كتاب مختصر إظهار الحق
تمهيد
مقدمة في بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها
الباب الأول بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد وإثبات تحريفها ونسخها الفصل الأول بيان أسمائها وتعدادها
الفصل الثاني أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد
الفصل الثالث بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف القسم الأول بيان بعض الاختلافات
القسم الثاني بيان بعض الأغلاط
القسم الثالث إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان
الفصل الرابع إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين
الباب الثاني إبطال التثليث مقدمة في بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول
الفصل الأول إبطال التثليث بالبرهان العقلي
الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام
الفصل الثالث إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح
الباب الثالث إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين على القرآن والأحاديث الفصل الأول الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم
الفصل الثاني دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية الشريفة
الباب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الخاتمة
أول الكتاب مختصر إظهار الحق
[تمهيد]
مختصر إظهار الحق
(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد الحمد لله والصلاة والسلام على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد يسر الله لي تحقيق (إظهار الحق) ، لمؤلفه العلامة الشيخ: رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي، وكان هذا التحقيق على نسختي المؤلف الذهبيتين) المخطوطة والمقروءة) ، وصدرت الطبعة الأولى بتحقيقي عام 1410هـ 1989م في أربعة مجلدات، نشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض، ورغب إلى كثير من الزملاء أن أختصر كتاب: (إظهار الحق) في مجلد واحد، سهل العبارة، واضح الإشارة، تسهل ترجمته إلى اللغات الأخرى، ليكون سدا منيعا في وجه المنصرين، الذين يجتهدون في نشر الشبه ضد دين الإسلام، ولكن انشغالي بطباعة بعض كتبي حال دون تنفيذ رغبتهم، ثم توجت تلك الرغبات بتوجيه من الأخ الكريم الدكتور عبد الله بن أحمد الزيد، الوكيل المساعد لشئون المطبوعات والنشر بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، حيث نبهني إلى ضرورة اغتنام الوقت في هذا العمل، وبخاصة بعد أن حدثت تطورات خطيرة في العالم، جاهر فيها الصليبيون بعدواتهم للإسلام، وبرغبتهم في تنصير العالم الإسلامي خلال فترة وجيزة، عندئذ جد بي الجد لإخراج هذا المختصر، وأرجو ممن يريد ترجمته إلى أية لغة ينقل نصوص كتب العهدين من الطبعات المتداولة بتلك اللغة، لا أن يترجمها باجتهاده.
(1/3)
وقد أدخلت في هذا المختصر بعض المعلومات الإضافية للتوضيح، مثل تاريخ بعض الحوادث، وسنة وفاة بعض الأعلام، وإذا كان العلم يكتب بصيغتين، أو كانت البلدة لها اسم قديم واسم حديث، كتبت الاسمين معا، وإذا كان نفس الاسم يطلق على بلدتين، حددت المقصودة منهما، ووضحت بعض المصطلحات، وزدت معلومات عن بعض الحوادث التاريخية النصرانية والإسلامية؛ لزيادة البيان، ووضعت الحركات اللازمة على بعض الأحرف؛ لإزالة الالتباس في وجه النطق الصحيح بها، وقد وردت أسماء بعض الكتب دون ذكر أسماء مؤلفيها، فذكرت اسم المؤلف وزمان وفاته، وعززت بعض النصوص في كتب العهدين بذكرها من عدة طبعات، وتصرفت في ترتيب بعض المعلومات تقديما وتأخيرا، بما يكون نافعا للقارئ، ولا يشتت فكره، ودمجت الأبواب الثلاثة الأولى من كتاب (إظهار الحق) في باب واحد؛ ليكون بابا مستقلا في كتب أهل الكتاب وبيان أسمائها وتحريفها ونسخها، وما فعلت ذلك إلا للمصلحة المرجوة في أن يكون هذا المختصر نافعا للقارئ غاية النفع، وغير مخل بالمقصود.
فأقول وبالله التوفيق: رتب العلامة الشيخ رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي كتابه القيم - إظهار الحق - على مقدمة وستة أبواب، وفيما يلي زبدة هذا الكتاب:
د. محمد أحمد عبد القادر ملكاوي
الأستاذ المساعد بجامعة الملك سعود
الرياض
1 - / 1 / 1415هـ
الموافق 10 / 6 / 1994م
(1/4)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[مقدمة في بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها]
المقدمة
بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها
1 - أن النقول المنقولة عن كتب علماء البروتستانت في كثير من المواضع وردت بطريق الإلزام، لا على سبيل الاعتقاد.
2 - أن البروتستانت يغيرون كتبهم دائما، بتبديل بعض المضامين أو بالزيادة فيها أو بالنقص منها، ولذلك يقع الاختلاف الكبير بين الطبعات اللاحقة والسابقة، فعلى القارئ أن ينتبه لذلك.
3 - لا حرج في إطلاق لفظ الغلط أو الخطأ أو الكذب على كثير من المضامين والقصص المفتراة على الأنبياء؛ لأنها من التحريف الواقع في الكتب السماوية، وليست من كلام الله تعالى، ولا يعد ذلك من قبيل إساءة الأدب إلى الكتب السماوية؛ لأن إظهار ما فيها من الكذب والتحريف، وإنكار المضامين القبيحة واجب على كل مسلم.
4 - أن عادة علماء النصارى أنهم يأخذون الأقوال الضعيفة القليلة في كتب علماء المسلمين ويشهرونها، ثم يردون عليها، ويوهمون القارئ أن كتب علماء المسلمين مليئة بالأقوال الضعيفة، والحال أنهم يتركون الأقوال القوية ولا يشيرون إليها، وإذا نقلوا قولا فتصدر عنهم الخيانة في النقل بتحريفه أو
(1/5)
بالنقص منه، وهذه العادة من أقبح العادات، ومناقضة للأمانة العلمية في نقل أقوال المخالفين لهم، وكذلك فعل الدكتور القسيس فندر في المناظرة الكبرى التي جرت بينه وبين الشيخ رحمت الله في الهند عام 1270هـ 1854م، فقد طبعها باللغة الإنجليزية بعد التحريف التام لأقوال الفريقين، وفي بعض كتبه كان الدكتور القسيس فندر يترجم الآيات القرآنية ويفسرها برأيه، ثم يعترض عليها، ويدَّعِي أن التفسير الصحيح تفسيره هو لا تفسير علماء المسلمين، والحال أنه جاهل باللغة العربية وبالعلوم القرآنية جهلا تاما، ثم يطمع أن يؤخذ بتفسيره الركيك الرديء ويترك التفسير القوي المجمع عليه من علماء التفسير المسلمين.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
(1/6)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الباب الأول بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد وإثبات تحريفها ونسخها]
[الفصل الأول بيان أسمائها وتعدادها]
الباب الأول
بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد
وإثبات تحريفها ونسخها وهو مشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: بيان أسمائها وتعدادها.
الفصل الثاني: بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد، ولا مجال لهم أن يدعوا أن هذه الكتب المشتهرة الآن مكتوبة بالإلهام.
الفصل الثالث: بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف.
الفصل الرابع: إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين.
(1/7)
الفصل الأول
بيان أسمائها وتعدادها اعلم أن النصارى يقسمون كتبهم إلى قسمين:
القسم الأول: يدعون أنه كتب بواسطة الذين كانوا قبل عيسى عليه السلام، ويسمونه العهد العتيق أو العهد القديم.
والقسم الثاني: يدعون أنه كتب بالإلهام بعد عيسى عليه السلام، ويسمونه العهد الجديد.
ويطلقون على مجموع العهدين القديم والجديد اسم (بيبل) ، وهو لفظ يوناني معناه: (الكتاب) ، ويكتبون على الغلاف الذي يضم كتب العهدين اسم: (الكتاب المقدس) .
فأما العهد القديم الذي هو القسم الأول من (بيبل) كتابهم المقدس فيحتوي الآن على تسعة وثلاثين سفرا فيما يلي أسماؤها:
1 - سفر التكوين (سفر الخليقة) .
2 - سفر الخروج.
3 - سفر الأحبار (سفر اللاويين) .
4 - سفر العدد.
5 - سفر التثنية.
ومجموع هذه الأسفار (الكتب) الخمسة هو ما يطلقون عليه اسم أسفار
(1/9)
موسى الخمسة، وتسمى بـ (التوراة) ، وهي كلمة عبرية بمعنى القانون والتعليم والشريعة، لكنهم الآن يطلقون التوراة إطلاقا مجازيا على مجموع كتب العهد القديم، أي على أسفار موسى الخمسة (التوراة) وملحقاتها الآتي ذكرها:
6 - سفر يشوع (يوشع بن نون) .
7 - سفر القضاة.
8 - سفر راعوث.
9 - سفر صموئيل الأول.
10 - سفر صموئيل الثاني.
11 - سفر الملوك الأول.
12 - سفر الملوك الثاني.
13 - سفر أخبار الأيام الأول.
14 - سفر أخبار الأيام الثاني.
15 - سفر عزرا الأول.
16 - سفر عزرا الثاني (سفر نحميا) .
17 - سفر أستير.
18 - سفر أيوب.
19 - سفر الزبور (المزامير) .
20 - سفر الأمثال (أمثال سليمان) .
21 - سفر الجامعة.
22 - سفر نشيد الأنشاد.
(1/10)
23 - سفر إشعياء.
24 - سفر إرميا.
25 - سفر مراثي إرميا.
26 - سفر حزقيال.
27 - سفر دانيال.
28 - سفر هوشع.
29 - سفر يوئيل.
30 - سفر عاموس.
31 - سفر عوبديا.
32 - سفر يونان (يونس) .
33 - سفر ميخا.
34 - سفر ناحوم.
35 - سفر حبقوق.
36 - سفر صفنيا.
37 - سفر حجي.
38 - سفر زكريا.
39 - سفر ملاخي. وكان النبي ملاخي قبل ميلاد المسيح عليهما السلام بنحو أربعمائة وعشرين (420) سنة.
والسامريون لا يعترفون إلا بسبعة منها: الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام، وبسفري يشوع والقضاة، وتخالف نسخة التوراة السامرية نسخة
(1/11)
التوراة العبرانية التي لليهود، وهما تخالفان نسخة التوراة اليونانية، وتوجد في نسخة التوراة اليونانية سبعة أسفار زائدة عما في التوراة العبرانية يطلق عليها: أسفار الأبوكريفا، وأسماؤها كما يلي:
1 - سفر باروخ.
2 - سفر طوبيا.
3 - سفر يهوديت.
4 - سفر وزدم (حكمة سليمان) .
5 - سفر إيكليزيا ستيكس (يشوع بن سيراخ) .
6 - سفر المكابيين الأول.
7 - سفر المكابيين الثاني.
وبذا تكون التوراة اليونانية محتوية على ستة وأربعين سفرا.
وأما العهد الجديد الذي هو القسم الثاني من (بيبل) كتابهم المقدس فيحتوي الآن على سبعة وعشرين سفرا فيما يلي أسماؤها:
1 - إنجيل متى.
2 - إنجيل مرقس.
3 - إنجيل لوقا.
4 - إنجيل يوحنا.
ولفظ الإنجيل مختص بهذه الأسفار الأربعة، فيقال لها: الأناجيل الأربعة، وهو لفظ معرب، أصله في اليوناني (إنكليوس) ، وفي القبطي (إنكليون) ، ومعناه البشارة والتعليم والخبر السار. لكنهم الآن يطلقون لفظ الإنجيل
(1/12)
إطلاقا مجازيا على مجموع كتب العهد الجديد. أي على الأناجيل الأربعة وملحقاتها الآتي ذكرها:
5 - سفر أعمال الرسل (الإبركسيس) .
6 - رسالة بولس إلى أهل رومية.
7 - رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس.
8 - رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس.
9 - رسالة بولس إلى أهل غلاطية.
10 - رسالة بولس إلى أهل أفسس.
11 - رسالة بولس إلى أهل فيلبي.
12 - رسالة بولس إلى أهل كولوسي.
13 - رسالة بولس الأول إلى أهل تسالونيكي.
14 - رسالة بولس الثاني إلى أهل تسالونيكي.
15 - رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس.
16 - رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس.
17 - رسالة بولس إلى تيطس.
18 - رسالة بولس إلى فليمون.
19 - الرسالة إلى العبرانيين (وتنسب إلى بولس) .
20 - رسالة يعقوب.
21 - رسالة بطرس الأولى.
22 - رسالة بطرس الثانية.
(1/13)
23 - رسالة يوحنا الأولى.
24 - رسالة يوحنا الثانية.
25 - رسالة يوحنا الثالثة.
26 - رسالة يهوذا.
27 - رؤيا يوحنا اللاهوتي (المشاهدات) .
وبهذا يكون مجموع أسفار (بيبل) الكتاب المقدس عند النصارى كما يأتي:
على حسب التوراة العبرانية:
العهد القديم (39) + العهد الجديد (27) = 66 سفرا.
وعلى حسب التوراة اليونانية:
العهد القديم (46) + العهد الجديد (27) = 73 سفرا.
اعلم أنه قد انعقد مجمع لعلماء النصارى بأمر السلطان قسطنطين الأول سنة (325م) في بلدة نائس (نيقية) لإصدار حكم في الأسفار المشكوكة، فحكم هذا المجمع يعد المشاورة والتحقيق بوجوب تسليم سفر يهوديت فقط، وبرفض أربعة عشر (14) سفرا واعتبارها مشكوكة ومكذوبة لا يجوز التسليم بصحتها، وهي:
1 - سفر أستير.
2 - رسالة يعقوب.
3 - رسالة بطرس الثانية.
4 - رسالة يوحنا الثانية.
5 - رسالة يوحنا الثالثة.
(1/14)
6 - رسالة يهوذا.
7 - الرسالة إلى العبرانيين (وتنسب إلى بولس) .
8 - سفر وزدم (حكمة سليمان) .
9 - سفر طوبيا.
10 - سفر باروخ.
11 - سفر إيكليزيا ستيكس (يشوع بن سيراخ) .
12 - سفر المكابيين الأول.
13 - سفر المكابيين الثاني.
14 - سفر مشاهدات يوحنا (رؤيا يوحنا اللاهوتي) .
ويظهر ذلك جليا من المقدمة التي كتبها جيروم (المتوفى سنة 420م) على سفر يهوديت.
وبعد تسع وثلاثين سنة فقط انعقد مجمع لعلماء النصارى سنة (364م) في بلدة لوديسيا (لاودكية) ، وحكم هذا المجمع بوجوب التسليم بالأسفار السبعة الأولى (انظرها من رقم 1-7) من الأسفار التي رفضها مجمع نيقية، واعتبار هذه السبعة صحيحة غير مكذوبة، وإبقاء السبعة الأخرى (انظرها من رقم 8- 14) مشكوكة مكذوبة لا يجوز التسليم بصحتها، وأكد المجمع هذا الحكم بالرسالة العامة.
وبعد ثلاث وثلاثين سنة فقط انعقد مجمع لعلماء النصارى سنة (397م) في بلدة كارتهيج (قرطاجة، قرطاجنة الواقعة على خليخ تونس) ، وحكم هذا
(1/15)
المجمع بوجوب التسليم بالأسفار السبعة الأخرى (انظرها من رقم 8 - 14) التي رفضها المجمعان السابقان واعتبراها مكذوبة ومشكوكة لا يجوز التسليم بصحتها، فهذا المجمع القرطاجي نقض حكم سابقيه، وحكم بأن جميع الأسفار المشكوكة المكذوبة هي صحيحة واجبة التسليم ومقبولة عند جمهور النصارى، وبقي الأمر على هذا التسليم والقبول مدة اثني عشر قرنا إلى أن ظهرت فرقة البروتستانت في أواسط القرن السادس عشر الميلادي، فرفضت هذه الفرقة سفر يهوديت وسفر وزدم وسفر طوبيا وسفر باروخ وسفر إيكليزيا ستيكس وسفري المكابيين الأول والثاني، وكان سفر أستير ستة عشر (16) بابا (أصحاحا) ، فقبلت منه هذه الفرقة البروتستانتية الإصحاحات التسعة الأولى إلى نهاية الفقرة الثالثة من الإصحاح العاشر، ورفضت منه من الفقرة الرابعة إلى نهاية الإصحاح السادس عشر، واحتجت هذه الفرقة في رفضها الأسفار السابقة بما يلي:
1 - أن الأصل العبراني لهذه الأسفار مفقود، والموجود هو ترجمة لها.
2 - أن اليهود العبرانيين لا يعترفون بهذه الأسفار (أسفار أبو كريفا العهد القديم) .
3 - أن هذه الأسفار مرفوضة من قبل كثير من النصارى ولم يحصل الإجماع على قبولها.
4 - أن جيروم (المتوفى 420م) قال بأن هذه الأسفار ليست كافية لتقرير المسائل الدينية وإثباتها.
5 - أن كلوس صرح بأن هذه الأسفار لا تقرأ في كل موضع منها.
(1/16)
6 - أن المؤرخ يوسي بيس صرح بأن هذه الأسفار محرفة ولا سيما سفر المكابيين الثاني.
فانظر إن الكتب التي أجمع على رفضها ألوف الأسلاف؛ لفقدان أصولها وتحريفها، وكانت مردودة عند اليهود وفاقدة لصفة الوحي والإلهام، صارت عند الخلف إلهامية مقبولة وواجبة التسليم، وفرقة الكاثوليك إلى الآن تسلم بجميع كتب الأبوكريفا المشكوكة المكذوبة، سواء منها أبوكريفا العهد القديم أو أبوكريفا العهد الجديد، تقليدا لمجمع كارتهيج (قرطاجة) .
فأي قيمة لحكم الخلف بقبول ما رفضه السلف؟!
بل إن حكم تلك المجامع يعد حجة قوية لخصوم النصارى الطاعنين في صحة كتبهم وإلهاميتها.
(1/17)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الفصل الثاني أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد]
[الادعاء بنسبة الكتب إلى اسم نبي أو حواري لا يعني إلهامية هذه الكتب ولا وجوب تسليمها]
الفصل الثاني
بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد، ولا مجال لهم أن يدعوا أن هذه الكتب المشتهرة الآن مكتوبة بالإلهام الكتاب السماوي الواجب التسليم هو الكتاب الذي يكتب بواسطة نبي من الأنبياء، ويصل إلينا بعد ذلك بالسند المتصل بلا تغيير ولا تبديل، أما أن ينسب الكتاب إلى شخص ذي إلهام بمجرد الظن والوهم فلا يكفي ذلك لإثبات أنه من تصنيف الشخص المنسوب إليه، حتى لو ادعت تلك النسبة فرقة أو عدة فرق، ألا ترى أن كتبا من العهد القديم منسوبة إلى موسى وعزرا وإشعياء وإرميا وحبقوق وسليمان عليهم السلام، ولم يثبت بدليل ما صحة نسبتها إليهم بسبب فقدان السند المتصل لتلك الكتب؟!
وأيضا ألا ترى أن كتبا من العهد الجديد جاوزت السبعين منسوبة إلى عيسى ومريم والحواريين وتابعيهم، وتجمع فرق النصارى الآن على عدم صحة نسبتها إليهم، وعلى أنها من الأكاذيب المختلقة؟!
ثم ألا ترى أن أسفار الأبوكريفا واجبة التسليم عند الكاثوليك، وأنها واجبة الرد عند اليهود والبروتستانت؟!
إذن الادعاء بنسبة كتاب ما إلى اسم نبي أو حواري لا يعني إلهامية هذا الكتاب ولا وجوب تسليمه، وقد طلب الشيخ رحمت الله مرارا من علماء
(1/19)
النصارى في مناظراته لهم بيان السند المتصل لأي كتاب من كتب العهدين فاعتذروا بأن سبب فقدان السند المتصل هو وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة.
فثبت أنهم يقولون في أسانيد كتبهم بالظن والتخمين الذي لا يغني شيئا، ودل امتناعهم عن الإتيان بسند متصل لأي كتاب من كتب العهدين على عدم قدرتهم على ذلك، فلو قدروا ما قصروا، وثبت بالوجه القطعي أن كتبهم فاقدة للسند المتصل، وفيما يلي حال بعض كتبهم:
[حال التوراة]
حال التوراة: إن هذه التوراة الحالية المنسوبة لموسى عليه السلام ليست من تصنيفه، ويدل على ذلك عدة أمور:
1 - أن هذه التوراة انقطع تواترها قبل زمان الملك يوشيا بن آمون الذي تولى الملك سنة 638ق. م، وأما النسخة التي وجدت بعد ثماني عشرة سنة من توليه الحكم فلا اعتماد عليها؛ لأن الكاهن حلقيا هو الذي اخترعها، ومع كونها غير معتمدة فالغالب أنها ضاعت قبل أن يكتسح بختنصر بلاد فلسطين عام 587 ق. م، ولو فرضنا عدم ضياعها ففي اكتساحه بلاد فلسطين انعدمت التوراة وسائر كتب العهد العتيق ولم يبق لها أثر، ويزعمون أن عزرا كتب بعض الأسفار في بابل، لكن ما كتبه عزرا أيضا ضاع في اكتساح أنتيوكس (أنطيوخس الرابع) بلاد فلسطين، فقد حكم سوريا ما بين سنتي 175 - 163 ق. م، وأراد أن يمحق ديانة اليهود ويصبغ فلسطين بالصبغة الهيلينية، فباع مناصب أحبار اليهود بالثمن، وقتل منهم ما بين
(1/20)
- 80 ألفا، ونهب أمتعة الهيكل كلها، وقرب خنزيرة وقودا على مذبح اليهود، وأمر عشرين ألف جندي بمحاصرة القدس، فانقضوا عليها يوم السبت أثناء اجتماع اليهود للصلاة، فنهبوها ودمروا البيوت والأسوار، وأشعلوا فيها النيران، وقتلوا كل إنسان فيها حتى النساء والصبيان، ولم ينج في ذلك اليوم إلا من فر إلى الجبال أو اختفى في المغائر والكهوف. (انظر رقم (2) ص 99) .
2 - أن اختلافات وتناقضات كبيرة جدا وقعت بين أسفار التوراة الحالية وبين سفري أخبار الأيام الأول والثاني اللذين صنفهما عزرا بمعاونة حجي وزكريا عليهم السلام، وأجمع علماء أهل الكتاب على أن عزرا غلط لاعتماده على أوراق ناقصة، فلم يميز بين الأبناء وأبناء الأبناء، وهؤلاء الأنبياء الثلاثة كانوا متبعين للتوراة، فلو كانت توراة موسى هي هذه التوراة الموجودة الآن ما خالفوها، وما وقعوا في الغلط الفاحش باعتمادهم على أوراق ناقصة، وأيضا لو كانت التوراة التي كتبها عزرا مكتوبة بالإلهام كما يزعمون ما وقع الاختلاف الفاحش بينها وبين سفري أخبار الأيام الأول والثاني، وبهذا ظهر جليا أن التوراة الحالية ليست هي التوراة المكتوبة في زمان موسى عليه السلام، ولا هي التوراة التي كتبها عزرا، والحق الذي لا شك فيه أن هذه التوراة الحالية مجموعة من الروايات والقصص التي اشتهرت بين اليهود، ثم جمعها أحبارهم بلا تمحيص للروايات، ووضعوها في هذا المجموع المسمى بكتب العهد القديم، الذي يضم الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام والأسفار الملحقة بها، وهذا الرأي منتشر انتشارا بليغا الآن في
(1/21)
أوربا، وبخاصة بين علماء الألمان.
3 - أن اختلافات وتناقضات صريحة في الأحكام وقعت بين أسفار التوراة الحالية وبين سفر حزقيال، فلو كانت التوراة الصحيحة هي هذه التوراة المشتهرة الآن ما خالفها حزقيال في الأحكام.
4 - لا يظهر من أي موضع في التوراة الحالية أن كاتبها كان يكتب حالات نفسه أو المعاملات التي رآها بعينه، بل جميع عبارات التوراة الحالية تشهد بأن كاتبها غير موسى عليه السلام، وأن هذا الكاتب جمع الروايات والقصص المشتهرة بين اليهود وميز بين الأقوال، فما كان في زعمه من كلام الله أدرجه تحت قوله: (قال الله) ، وما كان في زعمه من كلام موسى أدرجت تحت قوله: (قال موسى) ، وعبر الكاتب عن موسى في جميع المواضع بصيغة الغائب، مثل قوله: (وصعد موسى) ، (وقال له الرب) ، (فمات هناك موسى) ، فلو كانت التوراة الحالية من تصنيف موسى عليه السلام، لعبر عن نفسه بصيغة المتكلم ولو في موضع واحد من المواضع؛ لأن التعبير بصيغة المتكلم يقتضي زيادة الاعتبار، وهذا وحده دليل كامل على أن التوراة الحالية ليست من تصنيف موسى عليه السلام.
5 - قال الدكتور سكندر كيدس الذي هو من علماء النصارى المعتمدين في مقدمة البيبل الجديد بأنه ثبت له بالأدلة ثلاثة أمور جزما:
ا- أن التوراة الحالية ليست من تصنيف موسى عليه السلام.
ب- أن التوراة الحالية مكتوبة في فلسطين، وليست مكتوبة في عهد موسى عندما كان بنو إسرائيل في التيه في صحراء سيناء.
(1/22)
ج- أن التوراة الحالية إما أن تكون ألفت في زمان سليمان عليه السلام، أي في القرن العاشر قبل الميلاد، أو بعده إلى القرن الثامن قبل الميلاد، فالحاصل أن بين تأليف هذه التوراة الحالية وبين وفاة موسى عليه السلام أكثر من خمسمائة عام.
6 - أنه علم بالتجربة أن الفرق يقع في اللسان الواحد بحسب اختلاف الزمان، فمثلا لو لاحظت لسان الإنجليز قبل أربعمائة سنة لوجدت تفاوتا فاحشا بينه وبين اللسان الإنجليزي المعروف الآن، وقد قال نورتن الذي هو من كبار علماء النصارى بأنه لا يوجد فرق معتد به في محاورة التوراة ومحاورات سائر الكتب من العهد العتيق التي كتبت بعدما أطلق بنو إسرائيل من أسر بابل، علما أن المدة الواقعة بين وفاة موسى عليه السلام وبين إطلاقهم من الأسر حوالي تسعمائة عام، ولأجل انعدام الفرق المعتد بين أسلوب التوراة وبين أسلوب سائر كتب العهد العتيق فإن العالم ليوسدن الذي هو ماهر جدا باللسان العبراني اعتقد أن هذه الكتب جميعها صنفت في زمان واحد.
7 - ورد في سفر التثنية 27 / 5 و8: (5) وتبني هناك مذبحا للرب إلهك مذبحا من حجارة لا ترفع عليها حديدا (8) وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشا جيدا) .
وورد في سفر يشوع (يوشع بن نون) 8 / 30 و32: (30) حينئذ بنى يوشع مذبحا للرب إله إسرائيل في جبل عيبال (32) وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل) .
فعلم من هذه الفقرات أن حجارة المذبح كانت كافية لأن تكتب عليها توراة
(1/23)
موسى، فلو كانت توراة موسى هي هذه التوراة الحالية التي تضم الأسفار الخمسة بحجمها الحالي، ما أمكن كتابتها على حجارة المذبح.
