تفسير
المائدة من 65 الي الاية 70.
وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى
تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا
وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
=========
المائدة - تفسير ابن كثير
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ
مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ
أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) }
يخبر تعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة (1)
إلى يوم القيامة-بأنهم وصفوا الله، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا، بأنه
بخيل. كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء، وعبروا عن البخل
__________
(1) في أ: التابعة".
بقولهم: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا
حفص بن عمر العَدَنِيّ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة قال: قال ابن عباس: {
مَغْلُولَةٌ } أي: بخيلة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة (1)
ولكن يقولون: بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وكذا روي عن عِكْرِمَة، وقتادة، والسُّدِّي، ومجاهد،
والضحاك وقرأ: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [الإسراء:29]. يعني: أنه ينهى (2) عن
البخل وعن التبذير، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله، وعبَّر عن البخل بقوله: {
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } .
وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله. وقد
قال عكرمة: إنها نزلت في فنْحاص اليهودي، عليه لعنة الله. وقد تقدم أنه الذي قال: { إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [آل عمران:181] فضربه أبو بكر الصديق، رضي الله
عنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو
عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود، يقال له: شاس (3) بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل
الله: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }
وقد رد الله، عز وجل، عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما
اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا
} وهكذا (4) وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة (5) أمر عظيم، كما
قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ
نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
[فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ
مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ
وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (6) ] } [النساء:53 -55] وقال تعالى: { ضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ
مِنَ النَّاس (7) ] } الآية [آل عمران:112] .
ثم قال تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ } أي: بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده
خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما
نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال [تعالى] (8) { وَآتَاكُمْ
مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا
إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } الآية [إبراهيم: 34]. والآيات في هذا كثيرة،
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل:
__________
(1) في ر: "منفقة".
(2) في أ: "نهى".
(3) في أ: "النباس".
(4) في أ: "هكذا".
(5) في أ: "المذلة".
(6) زيادة من ر، أ.
(7) زيادة من ر، أ.
(8) زيادة من ر.
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبه
قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ
خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يمينه" قال: "وعرشه على الماء،
وفي يده الأخرى القبْض، يرفع ويخفض" : قال: قال الله تعالى: "أنفق أنفق
عليك" أخرجاه في الصحيحين، البخاري في "التوحيد" عن علي بن
المديني، ومسلم فيه، عن محمد بن رافع، وكلاهما (1) عن عبد الرزاق، به. (2)
وقوله: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي: يكون ما أتاك الله يا محمد من
النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا
وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك { طُغْيَانًا }
وهو: المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء { وَكُفْرًا } أي: تكذيبا، كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ
وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
[فصلت:44] وقال تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء:82].
وقوله: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } يعني: أنه لا تجتمع قلوبهم، بل
العداوة واقعة بين فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد
خالفوك وكذبوك.
وقال إبراهيم النَّخَعي: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } قال: الخصومات والجدال في الدين. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ } أي: كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها
يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم.
{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } أي: من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض،
والله لا يحب من هذه صفته.
ثم قال جل وعلا { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي: لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه
من المحارم والمآثم { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أي: لأزلنا عنهم المحذور ولحصّلْناهم (3) المقصود .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ
وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ } قال ابن عباس، وغيره: يعني القرآن. {
لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي: لأنهم عملوا بما في
الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير ولا
تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى
__________
(1) في ر، أ: "كلاهما".
(2) المسند (2/313) وصحيح البخاري برقم (7419) وصحيح
مسلم برقم (993).
(3) في ر، أ: "ولحصلنا لهم".
ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كتبهم
ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة.
وقوله:
{ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
} يعني بذلك (1) كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { لأكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ } يعني: لأرسل [السماء]
(2) عليهم مدرارًا، { وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }
يعني: يخرج من الأرض بركاتها.
وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسُّدِّي، كما
قال [تعالى]
(3) { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ [وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ] } [الأعراف: 96]، (4) وقال: { ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
[لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] } [الروم:41].
(5)
وقال بعضهم: معناه { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني: من غير كَد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه: لكانوا في (6) الخير،
كما يقول القائل: "هو في الخير من قرَنه (7) إلى قدمه". ثم رد هذا القول
لمخالفة أقوال السلف (8)
وقد ذكر ابن أبي حاتم، عند قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } حديث (9) علقمة، عن صفوان بن عمرو، عن عبد
الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك
أن يرفع العلم". فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا
القرآن وعلمناه أبناءنا؟! قال (10) ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك (11) من أفقه أهل
المدينة، أوليست (12) التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين
تركوا أمر الله" ثم قرأ { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالإنْجِيلَ }
هكذا أورده (13) ابن أبي حاتم حديثًا (14) معلقًا (15)
من أول إسناده، مرسلا في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال:
__________
(1) في ر، أ: "يعني بذلك".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر، أ.
(4) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(5) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(6) في أ: "إلى".
(7) في أ: "فوقه".
(8) "قائل هذه المقالة الفراء في كتاب معاني القرآن
(1/315)" أ.هـ مستفادًا من حاشية تفسير الطبري وقد ذكرها الطبري في تفسيره
(10/464).
(9) في ر، أ: "حدثنا".
(10) في أ: "فقال".
(11) في أ: "لأري".
(12) في أ: "وليست".
(13) في ر: "رواه"، وفي أ: "أورد".
(14) في أ: "هذا الحديث".
(15) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/43) والبزار
في مسنده برقم (232) "كشف الأستار" من وجه آخر: من طريق إبراهيم بن أبي عبلة،
عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك بنحوه.
حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن
زياد بن لَبِيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: "وذاك عند (1)
ذهاب العلم". قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن
ونُقْرئه أبناءنا، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك
أمك يا ابن أم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود
والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء"
وكذا رواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبي شيبة، عن وكيع
بإسناده نحوه (2) وهذا إسناد صحيح.
وقوله:
{ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } كقوله تعالى: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف:159]، وكقوله عن أتباع عيسى: { فَآتَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] (3) }
[الحديد:27]. فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو (4) أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق
ذلك رتبة السابقين (5) كما في قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية [فاطر:32 ، 33].
والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة.
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا عبد الله بن جعفر،
حدثنا أحمد بن يونس الضَّبِّي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا أبو مَعْشَر، عن يعقوب بن
يزيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "تفرقت أمة موسى على إحدى (6) وسبعين ملة، سبعون منها في النار
وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة
وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعًا. واحدة في الجنة،
وثنتان وسبعون في النار". قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "الجماعات
الجماعات".
قال يعقوب بن يزيد (7) كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا فيه قرآنا: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } إلى قوله تعالى: { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } وتلا أيضًا: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف:181] يعني: أمة محمد
صلى الله عليه وسلم. (8)
وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق. وحديثُ
افتراق الأمم إلى بضع وسبعين
__________
(1) في أ: "عن".
(2) المسند (4/160) وسنن ابن ماجة برقم (4048) وقال
البوصيري في الزوائد (3/253):
"رجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع، قال البخاري في
التاريخ الصغير: "لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد".
(3) زيادة من ر، أ.
(4) في ر: "وهي".
(5) في ر: "السابقية".
(6) في د: "على اثنتين"، وفي أ: "على أحد".
(7) في أ: "زيد".
(8) ورواه أبو يعلى في مسنده (6/340) من طريق أبي معشر،
عن يعقوب بن زيد به من حديث طويل. وقال الهيثمي في المجمع (7/257): "فيه أبو
معشر نجيح وهو ضعيف".
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
مَرْوي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر. ولله
الحمد والمنة.
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) }
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه
وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله
وسلامه عليه ذلك، وقام به أتمّ القيام.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف،
حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حَدّثَك أن
محمدًا صلى الله عليه وسلم (1) كتم شيئًا مما أُنزل عليه (2) فقد كذب، الله (3)
يقول: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }
الآية.
هكذا رواه ههنا مختصرًا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه
مطولا. وكذا رواه مسلم في "كتاب الإيمان"، والترمذي والنسائي في "كتاب التفسير" من سننهما من
طرق، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها. (4)
وفي الصحيحين عنها أيضا (5) أنها قالت: لو كان محمد صلى الله عليه
وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [الأحزاب:37].
(6)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا
سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن (7) هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن
عباس فجاء (8) رجل فقال له: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: { يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } والله ما ورثنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء.
وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي
جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: هل
عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي (9) فلق الحبة وبرأ النسمة،
إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل،
وفَكَاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر (10) .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د: "مما أنزله الله عليه".
(3) في هـ، ر: "الله وهو" والمثبت من البخاري.
(4) صحيح البخاري برقم (4612) وبرقم (4855، 7380) وصحيح
مسلم برقم (177) وسنن الترمذي برقم (3068) وسنن النسائي الكبرى برقم (11147).
(5) في ر، أ: "أيضا عنها".
(6) صحيح البخاري برقم (7420) لكنه رواه من حديث أنس،
وقد تبع المؤلف هنا شيخه المزي حيث ذكره في تحفة الأشراف (11/385) من حديث أنس عن
عائشة، ولعله اعتمد على رواية الداودي كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح، ورواه
مسلم في صحيحه برقم (177).
(7) في أ: "بن".
(8) في ر، أ: "فجاءه".
(9) في أ: "فقال: لا، والذي نفسي بيده -أو قال-
والذي" .
(10) صحيح البخاري برقم (111).
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول
البلاغ، وعلينا التسليم. (1)
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة،
واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من
الصحابه (2) نحو من أربعين ألفًا (3) كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله؛
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: "أيها الناس، إنكم
مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت.
فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها (4) إليهم ويقول: "اللهم هل بَلَّغْتُ،
اللهم هل بلغت". (5)
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمير، حدثنا فضيل -يعني
ابن غَزْوان-عن عِكْرمَة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حجة الوداع: "يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟" قالوا: يوم حرام. قال:
"أيّ بلد هذا؟" قالوا: بلد حرام. قال: "فأيّ شهر هذا؟" قالوا:
شهر حرام. قال: "فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في
بلدكم هذا، في شهركم هذا". ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه (6) إلى السماء
فقال: "اللهم هل بلغت!" مرارًا -قال: يقول ابن عباس: والله لَوصِيَّةٌ إلى
ربه عز وجل-ثم قال: "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا ترجعوا بعدي كفارًا
يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن
فضيل بن غزوان، به نحوه. (7)
وقوله:
{ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
يعني: وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي:
وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني: إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك
لم تبلغ رسالته.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا قُبَيْصة بن
عُقْبَةَ (8) حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } قال:
"يا رب، كيف أصنع وأنا وحدي؟ يجتمعون عليَّ".
فنزلت { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
ورواه ابن جرير، من طريق سفيان -وهو الثوري-به.
وقوله: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي: بلغ
أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على
__________
(1) صحيح البخاري (13/503) "فتح" وقال الحافظ
ابن حجر: "هذا وقع في قصة أخرجها الحميدي ومن طريقه الخطيب، قال الحميدي:
حدثنا سفيان قال رجل للزهري: يا أبا بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس
منا من شق الجيوب" ما معناه؟ فقال الزهري: من الله العلم وعلى رسوله البلاغ
وعلينا التسليم. وهذا الرجل هو الأوزاعي أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الأدب، وذكر
ابن أبي الدنيا عن دحيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: قلت للزهري فذكره".
(2) في أ: "أصحابه".
(3) في د: "أكثر من سبعين ألفا".
(4) في د، أ: "وينكبها".
(5) صحيح مسلم برقم (1218).
(6) في أ: "رأسه".
(7) المسند (1/230) وصحيح البخاري برقم (1739).
(8) في ر: "عتبة".
___
أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم
إليك بسوء يؤذيك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية
يُحْرَس (1) كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا يحيى، قال سمعت عبد الله بن عامر بن
ربيعة يحدث: أن عائشة كانت تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة،
وهي إلى جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "ليت رجلا صالحاً من
أصحابي يحرسني الليلة؟" قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال:
"من هذا؟" فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك؟" قال:
جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه.
أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، به. (2)
وفي لفظ: سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة
مَقْدَمِه المدينة. يعني: على أثر هجرته [إليها] (3) بعد دخوله بعائشة، رضي الله
عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل
مصر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عُبَيد -يعني أبا قدامة-عن
الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة [رضي الله عنها] (4) قالت: كان النبي
صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ } قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: "يأيها
الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل".
وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي
الجَهْضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال: وهذا حديث غريب.
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه، من طرق مسلم بن
إبراهيم، به. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا رواه سعيد بن منصور،
عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [الأيادي] (5) عن الجُرَيري، عن عبد الله بن
شَقِيق، عن عائشة، به. (6)
ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري، عن ابن
شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس. ولم يذكر عائشة.
قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وابن مردويه
من طريق وُهَيْب (7) كلاهما عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق مرسلا (8) وقد روى
هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر
__________
(1) في د: "يحترس".
(2) المسند (6/140) وصحيح البخاري برقم (2885) وصحيح
مسلم برقم (2410).
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) سنن الترمذي برقم (5037) وتفسير الطبري (10/469)
والمستدرك (2/313) وسنن سعيد بن منصور برقم (768).
(7) في أ: "وهب".
(8) تفسير الطبري (10/469) وقال الشيخ سعد الحميد -حفظه
الله- في تعليقه على سنن سعيد بن منصور (4/1505): "رواية ابن علية وحدها أرجح
من رواية الحارث؛ لأنه أوثق منه وسمع من سعيد قبل اختلاطه، فكيف وقد وافقه
وهيب؟" أ. هـ.
ومحمد بن كعب القُرَظي، رواهما ابن جرير (1) والربيع بن
أنس رواه ابن مردويه، ثم قال:
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري،
حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي، حدثنا الفضل بن المختار، عن عبد الله (2) بن
مَوْهَب، عن عصمة بن مالك الْخَظْمي (3) قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالليل حتى نزلت: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فترك الحرس. (4)
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حمد (5) بن محمد بن حمد أبو
نصر الكاتب البغدادي، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي، حدثنا معلي بن عبد الرحمن
(6) عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم رسول الله
(7) صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت هذه الآية: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ } ترك رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم الحرس. (9)
حدثنا علي بن أبي حامد المديني، حدثنا أحمد بن محمد بن
سعيد، حدثنا محمد بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن
معاوية بن عمار، حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث، عن جابر بن عبد الله
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه، حتى
نزلت: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فذهب ليبعث معه، فقال: "يا عم،
إن الله قد عصمني، لا حاجة لي إلى من تبعث".
وهذا حديث غريب وفيه نكارة (10) فإن هذه الآية مدنية،
وهذا الحديث يقتضي أنها مكية.
ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن
يحيى، حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن
عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم
رجالا (11) من بني هاشم يحرسونه، حتى نزلت عليه هذه الآية: { يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه،
فقال: "إن الله قد عصمني من الجن والإنس".
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني، عن أبي
كريب به. (12)
__________
(1) تفسير الطبري (10/468، 469).
(2) في ر: "عبيد الله".
(3) في ر: "الخطمي".
(4) وفي إسناده أحمد بن رشدين ضعيف جدًا وكذبه بعض
الأئمة، والفضل بن المختار ضعيف روي أخبارًا منكرة.
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة عصمة بن مالك
الخطنمي: "له أحاديث أخرجها الدارقطني والطبراني وغيرهما مدارها على الفضل بن
المختار، وهو ضعيف جدًا".
(5) في أ: "حميد".
(6) في ر، أ: "يعلى"، والتصويب من المعجم
الأوسط وكتب الرجال.
(7) في ر، أ: "النبي".
(8) فى ر، أ: "النبي".
(9) هو عندط الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3314)
"مجمع البحرين"، وقال الهيثمي في المجمع (7/17): "فيه عطية العوفي
وهو ضعيف".
(10) في إسناده من لم أعرفه، ومعاوية بن عمار انتقد خاصة
في روايته عن أبي الزبير عن جابر.
(11) في ر: "رجلا".
(12) المعجم الكبير (11/257) وقال الهيثمي في المجمع
(7/17): "فيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف".
وهذا أيضا غريب. والصحيح أن هذه الآية مدنية، بل هي من
أواخر ما نزل بها، والله أعلم.
ومن عصمة الله [عز وجل] (1) لرسوله حفْظُه له من أهل مكة
وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة
له ليلا ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته (2) العظيمة. فصانه
في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله
في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ
عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه
واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله [عز وجل]
(3) له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم -وهي المدينة، فلما
صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء
كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه
سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه (4) الله به وحماه
[الله] (5) منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند
هذه الآية الكريمة:
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز،
حدثنا أبو مَعْشَرٍ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها. فأتاه أعرابي
فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: "الله عز وجل"، فَرُعِدَت يد
الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله عز
وجل: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (6)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى
بن سعيد القَطَّان، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن
أسلم، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بني أنمار، نزل ذات الرِّقاع (7)
بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه،
فقال غَوْرَث بن الحارث (8) من بني النجار: لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه: كيف
تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك. فإذا أعطانيه قتلته به، قال: فأتاه فقال: يا محمد،
أعطني سيفك أشيمُه. فأعطاه إياه، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "حال الله بينك وبين ما تريد" فأنزل الله، عز
وجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة "غَوْرَث بن
الحارث" مشهورة في الصحيح. (9)
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) في ر: "بقدرة حكمته".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "أعلم".
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (10 / 470).
(7) في ر، أ: "الرقيع".
(8) في ر، أ: "الوارث".
(9) في إسناد ابن أبي حاتم موسى بن عبيدة الربذي، وهو
ضعيف، والقصة أصلها في صحيح البخاري برقم (4136).
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ
آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد
بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن
عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا (1) رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق
سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "الله يمنعني منك، ضع السيف". فوضعه، فأنزل الله، عز وجل: {
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
}
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه، عن عبد الله بن
محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به. (2)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت
أبا إسرائيل -يعني الجُشَمي-سمعت جَعْدَة -هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي-رضي
الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: "لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا
لك". قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال: هذا أراد أن يقتلك. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "لم تُرَع، ولم تُرَع، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك (3) الله
عليَّ". (4)
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ } أي: بلغ أنت، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال:
{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }
[البقرة:272] وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ }
[الرعد:40].
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ (69) }
يقول تعالى: قل يا محمد: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي: من الدين، { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } أي:
حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما
فيها ومما فيها الأمر (5) باتباع بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه،
والاقتداء بشريعته؛ ولهذا قال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد، في قوله: { وَمَا أُنزلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } يعني: القرآن العظيم.
وقوله:
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } تقدم تفسيره { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ }
__________
(1) في ر، أ: "أصحبنا".
(2) صحيح ابن حبان برقم (1739) "موارد".
(3) في ر: "يسلط".
(4) المسند (3/471) وقال الهيثمي في المجمع (8/226):
"رجاله رجال الصحيح غير أبي إسرائيل الجشمي وهو ثقة".
(5) في أ: "بما فيها من الأمر".
أي: فلا تحزن عليهم ولا يَهيدنَّك ذلك منهم.
ثم قال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وهم: المسلمون {
وَالَّذِينَ هَادُوا } وهم: حملة التوراة { وَالصَّابِئُونَ } -لما طال الفصل حسن
العطف بالرفع. والصابئون: طائفة بين (1) النصارى والمجوس، ليس لهم دين. قاله
مجاهد، وعنه: بين (2) اليهود والمجوس. وقال سعيد بن جبير: بين (3) اليهود والنصارى، وعن
الحسن [والحكم] (4) إنهم كالمجوس. وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى
غير القبلة، ويقرؤون الزبور. وقال وَهْب بن مُنَبّه: هم قوم يعرفون الله وحده،
وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرًا.
وقال ابن وَهْب: أخبرني ابن أبي الزَّنَاد، عن أبيه قال:
الصائبون: قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل
سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. وقيل غير ذلك.
وأما النصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل.
والمقصود:
أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم (5) الآخر، وهو المعاد
والجزاء يوم الدين، وعملت عملا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا
للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك { فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه (6) ولا على ما تركوا وراء ظهورهم { وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ } وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته.
(7)
__________
(1) في ر، أ: "من".
(2) في ر، أ: "من".
(3) في ر، أ: "من".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "واليوم".
(6) في أ: "يستقبلون".
(7) في أ: "إعادتها هاهنا".
المائدة - تفسير القرطبي
65- {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ
النَّعِيمِ}
66- {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ} {أَنَّ}
في موضع رفع، وكذا {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ} . {آمَنُوا} صدقوا.
{وَاتَّقَوْا} أي الشرك والمعاصي. {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ} اللام جواب {وَلَوْ} .
وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما؛
وقد تقدم هذا المعنى في {البقرة} مستوفى. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ} أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قال ابن عباس وغيره: يعني المطر والنبات؛ وهذا يدل على أنهم
كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا؛ وذكر
فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا؛ ونظير هذه الآية {وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقاً} {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} فجعل تعالى التقى من أسباب
الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لأَزِيدَنَّكُمْ} ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا - وهم المؤمنون منهم كالنجاشي
وسلمان وعبدالله بن سلام - اقتصدوا فلم
يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق
بهما. وقد: أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين
المستهزئين، والله أعلم. والاقتصاد الاعتدال في العمل؛ وهو من القصد، والقصد إتيان
الشيء؛ تقول: قددته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى. {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي بئس
شيء عملوه؛ كذبوا الرسل، وحرفوا الكذب وأكلوا السحت.
67- {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ}
فيه مسألتان
الأولى-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} . قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول
الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه
يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله
سرا؛ وفي ذلك نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم
كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله
عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك
ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ} فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية
رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس: المعنى بلغ
جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي
صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته،
وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق
عن عائشة أنها قالت: من حدثك
أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ َ} وقبح الله الروافض
حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه.
الثانية- قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ} فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له
العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي
صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: "الله" ؛ فذعرت يد الأعرابي
وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي. وذكره
القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن
الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال:
جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله:
{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} مستوفى، وفي
{النساء} أيضا في ذكر صلاة الخوف.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع وسول
الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من
أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي
فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني - قال - قلت الله ثم قال في الثانية من
يمنعك مني - قال - قلت الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس" ثم لم يعرض له
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعر فت أن من الناس من يكذبني
فأنزل الله هذه الآية" وكان أبو طالب يرسل كل يوم
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: {وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عماه إن الله
قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني".
قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس
كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما
رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت:
سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة
فقال: "ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك
سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال: "من هذا" ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك" ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: "من
هذا" ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت
غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال:
"انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله" .
وقرأ أهل المدينة: {رِسَالاَتِهِ} على الجميع. وأبو عمرو
وأهل الكوفة: {رِسَالَتَهُ} على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد
يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على
نوعه بلفظه كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . {إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ
أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} والله
أعلم.
68- {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تُقر أن التوراة حق من عند الله؟ قال:
"بلى" . فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها؛ فنزلت الآية؛ أي
لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام،
والعمل بما يوجبه ذلك منهما؛ وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما.
الثانية- قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي يكفرون به فيزدادون كفرا
على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة
ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ
الأِنْسَانَ لَيَطْغَى} أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق.
الثالثة- قوله تعالى: { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ} أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن
الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى
في آخر {آل عمران} مستوفى.
69- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. {وَالَّذِينَ
هَادُوا} معطوف، وكذا {وَالصَّابِئُونَ} معطوف على المضمر في {هَادُوا} في قول
الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي:
هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة
الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في
اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في {وَالصَّابِئُونَ} لأن {إِنَّ} ضعيفة فلا
تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و {الَّذِينَ} هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة
الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه
الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على
التقديم والتأخير؛ والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم
الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك وأنشد سيبويه
وهو نظيره:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
وقال ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقيل:
{إن} بمعنى {نعم} فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر
لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم
والخبر. وقال قيس الرقيات:
بكر العواذل في الصباح ... يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش: {إنه} بمعنى {نعم}، وهذه {الهاء} أدخلت
للسكت.
70- {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ
وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى
أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}
قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} قد تقدم في {البقرة} معنى الميثاق
وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به.
والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد
أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة
وهو قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} {كُلَّمَا جَاءَهُمْ} أي اليهود {رَسُولٌ بِمَا
لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} لا يوافق هواهم {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً
يَقْتُلُونَ} أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا؛ فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء،
وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وإنما قال: {يَقْتُلُونَ} لمراعاة رأس الآية.
وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم
وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و
{يَقْتُلُونَ} نعت لفريق. والله أعلم.
المائدة - تفسير الطبري
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(65)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ولو أن أهل الكتاب"، وهم اليهود والنصارى="آمنوا"
بالله وبرسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فصدَّقوه واتبعوه وما أنزل
عليه="واتقوا" ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه="لكفرنا عنهم
سيئاتهم"، يقول: محوْنا عنهم ذنوبَهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها (1) =
"ولأدخلناهم
__________
(1) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف 7: 482 ،
490/8: 254= وتفسير"السيئات" فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ).
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ (66)
جنات النعيم"، يقول: ولأدخلناهم بساتِين ينعَمون
فيها في الآخرة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12256 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا"، يقول: آمنوا بما أنزل
الله، واتقوا ما حرم الله، ="لكفرنا عنهم سيئاتهم".
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولو أنهم
أقامُوا التوراة والإنجيلَ"، ولو أنهم عملوا
بما في التوراة والإنجيل (2) ="وما أنزل إليهم من ربهم"، يقول: وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقانِ الذي جاءهم به
محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل
إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب، ونسخِ بعضها بعضًا؟
قيل: إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متَّفِقة في
الأمر بالإيمان برُسُل الله، والتصديق بما جاءت به من عند الله. فمعنى إقامتهم
التوراةَ والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: تصديقُهُم بما فيها،
والعملُ
__________
(1) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 8: 448 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الإقامة" فيما سلف من فهارس
اللغة (قوم) مثل"إقامة الصلاة".
بما هي متفقة فيه، وكل واحد منها في الحين الذي فرض
العمل به. (1)
* * *
وأما معنى قوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت
أرجلهم"، فإنه يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قَطْرَها، فأنبتت لهم به
الأرض حبها ونباتها، فأخرج ثمارَها.
* * *
وأما قوله:"ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني تعالى ذكره:
لأكلوا من برَكة ما تحت أقدامِهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حَبِّها
ونباتها وثمارِها، وسائرِ ما يؤكل مما تخرجه الأرض.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12257 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولو أنهم أقاموا
التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم"، يعني: لأرسل
السماءَ عليهم مدرارًا="ومن تحت أرجلهم"، تخرج الأرض برَكتها.
12258 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من
فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: إذًا لأعطتهم السماء برَكتها والأَرْضُ نَباتها.
12259 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: لو عملوا بما أنزل
إليهم
__________
(1) في المطبوعة: "وكل واحد منهما في الخبر الذي
فرض العمل به" ، وهي جملة لا معنى لها ، صوابها من المخطوطة.
مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، لأنزلنا عليهم المطرَ،
فلأنبت الثَّمر. (1)
12260 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليهم من ربهم"،
أمّا"إقامتهم التوراة"، فالعمل بها= وأما"ما أنزل إليهم من
ربهم"، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. يقول:"لأكلوا من فوقهم
ومن تحت أرجلهم"، أما"من
فوقهم"، فأرسلت عليهم مطرًا، وأما"من تحت أرجلهم"، يقول: لأنبتُّ
لهم من الأرض من رزقي ما يُغْنيهم.
12261 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"،
قال: بركات السماء والأرض= قال ابن جريج:"لأكلوا من فوقهم"، المطر="ومن تحت أرجلهم"، من
نبات الأرض.
12262 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني
عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"من فوقهم ومن تحت
أرجلهم"، يقول: لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء="ومن تحت
أرجلهم"، يقول: من الأرض.
* * *
وكان بعضهم يقول (2) إنما أريد بقوله:"لأكلوا من
فوقهم ومن تحت أرجلهم"، التَّوْسِعَة، كما يقول القائل:"هو في خير من
قَرْنه إلى قدمه". (3)
وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى
بذلك شهيدًا على فساده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فأنبتت الثمر" ، وأثبت ما
في المخطوطة ، وهو صواب محض.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 315.
(3) في المطبوعة: "من فرقه إلى قدمه" ، وأثبت
ما في المخطوطة ، ومعاني القرآن للفراء و"القرن": حد الرأس وجانبها ،
ورأس كل عال قرنه.
القول في تأويل قوله : { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"منهم
أمة"، منهم جماعة (1) ="مقتصدة"، يقول: مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم، قائلةٌ فيه الحقَّ أنه
رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غاليةٌ قائلةٌ: إنه ابن الله،
تعالى الله عما قالوا من ذلك، ولا مقصرة قائلةٌ: هو لغير رِشْدَة="وكثير منهم"، يعني: من بني إسرائيل من أهل الكتابِ
اليهودِ والنصارى ="ساء ما يعملون"، يقول: كثير منهم
سيئ عملهم، (2) وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم،
وتزعُم أن المسيحَ ابن الله= وتكذِّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما. فقال
الله تعالى فيهم ذامًّا لهم:"ساء ما يعملون"، في ذلك من فعلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12264 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"منهم أمة مقتصدة"، وهم مسلمة أهل
الكتاب="وكثير منهم ساءَ ما يعملون". (3)
12265 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل قال، حدثنا عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: تفرَّقت بنو إسرائيل
فِرَقًا، فقالت
__________
(1) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 7: 106 ، تعليق:
2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"ساء" فيما سلف 9: 205 ، تعليق:
4 ، والمراجع هناك.
(3) سقط من الترقيم ، رقم: 12263 سهوًا.
فرقة:"عيسى هو ابن الله"، وقالت فرقة:"هو
الله"، وقالت فرقة:"هو عبد الله وروحه"، وهي المقتصدة، وهي مسلمةُ
أهل الكتاب.
12266 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة، قال الله:"منهم أمة مقتصدة"، يقول: على كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر
القوم فقال:"وكثير منهم ساء ما يعملون".
12267 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"منهم أمة مقتصدة"، يقول: مؤمنة.
12268 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" قال: المقتصدة،
أهلُ طاعة الله. قال: وهؤلاء أهل الكتاب.
12269 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"منهم أمة مقتصدة وكثير
منهم ساء ما يعملون"، قال: فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جَفَوا في الدين
ولا هم غلوا. (1) قال: و"الغلو"، الرغبة [عنه]، و"الفسق"، التقصير عنه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذين لا هم فسقوا في
الدين" ، وهي كذلك في الدر المنثور 2: 297 ، والذي في المخطوطة هو ما أثبته ،
وهو الصواب إن شاء الله ، وفي الحديث: "وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي"
، وفيه أيضا: "اقرأوا القرآن ولا تجفوا عنه" ، أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن
تلاوته.
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من
الأثر السالف رقم: 10853 ، من تفسير الربيع بن أنس أيضا لآية سورة النساء: 171.
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) }
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه
محمدًا صلى الله عليه وسلم، (1) بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين
الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم،
واجتراءَهم على ربهم، وتوثُّبهم على أنبيائهم، وتبديلَهم كتابه، وتحريفَهم إياه،
ورداءةَ مطاعِمهم ومآكلهم= وسائرِ المشركين غيرِهم، (2) ما أنزل عليه فيهم من معايبهم،
والإزراء عليهم، والتقصير بهم، والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا
يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، (3)
ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله، فإن
الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه. (4) وأعلمه تعالى
ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك= وإن
قلّ ما لم يبلّغ منه= فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنزلته لو لم يبلِّغ من
تنزيله شيئًا.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "لنبيه محمد" ، غير ما في
المخطوطة على غير طائل.
(2) قوله: "وسائر المشركين" مجرور معطوف على
قوله: "بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى ..." ومفعول قوله: "بإبلاغ
هؤلاء ..." هو: "ما أنزل عليه فيهم".
(3) في المطبوعة: "أن يصيبه في نفسه مكروه" ،
غير ما في المخطوطة على غير طائل.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "كل من يتقي
مكروهه" ، وهو فاسد جدًا ، صوابه ما أثبت.
12270 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الرسول بلِّغ
ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، يعني: إن كتمت آية مما
أنزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي. (1)
12271 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية، أخبر
الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ.
ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما
صاحبتهم. (2)
12272 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز
قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت:"بلغ ما أنزل إليك
من ربك"، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! (3)
فنزلت:"وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، الآية.
12273 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن
ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل
إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس"، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "رسالتي" ، غير ما في
المخطوطة.
(2) قوله: "احتجبت" ، أي: احتجبت عن الناس حتى
لا يدرك منه من يبغيه الغوائل. و"العقب" هنا"عقب القدم" ، وهي مؤخرها ،
وهي مؤنثة. يعني بذلك: لأظهرن لهم سائرًا بينهم لا أحتجب. وكل من خرج إلى الناس ،
فقد بدا لهم عقبه ، وهو يسير بينهم. وهذه كناية حسنة. وقوله: "ما
صاحبتهم" ، للتأييد ، كأنه قال:
"ما عشت".
(3) في المطبوعة: "تجتمع على الناس" ، وأثبت
ما في المخطوطة. ومعنى قوله: "تجمع على الناس" ، أي: تألبوا عليه
وعادوه من جراء دعوته إلى دين الله. وهذا تعجب.
(4) الأثر: 12273-"جرير" ، هو"جرير بن
عبد الحميد الضبي" ، مضى مرارًا كثيره.
و"ثعلبة" هو"ثعلبة بن سهيل التميمي
الطهوي" ، كان متطببًا ، ثقة ، لا بأس به ، مترجم في التهذيب.
و"جعفر" هو"جعفر بن أبي المغيرة
الخزاعي" ، مضى برقم: 87 ، 617 ، 4347 ، 7269.
وهذا خبر مرسل. انظر تفسير ابن كثير 3: 196.
12274 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا
ابن علية، عن الجُريريّ، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، خرج
فقال: يا أيها الناس، الحقوا بملاحِقِكم، فإنّ الله قد عصمني من الناس. (1)
12275 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عاصم بن محمد،
عن محمد بن كعب القرظي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه، فأنزل
الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته"، إلى آخرها.
12276 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال،
حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال، حدثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن
شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس، حتى نزلت هذه
الآية:"والله يعصمك من الناس"، قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم
رأسه من القُبَّة فقال:"أيها الناس، انصرفوا، فقد عصمني الله. (2)
__________
(1) الأثر: 12274-"الجريري" ، هو"سعيد بن
إياس الجريري" ، مضى برقم: 196.
و"عبد الله بن شقيق العقيلي" ، تابعي ثقة ،
مضى برقم: 196 ، وهذا الخبر مرسل أيضًا ، وسيأتي موصولا برقم: 12276
وقوله: "يعتقبه ناس من أصحابه": أي يتناوبون
حراسته ويتداولونها ، من"العقبة" وهي النوبة ، يقال: "جاءت عقبة
فلان" ، أي نوبته.
وقوله:
"ألحقوا بملاحقكم" ، يأمرهم أن يوافوا أماكنهم
التي يرجعون إليها إذا آبوا. ولم أجد هذا التعبير في غير هذا الخبر ، ولا قيده
أصحاب غريب الحديث. و"الملاحق" جمع"ملحق" (بفتح الميم وسكون
اللام وفتح الحاء): أي الموضع الذي ينزلونه عند مرجعهم.
(2) الأثر: 12276-"الحارث بن عبيد الإيادي" ، "أبو قدامة" ، قال أحمد:
"مضطرب الحديث" ، وقال ابن معين: "ضعيف" ، وقال أبو حاتم:
"ليس بالقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال ابن حبان: "كان ممن
كثر وهمه ، حتى خرج عن جملة من يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب. والكبير 1/ 2/
273.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير وقال:
"هذا حديث غريب ، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ،
ولم يذكر فيه عائشة".
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 313 ، من هذه الطريق نفسها
ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وكان في المطبوعة: "فإن الله قد عصمني" ، خالف
نص المخطوطة لغير شيء. وما في المخطوطة هو المطابق لروايته في الترمذي والمستدرك.
12277 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن
عاصم، عن القرظيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يُحْرَس، حتى أنزل
الله:"والله يعصمك من الناس".
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه
الآية.
فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه.
ذكر من قال ذلك:
12278 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه
ثم قال (1) من يمنعك مني؟ قال: الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه، (2) قال: وضرب
برأسه الشجرة حتى انتثر دُماغه، فأنزل الله:"والله يعصمك من الناس". (3)
* * *
__________
(1) "اخترط السيف": سله من غمده.
(2) هكذا جاءت الرواية"فرعدت يد الأعرابي"
بالبناء للمجهول ، ولم أجد من"الرعدة" ثلاثيًا"رعد" بالبناء
للمجهول ، بل الذي رووه وأطبقوا عليه"أرعد" (بالبناء للمجهول). فإن صح
هذا الخبر ، فالثلاثي المبني للمجهول مما يزاد على مادة اللغة.
(3) الأثر: 12278- انظر خبر هذا الأعرابي فيما سلف رقم:
11565 ، والتعليق عليه هناك ، وليس فيه أنه ضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.
وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
12279 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا، فلما
نزلت:"والله يعصمك من الناس"، استلقى ثم قال:"من
شاء فليخذلني= مرتين أو ثلاثًا.
12280 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد،
عن عامر، عن مسروق قال، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم
شيئًا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك"،
الآية. (1)
12281 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن
الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم، فقد كذبَ وأعظم
الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من
ربك" الآية.
12282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية
قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال، قالت عائشة: من زعم أنّ
محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية!
والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية. (2)
12283 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم،
__________
(1) الأثر: 12280-"ابن أبي خالد" ، هو:
"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن
أبي خالد" ، وهو خطأ لا شك فيه ، فإن البخاري رواه من طريق وكيع ، عن إسمعيل
بن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق ، مطولا (الفتح 8: 466) ، وليس فيمن روى عنه وكيع
هذا الخبر من يسمى"أبا خالد".
وهذا الخبر رواه أبو جعفر من أربع طرق ، سيأتي تخريجها
بعد.
(2) الأثر: 12282- رواه مسلم مطولا في صحيحه ، من طريق
إسماعيل بن علية ، عن داود.
وهذه الأخبار الثلاثة السالفة ، خبر واحد بأسانيد ثلاثة.
رواه البخاري (الفتح 8: 206) من طريق سفيان ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن
مسروق. ثم رواه من هذه الطريق ، ومن طريق أبي عامر العقدي ، عن شعبة ، عن إسمعيل
بن أبي خالد ، عن الشعبي (الفتح 13: 422) ، مختصرا.
عن مسروق بن الأجدع قال: دخلت على عائشة يومًا فسمعتها
تقول: لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي! والله
يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". (1)
* * *
ويعني بقوله:"والله يعصمك من الناس"، يمنعك من
أن ينالوك بسوء. وأصله من"عِصَام القربة"، وهو ما تُوكىَ به من سير
وخيط، (2)
ومنه قول الشاعر: (3)
وَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ مَالِكًا، إنَّ مَالِكًا...
سَيَعْصِمُكُمُ، إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ (4)
يعني: يمنعكم.
* * *
وأما قوله:"إن الله لا يهدي القوم الكافرين"،
فإنه يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل،
وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه.
(5)
* * *
__________
(1) الأثر: 12283-"الليث" هو"الليث بن
سعد" الإمام.
و"خالد" ، هو: "خالد بن يزيد الجمحي
المصري" ، الفقيه المفتي ، ثقة ، مضى برقم: 3965 ، 5465 ، 9185 ، 9507.
و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري" ، ثقة. مضى
برقم: 1495 ، 3965 ، 5465.
(2) انظر تفسير"عصم" و"عصام" فيما
سلف 7: 62 ، 63 ، 70/9: 341.
(3) لم أعرف قائله.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171. و"عليك"
اسم فعل للإغراء ، يقال: "عليك زيدًا" و"عليك بزيد".
(5) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه
محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ
مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود
والنصارى="يا أهل الكتاب"، التوراة والإنجيل="لستم على شيء"،
مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم، معشرَ اليهود، ولا
مما جاءكم به عيسى، معشرَ النصارى="حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليكم من ربكم"، مما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا
بذلك كله، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرُّوا
بأن كل ذلك من عند الله، فلا تكذِّبوا بشيء منه، ولا تفرِّقوا بين رسل الله
فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأنّ كتب الله
يصدِّق بعضها بعضًا، فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر.
12284 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس
بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت،
عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
رافعُ بن حارثة وسَلام بن مِشْكم، (1) ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، (2) فقالوا: يا محمد،
ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "سلام بن مسكين" ،
ولم أجد هذا الاسم فيمن كان من يهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
والمعروف هو ما أثبته وهو الموجود في هذا الخبر في سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة: "... بن حرملة" ، وأثبت ما
في المخطوطة ، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما
أخِذَ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيِّنوه للناس، وأنا بريء من
أحداثكم! قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك،
ولا نتبعك! فأنزل الله تعالى ذكره:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا
التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" إلى:"فلا تأس على القوم
الكافرين". (1)
12285 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما
أنزل إليكم من ربكم"، قال: فقد صرنا من
أهل الكتاب="التوراة"، لليهود، و"الإنجيل"، للنصارى،"وما
أنزل إليكم من ربكم"، وما أنزل إلينا من ربنا= أي:"لستم على شيء حتى
تقيموا"، حتى تعملوا بما فيه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وليزيدن
كثيًرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، وأقسم: ليزيدن كثيرًا من
هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات، الكتابُ الذي أنزلته إليك،
يا محمد (2) ="طغيانًا"، يقول: تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك، على ما
كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول
__________
(1) الأثر: 12284- سيرة ابن هشام 2: 217 ، وهو تابع
الآثار التي مضت رقم: 2101 ، 2102 ، 12219.
(2) "الكتاب" فاعل قوله: "ليزيدن كثيرًا
من هؤلاء اليهود...".
الفرقان="وكفرًا" يقول: وجحودًا لنبوتك. (1)
وقد أتينا على البيان عن معنى"الطغيان"، فيما
مضى قبل. (2)
* * *
وأما قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، يعني
بقوله: (3) "فلا تأس"، فلا تحزن.
* * *
يقال:"أسِيَ فلان على كذا"، إذا
حزن"يأسَى أسىً"،، ومنه قول الراجز: (4)
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى (5)
* * *
يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن، يا محمد، على تكذيب
هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك، فإن مثلَ ذلك منهم عادة وخلق
في أنبيائهم، فكيف فيك؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس
اللغة.
(2) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف ص: 457 ،
تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: "يعبي يقول" ، والصواب من
المخطوطة.
(4) هو العجاج.
(5) ديوانه: 31 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171 ،
والكامل 1: 352 ، واللسان (حلب) (كرس) ، وهو من رجزه المشهور ، مضى أوله في هذا التفسير
1: 509 ، يقول: يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? ... قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ!
وَأَبْلَسَا
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى
ومضى شرح البيتين الأولين. و"انحلبت عيناه"
و"تحلبتا": سال دمعهما وتتابع. وكان في المطبوعة: "وأنحلت" ،
خالف ما في المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، فأتى بما لا يعرف. فجاء بعض من كتب على
هذا البيت وصححه فكتب"وأبخلت" وقال: "معنى: أبخلت: وجدتا بخيلتين
بالدمع لغلبة الحزن عليه ، أي أنه من شدة حزنه لم يبك ، وإنما جمدت عيناه" ،
فأساء من وجوه: ترك مراجعة الشعر ومعرفته ، واجتهد في غير طائل ، وأتى بكلام سخيف
جدًا! والله المستعان.
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
* ذكر من قال ذلك:
12286 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وليزيدن كثيًرا منهم
ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، قال: الفرقان= يقول: فلا تحزن.
12287 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، قال: لا
تحزن.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (69) }
قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل
الإسلام="والذين هادوا"، وهم اليهود (1) = والصابئون"، وقد بينا
أمرهم (2) ="والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فصدّق بالبعث
بعد الممات="وعمل"، من العمل="صالحًا" لمعاده"فلا خوف
عليهم"، فيما قَدِموا عليه من أهوال القيامة="ولا هم يحزنون"، على
ما خلَّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل
ثوابه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ص: 341 ، تعليق:
1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الصابئون" فيما سلف 2: 145-
147.
(3) انظر تفسير"عمل صالحًا" فيما سلف 2: 148
(وفهارس اللغة).
= وتفسير"اليوم الآخر" ، فيما سلف من فهارس
اللغة (أخر).
= وتفسير"لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما
سلف 2: 150 ، وسائر فهارس اللغة.
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى
أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
وقد بينا وجه الإعراب فيه فيما مضى قبل، بما أغنى عن
إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ
بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم: لقد أخذنا ميثاق
بني إسرائيل على الإخلاص في توحيدنا، (2) والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما
نهيناهم عنه= وأرسلنا إليهم بذلك رسلا ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل
بطاعتنا الجزيلَ من الثواب، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديدَ من العقاب= كلما
جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبَّتهم، كذّبوا منهم فريقًا،
ويقتلون منهم فريقًا، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجرأة علينا وعلى خلاف
أمرنا. (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 3: 352- 354/ ثم انظر الموضع الذي أشار
إليه 9: 395- 399. ثم انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 105- 108 ، ومجاز القرآن
لأبي عبيدة 1: 172 ، ومشكل القرآن
لابن قتيبة: 36- 39.
(2) في المطبوعة: "وتوحيدنا" ، وفي المخطوطة:
"الإخلاص توحيدنا" ، وكأن الصواب ما أثبت.
(3) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
وعند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي
نقلت عنه مخطوطتنا ، وفيها ما نصه:
"يتلوهُ: القول في تأويل قوله:
{ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا }
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرًا".
ثمّ ما يتلوه نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّر"
============
المائدة - تفسير الدر المنثور
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(65)
- قَوْله تَعَالَى: وَلَو أَن أهل الْكتاب آمنُوا
وَاتَّقوا لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم
- أخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن
أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {وَلَو أَن أهل الْكتاب
آمنُوا وَاتَّقوا} قَالَ: آمنُوا بِمَا أنزل الله وَاتَّقوا مَا حرم الله
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مَالك بن
دِينَار قَالَ {جنَّات النَّعيم} بَين جنَّات الفردوس وجنات عدن وفيهَا جوَار
خُلِقْنَ من ورد الْجنَّة
قيل فَمن سكنها قَالَ: الَّذين هموا بِالْمَعَاصِي
فَلَمَّا ذكرُوا عَظمَة الله جلّ جَلَاله راقبوه
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ (66)
- قَوْله تَعَالَى: وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت
أَرجُلهم مِنْهُم أمة مقتصدة وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ
- أخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ
عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} الْآيَة
قَالَ: أما اقامتهم التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل
فَالْعَمَل بهما وَأما {وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم} فمحمد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وماأنزل عَلَيْهِ وَأما {لأكلوا من فَوْقهم} فَأرْسلت عَلَيْهِ مَطَرا وَأما
{وَمن تَحت أَرجُلهم} يَقُول: لأنبت لَهُم من الأَرْض من رِزْقِي مَا يغنيهم
{مِنْهُم أمة مقتصدة} وهم مسلمة أهل الْكتاب
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس
{لأكلوا من فَوْقهم} يَعْنِي لأرسل عَلَيْهِم السَّمَاء مدراراً {وَمن تَحت
أَرجُلهم} قَالَ: تخرج الأَرْض من بركاتها
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي الْآيَة يَقُول:
لأكلوا من الرزق الَّذِي ينزل من السَّمَاء وَالَّذِي وَالَّذِي ينْبت من الأَرْض
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن
قَتَادَة {لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} يَقُول لأعطتهم السَّمَاء
بركاتها وَالْأَرْض نباتها {مِنْهُم أمة مقتصدة} على كتاب الله قد آمنُوا ثمَّ ذمّ
أَكثر الْقَوْم فَقَالَ {وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ}
وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن الرّبيع بن أنس
قَالَ: الْأمة المقتصدة
الَّذين لاهم فسقوا فِي الدّين ولاهم غلوا
قَالَ: والغلو الرَّغْبَة وَالْفِسْق التَّقْصِير عَنهُ
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ {أمة مقتصدة} يَقُول
مُؤمنَة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن جُبَير بن نفير
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يُوشك
أَن يرفع الْعلم
قلت: كَيفَ وَقد قَرَأنَا الْقُرْآن وعلمناه أبناءنا فَقَالَ: ثكلتك
أمك يَا ابْن نفير إِن كنت لأرَاك من أفقه أهل الْمَدِينَة أوليست التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمَا أغْنى عَنْهُم حِين تركُوا
أَمر الله ثمَّ قَرَأَ {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} الْآيَة
وَأخرج أَحْمد وَابْن ماجة من طَرِيق ابْن أبي الْجَعْد
عَن زِيَاد بن لبيد قَالَ ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فَقَالَ:
وَذَلِكَ عِنْد ذهَاب أَبْنَائِنَا يارسول الله وَكَيف يذهب الْعلم وَنحن نَقْرَأ
الْقُرْآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُم إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة قَالَ: ثكلتك أمك يَا ابْن أم لبيد
إِن كنت لأرَاك من أفقه رجل بِالْمَدِينَةِ أوليس هَذِه
الْيَهُود وَالنَّصَارَى يقرؤون التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ولاينتفعون مِمَّا
فيهمَا بِشَيْء
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق يَعْقُوب بن زيد بن
طَلْحَة عَن زيد بن أسلم عَن أنس بن مَالك قَالَ: كُنَّا عِنْد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر حَدِيثا قَالَ: ثمَّ حَدثهمْ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: تفرَّقت أمة مُوسَى على إِحْدَى وَسبعين مِلَّة سَبْعُونَ
مِنْهَا فِي النَّار وَوَاحِدَة مِنْهَا فِي الْجنَّة
وَتَفَرَّقَتْ أمة عِيسَى على اثْنَيْنِ وَسبعين مِلَّة
وَاحِدَة مِنْهَا فِي الْجنَّة وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّار
وتعلوا أَنْتُم على الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا بِملَّة وَاحِدَة
فِي الْجنَّة وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار قَالُوا: من هم يارسول الله
قَالَ: الْجَمَاعَات الْجَمَاعَات
قَالَ يَعْقُوب بن زيد: كَانَ عَليّ بن أبي طَالب إِذا
حدث بِهَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَلا فِيهِ
قُرْآنًا {وَلَو أَن أهل الْكتاب آمنُوا وَاتَّقوا} إِلَى قَوْله {سَاءَ مَا
يعْملُونَ} وتلا أَيْضا {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه
يعدلُونَ} الْأَعْرَاف الْآيَة 181 يَعْنِي أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
- قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل
إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس
إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين
- أخرج أَبُو الشَّيْخ عَن الْحسن أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله بَعَثَنِي برسالة فضقت
بهَا ذرعاً وَعرفت أَن النَّاس مُكَذِّبِي فوعدني لأبلغن
أَو ليعذبني فَأنْزل {يَا أَيهَا الرَّسُول بلِّغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم
وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد قَالَ: لما نزلت {بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك}
قَالَ: يارب إِنَّمَا أَنا وَاحِد كَيفَ أصنع ليجتمع عليّ النَّاس فَنزلت {وَإِن
لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن
عَسَاكِر عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا
الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْم غَدِير خم فِي عَليّ بن أبي طَالب
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كُنَّا
نَقْرَأ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ
مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} أَن عليا مولى الْمُؤمنِينَ {وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت
رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عنترة
أَنه قَالَ لعَلي هَل عنْدكُمْ شَيْء لم يُبْدِهِ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنَّاس فَقَالَ: ألم تعلم إِن الله قَالَ {يَا
أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} وَالله ماورثنا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم سَوْدَاء فِي بَيْضَاء
أما قَوْله تَعَالَى: {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
أخرج ابْن مرْدَوَيْه والضياء فِي المختارة عَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي آيَة أنزلت من
السَّمَاء أَشد عَلَيْك فَقَالَ كنت بمنى أَيَّام موسم وَاجْتمعَ مُشْرِكُوا
الْعَرَب وافناء النَّاس فِي الْمَوْسِم فَنزل عليّ جِبْرِيل فَقَالَ {يَا أَيهَا
الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله
يَعْصِمك من النَّاس} قَالَ: فَقُمْت عِنْد الْعقبَة فناديت: ياأيها النَّاس من ينصرني على أَن أبلغ
رِسَالَة رَبِّي وَلكم الْجنَّة أَيهَا النَّاس قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله
وَأَنا رَسُول الله إِلَيْكُم وتنجحوا وَلكم الْجنَّة
قَالَ: فَمَا بَقِي رجل وَلَا امْرَأَة وَلَا صبي إِلَّا
يرْمونَ عليّ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَة ويبصقون فِي وَجْهي وَيَقُولُونَ:
كَذَّاب صابىء فَعرض عَليّ عَارض فَقَالَ: يامحمد إِن كنت رَسُول الله فقد آن لَك
أَن تَدْعُو عَلَيْهِم كَمَا دَعَا نوح على قومه بِالْهَلَاكِ
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ
اهد قومِي فانهم لايعلمون وَانْصُرْنِي عَلَيْهِم أَن يجيبوني إِلَى طَاعَتك فجَاء
الْعَبَّاس عَمه فأنقذه مِنْهُم وطردهم عَنهُ قَالَ: الْأَعْمَش فبذلك تفتخر
بنوالعباس وَيَقُولُونَ: فيهم نزلت {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله
يهدي من يَشَاء}
الْقَصَص الْآيَة 56 هوى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَبَا طَالب وَشاء الله عَبَّاس بن عبد الْمطلب
وَأخرج عبد بن حميد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن جرير وَابْن
الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَالْحَاكِم وَأَبُو نعيم
وَالْبَيْهَقِيّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِل وَابْن مرْدَوَيْه عَن عَائِشَة
قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرس حَتَّى نزلت {وَالله
يَعْصِمك من النَّاس} فَأخْرج رَأسه من الْقبَّة فَقَالَ: أَيهَا النَّاس انصرفوا
فقد عصمني الله
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد
الْخُدْرِيّ قَالَ: كَانَ الْعَبَّاس عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَن
يَحْرُسهُ فَلَمَّا نزلت {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} ترك رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الحرس
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن جَابر بن عبد الله قَالَ
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج بعث مَعَه أَبُو طَالب من
يكلؤه حَتَّى نزلت {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} فَذهب ليَبْعَث مَعَه فَقَالَ: ياعم
أَن الله قد عصمني لاحاجة لي إِلَى من تبْعَث
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَأَبُو نعيم
فِي الدَّلَائِل وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرس وَكَانَ يُرْسل مَعَه عَمه أَبُو طَالب كل
يَوْم رجلا من بني هَاشم يحرسونه فَقَالَ: ياعم أَن الله قد عصمني لاحاجة لي إِلَى
من تبْعَث
وَأخرج أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن أبي ذَر قَالَ:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاينام إِلَّا وَنحن حوله من مَخَافَة
الغوائل حَتَّى نزلت آيَة الْعِصْمَة {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن عصمَة بن
مَالك الخطمي قَالَ كُنَّا نحرس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ
حَتَّى نزلت {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} فَترك الحرس
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن جَابر بن عبد الله قَالَ:
لما غزا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني أَنْمَار نزل ذَات الرّقاع
بِأَعْلَى نخل فَبينا هُوَ جَالس على رَأس بِئْر قد دلى رجلَيْهِ فَقَالَ غورث بن
الْحَرْث: لأقتلن مُحَمَّد فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: كَيفَ تقتله قَالَ: أَقُول
لَهُ أعطيني سَيْفك فَإِذا أعطانيه قتلته بِهِ
فَأَتَاهُ فَقَالَ: يامحمد اعطني سَيْفك أشمه
فَأعْطَاهُ إِيَّاه فَرعدَت يَده فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حَال الله بَيْنك وَبَين ماتريد فَأنْزل الله {يَا
أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} الْآيَة
وَأخرج ابْن حبَان وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة
قَالَ كُنَّا إِذا صَحِبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر تركنَا
لَهُ أعظم دوحة وأظلها فَينزل تحتهَا فَنزل ذَات يَوْم تَحت شَجَرَة وعلق سَيْفه
فِيهَا فجَاء رجل فَأَخذه فَقَالَ: يامحمد من يمنعك مني فَقَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: الله ينمعني مِنْك ضع عَنْك السَّيْف فَوَضعه فَنزلت {وَالله
يَعْصِمك من النَّاس}
وَأخرج أحمدعن جعدة بن خَالِد بن الصمَّة الْجُشَمِي
قَالَ: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل فَقيل: هَذَا أَرَادَ أَن
يقتلك
فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الم ترع
وَلَو أردْت ذَلِك لم يسلطك الله عَليّ
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن
أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي الْآيَة قَالَ: أخبر الله نبيه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سيكفيه النَّاس ويعصمه مِنْهُم وَأمره بالبلاغ وَذكر لنا
أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ: لَو احتجت فَقَالَ: وَالله لايدع
الله عَقبي للنَّاس مَا صاحبتهم
وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير
قَالَ: لما نزلت {يَا أَيهَا الرَّسُول} إِلَى قَوْله {وَالله يَعْصِمك من
النَّاس} قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تحرسوني إِن رَبِّي قد
عصمني
وَأخرج ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن
شَقِيق قَالَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتعقبه نَاس من
أَصْحَابه فَلَمَّا نزلت {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} فَخرج فَقَالَ: ياأيها
النَّاس الحقوا بملاحقكم فَإِن الله قد عصمني من النَّاس
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن
مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا زَالَ
يحرس يحارسه أَصْحَابه حَتَّى أنزل الله {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} فَترك الحرس
حِين أخبرهُ أَنه سيعصمه من النَّاس
وَأخرج ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نزل منزلا اخْتَار لَهُ أَصْحَابه
شَجَرَة ظليلة فيقيل تحتهَا فَأَتَاهُ اعرابي فاخترط سَيْفه ثمَّ قَالَ: من يمنعك
مني قَالَ: الله فَرعدَت يَد الْأَعرَابِي وَسقط السَّيْف مِنْهُ قَالَ: وَضرب بِرَأْسِهِ
الشَّجَرَة حَتَّى انتثرت دماغه فَأنْزل الله {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن جريج قَالَ كَانَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهاب قُريْشًا فَأنْزل الله {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}
فاستلقى ثمَّ قَالَ: من شَاءَ فليخذلني مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن مرْدَوَيْه عَن الرّبيع بن
أنس قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَحْرُسهُ أَصْحَابه حَتَّى
نزلت هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك} الْآيَة
فَخرج إِلَيْهِم فَقَالَ: لاتحرسوني فَإِن الله قد عصمني
من النَّاس
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
- قَوْله تَعَالَى: قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على
شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم
وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغياناً وَكفرا فَلَا تأس على
الْقَوْم الْكَافرين إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون وَالنَّصَارَى
من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم
يَحْزَنُونَ لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا
كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا وفريقا يقتلُون
- أخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر
وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: جَاءَ رَافع بن
حَارِثَة وَسَلام بن مشْكم وَمَالك بن الصَّيف وَرَافِع بن حَرْمَلَة قَالُوا:
يامحمد أَلَسْت تزْعم أَنَّك على مِلَّة إِبْرَاهِيم وَدينه وتؤمن بِمَا عندنَا من
التَّوْرَاة وَتشهد أَنَّهَا من حق الله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بلَى وَلَكِنَّكُمْ أحدثتم وجحدتم مافيها مِمَّا أَخذ عَلَيْكُم من الْمِيثَاق
كتمتم مِنْهَا مَا أمرْتُم أَن تبينوا للنَّاس فبرئت من أحداثكم
قَالُوا:
فَإنَّا نَأْخُذ مِمَّا فِي أَيْدِينَا فَإنَّا على
الْهدى وَالْحق وَلَا نؤمن بك وَلَا نتبعك فَأنْزل الله فيهم {قل يَا أهل الْكتاب
لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} إِلَى قَوْله
{الْقَوْم الْكَافرين}
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق