعها، وهو ضعيف لتماديه على الفريضة إذا عقد الثالثة وروى ابن رشد لا فرق بينهما. وفي المسألة أقوال كثيرة ولولا الإطلالة لذكرناها.

وفي كلام الشيخ مناقشة وهي أن ظاهر كلامه أنه لا يتم الفريضة وإن عقد الثلاثة بل يقطعها وجوبا وهو خلاف قول مالك وابن القاسم، لأن ملكا إنما قال أحب إلي فظاهره الاستحباب وظاهر كلام الشيخ أن المأموم يقطع كغيره، وهو قول في المذهب والمشهور ما في المدونة يتمادى، وعليه ففي وجوب الإعادة خلاف، واختلف في الإمام إذا ذكر منسية فقيل يقطع مطلقا وقيل يستخلف وقيل إن لم يركع قطع وإلا استخلف وقيل إن لم يركع قطع وإلا تمادى وأعاد وحده، ونقل المازري عن ابن كنانة إن لم يركع استخلف وإلا أثم وأعاد قائلا نقل عنه ابن حبيب وغيره الاستخلاف مطلقا وإنما في كتابه ما فصلناه.

(ومن ضحك في الصلاة أعادها ولم يعد الوضوء):

ظاهر كلام الشيخ وإن كان ضحكه سهوا وهو كذلك خلافا لأشهب وسحنون وأصبغ وابن المواز أنه لا يضره قياسا على الكلام، وكل من لقيته لا يرتضي هذا القول للزوم الضحك عدم الوقار مطلقا، وظاهر كلامه وإن كان ضحكه سرورا لما أعد الله للمؤمنين كما إذا قرأ آية فيها صفة أهل الجنة فضحك سرورا وبه أفتى غير واحد ممن لقيته من القرويين والتونسيين.

وقال صاحب الحلل لا أثر له كالبكاء من عقاب الله عز وجل قال التادلي: لم أره لغيره، قلت وهو الصواب عندي لأنه لم يقصد اللعب والهزل بل هو مأجور في ذلك كالبكاء من عقاب الله كما قال.

(1/194)

(وإن كان مع إمام تمادى وأعاد):

ما ذكر هو نص المدونة قال المازري: وظاهر الواضحة القطع قال عبد الوهاب والتمادي هو الواجب والإعادة مستحبة، وقيل بالعكس حكاه التادلي قلت ولا أعرفه ولعله التبس عليه بمن ذكر فائتة وهو مأموم فإن فيه القولين.

(ولا شيء عليه في التبسم)

اختلف في التبسم في الصلاة على ثلاثة أقوال: فقيل لا سجود عليه قاله في سماع عيسى وهو الذي أراد الشيخ وإن كان في كلامهما مسامحة لقولهما عليه فالمراد ولا له، ومثل عبارتهما عبارة التهذيب ونصها: ولا شيء عليه إن تبسم، وسمع أشهب يسجد قبل السلام حكاه ابن رشد وغيره، وقال ابن عبد الحكم: يسجد بعده حكاه ابن يونس وهو قول مالك في مختصر ما ليس في المختصر واختاره سحنون، ونقله التادلي عن رو اية ابن عبد الحكم لا عن قوله، قلت ولا أعرفه من روايته ولعله اغتر بظاهر لفظ ابن الحاجب، وروى ابن القاسم لا يسجد وأشهب قبله وابن عبدالحكم بعده والله أعلم، ثم وقفت على أنه روى ما تقدم عن مالك فنقله خليل عن ابن رشد وغيره على أن ابن رشد لم يذكر أنه روى ما تقدم ونصه وما قاله ابن عبدالحكم قاله مالك في مختصر ما ليس في المختصر، وعلل سماع أشهب بأنه نقص الخشوع قال صاحب الطراز وهو ضعيف؛ لأن الغافل في صلاته لا سجود عليه، وقد نقص الخشوع وأجيب بأن الغفلة ليست مقصودة بل هي غالبة على الناس لا يمكنهم الانفكاك عنها بخلاف التبسم.

(والنفخ في الصلاة كالكلام والعامد لذلك مفسد لصلاته):

لا يقال إن في كلامه الحشو لأن قوله كالكلام يغني عن قوله والعامد لذلك مفسد لصلاته لأنه لم يبين قبل هذا حكم العامد للكلام، نعم هو مفهوم قوله قبل كما قلنا فرأى المؤلف أن بيانه بالنص أولى، وفي إلحاق الجاهل بالعامد أو بالناسي خلاف وما ذكره هو المشهور، وروى علي أنه ليس كالكلام فلا أثر له قلت: وكان بعض أشياخ أشياخي يرد القولين إلى قول واحد وهو أنه ينظر هل تركبت منه حروف أم لا؟ فإن تركبت فالبطلان، فتحمل رواية علي على ما إذا لم تتركب. والتنحنح إن كان لضرورة فلا أثر له اتفاقا وإن كان لغير ضرورة ففي إلحاقه بالكلام روايتان. ونقل

(1/195)

عياض الخلاف في تنحنح المضطر واستغر به بعض شيوخنا.

(ومن أخطأ القبلة أعاد في الوقت):

يعني إذا اجتهد فأخطأ فإنه يعيد في الوقت وما ذكره هو مذهب المدونة وقال ابن سحنون يعيد أبدا، وقيل إن استدبر القبلة يعيد أبدا قاله ابن مسلمة والوقت في ذلك إلى الاصفرارن قال ابن عتاب ويتخرج قول إلى الغروب من المصلي بثوب نجس، وحكاه ابن شاس نصا ويريد الشيخ ما لم تكن قبلة عيان فإن يعيد أبدا ومن صلى بغير اجتهاد لم يجزه، وإن أصاب القبلة قاله ابن رشد، قلت: ولا يتخرج قول بالصحة من نقل أبي محمد في نوادره أن من سلم على شك هل أكمل أم لا ثم تبين له أنه أكمل فإنه يجزئه لأن المصلي بغير اجتهاد أحرم على غير يقين، وكذلك إن سلم والمسلم من الصلاة أحرم عن يقين فصادف أن سلم على ما أحرم عليه، وانظر هل يتخرج من الرجل إذا تزوج امرأة لها زوج غائب لا يدري أحي أم ميت، ثم تبين أنه قد مات لمثل ما تنقضي فيه عدتها قبل إنكاحه إياها أن النكاح ماض أم لا.

وأما من صلى إلى غير القبلة ناسيا فإنه يعيد أبدا وقيل في الوقت وكذلك في الجاهل، وزعم ابن الحاجب أن المشهور يعيد أبدا في الصورتين فقال ويعيد الناسي والجاهل أبدا على المشهور فيهما قال في المدونة، ومن علم أنه استدبر القبلة أو شرق أو غرب ابتدأ الصلاة بإقامة، وخرج صاحب الطراز قو لا بانحرافه ويبني على القول بطرح نجاسة ذكرها بها وظاهر المدونة أعم من أن يذكر وهو متلبس بالصلاة لغير جهة القبلة بعد أن انحراف إليها، فإذا علمت هذا فاعلم أنه أقام منها بعض شيوخنا إن من رفع رأس من السجود فنظر فإذا بموضع جبهته نجاسة فإنه يقطع، وخالفه بعض أصحابنا قائلا يتنحى عنها ويتمها ولا إعادة.

وأفتى الشيخ أبو محمد بن الرماح من القرويين المتأخرين فيمن رأى بعمامته بعد سقوطها عنه نجاسة أنه يتمها ويعيد، ويظهر لي أن الإقامة ضعيفة وكذلك تخريج صاحب الطراز لأن القبلة أشد، وبيانه أن من صلى بالنجاسة ساهيا يعيد في الوقت على المشهور، ومن صلى لغير القبلة ناسيا بعيد أبدا على المشهور كما قدمنا لابن الحاجب والله تعالى أعلم.

(وكذلك من صلى بثوب نجس أو على مكان نجس)

(1/196)

عطفه يقتضي أنه إذا اعتقد أنه طاهر فبانت له النجاسة بعد صلاته بها أنه يعيد في الوقت، وإن تعمد بها الصلاة فإنه يعيد أبدا ومثل هذا في المدونة فكلام الشيخ كما ترى يقتضي أن غسل النجاسة واجب مع الذكر يريد والقدرة ساقطا مع غير ذلك.

فإذا عرفت هذا فاعلم أنه يناقضه قوله وطهارة البقعة للصلاة واجبة، وكذلك طهارة الثوب إلى آخره حسبما فهمه غير واحد، والأقرب أن ما هنا يفيد ذلك المطلق والله أعلم، ولا يقال إن في كلام الشيخ قصورا لأنه بقي عليه إذا كانت النجاسة في جسده، لأن كلامه يدل على ذلك دلالة أحروية لأنه إذا كان يعيد فيما إذا كانت النجاسة في المنفصل، وهو البقعة أو كالمنفصل وهو الثوب فأحرى إذا كانت النجاسة في ذاته.

ونص عياض على أن سقوط طرف ثوبه على جاف النجاسة لغو، وقال في المدونة: ومن صلى وفي ثوبه نجاسة أو عليه أو لغير القبلة أو على موضع نجس قد أصابه بول فجف إن كانت النجاسة في موضع جبهته أو أنفه أو غيره أعاد في الوقت فظاهرها يشهد لما قال عياض، لأنه إنما اعتبر أعضاء المصلي لقولها إن كانت النجاسة إلخ والله أعلم.

وكان بعض من لقيته يفتي بالبطلان في صورة عياض ويستروح لقول المدونة وكنت أجيبه بما قلناه، ونقل أبو محمد عن ابن حبيب أن من صلى متعمدا وبين يديه نجاسة فإنه يعيد صلاته إلا أن يبعد جدا أو يواريها عنه، قلت كأنه رأى أن النجاسة إذا كانت قريبة منه أن الغالب وصولها إلى ذلك المكان فنزل الغالب منزلة المحقق، وقد علم أن هذا أصل ابن حبيب وكذلك يجب حمل قوله أن النجاسة بين يديه وصف طردي وإنما أراد أنها قريبة منه والله أعلم.

(وكذلك من توضأ بماء نجس مختلف في نجاسته):

ما ذكره مثله في التهذيب قال فيه في الماء الذي بلغ فيه الدجاج والأوز المخلاة أنه يتيمم ويتركه فإنه توضأ به وصلى ولم يعلم أعاد في الوقت، واعترض عليه بأن الأمهات ليس فيها ولم يعلم وأجيب عنه بأن البراذعي، نقل ذلك من كتاب الصلاة ولا يضره ذلك ورأى الشيخ عبد الحق أن ابن القاسم في كلامه التناقض، وقيل إنما قال في الوقت لرعي الخلاف، وقد قدمنا الخلاف في المذهب في طهارة الماء اليسير إذا حلته نجاسة يسيرة ولم تغيره بالطهارة والكراهة والنجاسة والشك فيه هل هو طاهر أو نجس

(1/197)

فيجمع بينه وبني التيمم وإلى هذا الخلاف أشار الشيخ.

(وأما من توضأ بماء قد تغير لونه أو طعمه أو ريحه أعاد صلاته ووضوءه أبدًا):

أما الإعادة أبدًا في الطعم واللون فهو نقل الأكثر، ونقل ابن زرقون عن ابن القاسم أن من توضأ بماء تغير بموت دابة بر ذات نفس سائلة وصلى فإنه يعيد في الوقت، قيل فظاهره ولو تغير بها وظاهر كلام الشيخ أن تغيير الريح للماء ولا يبطل الصلاة وهو يقرب من قول ابن الماجشون لا أثر له، والمشهورأنه مغتفر كغيره. وقيل إن كانت الرائحة شديدة أعاد أبدًا أخذه ابن رشد من قول سحنون: من توضأ بماء تغير بما حل فيه تغيرا شديدا أعاد أبدًا.

قلت: وهذا الكلام كما ترى يتناول الطعم واللون إذ ليس في قول سحنون ما يدل على خصوصية الريح والله أعلم.

(وأرخص في الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر)

ما ذكر الشيخ من أن الجمع رخصة هو خلاف رواية ابن عبد الحكم الجمع ليلة المطر سنة، وهو خلاف ما في المدونة عن ابن القاسم الجمع ليلة المطر سنة ماضية والأصل الحقيقة وإتيان سحنون به دون أن لا يأتي بما يخالفه دليل على ارتضائه حسبما قدمنا ذلك في القنوت، ووقع لابن القاسم أن الجمع غير مشروع وأن من جمع أعاد العشاء أبدًا حكاه الباجي وإليه نحا القرافي في استشكاله الجمع، فإن رعاية الأوقات واجبة وفائدة الجمع تحصيل فضيلة الجماعة وهي مندوب إليها فكيف يترك الواجب لأجل تحصيل المندوب؟

قلت: ويجاب عن الاستشكال المذكور بأن الجمع لها سنة كما قدمنا والأصل الحقيقة، فاستشكال السنة لا يجوز لأنه مصادمة لكلام الشارع فهو فاسد بالوضع وإما رخصة وقد علمت أن الرخصة هي عبارة عما شرع في الأحكام لعذر مع قيام المانع لولا العذر والعزيمة بخلافه والله أعلم، وللقرافي جواب عن ذلك لم أذكره لطوله وضعفه.

وتولى خليل بيان ضعفه وهل هذه الرخصة على القول بها راجحة أو مرجوحة قولا اللخمي وابن رشد، وظاهر كلام الشيخ أن الجمع سائغ في كل مسجد وهو

(1/198)

المشهور، وقيل بمسجده صلى الله عليه وسلم فقط رواه زياد عن عبدالرحمن الأندلسي وقيل بمسجده عليه السلام ومسجد مكة أخذه المازري من قول مالك: من فاته الجمع بأحد الحرمين صلى العشاء بهما قبل مغيب الشفق لفضلهما.

وقيل لا يجمع بالمدينة إلا بمسجده صلى الله عليه وسلم رواه أشهب وغيره، وقيل يجوز بالبلاد الباردة الممطرة كالأندلس حكاه ابن العرب عن مالك، وظاهر كلام الشيخ أن الجمع غير مشروع في الظهر والعصر وهو المنصوص، وأخذ الباجي الجمع في الموطأ قال فيه: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر قال مالك أرى ذلك في المطر وضعف بأنه لا يلزم من نفس الحديث الأخذ به، ولم يرتضه ابن عبد السلام ولا خليل قال لأن الأصل عدم التعارض لا سيما والتفسير هنا مخالف لظاهر اللفظ، فعدول المفسر إليه دليل على أنه المعمول به عنده لكن استشكل تفسير الإمام لأن في مسلم من غير خوف ولا سفر ولا مطر وحمله بعضهم على الجمع الصوري، وبعضهم على أنه لمرض ولعل هذه الزيادة لم تصح عند الإمام أو لم تبلغه.

(وكذلك في طين وظلمة يؤذن للمغرب أول الوقت خارج المسجد)

ظاهر كلامه أن الطين بانفراده لا أثر له وإن كان فيه وحل وهو كذلك، وقيل إن كان فيه وحل فالجمع جائز وهو سماع ابن القاسم، وإن لم يكن فيه وحل فإنه لا يجمع، وهذه طريقة ابن رشد وعكس اللخمي النقل فنقل إن لم يكن فيه وحل قولين عن مالك فيتحصل من الطريقتين ثلاثة أقوال: ثالثها إن كان فيه وحل جاز وإلا فلا.

(ثم يؤخر قليلا في قول مالك ثم يقيم في داخل المسجد ويصليها ثم يؤذن للعشاء في داخل المسجد ويقيم ثم يصليها):

ما ذكر الشيخ نحوه في المدونة في قولها يؤخر المغرب شيئا قليلا واستشكل الشيخ القول المشهور الذي ذكره بقوله في قوله مالك، كقول ابن الحاجب والمذهب فكأنه ارتضى قول ابن عبد الحكم وابن وهب أن التقديم دون التأخير هو أولى، وروى ابن عبد الحكم يؤخر المغرب ثم يصلي ويطيلون في أذان العشاء لمغيب الشفق وقاله أشهب وضعفه المازري بأنه يخيل معنى الجمع لأنهم ينصرفون في الظلمة.

(1/199)

قلت: وتردد شيوخ شيوخنا هل تأخير المغرب على المشهور أمر واجب لابد منه أم ذلك على طريق الندب؟ فمنهم من ذهب إلى الأول ومنهم من ذهب إلى الثاني، وما ذكر أنه يؤذن للصلاتين هو أحد الأقوال الثلاثة، وقيل لا يؤذن لهما وقيل للأولى فقط. وما ذكر أنه يؤذن للعشاء داخل المسجد هو قول مالك من رواية علي، وقال ابن حبيب يؤذن لها في صحنه خافضا صوته.

(ثم ينصرفون وعليهم إسفار قبل مغيب الشفق الجمع بعرفة بين الظهر والعصر عند الزوال سنة واجبة بأذان وإقامة لكل صلاة وكذلك في جمع المغرب والعشاء بالمزدلفة إذا وصل إليها)

اختلف المذهب هل يوترون بعد صلاتهم العشاء قبل مغيب الشفق أم لا؟ فالأكثر على المنع من ذلك ونقل أبو محمد صالح أن في كتاب الجبر لابن سعدون عن ابن عبد الحكم جوازه.

قال أبو القاسم عبد الحق وأنا أفغل ذلك لأن الفرض قدم فأحرى النفلن قال التادليك كاشفت كتاب الجبر لابن سعدون فما وجدت للمسألة فيها ذكرا.

قلت: وما وقع الاستدلال به ضعيف لأن الفرض إنما قدم لفضيلة الجماعة فلا يلزم من تقديم العشاء لما ذكر إلحاق الوتر بها، وأفتى يحيى بن عمر بجواز تقدمه لقوم أميين لا يقرءون أن يصلي بهم إمامهم، وهذا ينبغي أن يحمل ذلك على الوفاق لا على الخلاف، وكان بعض أشياخي يحمله على الخلاف وهو بعيد لضرورتهم.

واختلف إذا لم ينصرفوا حتى جاء وقت العشاء فقيل أنهم يعيدون قاله ابن الجهم وعكسه لأشهب وابن نافع، وقيل إن بقي أكثرهم أعادوا وإلا فلا قاله أبو محمد، وقيل إن بقي الإمام أعادوا حكاه التادلي ولا أعرفه لغيره، وناقض ابن لبابة القول بعدم الإعادة بقول عيسى وغيره في المريض إذا خاف أن يغلب على عقله فجمع ثم سلم أنه يعيد، وفرق ابن رشد بينهما بأن المريض صلى فذا فيتلافى ما فاته من فضيلة الوقت وهؤلاء لما صلوها جماعة ناب فضل جماعتهم عن فضيلة الوقت كمسافر أتم فذا يعيد خلف مقيم لا يعيد.

قلت: ويظهر لي فرق ثان وهو أن المريض لما أخذ يصلي لم يكن يعلم قطعا أنه

(1/200)

يبقى كذلك فكأنه دخل على أنه إن انتقلت حالته يعيد بخلاف الذي أقام إنما طرأت له الإقامة بعد صلاته والله أعلم.

(وإذا جد السير بالمسافر فله أن يجمع بين الصلاتين في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وكذلك المغرب والعشاء):

ظاهر كلام الشيخ أنه لا يشترط مسافة القصر، وهو كذلك وذلك مشروطا في قصر الصلاة لثبوت ذلك في السنة ويبين ذلك أحد أمرين:

إما أن القصر يسقط بعض العبادة، وينقل من أربع ركعات إلى ركعتين وليس في الجمع سوى تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها المختار وذلك أضعف.

الثاني: أن القصر من الرخص المختصة بالسفرن والجمع ليس كذلك دليل الجمع في الحضر كالجمع في المطر (انظر البيان والتقريب)

وظاهر كلام الشيخ أيضا إن جد السير معتبر وشرط وهو كذلك، وقال أصبغ لا يشترط وقيل يشترط في حق الرجال دون النساء قاله بعض شيوخ عبد الحق، وظاهر كلامه أنه لا يشترط فوات أمر وهو كذلك عند ابن حبيب وفي التهذيب اشتراطه.

ونصه: لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير ويخاف فوات أمر، وقال أشهب يشترط فوات أمر مهم إذ كلامه أخص من كلام التهذيب فهو قول ثالث في المسألة والرابع لابن الماجشون، والفرق بين الرجال والنساء وظاهر كلامه أن الجمع جائز دون كراهة وهو كذلك.

وروي عن مالك الكراهة مطلقا وروي عنه الكراهة للرجال دون النساء وهذه الأقوال الثلاثة حكاها عياض في الإكمال، قال التادلي: وفي غير الإكمال جوازه في البر دون البحر. قلت: نقله عبد الحق عن بعض شيوخه ومن جمع بشرطه ثم أقام فلا إعادة عليه قاله ابن كنانة نقله عنه أبو محمد رحمه الله. قلت: قال بعض شيوخنا مثل هذا ما نص عليه ابن القاسم فيمن صلى جالسا لعذر ثم زال عذره في الوقت فلا يعيد، ويخالفه من جمع لخوف فقد عقله ثم سلم فإنه يعيد.

(وإذا ارتحل في أول وقت الصلاة الأولى جمع حينئذ)

ويعيد إذا كان لا ينزل إلا بعد الغروب وإن كان نوى أن ينزل قبل الاصفرار فلا

(1/201)

يجمع، وإن كان نوى أن ينزل بينهما، فقال ابن بشير: المشهور الجمع وقيل يؤخر الثانية، وقال اللخمي: يجوز تأخير الثانية، وهو أولى ولا يتعلق على المصلى حينئذ ذنب لأن ذلك للضرورة فإذا عرفت هذا فقول ابن الحاجب مخير يتعقب الخلاف السابق فليس ثم اتفاق حتى يقول قالوا ويعني بالخيار في تأخير الثانية، وفسره ابن عبد السلام بغير ذلك وتعقبه بعض شيوخنا ولولا الإطلالة لذكرناه فانظره، وفي المدون لم يذكر المغرب والعشاء في الجمع عند الرحيل كالظهر والعصر، وقال سحنون الحكم متساو فقيل تفسير وقيل خلاف.

(وللمريض أن يجمع إذا خاف أن يغلب على عقله عند الزوال عند الغروب):

ما ذكر أنه يجمع هو المشهور وقال ابن نافع بمنعه وما ذكر أنه يجمع عند أول وقت الأولى هو المشهور، وقيل يصلي الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها وقيل النهاريتان أول الأولى والليتان أول الثانية قاله ابن شعبان واستغربه ابن زرقون لظهور عكسه لضيق وقت المغرب وسعة وقت الظهر.

(وإن كان الجمع أرفق به لبطن به ونحوه جمع وسط وقت الظهر عند غيبوبة الشفق):

قد قدمنا في المسألة ال أولى أن ابن نافع منع الجمع فيها، وكذلك هو قائل هنا نقله ابن رشد، فلذلك تعقب بعض شيوخنا قول ابن بشير: المريض يجمع مطلقا اتفاقا لقصوره، وحكى ابن الحاجب الخلاف في هذا دون الأولى فقال: والمريض إذا خشي الإغماء وإن لم يخش فقولان وعكس ابن عبد السلام، قال شيخنا ولا أعرفهما والخلاف في كيفية الجمع كما سبق.

(والمغمى عليه لا يقضي ما خرج وقته وفي إغمائه ويقضي ما أفاق في وقته مما يدرك منه ركعة فأكثر من الصلوات وكذلك الحائض تطهر):

لا خلاف أنه لا يقضي ما خرج وقته كما أنه لا خلاف أنه يصلي ما أدرك وقته والمراد بالركعة أن تكون يسجدتيها وهي إحدى المسائل التي يشترط فيها أن تكون بسجدتيها.

وثانيها الراعف لا يبني إلا على ركعة بسجدتيها.

وثالثها من امتنع من الصلاة فإنه يؤخر إلى آخر الوقت والمعتبر الركعة بسجدتيها.

(1/202)

ورابعها تحصيل فضل الجماعة لا يحصل إلا بإدراك ركعة مع الإمام بسجدتيها والأعذار: الحيض والنفاس والكفر والصبا والجنون والإغماء، وألحق بذلك النوم والنسيان بالنسبة إلى رفع الإثم فقط. والركعة معتبرة بالنسبة إلى الأداء باتفاق.

واختلف في السقوط على أربعة أقوال: فقيل كذلك، وهو المشهور، وقيل يعتبر أقل لحظة قاله ابن الحاجب، ونصه قلت واعتبار قدر الركعة للأداء وأما السقوط فبأقل لحظة وإن أتم المتعمد، وقيل لا تسقط عن متعمد التأخير إلا بقدر كل الصلاة نقله اللخمي عن بعض المتأخرين وألزمه عدم قصر المتعمد يسافر حينئذ، قيل لا تسقط عن متعمد التأخير إلا بقدر ركعة إن كان متعمد التأخير متوضئا.

حكاه المازري عن بعض شيوخه قلت: قول ابن الحاجب ضعيف ولو عكس لكان أولى من طريق الاحتياط والله أعلم.

(وكذلك الحائض تطهر فإذا بقي من النهار بعد طهرها بغير توان خمس ركعات صلت الظهر والعصر وإن كان بقي من الليل أربع ركعات صلت المغرب والعشاء، وإن كان من النهار أو من الليل أقل من ذلك صلت الصلاة الآخرة وإن حاضت لهذا التقدير لم تقض ما حاضت في وقته وإن حاضت لأربع ركعات من النهار فأقل إلى ركعة أو لثلاث ركعات من الليل إلى ركعة قضت الصلاة الأولى فقط):

المراد بالطهر الذي ذكر طهر الماء لا طهرها من الدم، واختلف المذهب في اعتبار الطهارة في حق جميع أصحاب الأعذار على أربعة أقوال: فقيل باعتباره قاله أصبغ وغيره وعكسه خرجه بعض شيوخ المازري على أن الطهارة شرط في الأداء لا في الوجوب، وقيل لا تعتبر إلا في الكافر لانتفاء عذره قاله ابن القاسم وقيل بزيادة المغمى عليه قاله ابن حبيب وضعف لكونه سوى بين الكافر والمغمى عليه.

وزعم أبو محمد أن الحائض تعتبر الطهارة في حقها باتفاق، وهو قصور لنقل الباجي عن ابن نافع: لا تعتبر الطهارة للحائض، واختلف المذهب إذا تبين أن الماء غير طاهر فتطهرت ثانيا فغربت الشمس هل تقضي أم لا، وكذلك الخلاف إذا أحدثت والمختار القضاء.

(واختلف في حيضتها لأربع ركعات من الليل فقيل مثل وقيل إنها حاضت في

(1/203)

وقته فلا تقضيهما):

اختلف المذهب هل التقدير في المشتركين بالأولى أو بالثانية، فقال ابن القاسم وأصبغ التقدير بالأولى وقال ابن عبد الحكم: وابن الماجشون، وابن مسلمة وسحنون التقدير بالثانية، فإذا قلنا بالتقدير بالأخيرة وقد حاضت لأربع ركعات تسقط العشاء الأخيرة فقط وقضت المغرب لترتبها في ذمتها، وإذا قلنا بالتقدير بالأولى فتبقى ركعة للعشاء الأخيرة فصارت حائضا في وقتها فيسقطان واطرد هذا المعنى بالنسبة إلى الإدراك.

قال أصبغ: هذه آخر مسألة سألت عنها ابن القاسم وأخبرته بقولي فيها وبقول ابن عبد الحكم فقال لي أصبت وأخطأ ابن عبد الحكم وسأل سحنون فعكس.

(ومن أيقن بالوضوء وشك في الحدث ابتدأ الوضوء):

ظاهر كلام الشيخ أن الوضوء واجب هو كذلك في مشهور المذهب، وقيل إنه مستحب، وقيل إنه ساقط، وقيل إن كان في صلاة فلا أثر له، وإن كان خارج الصلاة توضأ، وقيل إن كان في سبب ناجز لا يضر كمن شك في ريح ولم يدرك صوتا ولم يجد ريحا حكى هذه الأقوال الخمسة ابن بشير عن اللخمي، واعترضه بأن القول بالوجوب والاستحباب، كلاهما في المذهب وليس ثم غير ذلك، قال وقول من قال بسقوط الوضوء أراد به الاستحباب والقول بأنه لا يقطع إذا كان في الصلاة يرجع إلى المستحب أيضًا، لأن المستحب لا تقطع له الصلاة، واعترض بعض شيوخنا كلام بن بشير بوجهين أحدهما أنه بقي عليه أن يبين القول الخامس، الثاني أن اللخمي ليس في كلامه السقوط، وذلك أنه قال في ذلك خمسة أقوال.

روى ابن وهب أحب إلي أن يعيد وضوءه، وفيها يجب، وروى إلا أن يكون في صلاة فيتم، وروي يقطع ابن حبيب إن خيل له ريح فشك أو دخله الشك بالحس فلا وضوء عليه، وإن شك هل بال مثلا توضأ، وكان بعض من لقيته يقول إن ابن بشير تعسف عليه هذا كعادته في كثير من المسائل، ويذكر أن عياضا في الإكمال حكى ما حكاه اللخمي من الخمسة، وذكر جميعها عن مالك، ونقل ابن العربي مثل ما نقل اللخمي ورد القول بالقطع إلى القول بالوجوب، واختار ابن عبد السلام سقوط

(1/204)

الوضوء قائلا ولا يبعد الاستحباب آخذا باستصحاب الحال كعكسها قلت ويرد بالاحتياط.

(ومن ذكر من وضوئه شيئا مما هو فريضة منه فإن كان بالقرب أعاد ذلك وما يليه):

إطلاق الإعادة هنا مجاز لأن الفرض أنه لم يفعل، وإعادة ما بعد المتروك ومستحبة للترتيب، وما ذكر أنه إذا تطاول لا يعيد ما بعده وهو قول ابن القاسم خلافا لابن حبيب القائل بأنه يعيده وما بعده كما إذا قرب، واختاره ابن عبد السلام قائلا لما هو مذكور في المطولات.

(وإن تطاول ذلك أعاده فقط، وإن تعمد ذلك ابتدأ الوضوء إن طال ذلك):

مفهومة لو لم يطل فإنه لا يضر وهو كذلك، والكلام في هذه المسألة يرجع إلى الموالاة وقد تقدم ذلك.

(وإن كان قد صلى في جميع ذلك أعاد صلاته أبدًا ووضوءه):

إنما قال يعيد الصلاة لأن من ترك فرضا فإن صلاته باطلة إجماعا، واختلف المذهب إذا ترك لمعة يسيرة كالخيط الرقيق من العجين والمشهور أنه معتبر.

(وإن ذكر مثل المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين فإن كان قريبا فعل ذلك ولم يعد ما بعده وإن تطاول فعل ذلك لما يستقبل ولم يعد ما صلى قبل أن يفعل ذلك):

ما ذكر أنه لا يعيد ما بعده هو قول مالك في الموطأ لقوله من غسل وجهه قبل أن يتمضمض تمضمض ولم يعد غسله، ومذه ابن حبيب أن الترتيب فيما بين المفروض والمسنون سنة فعلية يعيد ما بعده وما ذكر أنه لا يعيد ما صلى هو كذلك، ولو كان عامدا في أحد الأقوال الأربعة، وقيل يعيد في الوقت ولو كان ناسيا قاله اللخمي للخروج من الخلاف، وقيل يعيد العامد في الوقت والناسي لا إعادة عليه، وقيل يعيد العامد أبدًا أخرجه ابن رشد على سنن الصلاة، وهو ضعيف لأن سنن الصلاة أقوى لكونها المقصد، والوضوء وسيلة إلا أن قول الشيخ، وإن ذكر إنما يتناول الناسي فيحتمل أن يكون مقصودا، ويحتمل أن يكون طرديا وظاهر كلام الشيخ أيضًا أنه لو ذكر رد اليدين في مسح الرأس أنه يفعل ذلك وهو ظاهر نقله في النوادر عن ابن حبيب: من ترك من مسنون وضوئه شيئا أعاده وهو خلاف قول ابن بشير: من ترك سنة إن فعل في محلها عوضا كغسل اليدين قل إدخالهما في الإناء وإعادة مسح الرأس من المقدم إلى المؤخر لا يعيده وإلا أعاد كالمضمضة.

(1/205)

(ومن صلى على موضع طاهر من حصير وبموضع آخر منه نجاسة فلا شيء عليه):

ظاهر كلامه وإن تحركت النجاسة وهو كذلك في قول وقيل ما لم تتحرك، أما إن تحركت فلا، والقولان حكاهما عبد الحق عن المتأخرين، وأما طرف العمامة إذا كانت فيها نجاسة فهي معتبرة مطلقا عند الأكثر وقيل إن تحركت بحركته وأما إن لم تتحرك فلا، حكاهما ابن الحاجب.

(والمريض إذا كان على فراش نجس فلا بأس أن يبسط عليه ثوبا طاهرا كثيفا ويصلي عليه):

ظاهر كلامه أن الصحيح لا يغتفر له ذلك وهو ظاهر المدونة قال فيها: لا بأس بصلاة المريض على فراش نجس إذا بسط عليه ثوبا طاهرا كثيفا وهو كذلك في أحد القولين وبه قال أصبغ نقله عنه يحيى بن اسحاق في مبسوطه، وقيل إن ذلك عام في المريض، والصحيح والقولان حكاهما ابن يونس عن شيوخه وصوب الثاني.

قلت: ويجري عليهما إذا فرش ثوبا على ثوب حرير ولا أعرف أحدا من أهل المذهب نص على هذا الفرع، وسمعت بعض من لقيته يذكر أن الغزالي أجراه على ما ذكرناه في كتابه البسيط، قال ابن العباس الأبياني وإذا كان أسفل نعله نجاسة فنزعه ووقف عليه جاز كظهر الحصير نقله في الذخيرة.

(وصلاة المريض إذا لم يقدر على القيام صلى جالسا إن قدر على التربع وإلا فبقدر طاقته وإن لم يقدر على السجود فليومئ بالركوع والسجود):

يريد لعجزه عن القيام ولو باستناد إلى حائط أو غيره فلو قدر أن يصلي قائما متوكئًا على عصا وجب ذلك عليه على ظاهر المذهب عندي، وسمع أشهب وابن نافع صلاته متكئا على عصا أحب إلى من جلوسه في الفرض، والنفل.

قال ابن رشد لأنه لما سقط عنه فرض القيام صار نفلا وفضيلة، كما هو في

(1/206)

النافلة قلت: والأقرب أن المراد حمل أحب على الوجوب في الفرض كقول المدونة وصلاته جالسا ممسوكا أحب إلي من اضطجاعه، قال ابن بشير: فإن اضطجع أعاد أبدًا، وقول ابن يونس إن اضطجع أعاد يريد أبدًا، كما تقدم والله أعلم وعجزه إن كان بحيث يخاف الموت فمتفق عليه، وإن كان إنما يخاف زيادة المرض وشهبه فيختلف فيه قياسا على التيمم.

وقد قدمنا أن المشهور التيمم ومن كان قدح الماء من عينيه فإن كن يصلي جالسا إيماء فإنه جائز، وأما إن كان يتنفل في ذلك إلى الاستلقاء ففي ذلك ثلاثة أقوال: فقال في المدونة يعيد أبدًا وقال أشهب جائز، وروى ابن حبيب مثله في اليوم وشبهه، واليومين وما طال كره قال ابن الحاجب: والصحيح قول أشهب، قلت: ولم يحك ابن بشير قول أشهب إلا بعد الوقوع وكلاهما أعني ابن الحاجب وابن بشير لم يحكيا رواية ابن حبيب، وحكاها اللخمي وغيره والفتوى عندما بإفريقية بقول أشهب، واستشكل قول المدونة وأجيب بتردد البرء بخلاف السفر في طلب الأرباح فإن الغالب وجودها.

وقال ابن بشير: قائل هذا لم يقف على حقيقة الأمر في القدح والغالب وجود المنفعة به قلت، وقال ابن الحاج إن كان القدح لصداع جاز وإن كان للرؤية فهي مسألة الخلاف.

(ويكون سجوده أخقض من ركوعه):

ما ذكر هو مذهب المدونة وأخذ منها أن المريض لا يلزمه أن يأتي بما في وسعه من الإيماء، وقيل يلزمه أن يأتي بجميع ما في وسعه، قال الشيخ ويومئ للسجود الأول من قيام، وللثاني من جلوس إن أمكنه ذلك، وأجرى أبو الحسن اللخمي والمازري الخلاف السابق في ما وسعه على الخلاف في الحركة هل هي مقصودة أم لا.

قال ابن بشير وفي هذا نظر لأن المطلوب في هذا أن يكون بدلا عما عجز عنه فلو عجز عن إكمال السجدة فيطلب إكمال الإيماء، وإكماله هو المعنى المفروض كنفس السجود فحاصل كلام ابن بشير أنه جعل هنا الحركة مقصودة ليس إلا، قال بعض من لاقيناه وأخذ أبو الحسن القابسي من قولهم هنا يومئ للسجود والركوع إن لم يجد ماء ولا ترابا أنه يومئ للأرض ويتيمم حكاه عنه أبو عمران الفاسي فلا غرابة فيه.

قلت: الذي في التعاليق إنما هو قول القابسي مجردا على الأخذ قال ولا وجه له، ولا يقاس ذلك على الصلاة لأنا نجد النافلة يجوز ترك القيام فيها، وصلاة المسافر إياها

(1/207)

على الدابة إيماء والطهارة للمكتوبة والنافلة سواء، وأطال في الرد عليه جدا فانظره، وقد علمت الأربعة الأقوال في ذلك وهي الصلاة بلا طهارة والقضاء قاله ابن القاسم وعكسه قال مالك، والصلاة ولا قضاء قاله أشهب وعكسه قال أصبغ فقول القابسي خامس.

(وإن لم يقدم صلى على جنبه الأيمن إيماء وإن لم يقدر إلا على ظهره فعل ذلك):

اختلف في كيفية صلاته على أربعة أقوال: فقيل الجنب الأيمن ثم الأيسر ثم الظهر قاله ابن المواز وغيره، وقيل الظهر مقدم على الأيسر قاله ابن القاسم، وقيل إن الظهر والجنب الأيسر سيان لا مزية لأحدهما على الآخر، وقيل إن الظهر مقدم على الجنب الأيمن نقله ابن محرز عن أشهب وابن مسلمة وابن القاسم وكل هذا الخلاف على طريق الاستحباب لأنها حالة واحدة وهي الاضطجاع.

(ولا يؤخر الصلاة إذا كان في عقله وليصلها بقدر ما يطيق إلى آخره):

اعلم أن المريض إذا عجز عن كل أمر سوى نيته، قال ابن بشير نصف في ذلك المذهب وأوجب عليه الشافعي القصد إلى الصلاة بقلبه لأن روح الصلاة القصد، ومقصودها حالة تحصل بالقلب، وأسقط عنه أبو حنيفة الصلاة لأن الصلاة أقوال وأفعال والنية قصد إلى التقرب بالأقوال والأفعال، فإذا عجز عن التقرب به فلا مقصود ههنا تميزه النية.

وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة والذي عولنا عليه في المذاكرات موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه المذهب، والمسألة في غاية الإشكال والاحتياط مذهب الشافعي، والرجوع إلى براءة الذمة هو مقتضى مذهب أبي حنيفة، ولا يبعد أن يختلف المذهب في المسألة.

قلت: قوله لا نص اعترضه ابن عبد السلام بقول الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، ولا يؤخر الصلاة إذا كان في عقله وبنص ابن الجلاب كذلك، وأجاب عنه باحتمال أن يريد نصا أصوليا لا نصا فقهيا واختار مذهب أبي حنيفة لأن النية إنما هي لتخصيص الفعل المتعبد به عن نظيره مما ليس بعبادة فوجوب النية كالتابع لوجوب الفعل، فإذا سقط المتبوع سقط تابعه كالنية في الصوم في حق العاجز عنه وغير ذلك في نظائره، قلت: قال بعض شيوخنا.

ويرد على ابن بشير أيضًا بما نص عليه ابن رشد قال: اختلف المذهب في

(1/208)

سقوطها عن الغريق العاجز عن الإيماء وغيره، فقيل: إنها تسقط رواه معن عن مالك، وقيل: تقضي لقول المدونة: ومن تحت الهدم ولا يستطيع الصلاة يقضي والجواب عن هذا ما سبق لابن عبد السلام.

(فإن لم يجد من يناوله ترابا تيمم بالحائط إلى جانبه إن كان طينا أو عليه طين):

ما ذكر من أنه يتيمم عليه لا أعرف فيه خلافا، وتردد بعض من لقيناه هل يتخرج قول ابن بكير القائل لا يصح على التراب المنقول أم لا؟ وقطع بعضهم بأنه لا يتخرج لأنه لا يصدق عليه اسم تراب وإنما هو طوب.

(فإن كان عليه جص أو جير فلا يتيمم به):

ما ذكر هو المنصوص، وقال ابن حبيب إن كان الجدار حجرا أو آجرا جاز إن لم يجد ماء ولا ترابا، وتعقبه التونسي وابن رشد بأنه مطبوخ وألزمه الباجي أن يقول بجوازه على الجير.

(والمسافر يأخذ الوقت في طين خضخاض لا يجد أين يصلي فلينزل عن دابته، ويصلي فيه قائما يومئ بالسجود أخفض من الركوع فإن لم يقدر أن ينزل فيه صلى على دابته إلى القبلة):

ظاهر كلام الشيخ، وإن كان إنما يخشى على ثيابه فقط وهو قول مالك وهو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: ورواه أشهب وابن نافع يسجد عليه وإن تلطخت ثيابه ولا يومئ وقيل بالأول إن لم يكن واسع المال وكانت ذات قيمة والطين يفسده خرجه ابن رشد على ماء الوضوء، وأما إن كان يخشى على نفسه فالاتفاق على ما قال الشيخ.

(وللمسافر أن يتنفل على دابته في سفره حيثما توجهت به إن كان سفرا تقصر فيه الصلاة):

(1/209)

ظاهر كلامه خصوصية الدابة فالسفينة لا يتنفل فيه وهو كذلك وهو نص المدونة، وروى ابن حبيب كالدابة قال بعض شيوخنا لعله يريد الصغيرة، واختلف الشيوخ في فهم المدونة فتأوله ابن التبان على أن ذلك لمن يصلي بالسفينة إيماء، وأما من يركع ويسجد فهي كالدابة، وخالفه أبو محمد وقال ليست كالدابة ولا يتنفل فيها أحد إلا إلى القبلة، وإن ركع وسجد ذكره في تهذيب الطالب.

واختلف في جواز النافلة مضطجعا على ثلاثة أقوال: فقيل بالجواز قاله الأبهري وقيل لا يجوز نقله أبو محمد عن بعض أصحابنا وقيل إن كان مريضا جاز قاله ابن الجلاب، واختلف إذا صلى النافلة جالسا وأراد أن يومئ بالسجود على ثلاثة أقوال: فقيل بالجواز قاله ابن حبيب وعكسه قاله عيسى وقيل يكره قاله ابن القاسم وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها أبو محمد في نوادره.

(وليوتر على دابته إن شاء ولا يصلي الفريضة وإن كان مريضا إلا بالأرض):

أخذ بعض التونسيين من شيوخ شيوخنا من هنا أن الوتر يصلي جالسا اختيارا

(1/210)

وكنت أضعف هذه الإقامة في صغري بأن للمسافر خصوصيات ليست لغيره، ألا ترى أنهم اشترطوا هنا مسافة القصر ثم ظهر لي أن الإقامة ظاهرة لأنه لما كان الفرض في مسافة القصر مغاير للنوافل ذكروا وجعلوا الوتر في جملة النوافل لزم اطراده في الحضر والله أعلم.

ومن التونسيين ممن ذكر من كان يذهب المنع من ذلك وأخذه من قول المدونة لا يصلي في الكعبة الفريضة ولا الوتر ولا ركعتي الفجر فقد سوى فيما ذكر بين الوتر والفريضة فيلزمه اطراده فيما يمكن، واختلفت فتوى القرويين من المتأخرين أيضًا في هذه المسألة فأفتى الشيخ أبو عبدالله محمد بن الرماح بجواز ذلك، وأفتى غيره بالمنع وهو الأقرب أخذ بالاحتياط لقول أبي حنيفة بوجوبه.

(إلا أن يكون إن نزل صلى جالسا بماء لمرضه فليصل على الدابة بعد أن توقف له ويستقبل بها القبلة):

ما ذكر خلاف عليه الأكثر من كرهية ذلك.

(ومن رعف مع الإمام خرج فغسل الدم ثم بنى ما لم يتكلم أو يمش على نجاسة):

يحتمل أن يكون قوله مع الإمام مقصودا إشارة إلى أن الفذ لا يبني كما قال ابن حبيب، وروي عن مالك ويحتمل أن يكون قوله طرديا فيبني الفذ كما قاله أصبغ وغيره وهو ظاهر المدونة.

وقال ابن عبد السلام: في أخذه من ظاهر المدونة نظر، ولا خلاف في صحة البناء إذا حصلت له ركعة واختلف إذا لم تحصل له ركعة على خمسة أقوال: فقيل بصحة البناء كما هو ظاهر كلام المؤلف، وقيل لا يصح وقيل إن كان مأموما بنى، وقيل ما لم تكن جمعة وقيل يستحب القطع، وظاهر كلام الشيخ أن البناء هو المطلوب واختلف في المسألة على أربعة أقوال: فقيل أن البناء أرجح من القطع قاله مالك اتباعا للعمل وعكسه قاله ابن القاسم.

وقيل إنهما سواء لا مزية لأحدهما على الآخر نقله غير واحد عن المذهب كصاحب التلقين وقيل أن البناء يجب أخذه ابن رشد من قول ابن حبيب إن استخلف متكلما عمدا أو جهلا بطلت صلاتهم عليهم، وظاهر كلام الشيخ لو تكلم سهوا أو مشى على نجاسة كذلك أنه لا يبني وهو أحد الأقوال الأربعة في المتكلم ساهيا، وقيل إنه يبني، وقال ابن حبيب إن تكلم في حال الذهاب بطلت وفي حال الرجوع صحت

(1/211)

حكاه غير واحد كاللخمي وعزاه ابن يونس لان الماجشون، وقيل بعكسه نقله ابن شاس وعزاه خليل لابن بشير أيضًا وهو وهم، وأما إن مشى على نجاسة فقال ابن بشير هو كالمتكلم في أقواله، وقد ذكر فيه الثلاثة الأقوال، وقال ابن شاس إنه مثل ما إذا تكلم.

قال ابن عبد السلام: يعني فتبطل في العمد وتصح في النسيان قال وفيما قاله نظر إن كان نقلا وإن كان تخريجا فهو أبعد قلت ما فسره به بعيد والأقرب أنه إنما أراد بذلك ذكر الأقوال التي ذكرها أجمع، فإن قلت ما معنى قول ابن عبد السلام فيما قاله نظر إلخ، قلت: أراد أن المنقول في المذهب قولان فقط قال ابن سحنون لا يبني وقال ابن عبدوس يبني فما ذكره خلاف المنقول إن كان أراد ذلك، وإن كان إنما أراد بالإجراء لا بالنص فأبعده لأن النجاسة أشد من التكلم ناسي بدليل أن من تكلم في صلاته ناسيا فلا شيء عليه اتفاقا، ومن صلى بالنجاسة يعيد في الوقت على المشهور وأبدًا على الشاذ.

(ولا يبني على ركعة لم تتم بسجدتيها وليلغها إلخ):

اعلم أن قوله وليلغها زيادة في البيان وإلا فقوله ولا يبني يغني عنه وما ذكره هو المشهور، وقيل يبني على ما عمل قاله ابن الماجشون وابن حبيب وقيل إن كانت الأولى فالأول وإلا فالثاني حكاه ابن حارث عن أشهب وغيره.

(ولا ينصرف لدم خفيف وليفتله بأصابعه إلا أن يسل أو يقطر):

يعني بالأنامل الاربع العليا والمراد الاقتصار على يد واحدة ويريد أيضًا من اليد اليسرى لا اليمنى لقوله صلى الله عليه وسلم "اليمنى لأطهاركم واليسرى لأقذاركم" وقول الشارمساحي بأنامل اليد اليمنى لأن اليمنى مختصة بالوجه بعيد غريب ولو سال منه الدم، وغلب على ظنه التمادي به إلى خروج الوقت فإنه يصلي به.

واختلف في كيفية صلاته فقيل يصلي إيماء قاله ابن حبيب وقيل يركع ويسجد، قاله ابن مسلمة، قلت: ويجري عليهما من كان عنده من الماء ما يقوم به إما لغسل النجاسة وإما لوضوئه، فمن قال هنا يصلي إيماء يقول بغسل النجاسة به لأن الوضوء عنه بدل وهو التيمم والإيماء هنا هو بدل عن السجود، ومن يقول يركع ويسجد هنا

(1/212)

ويصلي بالنجاسة يقول يتوضأ به ويترك النجاسة، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو عمران الفاسي، والأول هو الذي ارتضاه الأكثر من شيوخ المذهب كابن عبد السلام، وأخذه المازري من لابس الخف إذا حصلت به نجاسة وكان على طهارة بأنه يزيله ويتيمم.

(ولا يبني في قيء ولا حدث):

ما ذكره هو المشهور ونقل ابن العربي في القبس عن أشهب أنه يبني في الحدث كمذهب أبي حنيفة، وإنما كان لا يبني على المشهور لأن الأصل عدم البناء في الجميع رجاء ما جاء في الرعاف وبقي ما سواه على أصله.

(ومن رعف بعد سلام الإمام سلم وانصرف):

ما ذكر أنه يسلم وينصرف مثله في المدونة، وأخذ منها أن السلام غير فرض كما حكاه الباجي عن ابن القاسم أن من أحدث في آخر صلاته أجزأته صلاته ولم يرتض معظم الشيوخ هذا الأخذ ورأوا أن سلامه وهو حامل للنجاسة أخف من خروجه وزيادته في صلاته.

(وإن رعف قبل سلامه انصرف وغسل الدم ثم رجع فجلس وسلم):

يريد ويتشهد وسلم سواء تشهد أم لا لنص المدونة بذلك قال فيما وإذا رعف المأموم بعد فراغه من التشهد قبل سلام الإمام ذهب فغسل الدم ثم رجع فتشهد وسلم، وهو الذي أراد ابن الحاجب بقوله: ولو رعف فسلم الإمام رجع فتشهد ثم سلم، وقال ابن عبد السلام: عناه إن كان لم يتشهد أولا، وأما لو تشهد أولا فإنه يسلم دون تشهد، وتعقبه بعض شيوخنا بصريح المدونة كما تقدم، وكان بعض من لقيته يجيب عنه بأن قوله جار على أحد الروايتين فيمن سجد السجود القبلي فإنه لا يتشهد اكتفاء بتشهد الصلاة وكنت أجيبه بوجهين:

أحدهما: أنهما ليسا سواء لقرب السلام من التشهد الأول وبعد السلام من التشهد في الرعاف لأن خروجه وغسله للدم، ورجوعه مظنة للطول غالبا.

الثاني: هب أنهما سواء فقصارى الأمر أن يكون في المسألة قول ثالث وهو قد قصد إلى أن يجعل ذلك المذهب مع أن نص المدونة يدل على خلافه، فكيف يمكن أن يجعل المخرج المذهب وظاهر كلام الشيخ كما هو ظاهر كلام المدونة وغيرها أنه لو كان لما رعف سلم إمامه أنه يخرج لغسل الدم كغيره، وليس كذلك بل المراد إذا لم يسلم بالقرب فإن سلم عليه بالقرب فإنه يسلم وينصرف حسبما نص عليه ابن يونس.

(1/213)

(وللراعف أن يبني في منزله إذا يئس أن يدرك بقية صلاة الإمام إلا في الجمعة فلا يبني إلا في الجامع):

ظاهر كلام الشيخ أنه إذا طمع أن يدرك شيئا من صلاة الإمام، ولو السلام فإنه يرجع إليه وهو كذلك على ظاهر المدونة وغيرها، وقال ابن شعبان إن لم يطمع بإدراك ركعة فإنه لا يرجع إذ لا فائدة فيه، وظاهر كلام الشيخ أن مسجد مكة والمدينة كغيرها فحيث يطمع بإدراك شيء من صلاة الإمام رجع وإلا فلا، وهو كذلك في القول المشهور، وروى السبائي عن مالك أنه يرجع لأحد المسجدين مطلقا، وما ذكر أن الجمعة لا بد فيها من الرجوع إلى الجامع مثله في المدونة قائلا لأن الجمعة لا تكون إلا في الجامع، وهو المشهور وأحد الأقوال الثلاثة، وقيل الجمعة كغيرها وقيل إن أمكنه رجع، وإلا فمكانه وهذه طريقة ابن بشير ومن تابعه كابن الحاجب وسلمها الشيخ خليل وابن عبد السلام وغيرهما، واعترضها بعض شيوخنا بأنه اغترار بكلام اللخمي في قوله.

وقال المغيرة: إن منعه من الرجوع وإذا أضاف ركعة أخرى ثم صلى أربعا وهو ليس بخلاف في الحقيقة كما زعم اللخمي وإنما هو بيان للمشهور وهو تفسير وعليه حمله المازري، وبنص المدونة السابق رد بعض شيوخنا على الصالحي المستقرئ من المدونة أن الجامع ليس بشرط في الجمعة لأن ذكر الأسواق مرة ومرة لم يذكرها فلو كان الجامع شرطا لذكره، واختلف إذا أدرك تكبيرة الإحرام في الجمعة ثم رعف فلما رجع وجد الإمام قد سلم فقيل يبتدئ ظهرا بإحرام مستأنف، وقال سحنون يبني على إحرامه وصوبه ابن يونس وفسره بعضهم بقول المدونة قائلا لأنه صاحبها وتفسيرها بقول مؤلفها أولى ونصها ابتدأ طهرا، وقال أشهب إن شاء قطع أو بنى على إحرامه أو على ما عمل فيهما.

(ويغسل قيل الدم من الثوب ولا تعاد الصلاة إلا من كثيره):

يعني على طريق الاستحباب يدل على قوله ولا تعادل الصلاة إلا من كثيره، وما ذكره هو مذهب المدونة وقيل إن يسير الدم جدا لا أثر له فلا يستحب غسله، قاله الداودي لقول مالك لا يغسل دم البراغيث ما لم ينتشر وقبله الباجي ورده بعض شيوخنا بالمشقة في دم البراغيث، ولذلك لم يقيد العفو باليسارة جدا بل بعدم التفاحش، ونقل ابن العطار عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه يعفي عنه في البدن لا في

(1/214)

الثوب، وقيل إن أصابه من غيره غسله نقله المازري في دم الحيض خصوصا لندور نيله، ونقله ابن عبد السلام في سائر الدماء.

وظاهر كلام الشيخ أن دم الحيض والميتة كغيرهما وهو كذلك في القول المشهور، وقيل إن يسيرهما كالكثير ويسير القيح والصديد كالدم قاله في المدونة وقيل كالكثير قاله مالك في أحد قوليه، والأول أقرب لأن وصولهما إلى الجسد والثوب أقل من وصول الدم ولا يجاب بأنهما أقذر لأن القذارة لا اعتبار لها كما قد علمت، واختلف في مقدار اليسير والكثير ففي العتبية من سماع أشهب لا أجيبكم إلى التحديد بالدراهم، وتحديد بذلك ضلال فإن الدراهم تختلف تصغر وتكبر فقد أشار بذلك إلى أن المعتبر العرف، وقال ابن سابق، اليسير ما دون الدرهم، والكثير ما فوقه وفي الدرهم روايتان.

وروى علي أنه يسير، وروى ابن حبيب أنه كثير، وقال ابن بشير اليسير ما دون الدرهم والكثير ما فوقه، وفي الدرهم قولان ونقل ابن المنذر عن مالك تعاد الصلاة من كثير الدم، وكثيره نصف الثوب فأكثر وكل ما لقيته من القرويين وغيرهم يقولون هو قول غريب بعيد.

(وقليل كل نجاسة غيره وكثيرها سواء):

ظاهر كلام الشيخ أن يسير البول كغيره فلا يعفى عنه وهو مذهب المدونة ونصها قلت أرأيت ما تطاير علي من البول مثل رءوس الإبر قال لا أحفظ هذا بعينه عن مالك، ولكن قال مالك يغسل قليل البول وكثيره واختصرها البراذعي على ما هي عليه، فإن قلت عادة صاحب التهذيب لا يأتي بالمسألة سؤالا وجوابا لا لمعنى من المعاني كقول ابن الحاجب وفيها فما هو هذا المعنى، قلت: لأحد أمرين:

أحدهما: إن جوابه يوهم أنه لم يقل بالعموم ولا الإجابة بالغسل إذ هو أحد أفراده.

الثاني: لما قد علمت من أن العام يتناول أفراده بطريق الظهور لا بالنص فهو يمكن تخصيصه بما سأله عنه، وهو ما تطاير من البول مثل رؤوس الإبر وما ذكره في الإكمال قال ابن عبد السلام: يحتمل أن يريد بذلك عموما، ويحتمل أن يريد مقصورا على التطاير عند البول لأنه محل ضرورة لتكرره كل وقت، قلت: الأقرب من القولين العفو وإن الاحتمال الأول أقرب لأن المشهور في الدم عفوه عموما فكذلك البول والله أعلم.

(1/215)

(ودم البراغيث ليس عليه غسله إلا أن يتفاحش):

(1/216)

ظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يكون تفاحشه بادرا، وكذلك ظاهر المدونة وغيرها واشترطه ابن الحاجب ونصه عن دم البراغيث غير المتفاحش النادر، وظاهر كلام الشيخ أنه يجب غسله إذا تفاحش وهو ظاهر كلام غير واحد، وقيل يسحب كالدمل قاله المتيوي وفرق بينهما بالاتصال والانفصال، قال الشيخ خليل رحمه الله تعالى، وذكر مصنف الإرشاد في العمدة قولين إذا تفاحش بالوجوب والاستحباب، وكذلك نقل اللخمي، وقيل لا يؤمر بغسله إلا في الأوقات التي جرت عادت بغسل ثيابه فيها ولا يؤمر بغسله في أثناء الغسلات المعتادة حكاه التادلي ولا أعرفه، وحد التفاحش ما يستحيا به في المجالس بين الناس، وقيل ما له رائحة نقلهما التادلي أيضًا، وألحق صاحب الحلل بدم البراغيث دم البق والقمل.

وبعث أمير إفريقية رجلا يسأل عبد الله بن فروح الفارسي عن دم البراغيث فسأله بمحضر أهل درسه عن ذلك، فقال لا بأس بالصلاة به ثم قال بمحضره: عجبا يسألنا عن دم البراغيث ولا يسألنا عن دم المسلمين التي يسفكها، وكان رحمه الله لا يخاف في الله لومة لائم، وكان مفتي إفريقية يغسل موتى الضعفاء بيده ويحملها على عنقه ويدخلها في قبرها تواضعا منه لله تعالى.

ومن أراد الوقوف سيرته فعليه بالمدارك واعلم أن عادة الشيوخ يتعرضون هنا إلى نظائر منها، أن ثمانية أثواب لا يجب غسلها إلا مع التفاحش: ثوب دم البراغيث والمرضع وصاحب السلس، وصاحب البواسير وثوب الجرح السائل والقرحة وثوب الغازي الذي يمسك فرسه في الجهاد وثوب المتمعش في سفره بالدواب نقله الباجي، وثمانية يجزي زوال النجاسة فيها بغير الماء وهي: النعل والخف والقدم والمخرجان وموضع الحجامة والسيف الصقيل والثوب والجسد وثمانية تحمل على الطهارة وهي: طين المطر وأبواب الدور وحبل البئر والذباب يقع على النجاسة وقطر سقف الحمام وميزاب السطوح، وذيل المرأة وما نسجه المشركون، وثمانية تجب مع الذكر والقدرة وهي: النجاسة والفور والترتيب والتسمية والكفارة في صوم رمضان والفطر في التطوع وترتيب الحاضرتين، وتقديم الفوائت اليسيرة على الحاضرة عند مالك في رواية ابن الماجشون.

(1/217)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في سجود القرآن

(1/218)

اختلف المذهب في حكم سجود القرآن فقيل سنة قاله الأكثر وأخذه ابن محرز من قول المدونة يسجدها من قرأها بعد العصر والصبح ما لم تصفر أو تسفر كالجنازة، فإن قلت هذه إقامة ضعيفة لأن صلاة الجنازة قد قيل فيها إنها قضية حسبما رواه ابن عيشون فقد قال إنما يقوم منها الفضيلة.

قلت المعلوم من المذهب في حكمها إما السنة وإما الفريضة على الكفاية والقول بالفضيلة لم ينقله إلا ابن زرقون، وقيل أن سجود القرآن فضيلة قاله عبد الوهاب وابن الكاتب وأخذه من قول المدونة يستحب أن لا يدعها في أثناء صلاته، واختار ابن عبد السلام القول بالسنة لفعله عليه الصلاة والسلام مداوما مظهرا، وذهب أبو حنيفة إلى الوجوب، ورده ابن يونس بقول عمر أن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء.

قلت: وهو ضعيف لأن الكتب هو الفرض وأبو حنيفة لم يقل بالفريضة وإنما قال واجب وهو أضعف عنده من الفرض، فالفرض عنده ما ثبت بدليل قطعي من القرآن، والواجب ما ثبت بدليل ظني من السنة فعمر رضي الله عنه لم ينف إلا الفرض الذي هو أخص.

(وسجود القرآن إحدى عشرة سجدة وهي العزائم ليس في المفصل منها شيء في المص عند قوله (ويسبحونه وله يسجدون) [الأعراف: 206]

وهو آخرها):

ما ذكر الشيخ من أن سجود القرآن إحدى عشرة سجدة هو مشهور المذهب وقيل خمسة عشرة بزيادة ثانية الحج والنجم، والانشقاق آخرها، وقيل لا يسجدون و (اقرأ باسم ربك) [العلق: 1]

وقيل أربع عشرة بإسقاط ثانية الحج قاله مالك.

واختلف المتأخرون هل هذا اختلاف حقيقي قاله الأ كثر أو ليس بخلاف بل السجود في جميعها إلا أن السجود في الإحدى عشرة آكد قاله حماد بن إسحاق وفي غير ذلك قولان.

(فمن كان في صلاته فإذا سجدها قام فقرأ من الأنفال أو من غيرها ما تيسر عليه ثم ركع وسجد إلى قوله (وزادهم نفورا) [الفرقان: 60]).

إنما قال الشيخ يقرأ شيئا من الأنفال أو من غيرها إذا كان في صلاة لأن الركوع لا يكون إلا عقب قراءة شرعا ولذلك من أخل بركوع فإنه يرجع قائما على الصحيح واستحب له أن يقرأ شيئا.

(1/220)

(وفي الهدهد (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [النمل: 26]

إلخ):

ما ذكره هو المعروف في المذهب وقيل محلها منها (وما يعلنون) [النمل: 74]

قاله ابن حبيب، وأبو بكر الوقار وغيرهما.

(وفي حم تنزيل، (واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [فصلت: 37]).

ما ذكر أن محلها منها (تعبدون) مثله في المدونة وقيل (لا يسئمون) [فصلت: 38]

قاله ابن وهب وخير ابن حبيب بينهما واختار بعض شيوخ شيوخنا أنه يسجد في المحل الأخير في كل موضع مختلف فيه ليخرج من الخلاف لأن ما قرب من الشيء أعطى حكمه، وإليه ذهب بعض المتأخرين من المشارقة.

(ولا تسجد السجدة في التلاوة إلا على وضوء):

ما ذكره هو كذلك اتفاقا وكذلك يشترط سائر شروط الصلاة، كالتوجه إلى القبلة وستر العورة ما عدا الإحرام والسلام، قال خليل وفي النفس من الإحرام والسلام شيء، وقال ابن وهب يسلم منها ويقوم من كلام الشيخ أن سجود الشكر على القول به يفتقر إلى طهارة وهو كذلك على ظاهر المذهب، واختار بعض من لقيناه من القرويين عدم افتقاره إليها بل يسجد بلا طهارة لأنه إذا تركه حتى يتطهر أو يتوضأ أو يتيمم زال سؤال سجوده منه.

(ويكبر لها ولا يسلم منها وفي التكبير في الرفع منها سعة وإن كبر فهو أحب إلينا):

لا خلاف في المذهب أنه يكبر خفضا ورفعا إذ كان في الصلاة واختلف إن سجد في غير الصلاة فقيل يكبر خفضا ورفعا، وقيل لا يكبر والقولان لمالك وخير ابن القاسم فيها وكلها في المدونة، وقول الشيخ رابع لأنه خير في الرفع ولم يخير في الخفض ونبه على هذا ابن عبد السلام والتادلي، والمستمع لحفظ أو تعلم يسجد اتفاقا إن كان القارئ صالحا للإمامة وسجد، فإن لم يسجد القارئ ففي سجوده قولان وإن كان استماعه للثواب فإن لم يسجد القارئ لم يسجد اتفاقا، وإن سجد فقولان عكس الفرع الأول واختلف في السامع دون جلوس لاستماعه فالأكثر على عدم السجود، وقيل يسجد قال الباجي وهو قول شاذ.

(ويسجدها من قرأها في الفريضة والنافلة):

لا خلاف في المذهب أن قراءتها في النافلة جائزة سواء كانت سرا أو جهرا فذا

(1/221)

أو إماما، واختلف في جواز قراءتها في الفرض ففي الفذ قولان: الكراهة والجواز والأول هو المشهور، واختلف في الإمام على ثلاثة أقوال: الكراهة للمدونة والجواز مطلقا حكاه ابن زرقون عن رواية ابن وهب وقيل إن قلت الجماعة جاز وإلا كره وعلى الأول فإنه يسجد إذا قرأ، وحكى ابن الحاجب قولا بعدم السجود قال ابن هارون ولا أعرفه لغيره ونص ابن الحاجب: ففي الفرض تركه قراءتها على المشهور جهرا أو سرا فإن قرأ فقولان وإذا كانت الصلاة سرية فإنه يجهر بالآية ليعلم من خلفه، فإن لم يجهر وسجد قال ابن القاسم يتبع وقال سحنون لا يتبع لاحتمال السهو والقولان حكاهما المازري.

(ويسجد من قرأها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر الشمس):

ما ذكره هو مذهب المدونة وقيل يمنع سجوده بعد صلاة العصر والصبح قاله في الموطأ، وحمله ابن عبد السلام على الكراهة وقيل إنها جائز ولو عند الاسفار والاصفرار نقله ابن عبد البر عن رواية ابن عبد الحكم، وقيل يمنعنه بعد صلاة العصر مطلقا، وبجوازه بعد صلاة الصبح ما لم يسفر نقله ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، وظاهر كلام المازري وابن الحاجب الاتفاق على المنع حين الإسفار والاصفرار وصرح به ابن حارث وهو قصور لما تقدم، وقال اللخمي لو قيل إنه يسجد حين الإسفار لأنه وقت اختيار في الفريضة لا حين الاصفرار لانه وقت ضروري لكان حسنا.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في صلاة السفر

السفر على خمسة أقسام: واجب كسفر الحج والجهاد العينين ومندوب إليه كالسفر لهما إذا لم يتعينا، ومباح كسفره لطبل الأ رباح ولا خلاف أنه يقصر في جميعها، ومكروه كالصيد للهو على المشهور خلافا لابن عبد الحكم ونحوه لليث بن سعد، وحرام كسفره لقطع الطريق وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.

(ومن سافر مسافة أربعة برد وهي ثمانية وأربعون ميلا فعليه أن يقصر الصلاة):

ظاهر كلام الشيخ سواء كان سفره سفر معصية أم لا وهو قول مالك من رواية زياد بن عبد الرحمن، والمشهور أن العاصي لا يقصر وفي المدونة لا يقصر من سافر للهو ويقصر على أصل ابن عبد الحكم القائل بجوازه كما تقدم، ولما ذكره اب الحاجب أنه لا يترخص المعاصي على الأصح قاله، وكذلك المكروه كصيد اللهو وظاهره أن الأصح تحريم القصد له كالعاصي، والصواب عندي أنه يستحب له أن لا يقصر فإن قصر فلا شيء عليه، وعليه تحمل المدونة ولا يبعد أن يكون هو مراد ابن

(1/222)

الحاجب وأن العطف إنما وقع في كونه لا يقصر، وذلك أعم من التحريم والكراهة.

وظاهر كلام الشيخ أن القصر فرض وهو قول القاضي اسماعيل وسحنون وابن الجهم قائلا ورواه أشهب وعمر وابن رشد فهمه من رواية أشهب، ولولا الإطالة لذكرناه، وقيل القصر سنة رواه ابن خويز منداد وأبو مصعب، وقال عياض في الإكمال هو المشهور من مذهب مالك وأكثر أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف، وقيل مستحب وقيل مباح وعزه عياض لعامة أصحابنا البغداديين وعزا الاستحباب للأبهري.

وما ذكره الشيخ من أن المعتبر في المسافة ثمانية وأربعون ميلا هو المشهور وسمع أشهب خمسة وأربعين ميلا وروى أبو قرة اثنان وأربعون ميلا، وفي المبسوط أربعون ونقل ابن عطية عن المذهب قولين آخرين وهما ثلاثون وستة وثلاثون ذكر ذلك عند تكلمه على معنى قوله تبارك وتعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184].

وروي عن مالك اعتبار مسافة يومين، وروي يوم وليلة، وفي المبسوط في البحر يوم فذكر المازري أنه رد الثالث للثاني لأن حركة البحر أسرع والثاني للأول لأن الليلة بدل اليوم الثاني، والكل للأول المشهور وهو ثمانية وأربعون ميلا لأنه السير المعتاد، وقال عياض حمل الأكثرون ذلك على الخلاف والميل ألفا ذراع قاله ابن حبيب، وقال ابن عبد البر الأصح ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع.

(ولا يقصر حتى يجاوز بيوت المصر وتصير خلفه ليس بين يديه ولا بحذائه منها شيء):

ظاهر كلامه سواء كان الموضع موضع جمعة أم لا وهو كذلك في القول المشهور، وقيل إن كان الموضع موضع جمعة فلا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال قاله مطرف وابن الماجشون، قال ابن عبد السلام: وله حظ في النظر لأن حقيقة السفر واحدة فالمسقط للجمعة وهو سبب القصر فكما أن ما دون ثلاثة أميال لا يسقط الجمعة فكذلك لا أثر له هنا، قلت وعزا الباجي والمازري هذا القول لرواية مطرف وابن الماجشون لا لقولهما وحمله ابن رشد على التفسير والأكثرون على الخلاف، وقيل باعتبار ثلاثة أميال سواء كان الموضع موضع جمعة أم لا نقله القاضي سند عن مالك وهو ظاهر كلام ابن الحاجب، فإن قلت إنما حكاه ابن الجلاب بلفظ قد قيل ولم يعزه لمالك فلعله لغيره.

(1/223)

قلت كل ما في ابن الجلاب هو لمالك حتى ينص عليه أنه لغيره ذكر هذا ابن عبد السلام عند تكلمه على قول ابن الحاجب في النكاح وزيد البخر والإفضاء، وانظر إذا فرعنا على المشهور فهل الثلاثة الأميال محسوبة من الثمانية والأربعين ميلا كما هو ظاهر كلامهم أو لا تحسب لأجل أنه لما حكم بأنه يتم فيها فكأنها وطنه لم أر في ذلك نصا، وهي أول مسألة استشكلها في صغرى فلم يجيبني عنه من سألته حينئذ قائلا لا أدري وهو الشيخ أبو محمد الشبيبي رحمه الله تعالى، واختار واحد ممن لقيته بعد أنها تحسب والصواب عندي أنها لا تحسب.

(ثم لا يتم حتى يرجع إليها أو يقاربها بأقل من الميل):

ما ذكر الشيخ نحوه في المدونة ولم يرتضه ابن عبد السلام قائلا إذ لا فرق بين الخروج والرجوع قال والأولى قول ابن الحاجب والقصر إليه كالقصر منه وقول المجموعة لا يزال يقصر حتى يدخل منزله يرجع إليه.

(وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع أو ما يصلي فيه عشرين صلاة أتم الصلاة حتى يظعن من مكانه ذلك):

قد قدمنا غير مرة أن الشيخ إذا أتى في كلامه بأو أراد أن المسألة ذات قولين، والقول بأن المعتبر إقامة أربعة أيام هو نص المدونة وهو المشهور، والقول باعتبارعشر ين صلاة هو لسحنون وابن الماجشون ولا يقال إن القولين بمعنى واحد، لأنه إذا نوى الإقامة مثلا قبل طلوع الشمس؛ فإن هذا اليوم ملغي على الأول ومعتبر على الثاني وقال ابن نافع يعتد به إلى مثل وقته، ولهذه المسألة نظائر المعتدة والعهدة الكبرى والصغرى وبيع الخيار والعقيقة والكراء والحالف لا أكلم فلانا عشرة أيام مثلا وتلومات القاضي، والصواب أن تلومات القاضي مما يرجع فيها إلى نظره، وإليه كان يذهب بعض من لقيته ممن تولى قضاء الجماعة بتونس حرسها الله تعالى.

وأقام المغربي قولا من المدونة أن من دخل بلدة وهو مريض وهي ليست ببلده ونوى أن يقيم فيها أربعة أيام فأكثر وفيها تحبيس على المرضى بها فإنها يدخل معهم في ذلك قال، ونص على ذلك ابن سهل وابن العطار، وقال فضل يدخل معهم عند قدومه وإن لم ينو إقامة، وانظر ما في وصايا اللخمي فيمن أوصى لجيرانه أن من سكن قبل القسمة ولو بيوم دخل في القسمة ولا شيء لمن رحل، قلت وكان بعض من لقيته يمنع دخوله، وهو الأقرب لأن من يوقف شيئا على من ذكر فإن الغالب عليه أنه إنما يريد

(1/224)

من سكنها ناويا على التأبيد والله أعلم.

(ومن خرج ولم يصل الظهر والعصر وقد بقي من النهار قدر ثلاث ركعات صلاها سفريتين فإن بقي قدر ما يصلي في ركعتين أو ركعة صلى الظهر حضرية والعصر سفرية):

ما ذكر الشيخ أنه من سافر لقدر ثلاث ركعات أنه يصلي الظهر والعصر سفريتين هو كذلك باتفاق إذا كان ناسيا ولهما واختلف إذا تعمد تركهما والمنصوص كذلك، وألزم الشيخ أبو الحسن اللخمي القائل بأن الصلاة لا تسقط عن متعمد التأخير من أصحاب الأعذار إلا بقدر كل صلاة عدم قصر المسافر حينئذن وظاهر كلام ابن الحاجب أن الخلاف فيه بالنص ولم أقف عليه وذلك أنه لما ذكر عن اللخمي أن من أخر الصلاة عمدا حتى بقي من الوقت قدرها، فإنه مأثوم إجماعا، فذكر كلاما بعده زاد عليه، ثم قال ويلزم أن لا يقصر المسافر ولا يتم القادم إلا مع ذلك وفيه خلاف فتدبر كلامه ولولا الإطلالة لذكرناه.

(ولو دخل خمس ركعات ناسيا لهما صلاهما حضريتين فإن كان بقدر أربع ركعات فأقل إلى ركعة صلى الظهر سفرية والعصر حضرية وإن قدم في ليل وقد بقي للفجر ركعة فأكثر ولم يكن يصلي المغرب والعشاء صلى المغرب ثلاثا والعشاء حضرية):

اعلم أن قوله ناسيا طردي بل وكذلك العامد وتقدم نقل ابن الحاجب الخلاف في ذلك.

(ولو خرج وقد بقي من الليل ركعة فأكثر صلى المغرب ثم صلى العشاء سفرية):

اعلم أنه إذا سافر لأربع ركعات قبل الفجر فإنه يقصر العشاء وإن سافر لأقل فالرواية كذلك، وروى ابن الجلاب يتم ولو قدم لأربع قبل الفجر أتم ولأقل فإنه يقصر وخرج ابن الجلاب إتمامه.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في صلاة الجمعة

اعلم أنه يقال الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها قاله الواحدي عن الفراء. والجمعة من خصائص هذه الأمة واختلف في حكمها على ثلاثة أقول: فالمعروف أنها فرض عين مطلقا، وروى ابن وهب أنها سنة، فحملها بعضهم على ظاهرها، قال ابن

(1/225)

عبد البر وهو جهل، ونقل بعض شيوخنا عن اللخمي أنه خرج أنها فرض كفاية من قول ابن نافع وابن وهب أن مصلى ظهرا وهو يلزمه سعي إدراكها لم يعد، ولم أجد له إلا قوله القول بالبطلان أحسن إلا أن يترجح بقول من قال إن الجمعة ليست بفرض.

ونص ابن عبد الحكم على أن المسجون لا يخرج للجمعة، قال المازري عن بعض أشياخه منعه من الجمعة إنما هو على قول من شذ أن الجمعة فرض كفاية ورده بأن لها بدلا وتسقط بالمطر على قول وأبيح التيمم إذا كثر ثمن الماء، وكذلك الخوف على تلف مال الغرماء بخروجه يوم الجمعة، قال: والأولى أن لا يمنع منها إن أمكن خروجه لها مع عدم ضرر الغرماء.

(والسعي إلى الجمعة فريضة وذلك عند جلوس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان والسنة المتقدمة أن يصعدوا حينئذ على المنار فيؤذنون):

كلام الشيخ ظاهر في أن الجمعة فر ضعين لأنه إذا كانت الوسيلة وهي السعي فرضا فأحرى المقصد وظاهر كلامه أن المؤذنين ثلاثة وهو قول مالك في رواية القاسم. وروى ابن عبد الحكم أنه يؤذن واحد لا أكثر ونقل ابن الحاجب قولا بمؤذنين لا أكثر ولم يحفظه أشياخنا إلا منه، وكل هذا الخلاف إنما هو في عدد من يؤذن عند جلوس الإمام على المنبر.

وقال ابن العربي: كان يؤذن عند جلوسه صلى الله عليه وسلم واحد ثم يقوم آخر ثم زاد عثمان ثالثا بالزوراء قبل جلوسه، ثم قلب الناس الأذان فهو بالمشرق كقرطبة وأما بالمغرب فثلاثة لجهل مفتيهم سمعوا أنها فجهلوا أن الإقامة منها.

(1/226)

قلت: ورده بعض شيوخنا بنقل ابن حبيب كان إذا رقي صلى الله عليه وسلم المنبر أذن ثلاثة مرتبا على المنار فلما كثر الناس أمر عثمان بأذان الزوال بالزوراء؛ فإذا خرج أذن ثلاثة ثم نقل هشام أذان الزوراء للمنار والثلاثة بين يديه، وما قاله شيخنا ضعيف لما قد علمت من اضطراب أهل العلم في رواية ابن حبيب للاحاديث هل هي ضعيفة أم لا حسبما هو مذكور في المدارك، والاتفاق على أنه ثبت في نقل فروع المذهب.

وظاهر كلام الشيخ أن السعي يجب عند سماع المؤذن الأول واختلف فيها فقهاء بجاية من المتأخرين حسبما أخبرني بذلك بعض من لقيته من التونسيين فقال جماعة منهم بذلك، وقال آخرون إنما يجب السعي عند سماع الثالث، والصواب عندي أن اختلافهم إنما هو خلاف في حال فمن كان مكانه بعيدا جدا بحيث يعلم أنه إن لم يسمع نداء المؤذن الأول فاتته الصلاة، وجب عليه حيئنذ وإن كان قريبا فلا يجب عليه حينئذ، وكذلك لو كان مكانه بعيدا جدا فإنه يجب عليه بمقدار ما إذا وصل حانت الصلاة إن كان ثم من يخضر الخطبة غيره ممن يكتفي بهم.

(ويحرم حينئذ البيع وكل ما يشغل عن السعي إليها):

هذا مخصوص بشراء الماء لمن انتقض وضوءه وقت النداء فلم يجد الماء إلا بثمن نص عليه أبو محمد ونقله عبد الحق في النكت وابن يونس وبه الفتوى ولم يحفظه غيره في المذهب، وهو ظاهر في أن صاحب الماء لا يجوز له بيعه وإنما الرخصة في ذلك للمشتري المذكور، وبه أفتى بعض من لقيته. واختلف إذا وقع البيع على ثلاثة أقوال: ففي المدونة يفسخ وفي المجموع عن مالك البيع ماض وليستغفر الله، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وقال ابن الماجشون بالأول في حق من اعتاد ذلك وبالثاني فيمن لم يعتده وهذا كله إذا كان المتبايعان، أو إحدهما ممن تلزمه الجمعة.

وإذا فرعنا على مذهب المدونة وهو المشهور فإن يفسخ ما دام قائما اتفاقا فإن فات بتغير سوق فأعلى فإنه يمضي بالقيمة كسائر البيوع الفاسدة وقيل يمضي بالثمن قاله المغيرة وسحنون واختاره اللخمي، واحتج له ابن عبدوس بأن فساده في عقده فإذا فات فيمضي بالمسمى كنكاح فساده في عقده، وعلى الأول فقال ابن القاسم تعتبر القيمة حين البيع وقال أشهب بعد الصلاة، وقيل يوم الحكم نقله ابن عبد السلام عن بعض المفسرين عن أصبغ، واختلف إذا وقع ما يتكرر وقوعه كالنكاح والإجازة والصدقة فقال ابن القاسم لا يفسخ واختاره ابن بكير، وقال الأبهري والقاضي عبد

(1/227)

الوهاب وابن الجلاب يفسخ.

واختلف في فسخ بيع من باع لخمس ركعات للغروب وعليه ظهر يومه وعصره فقال اسماعيل القاضي وابو عمران يفسخ وقال سحنون لا يفسخ، وصوبه ابن محرز وغيره وفرقوا بأن الجمعة لا تقضي.

(وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية):

أراد الثاني في الإحداث ولو قال عوض قوله ينو أمية عثمان لكن أولى لأن أقيس في الاقتداء وإن كان أمويا والله أعلم.

(والجمعة تحب بالمصر والجماعة):

ما ذكر الشيخ مثله عن يحيى بن عمر أجمع مالك وأصحابه أنها لا تقام إلا بالمصر، قال ابن سحنون وأسقطها سحنون عن أهل المنستير وأقامها بقلشانة ولم يجزها بسوسة وسفاقس إلا زحفا، وأنكر ابن سحنون على ابن طالب إقامتها بأولج قال اللخمي، وأخبرت أن بها عشرة مساجد، وروى مطرف وابن الماجشون إن قاربوا ثلاثين رجلا جمعوا، وفي مختصر ما ليس في المختصر إن بلغوا في الكسوف خمسين رجلا جمعوا وأجراه اللخمي هنا، وقال عبد الوهاب والباجي: المعتبر من تتقرى بهم قرية يمكن ثواؤهم. وجعله المازري المشهور وقال الباجي رد أصحابنا قول الشافعي لا تنعقد الإ بأربعين دون الإمام لحديث جابر: ما بقي حين انفضوا عنه صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم إلا اثنا عشر رجلا مقتضاه إجازتها باثنى عشر وإمام، ذكر صاحب اللمع عن بعض الأصحاب اعتبار عشرة فقط. فيتحصل في ذلك ستة أقوال.

قال ابن عبد السلام: ولا يشترط حصول هذا العدد في كل جمعة كما جاء في حديث العير لأنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا، قلت: واختار غير واحد من شيوخنا أن ذلك شرط في كل جمعة، واختلف هل يعتبر في العدد من لا تجب عليهم الجمعة كالمسافرين والعبيد على قولين، وهذا الخلاف إنما هو إذا كمل بهم عدد الجمعة لا أنهم كانوا كلهم عبيدا أو مسافرين على ظاهر كلام ابن بشير وابن شاس وابن عات خلافه.

(والخطبة فيها واجبة قبل الصلاة):

ما ذكر أن الخطبة واجبة هو المشهور وقيل أنها سنة قاله ابن الماجشون ونحوه ما رواه أبو زيد في ثمانيته عن ابن الماجشون عن مالك أن من ترك الخطبة على أي

(1/228)

وجه تركها فجمعته صحيحة، وعلى الأول فنص ابن بشير وغيره على أنه شرط قال ابن الحاجب: والخطبة واجبة خلافا لابن الماجشون شرط على الأصح قال ابن هارون، وظاهره أن القاتلين بوجوب الخطبة اختلفوا في شرطيتها قال ولا أعرفه لغيره.

قلت: ورد الشيخ خليل الخلاف لقوله واجبة لا لقوله شرط للاتفاق على الشرطية، وما ذهب إليه به أدركت بعض من لقيته يفسره، والأقرب ما فهمه ابن هارون لأن من حفظ مقدم على من لم يحفظ إذ هو ظاهر اللفظ والله أعلم على أنه لا يبعد أن يكون هو معنى ما دلت عليه رواية أبي زيد السابقة.

واختلف في أقل الخطبة على قولين: فقال ابن القاسم أقل ذلك ما يسمى خطبة عند العرب، وقيل أقله حمد الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وتحذير وتبشير وقرآن قاله ابن العربي واختلف إذا اقتصر على تسبيحة أو تهليلة، وقال ابن القاسم لا تجزئه، وقال ابن عبد الحكم: تجزئه ولو أسر بخطبته حتى إنه لم يسمعه أحد وأنصت لها فإنها تجزئه.

نقله ابن هارون متبرئا منه بقوله قالوا قلت: واعترضه غير واحد من شيوخنا بأن ظاهر المذهب عدم الإجزاء وبأن ما ذكره لم يوجد لغيره، واختلف هل تجب الطهارة لها ام لا؟ فقال سحنون بوجوبها قائلا يعيد من خطب بغير طهارة أبدًا، واختاره ابن العربي وقال ابن الجلاب والقاضي عبد الوهاب هي مستحبة.

(ويتوكأ الإمام على قوس أو عصا):

اختلف قول القاسم هل توكؤه على عصا بيمينه مستحب أم لا، والمشهور عنه هو الأول، وظاهر كلام الشيخ أن القوس مشروع سفرا وحضرا وهو قول مالك في رواية ابن وهب، وروى ابن زياد أن ذلك مختص بالسفر وألحق بعض الشيوخ السيف بهما، واختلف في حكمة ذلك فقيل مخافة أن يعبث بلحيته عند فكرته في الخطبة، وقيل تهيب للحاضرين وإشعار بأن لم يقبل تلك الموعظة فله العصا فإن تمادى قتل بالقوس أو السيف.

(ويجلس في أولها وسطها):

أما الجلوس الأول فلا خلاف أنه مشروع هنا عند الأكثر، وإنما الخلاف في العيدين ونحوهما، وقال عياض روي عن مالك قول كمذهب أبي حنيفة أنه يمنع أن يجلس الإمام على المنبر قبل الخطبة في الجمعة ذكره في الإكمال وهو قول غريب فاعلمه، والمشهور أنه ليس بشرط في صحة الصلاة حتى لو خطب ولو لم يجلس في

(1/229)

أولها فإنه يجزئه وقيل لا يجزئه.

وأما الجلوس الثاني فذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه واجب، وأنه إن خطب واحدة لم تجزئه وذكر عن مطرف عن مالك أنه سنة، قال ابن القصار وهو الذي يقوى في نفسي، واختلف في مقداره فقال يحيى بن يحيى قدر الفصل بين السجدتين وقيل قدر ما يقرأ (قل هو الله أحد) [الأخلاص:1]

حكاه ابن عات، واختلف في وجوب القيام للخطبة فقال ابن حبيب من السنة أن يخطب قائما، ومثله لابن العربي والأكثر على أن ذلك فرض.

واختلف هل يشترط حضور الجماعة للخطبة أم لا؟ فعزا ابن رشد شرطية ذلك للمدونة وعزا لغيرها عدم ذلك. وقال ابن القصار والقاضي عبد الوهاب وغيرهما لا نص وظاهر المذهب وجوبه.

(وتقام الصلاة عند فراغها):

هذا هو المطلوب أعنى أن الصلاة يشترط وصلها بالخطبة ويسير الفصل عفوا بخلاف كثيره والمطلوب أن يكون الذي خطب هو الإمام، فإن طرأ ما يمنع إمامته كحدث أو رعاف فإن كان الماء بعيدا فإنه يستخلف باتفاق وإن قرب فكذلك عند مالك، وقيل ينتظر قاله ابن كنانة وابن أبي حازم وحيث يستخلف ففي المدونة من حضر الخطبة أولى ولأشهب إن قدم غيره ابتدأها أحب إلي.

(ويصلي الإمام ركعتين يجهر فيهما بالقراءة يقرأ في الأولى بالجمعة ونحوها وفي الثانية بـ (هل أتاك حديث الغاشية) ونحوها):

ما ذكر أنه يقرأ في الأولى والثانية بما قال هو خلاف ظاهر المدونة قال فيها يستحب قراءتها بالجمعة ثم بهل أتاك، وروي عن مالك أنه يقرأ في الثانية بسبح فقط وقيل بالمنافقين فقط قيل والأمر فيهما واسع، قاله اللخمي فيتحصل في ذلك خمسة أقوال.

فإن قلت قول ابن الحاجب يستحب في الأولى الجمعة وفي الثانية هل أتاك أو سبح أو المنافقين أليس أنه يقتضي التخيير، قلت قال ابن عبد السلام: هي أقوال فتكون "أو" للتفصيل.

(ويجب السعي إليها على من في المصر ومن على ثلاثة أميال منه فأقل):

ظاهر كلامه وإن كان المصر على ستة أميال فأكثر وهو كذلك رواه ابن أبي

(1/230)

أويس وهو متفق عليه. وظاهر كلامه أنه لا يزاد على ثلاثة أميال شيء، وهو كذلك في رواية أشهب وجعل في المدونة الزيادة اليسيرة عليها كحكمها وكان بعض من لقيته يوجه ذلك لتحقق الثلاثة الأميال، وقيل تجب على من على ستة أميال وقيل تجب على بريد وكلاهما حكاه ابن الحاجب وسلمه ابن عبد السلام.

وقال ابن راشد وابن هارون ولا أعرفهما إلا في إقامة الجمعة بقرية قريبة من الأخرى تصلي فيها الجمعة، وقال الشيخ خليل لعله بنى على أحد القولين في أن لازم القول قول لأنه يلزم من الخلاف المذكور الخلاف فيما ذكره، واختلف في الموضع الذي يعتبر منه التحديد فقال من المسجد، وقال ابن عبد الحكم: من طرف البلد، والمشهور من المذهب عدم تعدد الجمعة في المصر الكبير وقال ابن عبد الحكم: ويحيى بن عمران عظم كمصر فلا بأس بها بمسجدين، وقال ابن القصار إن كان ذات جانبين كبغداد وقال اللخمي إن كثروا بعد من يصلي بأفنيته جاز.

(ولا تجب على مسافر ولا على أهل منى ولا على عبد ولا امرأة ولا صبي):

ما ذكر أنها لا تجب على المسافر هو كذلك باتفاق وما ذكر أنها لا تجب على أهل منى هو كذلك في المدونة وتأولها ابن يونس على غير القاطنين بها وفهمه غيره على العموم، وما ذكر من أنها لا تجب على العبد هو كذلك باتفاق عند ابن حارث، وحكى ابن شعبان فيه خلافا عن مالك، وقال مشهور قول مالك أنها لا تجب وقال أيضًا من قدر على إتيانها من عبد يلزمه ذلك ويقام لها من حانوت ربه، وروى ابن وهب إن قدر عليها عبد فهمي عليه ففهم عنه اللخمي قلنا وتعقبه المازري بأن في رواية ابن شعبان أثر حانوت زيادة، لأنه إذا حضرها صار من أهلها قائلا هذه العلة تدل على عدم وجوبها في الأصل.

قلت ورده بعض شيوخنا بأن ظاهر منطوقه في الوجوب مقدم على المفهوم ولو سلم فأين رده من قوله هو مشهور قول مالك من رواية ابن وهب، وما ذكر في المرأة والصبي متفق عليه ولا معنى لذكر الصبي هنا إذ هو غير مكلف.

(وإن حضرها عبد أو امرأة فليصلها وتكون النساء خلف صفوف الرجال ولا تخرج إليها الشابة):

ما ذكر هو كذلك باتفاق يريد وكذلك إذا حضرها مسافر فإنها تجزئه قاله مالك، ونقل المازري عن ابن الماجشون أنها لا تجزئه لأنه غير مطالب بها والنفل لا

(1/231)

يجزئ عن الفرض ورد بالاتفاق في المرأة والعبد على الإجزاء وزعم ابن عبد السلام أن صلاة المسافر تجزئه اتفاقا وهو قصور.

(وينصت للإمام في خطبته):

ظاهره وإن كان بعيد بحيث لا يسمع صوت الإمام وهو كذلك حكى ابن زرقون عن ابن نافع لا بأس بكلام من لم يسمع صوت الإمام لخبر أو لحاجة، والاتفاق على أنه لا يجوز الكلام حين يجلس الإمام بين الخطبتين، واختلف هل يجوز الكلام فيما بين نزوله عن المنبر والصلاة، على قولين لمالك حكاهما ابن العربي، وخرج بعض شيوخنا عليهما التخطي حينئذ وظاهر كلام الشيخ ولو سب الإمام من لا يجوز سبه أو مدح من لا يجوز مدحه أنه ينصت له في ذلك وهو كذلك قاله مالك.

وقال ابن حبيب حينئذ يجوز الكلام وصوب والإشارة جائزة قاله عيسى بن دينار، وقال الباجي مقتضى المذهب منعها واختلف في خفيف الذكر سرا في نفسه فقال ابن القاسم إنه جائز، وقال ابن عبد الحكم: إنه ممنوع وكلاهما حكاه ابن حارث، ويجوز أن يحمد العاطس في نفسه قاله مالك وقيل يسر بذلك قاله ابن حبيب.

(ويستقبله الناس):

يريد أن ذلك على طريق الوجوب كما هو نص المدونة واسقط اللخمي الاستقبال على من بالصف الأول، وقال الشيخ أبو عبد الله السطي وهو عندي خلاف ظاهر المدونة، واختلف إذا خرج الإمام على الناس ولم يجلس على المنبر هل يجوز الركوع أم لا؟ فقال في المدونة يجلس ولا يركع وفي المختصر جواز الركوع وأما بعد أن يجلس على المنبر فالأكثر على المنع من ذلك، وجوز أبو القاسم السيوري التحية ولو كان يخطب وزعم ابن شاس أن محمد بن الحسن رواه عن مالك.

(والغسل لها واجب والتهجير حسن):

لا يريد بقوله واجب أنه فرض، وإنما يريد به السنة المؤكدة وهو المعروف في المذهب، وقيل إن الغسل مستحب رواه أشهب وقيل هو سنة مؤكدة لا يجوز تركه دون عذر فأخذ اللخمي منه الوجوب ورده المازري بتأثيم تارك السنن، وقال ابن عبد السلام: أطلق عليه في المدونة الوجوب واعترضه بعض شيوخنا بأنه اغترار بلفظ التهذيب، وإنما هو في المدونة لفظ حديث.

قلت: ويجاب بأن اتيان سحنون به دون ما يخالفه دليل على أنه قائل به حسبما

(1/232)

فهمه أهل المذهب عنه في قوله عن ابن مسعود القنوت في الصبح سنة ماضية، وفي قوله عن ابن قسيط الجمع ليلة المطر سنة إلى غير ذلك، وقال اللخمي يجب على من له رائحة يذهبها الغسل ويستحب لغيره فيتحصل في حكم الغسل أربعة أقوال، والمشهور من المذهب أنه عبادة وصفته، وماؤه كالجنابة، وقال ابن شعبان يجوز غسله بماء الورد وعزاه ابن العربي لأصحابنا ويشترط اتصال الغسل بالرواح، وقال ابن وهب أن اغتسل بعد الفجر أجزأه فأخذ منه غير واحد عدم اشتراطه وحمله ابن يونس على أنه وصله بالرواح وقول ابن الحاجب، وقال ابن وهب وغيره موصول يتعقب لأن المنقول عنه إنما هو ما قلناه.

(وليس ذلك في أول النهار):

ما ذكر هو قول مالك وقال ابن حبيب ذلك في أول النهار.

(وليتطيب لها ويلبس أحسن ثيابه وأحب إلينا أن ينصرف بعد فراغها):

يعني أن ذلك على طريق الاستحباب وكذلك يستحب أن يقص شاربه وظفره ويستاك وينتف إبطيه ويستحد إن احتاج قاله ابن حبيب.

(ولا يتنفل في المسجد بعدها وليتنفل إن شاء قبلها ولا يفعل ذلك الإمام وليرق المنبر كما يدخل):

أما الإمام فلا يتنفل إثر الجمعة في المسجد باتفاق واختلف هل يجوز ذلك لغيره أم لا؟ على ثلاثة أقوال: حكاها ابن رشد: فقيل إن ذلك جائز فيثاب إن فعل قاله في سماع أشهب وقيل إن تنفله مكروه فيثاب لتركه ولا يأثم لفعله قاله في أول صلاة المدونة، وقيل يستحب تركه وفعله فيثاب ترك أم صلى قاله في ثاني صلاة المدونة، وعلى القول الثاني فاختلف إذا صلى على جنازة إثر الجمعة فقيل إنه يجوز التنفل وهو حاجز حصين وقيل لا.

(1/233)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في صلاة الخوف

المشهور من المذهب أن صلاة الخوف مشروعة في السفر والحضر، وقال ابن الماجشون في السفر خاصة وقال ابن المواز وأداؤها على صفتها رخصة وتوسعة وقيل سنة ذكره ابن يونس في أول كتاب الصلاة الأول فقال: خمس سنة في فريضة وهي الجمع بعرفة والجمع بمزدلفة والقصر في السفر وصلاة الخوف والجمعة، وعلى الأول فقال ابن المواز لو صلوا جميعا بإمام واحد أو بعضهم بإمام وبعضهم أفذاذا جازت

(1/234)

صلاتهم وأحب إلي أن يفعلوا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم قال اللخمي، ومقتضى هذا جواز صلاة طائفتين بإمامين لأن المخالفة بصلاة بعضهم أشد وضعف المازري قول اللخمي فانظره.

(وصلاة الخوف في السفر إذا خافوا العدو أن يتقدم الإمام بطائفة ويدع طائفة مواجهة العدو فيصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يثبت قائما ويصلون لأنفسهم ركعة ثم يسلمون فيقفون مكان أصحابهم ثم يأتي أصحابهم فيحرمون خلف الإمام فيصلي بهم الركعة الثانية ثم يتشهد ويسلم ثم يقضون الركعة التي فاتتهم وينصرفون هكذا يفعل الإمام في صلاة الفرائض كلها إلا المغرب فإنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة):

يعني بقوله إذا خافوا العدو سواء خافوا على أنفسهم أو على ما لهم ويكفي في ذلك الظن، وما ذكر الشيخ من صفة هي المشهورة في المذهب وقال أشهب ينصرفون قبل الإكمال وجاه العدو فإذا سلم أتمت الثانية صلاتها، وقامت وجاه العدو ثم جاءت الأولى فقضت وعنه فإذا سلم قضوا جميعا وصوبه أبو عمر بن عبد البر، وما ذكره الشيخ من سلام الإمام هو قول مالك الذي رجع إليه وكان يقول لا يسلم بل يشير لتتم الثانية فيسلم بهم والقولان في المدونة.

(وإن صلى بهم في الحضر لشدة خوف صلى في الظهر والعصر والعشاء بكل طائفة ركعتين ولكل صلاة أذان وإقامة):

اختلف إذا صلى بالطائفة الأولى ركعتين فقال ابن القاسم ينتظر الثانية قائما رواه ابن الماجشون عن مالك، وروى ابن وهب ينتظرهم جالسا، وقال اللخمي لم يأت في انتظاره قائما أو جالسا سنة والأحسن الجلوس؛ لأنه أرفق به، وعلى الأول فقال ابن القاسم إن شاء سكت أو دعا، واختلف هل له أن يقرأ أم لا؟ على قولين حكاهما اللخمي وعلى الثاني فهو بالخيار إن شاء سكت أو ذكر الله تعالى، ولو جهل الإمام فصلى بكل طائفة ركعة فصلاة الأولى والثانية في الرباعية باطلة باتفاق، واختلف في غيرها فقيل إنها صحيحة قاله ابن حبيب وقيل إنها باطلة قاله سحنون وصوبه غير واحد لمخالفتهم السنة.

(وإذا اشتد الخوف عن ذلك صلوا وحدانا بقدر طاقتهم مشاة أو ركبانا ماشين أو ساعين مستقبلي القبلة وغير مستقبليها):

(1/235)

لا خلاف أن الأمر كما قال، وذلك إذا خيف خروج الوقت قال ابن هارون والظاهر أنه الضروري، قلت والأقرب أنه الاختياري كالتيمم ولا يبعد أن تكون المسألة ذات قولين كالخلاف في الراعف إذا تمادى به الدم وخاف خروج الوقت فإنه يعتبر الاختياري، ونقل ابن رشد قولا باعتبار الضروري، واختلف إذا انهزم العدو بعد أن صلوا بعضها.

فقال ابن عبدالحكم: يتمونها على الأرض كصلاة الأمن وقال ابن حبيب هم في سعة لأنهم مع عدوهم لم يصلوا إلى حقيقة الأمن، وقيل أن أمنوا كرة العدو فالأول وإلا فالثاني حكاه ابن شاس فذكر الثلاثة الأقوال، واختلف إذا وقع إلا من بعد أن صلوا فقال في المدونة لا إعادة بخلاف من صلى على دابته لخوف لصوص أو سباغ ثم أمن فإنه يعيد في الوقت، وقال المغيرة لا فرق بينهما ويعيد خائف العدو وخائف اللصوص والسباع والفرق بينهما على المشهور من وجهين:

أحدهما: أن خوف العدو متيقن بخلاف اللصوص والسباع ولو استوى الخوف فيهما لا ستوى الحكم.

الثاني: أن العدو يطلب النفس واللص يطلب المال غالبا، وحرمة النفس أقوى وضعف هذا بأن السبع يطلب النفس وقد جعلوه كاللص.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

سمي العيد عيدا لكونه يعود على قوم بالسرور وعلى قوم بالحزن، وقيل لما فيه من عوائد الإحسان من الله تعالى على عباده وقيل تفاؤلا ليعود على من أدركه من الناس كما سميت القافلة في ابتداء خروجها تفاؤلا بقفولها سالمة ورجوعها.

(وصلاة العيدين سنة واجبة):

ما ذكر من أن صلاة العيدين سنة واجبة هو المعروف في المذهب وقال ابن بشير لا يبعد كونها فرض كفاية لأنها إظهار لأبهة الإسلام، ونقل ابن الحارث عن ابن حبيب انها واجبة على كل من عقل الصلاة من النساء والعبيد والمسافرين إلا أنه لا خطبة عليهم، وناقض بعض شيوخنا نقل ابن حارث هذا بقوله أول الباب اتفقوا على أنها لا تجب على النساء إلا على أهل القرى البعيدة عن الحواضر ولما ذكر ابن عبد السلام القول بالسنة قال: وذهب بعض الأندلسيين إلى أنها فرض كفاية وسلمه خليل وقال بعض شيوخنا لا أعرفه إلا لمن ذكر، فإن قلت ما ذكره نقله ابن رشد في

(1/236)

المقدمات عن ابن زرقون وقال صلاة العيدين سنة وقد قيل فيهما إنهما واجبتان فالسنة على الكفاية، وإليه كان يذهب شيخنا ابن زرقون والأول هو المشهور والمعروف أنهما سنتان على الأعيان، قلت ما ذكرتموه كان يذهب إليه بعض من لقيته والذي أقول به أن كلام ابن رشيد ليس فيه خلاف لما ذكر لأن قوله والمعروف أنهما سنتان على الأعيان يقتضي أن القول الآخر سنتنان على الكفاية، فيحتمل أن يكون الخلاف عنده هل هما سنتان على الأعيان أو سنتان على الكفاية؟ والله أعلم.

(يخرج لها الإمام والناس ضحوة بقدر ما إذا وصل حانت الصلاة):

يريد فيمن قربت داره، أما من بعدت فيخرج قبل ذلك. قال مالك في سماع أشهب ويؤتي إليها من ثلاثة أميال كالجمعة، ولو تركها أهل بلد فإنهم لا يقاتلون عليه قاله ابن العربي، قلت ولا يعارض هذا بقول أصحابنا إن ترك الأذان أهل بلد قوتلوا لأن الأذان آكد يعارضه عموم قول ابن خويز منداد ترك السنة فسق وإن تمادى عليه أهل بلد حوربوا.

نقله المازري عند تكلمه على حكم الوتر قال صاحب الصحاح الضحوة إذا بزغت الشمس، ثم بعده الضحى مقصور وهو إذا أشرقت الشمس، ثم بعده الضحاء ممدود وهو إذا ارتفع النهار الأعلى، والصحراء أفضل من المسجد إلا بمكة قال ابن بشير لئلا يخرجوا عن الحرم والحرم أفضل من خارجه، واعترضه التادلي بأنه يلزم عليه أن لا تقام خارج مسجد المدينة. وقد أقامها صلى الله عليه وسلم خارجه بالمصلى وإنما لعلة – والله أعلم- أن في صلاتها في المسجد الحرام مشاهدة البيت وهي عبادة لما خرجه الحافظ أبو عبد الله محمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل كل يوم على البيت مائة وعشرون رحمة ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين" وهذه الخصوصية مفقودة في غيره من المساجد، وما ذكره التادلي من الإلزام مثله لخليل قال انظر قولهم هنا إنهم لا يخرجون من مكة، وتعليلهم ذلك بأمرين زيادة الفضل والقطع بجبهة القبلة وقد ثبت إلغاؤهما معا في المدينة واللازم أحد أمرين إما أن يخرجوا من مكة وإما أن يصلوا بمسجد المدينة.

(وليس فيها أذان ولا إقامة فيصلي بهم ركعتين):

الأصل في ذلك ما رواه جابر بن سمرة قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد بلا

(1/237)

أذان ولا إقامة قال أبو عمر بن عبد البر وهذا خلاف فيه بين أئمة المسلمين وإنما أحدث فيه الأذان والإقامة بنو أمية، واختلف في أول من فعل ذلك فقيل معاوية وهو الصحيح، وقيل زياد وقيل: بنو مروان.

ولما ذكر ابن عبد السلام أنه لا يؤذن لغير الفرائض باتفاق قال بإثره وحكى زياد النداء للعيدين:

قلت: إن عنى بالنداء الأذان حقيقة فهو ينقض الاتفاق الذي ذكر، وإن عنى به الصلاة جامعة مثلا فهما مسألتان لا تناقض، والذي تلقيناه من شيوخنا إن مثل هذا اللفظ بدعة لعدم وروده.

(يقرأ فيهما جهرا بأم القرآن (سبح اسم ربك الأعلى) و (الشمس وضحاها) ونحوهما):

ما ذكر الشيخ من القراءة هو المشهور وروى على بـ (والليل إذا يغشى) و (الشمس وضحاها) ونحوهما نقله أبو محمد قال ابن حبيب بـ (ق) و (اقتربت)، واختار ابن عبد البر يقرأ بسبح والغاشية وبه قال أبو حنيفة فيتحصل في ذلك أربعة أقوال.

(ويكبر في الأولى سبعا قبل القراءة يعد فيها تكبيرة الإحرام وفي الثانية خمس تكبيرات لا يعد فيها تكبيرة القيام وفي كل ركعة سجدتان ثم يتشهد ويسلم ثم يرقى المنبر ويخطب):

ما ذكر هو مذهبنا فإن كبر الإمام أكثر من سبع أو خمس فإنه لا يتبع قاله أشهب ومن لم يسمع تكبيرة الإمام فإنه يتحرى ويكبر قاله ابن حبيب.

قلت: ولا يتخرج أنه يتحرى من أحد القولين في التأمين لأن التكبير آكد منه.

واختلف في رفع اليدين فمذهب المدونة أنه يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام خاصة، وروى مطرف وابن كنانة أنه يرفع في الجميع وفي المجموعة إن شاء رفع يديه في الأولى خاصة وإن شاء في الجميع.

وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يتخرج قول بعدم الرفع في الجميع لقوله الخلاف

(1/238)

في الرفع هنا يشبه الخلاف في الرفع في صلاة الجنازة.

ومن نسي التكبير حتى أكمل القراءة فإنه يتداركه ما لم يركع ويعيد القراءة إذ من سنتها أن تكون بعد التكبير، وحكى ابن الحاجب قولا بأنه لا يعيدها ونصه ويعيد القراءة على الأصح، قال بن هارون ولم أر ذلك لغيره.

قلت: هذا منه رحمه الله قصور إذ هو في ابن بشير قال في المدونة ويسجد بعد السلام.

وقال فيمن قدم السورة على أم القرآن يعديها بعدها واختلف هل عليه سجود بعد السلام أم لا؟ على قولين، فعلى القول بنفي السجود يكون معارضا لهذه المسألة قال اللخمي يتخرج فيها القولان، وفرق غيره بينهما بأن مسألة تقديم السورة قدم قرآنا على قرآن فلا سجود عليه، وفي مسألة العيد قام قرآنا على غير قرآن فكان عليه السجود، قال خليل وانظر ما في المدونة ما الفرق بينهما وبين من زاد السورة في الثالثة والرابعة فإنه لا يسجد قال: وقد فرق بينهما بأن زيادة السورة في الثالثة والرابعة قد استحبها بعض الأشياخ فيراعي قوله.

(ويجلس في أول خطبته ووسطها ثم ينصرف):

أما جلوسه في وسط خطبته فبالاتفاق عليه وكذلك في أولها على المشهور، وفي كتاب أبي الفرج لا يجلس لأن جلوس الجمعة للأذان ولا أذان هنا، ويستفتح الخطبة بسبع تكبيرات متواليات واستحب مطرف وابن الماجشون تسعا في الأولى وسبعا في الثانية وكلما تمت كلما كبر ثلاثا.

قالا: وبذلك استمر العمل عندنا ولم يحد مالك التكبير في أول الخطبتين ولا خلالهما لعدم وروده، واختلف هل الإقلال منه أحسن أو الإكثار؟ فقال مالك في المبسوط يستفتح الخطبة بالتكبير ثم يكبر تكبيرا كثيرا وفي الثانية أكثروا وقال المغيرة كنا نعد الإكثار منه عيا وفي تكبير الحاضرين بتكبيره قولان لمالك والمغيرة.

وقول الشيخ ثم ينصرف يعني إن شاء، وله أن يقيم بمكانه وهل له أن يتنفل قبل أو بعد أم لا؟ أما الصحراء فإنه لا يتنفل فيها بالإطلاق عند الأكثر اتفاقا وقال عياض عن ابن وهب يتنفل بعدها لا قبلها، وقال ابن أبي زمنين يجوز مطلقا لغير الإمام وله يكره وأما في المسجد فثالثها يتنفل بعدها حكاه غير واحد واستحب ابن حبيب أن لا

(1/239)

يتنفل إلى الزوال فعلى هذا لا يتنفل في منزله إذا رجع.

(ويستحب له أن يرجع من طريق غير الطريق التي أتى منها والناس كذلك):

الأصل في ذلك فعله عليه الصلاة والسلام حسبما رواه جابر قال ابن القصار، واختلف في تأويله فقيل لأنه كان يسأل في طريقه عن أمور الدين فيرجع من غيره ليسأله أهل الطريق الثاني، وقيل لينال أهل الطريق الثاني من النظر إليه والتبرك به والسلام عليه مثل ما نال الأولون.

وقيل لتنتشر أصحابه بالمدينة ويكثروا في عين العدو وقيل لتكثير خطاه فيكثر ثوابه وقيل لتتسع الطريق بالناس، وقيل من أجل الصدقة التي كانت تفرق على الفقراء، وقال الأبهري والقاضي عبد الوهاب ذكر في ذلك معان أكثرها دعاوى فارغة وليس فيها إلا الاقتداء ذكره ابن عات.

وسئل مالك عن قول الرجل لأخيه في العيد تقبل الله منها ومنك، وغفر لنا ولك، قال لا أعرفه ولا أنكره.

قال ابن حبيب لم يعرفه سنة ولم ينكره على من قاله لأنه قول حسن، ورأيت من أدركنا من أصحابنا لا يبدءون به ولا ينكرونه على من قاله لهم ويردون عليه مثله قال ولا باس عندي أن يبدأ به.

قلت: وكان بعض من لقيته من القرويين وهو الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله الشبيبي يفتي إلى أن مات بأن الابتداء به واجب فأحرى الرد به قائلا لما يؤول إليه الأمر من الغيبة والفتنة إن لم يفعل ذلك حسبما هو مشاهد.

(وإن كان في الأضحى خرج بأضحيته إلى المصلى فذبحها أو نحرها ليعلم ذلك الناس فيذبحون بعده):

المطلوب أن يخرج الإمام أضحيته للمصلى كما قال وهل ذلك مستحب أم لا؟ فقيل إن ذلك مستحب على ظاهر رواية محمد في قوله الصواب ذبح الإمام بالمصلى بعد نزوله عن المنبر ثم يذبح الناس في منازلهم، ومن شاء ذبح بالمصلى بعد ذبح الإمام وللإمام تأخير ذبحه إلى داره.

وقال ابن رشد: السنة ذبحه بالمصلى فظاهره كما قيل كراهة ذبحه بمنزله قال ابن الحاجب: فإن لم يبرزها ففي الذبح قبله قولان، ولو توانى فظاهره أن الخلاف فيه ابتداء والذي يحكيه غير واحد إنما هو بعد الوقوع فيمن ذبح قبله بحيث لو ذبح الإمام

(1/240)

في المصلى كان يذبح هذا بعده.

(وليذكر الله عز وجل في خروجه من بيته في الفطر والأضحى جهرا حتى يأتي المصلى الإمام والناس كذلك):

لا خلاف أن الأمر كما قال إذا خرج بعد طلوع الشمس، واختلف إذا خرج قبل الطلوع على ثلاثة أقوال: فقيل يكبر وقيل لا يكبر والقولان لمالك الأول منهما في المبسوط، والثاني في المجموعة، وفهم اللخمي المدونة عليه وسلمه خليل وقيل إن أسفر كبر وإلا فلا، قاله ابن حبيب وسأل سحنون ابن القاسم: هل عين مالك التكبير؟ فقال: لا وما كان مالك يحد في مثل هذا شيئا واختار ابن حبيب التكبير أيام التشريق دبر الصلوات وهو الذي نص عليه مالك في مختصر ابن عبد الحكم وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وزاد على هذا اللهم اجعلنا لك من الشاكرين وزاد أصبغ عليه الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال: وما زدت أو نقصت أو قلت غيره فلا حرج.

(فإذا دخل الإمام للصلاة قطعوا ذلك):

يريد الشيخ بقوله للصلاة أي محل الصلاة وليس مراده إذا كبر تكبيرة الإحرام قطعوا، وما ذكرناه من التأويل هو قول ابن مسلمة، ورواه أشهب عن مالك وقيل إذا وصل إلى المصلى قطعوا قاله مالك أيضًا.

ونقل التادلي عن صاحب الحلل أن الناس افترقوا بالقيروان في المصلى فرقتين للذكر بمحضر أبي عمران الفاسي وأبي بكر بن عبد الرحمن؛ فإذا فرغت إحداهما من التكبير سكتت وأجابت الأخرى بمثل ذلك فسئلا عن ذلك فقالا إنه لحسن.

قلت: واستمر العمل على ذلك عندنا بإفريقية بمحضر غير واحد من أكابر الشيوخ.

(ويكبرون بتكبير الإ مام في خطبته وينصتون له فيما سوى ذلك):

ما ذكر من أن الحاضرين يكبرون بتكبيره هو قول مالك في المبسوط، وقال المغيرة لا يكبرون، ووجه بأن ذلك مخافة أن يتصل ذلك فيمتنع الإنصات وما ذكر أنه ينصتون فيما سوى ذلك هو قول مالك في سماع ابن القاسم، وروى أشهب وغيره ليس الكلام فيهما كالجمعة.

(1/241)

(فإن كانت أيام النحر فليكبر الناس دبر الصلوات من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح في اليوم الرابع منه وهو آخر أيام منى يكبر إذا صلى الصبح ثم يقطع):

حكم التكبير الاستحباب ولا أعلم فيه خلافا، وانظر هل يتخرج فيه قول بالسنية من أحد القولين أن من نسيه يكبره متى ما ذكره حسبما نقله المازري أم لا؟ وما ذكر الشيخ من أنه يقطع إذا صلى الصبح هو المشهورن وقيل يكبر ستة عشرة فيقطع إذا صلى الظهر نقله هو رحمه الله عن ابن الجهم وعزاه غيره لبعض أصحاب سحنون وظاهر قوله أنه لا يكبر عقب النوافل لقوله: من صلاة الظهر إلى صلاة الصبح وهو كذلك في القول المشهور قاله الفاكهاني في شرح العمدة.

وقيل: يكبر عقبها رواه الواقدي وظاهر كلامه أيضًا أن النساء يكبرن كغيرهن وهو المعروف، وفي المختصر لا يكبرن وظاهر كلامه ولا يكبر في غير دبر الصلوات وهو كذلك، وروي عن مالك أنه يكبر في دبر الصلوات وفي الطريق وفي غير ذلك، قال في المدونة ومن نسي تكبيرالعيدين رجع فكبر إن قرب وإن بعد فلا شيء عليه، وتقدم نقل المازري القول الثاني ولو ترتب على المصلي سجود السهو بعد السلام فإن التكبير يؤخر.

(والتكبير دبر الصلوات الله أكبر الله أكبر وإن جمع مع التكبير تهليلا وتحميدا فحسن يقول إن شاء ذلك الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وقد روي عن مالك هذا والاول وكل واسع والأيام المعلومات: أيام النحر الثلاثة والأيام المعدودات: أيام منى وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر):

بقي عليه رواية ابن القاسم في المدونة بعدم التحديد قال عياض والمشهور التحديث بالثلاث.

(والغسل للعيدين حسن وليس بلازم):

ما ذكر الشيخ مثله في المدونة ونصها: وغسل العيدين حسن وليس كوجوبه في الجمعة وظاهره الاستحباب، وحكى ابن بشير قولا بأنه سنة ومثله لابن يونس قال المسنون من الغسل خمسة: غسل الجمعة، وغسل العيدين، والإحرام والطواف والوقوف بعرفة واختار اللخمي مساواته لغسل الجمعة وغسل العيدين، لقوله عليه السلام وهو في الموطأ: "إن هذا يوم جعله الله عيدا للمؤمنين فاغتسلوا له" فأمر بغسل الجمعة لشبهها بالعيد وأوجبه على ذي رائحة خبيثة أحب لشهود العيد، قال ابن حبيب

(1/242)

وأفضله بعد صلاة الصبح، وفي المختصر وسماع أشهب وابن نافع هو قبل الفجر واسع قال ابن زرقون ظاهره ولو غدا بعد الفجر وقال ابن رشد لم يشترط فيه اتصاله بالغد ولأنه مستحب غير مسنون.

(ويستحب فيهما الطيب والحسن من الثياب):

ما ذكره هو المذهب وقال ابن الحاجب: ومن سنتهما الغسل والطيب والتزين باللباس، واعترضه ابن هارون بأن المنصوص لمالك أن الطيب والتزين باللباس مستحب قلت: ويجاب عنه بأنه أراد ومن طريقها؛ لأن السنة قد تطلق على الطريقة التي هي أعم من الفضيلة والسنة والله أعلم.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في صلاة الخسوف

قيل أن الخسوف، والكسوف بمعنى واحد وهو ذهاب نور أحد النيرين أو بعضه وقيل بمعنيين، واختلف القائلون بذلك فقيل الكسوف في الشمس والخسوف في القمر وحكي عن بعض أهل اللغة عكسه وضعف بقوله تعالى (وخسف القمر) [القيامة: 8]

وقيل الكسوف ذهاب البعض والخسوف ذهاب الجميع.

(وصلاة الخسوف سنة واجبة):

ويريد بقوله واجبة أي مؤكدة وما ذكره هو كذلك باتفاق في خسوف الشمس وفي خسوف القمر عن ابن الجلاب واللخمي وقيل ذلك فضيلة، وروي عن مالك وبه قال أشهب ومثله في التلقين.

(إذا خسفت الشمس خرج الإمام إلى المسجد فافتتح الصلاة بالناس بغير أذان ولا إقامة ثم قرأ قراءة طويلة سرا بنحو سورة البقرة ثم ركع ركوعا طويلا نحو ذلك ثم يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده ثم يقرأ دون قراءته أولا ثم يركع نحو قراءته الثانية ثم يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده ثم يسجد سجدتين تامتين ثم يقوم فيقرأ دون قراءته التي تلبي ذلك ثم يركع نحو قراءته ثم يرفع كما ذكرنا ويقرأ دون قراءته هذه ثم يركع نحو ذلك ثم

(1/243)

يرفع كما ذكرنا ثم يسجد كما ذكرنا ثم يتشهد ويسلم):

ما ذكر من أنها تصلي في المسجد مثله في المدونة وحكى ابن حبيب عن أصبغ أنه واسع أن يخرج لها إلى المصلى، وقال اللخمي إن كان المصر كبيرا ففي المسجد مخافة أن يشق الخروج على كثير منهم، وقد ينجلي الكسوف قبل وصولهم إلى المصلى وإن كان صغيرا، فذلك واسع؛ لأن الشأن في السنن أن تقام خارج المصر.

وظاهر كلام الشيخ أن الجماعة لا يشترط فيها عدد محصور كالجمعة وهو كذلك وفي رواية ابن شعبان إذا كانت قرية فيها خمسون رجلا ومسجد تصلى فيه الجمعة فلا بأس أن يجمعوا صلاة الخسوف قال اللخمي فأجزاها في ذلك مجرى الجمعة، قال ابن الحاجب: ويصليها كل مصل حاضر أو مسافر وغيرهما واعترض بأن قوله غيرهما يرجع لإحداهما، وأجيب بأن المراد به البدوي من أهل العمود لأنه ليس بحاضر ولا وجبت عليه الجمعة ولا مسافر وإلا قصر الصلاة، وهذا الجواب نقله ابن هارون ولم يعزه وعزاه لشيخه رحمه الله تعالى، وقد علمت ما فيه وما ذكر الشيخ من أنه لا يؤذن لها ولا يقيم هو المذهب، ونقل ابن هارون عن بعض أصحابه أنه لو نادى مناد الصلاة جامعة لم يكن به بأس، وهو مذهب الشافعي وما ذكر من أنها تقرأ سرا المشهور، وروى الترمذي عن مالك أن قراءتها جهرا واختاره اللخمي لثبوته عنه عليه السلام في مسلم والبخاري. وبالقياس على السنن التي يؤتى بها نهارا كالعيدين، وما ذكر من صفتها هو قول الأكثر واختار القاضي عبد الوهاب أن الإمام يطيل بحسب من خلفه والمشهور أنه يعيد الفاتحة في القيام الثاني والرابع، خلاف لابن مسلمة ويطيل السجود مثل الركوع، وفي المختصر لا يطيل السجود ولا الفصل بين السجدتين وهو ظاهر كلام الشيخ.

(ولمن شاء أن يصلي في بيته مثل ذلك أن يفعل):

يعني أن الجماعة فيها إنما هي مستحبة وقال ابن حبيب من شرطها الجماعة فمن فاتته صلاة الإمام فليس عليه أن يصليها، وأول وقتها حين تحل النافلة باتفاق واختلف في آخر وقته على أربعة أقوال: فقيل إلى الزوال، وروى ابن وهب إلى صلاة العصر وكلاهما في المدونة، وقيل إلى الاصفرار قاله غير واحد، وقيل إلى الغروب حكاه ابن الجلاب والقاضي عبد الوهاب.

(وليس في صلاة خسوف القمر جماعة وليصل الناس عند ذلك أفذاذا والقراءة فيها

(1/244)

جهرا كسائر ركوع النوافل):

ما ذكر أنها تصلى أفذاذا هو المشهور، وقال أشهب لا يمنعون من الجمع لها واختاره اللخمي، وبه قال الشافعي وما ذكر من أنها كسائر النوافل هو قول مالك، وقال الشافعي بل هي كصلاة كسوف الشمس للحديث: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" فسوى بينهما وفعله عثمان وابن عباس، وبه قال أحمد واسحاق وداود والطبري وسائر المحدثين وبهذا القول أخذ عبد الملك بن الماجشون إلا أنه يقول تصلى أفذاذا.

(وليس في إثر صلاة خسوف الشمس خطبة مرتبة ولا بأس أن يعظ الناس ويذكرهم):

ما ذكره هو قول مالك قائلا يحضهم على الصدقة والعتق وقال أبو حنيفة والشافعي: يخطب لها كالجمعة والعيدين والاستسقاؤ لقوله في الحديث: خطب ناس، وقد ألف لها الشيخ أبو الطاهر محمد بن عبد الرحمن خطبتين.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في صلاة الاستسقاء

(صلاة الاستسقاء سنة تقام):

ما ذكر من أنها سنة هو نص المدونة رواية ابن عبد الحكم قال اللخمي وذلك لجدب أو شرب ولو لدواب بصحراء وسفينة، وقلة النهر كقلة المطر قال أصبغ استسقى بمصر للنيل خمسة وعشرين يوما متوالية وحضرها ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون، قال اللخمي والاستسقاء لسعة خصب مباح ولنزول الجدب بغيرهم مندوب إليه لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة: 2]

ولقوله عليه

(1/245)

الصلاة والسلام "من استطاع منكم أن ينفع أخاه المؤمن فليفعل" ولقوله: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة" ورده المازري بأنه بالدعاء لا بالصلاة، وأما إقامة الصلاة على سنتها في مثل هذا فلم يقم عليه دليل قال: وفي ذلك عندي نظر وتبعه ابن الحاجب قال وفي إقامة المخصبين لها لأجلهم نظر.

(ويخرج لها الإمام كما يخرج للعيدين ضحوة):

اعلم أنه اختلف في خروج أربعة، الأول: من لا يعقل الصلاة من الصبيان يمنع في المدونة خروجهم وأجازه غيره والثاني: أهل الذمة قال في المدونة ولا يمنعون من الخروج ومنعه أشهب في مدونته وصوبه بعض شيوخنا قائلا: إذ لا يتقرب إلى الله تعالى بأعدائه، وقد قال بعض الناس من أعظم العار أن يتوسل إلى الله بأعدائه، وعلى الأول، فقال ابن حبيب يخرجون وقت خروج الناس، ويعتزلون في ناحية ولا يخرجون قبل الناس ولا بعدهم لئلا يوافقوا نزول المطر فيكون ذلك فتنة لضعفة الناس.

وقال عبد الوهاب يجوز انفرادهم بالخروج، الثالث: خروج المرأة الشابة فتخرج إن كانت غير حائض وروى اللخمي يكره لها ولا تمنع وأما الحائض فلا تخرج باتفاق، وكذلك من يخشى من خروجها الفتنة فإنها تمنع باتفاق قاله ابن حبيب، الرابع: البهائم قال اللخمي: على قول المدونة تمنع الحائض كما يمنع من خروج البهائم، وأجاز ذلك موسى بن نصير حين استسقى بأهل القيروان فخرج إلى المصلى، وفرق بين الولدان وأمهاتهم وأخرج البهائم على حدة قال ابن حبيب فر أيت المخزومي وغيره من علماء المدينة يستحسنون ذلك، ويقولون إنما أراد بإخراج المواشي وتفرقة الولدان من الأمهات أن يستدعي بذلك رقة قلوب الناس والاجتهاد في الدعاء.

واختلف في وقت صلاة الاستسقاء على ثلاثة اقوال: فقيل تصلى ضحوة فقط نقله الباجي عن المدونة، وقيل إلى الزوال قاله ابن حبيب، وقيل تصلى في كل وقت ولو بعد الغروب والصبح قاله في سماع أشهب، وتأوله ابن رشد على الدعاء ورده ابن زرقون بأنه خلاف الظاهر وتردد سند في قول ابن حبيب هل هو تفسير لما في المدونة، أو خلاف؟ وقطع خليل بأنه تفسير لكون عبد الوهاب وابن الجلاب وغيرهم لم يذكروا غيره وقطع بعض شيوخنا بأنه خلاف كما قلناه.

(فيصلى بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها وفي كل ركع سجدتان وركعة واحدة ويتشهد ويسلم):

(1/246)

ما ذكر من كونها ركعتين جهرا هو كذلك باتفاق ودليله حديث عباد بن تميم قال "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقى فتوجه إلى القبلة قائما يدعو وقلب رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ثم انصرف " خرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم إلا أن ظاهر هذا الحديث يقتضي أن الخطبة قبل الصلاة وهو مروي عن مالك والمشهور عنه عكسه، قال أشهب.

واختلف في ذلك الناس، واختلف النقل عنه عليه السلام في ذلك ونقل خليل قولا بأنه لا خطبة فيها وما ذكر من أنه يقرأ فيها بما قال عليه العمل عندنا وقال في المدونة يقرأ بسبح ونحوها.

وقال اللخمي يقرأ بسورة من قصار المفصل وأجاز في المدونة التنفل قبلها وبعدها، وفي المذهب قول بعكسه وكل هذا بالمصلى وأما في المسجد فالاتفاق على الجواز.

(ثم يستقبل الناس بوجهه فيجلس جلسة فإذا اطمأن الناس قام متوكئا على قوس أو عصا فخطب ثم جلس ثم قام فخطب فإذا فرغ استقبل القبل فحول رداءه يجعل على منكبه الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن ولا يقلب ذلك):

ما ذكر من أنه يجلس جلسة هو المشهور، وقيل لا يجلس لأن الجلوس في الجمعة إنما كان للأذان وما ذكر من أنه يجلس ثانيا هو كذلك خلافا لمحمد بن مسلمة وبه قال أبو يوسف وأبو مهدي ولا يخرج لها بمنبر ولا يدعو في خطبته لأمير المؤمنين، وروي أن موسى بن نصير لما خطب لم يدع لعبد الملك بن مروان، فقيل له مالك لم تدع لأمير المؤمنين؟ فقال ليس هذا يوم ذلك، ويجعل الخطيب بدل التكبير الاستغفار لقوله تعالى فقلت: (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا) [هود: 52]

وانظر هل يقول المأمومون مثل قول الإمام في الاستغفار أم لا؟ والأقرب أنه يجري على الخلاف في تكبيرهم بتكبير الإمام في خطبته للعيدين والله أعلم، ثم وقفت عليه لخليل، قال ينبغي أن يسغفروا إذا استغفر كتكبيرهم في العيدين وما ذكر من تحويل الرداء إنما هو بعد الفراغ من الخطبة مثله في المدونة.

(1/247)

وفي المجموعة محله بين الخطبتين وقيل في أثناء خطبته وقال أصبغ: إذا أشرف على الفراغ منها، وصفة التحويل هو أن يحول ما يلي ظهره إلى السماء وما على الأيمن على الأيسر ولا يجعل أعلاه أسفله قاله في المدونة، وقال ابن الجلاب له قلبه فيجعل أسفله أعلاه.

(وليفعل الناس مثله وهو قائم وهم قعود ثم يدعو كذلك ثم ينصرف وينصرفون):

ما ذكر مثله في المدونة وقال محمد بن عبد الحكم لا يحولون واختاره اللخمي، وبه قال الليث بن سعد، ويريد الشيخ بقوله يحول الناس غير النساء لأن تحويلهن كشف في حقهن ونص عليه عبد الملك بن الماجشون، وقال ابن عيشون: من كان عليه برنس أو غفارة حوله يريد يخلع ثم يحول ثم يلبس.

(ولا يكبر فيها وفلا في الخسوف غير تكبيرة الإحرام والخفض والرفع ولا أذان فيها ولا إقامة):

ما ذكر هو مذهبنا وقال الشافعي يكبر كتكبير العيدين وهو قول ابن عباس وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

قال بعض الشيوخ: الاحتضار عبارة عن قرب الأجل ودنوه وسمي بذلك إما لحضور أجله وإما لحضور الملائكة، قال ابن العربي في القبس: الموت ليس بعدم محضر ولا فناء صرف، وإنما هو تبدل حال بحال وانتقال من دار إلى دار ومن غفلة إلى ذكر ومن نوم إلى يقظة ولو لم يكن الامر كذلك لكان الخلق عبثا. ثم قال أيضًا جبل الله الخلق على حب الدنيا وبغض الموت فمن كان ذلك منه ركونا إلى الدنيا وحبالها وإيثارا لها فله الويل الطويل، وإن كان خوفا من ذنوبه ورغبة في عمل صالح يحصله فله البشرى والمغفرة والنعيمن وإن كان حياء من الله تعالى لما ارتكب من الذنوب فالله تعالى: أحق أن يستحيا منه فعلى هذه الأحوال يتنزل قوله عليه السلام مخبرا عن الله تعالى: "إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه وإذا كره عبدي لقائي كرهت لقاءه".

قلت: وفي كلامه نظر لأن كل مؤمن لا يؤثر الدنيا على الآخرة أصلا نعم لخوفه من ذنوبه، يطلب طول البقاء في الدنيا لعله يحصل على نصيب وافر من طاعة ربه ليكون ذلك سببا لمغفرة ذنوبه، وأما أنه يؤثر الدنيا لذاتها على الآخرة فالذي أتحققه أنه

(1/248)

لا يوجد فيمن له مطلق عقل والله أعلم.

(ويستحب استقبال القبلة بالمحتضر وإغماضه إذا قضى):

ما ذكر من أن استقبال القبلة بالمختصر مستحب هو المعروف في المذهب وقيل إنه مكروه، وعلى ظاهر قول مالك من رواية ابن القاسم قال ما أعلم إلا من الأمر القديم وذكره ابن رشد من رواية علي، واختلف في تعليل الكراهة على ثلاثة أقول: فقال ابن حبيب إنما ذلك لأنهم كانوا يستعجلون به قبل نزول أسباب الموت ولا ينبغي لأهله أن يوجهوه حتى يغلب عليه ويوقن بالموت.

وقال ابن بشير: إنما الكراهة لخوف التحديد فيعتقد أنه فرض أو سنة، وقال ابن رشد: إنما كرهه لأنه لم يرو أنه فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بأحد من أصحابه، ورده بعض شيوخنا بما في النوادر عن ابن حبيب، روي التوجه إلى القبلة عن علي بن أبي طالب وجماعة من السلف رضي الله عنهم وعلى المعروف روى ابن القاسم وابن وهب على شقه الأيمن فإن عجز فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة وخرج من المريض يصلي على ظهره كونه على ظهره وما ذكر من أن إغماضه مستحب هو نقل الأكثر، وقال ابن شعبان إغماضه سنة وفائدة إغماضه ستر شناعة منظره لو لم يغمض فإذا غمض بقي كالنائم.

(ويلقن لا إله إلا الله عند الموت):

يعني أن ذلك مستحب كما صرح به غيره، والأصل في ذلك ما أخرجه الترمذي ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله محمد رسول الله" قال عبد الحق فيه حسن صحيح، قال المازري: في المعلم الأمر بالتلقين يحتمل أمرين: إما أن يكون لاعتراض الشيطان لإفساد عقيدة الإنسان في حالة الاحتضار، وإما أن يكون رغبة في أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله فيحصل له ما وعد به في الحديث الآخر وهو قوله: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، قلت: والصواب التعليل بهما معا، وذهب بعض من لاقيناه إلى أن معنى قول الشيخ ويلقن لا إله إلا الله أن ذلك ترجمة والمراد لا إله إلا الله محمد رسول الله لقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ومثله

(1/249)

للفاكهاني ونقله خليل عن ابنه فقط وهو قصور ولا يكثر عليه من التقلين، فإن قالها مرة ثم تكلم أعيدت عليه وإن لم يتكلم ترك والمطلوب أن لا يلقنه أعدى الناس إليه إلا من يحبه، فظاهر كلام الشيخ أن الصغير يلقن كغيره وهو ظاهر كلام غيره.

وقال النووي: لا يلقن إلا من بلغ، قال التادلي: وظاهر كلام الشيخ أنه لا يلقن بعد الموت، وبه قال عز الدين وحمل قوله: "لقنوا موتاكم" على من دنا موته وهو بدعة إذ لم يصح فيه شيء.

وقال النووي في فتاويه: وأما التلقين المعتاد في الشام بعد الدفن فالمختار استحبابه، وقد استحبه من أصحابنا القاضي حسين وأبو الفتح الزاهد وأبو الرافع المتيوي فيستحب أن يجلس إنسان عن رأس الميت عقب دفنه: يا فلان ابن فلانة أو يا عبد الله أو يا أمة الله اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا وهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن البعث حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور رضين بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، وبالقرآن إماما وبالمؤمنين إخوة وبالكعبة قبلة الله ربي لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم. وسئل عنه أبو بكر بن الطلاع فقال هو الذي نختار ويعمل به، وقد روينا فيه حديثا عن أبي أمامة ليس بقوي السند ولكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام به قديما.

(وإن قدر على أن يكون طاهرا وما عليه طاهر فهو أحسن):

يريد وكذلك ما تحته، ويستحب تقريبه الطيب ولو بخورا وسمع ابن القاسم وأشهب البخور من عمل الناس.

(ويستحب أن لا يقربه حائض ولا جنب):

ما ذكر الشارح هو أحد القولين، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس بإغماض الحائض والجنب، وقال اللخمي اختلف في تجنبه الحائض والجنب والمنع أحسن، ونقل التادلي قولا بالفرق بين الحائض فتغمضه لأنها لا تملك طهرها بخلاف الجنب وكل هذا الخلاف بحيث يكون غيرهما، أما مع الفقد فالاتفاق على أنهما كغيرهما للضرورة.

(وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرًا معمولا به):

قال التادلي: المراد ببعض العلماء هو ابن حبيب وكذلك حيث ما أطلقه في كتابه

(1/250)

وخرج أبو داود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرءوا يس عند موتاكم" قال النووي في إسناده ضعف وفيه رجلان مجهولان.

قلت: وظاهر كلام الشخي أن الخلاف إنما في القراءة بسورة يس أما القراءة بغيرها فالاتفاق على أنها غير مشروعة هنا، وهو كذلك وظاهر كلام ابن الحاجب أن الخلاف عموما، وذلك أنه لما ذكر الخلاف بالاستحباب والكراهة في توجيه المحتضر قال، وكذلك قراءة شيء من القرآن عنده ونبه على هذا ابن عبد السلام.

(ولا بأس بالبكاء بالدموع حينئذ وحسن التعزي والتصبر أجمل لمن استطاع وينهى عن الصراخ والنياحة):

اعلم أن قول الشيخ بالدموع تأكيد وتبيين لئلا يحمل على الحزن والتنوين في قوله حينئذ عوض من الإضافة والتقدير والبكاء حين الاحتضار، وذلك قبل الموت فإذا مات نهي عنه حينئذ قاله الفاكهاني.

وقال الشيخ أبو محمد عن ابن حبيب: البكاء قبل الموت وبعده مباح بلا رفع صو ت ولا كلام يكره ولا اجتماع نساء. انتهر عمر بن الخطاب نساء يبكين على ميت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهن يا ابن الخطاب فإن العين دامعة والنفوس مصابة والعهد حديث" ويكره اجتماعهن للبكاء ولو سرا ونهاهن عمر عند موت أبي بكر رضي الله عنه أن يبكين وفرق جمعهن، وكذلك في موت خالد ونهي صلى الله عليه وسلم عن لطم الخدود وشق الجيوب وضرب الصدور والدعاء بالويل والثبور.

وقال: "ليس منا من حلق ولا من خرق ولا من دلق ولا من سلق" والحلق حلق الشعر والخرق خرق الثياب والدلق ضرب الخدود والسلق الصياح بالبكاء وقبيح القول.

(وليس في غسل الميت حد ولكن ينقى):

اختلف في غسل الميت فقيل سنة قاله أبو محمد وغيره وقيل إنه فرض قاله عبد الوهاب وابن محرز وابن عبد البر وزعم ابن بزيزة أن المشهور هو الأول وخير ابن

(1/251)

شاس بين غسله بالماء السخن والبارد وفي الجلاب لا بأس بالسخن، ويعني أنه خير من غيره لأنه أنقى، وكثيرا ما يسمع ذلك أعني لا بأس بإطلاقها على ما ذكر، واختلف هل الغسل للعبادة أو للنظافة؟ فالمشهور أنه للعبادة، وقال ابن شعبان هو للنظافة إذ قال يجوز غسله بماء الورد ونحوه إن لم يكن سرفا فإنه للقاء الملائكة لا للتطهيرن قال أبو محمد: هو خلاف قول أهل المذهب، واختار ابن العربي في القبس أنه عبادة ونظافة كالعدة فإنها عبادة وبراءة الرحم، وعلى الأول من أنه عبادة فلا يحتاج إلى نية وإنما يحتاج التعبد إليها إذا كان مما فعله الإنسان في نفسه ذكره الباجي وابن رشد قال ابن شعبان: ولا يغسل بماء زمزم ولا تزال به نجاسة قال أبو محمد: هو خلاف قول مالك وأصحابه.

(ويغسل وترا بماء وسدر ويجعل في الآخرة كافور):

قال اللخمي: لا يقتصر في غسله على الثلاث إن لم ينق فإن أنقي بأربع خمس أو بست سبع، وقال ابن حبيب يستحب الوتر وأدناه ثلاث ومثله لابن رشد وظاهر كلامهما لو أنقي بثمان أوتر وقال ابن عبد البر ذهب أكثر أصحاب مالك إلى أن أكثره ثلاث، وقال المازري: حكي عن مالك أن المعتبر الإنقاء لا العدد تعلقا برواية ابن القاسم ليس في حد معلوم فيتحصل في ذلك أربعة أقوال.

وقول الشيخ بماء وسدر يعني ورق النبق ومثله في المدونة فأخذ منه اللخمي غسله بالماء المضاف كقول ابن شعبان، وأجيب بأن المراد لا يخلط الماء السدر بل يحك الميت بالسدر ويصب عليه الماء، وهذا الجواب عندي متجه وهو اختيار أشياخي والمدونة قابلة لذلك لأنه فرق بين ورود الماء على الإضافة والنجاسة وورودهما عليه، فالأول لا يضر وعكسه يضر، ومنهم من تأولها كقول ابن حبيب: الأولى بالماء وحده والثانية بغاسول والثالثة بكافور وإنما استحب في الآخرة كافور قيل لأنه قوي الرائحة مع ما فيه من منع الميت من السيلان. واختلف هل يجب الغسل على من غسل ميتا أم لا فقيل بوجوبه. وقيل بسقوطه وقيل باستحبابه وكلها لمالك قاله ابن عات.

(وتستر عورته):

قال الباجي ظاهر قول أصحابنا أنها تستر عورته، وقال ابن حبيب من سرته إلى ركبتيه، ونقل اللخمي قول ابن حبيب وفهم أن الأول هو قول المدونة وضعفه عياض في التنبيهات قائلا ليس في الكتاب ما يدل على ذلك بل لو قيل فيه ما يدل على قول

(1/252)

ابن حبيب لكان له وجه لأنه قال بأثره، ويقضي بيده إلى فرجه إن احتاج ولو كانت العورة هي نفس الفرج لما ذكر الفرج بلفظ آخر، قلت: وقد تقدم لنا في باب طهارة الماء والثوب أن في العورة ستة أقوال: فهي جارية هنا، قال المازري: استحب سحنون ستر صدره وصوبه بعضهم وظاهر نقله سواء أنحل جسمه المرض أم لا، وصوبه اللخمي فيه فقط وقيل يستر وجهه وصدره نقله الباجي عن أشهب، قال اللخمي: وأما غسل المرأة للمرأة فإنها تستر منها سرتها إلى ركبتها وعلى قول سحنون تستر جميع جسدها في الحمام في الغسل كذا تستره هنا ولا يطلع على المغسول غير غاسله ومن يليه.

(ولا تقلم أظفاره ولا يحلق شعره):

ما ذكر هو مذهبنا وللشافعي في أحد القولين جواز ذلك قياسا على استحباب ذلك للحي ووافقوا على أنه لا يختن، قال المؤلف ثم وقفت على قول النووي المشهور أنه لا يختن وقيل يختن الكبير دون الصغير ذكر ذلك عن مذهبهم. وإن كان المغسول امرأة فقال ابن القاسم يلف شعرها وعنه يفعلون به ما شاءوا وأما الضفر فلا. وقال ابن حبيب لا بأس أن يضفر واستحسنه بعض المتأخرين لحديث أم عطية "فنقضنا شعرها وضفرناه ثلاثة قرون وألقيناه خلفها):

(ويعصر بطنه عصرا رفيقا):

ما ذكر نحوه في المدونة فإن خرجت من فضلة غسل محلها وفي إعادة وضوئه خلاف.

(1/253)

(وإن وضئ وضوء الصلاة فحسن وليس بواجب ويقلب لجنبه في الغسل أحسن وإن أجلس فذلك واسع):

لا معنى لقوله وليس بواجب بعد قوله فحسن وما ذكره هو المشهور ومثله لأشهب، وعنه في ترك وضوئه سعة والقولان حكاهما عنه المازري وعلى الأول ففي تكرره بتكرر الغسلات قولان أشهب وسحنون.

(ولا بأس بغسل أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة):

اعلم أن لا بأس هنا لما هو خير من غيره لقول المدونة ويغسل أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة فظاهره الأمر بذلك، واختلف هل يقضى لهما بذلك أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقال ابن القاسم يقضى لهما بذلك وعكسه قاله غيره وقال سحنون يقضى للزوج دون الزوجة وظاهر كلام الشيخ ولو لم يبن بها وهو كذلك، وظاهره ولو طلقها طلاقا رجعيا لأنه يصدق عليها أنها زوجة، ألا ترى أن أحكام الزوجية باقية بينهما من الميراث وغيره وهي رواية ابن نافع عن مالك في المبسوط ومذهب المدونة عدم الغسل.

واختاره اللخمي قائلا: لأن المراعى حال الحياة وقد كانت حراما لا يجوز له مسها حتى يحدث رجعة وظاهر كلامه ولو وضعت حملها منه وهو كذلك، واختلف إذا نكح أختها بعد موتها على قولين بالكراهة والجواز وفي المدونة يستر كل واحد صاحبه.

وقال ابن حبيب يغسل أحدهما صاحبه والمرأة عريانة اختيارا، قال التونسي فظاهره رؤية كل واحد منهما عورة صاحبه إذ عورتهما في التحقيق كأجسادهما وتقدم إباحة ذلك في حال الحياة، وقال أبو عمر بن عبد البر أجمعوا على حرمة نظر فرج حي أو ميت غير الطفل الذي لا إرب فيه.

(والمرأة تموت في السفر لا نساء معها ولا ذو محرم من الرجال فلييمم رجل وجهها وكفيها):

ما ذكر من أنها تيمم هو المنصوص، وألزم اللخمي قول ابن شعبان بأن غسل الميت إنما هو للنظافة نفي تيمم الميت عموما وما ذكر من أن منتهى تيممها إلى الكوعين هو المذهب، وأخذ بعض الشيوخ منه أن مسح الذراعين في التيمم ليس بواجب قال ابن عبد السلام، وفيه نظر يعني إنما منع من مسحه كونه عورة ومسح الذراعين في التيمم مختلف فيه في المذهب إذ قد قيل فيهما بالاستحباب فناسب ترك

(1/254)

مسحهما هنا لما ذكر، قال وانظر كيف جاز للرجل والمرأة الأجنبيين لمس وجه الآخر ويديه مع أنه لا يجوز ذلك في حال الحياة، ثم سأل نفسه فقال إن قلت أحمله على أنه يجعل على يديه خرقة وحينئذ يضعها على التراب وأجاب بأنه لو كان كذلك لما اقتصر بالتيمم على الكوعين إذا، واختلف في المذهب إذا حضرت كتابية على ثلاثة أقوال: فقيل تغسلها قاله مالك وعكسه قال أشهب. وقال سحنون تغسلها وتيمم.

(ولو كان الميت رجلا يمم النساء وجهه ويديه إلى المرفقين إن لم يكن معهن رجل يغسله ولا امرأة من محارمه):

وإذا وجد ذمي ففي غسله الثلاثة الأقوال وعزوها لمن ذكر.

(فإن كانت امرأة من محارمه غسلته وسترت عورته):

ظاهر كلامه أنها تغسله مجردا وهو أحد الأقوال الثلاثة وهو ظاهر المدونة عند التونسي والباجي، وقيل تغسله من فوق ثوب قاله ابن القاسم وسحنون وتأوله اللخمي على المدونة.

وقال أشهب تيممه أحب إلي وظاهر كلام الشيخ سواء كانت من محارم النسب أو الصهر وهو المنصوص وخرج بعض الشيوخ من تفرقة ابن نافع في غسل الرجل ذوات محارم النسب دون الصهر أن تكون المرأة كذلك قال ابن هارون وفيه نظر.

(وإن كان مع الميتة ذو محرم منها غسلها من فوق ثوب يستر جميع جسدها):

ما ذكر مثله في المدونة، وقال أشهب ييممها أحب إلي، وقال ابن نافع يغسلها إن كانت محرمة بالنسب دون غيره، وروي أنه يصب عليها الماء ولا يباشر جسدها ولا من فوق ثوب، وقال ابن حبيب يغسلها وعليها ثوب يصب الماء بينه وبينها خوف لصوقه بجسمها وظاهره لا يباشر جسمها بيده، قال ابن رشد: ومعناه عندي ويده ملفوفة في خرقة فيما بين سرتها وركبتيها إلا أن يضطر لذلك وقيل كذلك إلا أن يده ملفوفة في كل غسلها قاله اللخمي فيتحصل في المسألة ستة أقوال.

(ويستحب أن يكفن الميت في وتر ثلاثة أثواب أو خمسة أو سبعة):

قال ابن بشير: أقل الكفن ثوب يستر جميع جسد الميت ونحوه قال ابن الحاجب. ويجب تكفين الميت بساتر لجميعه قال ابن عبدالسلام: هذا مما لم يختلف فيه، قلت: وهو قصور منه لقول ابن رشد في التقييد والتقسيم ومثله لابن عبد البر: الواجب منه ستر العورة فقط وباقيه سنة، وقال عيسى بن دينار في المدونة يقضى على

(1/255)

الورثة والغرماء بثلاثة أثواب قال ابن رشدن ويقضى على الأولياء عند المشاحة بمثل ما يلبس في الجمع والأعياد إلا أن يوصي بأقل فلا يزاد ونحوه في كتاب ابن شعبان.

وقال سحنون ولو أوصى بثوب فزاد بعض الورثة ثوبين ولم يرض غيره لم يضمن من زاد فقيل لأن عليهم في الثوب الواحد وصما، وقال ابن رشد لأنه أوصى بما لا قربة فيه فلا تنفذ وصيته، وقال ابن الحاجب: وخشونته ورقته على قدر حاله، قال ابن هارون فظاهره أن المعتبر ما يقتضيه حاله من اللباس في سائر الأيام لا في الجمعة والأعياد، وهو خلاف قول ابن رشد وما ذكر الشيخ من صفته المستحبة هو كذلك، وقيل أعلاه في الاستحباب خمسة وقال مالك في العتبية ليس في الكفن حد ولا على الناس فيه ضيق. كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، والشهداء في يوم أحد ويوم بدر اثنان في ثوب ممشق وكفن عمر ابنا له في خمسة أثواب، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يزاد على السبع وهو كذلك ونص عليه اللخمي قائلا لأنه من معنى السرف.

(وما جعل له من أزرة وقميص وعمامة فذلك محسوب في عدد الأثواب الوتر):

قال في المدونة ويعمم الميت، وفي الموطأ ويقمص ويؤزر ويلف في الثوب الثالث، وهذا مثل ما ذكر الشيخ ونقل غير واحد أن القميص والعمامة مباحان، وروى يحيى عن ابن القاسم في العتبية: لا يجعل في الكفن عمامة ولا مئزر ولا قميص، ولكن يدرج في ثلاثة أثواب درجا، وقال ابن شعبان: السنة ترك العمامة والقميص.

(وقد كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية أدرج فيها إدراجا صلى الله عليه وسلم):

هذا الحديث خرجه مالك في الموطأ، وسحولية منسوبة إلى سحولي قرية باليمن ومعنى أدرج اي لف فيها لف، وسأل أبو محمد الموفق اسماعيل القاضي ما الذي صح عندكم في كفن النبي صلى الله عليه وسلم فإن عبدالعزيز الهاشمي يقول في خمسة أثواب قميص وعمامة، وثلاثة أبواب، فقال اسماعيل القاضي: الذي صح عندنا ثلاثة أثواب سحولية وقال جعفر بن محمد عن أبيه كفن في ثوبين صحراويين وثوب حبرة.

وقال ابن عبد السلام: كفن في ثوبه الذي مات فيه وحلة نجرانية وقيل في برد ورائطتين وقيل في برد أحمر، وقيل أسود، حكى ذلك ابن عات. واختلف المذهب هل يكفن الميت في الحرير أم لا؟ على ثلاثة أقوال: ثالثها يجوز للنساء دون الرجال ومنع

(1/256)

اللخمي الأزرق والأخضر والأسود وقيل يكره في الجميع قاله ابن عات، وفي كراهة المعصفر ثلاثة أقوال: الكراهة والجواز وكلاهما لمالك والجواز للنساء قاله ابن حبيب.

(ولا بأس أن يقمص الميت ويعمم):

يعني هو خير من غيره لما سبق قوله وينبغي أن يحنط ويجعل الحنوط بين أكفانه وفي جسده ومواضع السجود منه، يعني أن حكم الحنوط الاستحباب وهو كذلك باتفاق، وقال في المدونة عن عطاء: أحب الحنوط إلي الكافور قيل وإنما اختاره لأنه اختص بالتجميد ومنع السيلان وسطوع الرائحة، قال القاضي عبد الوهاب: يحنط بالمسط والعنبر وسائر الطيب الذي يجوز التطيب به لأن النبي صلى الله عليه وسلم حنط بالمسك وحنط عمر بالكافور، وأوصى علي أن يجعل في حنوطه مسك وقال هو أفضل حنوط النبي صلى الله عليه وسلم وأول ما يبدأ به مواضع السجود لشرفها ثم سائر الجسد من مغابنه ومراقه وحواسه وبقية جسده ثم بين أكفانه، وهو الذي أراد الشيخ لما قد علمت من أن الواو لا تفيد الترتيب عند البصريين.

وقال ابن حبيب: وتسد أذناه ومنخراه بقطنة فيها كافور وكذلك قال سحنون يسد دبره بخرقة فيها ذريرة يبالغ فيها برفع، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يفعل شيء من الحنوط من فوق الأكفان وهو كذلك لأنه سرف، وإذا حنط لف في أكفانه وربط عند رأسه ورجليه فإذا ألحد في قبره حل ذلك، قاله ابن حبيب وقال ابن شعبان يخاط عليه كفنه.

(ولا يغسل الشهيد في المعترك ولا يصلى عليه):

ما ذكر الشيخ من أن الشهي لا يغسل هو كذلك باتفاق، لأن الغسل إنما يراد للصلاة فإذا تعذرت الصلاة تبعها الغسل، وما ذكر أنه لا يصلى عليه هو المعروف وحكي الجوازعن مالك أنه يصلى عليه ولا يغسل ووهم في نسبته للإمام مالك ما ذكر، وظاهر كلام الشيخ وإن كان الشهيد في بلاد الإسلام وهو كذلك عند ابن وهب وأشهب، وهو ظاهر المدونة، وعن ابن القاسم أنه كغيره يغسل ويصلى عليه، وظاهر كلامه ولو كان الشهيد قتل نائما وهو قول سحنون وأصبغ، وقال أشهب هو كغيره لأن هذا يشبه ما فعل بعمر استغفله العلج وطعنه وقد غسل وصلي عليه.

وظاهر كلام الشيخ ولو كان الشهيد جنبا وهو كذلك عند ابن الماجشون وأشهب، وقال سحنون هو كغيره وإنما يغسل الشهيد ولم يصل عليه لكماله فإن

(1/257)

قيل فلم غسل الأنبياء وصلي عليهم وهم أكمل الخلق فالجواب عن ذلك من وجوه ذكرها الشيخ خليل.

أحدها: أن المزية لا تقتضي الأفضلية ألا ترى ما ورد من أنه إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط فإذا صلى أقبل بوسوسته.

الثاني: أن الصحابة فهموا الخصوصية في شهيد المعترك فبقي ما عداه على الأصل، ولأن الشرع في إبقائهم على حالهم غرضا وهو البعث عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "زملوهم بثيابهم فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك".

الثالث: تشريع وأسوة.

(ويدفن بثيابه):

يحتمل أن يكون أراد بثيابه المعدة للباس غالبا فأما الدرع والمنطقة وآلة الحرب فإنها تنزع عنه، وهو كذلك عند ابن القاسم ويحتمل أن يريد بثيابه التي مات فيها فلا ينزع عنه الدرع وشبهه وهو قول مالك في المختصر، قال ابن القاسم وينزع الخاتم إن كان له فص ثمين وخرجه اللخمي على الخلاف الذي في المنطقة، ولو قصرت الثياب التي عليه فإنه يستر بقيته وظاهر كلام الشيخ أنه لا يزاد عليه شيء وهو قول مالك. وقال أشهب وأصبغ لا بأس بالزيادة قال اللخمي والأول أحسن لأنه يبعث يوم القيامة على هيئته.

(ويصلى على قاتل نفسه ويصلي على من قتله الإمام في حد أو قود):

لا خلاف في المذهب أن الأمر كما قال الشيخ لأنه مسلم وينبغي لأهل الفضل اجتناب الصلاة عليه وعلى أمثاله ليقع الردع بذلك، قال ابن القاسم ويصلى على ولد الزنا، وأما المبتدعة فاختلف فيهم: فقال ابن عبد الحكم: يصلى عليهم، وقال في المدونة: لا يصلى عليهم ولا تعاد مرضاهم ولا تشهد جنائزهم قال سحنون أدبا لهم، فإن خيف ضيعتهم غسلوا وصلى عليهم. وأما لو ارتد صبي ومات فإن كان غير مميز فارتداده كالعدم بلا خلاف وإن كان مميزا ففي المدونة لا يغسل ولا يصلى عليه ولا تؤكل ذبيحته، وقال سحنون يصلي عليه لأنه يجبر على الإسلام من غير قتل ويورث.

(ولا يصلي عليه الإمام ولا يتبع الميت بمجمر):

ما ذكر من أن الإمام لا يصلي على من قتل في حد أو قود هو مذهب المدونة،

(1/258)

وقال ابن نافع وابن عبدالحكم يصلي عليه وعلى الأول فقيل ردعا لأمثاله، وقيل لأنه منتقم لله عز وجل فلا يكون شفيعا له بالصلاة عليه، ونص أبو عمران على أن الإمام يصلي عليه إذا مات هذا المقدم للقتل خوفا من القتل قبل إقامة الحد عليه لأنه ترك الصلاة عليه من توابع الحد وقبله خليل.

(والمشي أمام الجنازة أفضل):

ظاهر كلام الشيخ أن الركبان يتأخرون وهو كذلك على المشهور: وقال أشهب بالتقدم مطلقا وعكسه قاله غيره، وقال أبو مصعب يجوز المشي أمام وخلف وذلك واسع قال اللخمي وهو ظاهر قول مالك في المدونة لأنه قال لا بأس بالمشي أمامها، قلت: ووهمه بعض شيوخنا لأنه قال في المدونة المشي أمامها هو السنة، ومثله لصاحب البيان والتقريب قائلا قاله فيها عقب ذكر ما نقله عنها، وقيل بالمشي أمامها إلى المصلى ثم خلفها إلى القبر، وقيل يمشون خلفها إلا أن يكون نساء فيمشون أمامها لئلا يختلط الرجال بالنساء، وهذان القولان ذكرهما الشيخ خليل وعزا الأول لبعضهم، والثاني لنقل ابن رشد فيتحصل في المسألة ستة أقوال: وعلى الأول فإن المشي أمامها هو المطلوب فيتحصل في حكمه قولان فقيل إن ذلك سنة على ما قال شيخنا، وقيل إن ذلك فضيلة على ما قال المؤلف رحمه الله.

ومثله لابن الجلاب، وكل هذا في حق الرجال وأما النساء فيتأخرون قولا واحدا، والنساء بالنسبة إلى الخروج على ثلاثة أقسام: يجوز للقواعد ويحرم على مخشية الفتنة وفيما بينهما الكراهة إلا في القريب جدا كالأب والابن والزوج وكره ابن حبيب خروجهن في جنازة القريب وغيره قال: وينبغي للإمام أن يمنعهن من ذلك فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرد امرأة، وقال لنساء في جنازة "أتحملنه؟ قلن: لا قال: أفتدخلنه في قبره؟ قلن: لا، قال: أفتحثين عليه التراب؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات" وكان مسروق يحثي التراب في وجوههن، ويطردهن فإن رجعن وإلا رجع وكان فعل الحسن كذلك ويقول لا تدع حقا لباطل. وقال اللخمي كانوا إذا خرجوا بالجناز غلقوا الأبواب على النساء وقال ابن عمر ليس للنساء حق في الجنازة.

(ويجعل الميت في قبره على شقه الأيمن):

يعني للقبلة ويمد يمناه تحت جسده ويعدل رأسه بالتراب ورجلاه برفق ويحل عقد كفنه فإن جعلوا رأسه مكان رجليه أو استدبروا به القبلة ووراوه لم يخرجوا من

(1/259)

قبره نزعوا ترابه وحولوه إلى القبلة، وإن خرجوا من قبره وواروه تركوه، قال سحنون وقال ابن حبيب يخرج ما لم يخف تغيره وقال ابن القاسم وغيره ميت السفينة إن طمعوا بالبر في يوم ونحوه أخر إليه، وإلا جهز وشد كفنه عليه ووضع في البحر كوضعه في قبره ولا يثقل بشيء وحق على واجده بالبر دفنه، وقال سحنون يثقل ونقل التادلي قولاً ثالثًا وهو إن كان قريبًا من البر فلا يثقل وإلا ثقل. وقال النووي إن كان أهل السواحل كفارا ثقل قال التادلي: وهذا لا يختلف فيه عندنا، قال ابن حبيب لا بأس بالصلاة والدفن ليلا وقاله مطرف وابن أبي حازم ودفن الصديق وعائشة وفاطمة ليلا.

(وينصب عليه اللبن):

قال ابن سيده اللبنة ما يعمل من الطين بالتبن وربما عمل بدونه والجمع لبن ولبن وسمع موسى أكره الدفن في التابوت ويجعل ألواح على القبر إن وجد لبن أو أجر، وقال ابن حبيب: أفضله اللبن ثم الألواح ثم القراميد ثم القصب ثم سن التراب وهو خير من التابوت، وقال سحنون لم يكره التابوت غير ابن القاسم قال ابن عات التابوت مكروه عند أهل العلم، وقال بعض الصالحين ما جنبي الأيمن بأخص بالتراب من جنبي الأيسر وأمر أن يحثى عليه التراب دون غطاء.

(ويقول حينئذ اللهم إن صاحبنا قد نزل بك وخلف الدنيا وراء ظهره وافتقر إلى ما عندك اللهم ثبت عند المسألة منطقه ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم):

ما ذكر لا يتعين بل يدعو بما أحب قال ابن عبدوس عن أشهب يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم تقبله بأحسن قبول وإن دعا بغيره فحسن والترك واسع.

(ويكره البناء على القبور وتجصيصها):

اعلم أن البناء على القبور على ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز وهو إذا قصد به المباهاة، وقسم مكروه وهو غذا لم يقصد به شيئا، وقسم اختلف فيه وهو إذا قصد به التمييز بالكراهة والجواز، وعزا اللخمي الأول للمدونة، والثاني لغيرها وهذه طريقة اللخمي واعترض بعض شيوخنا نقله بأن البناء إذا قصد به التمييز لا خلاف أنه جائز، وحمل قول المدونة على ما إذا لم يقصد به التمييز، ونص ابن هارون واللخمي قائلا كذلك حكاه غيره قال ابن القاسم ولا بأس بالحجر والعود يعرف الرجل بله قبر وليه ما لم يكتب عليه ولا يجعل على القبر بلاطة ويكتب عليها ونحوه.

(1/260)

قال ابن حبيب يكره النقش على القبر، وقال الحاكم في مستدركه إثر تصحيح أحاديث النهي عن البناء والكتب على القبر ليس العمل، فإن أئمة المسلمين شرقا وغربا مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذه الخلف عن السلف، وأما لو بنى بيتا أو حائطا حول القبر ليصونه فقال بعض البغداديين: ذلك جائز إلا أن يضيق على الناس في موضع مباح أو بنى في ملك رجل بغير إذنه، وقال اللخمي: يمنع بناء البيوت على القبور لأن ذلك مباهاة ولا يؤمن ما يكون فيها من الفساد ولا بأس بالحائط اليسير ليكون حاجزا لئلا يختلط على الناس موتاهم.

(ولا يغسل المسلم أباه الكافر ولا يدخله قبره إلا أن يخاف أن يضيع فليواره):

ما ذكر الشيخ صحيح، قال أشهب ولا يتعمد به قبلة أحد وروى ابن حبيب لا بأس أن يقوم بأمر أمه الكافرة ويكفنها ثم يسلمها لأهل دينها ولا يصحبها إلا أن يخش ضياعها فيتقدم إلى قبرها ولا يدخلها فيه إلا أن لا يجد كافيا، وقال ابن حبيب في الأب والأخ وشبهه وزاد إن لم يخش ضاعها وأحب حضور دفنه فليتقدمه معتزلا عنه.

وعن حامله قال الشيخ أبو محمد وروى علي إذا ماتت الكتابية حملت من مسلم يلي دفنها أهل دينها بمقبرتهم، ونقل الشيخ عبد السلام بن غالب المسراتي القيرواني في وجيزه عن المذهب: تدفن بطرف مقبرة المسلمين ووهمه بعض شيوخنا بأن المذهب ما تقدم.

(واللحد أحب إلى أهل العلم من الشق وهو أن يحفر للميت تحت الجرف في حائط قبلة القبر وذلك إن كانت تربة صلبة لا تتهيل ولا تتقطع وكذلك فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم):

ما ذكر من أن اللحد هو أحب من الشق مثله لابن حبيب والمستحب أن لا يعمق القبر جدا بل قدر عظم الذراع فقط، نقله أبو محمد عن ابن حبيب وقبله وقال الباجي: ولعله يريد في حفر اللحد وأما نفس القبر فيكون أكثر قال ابن عات من رأى تعميقه القامة والقامتين إنما رآه في أرض الوحش أو توقع النبش.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

الجنائز جمع جنازة كسر الجيم وفتحها لغتان مشهورتها فقيل بمعنى واحد، وقيل بالفتح الميت وبالكسر النعش وعليه الميت وقيل عكسه، حكاه صاحب المطالع فإن لم يكن عليه ميت فهو سرير ونعش وقيل مشتق من جنزه إذا ستره.

واختلف في حكم الصلاة على الجنازة على ثلاثة أقوال: فقيل سنة قاله أصبغ

(1/261)

وقيل فرض كفاية قاله ابن عبدالحكم وأشهب وسحنون والقاضي عبد الوهاب وهو ظاهر نقل ابن الجلاب عن مالك في قوله قال مالك: صلاة الجنازة واجبة، وقال ابن زرقون في تلقين الشارقي هي مستحبة، ورواه ابن عيشون وأخذ القابسي أنها غير واجبة من قول مالك تجوز صلاة الجنازة بتيمم الفريضة ومن تشبيهه فعلها بعد صلاة العصر بسجود التلاوة قال ولم أجد لمالك فيها نصا.

وأجيب بالنسبة إلى التحريم لكونها فرض كفاية، قال بعض شيوخنا بقصور كلامه في قوله لم أجد لمالك فيها نصا فنقل ابن الجلاب عن مالك وجوبها، قال بعضهم قال ابن رشد في البيان والنداء بالجنازة في المسجد لا ينبغي ولا يجوز باتفاق، وأما على باب المسجد فكرهه مالك في العتبية واستحبه ابن وهب، وأما الأذان بها والإعلام من غير نداء فذلك جائز باتفاق، وقال أبو محمد في نوادره ولا ينادى استغفروا لها، وسمع سعيد بن جبير شخصا يقول ذلك فقال لا غفر الله لك، قال مطرف عن مالك ولم يزل شأن الناس الازدحام على نعش الرجل الصالح ولقد تكسر تحت سالم بن عبدالله نعشان وتحت عائشة ثلاثة.

قال ابن حبيب وابن وهب ولا باس أن يحمل الميت من البادية إلى الحاضرة ومن موضع إلى موضع آخر يدفن فيه، قلت وذكر ابن عبد البر أن سعد بن أبي وقاص حمل من موضعه من العقيق على عشرة أميال في المدينة وحمل على أعناق الرجال.

(والتكبير على الجنازة أربع تكبيرات):

اختلف الناس في مقدار التكبير من ثلاث إلى تسع، وانعقد الإجماع بعد ذلك على أن مقدار التكبير أربع ما عدا ابن أبي ليلى قائلا بأن التكبير خمس، وإن سها المصلي فكبر ثلاثا وسلم وذكر بالقرب فقال ابن عبد السلام: يرجع بنيته فقط ولا يكبر لما يلزم عليه من الزيادة في عد التكبير بل يقتصر على النية ويأتي بالتكبيرة التي بقيت عليه ويسلم.

قلت: الصواب عندي أنه يكبر كالفريضة وقد تقدم ما في ذلك من الكلام، واختلف المذهب إذا زاد الإمام خامسة فروى ابن القاسم يسلم المأموم ولا ينتظره، وروى ابن الماجشون ينتظره ساكتا حتى يسلم بسلامه، واعترض ابن هارون الأول بما إذا قام الإمام إلى خامسة سهوا فإنهم ينتظرونه حتى يسلموا بسلامه واعترض غيره الثاني بأنه يقول إذا سجد الإمام لسهو لا يرى المأموم فيه سجودا فإنه يتبعه فيه وإن كان

(1/262)

خلاف مذهبه.

وأجيب بأن ترك المتابعة في السجود إظهار المخالفة الممنوعة بخلاف تركها في التكبير والاتفاق على أن الصلاة مجزية مراعاة للخلاف القوي بخلاف إذا زاد على الخامسة عمدا على ظاهر قولهم قاله ابن هارون، واختلف إذا كان مسبوقا فقيل يكبر الخامسة ويعتد بها قاله أصبغ وقيل لا يعتد بها ولو كبرها قاله أشهب.

(يرفع يديه في أولاهن وإن رفع في كل تكبيرة فلا بأس):

ما ذكر الشيخ مثله في سماع أشهب قال: يرفع يديه في الأولى وهو مخير في البواقي، ورواه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقيل يرفع في الأولى خاصة واختاره أبو اسحاق التونسي كسائر الصلوات، وروى ابن وهب أنه يرفع في الأربع، وذكر ذلك ابن شعبان عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلا القولين في المدونة، وقيل لا يرفع أصلا قاله في الأسدية ومختصر ابن شعبان.

واختلف هل يدخل المسبوق بين التكبيرتين أم لا؟ فروى ابن القاسم أنه لا يكبر بل يقف حتى يكبر الإمام فيكبر معه، قال في المجموعة ويدعو في انتظاره تكبير الإمام، وبهذا أخذ ابن الماجشون وأصبغ، وروى أشهب أنه يكبر ويدخل معه وبه قال مطرف وابن حبيب، وقال الشيخ أبو الحسن القابسي ينظر فإن كان ما بينه وبين التكبيرة الماضية أقل مما بينه وبين التكبيرة الآتية دخل وإن كان أكثر انتظر.

قال ابن عبد السلام: وهذا استحسان وتحويم على الجمع بين القولين، واختلف هل يدعو في قضائه للتكبير أم لا على أربعة أقوال: فقال في المدونة يقضي التكبير متتا بعا وظاهره أنه لا يدعو، ونحوه رواه علي عن مالك وبه قال التونسي، قال أشهب لا يدعو لأن الدعاء لا يقضي، وقيل يدعو رواه ابن شعبان، وقيل هو بالخيار قاله ابن شعبان عن مالك وكلاهما حكاه ابن عبد البر، وقيل إن ترك له الميت دعا وإلا فلا قاله القاضي عبد الوهاب.

وقال الباجي يحتمل أن يكون تفسيرا للمدونة ويحتمل أن يكون خلافا، قلت والأقرب أنه خلاف وقول ابن عبد السلام قالوا إن وضعت له الجنازة دعا وإلا كبر نسقا قصور ولا أعرفه إلا لمن ذكر ومثله لابن الجلاب.

(وإن شاء دعا بعد الأربع ثم يسلم وإن شاء سلم بعد الرابعة مكانه):

اختلف في الدعاء بعد الرابعة على قولين: فذهب سحنون إلى أنه يدعو وذهب

(1/263)

ابن حبيب إلى أنه لا يدعو، هذا الذي أعرفه في المذهب وظاهر كلام الشيخ التخيير فيكون قولا ثالثا ولم أقف عليه لغيره، وفهم الشيخ خليل على الشيخ ما قلناه وذلك أنه لما ذكر القولين قال وخير في الرسالة.

(يقف الإمام في الرجل عند وسطه وفي المرأة عند منكبيها):

ما ذكر الشيخ مثله في المدونة عن ابن مسعود، وإتيان سحنون به دون أن لا يأتي بخلافه يدل على أنه قائل به ومثل هذا قوله في المدونة عن ابن قسيط: الجمع ليلة المطر سنة ماضية، وعن ابن مسعود القنوت في الفجر سنة ماضية. وقيل يقف عند وسط الرجل والمرأة رواه ابن غانم، وقال ابن شعبان يقف حيث شاء من الميت، وقال اللخمي الأحسن التيامن للصدر في الرجل والمرأة إن كان عليها قبة أو كفتها بالقطن وإلا فوسطها والمطلوب أن يجعل رأس الميت على يمين المصلي، ولو عكس لم تعد الصلاة عليه، ولو صلى عليه لغير القبلة لم تعد بعد دفنه وأما قبله فقال سحنون كذلك وقال ابن القاسم إعادتها أحسن لا واجب، وقال أشهب تعاد ما لم يخف فساده.

(والسلام من الصلاة على الجنائز تسليمة واحدة خفية للإمام والمأموم):

ما ذكر أن الإمام والمأموم يسلمان تسليمة واحدة هو نص المدونة، قال أشهب بل يسلم كل منهما تسليمتين كذا نقله ابن هارون والذي نقل غير واحد إنما هو في المأموم فقط، واستشكل ابن هارون قول المدونة في المأموم مع قولها يسلم في الفرض تسليمة أخرى على الإمام، واختلف هل يجهر الإمام بالسلام أو يسر على روايتين وأما المأموم فالمطلوب أن يسر بلا خلاف، قال ابن عبد السلام: وقول ابن الحاجب وفي الجهر بالسلام قولان إنما أراد بالخلاف الإمام فقط.

(وفي الصلاة على الميت قيراط من الأجر وقيراط في حضور دفنه وذلك في التمثيل مثل جبل أحد ثوابا):

دليل ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط من الأجر واحد ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان من الأجر".

قال الفاكهاني: يحتمل ظاهر هذا الحديث عندي أن يكون له بالصلاة قيراط

(1/264)

وشهود الدفن قيراطان فتكون ثلاثة، قال وإذا قلنا أنهما قيراطان فالأول يحصل بالفراغ من الصلاة والثاني بالفراغ من الدفن وما يتبعه من صب الماء وغير ذلك. قال غير واحد: وإنما مثل لهم بجبل أحد لقوله عليه السلام "إن هذا جبل يحبنا ونحبه" وقيل مثل لهم ذلك بما يعلمون، وقيل لأن أكبر الجبال لأن أرضه متصلة بالأرض السابعة.

قال الفاكهاني: ويكون ذلك لأحد معنيين أحدهما: أنه لو كان هذا الجبل من ذهب وفضة وتصدق به لكان ثوابه مثل ثواب هذا القيراط، وقيل إنه لو جعل هذا الجبل في كفة وجعل القيراط في كفة كان يساويه، قال التادلي: وظاهر كلام المؤلف يقتضي أن القيراط في الدفن يحصل وإن لم يتبعها في الطريق وهو ظاهر المدونة في قولها وجائز أن تسبق وتنتظر.

(ويقال في الدعاء للميت غير شيء محدود وذلك كله واسع ومن مستحسن ما قيل في ذلك أن يكبر ثم يقول الحمد لله الذي أمات وأحيا إلخ):

قال ابن بشير: لا يستحب دعاء معين اتفاقا وتعقبه ابن عبد السلام بأن مالكا استحب دعاء أبي هريرة: اللهم إنه عبدك وابن عبدك إلى آخره" وبقول أبي محمد ومن مستحسن ما قيل في ذلك فإنه يدل على التعيين ونحو لابن هارون قلت على فهم الشيخين يظهر أن قول الشيخ ومن مستحسن ما قيل يناقض قوله أولا، ويقال في الدعاء على الميت غير شيء إلا أن يريد به نفي الوجوب.

وقول الشيخ خليل إن قلت قول ابن الحاجب ولا يستحب دعاء معين اتفاقا يعارضه قول الرسالة ومن مستحسن ما قيل في ذلك وقول المدونة أحب ما سمعت إلي فالجواب أن الرسالة ليس فيها تعيين دعاء مخصوص إذا قال فيها قبله، ويقال في الدعاء غير شيء وايضا فالمستحب ما ثبت بنص المستحسن ما أخذ من القواعد الكليةن وأما في المدونة فإنما رجحه ولم يعينه ولم يرد الشيخ بقوله ثم تقول الحمد لله ما وضعت له ثم من المهلة، بل يقول ذلك بأثر التكبير والمشهور من المذهب أن قراءة الفاتحة غير مشروعة.

ونقل الباجي عن أشهب أنه يقرؤها إثر الأولى فقط، قلت ويعني بذلك على طريق الاستحباب. وقال ابن الحاجب: ولا يستحب دعاء معين اتفاقا ولا قراءة الفاتحة على المشهور، واعترضه ابن هارون بأن كلامه يقتضي إباحتها على المشهور لأنه إنما نفى الاستحباب وظاهر المذهب فيها الكراهة، قال عبد الحق الميت لا ينتفع بالقراءة

(1/265)

فلا معنى للقراءة عليه، قلت: يعترض أيضًا بأن ظاهره أن القول الشاذ أنها تقرأ في كل تكبيرة وليس كذلك، وإنما قال ذلك الحسن رضي الله عنه، ونقل الشيخ خليل عن ابن رشد أنه قال: كان شيخنا القرافي يحكي عن أشهب أن قراءة الفاتحة واجبة ويقول إنه يفعله واحتج بقوله عليه السلام "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

قلت: والأقرب أن يكون إنما أراد قراءتها مرة واحدة واستدلاله بالحديث يدل على ذلك لا أنها بإثر كل تكبيرة، واختلف قول مالك هل يستحب الابتداء بالحمد والتصلية أم لا؟ وظاهر كلام الشيخ أنه مستحب.

(اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك إلى آخره):

ذكر الشيخ هذا وبما بعده وسيلة للدعاء له.

(تقول هذا بإثر كل تكبيرة إلخ):

ليس العمل على ما قال الشيخ عندنا لقوله قال عبد الحق عن إسماعيل القاضي: قدر الدعاء بين كل تكبيرتين قدر الفاتحة وسورة، وقال ابن رشد: أقله اللهم اغفر له وسمع زياد إن كبر الإمام دون دعاء أعاد الصلاة.

(وإن كانت امرأة قلت اللهم إنها أمتك ثم تتمادى بذكرها على التأنيث إلخ):

وإن نوى المصلي امرأة ثم ظهر أن الميت رجل أو العكس لم تعد قاله ابن نافع قائلا: وقد يصلي على جنازة من لا يعرف أنها رجل أو امرأة في ليل أو يأتي آخر الناس فذلك واسعز

(ولا بأس أن تجمع الجنائز في صلاة واحدة ويلي الإمام الرجال إن كان فيهم نساء إلى آخره):

يعني أن المصلين بالخيار بين أن يفردوا كل جنازة بصلاة أو يصلون على جميعها صلاة واحدة وهو كذل نص عليه غير واحد كابن شاس.

(وجعل من دونهم النساء والصبيان من وراء ذلك إلى القبلة):

اعلم أنه إذا اجتمعت جنائز أول ما يقدم الذكور الأحرار البالغون مما يلي الإمام الأفضل فالأفضل، فإن اجتمع أعلم وأصلح ففي تقديم أحدهما على الآخر قولان حكاهما ابن رشد، فإن وقع التساوي فالقرعة باتفاق، ثم الذكور الأحرار الصغار فإن تفاضل الصغار قدم من عرف بحفظ القرآن وشيء من أمور الدين ثم من يحافظ على الصلوات ثم الأسن منهم ثم بعد هاتين الرتبتين الخنثى البالغ ثم الصغير ثم بعد ذلك الأرقاء الذكور.

(1/266)

وروي عن ابن القاسم أنهم مقدمون على ذكور صغار الأحرار لأن العبد يؤم في الفرض بخلاف الصغير، ثم أحرار النساء ثم صغارهن ثم أرقاؤهن وهو كذلك، ونقل الباجي عن ابن حبيب عن من لقي من أصحاب مالك تقديم المرأة على الصبي، قلت: وعلى نقل أبن حبيب هل اعتمد الشيخ في قوله وجعل من دونه النساء والصبيان من وراء ذلك إلى القبلة ولا اعتراض عليه في ذلك لما تقرر لأن الرسالة لا تتقيد بالمشهور، وكونه لم ينقل ابن حبيب هذا في النوادر لا يدل على عدم وقوفه عليه.

وقول ابن العربي أخذ عليه في تقديم النساء على الصبيان وإن أردنا زوال الإشكال قلنا الواو لا تفيد الترتيب ولا يحتاج إليه لما قلناه والله أعلم، واعلم أنه يقدم الأفضل من أولياء الجنائز فإن تساووا فالقرعة. واختلف في تقديم ولي الذكر إذا كان مفضولا فقال مالك: يقدم ولي المرأة لفضله، وقال ابن الماجشون: بل يقدم ولي الذكر محتجا بأن أم كلثوم بنت سنن لم يتوارثا وجعلا معا، وحمل الغلام مما يلي الإمام، وقال الحسن لابن عزم صل لأنه أخو زيد ورده بعضهم بأن الثابت في هذا الأثر سعيد بن العاص هو الذي صلى عليهما، وكان يومئذ أمير المدينة ذكره ابن هارون واختار اللخمي أنهما إذا تشاحا قدم كل واحد منهما على وليه.

(ولا بأس أن يجعلوا صفا واحدا ويقرب إلى الإمام أفضلهم):

ظاهر كلام الشيخ التخيير من جمع الجنائز صفا من الإمام للقبلة وجعلها من المشرق إلى المغرب وهو قول مالك من رواية أشهب وغيره، وقيل المطلوب الأول فقط قاله مالك أيضًا، وقيل إن قلوا كاثنين فالمطلوب أن يكون أحدهما خلف الآخر وإن جعلا سطرا فواسع بخلاف إذا كثروا قاله ابن كنانة، وقيل حكم العشرين حكم الاثنين بخلاف ما هو أكثر قاله مطرف وابن الماجشون.

(وأما دفن الجماعة في قبر واحد فيجعل أفضلهم مما يلي القبلة):

ظاهر كلام الشيخ أن دفن الجماعة في قبر واحد جائز للضرورة وغيرها وليس كذلك، وإنما مراده إذا كان ذلك للضرورة أما لغيرها فلا، قال أصبغ وعيسى بن دينار.

ونص التهذيب في كتاب الغصب إن دفن رجل وامرأة في قبر واحد جعل الرجل للقبلة قيل أيجعل بينهما حاجز من صعيد ويدفنان في قبر من غير ضرورة؟ قال ما سمعت منه فيه شيئا.

(1/267)

(ومن دفن ولم يصل عليه وووري فإنه يصلى على قبره):

مفهومه أنه لو لم يوار أنه يخرج ويصلى عليه وهو كذلك، وما ذكر من أنه يصلى على قبره هو قول ابن القاسم وابن وهب ويحيى بن يحيى، وقيل إنه لا يصلي على قبره وأصحابه هذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم يدعون وينصرفون قاله مالك في المبسوط.

والثاني: أنه يخرج إلا أن يخاف تغيره قاله سحنون.

والثالث: يخرج إلا أن يطول، وقال ابن الحاجب: ثالثها يخرج ما لم يطل فظاهره يقتضي أن أحد الأقوال يخرج مطلقا وإن تغير وليس كذلك، وإنما حكاه ابن بشير وابن شاس كما تقدم ونبه على هذا ابن هارون وكذلك حكم من دفن ومعه مال له بال.

(ولا يصلى على من قد صلي عليه):

يريد إذا صلى عليه جماعة بإمام ولو صلى عليه رجل فإنه يستحب تلافي الجماعة وهو قول اللخمي، وجعل ابن رشد كون الصلاة عليه بإمام شرط إجزاء يجب التلافي ما لم يفت، ولما كان المذهب ما تقدم من أنه لا يصلي على من قد صلى عليه جماعة أجاب أصحابنا عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة بعدما صلوا عليها بوجوه:

أحدهما: أنه كان وعدها أن يصلي عليها والوعد منه عليه السلام واجب.

والثاني: أنه المستحق للصلاة على الجنائز والوالي لها فإذا صلى غيره لم يسقط الفرض بذلك وبقي جواب ثالث لم اذكره لضعفه.

(ويصلى على أكثر الجسد واختلف في الصلاة على مثل اليد والرجل):

ظاهر كلامه أن أكثر الجسد لا خلاف فيه إلا أنه يتعارض في كلامه المفهومان فيما بين الأكثر ونحو اليد، وكذلك مفهوم المدونة في قولها ولا يصلى على يد ولا على رجل ولا على رأس ولا على الرأس مع الرجلين وإنما يصلى على أكثر الجسد، واختلف في المسألة على خمسة أقوال:

فقيل يصلي على ما وجد منه وإن قل، قاله ابن حبيب وابن أبي مسلمة وابن الماجشون، وقيل إن كان رأسا صلي عليه وإلا فلا قاله عبد الملك، وقيل إن بلغ النصف صلي عليه وقيل إن بلغ الثلثين مجتمعا وقيل أو مفترقا، واختلف في الصلاة على المفقود من الغريق ومأكول السبع، فقال ابن حبيب وابن أبي مسلمة يصلي عليه

(1/268)

والمشهور أنه لا يصلي عليه، وهذا الخلاف يجري على الخلاف في جواز الصلاة على الغائب والمشهور منعها، وحكى ابن القصار عن مالك جوازها وبه قال ابن وهب وغيره، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي بالمدينة وهو بأرض بالمدينة وهو بأرض الحبشة ورد بأحد أمرين إما أن ذلك خاص به عليه الصلاة والسلام، وإما أنه كشف عن بصره حتى رآه.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الدعاء للطفل والصلاة عليه وغسله

(تثني على الله تبارك وتعالى وتصلي على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ثم تقول اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك أنت خلقته ورزقته وأنت أمته وأنت تحييه اللهم فاجعله لوالديه سلفا وذخرا وفرطا وأجرا وثقل به موازينهم وأعظم به أجورهم ولا تحرمنا وأياهم أجره، ولا تفتنا وإياهم بعده اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وعافه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم تقول ذلك في كل تكبيرة وتقول بعد الرابعة اللهم اغفر لأسلافنا وأفراطنا ومن سبقنا بالإيمان اللهم من أحييته منه فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ثم تسلم):

قال التادلي: في كلامه حذف وحشو مستغنى عنه، فالحذف تقديره سلف أولاد المؤمنين والحشو زيادة قوله صالح، فإن كفالة ابراهيم عليه السلام لا تخص بصلحاء أولاد المؤمنين بل هي عامة لأولاد المؤمنين.

قلت: يرد بأنه ليس بحشو لأنه لم يقم الدليل على أنهم في كفالة إبراهيم مستوون فلعلهم متفاوتون فقد أراد الشيخ بالدعاء أخص وصف وما ذكرناه ذهب إليه بعض من لقيناه أيضًا.

قال المازري: وأجمع العلماء على أن أولاد الأنبياء في الجنة وكذلك أولاد المؤمنين عند الجمهور وأنكر بعضهم الخلاف فيه.

قلت: ولم يذكر ابن رشد غير الأول وفي النوادر لم يختلف العلماء أنهم في الجنة، واختلفوا في أولاد الكفار على أربعة أقوال: فقيل في الجنة وقيل في المشيئة وقيل في النار تبعا لآبائهم وقيل تؤجج لهم نار، فمن عصى أمره ففي النار، وقوله وعافه من فتنة القبر وعذاب جهنم هذا كالنص في أن الصغير يسأله منكر ونكير وانظر قوله في عذاب

(1/269)

جهنم هل يدل على أنهم في المشيئة أم لا، وقد تقدم أنهم في الجنة بلا خلاف.

(ولا يصلى على من لم يستهل صارخا ولا يرث ولا يورث):

اختلف المذهب في تسمية من لم يستهل صارخا فقيل لا يسمى لأن التسمية تابعة للحياة، وقيل يسمى لأنه ولد ترجى شفاعته، فإن أشكل هل هو ذكر أو أنثى سمي باسم مشترك للذكر والأنثى كحمزة، ويغسل عنه الدم لا كسغل الميت ويلف في خرقة قاله ابن حبيب والرضاع الكثير كالصراخ بلا خلاف.

واختلف في اليسير فقال مالك لا يدل على الحياة وقيل يدل عليها واستحسنه اللخمي قال لأنه لا يكون إلا لمزية حياة محققة، واختلف في الحركة الكثيرة فالأكثر على أن ذلك كالصراخ.

وقال يحيى بن عمر: لو بقي عشرين يوما أو اكثر لم يصرخ ثم مات لم يغسل ولم يصل عليه واستبعد لأن الميت يتغير في مثل هذه المدة واختلف في العطاس، فقال اللخمي لا يكون له بذلك حكم الحي لاحتمال أن يكون ريحا وقيل هو دليل على الحياة إذ لا يكون إلى من حي.

(ويكره أن يدفن السقط من الدور إلخ):

ما ذكره هو أحد القولين وقيل إنه جائز والقولان حكاهما ابن بشير، قال عبد الوهاب: ووجهه ما قاله المؤلف من الكراهة لأنه من جملة موتى المسلمين قال الفاكهاني: فيه نظر، لأن الميت عبارة عن شخص تقدمت له حياة والسقط ما تقدمت له حياة ولا تعلم منه، وحركته في بطن أمه كالعدم.

وقد أجمعنا على أنه لا يرث ولا يورث، واختلف إذا بيعت دار وجد بها فقيل إنه عيب وقيل لا وصوب ابن عبد السلام، الأول لكراهة النفوس ذلك، وأما لو وجد قبر غير سقط فالمذهب أنه عيب يوجب الخيار وتعقبه عبد الحق بأنه عيب يسير يوجب قيمته فقط ورده ابن بشير بأنه لا يمكن إزالته فهو كالكثير.

(واختلف فيها إن كانت لم تبلغ أن تشتهي والأول أحب إلينا):

قال غير واحد كابن الحاجب إذا كانت رضيعة أو فوق ذلك بيسير جاز اتفاقا أن يغسلها الأجنبي وعكسه إذا كانت مطيقة للوطء وفيما بينهما قولان.

قال ابن هارون وفيه نظر لأنه روي عن ابن القاسم أنه قال لا يغسل الرجل الصبية، وإن صغرت جدا وأجاز ذلك مالك في الصغيرة جدا، وقال أشهب إن كان

(1/270)

مثلها لا يشتهى جاز.

وقال ابن أبي زيد يختلف فيها ما لم تشته، وقال اللخمي يجوز غسلها مجردة والستر أفضل فعلى هذا يجيء فيها ثلاثة أقوال: المنع مطلقا لابن القاسم، والجواز لأشهب ما لم تشته، والتفصيل لمالك فيجوز في الصغيرة جدًا ويمنع فيمن كانت فوق ذلك، وهذه المسألة لو ذكرها الشيخ في باب ما يفعل بالمحتضر لكان أنسب للترتيب والله أعلم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...