8 - أن الأغلاط الكثيرة الواقعة في التوراة، والاختلافات الكثيرة بين أسفارها تنفي أن تكون هذه التوراة الحالية هي التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام؛ لأن الكلام الذي أوحي إلى موسى أو الذي كتبه موسى، أرفع من أن تقع فيه الأغلاط والاختلافات.
[حال كتاب يوشع بن نون]
حال كتاب يشوع (يوشع بن نون) : بعد أن عرفنا حال التوراة التي هي أساس ملة بني إسرائيل فلنعرف حال كتاب يوشع الذي هو في المنزلة الثانية بعد التوراة، فإن علماء أهل الكتاب لم يظهر لهم إلى الآن بطريق اليقين اسم مصنفه ولا زمان تصنيفه، وافترقوا فيه على خمسة أقوال:
1 - بعضهم قال: إنه تصنيف يوشع بن نون فتى موسى عليه السلام.
2 - وبعضهم قال: إنه تصنيف ألعازار بن هارون عليه السلام.
3 - وبعضهم قال: إنه تصنيف فينحاص بن ألعازار بن هارون عليه السلام.
4 - وبعضهم قال: إنه تصنيف صموئيل النبي عليه السلام.
5 - وبعضهم قال: إنه تصنيف إرميا النبي عليه السلام.
وبين يوشع وإرميا عليهما السلام أكثر من ثمانية قرون. فهذا الاختلاف الفاحش دليل كامل على انعدام إسناد هذا الكتاب عندهم، وأنهم يقولون بالظن، وهذا الظن هو السند عندهم.
(1/24)
وتوجد في كتاب يوشع فقرات كثيرة لا يمكن أن تكون من كلام يوشع قطعا، كما توجد فيه فقرات أخرى تدل على أن كاتبه قد يكون معاصرا لداود أو بعده، فمثل هذه الفقرات دليل كامل على أن هذا الكتاب ليس من تصنيف يوشع عليه السلام.
ويوجد بين التوراة الحالية وبين كتاب يوشع مخالفة صريحة وتناقض في بعض الأحكام، فلو كانت هذه التوراة الحالية من تصنيف موسى عليه السلام كما يزعمون أو كان كتاب يوشع من تصنيفه، فلا يتصور أن يخالفها يوشع ويناقضها في بعض الأحكام والمعاملات؛ إذ كيف يغلط يوشع - فتى موسى وخليفته - في معاملات كانت تجري في حضوره؟!
إذا عرفت حال التوراة وحال كتاب يوشع خليفة موسى عليهما السلام فإن حال بقية كتب العهد القديم ليست بأحسن من حالهما، فالخلاف فيها أشد، بل إن بعض المحققين أنكروا كتبا برمتها من كتب العهد القديم وعدوها حكايات باطلة وقصصا كاذبة؛ لأن القدماء أدخلوا كتبا جعلية كثيرة في الكتب القانونية، وهي في الأصل كانت مردودة ومرفوضة.
وهذا دليل كاف على أن أهل الكتاب لا يجود عندهم سند متصل لكتاب من كتبهم، وأنهم يقولون بالظن والتخمين ما يقولون، وأن الكتاب لا يكون إلهاميا بمجرد نسبته إلى شخص ذي إلهام.
(1/25)
[حال الأناجيل]
حال الأناجيل: قدماء النصارى كافة وغير المحصورين من المتأخرين متفقون على أن الإنجيل المنسوب إلى متى كان باللغة العبرانية، وأنه فقد بسبب تحريف الفرق النصرانية، وبسبب الفتن العظيمة التي مرت على النصارى في القرون الثلاثة الأولى، وأما نسخة إنجيل متى الموجودة الآن باللغة العبرانية فهي مترجمة عن الترجمة اليونانية ولا يوجد عندهم سند هذه الترجمة، ولا يعرفون اسم المترجم ولا أحواله كما اعترف به جيروم، ولكنهم يقولون بالظن: لعل فلانا أو فلانا ترجمه، وبمثل هذا الظن لا يثبت استناد الكتاب إلى مصنفه.
وتوجد نصوص لأكثر من خمسين عالما تجمع على أن هذا الإنجيل المنسوب إلى متى والذي هو أول الأناجيل وأقدمها عندهم ليس من تصنيفه يقينا؛ لأن جميع كتب العهد الجديد ألفت باللغة اليونانية ماعدا إنجيل متى والرسالة العبرانية، فإن تأليفها باللغة العبرانية أمر يقيني بالأدلة القاطعة، ومتى هو الوحيد الذي انفرد من بين كتاب الأناجيل باستعمال اللغة العبرانية، فكتب إنجيله بها في فلسطين لليهود العبرانيين الذين كانوا ينتظرون شخصا موعودا من نسل إبراهيم وداود، ثم ترجمه المترجمون كل واحد على قدر فهمه واستطاعته، وأما متى فهو لم يترجم إنجيله لليونانية، والمترجم غير معروف من هو؟ أما باقي كتاب الأناجيل، فكتبوا باللغة اليونانية، ومن قال: إن متى كتب إنجيله باللغة اليونانية فقد غلط.
والمحقق نورتن كتب كتابا ضخما أثبت فيه أن التوراة جعلية وليست من تصنيف موسى عليه السلام، وأثبت فيه تحريفات كثيرة وقعت في الأناجيل،
(1/26)
وذكر في هذا الكتاب أنه يعتقد أن متى كتب إنجيله باللغة العبرانية؛ لأن القدماء الذين أشاروا إلى هذا الأمر قولهم واحد بالاتفاق، ولم يقل أحد من القدماء بخلافهم، فهذه الشهادة مقبولة، ولا يوجد عليها اعتراض يحتاج إلى تحقيق، بل شهد القدماء على أن النسخة العبرانية لهذا الإنجيل كانت موجودة عند النصارى الذين كانوا من قوم اليهود، وهذه النسخة العبرانية كانت موجودة ومستعملة إلى عهد جيروم، فهذا الموجود الآن من إنجيل متى هو ترجمة لم يعرف اسم مترجمها ولا بقية أحواله على وجه التحقيق، ويقوي قول القدماء أن متى كان من الحواريين، ورأى أكثر أحوال المسيح عليه السلام بعينيه، وسمع أكثرها بأذنيه، فلو كان هو مؤلف هذا الإنجيل، لظهر من كلامه ولو في موضع واحد من المواضع أنه يكتب الأحوال التي رآها، ولعبر عن نفسه بصيغة المتكلم كما جرت به العادة سلفا وخلفا، فهذا الإنجيل المنسوب إلى متى ليس من تصنيفه قطعا.
وقال فاستس كبير علماء فرقة ماني كيز وبروفسر الجرمني: هذا الإنجيل كله كاذب، والبابان الأولان منه إلحاقيان مردودان عند الفرقة المارسيونية والفرقة الأبيونية وفرقة تيرين وعند القسيس وليمس.
والمحقق نورتن أنكر هذين البابين ومواضع كثيرة في هذا الإنجيل.
وقد صرح جيروم أن بعض العلماء المتقدمين كانوا يشكون في الإصحاح السادس عشر الذي هو آخر إصحاحات إنجيل مرقس، ويشكون في الإصحاح الأول والثاني وبعض الفقرات من الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل لوقا، والإصحاحان الأول والثاني لم يكونا في نسخة فرقة مارسيوني.
(1/27)
وقال المحقق نورتن إن الفقرة التاسعة إلى الفقرة العشرين من الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس فقرات إلحاقية، وأن العادة الجبلية للكاتبين أنهم كانوا أشد رغبة في إدخال العبارات من إخراجها.
وأما بالنسبة للإنجيل المنسوب إلى يوحنا فهناك عدة أمور تدل على أنه ليس من تصنيف يوحنا الحواري صاحب عيسى عليه السلام، وهي:
1 - لا يظهر من أي موضع في هذا الإنجيل أن كاتبه كتب الحالات التي رآها بعينه أو الحوادث التي وقعت بحضوره، بل تشهد عبارات هذا الإنجيل على أن كاتبه غير يوحنا الحواري؛ فهو يقول في ختام هذا الإنجيل 21 / 24: (هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق) .
فاستعمل الكاتب في حق يوحنا ضمائر الغائب، لكنه قال في حق نفسه (نعلم) على صيغة المتكلم، فثبت أن كاتبه غير يوحنا الحواري قطعا.
2 - أن أرينيوس الذي عاش في القرن الميلادي الثاني تتلمذ على بوليكارب، وهذا تتلمذ على يوحنا الحواري، وفي حياة أرينيوس أنكر جماعة نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري، وسكت أرينيوس ولم يرد على المنكرين، فلو كان هذا الإنجيل من تصنيف يوحنا الحواري لعلم به تلميذه بوليكارب، وهذا أخبر تلميذه أرينيوس، علما أن أرينيوس كان مجتهدا في حفظ الروايات اللسانية، ونقل عن بوليكارب أمورا كثيرة أقل شأنا من هذا الأمر الخطير، وهو - أي أرينيوس - أول من ذكر الإناجيل الثلاثة (متى، ومرقس، ولوقا) حوالي سنة 200م، ولم يذكر إنجيل يوحنا، ثم تبعه في ذكرها كليمنس إسكندر يانوس سنة 216م، فهذا ثاني من ذكر الأناجيل
(1/28)
الثلاثة، وأول من ذكر الأناجيل الأربعة، فالمعتقدون أن هذا الإنجيل من تصنيف يوحنا الحواري لم يستطيعوا أن يأتوا بدليل واحد ضد المنكرين، ولا شهد لهم أرينيوس بصحته.
3 - أن إنكار نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري ليس بمختص بأهل الإسلام لما يلي:
ا - أن العالم الوثني سلسوس كان يصيح في القرن الميلادي الثاني أن النصارى بدلوا أناجيلهم ثلاث مرات أو أربع مرات تبديلا غير مضامينها.
ب - أن رئيس فرقة ماني كيز - العالم فاستس - كان يصيح في القرن الميلادي الرابع بأنه متأكد أن هذا العهد الجديد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجل مجهول الاسم، ونسبه إلى الحواريين ورفقائهم ليأخذ به الناس، وبذلك يكون قد آذى أتباع عيسى إيذاء بليغا؛ لأنه ألف الكتب التي فيها الأغلاط والتناقضات.
ج - أن استادلن كتب أن مؤلف إنجيل يوحنا هو طالب من طلاب مدرسة الإسكندرية بلا ريب.
د- أن المحقق برطشنيدر قال: إن هذا الإنجيل وكذا رسائل يوحنا الثلاث ليست من تصنيف يوحنا الحواري، وأنها مع الإنجيل ألفت في ابتداء القرن الميلادي الثاني.
هـ - أن المحقق المشهور كروتيس قال: إن كنيسة أفسس ألحقت الباب الحادي والعشرين.
(1/29)
وأن فرقة ألوجين في القرن الميلادي الثاني رفضت هذا الإنجيل وجميع تصانيف يوحنا، وأنكرت أن يكون من تصنيف يوحنا الحواري.
وأختم بما قاله المحقق هورن؛ فقد ذكر في تفسيره أن الحالات التي وصلت إليهم بخصوص زمان تأليف الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة ناقصة ولا توصل إلى أمر معين؛ لأن المشايخ القدماء الأولين صدقوا الروايات الواهية والقصص الكاذبة وكتبوها في كتبهم، والذين جاءوا من بعدهم قبلوها تعظيما لهم، ثم وصلت هذه الروايات الصادقة والكاذبة من كاتب إلى آخر حتى تعذر تنقيحها لطول الزمان.
وذكر هورن أن الاختلاف حاصل في زمان تأليف الأناجيل حسب السنوات التالية:
- إنجيل متى: سنة 37م أو 38م أو 41م، أو 43م أو 48م أو 61م أو 62م أو 63م أو 64م.
- إنجيل مرقس: سنة 56 م أو ما بعدها إلى سنة 65م.
- إنجيل لوقا: سنة 53م أو 63م أو 64م.
- إنجيل يوحنا: سنة 68م أو 69م أو 70م أو 97م أو 98م.
إذا عرفت حال الأناجيل الأربعة المقدمة عند كافة النصارى، فإن بقية رسائل العهد الجديد ليست بأحسن حالا من حال الأناجيل.
وبهذا ثبت لكل عاقل لبيب أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد القديم ولا من كتب العهد الجديد.
وعليه فلا مجال لأهل الكتاب أن يدعوا أن كتبهم مكتوبة بالوحي
(1/30)
والإلهام؛ لأن هذا الادعاء باطل قطعا، ويدل على بطلانه ما يلي:
ا - أن هذه الكتب مليئة بالأغلاط والتحريفات المقصودة المتعمدة وغير المتعمدة، وبالاختلافات المعنوية في مواضع غير محصورة، بحيث لا مجال لعلماء أهل الكتاب أن ينكروها، حتى اضطر محققوهم ومفسروهم للتسليم بالأغلاط والتحريفات الكثيرة، وسلموا أيضا في الاختلافات بأن إحدى العبارات تكون صادقة، وغيرها كاذبة جعلية، وحاولوا توجيه بعض الاختلافات والاعتذار عنها بتوجيهات ركيكة واعتذارات ضعيفة، لا يقبلها العقل السليم؛ لأن الكلام الإلهامي يستحيل أن تقع فيه الأغلاط والاختلافات، وإذا حرف خرج عن كونه إلهاميا، وقد قال المحقق هورن: إن الكاتبين كان يجوز لهم أن يكتبوا على حسب طبائعهم وعاداتهم وفهومهم، ولا يتخيل أنهم كانوا يلهمون في كل أمر يكتبونه أو في كل حكم يحكمون به.
وقال جامعو تفسير هنري وإسكات: ليس بضروري أن يكون كل ما كتب النبي إلهاميا أو قانونيا.
وجاء في دائرة المعارف البريطانية أن كثيرين من العلماء قالوا: إنه ليس كل قول مندرج في الكتب المقدسة ولا كل حال من الحالات الواردة فيها إلهاميا، والذين يقولون بأن كل قول مندرج فيها إلهامي، لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة.
وجاء في دائرة معارف ريس التي كتبها العلماء المحققون قولهم: إنه يوجد في أفعال مؤلفي هذه الكتب وأقوالهم أغلاط واختلافات، وإن الحواريين ما
(1/31)
كان يرى بعضهم بعضا صاحب وحي وإلهام، وأن قدماء النصارى ما كانوا يعتقدون أن الحواريين مصونون عن الخطأ؛ لأنه كان يحصل الاعتراض على أفعالهم أحيانا، وكذلك الكتب التي كتبها تلاميذ الحواريين مثل إنجيل مرقس وإنجيل لوقا توقف العلماء في كونها إلهامية، وقد أقر كبار العلماء من فرقة البروتستانت على عدم كون كل كلام في العهد الجديد إلهاميا وعلى غلط الحواريين.
ب - أن المحقق نورتن نقل عن أكهارن قوله: إنه كان في ابتداء الملة المسيحية رسالة مختصرة في بيان أحوال المسيح يجوز أن يقال: إنها هي الإنجيل الأصلي الذي كتب للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم ولم يروا أحواله بأعينهم، وكان هذا الإنجيل مرجعا لجميع الأناجيل التي كثرت في القرنين الأول والثاني، ومنها أناجيل متى ومرقس ولوقا، ولكن هذه الأناجيل وقعت في أيدي الذين جبروا نقصانها فضموا إليها أحوالا أخر، ووقعت فيها الزيادة تدريجيا، وصارت النتيجة أن اختلطت الأحوال الصادقة والحكايات الكاذبة، واجتمعت في رواية طويلة، فصارت قبيحة الشكل، وكلما انتقلت هذه الروايات والحكايات من فم إلى فم صارت كريهة غير محققة، حتى اضطرت الكنيسة في آخر القرن الثاني أو ابتداء القرن الثالث إلى اختيار الأناجيل الأربعة من بين الأناجيل الكثيرة الرائجة والتي زادت على السبعين، فأرادت الكنيسة أن يتمسك الناس بهذه الأناجيل الأربعة ويتركوا غيرها، ولو أن الكنيسة حافظت على الإنجيل الأصلي من الإلحاقات لكانت مشكورة، لكن هذا الأمر كان صعبا بسبب
(1/32)
الإلحاقات في النسخ الكثيرة، فلم تكن هناك نسخة تخلو من الإلحاق، حتى تعذر التمييز بين الأصل والملحق، ولذلك كان أكثر القدماء شاكين في الأجزاء الكثيرة من الأناجيل، وما قدروا على أن يفصلوا الأمر، ولم تكن المطابع في ذلك الزمان، فكان ملاك النسخ كل واحد يدخل في نسخته ما يشاء من الحكايات والروايات، فإذا نقلت عن هذه النسخة نسخ متعددة وانتشرت، تعذر التحقيق في أن هذه النسخة هل هي مشتملة على كلام المصنف فقط أم لا؟ وصار المرشدون والواعظون يشكون شكاية عظيمة من أن الكاتبين وملاك النسخ حرفوا مصنفاتهم بعد مدة قليلة من تصنيفها، وأن تلامذة الشيطان أدخلوا فيها نجاسة بإخراج بعض الأشياء، وزيادة بعضها من جانبهم، وأن الكتب المقدسة ما بقيت محفوظة، وزالت عنها صفة الإلهام، ومما يدل على أن التحريف في الكتب المقدسة صار عادة معتادة لأهل ذلك الزمان أن المصنفين صاروا يكتبون في آخر كتبهم اللعن والأيمان الغليظة لئلا يحرف أحد كلامهم، ولكن هذا التحريف وقع في سيرة عيسى أيضا، واشتهر لدرجة أن العالم الوثني سلسوس اعترض على النصارى بأن أناجيلهم بدلت ثلاث أو أربع مرات، بل أزيد من ذلك، ولا عجب في ذلك؛ لأن الناس الذين لم يكن لهم استعداد للتحقيق اشتغلوا من وقت ظهور الأناجيل بالزيادة فيها والنقصان منها، وتبديل لفظ بمرادف له، فقد كانوا يبدلون عبارات الوعظ والحالات العيسوية حسب ما يشتهون، وعادة التحريف هذه التي أجراها أهل الطبقة الأولى استمرت في أهل الطبقة الثانية والثالثة، وانتشرت بحيث كان المخالفون للدين
(1/34)
النصراني مطلعين على هذه العادة، وذكر كليمنس إسكندر يانوس في آخر القرن الميلادي الثاني أن أناسا كانت مهمتهم تحريف الأناجيل.
وعلق نورتن على كلام أكهارن السابق بأن هذا ليس رأي أكهارن فقط، بل هو رأي كثير من علماء الجرمن، ورغم أن نورتن محام عن الإنجيل، لكنه ذكر سبعة مواضع بالتفصيل في هذه الأناجيل الأربعة، واعترف بأنها إلحاقية محرفة، وذكر أن الكذب اختلط ببيان المعجزات، وأن تمييز الصدق عن الكذب عسير في هذا الزمان.
فهل الكتاب الذي اختلط فيه الصدق بالكذب يكون إلهاميا؟! وهل بقي مجال لأحد من أهل الكتاب أن يدعي إلهامية كل كتاب من كتب العهدين أو كل حالة من الحالات المندرجة فيها؟!
إننا نحن المسلمين نعتقد أن التوراة الأصلية (المنزلة على موسى عليه السلام) ، وكذا الإنجيل الأصلي (المنزل على عيسى عليه السلام) فقد فقدا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الموجود الآن منهما (أي التوراة والإنجيل) بمنزلة كتابين من كتب السير مجموعين من الروايات الصحيحة والكاذبة، ولا نقول: إنهما كانا موجودين على أصالتهما بدون تحريف إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم وقع التحريف فيهما بعد ظهوره صلى الله عليه وسلم، فلا أحد من المسلمين يقول بذلك.
وأما بالنسبة لشاول بولس فرسائله مردودة ومرفوضة؛ أنه عندنا نحن المسلمين من الكذابين الذين ظهروا في القرن الأول لإفساد دين المسيح عليه السلام، وأما الحواريون الذين هم أصحاب عيسى وخلصاؤه، فنعتقد في حقهم الصلاح ولا نعتقد في حقهم النبوة، وأقوالهم عندنا كأقوال المجتهدين
(1/34)
الصالحين محتملة للخطأ، وإن فقدان السند المتصل خلال القرنين الأول والثاني وفقدان الإنجيل الأصلي يرفع الأمان عن أقوال الحواريين، وبخاصة أنهم في كثير من الأوقات ما كانوا يفهمون مراد المسيح من أقواله كما يظهر من الأناجيل الحالية؛ لأن الإجمال يوجد كثيرا في كلامه.
أما مرقس ولوقا فليسا من الحواريين، ولم يثبت بدليل ما أنهما من ذوي الإلهام، بل ولم يحظيا برؤية المسيح لحظة واحدة.
فالتوراة عندنا نحن المسلمين هي الكتاب السماوي المنزل على موسى عليه السلام، والإنجيل هو الكتاب السماوي المنزل على عيسى عليه السلام، وكل ما فيهما وحي من الله تعالى لا يجوز تحريفه بالزيادة فيه أو بالنقصان منه، أو بتبديل كلمة بأخرى، ففي السور التالية: (البقرة 87، هود 110، المؤمنون 49، الفرقان 35، القصص 43، السجدة 23، فصلت 45) قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة: 87] وفي سورة المائدة آية 46، وسورة الحديد آية 27 قول الله تعالى في حق عيسى بن عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} [المائدة: 46] وفي سورة مريم آية 30 قول الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم: 30] وفي سورة البقرة آية 136، وسورة آل عمران آية 84 قول الله تعالى {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} [آل عمران: 84] أي: كتاب التوراة وكتاب الإنجيل.
إذن هذه التواريخ والرسائل المدونة ضمن كتب العهدين القديم والجديد والمعروفة الآن باسم الكتاب المقدس، ليست هي التوراة والإنجيل المذكورين في القرآن الكريم، ولا يجب التسليم بصحتها وإلهاميتها، بل حكم كتب العهدين جميعها: أن كل رواية فيها أن صدقها القرآن الكريم فهي مقبولة يقينا عندنا،
(1/35)
نصدقها ولا حرج، وإن كذبها القرآن الكريم فهي مردودة عندنا يقينا، نكذبها ولا حرج، وإن سكت القرآن عن التصديق أو التكذيب فنسكت عنها، أي لا نصدقها ولا نكذبها، قال الله تعالى في سورة المائدة آية 48: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فالقرآن الكريم أمين على ما قبله من الكتب، أي يظهر ما فيها من الحق ويؤيده، ويظهر ما فيها من الباطل ويرد عليه.
وإن علماء الإسلام الذين ردوا على التوراة والإنجيل وأظهروا ما فيهما من الكذب والتحريف، لم يقصدوا الرد على التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى إلى موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنهم قصدوا الرد على هذه الكتب والتواريخ والسير التي جمعت في كتب العهدين خلال بضعة قرون، ثم زعموا أنها كتبت بالوحي والألهام، وهي التي قال الله تعالى فيها في سورة البقرة آية 79: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]
وقد أجمع أهل الإسلام قاطبة على أن التوراة الحقيقية هي ما نطق بها موسى عليه السلام بوحي الله تعالى إليه، وعلى أن الإنجيل الحقيقي هو ما نطق به المسيح عيسى عليه السلام بوحي الله تعالى إليه، وعلى أن هذا المجموع المشتهر الآن باسم العهدين القديم والجديد ليس هو الذي جاء ذكره في القرآن الكريم؛ لأن للتوراة الآن ثلاث نسخ مختلفة، والأناجيل أربعة مختلفة أيضا، والله تعالى أنزل توراة واحدة على موسى، وإنجيلا واحدا على عيسى، فمن أنكر التوراة والإنجيل الوارد ذكرهما في القرآن الكريم فهو كافر وخارج عن ملة
(1/36)
الإسلام، ومن أنكر القصص الكاذبة والروايات المفتراة على الله تعالى وعلى أنبيائه الكرام، والموجودة فيما يسمى بكتب العهدين أو (الكتاب المقدس) ، فلا يكفر ولا يخرج من ملة الإسلام، بل يعد ذلك الإنكار وإظهار ما فيها من التحريف والكذب واجبا على علماء الإسلام، لتبرئة ساحة الألوهية وساحة النبوة مما لا يليق بجلال الله تعالى ولا يليق بعصمة الأنبياء.
فهذه النسخ الثلاث للتوراة مختلفة فيما بينها، ووقعت فيها الأغلاط والاختلافات والتناقضات، وذكرت فيها قصة موسى ودفنه في أرض موآب، فنجزم أنها ليست هي التوراة الصحيحة المنزلة على موسى عليه السلام.
وهذه الأناجيل الأربعة أيضا مختلفة فيما بينها، ووقعت فيها الأغلاط والاختلافات والتناقضات، وذكرت فيها قصة صلب المسيح (بزعمهم) ، وأنه صلب ومات يوم كذا ودفن في القبر، فنجزم أنها ليست هي الإنجيل الصحيح المنزل علي عيسى عليه السلام.
(1/37)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الفصل الثالث بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف]
[القسم الأول بيان بعض الاختلافات]
[الاختلاف في أسماء أولاد بنيامين وعددهم]
الفصل الثالث
بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف
القسم الأول
بيان بعض الاختلافات 1 - الاختلاف في أسماء أولاد بنيامين وفي عددهم: ففي سفر أخبار الأيام الأول 7 / 6: (لبنيامين بالع وباكر ويديعئيل. ثلاثة) .
وفي سفر أخبار الأيام الأول 8 / 1 -2: (1) وبنيامين ولد بالع بكره وأشبيل الثاني وأخرخ الثالث (2) ونوحة الرابع ورافا الخامس) .
وفي سفر التكوين 46: (وبنو بنيامين بالع وباكر وأشبيل وجيرا ونعمان وإيحي وروش ومفيم وحفيم وأرد) .
فأبناء بنيامين حسب النص الأول: ثلاثة، وعلى حسب النص الثاني: خمسة، فاختلف النصان في أسمائهم وعددهم، واتفقا في اسم بالع فقط، وهؤلاء الأبناء على حسب النص الثالث: عشرة، فاختلف مع النصين السابقين في الأسماء والعدد أيضا، واتفق مع النص الأول في اسم اثنين منهم، واتفق مع النص الثاني في اسم اثنين منهم، ولم تتفق النصوص الثلاثة إلا في اسم بالع فقط.
(1/39)
وبما أن النصين الأول والثاني من كتاب واحد يلزم الاختلاف والتناقض في كلام مصنف واحد هو عزرا، ثم الاختلاف والتناقض بين ما كتب عزرا في سفر الأخبار وبين سفر التكوين، وقد تحير علماء أهل الكتاب في هذا الاختلال والتناقض واضطروا فنسبوا الخطأ إلى عزرا فقالوا: إن أوراق النسب التي نقل عنها عزرا ناقصة، فلم يميز بين الأبناء وبين أبناء الأبناء.
[الاختلاف في عدد المقاتلين في إسرائيل ويهوذا]
2 - الاختلاف في عدد المقاتلين في إسرائيل ويهوذا: ففي سفر صموئيل الثاني 24 / 9: (فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك فكان إسرائيل ثمانمائة ألف رجل ذي بأس مستل السيف ورجال يهوذا خمس مئة ألف رجل) .
وفي سفر أخبار الأيام الأول 21 / 5: (فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى داود فكان كل إسرائيل ألف ألف ومائة ألف رجل مستلي السيف ويهوذا أربع مائة وسبعين ألف رجل مستلي السيف) .
فعدد المقاتلين حسب النص الأول في إسرائيل (000ر800) ، وفي يهوذا (000ر500) ، وعلى حسب النص الثاني عددهم في إسرائيل (000ر100ر1) ، وفي يهوذا (000ر470) .
فبين النصين اختلاف كبير في عدد المقاتلين من إسرائيل بمقدار ثلاثمائة ألف (000ر300) ، وفي عدد المقاتلين من يهوذا بمقدار ثلاثين ألفا (000ر30) ، وقد اعترف آدم كلارك في تفسيره بأن تعيين النص الصحيح منهما عسير؛ لأن كتب التواريخ وقع فيها تحريفات كثيرة، وأن الاجتهاد في التطبيق عبث، والأحسن التسليم بالتحريف، لأن هذا الأمر لا قدرة على إنكاره، ولأن
(1/40)
الناقلين لم يكونوا ذوي إلهام.
[الاختلاف في خبر جاد الرائي]
3 - الاختلاف في خبر جاد الرائي: ففي سفر صموئيل الثاني 24 / 13: (فأتى جاد إلى داود وأخبره وقال له: أتأتي عليك سبع سني جوع في أرضك أم تهرب ثلاثة أشهر أمام أعدائك وهم يتبعونك؟) .
وفي سفر أخبار الأيام الأول 21 / 11 - 12: (11) فجاء جاد إلى داود وقال له هكذا قال الرب: اقبل لنفسك (12) إما ثلاث سنين جوع أو ثلاثة أشهر هلاك أمام مضايقيك وسيف أعدائك يدركك) .
فبين النصين اختلاف في مدة الجوع، ففي الأول سبع سنين، وفي الثاني ثلاث سنين، وقد أقر مفسروهم أن النص الأول غلط. وقال آدم كلارك: إن نص سفر الأخبار صادق بلا ريب، وهو موافق لما في اليونانية.
[الاختلاف في عمر الملك أخزيا عندما ملك]
4 - الاختلاف في عمر الملك أخزيا عندما ملك: ففي سفر الملوك الثاني (8 / 26: (كان أخزيا ابن اثنتين وعشرين سنة حين ملك وملك سنة واحدة في أورشليم) .
وفي سفر أخبار الأيام الثاني 22 / 2: (كان أخزيا ابن اثنتين وأربعين سنة حين ملك وملك سنة واحدة في أورشليم) .
فبين النصين اختلاف بمقدار عشرين سنة، ولا شك أن النص الثاني غلط؛ لأن أباه يهورام (على حسب ما في سفر أخبار الأيام الثاني 21 و 22 / 1 -2) مات وهو ابن أربعين سنة، وتولى أخزيا الملك بعد موت أبيه مباشرة، فلو لم يكن النص الثاني غلطا يلزم أن يكون أخزيا أكبر من أبيه
(1/41)
بسنتين، وهو ممتنع جدا، وقد أقر آدم كلارك وهورن وهنري وإسكات في تفاسيرهم بأن هذا الاختلاف وقع من غلط الكاتب.
[الاختلاف في عمر الملك يهوياكين عندما ملك]
5 - الاختلاف في عمر الملك يهوياكين عندما ملك: ففي سفر الملوك الثاني 24 / 8 -9: (8) كان يهوياكين ابن ثماني عشرة سنة حين ملك وملك ثلاثة أشهر في أورشليم. . . (9) وعمل الشر في عيني الرب) .
وفي سفر أخبار الأيام الثاني 36 / 9: (كان يهوياكين ابن ثماني سنين حين ملك وملك ثلاثة أشهر وعشرة أيام في أورشليم وعمل في الشر في عيني الرب) .
فبين النصين اختلاف بمقدار عشر سنين، وقد أقر مفسروهم أن الثاني، غلط يقينا؛ لأن مدة حكمه كانت ثلاثة أشهر فقط، ثم ذهب إلى بابل أسيرا، وبقي في السجن وأزواجه معه. وهذا خلاف العادة أن يكون لابن ثماني أزواج، وخلاف الشرع أن يقال لمثل هذا الصغير: إنه عمل الشر في عيني الرب. ولذلك قال المحقق آدم كلارك: هذا الموضع من السفر محرف.
[الاختلاف في عدد الذين قتلهم أحد أبطال داود بالرمح دفعة واحدة]
6 - الاختلاف في عدد الذين قتلهم أحد أبطال داود بالرمح دفعة واحدة: ففي سفر صموئيل الثاني 23: (هو هز رمحه على ثمانمائة قتلهم دفعة واحدة) .
وفي سفر أخبار الأيام الأول 11 / 11: (هو هز رمحه على ثلاثمائة فقتلهم دفعة واحدة) .
(1/42)
فبين النصين اختلاف بمقدار خمسمائة قتيل. قال آدم كلارك والدكتور كني كات: إن في هذه الفقرة ثلاثة تحريفات جسيمة.
[الاختلاف في عدد ما يؤخذ من الطير والبهائم في سفينة نوح عليه السلام]
7 - الاختلاف في عدد ما يؤخذ من الطير والبهائم في سفينة نوح عليه السلام: ففي سفر التكوين 6 / 19 -20: (19) ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى (20) من الطيور كأجناسها ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها) .
وفي سفر التكوين 7 / 8 -9: (8) ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض (9) دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكرا وأنثى. كما أمر الله نوحا) .
وفي سفر التكوين 7 / 2 -3: (2) من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى (3) ومن طيور السماء أيضا سبعة ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض) .
فهذه ثلاثة نصوص في سفر واحد، يفهم من الأول والثاني منها أن الله تعالى أمر نوحا عليه السلام أن يأخذ معه في السفينة من جميع البهائم والطيور وحشرات الأرض اثنين اثنين ذكرا وأنثى، وأن ونوحا عليه السلام قد نفذ هذا الأمر.
بينما يفهم من النص الثالث منها أن الله تعالى أمر نوحا عليه السلام
(1/43)
أن يأخذ معه في السفينة من جميع البهائم الطاهرة فقط ومن جميع الطيور سبعة أزواج سبعة أزواج، أما البهائم التي ليست بطاهرة فيأخذ منها اثنين اثنين فقط.
فليس في النصين الأول والثاني ذكر للسبعة، واتفقا بذكر الاثنين اثنين في الجميع، وفي النص الثالث قيد الاثنين بالبهائم غير الطاهرة، ونص على السبعة وفي الطيور وباقي البهائم، وهو مناقض للنصين الأول والثاني، وهذا اختلاف عظيم.
[الاختلاف في عدد الأسرى الذين أسرهم داود عليه السلام]
8 - الاختلاف في عدد الأسرى الذين أسرهم داود عليه السلام: ففي سفر صموئيل الثاني 8 / 4: (فأخذ داود منه ألفا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل) .
وفي سفر أخبار الأيام الأول 18 / 4: (وأخذ داود منه ألف مركبة وسبعة آلاف فارس وعشرين ألف راجل) .
فاختلف النصان بزيادة (1000) مركبة، و (5300) فارس في النص الثاني.
[الاختلاف في عدد الذين قتلهم داود عليه السلام من أرام]
9 - الاختلاف في عدد الذين قتلهم داود عليه السلام من أرام: ففي سفر صموئيل الثاني 10 / 18: (وقتل داود من أرام سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس) .
وفي سفر أخبار الأيام الأول 19 / 18: (وقتل داود من أرام سبعة آلاف مركبة وأربعين ألف راجل) .
فاختلف النصان بزيادة (6300) مركبة في النص الثاني.
(1/44)
[الاختلاف في عدد مذاود خيل سليمان عليه السلام]
10 - الاختلاف في عدد مذاود خيل سليمان عليه السلام: ففي سفر الملوك الأول 4 / 26: (وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس) .
وفي سفر أخبار الأيام الثاني 9 / 25: (وكان لسليمان أربعة آلاف مذود خيل ومركبات واثنا عشر ألف فارس) .
فاختلف النصان بزيادة (36000) مذود في النص الأول، وقد قال المفسر آدم كلارك: الأحسن أن نعترف بوقوع التحريف في العدد.
[الاختلاف في بيان نسب المسيح عليه السلام]
11 - الاختلاف في بيان نسب المسيح عليه السلام: نسب المسيح عليه السلام مذكور في إنجيل متى 1 / 1 -17، وفي إنجيل لوقا 3 / 23 -38، ومن قابل بين سياق النسبين فيهما وجد ستة اختلافات عظيمة، هي:
ا - في إنجيل متى 1 / 16: أن رجل مريم والدة المسيح هو يوسف بن يعقوب، وفي إنجيل لوقا 3: أنه يوسف بن هالي.
ب- في إنجيل متى 1 / 6: أن المسيح من نسل سليمان بن داود عليهم السلام، وفي إنجيل لوقا 3 / 31: أنه من نسل ناثان بن داود عليه السلام.
ج- يعلم من إنجيل متى 1 / 6 -11: أن جميع آباء المسيح من داود إلى سبي بابل ملوك مشهورين، ويعلم من إنجيل لوقا 3 / 27 -31: أنهم ليسوا ملوكا ولا مشهورين، غير داود عليه السلام وابنه ناثان.
د- في إنجيل متى 1 / 12: أن شألتئيل ابن يكنيا، وفي إنجيل لوقا 3 / 27: أن شألتئيل ابن نيري.
(1/45)
هـ - في إنجيل متى 1 / 13: أن ابن زربابل اسمه: أبيهود، وفي إنجيل لوقا 3 / 27: أن ابن زربابل اسمه: ريسا.
والعجب أن أسماء أبناء زربابل مكتوبة في سفر أخبار الأيام الأول 3 / 19، وليس فيهم أبيهود ولا ريسا.
ويعلم من سياق النسب في إنجيل متى 1 / 6 -17: أن عدد الأجيال بين داود والمسيح عليهما السلام ستة وعشرون جيلا، ويعلم من سياق نفس النسب في إنجيل لوقا 3 / 23-31: أن عدد الأجيال بينهما واحد وأربعون جيلا.
وقد تحير علماء النصارى والمحققون القدماء في هذا الاختلاف منذ اشتهار هذين الإنجيلين في القرن الميلادي الثالث، ولم يستطيعوا إزالته، وطمعوا في أن يزول هذا الاختلاف بمرور الزمان، ولكن خاب أملهم، وما زال الاختلاف في هذا النسب إلى الآن موجودا ومحيرا للمتأخرين أيضا.
[الاختلاف في عدد الذين شفاهم المسيح عليه السلام]
12 - الاختلاف في عدد الذين شفاهم المسيح عليه السلام: وردت قصة الأعميين في إنجيل متى 20 / 29 -34، وأكتفي بنقل بعض فقراتها: (29) وفيما هم خارجون من أريحا تبعه جمع كثير (30) وإذا أعميان جالسان على الطريق. . . (34) فتحنن يسوع ولمس أعينهما فللوقت أبصرت أعينهما فتبعاه) .
ووردت قصة المجنونين في إنجيل متى 8 / 28 -34، وأكتفي بنقل أول فقراتها: (28) ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جدا. . .) .
(1/46)
ففي هذين النصين من إنجيل متى أنهما أعميان ومجنونان.
والقصة الأولى عينها وردت في إنجيل مرقس 10 / 46 -52، ويعلم منها أن الجالس على الطريق أعمى واحد اسمه بارتيماوس.
والقصة الثانية عينها وردت في إنجيل مرقس 5 / 1 -20، وفي إنجيل لوقا 8 / 26-39، ويعلم من هذين الموضعين أن الذي استقبله مجنون واحد.
[الاختلاف في العصا الواردة في وصية المسيح لتلاميذه الاثني عشر]
13 - الاختلاف في العصا الواردة في وصية المسيح لتلاميذه الاثني عشر: ففي إنجيل متى 10 / 9 -10: (9) لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم (1) (10) ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا) .
ومثلها في إنجيل لوقا 9 / 3: (وقال لهم: لا تحملوا شيئا للطريق لا عصا ولا مزودا ولا خبزا ولا فضة ولا يكون للواحد ثوبان) .
وفي إنجيل مرقس 6 / 8 -9: (8) وأوصاهم أن لا يحملوا شيئا للطريق غير عصا فقط. لا مزودا ولا خبزا ولا نحاسا في المنطقة (9) بل يكونوا مشدودين بنعال ولا يلبسوا ثوبين) .
فهذه ثلاثة نصوص يفيد الأول والثاني منها أن عيسى عليه السلام لما أرسل الحواريين الاثني عشر منعهم من أن يحملوا أي شيء معهم، حتى ولا عصا للطريق.
بينما يفيد النص الثالث أنه عليه السلام سمح لهم فقط أن يأخذوا عصا للطريق.
[الاختلاف في شهادة المسيح لنفسه]
_________
(1) جمع منطقة وهي النطاق أي الزنار الذي يشد على وسط الإنسان.
(1/47)
ففي إنجيل يوحنا 5 / 31 قول المسيح: (إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا) .
وفي إنجيل يوحنا 8 / 14 قول المسيح: (وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق) .
فالنص الأول يفيد عدم الأخذ بشهادة المسيح لنفسه، والنص الثاني يفيد وجوب الأخذ بشهادة المسيح لنفسه.
[الاختلاف في حامل الصليب إلى مكان الصلب]
15 - الاختلاف في حامل الصليب إلى مكان الصلب: ففي إنجيل متى 27: (وفيما هم خارجون وجدوا إنسانا قيروانيا اسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه) .
وفي إنجيل لوقا 23 / 26: (ولما مضوا به أمسكوا سمعان رجلا قيروانيا كان آتيا من الحقل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع) .
وفي إنجيل يوحنا 19 / 17: (فأخذوا يسوع ومضوا به فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال به موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة) .
فهذه نصوص ثلاثة، يفيد الأول والثاني منها عند متى ولوقا أن الذي حمل الصليب هو سمعان القيرواني، ويفيد الثالث منها عند يوحنا أن الذي حمل الصليب هو المسيح نفسه.
[هل المسيح صانع سلام أم ضده]
16 - هل المسيح صانع سلام أم ضده؟ ففي إنجيل متى 5 / 9: (طوبى لصانعي السلام. لأنهم أبناء الله يدعون) .
وفي إنجيل لوقا 9 / 56: (لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص) .
(1/48)
وفي إنجيل متى 10 / 34: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا) .
وفي إنجيل لوقا 12 / 49 و 51: (49) جئت لألقي نار على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت (51) أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض. كلا أقول لكم بل انقساما) .
والاختلاف واضح، ففي النصين الأول والثاني مدح صانعي السلام بقوله: (طوبى) ، وبين أنه ما جاء ليهلك أنفس الناس بل ليخلصهم، وفي النصين الثالث والرابع نفى عن نفسه السلام، وأثبت ضده، وبين أنه جاء بالسيف ليلقي النار والانقسام.
فيلزم من هذا أن عيسى عليه السلام ما جاء ليخلص، بل ليهلك، وأنه لا يكون من الذين قيل في حقهم: طوبى لصانعي السلام.
(1/49)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[القسم الثاني بيان بعض الأغلاط]
[الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر]
القسم الثاني
بيان بعض الأغلاط وهي غير الاختلافات السابقة، وذلك لأن الاختلافات تستخرج بالمقابلة بين النسخ وتراجمها وأصحاحاتها، أما الأغلاط فتعرف بعدم مطابقتها للواقع، أو للعقل، أو للعرف، أو للتاريخ، أو لعلم الرياضيات، أو لأي علم آخر حسب أقوال المحققين، كما سترى.
1 - الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر: ورد في سفر الخروج 12 / 40 -41: (40) وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مائة وثلاثين سنة (41) وكان عند نهاية أربع مائة وثلاثين سنة في ذلك اليوم عينه أن جميع أجناد الرب خرجت من أرض مصر) .
كنعان وأرض مصر فكانت أربع مئة وثلاثين (430) سنة؛ لأن الزمان من دخول إبراهيم عليه السلام أرض كنعان (فلسطين) إلى ولادة ابنه إسحاق عليه السلام (25) سنة، ومن ولادة إسحاق إلى ولادة يعقوب عليهما السلام (60) سنة، وكان عمر يعقوب عليه السلام عندما دخل أرض مصر (130) سنة، فيكون مجموع السنوات من دخول إبراهيم عليه السلام أرض كنعان إلى دخول حفيده يعقوب عليه السلام أرض مصر مائتين وخمس عشرة سنة.
25 - + 60+ 130 = 215 سنة.
وكانت مدة إقامة بني إسرائيل في أرض مصر منذ دخلها يعقوب عليه
(1/50)
السلام إلى خروجهم مع موسى عليه السلام مائتين وخمس عشرة (215) سنة أيضا، فيكون مجموع الإقامتين في أرض كنعان وأرض مصر أربع مئة وثلاثين (430) سنة، وقد أقر علماء أهل الكتاب من المفسرين والمؤرخين والمحققين بهذا الغلط، وقالوا: إن عبارة نسخة التوراة السامرية التي تجمع بين الإقامتين صحيحة، وتزيل الغلط الواقع في غيرها.
ونص فقرة سفر الخروج 12 / 40 في التوراة السامرية كما يلي: (وسكنى بني إسرائيل وآبائهم ما سكنوا في أرض كنعان وفي أرض مصر ثلاثين سنة وأربع مائة سنة) . ونصها في التوراة اليونانية كما يلي: (فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل وآباؤهم وأجدادهم في أرض كنعان وأرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة) .
وهذا ما ذهب إليه صاحب الكتاب المعتمد عند محققي النصارى والمسمى: (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) ، فقد ذكر أن الزمان من إقامة يعقوب في مصر إلى ولادة المسيح (1706) سنوات، ومن عبور بني إسرائيل البحر وغرق فرعون إلى ولادة المسيح (1491) سنة، فإذا طرحنا 1706- 1491= 215 سنة، هي مدة إقامة بني إسرائيل في مصر من دخول يعقوب إليها إلى خروج موسى منها وغرق فرعون، فإذا عرفنا أن يعقوب عليه السلام هو الأب الرابع لموسى عليه السلام (لأنه موسى بن عمران بن قهات بن لاوي بن يعقوب) حصل اليقين والجزم بأن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر يستحيل أن تكون أكثر من (215) سنة، وهذه هي المدة التي أجمع عليها المؤرخون والمفسرون والمحققون من علماء أهل الكتاب، وغلطوا ما وقع في النسخة العبرانية من أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر وحدها (430) سنة،
(1/51)
ولذلك قال آدم كلارك في تفسيره: إن الكل متفقون على أن مضمون ما جاء في النسخة العبرانية في غاية الإشكال، وعلى أن السامرية في حق أسفار موسى الخمسة أصح من غيرها، وعلى أن التواريخ تؤيد ما جاء في السامرية.
وقال جامعو تفسير هنري وإسكات: إن عبارة السامرية صادقة وتزيل كل مشكل وقع في المتن.
فظهر أن علماء أهل الكتاب لا توجيه عندهم لعبارة سفر الخروج 12 / 40 التي في النسخة العبرانية سوى الاعتراف بأنها غلط.
[الغلط في عدد بني إسرائيل حينما خرجوا مع موسى من أرض مصر]
2 - الغلط في عدد بني إسرائيل حينما خرجوا مع موسى من أرض مصر: ففي سفر العدد 1 / 44 -47: (44) هؤلاء هم المعدودون الذين عدهم موسى وهارون. . . (45) فكان جميع المعدودين من بني إسرائيل حسب بيوت آبائهم من ابن عشرين سنة فصاعدا كل خارج للحرب في إسرائيل (46) كان جميع المعدودين ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين (47) وأما اللاويون حسب سبط آبائهم فلم يعدوا بينهم) .
يفهم من النص السابق أن عدد القادرين على القتال ممن هم في سن العشرين سنة فما فوق من بني إسرائيل الخارجين من مصر مع موسى وهارون عليهما السلام كان (603550) ، وأن جميع أفراد سبط اللاويين ذكورا وإناثا غير داخلين في هذا العدد، وكذلك جميع إناث بني إسرائيل، وجميع الذكور الذين هم دون سن العشرين غير داخلين في هذا العدد أيضا، فلو ضممنا إلى هذا العدد جميع المتروكين والمتروكات لا يكون الكل أقل من مليونين ونصف مليون نفس، وهذا غير صحيح لعدة أمور:
(1/52)
ا - لأنه ورد في سفر التكوين 46 / 27 وفي سفر الخروج 1 / 5 وفي سفر التثنية 10 أن جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون (70) نفسا.
ب - لأن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر كانت مائتين وخمس عشرة (215) سنة فقط.
ج- لأنه ورد في سفر الخروج 1 / 15 -22 أن بني إسرائيل قبل خروجهم من مصر بمقدار ثمانين (80) سنة كان مواليدهم الذكور يقتلون وتستحيا الإناث.
فإذا عرفت هذه الأمور الثلاثة يجزم العقل بالغلط في العدد المذكور (603550) ـ بل لو قطعنا النظر عن قتل مواليدهم الذكور وفرضنا أن عددهم كان يتضاعف في كل خمس وعشرين سنة، فإن عدد (70) سيتضاعف في مدة (215) سنة تسع مرات، فلا يبلغ عددهم أكثر من ستة وثلاثين ألفا (36000) ، فكيف يكون عدد المقاتلين منهم (603550) ؟! وإذا كان مقاتلوهم أكثر من نصف مليون فوجب أن لا يقل عدد جميع بني إسرائيل عن مليونين ونصف، وهذا ممتنع جدا لا يقبله العقل السليم، ولو لوحظ القتل فامتناعه في العقل أظهر. وإلى إنكار هذا العدد (603550) مال العلامة المحقق ابن خلدون في مقدمة تاريخه؛ لأن الذي بين يعقوب وموسى إنما هو ثلاثة آباء أي أربعة أجيال، فهو على حسب ما في سفر الخروج 6 / 16 -20 وسفر العدد 3 / 17 -19: (موسى بن عمران بن قهات بن لاوي بن يعقوب) ، ويبعد أن يتشعب النسل من سبعين نفسا في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد.
(1/53)
وهناك أمران أيضا يؤيدان وقوع الغلط في هذا العدد:
ا - ورد في سفر الخروج 12 / 38 -42 أنه خرج معهم من مصر غنم وبقر ومواش وافرة جدا، وأنهم عبروا البحر ليلة واحدة، وأنهم كانوا يرتحلون كل يوم، وكان يكفي لارتحالهم الأمر اللساني الذي يصدر عن موسى مباشرة بدون واسطة. وقد نزل بنو إسرائيل بعد عبورهم البحر حول طور سيناء عند الاثنتي عشرة عينا، ولو كانوا بنو إسرائيل بالعدد المذكور فيستحيل أن يعبروا البحر مع مواشيهم في ليلة واحدة، ويستحيل أن يرتحلوا كل يوم ولا يكفي لارتحالهم الأمر اللساني الصادر من موسى، كما أن المكان حول طور سيناء لا يتسع لكثرتهم وكثرة مواشيهم.
ب - ورد في سفر الخروج 1 / 15 -22 أنه كان لبني إسرائيل في مصر قابلتان فقط لتوليد نسائهم، وإليهما صدر الأمر الفرعوني بقتل كل مولود ذكر من أبنائهم، فلو كان عدد بني إسرائيل بالقدر المذكور يستحيل أن تكفي قابلتان لتوليد نسائهم، ولوجب أن يكون بينهم مئات القوابل.
فالحق أن عدد بني إسرائيل كان بالقدر الذي يمكن تناسله من سبعين (70) نفسا في مدة مائتين وخمس عشرة (215) سنة، وتكفيه قابلتان للتوليد، وتكفي ليلة واحدة لخروجهم مع مواشيهم من أرض مصر إلى أرض سيناء، وأن هذا العدد كان يكفيه الأمر اللساني من موسى عليه السلام لارتحالهم كل يوم، وأن المكان المحيط بطور سيناء يكفي لنزولهم مع مواشيهم، ونجزم بلا أدنى سك أن العدد المذكور في سفر العدد 1 / 44-47 (أي أن مقاتلي بني إسرائيل فقط كانوا 603550) غلط يقينا.
(1/54)
[الغلط الذي يلزم منه نفي نبوة داود عليه السلام]
3 - الغلط الذي يلزم منه نفي نبوة داود عليه السلام: ففي سفر التثنية 23 / 2: (لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب. حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب) .
فهذا النص غلط؛ لأنه يلزم منه أن لا يدخل داود عليه السلام في جماعة الرب، ولا يكون نبيا؛ لأن فارص هو ولد زنا، فقد زنى أبوه يهوذا بكنته ثامار، فولدت له فارص من هذا الزنا، كما هو مذكور في سفر التكوين 38 / 12 -30 وداود هو البطن التاسع بعد فارص، وإذا ابتدأنا بفارص فهو البطن العاشر؛ لأن نسب داود كما ورد في إنجيل متى 1 / 1 -6، وفي إنجيل لوقا 3 / 31 -33 كما يلي:
داود بن يسى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناداب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ويعد داود رئيس جماعة الرب وأعلى من كل ملوك الأرض على حسب ما ورد في سفر المزامير 89 / 26 -27، والصواب أن فقرة سفر التثنية 23 / 2 غلط، وفي طبعة رجارد واطس في لندن سنة 1825م، وطبعة كلكتا سنة 1826م، زيد في نسب داود الوارد في إنجيل لوقا اسم يورام بين أرام وحصرون، كما يلي: (أرام بن يورام بن حصرون بن فارص) ؛ ليكون داود هو البطن الحادي عشر، ولكن المحرفين بزيادة هذا الاسم نسوا أن يضيفوا اسم يورام في النسب الوارد في إنجيل متى من نفس الطبعتين، فافتضح أمرهم، ووقع الاختلاف في نسب داود بين الإنجيلين في الطبعتين المذكورتين، وبقي الاعتراض قائما، وأيضا لم يرد اسم يورام في طبعة سنة 1844 م ولا في طبعة سنة
(1/55)
1865 - م، ولا في ما بعدها، لا في إنجيل متى ولا في إنجيل لوقا، وبقي فيها كلها: (أرام بن حصرون) ، والصواب أن فقرة سفر التثنية 23 / 2 غلط من أساسها، وأن قصة زنا يهوذا بن يعقوب بكنته ثامار مفتراة من أساسها أيضا، وهذا الحكم لا يمكن أن يكون من جانب الله تعالى، ولا من كتابة موسى عليه السلام، وقد حكم المفسر هارسلي بأن عبارة: (حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب) إلحاقية، أي من التحريف بالزيادة.
[الغلط في عدد المضروبين من أهل بيتشمس]
3 - الغلط في عدد المضروبين من أهل بيتشمس: أكتفي بالفقرتين التاليتين من قصة التابوت المذكورة في سفر صموئيل الأول 6 / 13 و19: (13) وكان أهل بيتشمس يحصدون حصاد الحنطة في الوادي. فرفعوا أعينهم ورأوا التابوت وفرحوا برؤيته (19) وضرب أهل بيتشمس لأنهم نظروا إلى تابوت الرب. وضرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين رجلا. فناح الشعب لأن الرب ضرب الشعب ضربة عظيمة) .
ولا شك أن هذا الخبر غلط، فقد قال آدم كلارك بعد الطعن فيه: الغالب أن المتن العبري محرف، إما سقط منه بعض الألفاظ، وإما زيد فيه لفظ: (خمسون ألف) جهلا أو قصدا؛ لأنه لا يمكن أن يكون أهل تلك القرية الصغيرة بهذا العدد، ولا يمكن أن يكون هذا العدد مشتغلا بحصاد الزرع وقت واحد، وأبعد منه أن يري دفعة واحدة خمسون ألفا التابوت موضوعا على حجر في وسط حقل.
وهذه العبارة وردت في النسخة اللاتينية: (سبعون رئيسا وخمسون ألفا من العوام) ، وفي النسخة اليونانية كالعبرية: (خمسون ألفا وسبعون إنسانا) ، وفي
(1/56)
الترجمة السريانية والعربية: (خمسة آلاف وسبعون إنسانا) ، وعند المؤرخ بوسيفس: (سبعون إنسانا) فقط، وكتب بعض الأحبار أعدادا أخرى، فهذه الاختلافات وعدم الإمكان المذكور تعطينا اليقين التام أن التحريف وقع هاهنا يقينا، إما بزيادة شيء، وإما بإسقاط شيء.
واستبعد هنري وإسكات في تفسيرهما أن يذنب الناس بهذا المقدار، ويقتلون في القرية الصغيرة، وشككا في صدق هذه الحادثة.
فانظر إلى هؤلاء المفسرين كيف استبعدوا هذه الحادثة، وكذبوا هذا الخبر، وأقروا بالغلط، واعترفوا بالتحريف القصدي بالزيادة أو بالنقصان.
[الغلط في ارتفاع الرواق الذي بناه سليمان عليه السلام]
4 - الغلط في ارتفاع الرواق الذي بناه سليمان عليه السلام: ففي سفر أخبار الأيام الثاني 3 / 4: (والرواق الذي قدام الطول حسب عرض البيت عشرون ذراعا وارتفاعه مئة وعشرون) .
وقد ورد في سفر الملوك الأول 6 / 2 أن ارتفاع البيت الذي بناه سليمان عليه السلام ثلاثون ذراعا، فإذا كان ارتفاعه ثلاثين ذراعا فكيف يكون ارتفاع الرواق مائة وعشرين ذراعا؟!
وقد اعترف آدم كلارك في تفسيره بأن الغلط وقع في فقرة سفر أخبار الأيام الثاني 3 / 4، ولذلك حرف مترجمو الترجمة السريانية والعربية فأسقطوا لفظ المائة، وقالوا: ارتفاعه عشرون ذراعا، وصحح هذا الغلط في الطبعة العربية المطبوعة سنة 1844م؛ فوردت فيها الفقرة المذكورة كما يلي:
(والرواق الذي أمام البيت طوله كقدر عرض البيت عشرين ذراعا وإرتفاعه عشرين ذراعا) .
(1/57)
[الغلط في عدد جيش أبيا ويربعام]
5 - الغلط في عدد جيش أبيا ويربعام: ففي سفر أخبار الأيام الثاني 13 / 3 و17: (3) وابتدأ أبيا في الحرب بجيش من جبابرة القتال أربع مائة ألف رجل مختار ويربعام اصطف لمحاربته بثمانمائة ألف رجل مختار جبابرة بأس (17) وضربهم أبيا وقومه ضربة عظيمة فسقط قتلى من إسرائيل خمسمائة ألف رجل مختار) .
وقد أقر مفسروهم بالغلط في هذه الأعداد الواقعة في هاتين الفقرتين؛ لأنها مخالفة للقياس بالنسبة لهؤلاء الملوك، فهم لم يبلغوا هذا العدد لقلتهم في تلك الأيام، ولذلك غيرت في أكثر نسخ الترجمة اللاتينية إلى: (أربعين ألفا) في الموضع الأول، و (ثمانين ألفا) في الموضع الثاني، و (خمسين ألفا) في الموضع الثالث، ورضي المفسرون بهذا التغيير، وأيده هورن وآدم كلارك، وكان آدم كلارك يعلن كثيرا في تفسيره ويصرح بوقوع التحريف في كتب التواريخ.
[الغلط بخصوص الأكل من الشجرة وبخصوص عمر الإنسان]
6 - الغلط بخصوص الأكل من الشجرة، وبخصوص عمر الإنسان: ففي سفر التكوين 2 / 17: (وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتا تموت) .
وهذا غلط؛ لأن آدم عليه السلام أكل من الشجرة، ولم يمت في يوم الأكل، بل عاش بعد ذلك أكثر من تسعمائة سنة.
وفي سفر التكوين 6 / 3: (فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة) .
وهذا أيضا غلط؛ لأن أعمار الذين كانوا في سالف الزمان طويلة جدا، فعلى حسب ما ورد في سفر التكوين 5 / 1 -31: فقد عاش آدم (930) سنة،
(1/58)
وعاش شيث (912) سنة، وعاش أنوش (905) سنين، وعاش قينان (910) سنين، وعاش مهللئيل (895) سنة، وعاش يارد (962) سنة، وعاش أخنوخ (إدريس عليه السلام) (365) سنة، وعاش متوشالح (969) سنة، وعاش لامك (777) سنة، وعلى حسب ما ورد في سفر التكوين 9 / 29 فإن نوحا عاش (950) سنة.
وبهذا يظهر أن تحديد عمر أولاد آدم بمائة وعشرين سنة غلط.
[الغلط في عدد الأجيال الواردة في نسب المسيح عليه السلام]
ورد سياق نسب المسيح إلى إبراهيم عليه السلام في إنجيل متى 1 / 1 -17، والفقرة السابعة عشرة فيه كما يلي: (فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلا. ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا) .
ويعلم من هذه الفقرة أن سلسلة نسب المسيح إلى إبراهيم مشتملة على ثلاثة أقسام، كل قسم منها مشتمل على أربعة عشر جيلا، فيكون مجموع الأجيال من المسيح إلى إبراهيم اثنين وأربعين جيلا، وهو غلط صريح؛ لأن عدد الأجيال واحد وأربعون جيلا فقط، فالقسم الأول من إبراهيم إلى داود فيه أربعة عشر جيلا، والقسم الثاني من سليمان إلى يكنيا فيه أربعة عشر جيلا، والقسم الثالث من شألتئيل إلى المسيح فيه ثلاثة عشر جيلا، وكان بورفري يعترض على هذا الغلط في القرن الميلادي الثالث، ولم يجد له جوابا.
[الغلط في جعل رفقاء لداود عند رئيس الكهنة]
8 - الغلط في جعل رفقاء لداود عند رئيس الكهنة: ففي إنجيل متى 12 / 3 -4: (فقال لهم: أما قرأتم ما فعله داود حين
(1/59)
جاع هو والذين معه (4) كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط) . ومثلها في إنجيل لوقا 6 / 3 -4.
وفي إنجيل مرقس 2 / 25 -26: (25) فقال لهم: أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه (26) كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة وأعطى الذين كانوا معه أيضا) .
فقوله: (والذين معه) ، (ولا للذين معه) ، و (أعطى الذين كانوا معه) غلط؛ لأن داود عليه السلام كان منفردا، ولم يكن معه أحد في هذا الوقت.
وقوله: (في أيام أبيأثار رئيس الكهنة) غلط كذلك؛ لأن رئيس الكهنة الذي فر إليه داود هو أخيمالك، وتعرف هذه الأغلاط بالرجوع إلى أصل القصة في سفر صموئيل الأول 21 / 1 -9، و22 / 9 -23، ولذلك كتب مستر جوويل في كتابه أنه غلط، ووافقه عليه العلماء الآخرون، والمختار عندهم أن هذه الألفاظ إلحاقية، أي من التحريف بالزيادة.
[الغلط في كتابة أحداث لم تقع عند حادثة الصلب]
9 - الغلط في كتابة أحداث لم تقع عند حادثة الصلب: ففي إنجيل متى 27 / 50 -53: (50) فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح (51) وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت والصخور تشققت (52) والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين (53) وخرجوا من القبور بعد قيامه ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين) .
وقد ذكر انشقاق حجاب الهيكل في إنجيل مرقس 15 / 38 وفي إنجيل
(1/60)
لوقا 23 / 45، ولم تذكر فيهما الأمور الأخرى المذكورة في إنجيل متى من تزلزل الأرض وتشقق الصخور وتفتح القبور وقيام القديسين الميتين ودخولهم المدينة المقدسة وظهورهم لكثيرين، وهذه الأمور العظيمة لم يكتبها أحد من مؤرخي ذلك الزمان غير متى، ولا يحتج هنا بالنسيان؛ لأن الإنسان مهما نسي فلن ينسى مثل هذه العجائب العظيمة جدا، وبخاصة لوقا الذي كان أحرص الناس في كتابة الأمور العجيبة، وكيف يتصور أن تكتب الحالات التي ليست بعجائب، ولا تكتب مثل هذه الأمور العجيبة جدا؟!
فهذه الحكاية كاذبة، ومع أن المحقق نورتن متعصب للإنجيل ومحام عنه، لكنه أورد عدة دلائل على بطلانها وقال: إن مثل هذه الحكايات كانت رائجة في اليهود بعد خراب أورشليم، فلعل أحدا كتبها في حاشية إنجيل متى، ثم أدخلها الكاتب أو المترجم في المتن.
ويستفاد من كلام نورتن أن مترجم إنجيل متى كان حاطب ليل، لا يميز بين الرطب واليابس، فما رأى في المتن من الصحيح والغلط ترجمهما بلا تدقيق في الروايات، فهل يجوز الاعتماد على ترجمة كهذه؟!
[الغلط في اسم والد شالح]
10 - الغلط في اسم والد شالح: ففي إنجيل لوقا 3 / 36: (شالح بن قينان بن أرفكشاد) .
فورد اسم قينان بين شالح وأرفكشاد غلط يقينا، ففي سفر التكوين 10: (وأرفكشاد ولد شالح) ، وفيه 11 / 12 -13: (12) وعاش أرفكشاد خمسا وثلاثين سنة وولد شالح (13) وعاش أرفكشاد بعدما ولد شالح أربع مائة وثلاث سنين) .
(1/61)
واتفقت في هذا النص النسختان العبرانية والسامرية، ومثلهما عبارة سفر أخبار الأيام الأول 1 / 18، ففيها كلها أن شالح ابن أرفكشاد لا ابن ابنه، وبهذا ثبت أن ما كتبه لوقا غلط، ولم يرد اسم قينان إلا في الترجمة اليونانية (السبعينية) ، فالاحتمال الراجح أن يكون بعض النصارى المحرفين حرف الترجمة اليونانية في هذا الموضع لكي تطابق الإنجيل، ولئلا ينسب الغلط إلى إنجيلهم.
(1/62)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[القسم الثالث إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان]
[التحريف في مدة أعمار الأكابر قبل الطوفان]
القسم الثالث
إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان 1 - التحريف في مدة أعمار الأكابر قبل الطوفان: وردت مدة الزمان من خلق آدم إلى طوفان نوح في سفر التكوين 5 / 1 -32، وهي الفقرات التي وردت فيها مدة أعمار الأكابر الذين بين آدم ونوح عليهما السلام، ومدة هذا الزمان على حسب نسخة التوراة السامرية (1307) سنين، وعلى حسب نسخة التوراة العبرانية (1656) سنة، وعلى حسب نسخة التوراة اليونانية (2262) سنة، ويلاحظ فرق كبير في هذه المدة بين النسخ الثلاث بحيث لا تمكن المطابقة بينها، وقد اتفقت النسخ الثلاث على أن عمر آدم عندما مات كان (930) سنة (سفر التكوين 5 / 5) ، واتفقت كذلك على أن عمر نوح عندما حصل الطوفان كان (600) سنة (سفر التكوين 7 / 6) ، فإذا طرحنا من زمان الطوفان 1307- 930 عمر آدم عندما مات = 377 سنة، فيكون آدم قد مات قبل حصول الطوفان بـ 377 سنة.
فإذا طرحنا من عمر نوح عندما حصل الطوفان 600- 377= 223 سنة، فيكون نوح قد عاش 223 سنة في حياة آدم على حسب التوراة السامرية، وهذا باطل باتفاق المؤرخين، وتكذبه النسختان العبرانية واليونانية؛ لأن مجموع عمر آدم عندما مات وعمر نوح عند الطوفان 930+ 600= 1530 سنة.
فعلى حسب التوراة العبرانية 1656-1530= 126، أي ولد نوح بعد موت آدم بـ 126 سنة.
(1/63)
وعلى حسب التوراة اليونانية 2262-1530= 732، أي ولد نوح بعد موت آدم بـ 732 سنة.
ولأجل هذا الاختلاف الفاحش بين النسخ الثلاث فإن يوسيفوس - المؤرخ اليهودي المشهور والمقدم عند كافة النصارى - لم يعتمد على نسخة من النسخ المذكورة، ورجح أن مدة الزمان من خلق آدم إلى الطوفان كانت (2256) سنة.
[التحريف في مدة أعمار الأكابر بعد الطوفان]
2 - التحريف في مدة أعمار الأكابر بعد الطوفان: وردت مدة الزمان من طوفان نوح إلى ولادة إبراهيم في سفر التكوين 11 / 10 -26، وهي الفقرات التي وردت فيها مدة أعمار الأكابر الذين بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، ومدة هذا الزمان على حسب نسخة التوراة العبرانية (292) سنة، وعلى حسب نسخة التوراة السامرية (942) سنة، وعلى حسب نسخة التوراة اليونانية (1072) سنة، ويلاحظ فرق كبير في هذه المدة بين النسخ الثلاث بحيث لا تمكن المطابقة بينها. وقد اتفقت النسخ الثلاث على أن نوحا عاش بعد الطوفان (350) سنة (سفر التكوين 9 / 28) .
فإذا طرحنا من حياة نوح بعد الطوفان 350-292 مدة الزمان من الطوفان إلى ولادة إبراهيم =58 سنة، فيكون إبراهيم قد عاش 58 سنة في حياة نوح على حسب التوراة العبرانية، وهذا باطل باتفاق المؤرخين، وتكذبه النسختان السامرية واليونانية، فعلى حسب التوراة السامرية 942-350= 592، أي ولد إبراهيم بعد موت نوح بـ 592 سنة.
وعلى حسب التوراة اليونانية 1072-350= 722، أي ولد إبراهيم بعد
(1/64)
موت نوح بـ 722 سنة.
ولأجل هذا الاختلاف الفاحش بين النسخ الثلاث فإن المؤرخ يوسيفس اليهودي لم يعتمد على نسخة من النسخ المذكورة، ورجح أن مدة الزمان من طوفان نوح إلى ولادة إبراهيم (993) سنة.
وقد نقل المفسران هنري وإسكات في تفسيرهما قول أكستاين: إن اليهود في سنة 130 م قد حرفوا النسخة العبرانية في بيان زمان الأكابر الذين هم من قبل زمن الطوفان وبعده؛ لتصير الترجمة اليونانية غير معتبرة، ولعناد النصارى الذين كانوا آنذاك يقدمون النسخة اليونانية على النسخة العبرانية.
وذكر هورن في تفسيره أن المحقق هيلز أثبت بالأدلة القوية تحريف النسخة العبرانية، وأن كنى كات أثبت أن اليهود حرفوا نسختهم قصدا.
فانظر أن الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه المفسرون والمحققون هو الاعتراف بالتحريف القصدي في التواريخ بالزيادة فيها أحيانا وبالنقص منها أحيانا أخرى بدافع التعصب والهوى.
[التحريف في اسم الجبل المخصص لنصب الحجارة]
3 - التحريف في اسم الجبل المخصص لنصب الحجارة: ففي سفر التثنية 27 / 4 في النسخة العبرانية: (حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة التي أنا أوصيكم بها اليوم في جبل عيبال وتكلسها بالكلس) .
وهذه الفقرة وردت في التوراة السامرية كما يلي: (ويكون عند عبوركم الأردن تقيمون الحجارة هذه التي أنا موصيكم اليوم في جبل جرزيم وتشيدها بشيد) .
(1/65)
ويفهم من سفر التثنية 27 / 12 -13 و11 / 29 أن جرزيم وعيبال جبلان متقابلان في مدينة نابلس بفلسطين، ونص فقرة سفر التثنية 11 / 29: (وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها فاجعل البركة على جبل جرزيم واللعنة على جبل عيبال) .
ويوجد بين اليهود العبرانيين والسامريين سلفا وخلفا نزاع مشهور في اسم الجبل الذي أمر موسى ببناء الحجارة عليه وخصصه للبركة، وكل فرقة منهما تدعى أن الفرقة الأخرى حرفت التوراة في هذا الموضع بتبديل اسم الجبل، وما زال النزاع قائما بين المحققين والمفسرين من البروتسانت ـ فبعضهم يدعى صحة السامرية في هذا الموضع، وبعضهم يدعى صحة العبرانية، والراجح عند آدم كلارك وعند المحقق كني كات صحة السامرية؛ لأن اليهود العبرانيين حرفوا هذا الموضع قصدا لأجل عداوة السامريين الذين يقدسون جبل جرزيم، وهو جبل ذو عيون وحدائق ونباتات، فيكون مناسبا لإسماع البركة، وأما جبل عيبال فهو أجرد يابس لا شيء عليه من هذه الأشياء، فيكون مناسبا لإسماع اللعنة، وهذا اعتراف صريح من كبار محققيهم بوقوع التحريف في هذا الموضع من النسخة العبرانية للتوراة.
[التحريف في اسم المملكة]
4 - التحريف في اسم المملكة: ففي سفر أخبار الأيام الثاني 28 / 19 من النسخة العبرانية: (لأن الرب ذلل يهوذا بسبب آحاز ملك إسرائيل) ، فلفظ إسرائيل في هذا النص غلط يقينا، وهو من التحريف بالتبديل؛ لآن آحاز ملك يهوذا (المملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم) ، وليس ملك إسرائيل (المملكة الشمالية وعاصمتها
(1/66)
نابلس) ، والصواب أن توضع كلمة يهوذا مكان كلمة إسرائيل، كما وقع في النسختين اليونانية واللاتينية: أن الرب أذل يهوذا بسبب آحاز ملك يهوذا، فالنسخة العبرانية محرفة في هذا الموضع.
[التحير بين النفي والإثبات]
5 - التحير بين النفي والإثبات: ففي المزمور 105 / 28 من النسخة العبرانية: (ولم يعصوا كلامه) .
ووردت هذه الفقرة في النسخة اليونانية: (وهم عصوا قوله) .
ففي العبرانية نفي العصيان، وفي اليونانية إثباته، فإحدى الفقرتين غلط يقينا، وقد اعترف العلماء في هذا الموضع بالتحريف وتحيروا فيه، ولم يقدروا على الجزم بتعيينه، وذكر هنري وإسكات في تفسيرهما أن المباحثة في هذا الفرق قد طالت جدا، وظاهر أنه نشأ إما لزيادة حرف أو لتركه.
[الدليل على أن التوراة الحالية مكتوبة بعد موسى عليه السلام]
6 - دليل على أن التوراة الحالية مكتوبة بعد موسى عليه السلام: ففي سفر التكوين 36 / 31: (وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا أرض أدوم قبلما ملك ملك لبني إسرائيل) . ثم شرعت الفقرات في ذكر أسماء ملوك أدوم الذين حكموا قبل أن يحكم طالوت (شاول) أول ملوك بني إسرائيل، وقد خلفه في الحكم داود عليه السلام، فقبل حكمهما كان بنو إسرائيل في عهد القضاة، وهذه الفقرات من سفر التكوين 36 / 31 -39 هي عينها فقرات سفر أخبار الأيام الأول 1 / 43 -50، ومناسبتها لسفر الأخبار ظاهرة ولا اعتراض؛ لأنها تدل على أن المتكلم بها موجود بعد زمن قيام سلطنة بني إسرائيل في فلسطين، وكان أول ملوكهم طالوت (شاول) ، وكان هذا بعد موسى عليه السلام بـ (356) سنة، لكن لا مناسبة بتاتا لوجود هذه الفقرات
(1/67)
في سفر التكوين الذي هو أسفار التوراة، فكيف دخلت في المتن؟!
والصواب ما رجحه المفسر آدم كلارك أن هذه الفقرات ليست من كلام موسى قطعا، وأنها كانت مكتوبة على حاشية سفر التكوين في بعض النسخ، فظن الناقل فيما بعد أنها جزء من المتن فأدخلها فيه.
فانظر كيف اعترف هذا المفسر بأن هذه الفقرات التسع الخارجة عن التوراة قد ألحقت في المتن بإحدى نسخها، ثم شاعت بعد ذلك ودخلت في جميع النسخ، وعلى اعترافه يلزم أن كتبهم كانت صالحة للتحريف بالزيادة.
[التحريف بزيادة عبارة إلى هذا اليوم]
7 - التحريف بزيادة عبارة (إلى هذا اليوم) : ففي سفر التثنية 3 / 14: (يائير ابن منسى أخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على اسمه باشان حووث يائير إلى هذا اليوم) .
وهذه الفقرة كلها لا يمكن أن تكون من كلام موسى عليه السلام؛ لأن المتكلم بها لا بد أن يكون متأخرا كثيرا عن زمان يائير بن منسى كما يشعر به قوله: (إلى هذا اليوم) ، فإن مثل هذا اللفظ لا يستعمل إلا في الزمان الأبعد.
وقد نفي هورن في تفسيره أن تكون هاتان الفقرتان من كلام موسى عليه السلام، (أي التحريف الذي مر في رقم 6 ورقم 7) ؛ لأن الفقرة الأولى الواردة في سفر التكوين 36 / 31 دالة على أن الكاتب كان في زمان بعد زمان قيام مملكة لليهود في فلسطين، والفقرة الثانية دالة على أن الكاتب كان في زمان بعد زمان إقامة اليهود في فلسطين، وكلاهما بعد موسى، وهاتان الفقرتان في نظر هورن ليستا بلا فائدة فحسب، بل هما ثقلان على متن الكتاب، فلو كان مصنف سفر التثنية هو موسى عليه السلام لا يقول: (إلى هذا اليوم) ، ورجح
(1/68)
هورن أن هذا اللفظ زاده أحد الكتاب في الحاشية بعد عدة قرون من موسى؛ ليعلم أن الاسم الذي سماها به يائير بن منسى هو مازال اسمها إلى الآن، ثم انتقل هذا اللفظ من الحاشية إلى المتن في النسخ المتأخرة، ومن يشك في هذا الذي رجحه هورن، فليقابل النسخ اليونانية، فسيجد أن الإلحاقات (الزيادات) التي توجد في متن بعض النسخ هي نفسها توجد في النسخ الأخرى مكتوبة على الحاشية، فاعترف هورن أن مثل هذه الزيادات في الحواشي بعد عدة قرون من موسى عليه السلام، دخلت في المتون، وصارت جزءا من الكتاب، ثم شاعت في جميع النسخ المتأخرة، وهذا يدل على صلاحية كتبهم لتحريف المحرفين، ولذلك قال جامعو تفسير هنري وإسكات: إن مثل هذه الجمل الإلحاقية التي ألحقها أحد الكتاب بعد موسى عليه السلام لو تركت لا يقع الفساد في المضمون.
والعبارة السابقة كلها لا تصلح أن تكون من كلام موسى عليه السلام، ومثلها تماما فقرة سفر العدد 32 / 41: (وذهب يائير ابن منسى وأخذ مزارعها ودعاهن حووث يائير) .
وهنا تحريف آخر: وهو أن والد يائير ليس منسى ولكنه سجوب، ففي سفر أخبار الأيام الأول 2: (وسجوب ولد يائير وكان له ثلاث وعشرون مدينة في أرض جلعاد) .
فيلزم الغلط والتحريف في اسم والده: إما في عبارة سفري العدد والتثنية، وقد ثبت أنها إلحاقية بعد موسى، وإما في عبارة سفر الأخبار.
ولذلك قال مؤلفو قاموس الكتاب المقدس المطبوع في أمريكا وإنكلترا
(1/69)
والهند: إن بعض الجمل التي توجد في الأسفار الخمسة تدل صراحة على أنها ليست من كلام موسى عليه السلام، وفيها بعض العبارات ليست على طريقته في الكلام، ولا على أسلوب محاورته، وإنهم لا يستطيعون أن يجزموا باسم الشخص الذي ألحق هذه الجمل والعبارات.
وقال جامعو تفسير هنري وإسكات بأن عبارة: (إلى هذا اليوم) وقعت في أكثر كتب العهد القديم، وحكموا بأن كل عبارة تكون مثلها فهي إلحاقية ومزيدة بأيدي الكتاب، وضربوا أمثلة لزيادة هذه العبارة في ثمانية مواضع من كتاب يوشع، ويطول الحصر والاستقصاء في سائر كتب العهد القديم.
[التحريف بإضافة مقدمات لبعض الأبواب]
8 - التحريف بإضافة مقدمات لبعض الأبواب: إن الذي يقرأ بداية سفر التثنية 1 / 1 -5 يجزم بأن هذه الفقرات الخمس ليست من كلام موسى عليه السلام؛ لأن الكاتب تكلم به موسى بصيغة الغائب كقوله: (1) هذا هو الكلام الذي كلم به موسى جميع إسرائيل. . . (3) كلم موسى بني إسرائيل حسب كل ما أوصاه الرب إليهم (5) في عبر الأردن في أرض موآب ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة قائلا) .
وقد اعترف آدم كلارك بزيادة هذه الفقرات الخمس لتكون مقدمة لباقي سفر التثنية، وقال: إن الإصحاح (الباب) الرابع والثلاثين من سفر التثنية ليس من كلام موسى أيضا؛ لأن كلامه تم على الإصحاح الثالث والثلاثين، ولا يجوز أن يقال: إن موسى كتب هذا الباب؛ لأن هذا الاحتمال بعيد من الصدق، وجزم آدم كلارك بأن هذا الباب الرابع والثلاثين كان أول أبواب كتاب يوشع، وقال كثير من المفسرين: إن هذا الباب كتبه المشايخ السبعون بعد مدة
(1/70)
من موت موسى، وكان هو أول أبواب كتاب يوشع ثم انتقل إلى سفر التثنية.
ولكن هذا الجزم بلا دليل، فقد قال جامعو تفسير هنري وإسكات وتفسير دوالي ورجردمينت: إن هذا الملحق لهذا الباب إما يوشع أو صموئيل أو عزرا أو أحد آخر لا يعلم اسمه بالجزم، وربما ألحق بعد رجوع بني إسرائيل من سبي بابل.
فانظر إلى ما في أقوالهم من الشك وعدم الجزم بشيء.
وفيما يلي بعض الفقرات من الباب الرابع والثلاثين من سفر التثنية:
(1) وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو. . . فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان (4) وقال له الرب. . . (5) فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب (6) ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (7) وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات. . . (8) فبكي بنو إسرائيل موسى. . . (10) ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى. .) .
فهل الكتاب السماوي المنزل على موسى عليه السلام يكون فيه موته ودفنه والبكاء عليه واندثار قبره إلى هذا اليوم وعدم قيام نبي مثله؟!
ونحن المسلمين نجزم أن الباب الرابع والثلاثين من سفر التثنية الذي به ختمت الأسفار الخمسة ليس من كلام موسى قطعا، ولا نقف عند هذا الجزم فحسب، بل نجزم أن جميع الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ليست من كتابته قطعا، ونسبتها إليه لا تجوز، فهذه الأغلاط والاختلافات والتحريفات دلائل بينه لنا على ذلك؛ لأن الكتاب الموحي به إلى النبي لا يجوز
(1/71)
أن تقع مثل هذه الأمور، ويعد ذلك طعنا في النبي ونبوته، وبعض أهل الكتاب استدلوا بمثل هذه الأمور على مثل ما قلنا، وجزموا بمثل ما جزمنا به.
[التحريف للانتصار لعقيدة التثليث]
9 - التحريف للانتصار لعقيدة التثليث: ففي رسالة يوحنا الأولى 5 / 7 -8: (7) فإن الذين يشهدون (في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد (8) والذين يشهدون في الأرض) هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد) .
وقد كان أصل العبارة على ما قال محققوهم هكذا: (فإن الذين يشهدون هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد) ، وهذا نص طبعة سنة 1865م. أي بدون الزيادة التي بين القوسين المعقوقتين.
أما نص طبعة سنة 1825م و1826م فهكذا: (لأن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة تتحد في واحد) .
والنصان متقاربان، فزاد معتقدو التثليث في المتن فيما بين أصل العبارة العبارة التالية: (في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض) فهذه العبارة التي هي مستند أهل التثليث إلحاقية يقينا، أي من التحريف بالزيادة، وقد قال كثير من المحققين المتعصبين بأنها إلحاقية واجبة الإخراج، مثل كريسباخ وشولز وهورن وآدم كلارك وجامعو تفسير هنري وإسكات.
وأما العالم أكستاين الذي هو أعلم علماء النصارى في القرن الرابع الميلادي، والذي هو إلى الآن عمدة أهل التثليث، وكان يناظر فرقة إيرين التي تنكر التثليث، فقد كتب عشر رسائل في شرح رسالة يوحنا الأولى، ولم ينقل
(1/72)
هذه العبارة في رسالة من رسائله العشر، ولم يستدل بها على منكري التثليث، وراح يرتكب التكلف البعيد، فكتب في الحاشية أن المراد بالماء: الآب، وبالدم: الابن، وبالروح: الروح القدس، ولو كانت هذه العبارة الإلحاقية موجودة في عهده، لتمسك بها ولنقلها في رسائله للاستدلال بها ضد المنكرين للتثليث، ولكن يظهر أن معتقدي التثليث بعد أكستاين استفادوا من هذا التكلف البعيد والتفسير الغريب، فاخترعوا هذه العبارة التي هي مفيدة لعقيدتهم الباطلة، وأدخلوها في رسالة يوحنا الأولى، وجعلوها جزءا من المتن.
وفي المناظرة الكبرى التي تمت في الهند سنة 1270هـ 1854 م بين الشيخ رحمت الله الكيرانوي وبين القسيسين الدكتور فندر وشريكه فرنج أقر القسيسان بأن هذه العبارة محرفة، وسلما بالتحريف في سبعة مواضع أخرى.
وقد كتب هورن اثنتي عشرة ورقة في تحقيق هذه العبارة، فقام بتلخيصها جامعو تفسير هنري وإسكات، وفي تلخيصهم ذكروا أدلة الذين يثبتون أن هذه العبارة كاذبة كما يلي:
1 - أن هذه العبارة لا توجد في نسخة من النسخ اليونانية المكتوبة قبل القرن السادس عشر الميلادي.
2 - أن هذه العبارة لا توجد في النسخ المطبوعة التي طبعت بالجد والتحقيق التام في الزمان الأول.
3 - أن هذه العبارة لا توجد في أكثر النسخ القديمة اللاتينية، ولا توجد أيضا في ترجمة من التراجم القديمة غير الترجمة اللاتينية.
4 - أن هذه العبارة لم يتمسك بها أحد من القدماء ولا مؤرخو الكنيسة.
(1/73)
- أن هذه العبارة أسقطها من المتن أئمة فرقة البروتستانت ومصلحو دينهم، وبعضهم وضع عليها علامة الشك.
وبهذا يظهر لك جليا أن النصارى كانوا يحرفون كتبهم قصدا إذا رأوا في التحريف مصلحة لهم أو انتصارا لعقيدتهم، والعجب أن باب التحريف الذي كان واسعا قبل اختراع المطابع، مازال مفتوحا وما انسد بعد اختراعها، فهذا لوثر الإمام الأول لفرقة البروتستانت والرئيس الأقدم ترجم الكتب المقدسة باللسان الجرمني ليستفيد منها أتباعه، وطبعت هذه الترجمة مرارا في حياته، ولم يكتب هذه العبارة في ترجمته ولا ظهرت في الطبعات المتكررة أثناء حياته، وفي آخر حياته أعاد طباعتها سنة 1456م، فأوصى في مقدمة هذه الطبعة: (أن لا يحرف أحد ترجمتي) ، لكن هذه الوصية لما كانت مخالفة لعادة أهل الكتاب عموما ولعادة النصارى خصوصا، لم يلتزموا بها وعملوا بعكسها، فلم يمضي على موته ثلاثون سنة حتى قام أهل مدينة فرانكفورت بألمانيا سنة 1574م بطباعة ترجمة لوثر، فأدخلوا فيها هذه العبارة الجعلية الكاذبة، ثم أعيدت طباعتها بعد ذلك عدة مرات، فأسقطوها من الطبعات اللاحقة خوفا من طعن الخلق عليهم، ثم قام أهل مدينة وتنبرغ بألمانيا بإعادة طباعة ترجمة لوثر سنة 1596م و1599م فأدخلوا فيها هذه العبارة، ومثلهم كذلك أهل مدينة هامبورغ، حيث طبعوا ترجمة لوثر سنة 1596 م فأدخلوا فيها هذه العبارة، ثم خاف أهل مدينة وتنبرغ من اختلاف الطبعات للترجمة الواحدة أن يجر ذلك طعن الخلق عليهم، فأعادوا طباعتها مرة أخرى فأسقطوا منها هذه العبارة، ثم ما رضي النصارى البروتستانت بهذا التردد بين الإدخال والإسقاط، فأجمعوا على
(1/74)
إدخالها في ترجمة لوثر في جميع الطبعات اللاحقة على خلاف وصية إمامهم، فمن كانت هذه عادتهم بعد انتشار المطابع، فكيف يرجى منهم عدم التحريف في النسخ القليلة المحصورة بأيدي أناس معدودين قبل ظهور المطابع؟!
وقد كتب الفيلسوف المشهور إسحاق نيوتن رسالة حجمها بقدر خمسين صفحة أثبت فيها أن هذه العبارة وعبارات أخرى جعلية محرفة.
وهذه العبارة الجعلية المحرفة وردت في طبعتي سنة 1865 م و1983م بين قوسين هلاليين كبيرين كما يلي: فإن الذين يشهدون (في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض) هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد.
وقد قال الطابعون والمصححون لهاتين الطبعتين في الصفحة الأولى منهما: إن الكلمات والعبارات التي ليس لها وجود في أقدم النسخ وأصحها جعلوها بين قوسين هلاليين.
وهذه العبارة لم ترد في طبعة العهد الجديد للآتين التي نشرتها دار المشرق في بيروت في المطبعة الكاثوليكية سنة 1982م، وكذلك لم ترد في طبعة مطابع الحرية في بيروت سنة 1983م بإشراف جان عون.
[التحريف لإظهار أن عيسى ابن الله]
10 - التحريف لإظهار أن عيسى ابن الله: ففي سفر أعمال الرسل 8 / 37: (فقال فيلبس إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز. فأجاب وقال أنا أومن أن يسوع المسيح هو ابن الله) .
فهذه الفقرة: (أن يسوع المسيح هو ابن الله) إلحاقية زادها أحد من أهل
(1/75)
التثليث، واتفق كريسباخ وشولز على أنها إلحاقية جعلية كاذبة.
[التحريف في حادثة زنا رأوبين بسرية أبيه]
11 - التحريف في حادثة زنا رأوبين بسرية أبيه: ففي سفر التكوين 35 من النسخة العبرانية هكذا: (وحدث إذ كان إسرائيل ساكنا في تلك الأرض أن رأوبين ذهب واضطجع مع بلهة سرية أبيه. وسمع إسرائيل) .
ولا شك أن في هذه الفقرة تحريفا بالنقصان، واليهود معترفون بسقوط عبارة هاهنا، قال جامعو تفسير هنري وإسكات: إن اليهود يسلمون أن شيئا سقط من هذه الفقرة، وتتمته من الترجمة اليونانية هكذا: (وكان قبيحا في نظره) .
فلماذا أسقط اليهود العبرانيون هذه العبارة من نسختهم؟!
[التحريف في حادثة سرقة الصواع]
11 - التحريف في حادثة سرقة الصواع: ففي سفر التكوين 44 / 5 من النسخة العبرانية هكذا: (أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه) .
ولا شك أن في هذه الفقرة تحريفا بالنقصان، وقد أقر المفسر هارسلي بالنقصان هاهنا، وأمر بزيادته على حسب ما في الترجمة اليونانية لتصبح الفقرة كما يلي: (لم سرقتم صواعي. أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه) .
[التحريف بإسقاط اسم مريم ابنة عمران أخت موسى]
13 - التحريف بإسقاط اسم مريم ابنة عمران أخت موسى: ففي سفر الخروج 6 من النسخة العبرانية هكذا: (وأخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له فولدت له هارون وموسى) .
ولا شك أن في هذه الفقرة تحريفا بالنقصان يظهر من النسخة السامرية
(1/76)
والترجمة اليونانية هكذا: فولدت له هارون وموسى ومريم أختهما) .
قال آدم كلارك: إن كبار المحققين يعتقدوم أن هذا اللفظ: (ومريم أختهما) كان موجودا في المتن العبري.
ومعنى كلامه أن هذا اللفظ أسقطه اليهود العبرانيون، إما عنادا للسامريين المعتمدين على التوراة السامرية، وإما عنادا للنصارى المعتمدين على التوراة اليونانية.
وشيء آخر يفهم هنا، وهو أن عمران بن قهات بن لاوي قد تزوج يوكابد بنت لاوي، فهي عمته أخت أبيه قهات، وقد ورد لفظ العمة في التوراة السامرية والعبرانية، وفي التراجم العربية المطبوعة سنة 1811م و1865 م و1970 -1983م، وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1839م و1845م و1856م، وفي التراجم الهندية المطبوعة سنة 1822م و1829م و1842م.
وبما أن نكاح العمة حرام في التوراة كما في سفر الأحبار (اللاوين) 18 / 12 و20 / 19، فلما طبعت الترجمة العربية في عهد البابا أربانوس الثامن (المتوفى سنة 1644م) حرف لفظ العمة بابنة العم كما يلي: (فتزوج عمران يوكابد ابنة عمه) ، فهذه الفقرة وردت بلفظ ابنة العم في الطبعات العربية المطبوعة سنة 1625م و1671م و1844م و1848م، فلزمهم التحريف بالتبديل في بعض الطبعات.
[التحريف في الزبور إما بالزيادة وإما بالنقصان]
14 - التحريف في الزبور إما بالزيادة وإما بالنقصان: وقعت فقرات بين الفقرتين الثالثة والرابعة من المزمور الرابع عشر، وهذه الفقرات توجد في الترجمة اللاتينية والترجمة العربية ونسخة واتيكانوس إحدى
(1/77)
نسخ الترجمة اليونانية، ونصها كما يلي: (فحلقومهم قبر مفتوح وهم يغدرون بألسنتهم وسم الثعابين تحت شفاهم وأفواهمم مملؤة من اللعن والمرورة وأقدامهم مسرعة لسفك الدم والتهلكة والشقاء في طرقهم ولم يعرفوا طريق السلامة وخوف الله ليس بموجود أمام أعينهم) .
وهذه الفقرات لا توجد في النسخة العبرانية، ولكنها توجد في رسالة بولس إلى أهل رومية 3 / 13 -18، فإما أن اليهود أسقطوها من نسختها العبرانية عنادا للنصارى الذين كانوا يعتمدون على نسخة التوراة اليونانية، وهذا هو التحريف بالنقصان، وإما أن النصارى زادوها في التراجم المذكورة انتصارا لبولس، وهذا هو التحريف بالزيادة، فالتحريف لازم قطعا لأحد الفريقين.
[التحريف في إنجيل لوقا بالنقصان]
15 - التحريف في إنجيل لوقا بالنقصان: ففي إنجيل لوقا 21 / 32 -34: (32) الحق أقول لكم إنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل (33) السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول (34) فاحترز لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم، قال هورن: إن فقرة تامة ما بين الفقرتين (33) و (34) قد أسقطت من إنجيل لوقا، وإن المحققين والمفسرين كلهم قد أغمضوا عيونهم عن هذا النقصان العظيم الواقع في متن إنجيل لوقا، حتى قام المحقق هيلز بالتنبيه عليه، وتجاسر هورن فأمر بزيادة هذه الفقرة في إنجيل لوقا بالرجوع إلى إنجيل متى وإنجيل مرقس؛ ليكون موافقا لهما.
وفيما يلي نقل هذه الفقرة مع الفقرات السابقة لها؛ ليظهر التحريف القصدي في إنجيل لوقا بإسقاط هذه الفقرة منه:
ففي إنجيل متى 24 / 34 -36: (34) الحق أقول لكم لا يمضي هذا
(1/78)
الجيل حتى يكون هذا كله (35) السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول (36) وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده) .
وفي إنجيل مرقس 13 / 30 -32: (30) الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله (31) السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول (32) وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) .
فعلى اعتراف هورن وهيلز أن الفقرة الواردة في إنجيل متى 24 / 36 وفي إنجيل مرقس 13 ساقطة من إنجيل لوقا ويجب زيادتها فيه.
[التحريف لعناد اليهود والنصارى بعضهم بعضا]
16 - التحريف لعناد اليهود والنصارى بعضهم بعضا: ففي إنجيل متى 2: (وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة. لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعى ناصريا) .
فقوله: (لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعى ناصريا) من الأغلاط المشهورة في هذا الإنجيل؛ لأنه لا يوجد هذا القول في كتاب من الكتب المعروفة المنسوبة للأنبياء، فإما أن يكون النصارى أدخلوا هذا القول في كتبهم عنادا لليهود، وهو من التحريف بالزيادة، وإما أن يكون اليهود أسقطوا هذا القول من كتبهم عنادا للنصارى، وهو من التحريف بالنقصان.
والمحقق كريزاستم وعلماء الكاثوليك يعتقدون أن هذا القول كان في كتب الأنبياء، لكن هذه الكتب انمحت وضيعها اليهود لغفلتهم وعدم ديانتهم، فمزقوا بعضها، وأحرقوا بعضها؛ لأنهم لما رأوا أن الحواريين يتمسكون بهذه
(1/79)
الكتب في إثبات عقائد ملتهم، ضيعوها قصدا لإنكار نبوة المسيح عليه السلام، ويعلم هذا من إعدامهم كتبا نقل عنها متى.
وقد قال جستن في مناظرته لطريفون اليهودي: إن اليهود حرفوا كتبا كثيرة وأخرجوها من العهد العتيق؛ ليظهر أن العهد الجديد مخالف للعهد القديم.
وهذا يدل على أن التحريف في سالف الزمان كان سهلا، ألا ترى كيف انمحت عن صفحة العالم كتب كثيرة بإعدامهم لها لعناد بعضهم بعضا؟! وأي تحريف بالنقصان أكثر من أن تضيع فرقهم الكتب السماوية قصدا للأغراض النفسانية.
وإذا كان اليهود قد حرفوا كتبهم لإنكار رسالة عيسى عليه السلام، وكذلك النصارى حرفوا كتبهم لإثبات التثليث وألوهية عيسى وبنوته لله، فلا يستبعد منهم تحريف نصوص البشارات الدالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هم أشد اهتماما بهذا الأمر من غيره؛ لأنهم حرفوا ويحرفون كل عبارة نافعة للمسلمين.
(1/80)
[مغالطات نصرانية والرد عليها]
[الأولى زعمهم أن المسلمين فقط هم الذين يدعون أن كتب العهدين محرفة]
مغالطات نصرانية والرد عليها المغالطة الأولى: يزعم النصارى لتغليط الجاهلين بحقيقة كتبهم أن المسلمين فقط هم الذين يدعون أن كتب العهدين محرفة.
وللرد على هذه المغالطة تكون الشواهد في ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: في نقل أقوال المخالفين للنصارى:
ا - العالم الوثني سلسوس كتب في القرن الثاني للميلاد كتابا في الرد على النصارى، ونقل العالم الجرمني أكهارن عن كتاب سلسوس ما يلي: بدل المسيحيون أناجيلهم ثلاث مرات أو أربع مرات بل أزيد من هذا تبديلا كأن مضامينها بدلت.
فهذا المشرك الوثني أخبر أن النصارى بدلوا أناجيلهم إلى عهده أكثر من أربع مرات.
ب - القس والمصلح الأمريكي باركر المتوفى سنة 1860م - وهو في نظر النصارى ملحد - قال: إن اختلاف العبارات في كتب النصارى ثلاثون ألفا، وهذا العدد هو على تحقيق ميل.
ج - عمل أحد الملاحدة جدولا للأسفار المنسوبة إلى عيسى بن مريم والحواريين والتي يرفضها النصارى الآن، فكان عددها أربعة وسبعين سفرا. ثم قال: كيف نعرف أن الكتب الإلهامية هي المسلمة الآن ضمن العهد الجديد أو هذه المرفوضة؟! وإذا لاحظنا أن هذه الكتب المسلمة أيضا قبل إيجاد المطابع كانت قابلة للإلحاق والتبديل يقع الإشكال.
(1/81)
المسلك الثاني: في نقل أقوال الفرق النصرانية القديمة التي يعدها النصارى الآن من المبتدعين:
ا - الفرقة الأبيونية: ظهرت هذه الفرقة في القرن الميلادي الأول وكانت معاصرة لبولس، فأنكرت عليه إنكارا شديدا وعدته مرتدا، وكانت تسلم من كتب العهد القديم بالتوراة فقط، وتسلم من كتب العهد الجديد بإنجيل متى فقط، لكن نسخته التي عند هذه الفرقة مخالفة لنسخة الإنجيل المنسوب إلى متى الآن التي يسلم بها أتباع بولس، ولم يكن البابان الأولان موجودين في إنجيلها؛ لأنها تعتقد أن هذين البابين ومواضع أخرى كثيرة محرفة، وكانت تنكر ألوهية المسيح وتعتقد أنه إنسان فقط.
ب- الفرقة المارسيونية: من فرق النصارى القديمة أيضا، وكانت تنكر جميع كتب العهد القديم وتقول: إنها ليست إلهامية، وتنكر جميع كتب العهد الجديد إلا إنجيل لوقا وعشر رسائل من رسائل بولس، وهذه الرسائل العشر المسلمة عندها مخالفة للرسائل الموجودة الآن، وأما إنجيل لوقا فكانت هذه الفرقة تنكر البابين الأولين منه، وتنكر مواضع أخرى كثيرة منه، ذكر منها لاردنر في تفسيره أربعة عشر موضعا.
وذكر (بل) في تاريخه أن هذه الفرقة المارسيونية تعتقد أنه يوجد إلهان، أحدهما خالق الخير، وثانيهما خالق الشر، وتقول: إن التوراة وسائر كتب العهد العتيق من عند إله الشر؛ لأنها مخالفة للعهد الجديد.
ج - فرقة ماني كيز: أعظم علماء هذه الفرقة هو فاستس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، وقد نقل لاردنر في تفسيره عن أكستاين ما يلي:
(1/82)
قال فاستس: أنا أنكر الأشياء التي ألحقها في العهد الجديد آباؤكم وأجدادكم بالمكر، وعيبوا صورته الحسنة وأفضليته؛ لأن هذا الأمر محقق: أن هذا العهد الجديد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجل مجهول الاسم، ونسبه إلى الحواريين ورفقاء الحواريين خوفا عن أن لا يعتبر الناس تحريره ظانين أنه غير واقف على الحالات التي كتبها، وآذى المريدين لعيسى إيذاء بليغا بأن ألف الكتب التي توجد فيها الأغلاط والتناقضات.
فزعيم هذه الفرقة كان ينادي بعدة أشياء أبرزها:
أن النصارى أدخلوا في العهد الجديد أشياء خارجة عنه.
أن هذا العهد الجديد المعروف الآن ليس من كتابة المسيح ولا الحواريين ولا تابعيهم، وإنما هو من كتابة رجل مجهول الاسم.
أن هذا العهد الجديد وقعت فيه الأغلاط والتناقضات.
وقال لاردنر في تفسيره: اتفق المؤرخون على أن فرقة ماني كيز كلها لم تكن تسلم بكتب العهد العتيق في كل وقت، وكانت تعتقد أن الشيطان كلم موسى وخدع أنبياء اليهود، وتصفهم بأنهم سراق ولصوص.
فظهر من المسلكين السابقين أن المخالفين للنصارى، وكذلك الفرق النصرانية القديمة التي يعدها نصارى اليوم من المبتدعين، كانوا ينادون بأعلى نداء من القرون الأولى بوقوع التحريف في كتب العهدين القديم والجديد.
(1/83)
المسلك الثالث: في نقل أقوال المفسرين والمؤرخين المتعصبين للنصرانية، والمقبولين عند كافة النصارى:
ا - قال آدم كلارك في تفسيره: أكثر البيانات التي كتبها المؤرخون للرب (يقصد عيسى) غير صحيحة؛ لأنهم كتبوا الأشياء التي لم تقع بأنها وقعت يقينا، وغلطوا في الحالات الأخر عمدا أو سهوا، وهذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة، كانت رائجة في القرون المسيحية الأولى، وبلغت هذه الأناجيل أكثر من سبعين إنجيلا، وكان فابري سيوس قد جمع هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاثة مجلدات.
ب- نسبت إلى موسى عليه السلام غير الكتب الخمسة - (التكوين والخروج والأحبار والعدد والتثنية) والمشهورة الآن بالتوراة - ستة كتب هي:
1 - كتاب المشاهدات
2 - كتاب التكوين الصغير
3 - كتاب المعراج
4 - كتاب الأسرار
5 - كتاب تستمنت (العهد أو الميثاق)
6 - كتاب الإقرار
قال هورن: المظنون أن هذه الكتب الجعلية اخترعت في ابتداء الملة المسيحية، أي في القرن الميلادي الأول.
قال المؤرخ موشيم: تعلم يهود مصر قبل المسيح مقولة مشهورة عند الفلاسفة هي: أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق وعبادة الله ليسا بجائزين فقط، بل قابلان للتحسين، وعملوا بهذه المقولة كما يظهر هذا جزما من كثير من الكتب القديمة، وانتقل وباء هذه المقولة السيئة إلى النصارى كما يظهر هذا الأمر من الكتب الكثيرة التي نسبوها إلى الكبار
(1/84)
كذبا.
فإذا كان الكذب والخداع من المستحبات الدينية عند اليهود قبل المسيح وعند النصارى بعده، فهل يقف الجعل والتحريف والكذب عند حد؟!
د- قال لاردنر في تفسيره: حكم على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنفيها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيثوس (الذي حكم ما بين سنتي 491-518م) فصححت مرة أخرى، فلو كان للأناجيل إسناد ثابت في عهد ذلك السلطان ما أمر بتصحيحها، ولكن لأن مصنفيها كانوا مجهولين أمر بتصحيحها، والمصححون إنما صححوا الأغلاط والتناقضات على قدر الإمكان، فثبت التحريف فيها يقينا من جميع الوجوه، وثبت أنها فاقدة الإسناد.
هـ - أكستاين وهيلز وقدماء النصارى كانوا يقولون: إن اليهود في سنة 130م حرفوا التوراة العبرانية قصدا لعناد النصارى الذين كانوا يعتمدون على الترجمة اليونانية، ولتصير هذه الترجمة غير معتبرة، وأثبت كني كات بأدلة قوية لا جواب عليها بأن اليهود حرفوا توراتهم العبرانية لأجل عداوة السامريين الذين كان لهم توراة خاصة بهم غير توراة العبرانيين.
وقال المفسر هارسلي: لا ريب في أن المتن المقدس قد حرف، وهذا ظاهر من اختلاف النسخ وتناقض العبارات، وهذا الأمر قريب من اليقين أن العبارات القبيحة جدا دخلت في المتن المطبوع، وأن المتن العبري في النقول التي كانت عند الناس كان في أشنع حالة التحريف.
ز- قال واتسن: إن أوريجن كان يشكو من الاختلافات، وينسبها إلى أسباب
(1/85)
مختلفة، مثل غفلة الكاتبين وشرارتهم وعدم مبالاتهم، ولما أراد جيروم ترجمة العهد الجديد قابل النسخ التي كانت عنده فوجد اختلافا عظيما.
وقال آدم كلارك في تفسيره: كانت ترجمات كثيرة باللغة اللاتينية من المترجمين المختلفين موجودة قبل جيروم، وكان بعضها في غاية درجة التحريف، وبعض مواضعها مناقضة للمواضع الأخرى، كما صرح به جيروم.
الراهب فيلبس كوادنولس كتب كتابا للرد على بعض المسلمين سماه (الخيالات) وطبعه سنة 1649م، وقال فيه: يوجد التحريف كثيرا في كتب العهد القديم، ونحن النصارى حافظنا على هذه الكتب لنلزم اليهود بالتحريف، ونحن لا نسلم أباطيلهم.
ط - وصل عرضحال (معروض) من فرقة البروتستانت إلى السلطان جيمس الأول (المتوفى سنة 1625 م) يقولون فيه: إن الزبورات (المزامير) التي هي داخلة في كتاب صلاتنا مخالفة للنص العبري بالزيادة والنقصان والتبديل في مائتي (200) موضع تخمينا.
ي- قال المؤرخ الإنكليزي مستر توماس كارلايل (المتوفى سنة 1881م) : المترجمون الإنكليزيون أفسدوا المطلب، وأخفوا الحق، وخدعوا الجهال، ومطلب الإنجيل الذي كان مستقيما جعلوه معوجا، وعندهم الظلمة أحب من النور، والكذب أحق من الصدق.
ك- مستر بروتن كان كبير المسؤولين عن مجلس الترجمة الجديدة في بريطانية فقال للقسيسين: إن الترجمة السائدة في إنكلترة مملوءة من الأغلاط، وإن
(1/86)
ترجمتكم الإنكليزية المشهورة حرفت عبارات كتب العهد القديم في ثمانمائة وثمانية وأربعين (848) موضعا، وصارت سببا لرد كتب العهد الجديد من قبل أناس غير محصورين.
(1/87)
أسباب وقوع اختلاف العبارة في كتب العهدين قال هورن في تفسيره: لوقوع اختلاف العبارة أربعة أسباب:
السبب الأول: (غفلة الكاتب وسهوه) ، وهو يتصور على وجوه: أن الذي كان يملي العبارة على الكاتب حرف في الإملاء فألقى ما ألقى، أو أن الكاتب لم يفهم قوله حين أملاه عليه فكتب ما كتب.
أن الحروف العبرانية واليونانية بعضها متشابهة، فكتب أحدها بدل الآخر.
أن الكاتب ظن الإعراب خطأ، أو ظن الخط الذي كان يكتب عليه جزءا من الحرف، أو أن الكاتب لم يفهم أصل المطلب فأصلح العبارة باجتهاده وغلط.
أن الكاتب انتقل من موضع إلى موضع آخر سهوا، فلما تنبه لم يمح ما كتب، وبدأ الكتابة مرة أخرى من الموضع الذي تركه، فبقي ما كتبه من قبل بلا محو.
أن الكاتب نسي شيئا، فبعدما كتب شيئا آخر تنبه فكتب العبارة المتروكة بعده مباشرة، فانتقلت العبارة من موضعها الصحيح إلى موضع آخر.
أن نظر الكاتب أثناء الكتابة أخطأ ووقع على سطر آخر، فسقطت عبارة أو عبارات ولم يعلم بها.
أن الكاتب غلط في فهم بعض الألفاظ فكتبها على حسب فهمه، فوقع الغلط.
أن جهل الكاتبين وغفلتهم سبب عظيم لوقوع اختلاف العبارة، بأنهم فهموا عبارة الحاشية أو التفسير جزءا من المتن فأدخلوها فيه.
(1/88)
السبب الثاني: (نقصان النسخة المنقول عنها) وهو يتصور على وجوه: انمحاء إعراب الحروف.
أن الإعراب الذي كان في صفحة ظهر في صفحة أخرى وامتزج بحروف الصفحة الأخرى، ففهمه الكاتب جزءا منها، فكتبه كما يفهم.
أن الفقرة المتروكة كانت مكتوبة على الحاشية بلا علامة تدل على موضع نقصانها، فلم يعلم الكاتب الثاني أين موضع نقصانها الذي نكتب فيه، فاجتهد فغلط في موضعها.
السبب الثالث: (التصحيح الخيالي والإصلاح) وهو يتصور على وجوه: أن الكاتب فهم العبارة الصحيحة أنها ناقصة، أو أنه غلط في فهم المطلب، أو أنه ظن أن العبارة غلط ولم تكن غلطا.
أن بعض المحققين لم يكتفوا على إصلاح الغلط، بل بدلوا العبارات غير الفصيحة بعبارات فصيحة، وأسقطوا الفضول من الكلام والألفاظ المترادفة التي لم يظهر لهم فرق فيها.
أنهم سووا الفقرات المتقابلة باعتبار المعاني، فجعلوها متساوية، فالزائد نقصوه إلى القليل، أو القليل زادوه، وهذا التصرف وقع في الأناجيل خصوصا، ولأجل ذلك كثر الإلحاق في رسائل بولس؛ لتكون العبارات التي نقلها عن العهد القديم مطابقة للترجمة اليونانية. وهذا هو أكثر الوجوه وقوعا.
أن بعض المحققين جعل عبارات العهد الجديد مطابقة للترجمة اللاتينية.
(1/89)
السبب الرابع: (التحريف القصدي) : وهذا التحريف صدر من المتشددين في الدين وصدر أيضا من المبتدعين، وأعظم المحرفين المبتدعين هو مارسيون، وأما المتشددين فكانوا يحرفون قصدا لتأييد مسألة مقبولة، أو لدفع الاعتراضات الواردة، ثم ترجح هذه التحريفات بعدهم. وضرب هورن أمثلة كثيرة لهذه التحريفات القصدية الصادرة عن المتشددين الذين هم عند قومهم من أهل الديانة والدين.
إذا ثبت أن عبارات الحاشية والتفسير دخلت في المتن بسبب جهل الكاتبين وغفلتهم، وأن الكاتبين أصلحوا العبارات التي ظنوا أنها غلط، وأنهم بدلوا العبارات غير الفصيحة، وأسقطوا ألفاظا فضولا أو مترادفة، وسووا الفقرات المتقابلة وخصوصا في الأناجيل، وأن بعض المحققين جعلوا العهد مطابقا للترجمة اللاتينية، وأن المبتدعين حرفوا قصدا، وأن أهل الديانة والدين من المتشددين في ملتهم كانوا يحرفون قصدا لتأييد المسائل أو لدفع اللاعتراضات، وأن هذه التحريفات القصدية كانت ترجح بعدهم، فأي وجه من وجوه التحريف لم يفعلوه؟! وأي باب من أبواب التحريف لم يدخلوه؟!
وأي استبعاد لو قلنا: إن النصارى عباد الصليب حرفوا قصدا بعد ظهور دين الإسلام العبارات التي كانت نافعة للمسلمين، ثم رجح هذا التحريف بعدهم؟! بل إن هذا التحريف الذي هو ضد المسلمين أشد اهتماما عندهم من التحريف الذي هو ضد بعضهم بعضا، وترجيحه عندهم أولى وأشد.
(1/90)
[الثانية زعمهم أن المسيح عليه السلام شهد بحقية كتب العهد العتيق]
المغالطة الثانية: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام شهد بحقية كتب العهد العتيق، ولو كانت محرفة ما شهد بها، بل كان عليه أن يلزم اليهود بالتحريف.
يقال في الرد على هذه المغالطة: إنه لما لم يثبت التواتر اللفظي لكتاب من كتب العهدين العتيق والجديد، ولا يوجد لها سند متصل إلى مصنفيها، وثبت وقوع جميع أنواع التحريف في هذه الكتب، وثبت أن المتشددين من أهل الدين والديانة كانوا يحرفون قصدا لتأييد المسائل أو لدفع الاعتراضات الواردة، فصارت هذه الكتب جميعها مشكوكة عندنا، ولا يجوز الاحتجاج علينا ببعض فقراتها؛ لاحتمال أن تكون هذه الفقرات إلحاقية، أدخلها المتشددون من النصارى في القرن الثاني أو في القرن الثالث ضد الفرقة الأبيونية والفرقة المارسيونية وفرقة ماني كيز، ثم رجحت هذه التحريفات بعدهم لكونها مؤيدة لمسائلهم، كما فعلوا ضد فرقة إيرين، وكانت الفرق الثلاث المذكورة تنكر كتب العهد العتيق إما كلها أو أكثرها.
ثم لو قطعنا النظر عن كون هذه الفقرات إلحاقية، فلا يثبت منها سند هذه الكتب؛ لأنها لم يبين فيها أعداد هذه الكتب ولا أسماؤها، فكيف يعلم أن كتب العهد العتيق تسعة وثلاثون (كما هي الآن عند البروتستانت) ، أو ستة وأربعون (كما هي الآن عند الكاثوليك) ؟!
والمؤرخ اليهودي يوسيفس - الذي هو متعصب جدا وعاش بعد المسيح عليه السلام، والنصارى يحترمونه ويقبلون كتبه - كتب في تاريخه يقول: نحن اليهود ليس عندنا ألوف من الكتب يناقض بعضها بعضا، بل عندنا
(1/91)
اثنان وعشرون كتابا منها خمسة لموسى.
فبين غير أسفار موسى الخمسة سبعة عشر كتابا من ملحقات التوراة، والحال أن هذه الملحقات للتوراة عند البروتستانت أربعة وثلاثون كتابا، وعند الكاثوليك واحد وأربعون كتابا، فأي كتاب من هذه الكتب الملحقات يكون داخلا في السبعة عشر؟! وأي كتاب منها يكون خارجا عنها؟!
وقد مر أن المحقق كريزاستم وعلماء الكاثوليك يعترفون أن اليهود ضيعوا كتبا بسبب غفلتهم وعدم ديانتهم، فمزقوا بعضها، وأحرقوا بعضها الآخر فيجوز أن تكون هذه الكتب المضيعة داخلة ضمن السبعة عشر، وقد اعترف المحققون بفقدان عشرين كتابا ورد ذكرها وليس لها وجود الآن.
قال طامس إنكلس: اتفق العالم على أن الكتب المفقودة من الكتب المقدسة ليست بأقل من عشرين.
وثبت بشهادة يوسيفس أن خمسة كتب منسوبة إلى موسى عليه السلام ولكن لا يعلم أن هذه الكتب الخمسة التي كانت في عهد يوسيفس هي هذه الخمسة المتداولة الآن أم غيرها؟!
والظاهر أنها غيرها لما مر أن يوسيفس لم يكن يعتمد في تاريخه على الأسفار الحالية.
ثم لو سلمنا أن هذه الكتب من العهد القديم التي كانت متداولة في عهد المسيح، وشهد المسيح والحواريون لها، فمقتضى هذه الشهادة أن هذه الكتب كانت موجودة عند اليهود في ذلك الوقت، سواء كانت من تصنيف الأشخاص المنسوبة إليهم أو لم تكن، وسواء كانت الحالات المندرجة فيها
(1/92)
صادقة أو بعضها صادقة وبعضها كاذبة، ولا يفهم من هذه الشهادة أن كل كتاب منها هو من تصنيف الشخص المنسوب إليه، ولا أن كل حال من الحالات المذكورة فيها صادقة قطعا، ولو نقل المسيح والحواريون من هذه الكتب شيئا، فلا يلزم من مجرد النقل صدق الكتاب المنقول منه بحيث إنه لا يحتاج إلى تحقيق، نعم لو أن المسيح صرح في كل جزء من أجزاء هذا الكتاب وفي كل حكم من أحكامه أنه من عند الله وثبت تصريح المسيح بالتواتر فيكون هذا الكتاب صادقا قطعا، وما سواه يكون مشكوكا يحتاج إلى تحقيق. ولكن لم يثبت هذا التصريح من المسيح عليه السلام بخصوص أي كتاب من كتب العهد القديم.
والمحقق بيلي ذكر في كتابه أن المسيح قال بأن التوراة من عند الله، وقوله ذلك لا يعني أن العهد العتيق كله أو كل فقرة منه صحيحة، ولا أن كل كتاب منه أصلي، ولا أن تحقيق مؤلفيه واجب، نعم لقد كان الحواريون واليهود المعاصرون للمسيح يرجعون إليها ويستعملونها، فيثبت من هذا الرجوع والاستعمال أنها كانت مشهورة ومسلمة في ذلك الوقت، ولا يلزم من نقل فقرة في العهد الجديد عن العهد العتيق صدق تلك الفقرة بحيث لا تحتاج إلى تحقيق.
ثم لو فرضنا أن المسيح شهد لكتب العهد القديم فشهادة المسيح لا تنافي التحريف الواقع بعدها، فكما حرف اليهود قبل المسيح حرفوا بعده أيضا، وقد مر أن مذهب الجمهور من العلماء والمحققين والمفسرين والمؤرخين أن اليهود حرفوا قصدا بعد المسيح سنة 130 م عنادا للنصارى، فشهادة المسيح لا تنفي أن يكون التحريف قد وقع بعدها في هذه الكتب.
(1/93)
[الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا]
المغالطة الثالثة: يزعم النصارى أن وقوع التحريف مستبعد؛ لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا فلا يمكن لأحد تحريفها.
وللرد على هذه المغالطة فيما يلي إيراد أمور يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم:
أن موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار، وأوصاهم بالمحافظة عليها بوضعها داخل صندوق الشهادة، أي التابوت الذي صنعه موسى، فكانت توراة موسى موضوعة في الصندوق، وكانت الطبقة الأولى محافظة عليها، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل، فكانوا يرتدون تارة ويسلمون أخرى، ويقي حالهم هكذا إلى سلطنة داود وسليمان عليهما السلام، فحسنت حالهم، واستقامت عقيدتهم، أما التوراة الموضوعة في التابوت فضاعت قبل عهد سليمان بسبب الارتدادات الكثيرة، ولا يعلم جزما متى ضاعت؛ لأن سليمان عليه السلام عندما فتح الصندوق لم يجد فيه سوى اللوحين اللذين كانت الأحكام (الوصايا) العشرة فقط مكتوبة فيهما، كما هو مصرح به في سفر الملوك الأول 8 / 9. ثم وقع الارتداد العظيم في آخر حكم سليمان على ما تشهد به كتبهم المقدسة (ولا شك أنه إفك مفترى على سليمان) . فيقولون إن سليمان ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد الكثيرة إرضاء لأزواجه (سفر الملوك الأول 11 / 1 -11) ، فإذا صار سليمان في آخر عمره مرتدا وثنيا بشهادتهم القبيحة، فما بقي له غرض بالتوراة.
وبعد موت سليمان عليه السلام سنة 931ق. م وقع الارتداد الأعظم بأن انقسم أسباط بني إسرائيل، فصارت المملكة الواحدة مملكتين، وصار
(1/94)
يربعام بن ناباط ملكا على عشرة أسباط في شمال فلسطين، وسميت مملكته بمملكة إسرائيل، وعاصمتها ترصة قرب شكيم (نابلس) ، وصار رحبعام بن سليمان ملكا على سبطين في جنوب فلسطين، وسميت مملكته بمملكة يهوذا، وعاصمتها أورشليم (القدس) ، وقد شاع الكفر والارتداد في المملكتين، وكان في مملكة إسرائيل أسرع وأشد؛ لأن يربعام بعدما تولى الحكم ارتد ونصب عجول الذهب وأمر بعبادتها، فارتدت معه الأسباط العشرة وعبدوا الأصنام، ومن بقي منهم على التوحيد هاجر إلى مملكة يهوذا، وقد تعاقب على حكم مملكة إسرائيل تسعة عشر (19) ملكا، ولم يتغير حالهم، فهؤلاء الأسباط العشرة من عهد أول ملوكهم إلى آخرهم كانوا كافرين بالله، عابدين للأصنام، نابذين للتوراة، فأبادهم الله بأن سلط عليهم الأشوريين بقيادة سرجون الثاني سنة 722ق. م، فأسروا وقتلوا القسم الأكبر منهم، وفرقوا قسما آخر في الممالك، ولم يبق منهم في هذه المملكة إلا شرذمة قليلة، فجلبوا الوثنيين وأسكنوهم في مملكة إسرائيل، فاختلطت هذه الشرذمة الإسرائيلية القليلة بالوثنيين اختلاطا شديدا، فتزاوجوا وتوالدوا، فسميت أولادهم بالسامريين، فمن عهد يربعام أول ملوك المملكة الإسرائيلية وإلى اندثارها بعد مدة تزيد عن قرنين من الزمان ما كان لهؤلاء الأسباط العشرة غرض بالتوراة، وكان وجود نسخ التوراة في هذه المملكة كوجود العنقاء، يسمع بها ولا أصل لها.
أما مملكة يهوذا التي تضم سبطين من أسباط بني إسرائيل فجلس على سرير الحكم فيها بعد موت سليمان عليه السلام عشرون ملكا، وكان المرتدون من هؤلاء الملوك أكثر من المؤمنين الموحدين، فمن عهد رحبعام بن سليمان
(1/95)
شاعت عبادة الأصنام، ووضعت تحت كل شجرة وعبدت، فسلط الله عليه شيشق ملك مصر، فغزا مملكة يهوذا، ونهب جميع أثاث الهيكل وأثاث بيت السلطان، ثم سلط الله على آسا ثالث ملوكها بعشا بن أخيا ثالث ملوك مملكة إسرائيل، وكان بعشا وثنيا مرتدا، فجاء إلى القدس ونهب الهيكل وبيت السلطان نهبا شديدا، وفي عهد أخزيا سادس ملوك يهوذا بنيت المذابح للبعل في كل جانب من مدينة أورشليم (القدس) ، حتى سدت أبواب بيت المقدس، ثم في عهد منسي ملكها الرابع عشر اشتد الكفر حتى صار أكثر أهل المملكة وثنيين، فبني مذابح الأوثان في فناء بيت المقدس، ووضع الوثن الذي كان يعبده في بيت المقدس، وهكذا كان حال الكفر والارتداد في عهد ابنه آمون.
ولما تولى الحكم يوشيا بن آمون سنة 638ق. م تاب إلى الله توبة نصوحا، وأمر أركان دولته بنشر الملة الموسوية، وهدم رسوم الكفر والوثنية في غاية الجد والاجتهاد، واتخذ الكاهن حلقيا مرشدا له، وعين الكاتب شافان لجمع الضرائب من الشعب لإصلاح الهيكل، وكان بحاجة شديدة إلى التوراة، ولكنه مع ذلك ما رأى أحد ولا سمع بوجود نسخة التوراة إلى سنة 621 ق. م، أي بعد سبعة عشر عاما من حكمه، ثم في العام الثامن عشر ادعى مرشده الكاهن حلقيا أنه وجد مخطوطة لسفر التثنية ومجموعة من الشرائع في بيت المقدس، عندما كان يحسب الفضة الواردة إلى الهيكل، فأعطى هذا السفر لشافان فقرأه على الملك يوشيا، فلما سمع يوشيا مضمونه شق ثيابه حزنا على عصيان بني إسرائيل، (سفر الملوك الثاني 22 / 1 -11 وسفر أخبار الأيام الثاني 34 / 1 -19) .
(1/96)
ولكن هذه النسخة لا اعتماد عليها ولا على قول حلقيا؛ لأن الهيكل نهب مرتين قبل عهد الملك أخزيا، وفي عهده جعل بيتا للأصنام، وكان سدنتها يدخلون البيت كل يوم، ففي خلال أكثر من قرنين من الزمان، (منذ بداية حكم أخزيا سنة 843 ق. م إلى سنة 621 ق. م التي هي العام السابع عشر لحكم يوشيا) ما سمع أحد اسم التوراة ولا رآها، علما أن يوشيا وأركان دولته وجميع رعيته كانوا في غاية الاجتهاد لإحياء شريعة موسى، وكان الكهنة يدخلون كل يوم إلى الهيكل، فالعجب أن يكون سفر التثنية في الهيكل ولا يراه أحد طيلة سبعة عشر عاما، والحق أن هذا السفر اخترعه الكاهن حلقيا؛ فإنه لما رأى أن الملك يوشيا وأركان دولته متوجهون بشدة إلى اتباع شريعة موسى، قام بجمع هذا السفر من الروايات اللسانية غير المدونة التي كان يتناقلها الأحبار، أو وصلت إليه من أفواه الناس سواء كانت صادقة أو كاذبة، وكان طيلة سبعة عشر عاما في جمعها وتأليفها، فبعدما أتم جمعها نسبها إلى موسى، وادعى أنه وجد هذا السفر في الهيكل، ومثل هذا الافتراء والكذب لترويج الملة كان من المستحبات الدينية عند متأخري اليهود وقدماء النصارى.
وبقطع النظر عما فعله حلقيا، فإن سفر الشريعة الذي سلمه للملك يوشيا سنة 620 ق. م في العام الثامن عشر من حكمه، بقي العمل به طيلة حياته، أي لمدة ثلاثة عشر عاما، ولما مات يوشيا سنة 608 ق. م جلس ابنه يهوآحاز على سرير الملك، فارتد وأشاع الكفر في المملكة، فسلط الله عليه (نخو) ملك مصر، فأسره وأجلس مكانه أخاه يهوياقيم بن يوشيا، وكان أيضا مرتدا وثنيا كأخيه، وبعد موته جلس على سرير الملك ابنه يهوياكين بن
(1/97)
يهوياقيم، وكان أيضا مرتدا وثنيا كأبيه وعمه، فسلط الله عليه بختنصر (نبوخذنصر) ملك بابل، فأسره مع جم غفير من بني إسرائيل، ونهب الهيكل والقدس وكنز بيت الملك، وأجلس مكانه على السرير عمه صدقيا بن يوشيا، وكان مرتدا وثنيا كأخويه، فحكم أحد عشر عاما كان خلالها ذليلا لنبوخذ نصر، وفي سنة 587ق. م جاء نبوخذ نصر فقبض على صدقيا وقتل أولاده أمام عينه، ثم قلع عينيه وربطه بالسلاسل وأرسله مع سائر بني إسرائيل أسرى إلى بابل، وأشعل النار في الهيكل وفي بيوت الملك وجميع بيوت أورشليم، فدمرها تدميرا كليا وهدم أسوارها، وقضي نهائيا على مملكة يهوذا سنة 587 ق. م، أي بعد أن قضى سرجون الثاني الأشوري على مملكة إسرائيل بـ 135 سنة.
إذن يكون تواتر التوراة في اليهود منقطعا قبل زمان يوشيا (638-608 ق. م) ، والسفر الذي وجد في عهده لا اعتماد عليه ولا يثبت به التواتر، وما عمل به إلا ثلاثة عشر عاما، وبعدها اندثر ولم يعلم حاله، والظاهر أنه لما رجع الكفر والارتداد والوثنية في أولاد يوشيا زال هذا السفر قبل حادثة بختنصر، ولو فرض بقاؤه فزواله في حادثة بختنصر أمر مقطوع به؛ لأن جميع كتب العهد العتيق التي كانت مصنفة قبل هذه الحادثة انعدمت عن صفحة العالم رأسا، وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب، لذلك يضطرون للقول: إن عزرا كتب العهد العتيق مرة أخرى في بابل.
وذكر كتاب قاموس الكتاب المقدس أنه مما لا شك فيه أن معظم الأسفار المقدسة أتلفت أو فقدت في عصر الارتداد والاضطهاد وبخاصة في مدة حكم
(1/98)
منسى الطويل (55 سنة ما بين 693-639 ق. م) ، ورجحوا أن مخطوطة نسخة الشريعة التي عثر عليها حلقيا قد عبث بها عند تدنيس الهيكل.
لما كتب عزرا كتب العهد القديم مرة أخرى - على زعمهم - وقعت حادثة أخرى مروعة، جاء ذكرها في كتاب المكابيين الأول وفي تاريخ يوسيفس وفي كتب أخرى، وهي أنه لما فتح أنطيوخس الرابع (أنتيوكس ابيفانيس) أورشليم، أراد أن يمحق الديانة اليهودية، فأحرق جميع نسخ كتب العهد القديم التي حصلت له من أي مكان بعدما قطعها، وأمر بقتل كل من توجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد القديم أو من يؤدي رسم الشريعة، وكان يفعل هذا الأمر في كل شهر ولمدة ثلاث سنوات ونصف، وكانت هذه الحادثة حوالي سنة 161 ق. م، فقتل خلق كثير من اليهود، وأعدمت فيها جميع النسخ التي كتبها عزرا، ولذلك قال جان ملنر: اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة ونسخ كتب العهد العتيق ضاعت من أيدي عسكر بختنصر، ولما ظهرت نقولها بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوكس، ثم وقعت على اليهود بعد حادثة أنتيوكس حوادث أخرى انعدمت فيها نقول عزرا ونسخ لا تحصى، ومنها حادثة تيطس الرومي سنة 70م، وهي مكتوبة بالتفصيل في تاريخ يوسيفس وتواريخ أخرى، وقد أهلك في هذه الحادثة من اليهود في القدس ونواحيها مليون ومائة ألف (000ر100ر1) بالسيف والصلب والنار والجوع، وأسر سبعة وتسعين ألفا (97000) ، وباعهم في الأقاليم المختلفة، وأهلك جموعا كثيرة في أقطار أرض فلسطين وسوريا، فلو أن شيئا من كتب العهد القديم نجا من إحراق أنتيوكس، فمن المحقق أنه أحرق وأعدم في هذه
(1/99)
الحادثة. (انظر رقم (1) في حال التوراة ص20) . - أن قدماء النصارى لم يكونوا معترفين بالنسخة العبرانية من العهد القديم، وكانوا يعتقدون أنها محرفة، وكانوا يستعملون الترجمة اليونانية إلى آخر القرن الميلادي الثاني، وأما في معابد اليهود فكانت الترجمة اليونانية مستعملة إلى نهاية القرن الميلادي الأول، وكانت نسخ العبرانية قليلة جدا عند الطرفين، وقد أعدم اليهود بأمر محفل الشورى نسخا كتبت في القرنين السابع والثامن الميلادي؛ لأنها كانت تخالف النسخ المعتمدة عندهم مخالفة كبيرة، ولذلك لم تصل إلى أيدي المصححين أية نسخة مكتوبة في هذين القرنين، فإذا أعدموا النسخ المخالفة لنسخهم، وأبقوا النسخ التي يرضون بها صار لهم مجال واسع للتحريف.
4 - الحوادث التي مرت على النصارى في القرون الثلاثة الأولى كانت سببا لقلة النسخ عندهم، ولسهولة التحريف فيها؛ لأن تواريخهم تشهد بأنهم طيلة هذه القرون الثلاثة ابتلوا بأنواع المحن والبلايا، فقد وقعت عليهم اضطهادات عظيمة كانت كافية لضياع الإنجيل الصحيح وسائر أسفارهم المقدسة، وأبرزها عشرة اضطهادات كما يلي:
الأول: في عهد السلطان نيرون سنة 64م، وكان مشهورا بالظلم والقسوة، حتى إنه أحرق مدينة روما وألقى تبعة ذلك على النصارى فاضطهدهم بعنف، وكان الإقرار بالنصرانية يعد جرما عظيما، فقتل بطرس وزوجته وأناسا كثيرين، وكان هذا القتل في العاصمة وفي سائر الولايات مستمرا إلى نهاية حياة هذا السلطان سنة 68م.
(1/100)
والثاني: في عهد السلطان دومشيان (دوميتيانوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 81م، (وهو أخو تيطس الذي ذبح اليهود سنة 70م) ، وكان طاغية جبارا، وعدوا للنصارى مثل نيرون، فأجلى يوحنا الحواري، وأمر بالقتل العام، وأسرف في قتل الكبراء ومصادرة أموالهم، ونكل بالنصارى تنكيلا عظيما فاق ما فعله أسلافه، وكان أن يستأصل النصرانية، وبقي الحال هكذا إلى أن قتل سنة 96م.
والثالث: في عهد السلطان تراجان (ترايانوس) ، الذي صار امبراطور روما عام 98م، فقد بدأ اضطهاده العنيف للنصارى سنة 101م، واشتد جدا سنة 108م حيث أمر بقتل كل من بقي من ذرية داود، فقام الضباط بالتفتيش، وبقتل كل من وجدوه منهم، وأعدم كثيرين من الأساقفة بالصلب أو بالضرب أو بالإغراق في البحر، وبقي الحال هكذا طيلة حياته إلى أن فاجأه الموت سنة 117م.
والرابع: في عهد السلطان مرقس أنتيونينس (أنطيونينوس ماركوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 161م، وكان فيلسوفا رواقيا ووثنيا متعصبا، بدأ اضطهاده للنصارى عام 161م ولمدة تزيد على عشر سنين، حتى بلغ القتل شرقا وغربا، وكان يطلب من الأساقفة أن يكونوا مع جملة سدنة الأوثان، ومن أبى يجلسونه على كرسي حديد تحته نار، ثم يمزق لحمه بكلاليب من حديد.
والخامس: في عهد السلطان سويرس (سيفيروس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 193م، وابتدأ اضطهاده للنصارى عام 202م، فأمر بالقتل في كل ناحية، وكان القتل على أشده في مصر وقرطاجة وفرنسا حيث قتل
(1/101)
الألوف في غاية الشدة، فظن النصارى أن هذا الزمان هو زمان الدجال.
والسادس: في عهد السلطان مكسيمن (ماكسيمينيوس) ، الذي صار إمبراطور روما سنة 235م، فأحيا رسوم الوثنية، وبدأ اضطهاده للنصارى عام 237م، فأصدر أمره بقتل جميع العلماء؛ لأنه ظن أنه إذا قتل العلماء جعل العوام مطيعين له في غاية السهولة، ثم أمر بقتل كل نصراني بلا فحص ولا محاكمة، فكثيرا ما كان يطرح منهم في جب واحد خمسون أو ستون قتيلا معا، ثم هم بقتل جميع سكان روما، فقتله أحد الجند سنة 238م.
والسابع: في عهد السلطان دي شس (دنيس) ، الذي بدأ اضطهاده للنصارى سنة 253م، وقد أراد هذا السلطان استئصال الملة النصرانية، فأصدر أوامره بذلك إلى حكام الولايات، ونفذ الولاة أوامره بقسوة فبحثوا عن النصارى وقتلوهم في كل مكان بعد التعذيب الشديد، وكان ظلمه وقهره شديدا في مصر وأفريقيا وإيطاليا والمشرق (آسيا الصغرى وبلاد الشام) ، حتى ارتد في زمنه كثيرون من النصرانية إلى الوثنية.
والثامن: في عهد السلطان ولريان (والريانوس) (فالريان) ، الذي بدأ اضطهاده للنصارى سنة 257م، عندما أصدر أمره الشديد بقتل جميع الأساقفة وخدام الدين، وإذلال الأعزة ومصادرة أموالهم، وسلب حلي نسائهم، وإجلائهن من الأوطان، ومن بقي منهم بعد ذلك نصرانيا ورفض تقديم قربان للإله جوبيتر يقتل أو يحرق أو يلقى للنمور تفترسه، فقتل بضعة ألوف، وأخذ الباقون عبيدا مقيدين بالسلاسل لاستعمالهم في أمور الدولة.
والتاسع: في عهد السلطان أريلين، الذي بدأ اضطهاده للنصارى بأوامر
(1/102)
مشددة ضدهم سنة 274م، لكن لم يقتل فيه كثير؛ لأن السلطان قتل.
والعاشر: في عهد السلطان ديوكليشين (دقلديانوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 284م، وبدأ اضطهاده للنصارى سنة 286م بقتل (6600) من النصارى، وكانت ذروته سنة 302م، واستمر إلى سنة 313م، ففي سنة 302م أحرق بلدة فريجيا كلها دفعة واحدة بحيث لم يبق فيها أحد من النصارى، وأراد هذا السلطان أن يمحو الكتب المقدسة من الوجود، واجتهد في هذا الأمر اجتهادا عظيما، فأصدر أمره في شهر آذار (مارس) سنة 303م بهدم جميع الكنائس وإحراق الكتب، وعدم اجتماع النصارى للعبادة، فنفذ الولاة أمره بصرامة شديدة، فهدمت الكنائس في كل مكان، وأحرق كل كتاب عثروا عليه بالجد التام، وعذب عذابا شديدا كل من ظن أنه أخفى كتابا، وامتنع النصارى عن الاجتماع للعبادة، قال يوسي بيس: إنه رأى بعينيه تهديم الكنائس وإحراق الكتب المقدسة في الأسواق.
وأصدر أمره لعامله على مصر أن يجبر الأقباط على عبادة الأصنام، وأن يذبح بالسيف كل من يأبى، فقتل منهم (000ر800) ، فسمي عصره بعصر الشهداء، وكان يقتل من النصارى في كل يوم ما بين 30-80 نفسا.
واستمر اضطهاده للنصارى عشر سنين حتى ملأ الأرض قتلا شرقا وغربا، فهذا الاضطهاد أعنف من كل الاضطهادات السابقة وأطولها أمدا.
فهذه الوقائع العظيمة والبلايا الجسيمة التي يكتبونها في تواريخهم، لا يتصور فيها كثرة النسخ وانتشارها شرقا وغربا كما يزعمون، بل لا يتصور فيها إمكانية المحافظة على سلامة النسخ الموجودة بين أيديهم ولا تصحيحها ولا
(1/103)
تحقيقها؛ لأن النسخ الصحيحة تضيع في مثل هذه الأحداث، ويكون للمحرفين مجال كبير للتحريف المناسب لأهوائهم.
وبسبب الحوادث المذكورة وغيرها فقدت الأسانيد المتصلة لكتب العهدين، وصار الموجود باسم كتب العهدين جعليا مختلقا، فلا يوجد عند اليهود ولا عند النصارى سند متصل لكتاب من كتبهم، وقد طلب الشيخ رحمت الله في مناظرته للقسيسين فندر وفرنج السند المتصل لأي كتاب من كتبهم، فاعتذرا بأن سبب فقدان الإسناد هو وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة (313م) .
وبهذا ثبت أنه لا يوجد دليل قطعي على أن النسخ الموجودة بين أيديهم قد كتبت في قرن معين، وليس مكتوبا في آخر أسفارها أن كاتبه فرغ من كتابته في سنة معينة كما هو الحال في نهاية الكتب الإسلامية غالبا، فأهل الكتاب يقولون رجما بالغيب وبالظن الذي نشأ لهم من بعض القرائن أنها لعلها كتبت في قرن كذا أو قرن كذا، مجرد الظن والتخمين لا يتم دليلا على المخالف.
ونحن المسلمين لا نقول إن كتب أهل الكتاب لم تحرف قبل زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأنها حرفت بعد زمانه فقط، بل إن إجماع المسلمين كلهم على أن كتب أهل الكتاب حرفت وفقدت إسنادها قبل زمانه صلى الله عليه وسلم، وأن التحريف في كثير من المواضع وقع فيها بعد زمانه أيضا، وكثرة النسخ لا تنفع في رد التحريف، بل إن وجود نسخ كثيرة قديمة يكون نافعا لدعوى التحريف، باعتبار أن اشتمال هذه النسخ على الكتب الجعلية المكذوبة، واختلافها عن بعضها اختلافا شديدا، من أعظم الأدلة الدالة على تحريف أسلافهم لكتبهم المقدسة،
(1/104)
ولا يلزم من القدم الصحة.
وبهذا ثبت والحمد لله وقوع التحريف بجميع أنواعه في كتب أهل الكتاب، وأنهم لا يملكون السند المتصل لأي كتاب منها، وأنهم يقولون ما يقولون بالظن والتخمين، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
(1/105)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الفصل الرابع إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين]
[بيان معنى النسخ]
الفصل الرابع
إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين النسخ: مصدر نسخ ينسخ نسخا، ويأتي في اللغة بمعنيين:
الإبطال والإزلالة , يقال: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر، ونسخ الحاكم الحكم.
ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية 106: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وقوله تعالى في سورة الحج آية 52: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] أي يزيله ويبطله فلا يبقى له أثرا.
النقل والتحويل، يقال: نسخ الكتاب: أي نقله وكتبه حرفا بحرف، ونسخت النحل العسل: أي حولته من مكان إلى آخر، ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية آية 29: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]
والنسخ في الاصطلاح الإسلامي: بيان مدة انتهاء الحكم العملي الجامع للشروط، ويعرف أيضا بأنه: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
والنسخ عندنا نحن المسلمين لا يطرأ على القصص والأخبار، ولا على الأمور العقلية القطعية مثل: أن الله موجود وأنه واحد، ولا على العقائد مثل: وجوب الإيمان وحرمة الكفر والشرك، ولا على الأحكام المؤبدة، كقوله تعالى في سورة النور آية 4: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ولا على الأحكام المؤقتة قبل وقتها المعين، ولا على الأدعية. وإنما يطرأ النسخ على الأحكام العملية المحتملة
(1/107)
للوجود والعدم, وأن تكون غير مؤبدة ولا مؤقتة، وتسمى الأحكام المطلقة.
ولا يقصد المسلمون بالنسخ المصطلح عندهم ما يقصده اليهود الذين يجوزون البداء على الله تعالى؛ لأن معنى البداء: ظهور الشيء بعد خفائه، أي أن الله أمر بشيء أو نهى عن شيء دون أن يعلم عاقبة الأمر والنهي، ثم بدا له رأي فنسخ الحكم الأول، وهذا فيه لزوم الجهل على الله - والعياذ بالله من هذه العقيدة الفاسدة وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- لكن معنى النسخ المصطلح عند المسلمين أن الله تعالى كان يعلم أن هذا الحكم من الأمر أو النهي يكون باقيا على المكلفين به إلى وقت معين في علم الله ثم ينسخه الله، أي إذا جاء الوقت المعين في علم الله يعطي الله المكلفين حكما آخر يظهر منه للمكلفين الزيادة على الحكم الأول أو النقصان منه أو رفعه نهائيا، فهذا الحكم الآخر هو في الحقيقة بيان انتهاء العمل بالحكم الأول، ولكننا نحن المكلفين لأننا لم نكن نعلم بالحكم الآخر ولا بوقت وروده، ولأن الحكم الأول لم يكن مؤقتا وكنا نظن دوامه، فعند ورود الحكم الآخر نظن لقصور علمنا أن هذا تبديل وتغيير للحكم الأول، ولكن هو بالنسبة إلى الله ليس تبديلا ولا تغييرا, وإنما هو بيان انتهاء العمل بالحكم الأول , ولكن هو بالنسبة إلى الله ليس تبديلا ولا تغييرا, وإنما هو بيان انتهاء العمل بالحكم الأول، وفي هذا حكم ومصالح للعباد يعلمها الله وسواء ظهرت لنا أو لم تظهر؛ لأن جميع الأحكام التي يشرعها الله لعباده فيها مصلحتهم، إما في جلب منفعة أو تكميلها، وإما في درء مفسدة أو تقليلها، والحكم والمصالح تكون نظرا إلى حال المكلفين والزمان والمكان، وهذا لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه، لذلك كان نسخ الأحكام حقا لله وحده، وليس البداء من هذا القبيل، وهو ممتنع في حق الله سبحانه؛ لأن علم الله أزلي أبدي يعلم
(1/108)
الأشياء قبل وقوعها , أما البداء فجائز في حقنا نحن البشر.
[كذب بعض القصص الموجودة في كتب العهدين القديم والجديد]
وبعد بيان معنى النسخ المصطلح عندنا نحن المسلمين نقول: ليس هناك قصة من القصص الموجودة في كتب العهدين القديم والجديد منسوخة عندنا, لكن بعضها كاذب قطعا، مثل:
أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه, وحملنا منه بهذا الزنا: (سفر التكوين19 / 30 -38) .
أن يهوذا بن يعقوب عليه السلام زنى بثامار زوجة ابنه, وحملت منه بهذا الزنا توأمين - فارص وزارح: سفر التكوين 38 / 12 -30) ، وأن الأنبياء داود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد ولد الزنا فارص: (إنجيل متى 1 / 3 -16) .
أن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا، وحملت منه بهذا الزنا، ثم أهلك زوجها بالمكر, وأخذها زوجة له: (سفر صموئيل الثاني 11 / 2 -27) .
أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبنى المعابد لها: (سفر الملوك الأول 11 / 1 -13) .
أن هارون عليه السلام صنع العجل لبني إسرائيل وعبده, وأمرهم بعبادته: (سفر الخروج 32 / 1 -6) .
فنقول في هذه القصص وأمثالها: إنها كاذبة مفتراه على أنبياء الله تعالى , وباطلة يقينا، ولا نقول إنها منسوخة.
وبهذا المعنى المصطلح عندنا للنسخ لا يكون الزبور ناسخا للتوراة ولا يكون منسوخا بالإنجيل، لأن الزبور أدعية , والأدعية لاتنسخ، وإنما منعنا
(1/109)
عن استعمال الزبور والكتب الأخرى التي في العهدين القديم والجديد, لأنها كلها مشكوكة يقينا، وفاقدة لأسانيدها المتصلة، وثبت وقوع التحريف اللفظي فيها بجميع أقسامه.
أما الأحكام المطلقة الصالحة للنسخ فنعترف أن بعض الأحكام في التوراة هي الصالحة للنسخ، ونسخت الشريعة الإسلامية بعضها, ولا نقول: إن كل حكم وارد في التوراة منسوخ، فبعض أحكام التوراة لم تنسخ مثل: حرمة اليمين الكاذبة والقتل والزنا واللواط والسرقة وشهادة الزور والخيانة في مال الجار وعرضه ونكاح المحارم وعقوق الوالدين، فهذه الأحكام ما زالت حرمتها باقية في شريعة الإسلام ولم تنسخ.
وقد يكون الحكم الناسخ في شريعة نبي لاحق، والحكم المنسوخ في شريعة نبي سابق، وقد يكون الحكمان الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه، والأمثلة من كتب العهدين العتيق والجديد غير محصورة.
[بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ في شريعة نبي سابق]
وفيما يلي بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ في شريعة نبي سابق, وبعض هذه الأمثلة يكون إيرادها من قبيل الإلزام فقط:
الزواج بالأخت كان جائزا في شريعة آدم عليه السلام، وقد تزوج أولاده بأخواتهم، ثم نسخ وصار محرما في شريعة موسى عليه السلام:
ففي سفر الأحبار (اللاويين) 18 / 9: (عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا لا تكشف عورتها) .
وفي سفر الأحبار (اللاويين) 20 / 17: (وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت عورته فذلك عار. يقطعان أمام أعين بني
(1/110)
شعبهما، قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه) .
وفي سفر التثنية 27 / 22: (ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمه) .
فلو لم يكن الزواج بالأخت في شريعة آدم جائزا، للزم من هذه النصوص أن يكون أولاد آدم كلهم زناة وواجبي القتل وملعونين، والصواب أنه كان جائزا، ثم نسخ وحرم في شريعة موسى عليه السلام.
جميع الحيوانات كانت حلالا في شريعة نوح:
ففي سفر التكوين9 / 3: (كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع) .
فجميع الحيوانات في شريعة نوح عليه السلام كانت حلالا كالبقولات, ونسخت شريعة موسى حلية بعضها فصارت حراما, كما في سفر الأحبار (اللاويين) 11 / 4 -8, وسفر التثنية 14 / 7 -8, وفيما يلي نص فقرتي سفر التثنية: (7) إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف المنقسم. الجمل والأرنب والوبر لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفا فهي نجسة لكم (8) والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. فمن لحومها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا) .
الجمع بين الأختين كان جائزا في شريعة يعقوب عليه السلام، وقد جمع يعقوب بين الأختين (ليئة وراحيل) كما في سفر التكوين 29 / 15 -35, ثم نسخت شريعة موسى عليه السلام حليته، وصار الجمع بين الأٍختين حراما، ففي سفر الأحبار (اللاويين) 18 / 18: (ولا تأخذ امرأة على أختها
(1/111)
للضرر لتكشف عورتها معها في حياتها) .
فلو لم يكن هذا الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب يلزم منه أن يكون أولاده أولاد الزنا والعياذ بالله , وأكثر أنبياء بني إسرائيل من ذرية أولاده.
4 - الزواج بالمطلقة: في شريعة موسى عليه السلام يجوز أن يطلق الرجل امرأته لأي سبب، وبعد خروجها من بيته يجوز لأي رجل آخر أن يتزوجها، كما ورد في سفر التثنية 24 / 1 -4، وفي شريعة عيسى عليه السلام لا يجوز الطلاق إلا بسبب الزنا، ولا يجوز لرجل آخر أن يتزوج هذه المطلقة، والزواج بالمطلقة بمنزلة الزنا، ففي إنجيل متى 5 / 31 -32: (31) وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق (32) وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني) .
وفي إنجيل متى 19 / 8 -9 جواب عيسى للفريسيين: (8) قال لهم إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم. ولكن من البدء لم يكن هكذا (9) وأقول لكم إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني. والذي يتزوج بمطلقة يزني) .
فثبت من هذا النص أن النسخ وقع مرتين، ويفهم ذلك من الفقرة الثامنة، أي كان الطلاق قبل موسى حراما، ثم نسخت حرمته وأبيح في شريعة موسى، ثم نسخت الإباحة وصار حراما في شريعة عيسى، بل هو بمنزلة الزنا.
- نسخ جميع أحكام التوراة:
توراة موسى عليه السلام فيها جميع أحكام شريعة بني إسرائيل، وكل
(1/112)
أنبيائهم مأمورون بالعمل بأحكامها، ومنها أحكام الحلال والحرام من الحيوانات، فيما يحل أكله أو يحرم منها، وعيسى عليه السلام من بني إسرائيل، وتابع لشريعة موسى عليه السلام، وليس بناسخ لها، فقد ورد على لسانه كما في إنجيل متى 5 / 17 -18: (17) لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل (18) فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) .
وقد تمسك الدكتور القسيس فندر بهاتين الفقرتين في الصفحة (24) من كتابه (ميزان الحق) على أن أحكام التوراة لا تنسخ، ونفى أن يكون المسيح قد نسخ شيئا من أحكام التوراة؛ لأنه ما جاء لينقضها بل ليكملها.
ولكن جميع المحرمات في التوراة أصبحت حلالا بفتوى بولس، ولا يوجد في شريعته شيء حرام إلا للنجسين، فالأشياء الطاهرة هي للنجسين نجسة، والأشياء النجسة هي للطاهرين طاهرة، وهذه من أعجب الفتاوى، ففي رسالة بولس إلى أهل رومية 14 / 14: (إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته إلا من يحسب شيئا نجسا فله هو نجس) .
وفي رسالة بولس إلى تيطس 1 / 15: (كل شيء طاهر للطاهرين وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم) .
ويفهم من النصين السابقين أن موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى عليه السلام وأتباعهم لم يكونوا طاهرين، فلم تحصل لهم هذه الإباحة
(1/113)
العامة لجميع المحرمات، ولم يستطع عيسى عليه السلام أن ينسخ شريعة موسى، ولما كان أتباع بولس طاهرين حصلت لهم هذه الإباحة العامة لجميع المحرمات والمطعومات النجسة، وصار كل شيء طاهرا وحلالا لهم، واستطاع رئيسهم بولس أن ينسخ شريعة موسى كلها، واجتهد كثيرا في إشاعة حكم الإباحة العامة، وفي إقناع أتباعه بأن أحكام التوراة كلها صارت منسوخة، ولذلك كتب إلى تيموثاوس في رسالته الأولى 1 / 1 -7: (1) إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحا مضلة وتعاليم شياطين (3) وآمرين أن يمتنع عن أطعمة قد خلقها الله لتتناول بالشكر من المؤمنين وعار في الحق (4) لأن كل خليقة الله جيدة ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر (5) لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة (6) إن فكرت الإخوة بهذا تكون خادما صالحا ليسوع المسيح متربيا بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذي تتبعته (7) وأما الخرافات الدنسة العجائزية فارفضها) .
- نسخ الأعياد الإسرائيلية والسبت:
وردت أحكام الأعياد والسبت مفصلة في سفر الأحبار (اللاويين) 23 / 1 -44، وورد في الفقرات 14 و21 و31 و41 أنها فريضة دهرية في جميع أجيال بني إسرائيل وفي جميع مساكنهم.
وكان تعظيم السبت حكما أبديا في شريعة موسى، وكل من عمل فيه عملا يقتل، وتكرر تعظيم السبت في مواضع من كتب العهد العتيق منها: سفر التكوين 2 / 2 -3، وسفر الخروج 20 / 8 -11، و23 / 12، و34، وسفر الأحبار (اللاويين) 19 / 3، و23 / 3، وسفر التثنية 5 / 12 -15،
(1/114)
سفر إرميا 17 / 19 -27، وسفر إشعياء 56 / 1 -8، و58 / 13 -14، وسفر نحميا 9 / 14، وسفر حزقيال 20 / 12 -24.
وأما قتل كل من عمل عملا يوم السبت فقد ورد في سفر الخروج 31 / 12 -17، و35 / 1 -3، وفي زمان موسى عليه السلام وجدوا رجلا يحتطب يوم السبت فأخرجوه خارج المحلة ورجموه بالحجارة فمات، كما ورد في سفر العدد 15 / 32 -36.
وقد نسخ بولس جميع أحكام الأعياد بما فيها حكم تعظيم السبت، فقال في رسالته إلى أهل كولوسي 2 / 16: (فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت) .
ونقل في تفسير دوالي ورجردمينت عن اثنين من العلماء المفسرين قولهما:
كانت الأعياد في اليهود على ثلاثة أقسام: في كل سنة سنة، وفي كل شهر شهر، وفي كل أسبوع أسبوع، فنسخت هذه الأعياد كلها، بل ونسخ يوم السبت أيضا، وأقيم سبت النصارى مقامه، أي يوم الأحد بدل يوم السبت.
- نسخ حكم الختان:
حكم الختان كان في شريعة إبراهيم عليه السلام حكما أبديا كما هو مصرح به في سفر التكوين 17 / 9 -14، وأكتفي بنقل بعض الفقرات:
(12) ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم (13) فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا) .
وبقي هذا الحكم مستمرا في أولاد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، وبقي كذلك في شريعة موسى عليه السلام، ففي سفر الأحبار (اللاويين) 12 / 3 بخصوص المولود الذكر: (وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته) .
(1/115)
وقد ختن عيسى عليه السلام، ففي إنجيل لوقا 2: (ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع) .
وفي عبادة النصارى إلى هذا الحين صلاة معينة يؤدونها في يوم ختان عيسى تذكرة لهذا اليوم، وبقي حكم الختان في عهده عليه السلام ولم ينسخه، ولكن بولس شدد تشديدا بليغا في نسخ هذا الحكم كما يظهر من رسالته إلى أهل رومية 2 / 25 -29، ورسالته إلى أهل غلاطية 2 / 3 -5، و5 / 1 -6، و6 / 11 -16، ورسالته إلى أهل فيلبي 3 / 3، ورسالته إلى أهل كولوسي 2 / 11، وأكتفي بنقل فقرتين من رسالته إلى أهل غلاطية 5 / 2 و6: (2) ها أنا بولس أقول لكم إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا (6) لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة) .
والنصارى تركوا هذا الحكم الذي هو حكم أبدي ولم ينقضه عيسى عليه السلام، وصدقوا أن بولس نسخه لهم.
8 - قيمة التوراة في نظر بولس:
ورد قول بولس في الرسالة إلى العبرانيين 7 / 18: (فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها) .
ونص هذه الفقرة في طبعتي سنة 1825م و1826 م كما يلي: (لأن نسخ ما تقدم من الحكم قد عرض لما فيه من الضعف وعدم الفائدة) .
ونص هذه الفقرة أيضا في طبعات سنة 1671م و1823م و1844م كما يلي: (وإنما كان رذالة الوصية الأولى لضعفها وأنه لم يكن فيها منفعة) .
ونصها في طبعة سنة 1882م كما يلي: (إذن نرفض الوصية السابقة لضعفها
(1/116)
وعدم نفعها) .
وفي الرسالة العبرانية 8 / 7 و13: (7) فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان فإذ قال جديدا عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال) .
ونص هاتين الفقرتين في طبعتي سنة 1823م و1844م كما يلي: (7) ولو أن الأول كان بلا لوم لم يطلب للثاني موضع (13) وإذا قال جديدا فعتق الأول والذي عتق وشاخ فهو قريب من الفساد) .
ونصهما في طبعتي سنة 1825م و1826م كما يلي: (7) فلو كان العهد الأول غير معترض عليه لم يوجد للثاني موضع (13) فبقوله عهدا جديدا صير الأول عتيقا والشيء العتيق والبالي قريب من الفناء) .
وفي الرسالة إلى العبرانيين 10 / 9: (ينزع الأول لكي يثبت الثاني) .
ففي الفقرات السابقة أطلق بولس على التوراة أنها ضعيفة وعديمة النفع وعديمة الفائدة ورذيلة ومعابة وعتيقة وشاخت وقريبة من الاضمحلال ومرفوضة وملومة وقريبة من الفساد ومعترض عليها وبالية وقريبة من الفناء ومنزوعة ومنسوخة.
نقل في تفسير دوالي ورجردمينت قول بايل: هذا ظاهر جدا أن الله تعالى يريد أن ينسخ العتيق الأنقص بالرسالة الجديدة الحسنة، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب النصراني مقامه، وفيه إشعار بكون ذبائح
(1/117)
اليهود غير كافية، ولذا تحمل المسيح على نفسه الموت ليجبر نقصانها، ونسخ بفعل أحدهما استعمال الآخر.
فظهر من الأمثلة السابقة ما يلي:
أن وجود بعض الأحكام المنسوخة في شرائع سابقة والأحكام الناسخة في شرائع لاحقة ليس مختصا بشريعة الإسلام، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا.
أن جميع أحكام التوراة العملية أبدية كانت أو غير أبدية وجميع الفرائض والمحرمات نسخها بولس حسب ما ورد في رسائله، وجعل أتباعه غير مطالبين بها.
أن لفظ النسخ أيضا وجد في كلام بولس بالنسبة إلى التوراة وأحكامها، وورد في كلام المفسرين والمحققين منهم.
أن بولس ادعى أن الشيء العتيق البالي قريب من الفناء والفساد وضعيف وعديم النفع وعديم الفائدة ورذيل ومعاب ومضمحل ومرفوض وملوم ومعترض عليه ومنزوع ومنسوخ، إذن لا استبعاد في نسخ شريعة أهل الكتاب بشريعة الإسلام، بل هذا ضروري على وفق كلام بولس؛ لأن شريعة أهل الكتاب تعد قديمة بالنسبة إلى شريعة الإسلام الجديدة، كيف لا يكون ذلك ضروريا ورسولهم بولس والمفسرون أطلقوا على التوراة ألفاظا غير ملائمة، مع أنهم يقولون إنها كلام الله؟!
إذن نسخ أحكام التوراة والإنجيل بأحكام القرآن أمر لا شك فيه، وثبت نظائره فيمن سبقنا، وإذا نسخت أحكامهما نسخ العمل بهما بالعمل بالقرآن
(1/118)
الكريم.
[بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه]
وفيما يلي إيراد أمثلة أخرى على وجود الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه، أي في الشريعة الواحدة، وبعض هذه الأمثلة يكون إيرادها من قبيل الإلزام أيضا:
نسخ الأمر بالذبح:
ورد في سفر التكوين 22 / 1 -14 أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسحاق عليه السلام (والصواب أنه إسماعيل عليه السلام) ، فلما استجابا للأمر نسخ الله تعالى هذا الحكم قبل العمل به، وفدى الذبيح بكبش من السماء.
أمر حزقيال ثم نسخ الأمر قبل العمل به:
ففي سفر حزقيال 4 / 10 و12 و14 و15: (10) وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن. كل يوم عشرين شاقلا. من وقت إلى وقت تأكله (12) وتأكل كعكا من الشعير. على الخرء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم (14) فقلت آه يا سيد الرب ها نفسي لم تتنجس ومن صباي إلى الآن لم آكل ميتة أو فريسة ولا دخل فمي لحم نجس (15) فقال لي انظر. قد جعلت لك خثي البقر بدل خرء الإنسان فتصنع خبزك عليه) .
يظهر من هذا النص أن الله تعالى أمر حزقيال أن يكون الخبز مخبوزا على رجيع الناس، فلما استغاث حزقيال عليه السلام نسخ الله تعالى هذا الحكم قبل العمل به، وأمر أن يكون الخبز مخبوزا على زبل البقر.
نسخ الأمر بالذبح في المذبح المخصص:
(1/119)
ورد في سفر الأحبار (اللاويين) 17 / 1 -6 أن الله تعالى أمر موسى وبني إسرائيل أن تذبح الذبائح التي تكون من البقر أو الغنم أو المعز في المذبح المخصص لذلك القريب من خيمة الاجتماع - وتسمى (قبة الزمان) (قبة العهد) (قبة الشهادة) - لتكون الذبائح قربانا للرب، والإنسان الذي يذبح خارج المذبح المخصص يهلك من شعبه، أي يقتل.
ثم نسخ هذا الحكم بما في سفر التثنية 12 / 15 -22، وصار يجوز لهم الذبح في كل مكان وعدم الاقتصار على المذبح المخصص، قال هورن في تفسيره بعد أن نقل الفقرات المشار إليها من سفر الأحبار وسفر التثنية: في هذين الموضعين تناقض في الظاهر، لكن إذا لوحظ أن الشريعة الموسوية كانت تزاد وتنقص على وفق حال بني إسرائيل، وكانت قابلة للتبديل، فالتوجيه في غاية السهولة، فقد نسيخ موسى في السنة الأربعين من التيه قبل دخولهم فلسطين حكم سفر الأحبار بحكم سفر التثنية نسخا صريحا، فيجوز لهم بعد دخول فلسطين أن يذبحوا البقر والغنم والمعز في أي موضع شاؤوا ويأكلوا.
فاعترف بوقوع النسخ في شريعة موسى، وأنها كانت تزاد وتنقص على وفق حال بني إسرائيل، فالعجب أن أهل الكتاب يعترضون على وقوع النسخ والزيادة والنقصان في شريعة أخرى، ويقولون: إن النسخ مستلزم لجهل الله، ولكن هذا المحذور لا يلزم من النسخ الذي يقول به المسلمون، والذي هو حق لله وحده، وإنما يلزم من عقيدة البداء التي يصرحون بها في كتبهم، وصرح بها بولس في رسائله أيضا.
الحكم في عمر اللاوي (الحبر) المخصص للخدمة:
(1/120)
ورد في سفر العدد 4 / 3 و23و30و35و39و43و46 أن الحبر اللاوي المخصص للخدمة في خيمة الاجتماع لا يكون عمره أنقص من ثلاثين سنة ولا يزيد عن خمسين: (من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة) .
ورد في سفر العدد 8 / 24 و 25 أن عمر الحبر اللاوي المخصص للخدمة لا يكون أنقص من خمس وعشرين سنة ولا يزيد عن خمسين: (هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا) .
فإما أن يكون هذا الفرق من التناقض والاختلاف الواقع بالتحريف، وإما أن يكون هذا الحكم الثاني ناسخا للأول. فيجب الإقرار بأحد الأمرين.
الزيادة في عمر حزقيا:
ورد في سفر الملوك الثاني 20 / 1 -6 أن الله تعالى أمر النبي إشعياء بن آموص أن يذهب إلى حزقيا ملك مملكة يهوذا فيخبره بانتهاء أجله لكي يوصي على بيته، فأقبل الملك حزقيا بوجهه إلى الحائط وصلى وبكى بكاء عظيما، فلما خرج النبي إشعياء نسخ الله تعالى هذا الحكم بعد تبليغه، وأوحى إليه قبل أن يصل إلى وسط الدار أن يرجع إلى حزقيا ويقول له: إن الله قد سمع صلاتك، ورأى دموعك، وشفاك، وزاد في عمرك خمس عشرة سنة.
فالحكم المنسوخ والناسخ بلغا بواسطة النبي إشعياء بوحي الله إليه.
الرسالة العيسوية بين الخصوص والعموم:
ورد في إنجيل متى 10 / 5 -6: (5) هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا (6) بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) .
(1/121)
وفي إنجيل متى 15: (فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) .
ففي هذين النصين خصص عيسى عليه السلام رسالته ببني إسرائيل.
وورد في إنجيل مرقس 16 / 15 أن عيسى عليه السلام قال للحواريين: (اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) .
ويزعم النصارى أن هذا النص دال على عموم الرسالة، فيكون هذا النص ناسخا للخصوصية، وصار الحكم الأول منسوخا. أي إن المسيح أولا خصص رسالته ببني إسرائيل فقط، ثم نسخ التخصيص وأمر بدعوة العالم أجمع، فإن أقروا بالنسخ حصل ما أردنا من إمكانية وقوع النسخ في كتبهم وأن كتبهم غير ممنوعة من النسخ، بل هو واقع فيها أيضا، وإن لم يقروا بالنسخ حصل ما أردنا من وجود التناقض والتحريف في أناجيلهم، والصواب أن عبارة إنجيل مرقس لم يقلها المسيح عليه السلام.
وفي هذه الأمثلة كفاية، ولم يبق شك في وقوع النسخ بكلا قسميه في كتب أهل الكتاب، وظهر أن ما يدعونه من امتناع وقوع النسخ في كتبهم باطل لا ريب فيه، ثم كيف يدعون هذه الدعوى والحال أن مصالح العباد تختلف باختلاف الزمان والمكان والمكلفين، فبعض الأحكام يكون مقدورا للمكلفين في بعض الأوقات ولا يكون مقدورا لهم في وقت آخر، وبعض الأحكام يكون مناسبا للعباد في زمان ولا يكون مناسبا لهم في زمان آخر، والعباد لا يعلمون مصلحتهم الحقيقية أين تقع، ولكن الله الذي خلقهم هو أعلم بها منهم، وبناء عليه فلا يجوز لأهل الكتاب بتأويلاتهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة أن ينكروا وقوع النسخ من جانب الله العليم الخبير.
(1/122)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الباب الثاني إبطال التثليث]
[مقدمة في بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول]
الباب الثاني
إبطال التثليث وهو مشتمل على مقدمة وثلاثة فصول:
المقدمة: بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول.
الفصل الأول: إبطال التثليث بالبراهين العقلية.
الفصل الثاني: إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام.
الفصل الثالث: إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح عليه السلام.
(1/123)
المقدمة
بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول الأمر الأول: أن كتب العهد القديم ناطقة بأن الله واحد أحد، منزه عن الصاحبة والولد، حي لا يموت، قادر يفعل ما يشاء، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد.
الأمر الثاني: أن عبادة غير الله حرام، وحرمتها التوراة في فقرات كثيرة، منها سفر الخروج 20 / 3 و4 و5 و23، و34 / 14 و17، وسفر التثنية 13 / 1 -11، و17 / 2 -7، وصرحت التوراة بوجوب قتل من دعا إلى عبادة غير الله ولو كان هذا الداعي نبيا ذا معجزات عظيمة، وكذلك صرحت التوراة بوجوب رجم كل من عبد غير الله أو رغب في عبادة غير الله، سواء كان هذا العابد رجلا أو امرأة، وسواء كان المرغب من الأقرباء أو الأصدقاء.
الأمر الثالث: وردت في التوراة فقرات تفيد التنزيه لله تعالى وأنه ليس له شبيه، ففي سفر التثنية 4 / 12 و15: (12) فكلمكم الرب من وسط النار وأنتم سامعون صوت كلام ولكن لم تروا صورة بل صوتا (15) فاحتفظوا جدا لأنفسكم. فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب في حوريب من وسط النار) .
ووردت في العهد الجديد فقرات تفيد أن رؤية الله ممتنعة في الدنيا، ففي إنجيل يوحنا 1 / 18: (الله لم يره أحد قط) .
وفي رسالة بولس الأول إلى تيموثاوس 6 / 16: (لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه) .
(1/125)
وفي رسالة يوحنا الأولى 4 / 12: (الله لم ينظره أحد قط) .
فثبت من الفقرات السابقة أن الله تعالى ليس له شبيه، وأن رؤية الله في الدنيا غير واقعة، وأن من كان مرئيا لا يكون إلها قط ولو أطلق عليه في كلام الله أو الأنبياء أو الحواريين لفظ (الله) أو (رب) ؛ لأنه لا يجوز الأخذ بالفقرات المخالفة للبرهان العقلي وترك الفقرات السابقة التي مضمونها مطابق للبرهان العقلي، فقد ورد في مواضع غير محصورة من كتب العهدين إطلاق لفظ (إله) على الملك وعلى موسى وعلى قضاة بني إسرائيل وعلى الإنسان الكامل، بل وعلى آحاد الناس وعلى الشيطان الرجيم، وذلك لأنه يكون لإطلاق مثل هذا اللفظ على غير الله تعالى وجه مناسب لكل محل، ويدل سوق الكلام على ذلك الوجه بحيث لا يشتبه على الناظر في بادي الرأي، فلا يجوز لعاقل أن يستدل بإطلاق هذا اللفظ على بعض بني آدم أنه إله أو ابن الله، وينبذ وراءه جميع البراهين العقلية القطعية وكذلك البراهين النقلية الصحيحة.
الأمر الرابع: عقيدة التثليث لم يأت بها نبي من الأنبياء، ولا نزلت في كتاب من الكتب السماوية، وعدم ورودها في التوراة غير محتاج إلى بيان؛ لأن من طالع التوراة الحالية لا يجد فيها ذكرا صريحا ولا إشارة أو تلميحا لهذا الأمر، وعلماء اليهود من عهد موسى عليه السلام إلى هذا الزمان لا يعترفون بعقيدة التثليث، ولا يرضون بنسبتها إلى كتبهم، فلو كانت عقيدة التثليث حقا لوجب على موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل - وآخرهم عيسى عليه السلام - أن يبينوها حق التبيين، فقد كانوا مأمورين بالعمل بجميع أحكام التوراة في الشريعة والعقيدة، وأهل التثليث يعتقدون أن عقيدتهم هذه هي مدار النجاة ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبيا كان أو غير نبي، فكيف فارق أنبياء بني إسرائيل كلهم الدنيا دون أن يبينوا هذه العقيدة بيانا واضحا وصريحا؟! وهم في نفس الوقت بينوا أمورا وأحكاما أقل أهمية من هذه العقيدة، وكرروا البيان لبعض الأحكام مرة بعد أخرى، وأكدوا على المحافظة عليها والعمل بها تأكيدا بليغا، وأوجبوا
(1/126)
القتل على تارك بعضها، فالعجب كل العجب أن عيسى عليه السلام الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل والذي هو أحد أركان الثالوث عند النصارى عرج إلى السماء دون أن يبين لأتباعه هذه العقيدة بكلام واضح غير محتاج إلى التأويل، كأن يقول مثلا: إن الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس، وإن أقنوم الابن - الإله الثاني - متعلق بي بالعلاقة الفلانية، أو بعلاقة فهمها خارج عن إدراك عقولكم، أو أن يقول أي كلام آخر صريح في بيان هذه العقيدة.
والصواب أن أهل التثليث ليس في أيديهم أي دليل على عقيدتهم، وأنهم يأتون بتأويلات بعيدة لأقوال ظاهرة لا تحتمل التأويل.
وإن صاحب كتاب (ميزان الحق) الدكتور القسيس فندر سأل سؤالا في كتابه المسمى (مفتاح الأسرار) وهو: لم لم يبين المسيح ألوهيته ببيان واضح؟! ولم لم يقل باختصار: إني أنا الله؟ ثم أجاب نفسه على هذا السؤال بقوله: إنه ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه من الأموات وعروجه إلى السماء، فلو قال صراحة: إني أنا الله، لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني، وهذا باطل، وهناك أمور كثيرة قال في حقها لتلاميذه كما في إنجيل يوحنا 16 / 12: (إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن) . ولذلك فإن علماء اليهود أرادوا مرارا أن يأخذوه ويرجموه، وهو ما كان يبين لهم ألوهيته بين أيديهم إلا على طريق الألغاز.
ففي الرد على جواب الدكتور فندر نقول أولا: إن هذا جواب ضعيف غاية الضعف؛ لأن زعمه عدم قدرة أحد أن يفهم عقيدة التثليث وعقيدة ألوهية المسيح قبل قيامه وعروجه فلأن بإمكان المسيح أن يقول لأتباعه ولليهود: إن علاقة الاتحاد التي بين جسمي وبين الأقنوم الثاني (أقنوم الابن) فهمها خارج عن وسعكم، فاتركوا البحث فيها واعتقدوا بأني إله، وأني لست إلها باعتبار الجسم بل بعلاقة الاتحاد التي فهمها خارج عن إدراك عقولكم.
(1/127)
ولكن العجب أيضا أن عدم القدرة على فهم علاقة الاتحاد المذكور باقية بعد عروج المسيح أيضا، وإلى الآن لا يستطيع عالم من علماء النصارى أن يبين كيفية هذه العلاقة، وكتبهم مليئة بالاعترافات في عدة مواضع أن هذا الأمر من الأسرار الخارجة عن إدراك العقل، ومن أراد التأكد فليرجع إلى قاموس الكتاب المقدس الذي اشترك في تأليفه أكثر من عشرين عالما لاهوتيا من علمائهم، ولينظر بنفسه كيف تخبطوا تخبطا واضحا في شرح كلمة: تثليث.
ونقول ثانيا: لماذا خاف المسيح من اليهود فلم يبين لهم ألوهيته إلا بطريق الألغاز؟! وأنتم تزعمون أن المسيح ما جاء إلا ليكون كفارة لذنوب الخلق بأن يصلبه اليهود، وأنه كان يعلم يقينا أنهم يصلبونه، فأي محل للخوف من اليهود في بيان هذه العقيدة الضرورية للنجاة؟! وكيف يخاف الإله العظيم خالق السماوات والأرضين من أذل أقوام الدنيا والحال أن بعض الأنبياء بينوا الحق لبني إسرائيل دون خوف منهم، فأوذي بعضهم إيذاء شديدا، وقتل بعضهم؟!
ثم إن المسيح عليه السلام شدد في الإنكار على الكتبة والفريسيين ووصفهم بأنهم مراءون وقادة عميان وجهال وحيات وأفاع، وأظهر قبائحهم على رؤوس الأشهاد حتى شكا بعضهم بأنك تشتمنا (إنجيل متى 23 13 - 37، وإنجيل لوقا 11 37 - 54) فالمسيح الذي بين لعلماء اليهود بعض مخالفاتهم وعنفهم عليها تعنيفا شديدا، ووصفهم بأوصاف قاسية دون خوف منهم، فكيف يظن به أن يحمله الخوف منهم على أن يترك بيان العقيدة الضرورية للنجاة؟! حاشا وكلا أن يكون جنابه الشريف عند هذا الظن الفاسد.
(1/128)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الفصل الأول إبطال التثليث بالبرهان العقلي]
الفصل الأول
إبطال التثليث بالبرهان العقلي النصارى يعتقدون أن التثليث حقيقي والتوحيد حقيقي، ولكن إذا وجد التثليث الحقيقي وجدت الكثرة الحقيقية أيضا، وإذا ثبت التثليث والكثرة الحقيقيان انتفى التوحيد الحقيقي ولا يمكن ثبوته، وإلا يلزم اجتماع الضدين الحقيقيين، وهو محال، ويلزم تعدد واجبي الوجود، وهو محال أيضا، فالقائل بالتثليث لا يمكن أن يكون موحدا لله توحيدا حقيقيا؛ لأن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح وليس هو مجموع آحاد، أما الثلاثة فلها ثلث صحيح هو واحد، وهي مجموع آحاد ثلاثة، فالواحد الحقيقي جزء الثلاثة، فلو اجتمعا في محل واحد يلزم منه كون الجزء كلا والكل جزءا، ويلزم منه أيضا كون الواحد ثلث نفسه وهو ثلاثة أميال الثلاثة، والثلاثة ثلث الواحد وهي ثلاثة أمثال نفسها. وكلها لوازم يرفضها العقل بالبداهة.
وبناء على ذلك فإن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله تعالى، فلو وجد قول في كتب النصارى يدل على التثليث بحسب الظاهر فيجب تأويله ليطابق العقل والنقل، فإن العقل والنقل يدلان على امتناع التثليث في ذات الله تعالى.
وقد قام جرجيس صال (سيل) بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية وطبعت هذه الترجمة سنة 1836م، وكان قد وصى قومه بوصايا منها قوله: لا تعلموا المسلمين المسائل التي هي مخالفة للعقل؛ لأنهم ليسوا حمقى حتى نغلب عليهم في هذه المسائل، كعبادة الصنم والعشاء الرباني،
(1/129)
لأنهم يعثرون كثيرا من هذه المسائل، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إليها.
فانظر كيف اعترف هذا القسيس بأن في دينه مسائل مخالفة للعقل، والصواب أن أهل الدين الذي فيه مثل هذه المسائل مشركون يقينا، وقد قال علماء الإسلام: لا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من مذهب النصارى، ولا نرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالتهم.
(1/130)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام]
الفصل الثاني
إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام القول الأول: ورد في إنجيل يوحنا 17 / 3 قول عيسى عليه السلام مخاطبا الله تعالى: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) .
فقد بين عيسى عليه السلام أن الحياة الأبدية تنال بالإيمان بتوحيد الله تعالى وبرسالة رسوله عيسى، ولم يقل: إن الحياة الأبدية تنال بالإيمان بتثليث الأقانيم الإلهية، ولا بالإيمان بأن عيسى إله وابن الله، ولما كان قول عيسى هنا في خطاب الله تعالى فلا احتمال هنا لخوفه من اليهود، فلو كان اعتقاد التثليث وألوهية عيسى مدار النجاة لبينه، ولكن مدار النجاة والحياة الأبدية باعتقاد التوحيد الحقيقي لله وبأن المسيح رسوله، والاعتقاد بعكس ذلك هو الهلاك الأبدي والضلال المبين؛ لأن كون الله واحدا ضد لكونه ثلاثة، وكون المسيح رسولا ضد لكونه إلها، والمرسل غير الرسول المرسل.
القول الثاني: ورد في إنجيل مرقس 12 / 28 -34: (28) فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي أول الكل (29) فأجابه يسوع إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد (30) وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى (31) وثانية مثلها هي
(1/131)
تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين (32) فقال له الكاتب جيدا يا معلم بالحق قلت لأنه الله واحد وليس آخر سواه (33) ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح (34) فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل قال له لست بعيدا عن ملكوت الله) .
وهذه الفقرات وردت في إنجيل متى 22 / 34 -40، وأكتفي بنقل الفقرة (40) وهي قول عيسى عليه السلام: (بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) .
فقد أكدت الفقرات السابقة على أن أول الوصايا الموصي بها في التوراة وفي سائر كتب الأنبياء والتي هي مدار النجاة الاعتقاد بأن الله واحد لا إله غيره، ولو كان اعتقاد التثليث وألوهية المسيح حقا لكان مبينا في التوراة وفي جميع كتب الأنبياء. ولقال عيسى في جواب السائل: إن أول الوصايا هي الاعتقاد بأن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة، وأني الإله الثاني وابن الله، وبما أن عيسى لم يقل ذلك ولم ترد إشارة له لا في التوراة ولا في كتب الأنبياء ثبت أن النجاة تكون باعتقاد التوحيد الحقيقي لله المناقض لاعتقاد التثليث ولاعتقاد الشريك والولد.
وكتب العهد القديم مليئة بالنصوص المصرحة بتوحيد الله تعالى، وعلى سبيل المثال انظر (سفر التثنية 4 / 35 و39، و6 / 4 -5، وسفر إشعياء 45 / 5 -6، و46 / 9) .
القول الثالث: ورد في إنجيل مرقس 13: (وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) .
فهذا القول ينادي على بطلان التثليث وألوهية المسيح؛ لأنه عليه السلام خصص علم ساعة القيامة بالله وحده، ونفى عن نفسه علمها كما نفاه عن
(1/132)
عباد الله الآخرين، وسوى بين نفسه وبينهم في عدم العلم، ولو كان إلها لكان يعلم وقت القيامة ولما نفى عن نفسه العلم بها.
القول الرابع: ورد في إنجيل متى 27 / 46 و50: (46) ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني (50) فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح) .
وهذا القول الذي صدر عن المسيح في آخر نفس من حياته بزعمهم ينفي ألوهيته؛ لأنه لو كان إلها لما استغاث بإله آخر، فالإله الحقيقي يمتنع عليه صفات النقص كالضعف والتعب والإعياء والصراخ والاستغاثة والعجز والموت، وهو حي قدوس، ففي سفر إشعياء 40 / 28: (أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا) .
ومثل فقرة سفر إشعياء فقرات كثيرة في كتب العهدين (انظر: سفر إشعياء 44 / 6، وسفر إرميا 10 / 10، وسفر حبقوق 1 / 12، ورسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 1 / 17) وكلها فقرات تدل على أن الإله الحقيقي هو إله سرمدي حي قدوس لا يموت ولا إله غيره، بريء من الضعف والتعب والعجز، فهل يكون العاجز الفاني الميت إلها؟! لا شك أن الإله الحقيقي هو الذي استغاث به عيسى في هذا الوقت على زعمهم.
وهنا ألفت نظر القاريء إلى أن فقرة سفر حبقوق 1 / 12 في الطبعات القديمة كما يلي: (يارب إلهي قدوسي لا تموت) فوردت فيها كلمة (تموت) بتاءين، أي تنفي الموت عن الله تعالى، وفي الطبعات الحديثة حرفت التاء الأولى وكتبت نون (ن) ، فوردت فيها هذه الكلمة بالنون أي (لا نموت) .
(1/133)
وذلك لتأكيد قتل المسيح الذي هو الله بزعمهم، وكلمة (لا نموت) بالنون لا معنى لها هنا، ولا فائدة منها في سياق هذا الموضع، فانظر كيف حملهم الدفاع عن عقيدة باطلة إلى تحريف كتابهم.
القول الخامس: ورد في إنجيل يوحنا 20 / 17 أن عيسى عليه السلام قال لمريم المجدلية: (ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) .
ففي هذا القول سوى المسيح عليه السلام بينه وبين سائر الناس في أن الله أبوه وأبوهم وإلهه وإلههم؛ لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولوا إنه إله وابن الله، فكما أن تلاميذه هم عبادُ الله وليسوا أبناء الله على الحقيقة بل بالمعنى المجازي، فكذلك عيسى هو عبد الله وليس ابن الله على الحقيقة، وكما لم يلزم من بنوتهم لله كونهم آلهة فكذلك لا يلزم من بنوته لله كونه إلها، ولما كان هذا القول صدر عن المسيح بعد قيامه من الأموات على زعمهم أي قبل العروج بقليل ثبت أنه كان يصرح بأنه عبد الله وأن الله إلهه وإلههم إلى آخر لحظة من وجوده على الأرض، وهذا مطابق لأقوال المسيح الواردة في قوله تعالى عنه في سورة آل عمران آية 51: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [آل عمران: 51] وقوله تعالى عنه في سورة المائدة آية 72 وآية 117: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] وقوله تعالى عنه في سورة مريم آية 36: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [مريم: 36] وقوله تعالى عنه في سورة الزخرف آية 64: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف: 64]
فالقول بالتثليث وألوهية المسيح يناقض آخر كلمات تكلم بها المسيح وودع بها تلاميذه قبل رفعه؛ لأنه بقي إلى تلك اللحظة يدعو إلى اعتقاد توحيد الله ووجوب عبادته، واعتقاد عبودية المسيح لله ربِّه.
القول السادس: وردت في الأناجيل فقرات كثيرة يصعب حصرها صرح
(1/134)
فيها المسيح عليه السلام بأنه إنسانٌ معلِّمٌ ورسولٌ نبي يوحي إليه، ومن هذه الفقرات لمن أراد الرجوع إليها ما ورد في إنجيل متّى 10 / 40، و11 / 19، و13 / 57، و15، و17 / 12 و22، و19 / 16، و21 / 11 و46، و23 و10، و26 / 18 وما ورد في إنجيل مرقس 9 / 37 و38، و10 / 35.
وما ورد في إنجيل لوقا 4 / 43، و5 / 5، و7 / 16 و39 و40، و8 / 24 و45، و9 / 33 و38 و56، و10 / 16، و12 / 13، و13 / 33 و34، و17 / 13، و23 / 47، و24 / 19.
وما ورد في إنجيل يوحنا 1 / 38، و4 / 19 و31 و34، و5 ,24 و36 و37، و6 / 14 و25، و7 / 15 و16 و17 و18 و52، و8 / 16 و18 و26 و28 و29 و40 و42، و9 / 11 و15 و17، و11 / 42، و12 / 44 و49 و50، و13 / 13 و14، و14، و17 / 3 و8 و18 و25، و20 / 16 و21. وأكتفي بذكر بعضها:
ففي إنجيل متى 10 / 40: (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني) .
وفيه 15: (فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) .
وفيه 21 / 11: (فقالت الجموع هذا يسوعُ النبي الذي من ناصرة الجليل) .
وفيه 23 و10 قول المسيح لتلاميذه: (لأن معلمكم واحد المسيح) .
وفي إنجيل لوقا 4 / 43: (فقال لهم إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضا بملكوت الله لأني لهذا قد أرسلت) .
وفيه 7 / 16 بعد أن أحيا المسيح ميتا: (فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله
(1/135)
قائلين قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه) .
وفيه 10 / 16: (الذي يسمع منكم يسمع مني. والذي يرذلكم يرذلني. والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني) .
وفي إنجيل يوحنا 5 / 36 و37: (36) هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني (37) والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته) .
وفيه 6 / 14 بعد معجزة تكثير الطعام: (فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم) .
وفيه 7 / 15 -17: (15) فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم (16) أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني (17) إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي) .
وفيه 8 / 18 و26 و29 و40 و42: (18) ويشهد لي الآب الذي أرسلني (26) لكن الذي أرسلني هو حق. وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم (29) والذي أرسلني هو معي ولم يتركني (40) ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله (42) لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني) .
وفيه 9 / 10 و 11 و 17 في معجزة إبراء الأكمه: (10) فقالوا له كيف انفتحت عيناك (11) أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له يسوع صنع طينا وطلى عيني (17) قالوا أيضا للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي) .
(1/136)
وفيه 13 / 13: (أنتم تدعونني معلما وسيدا وحسنا تقولون لأني أنا كذلك) .
وفيه 14: (والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني) .
ففي هذه الأقوال صرح المسيح عليه السلام بأنه إنسان معلم لتلاميذه، ونبي مرسل من الله، وأن الله يوحي إليه، فهو لا يتكلم إلا بالحق الذي سمعه من الله تعالى، وهو أمين على الوحي لا يخفي منه شيئا، ويعلمه لأتباعه كما تلقاه من ربه، وكان الله تعالى يجري المعجزات على يديه بصفته إنسانا نبيا مرسلا، لا بصفته إلها وابن الله.
القول السابع: ورد في إنجيل متى 26 / 36 -46: (36) حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جَثْسَيْمَانِي فقال للتلاميذ اجلسوا هاهنا حتى أمضي وأصلي هناك (37) ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب (38) فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا هاهنا واسهروا معي (39) ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (40) ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما. فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة (41) اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف (42) فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك (43) ثم جاء فوجدهم أيضا نياما إذ كانت أعينهم ثقيلة (44) فتركهم ومضى أيضا وصلى ثالثة قائلا ذلك الكلام بعينه (45) ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم ناموا الآن واستريحوا، هو ذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة (46) .
(1/137)
قوموا ننطلق هو ذا الذي يسلمني قد اقترب.
ومثل هذه الفقرات ما ورد في إنجيل لوقا 22 / 39 -46، فأقوال المسيح وأحواله المندرجة في هذه الفقرات تدل دلالة قطعية على عبوديته لله، وأنه ليس إلها ولا ابن الله؛ لأن الذي يحزن ويكتئب ويصلي ويدعو بغاية التضرع ويموت يكون بشرا مخلوقا وليس إلها خالقا.
(1/138)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
مختصر إظهار الحق
[الفصل الثالث إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح]