تفسير سورة المائدة الاية من 114.حتي 120.
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
=============
المائدة - تفسير ابن كثير
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) }
هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة فيقال: "سورة المائدة". وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى، عليه السلام، لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة.
وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة (1) ليست مذكورة في الإنجيل، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين، فالله أعلم.
فقوله تعالى: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } وهم أتباع عيسى (2) عليه السلام: { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هذه قراءة كثيرين، وقرأ آخرون: "هل تَسْتَطيع رَبَّك" أي: هل تستطيع أن تسأل ربك { أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } .
والمائدة هي: الخوان عليه طعام. وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم (3) فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها، ويتقوون بها على العبادة.
قال: { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: فأجابهم المسيح، عليه السلام، قائلا لهم: اتقوا الله، ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين.
{ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } أي: نحن محتاجون إلى الأكل منها { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السماء { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي: ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي: ونشهد أنها آية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به.
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا } قال السُّدِّي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن وَمَنْ بعدنا، وقال سفيان الثوري: يعني يومًا نصلي فيه، وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم، وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا.
{ وَآيَةً مِنْكَ } أي: دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك { وَارْزُقْنَا } أي: من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب { وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ . قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ } أي: فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } أي: من عالمي زمانكم، كقوله: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر:46]، (4) وكقوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء:145].
__________
(1) في د: "قصتها".
(2) في د: "المسيح".
(3) في د: "لفقرهم".
(4) في د، هـ: "يوم القيامة" وهو خطأ.
(3/225)
وقد روى ابن جرير، من طريق عَوْف الأعرابي، عن أبي المغيرة القوَّاس، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. (1)
ذكر أخبار رُوِيَت عن السلف في نزول المائدة على الحواريين:
قال أبو جعفر بن جرير (2) حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن لَيْث، عن عقيل، عن ابن عباس: أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له. ففعلوا، ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نَفْرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى: { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ . قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ . قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
كذا رواه ابن جرير (3) ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وَهْبٍ، عن الليث، عن عُقَيْل، عن ابن شِهاب، قال: كان ابن عباس يحدث، فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبو زُرْعَة وهب الله بن راشد، حدثنا عُقَيْل بن خالد، أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس؛ أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال: فنزلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن قَزْعَة الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن خِلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت المائدة من السماء، عليها خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير"
وكذا رواه ابن جرير، عن الحسن بن قَزْعَة (4) ثم رواه ابن جرير، عن ابن بشار، عن ابن أبي
__________
(1) تفسير الطبري (11/233).
(2) في د: "حدثنا ابن جرير".
(3) تفسير الطبري (11/222).
(4) تفسير الطبري (11/228) ورواه الترمذي في السنن برقم (3061) وقال الترمذي: "هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس، عن عمار بن ياسر موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة، حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا سفيان بن حبيب، عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا"
(3/226)
عَدِيّ، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار، قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة، فأمروا ألا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا. قال: فخان القوم وخَبئوا وادخروا، فمسخهم الله قردة وخنازير. (1)
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن سِمَاك بن حرب، عن رجل من بني عجل، قال: صليت إلى جنب عمار بن ياسر، فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال: قلت: لا قال: إنهم سألوا (2) عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تَخْبَؤوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإني معذبكم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، قال: فما مضى يومهم حتى خبَّؤوا ورفعوا وخانوا، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم -معشر العرب-كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم، ونهاكم أن تكتنزوا الذهب والفضة. وأيم الله، لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما (3) ويعذبكم الله عذابًا أليمًا. (4)
وقال: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثني حجاج، عن أبي مَعْشَر، عن إسحاق بن عبد الله، أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: "لعلها لا تنزل غدًا". فرفعت.
وقال العَوْفِي، عن ابن عباس: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خَصِيف، عن عكرمة ومِقْسَم، عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة. وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزًا وسمكًا. وقال عطية العَوْفِي: المائدة سمك فيه طَعْمُ كل شيء.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه: أنزلها من السماء على بني إسرائيل، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى، فكان يَقْعُدُ عليها أربعة آلاف، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك لمثلهم. فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل.
وقال وهب بن مُنَبِّه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات، وحشا الله بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم.
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان ومَيْسَرَة، وجرير، عن عطاء، عن ميسرة
__________
(1) تفسير الطبري (11/229).
(2) في د: "إنهم قالوا".
(3) في د: "تكفروهما".
(4) تفسير الطبري (11/228).
(3/227)
قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم.
وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا جعفر بن علي فيما كتب إليّ، حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْس، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مِرْدَاس العبدري -مولى بني عبد الدار-عن إبراهيم بن عمر، عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان النَّهْدِي، عن سلمان الخير؛ أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة، كره ذلك جدا وقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية، فابتلوا بها حتى كان بَوَارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها، فلذلك قالوا: { نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } الآية.
فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها، قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود، وجبة من شعر، وعباءة من شعر، ثم توضأ واغتسل، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعًا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال (1) وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله فقال: { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } فأنزل الله عليهم سُفْرَة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا للشروط التي أتخذها الله عليهم -فيها: أنه يعذب (2) من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين -وهو يدعو الله من مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة،إلهي لا تجعلها عذابًا، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شَكَّارين، إلهي أعوذ بك أن تكون (3) أنزلتها غضبًا وجزاء، إلهي اجعلها سلامة وعافية، ولا تجعلها فتنة ومثلة.
فما زال يدعو حتى استقرت السُّفْرة بين يدي عيسى، والحواريين وأصحابه حوله، يَجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخَرَّ عيسى والحواريون لله سجدًا شكرًا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا (4) وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا أورثهم كمدًا وغمًا، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى. والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليها منديل مغطى. قال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة، وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاء عند ربه؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر باسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا. فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك، وأحقنا
__________
(1) في د: "ومال".
(2) في د: "أن يعذب".
(3) في د: "اللهم إني أعوذ بك".
(4) في د: "لا يحتسبون".
(3/228)
بالكشف عنها. فقام عيسى، عليه السلام، واستأنف وضوءًا جديدًا، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا. ثم انصرف فجلس (1) إلى السفرة وتناول المنديل، وقال: "باسم الله خير الرازقين"، وكشف عن السفرة، فإذا هو عليها سمكة (2) ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الآخر ثمرات، وعلى الآخر خمس رمانات.
فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون: وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصِّدِّيقة. فقال عيسى، عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية (3) القاهرة، فقال له: كن. فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله (4) واحمدوا عليه ربكم يُمدكم منه ويَزدكم، فإنه بديع قادر شاكر.
فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن تُرينا آية في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان (5) الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في (6) هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى، عليه السلام، على السمكة، فقال: يا سمكة، عودي بإذن الله حية كما كنت. فأحياها الله بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية، تَلَمَّظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلما رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة، عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.
فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها، ثم نحن بعد فقال عيسى: معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم (7) منها، خافوا أن يكون نزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، فيكون (8) مَهْنَؤُها لكم، وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله، واختموه بحمد الله، ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء، لم ينتقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون،
__________
(1) في د: "وجلس".
(2) في د: "فإذا هو بسمكة".
(3) في د: "الغالبة".
(4) في د: "باسم الله الرحمن الرحيم".
(5) في د: "قال سبحان".
(6) في د: "من".
(7) في د: "عيس".
(8) في د: "ويكون".
(3/229)
فاستغنى كل فقير أكل منها، وبرئ كل زَمِنٍ أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صِحَاحًا حتى خرجوا من الدنيا.
وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة، سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات، قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا: الأغنياء والفقراء، والصغار (1) والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضًا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب، تنزل يومًا ولا تنزل يومًا. فلبثوا في ذلك (2) أربعين يومًا، تنزل عليهم غِبًّا عند ارتفاع الضُحَى (3) فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم. (4) بإذن الله إلى جو السماء، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.
قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى، عليه السلام، أن اجعل رزقي المائدة (5) لليتامى والفقراء والزَّمنَى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس، وغَمطُوا ذلك، حتى شَكُّوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين (6) حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة، ونزولها من السماء أحق، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير؟ فقال عيسى، عليه السلام: هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقًا، وأراكم فيها (7) الآيات والعبَر كذَّبْتم بها، وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.
وأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين. قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
هذا أثر غريب جدًا. (8) قَطَّعَه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم: { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ } الآية.
__________
(1) في د: "والضعفاء".
(2) في د: "على ذلك".
(3) في د: "النهار".
(4) في د: "بينهم".
(5) في د: "في المائدة".
(6) في د: "الربانيين".
(7) في د: "منها".
(8) ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في تفسير القرطبي(6/369) من طريق زكريا بن حكيم، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان بنحوه، وقال القرطبي: "وفي هذا الحديث مقال ولا يصح من جهة إسناده".
(3/230)
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل. فروى لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد في قوله: { أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } قال: هو مثل ضُرب، ولم ينزل شيء.
رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. ثم قال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا القاسم -هو ابن سلام-حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنزل عليهم.
وقال أيضًا: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن؛ أنه قال في المائدة: لم تنزل.
وحدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل.
وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم. ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، قال: لأنه تعالى أخبر بنزولها بقوله (1) تعالى: { إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا القول هو -والله أعلم-الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة. ويقال إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود، عليهما السلام، فالله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهَيْل، عن عمران بن الحكم، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك قال: "وتفعلون؟" قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال: " بل باب التوبة والرحمة".
__________
(1) في د: "في قوله".
(3/231)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
ثم رواه أحمد، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من حديث سفيان الثوري، به. (1)
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) }
هذا أيضًا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
وقال السُّدِّي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا.
قال ابن جرير: هذا هو الصواب، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا. واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين:
أحدهما: أن الكلام لفظ المضي.
والثاني: قوله: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ } و { إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ }
وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي، ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية: التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات.
والذي (2) قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم: أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله، مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة، قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يُدْعَى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه، فيقِر بها، فيقولُ: { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } الآية [المائدة: 110] ثم يقول: { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون: نعم، هو
__________
(1) المسند (1/242) والمستدرك (1/53) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/152) من طريق سفيان به، وقال الهيثمي في المجمع (10/196): "رجاله رجال الصحيح".
(2) في د: "فالذي".
(3/232)
أمرنا بذلك، قال: فيطول شعر عيسى، عليه السلام، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده. فيجاثيهم بين يدي الله، عز وجل، مقدار ألف عام، حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار"، وهذا حديث غريب عزيز. (1)
وقوله: { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن أبي هريرة قال: يلقى عيسى حجته، ولقَّاه الله في قوله: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله: { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي آخر الآية.
وقد رواه الثوري، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن طاوس، بنحوه.
وقوله: { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } أي: إن كان صَدَرَ مني هذا فقد علمته يا رب، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته؛ ولهذا قال: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } بإبلاغه { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي: ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه: { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي: هذا هو الذي قلت لهم، { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أي: كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم، { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شُعْبَة قال: انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان فأملاه علي سفيان وأنا معه، فلما قام انتسخت من سفيان، فحدثنا قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال: "يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله، عز وجل، حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده، وإن أول الخلائق يُكْسى إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
ورواه البخاري عند هذه الآية عن الوليد، عن أبي شعبة -وعن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، به. (2)
وقوله: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن
__________
(1) تاريخ دمشق (19/128 القسم المخطوط) والمختصر لابن منظور (29/54).
(2) مسند الطيالسي برقم (2638) وصحيح البخاري برقم (4625) ورواه مسلم في صحيحه برقم (3023).
(3/233)
التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الآية لها شأن (1) عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فُضَيْل، حدثني فُليَت العامري، عن جَسْرة العامرية، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال: "إني سألت ربي، عز وجل، الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا". (3)
طريق أخرى وسياق آخر: قال أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا قُدَامة بن عبد الله، حدثتني جَسْرة بنت دجاجة: أنها انطلقت معتمرة، فانتهت إلى الربذة، فسمعت أبا ذر يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلي، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو. وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة. فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود: أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود بيده: لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت: بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: "دعوت لأمتي". قلت: فماذا أَجِبْتَ؟ -أو ماذا رُدَّ عليك؟ -قال: "أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلْعة تركوا الصلاة". قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: "بلى". فانطلقتُ مُعْنقًا قريبًا من قَذْفة بحجر. فقال عمر: يا رسول الله، إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نَكَلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع فرجع، وتلك الآية: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (4)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فرفع يديه فقال: "اللهم أمتي". وبكى، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم-فاسأله: ما يبكيه؟ فأتاه جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل:
__________
(1) في د: "نبأ".
(2) في د: "أن النبي".
(3) المسند (5/149).
(4) المسند (5/149).
(3/234)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. (1)
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا ابن هُبَيْرة (2) أنه سمع أبا تميم الجَيْشاني يقول: حدثني سعيد بن المسيب، سمعت حذيفة بن اليمان يقول: غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نَفْسه قد قبضت فيها، فلما رفع رأسه قال: "إن ربي، عز وجل، استشارني في أمتي: ماذا أفعل بهم؟ فقلت: ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك. فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال: لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفًا، مع كل ألف سبعون ألفا، ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليّ فقال: ادع تُجب، وسل تُعْطَ". فقلت لرسوله: أومعطي ربي سؤلي؟ قال: ما أرسلني إليك إلا ليعطيك، ولقد أعطاني ربي ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمشي حيًا صحيحًا، وأعطاني ألا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيّب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيرًا مما شُدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج". (3)
{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) }
يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم (4) فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين، الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه، عز وجل، فعند ذلك يقول تعالى: { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
قال الضحاك، عن ابن عباس يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم.
{ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي: ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون، رضي الله عنهم ورضوا عنه، كما قال تعالى: { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة: 72].
وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا فقال: حدثنا أبو سعيد الأشَجُّ، حدثنا المحاربي، عن لَيْث، عن عثمان -يعني ابن عُمَيْر أبو اليقظان -عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم يتجلى لهم الرب
__________
(1) ورواه مسلم في صحيحه برقم (202) من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب بنحوه.
(2) في د: "ابن ميسرة".
(3) المسند (5/393) وقال الهيثمي في المجمع (2/287): "فيه ابن لهيعة وفيه كلام".
(4) في د: "لعيسى".
(3/235)
تعالى فيقول: سلوني سلوني أعطكم". قال: "فيسألونه (1) الرضا، فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني أعطكم. فيسألونه الرضا"، قال: "فيشهدهم أنه قد رضي عنهم". (2)
وقوله: { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي: هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات:61]، وكما قال: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26].
وقوله: { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرف فيها القادر عليها، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير له ولا وزير، ولا عديل، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، فلا إله غيره ولا رب سواه.
قال ابن وَهْب: سمعت حُيَيّ بن عبد الله يحدث، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عَمْرو قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة. (3)
__________
(1) في د: "فيسألون".
(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/150): حدثنا عبد الرحمن المحاربي، فذكره من حديث طويل، وعثمان بن عمير أبو اليقظان الكوفي قال الذهبي: ضعفوه -أي الأئمة- فقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو أحمد الزبيدي: كان يؤمن بالرجعة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أحمد والدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي: "رديء المذهب، يؤمن بالرجعة، على أن الثقات قد رووا عنه مع ضعفه". ميزان الاعتدال (3/50).
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (3063) عن قتيبة، عن عبد الله بن وهب به، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
(3/236)
[بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله] (1)
تفسير سورة الأنعام
[وهي مكية] (2)
قال العَوْفيّ وعِكْرمة وعَطاء، عن ابن عباس: أنزلت سورة الأنعام بمكة.
وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجّاج بن مِنْهال، حدثنا (3) حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح (4)
وقال سفيان الثوري، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة [واحدة] (5) وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة (6)
وقال شريك، عن ليث، عن شهر، عن أسماء قالت: نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا (7) ما بين السماء والأرض (8)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من د، أ.
(3) في م: "عن".
(4) المعجم الكبير (12/215) ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 129) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص 157) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد به، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف.
(5) زيادة من أ.
(6) رواه الطبراني في المعجم الكبير (24/178) من طريق قبيصة عن سفيان به. وقال الهيثمي في المجمع (7/20): " فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق".
(7) في أ: "طبقوا".
(8) قال الفاضل محمد بن رزق طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (1/258): "الحديث في إسناده ثلاثة ضعفاء في الحفظ وهم المذكورون قبل أسماء، وبالإضافة إلى هذا، ففيه علل أخرى:
الأولى: لفظة: "في مسير" دخلت على أحدهم من حديث نزول المائدة المروي عند أحمد وغيره من حديث ليث عن شهر عن أسماء حيث قالت: "إنى لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله صلى الله علية وسلم، إذ أنزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة". أخرجه أحمد (6/455): حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية يعنى شيبان عن ليث به.
الثانية: أن ذكر نزول الأنعام هنا وهم في الأصل من ليث أو شهر، ولا دخل لشريك فيه، فقد رواه أحمد بن منيع. (انظر: "إتحاف المهرة" 74/ب/4) والطبراني (24/178)، وابن مردويه (انظر: "الدر" 3/2) وعلقه ابن كثير -والله أعلم- نقلا من تفسيره 3/233 من طريق الليث عن شهر عن أسماء قالت: "نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم، جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة". ورواه عن ليث سفيان الثوري وإسحاق بن يوسف. والذي من هذا الطريق هو ذكر نزول المائدة كما تقدم، وإنما دخل الوهم في ذلك على ليث أو شهر، وحديث أسماء فيما بعد الهجرة بالتأكيد والأنعام مكية بلا خلاف، ولولا أن ثقل المائدة ليس فضلا خاصا بها بل هو للقرآن جملة؛ لكنت ذكرت شواهد حديث أسماء في ذلك عند سورة المائدة.
الثالثة: وهم شريك في جعل الحديث عن أسماء، وإنما هو من مراسيل شهر أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (265/أ/4) أخبرنا جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب: "نزلت سورة الأنعام ومعها زجل من الملائكة قد نظموا السماء الدنيا إلى الأرض"، وفيه ليث وشهر وكلاهما ضعيف من قبل حفظه، وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد (انظر: "الدر" 3/3).
============
المائدة - تفسير القرطبي
114- {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} الأصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من {يا} {رَبَّنَا} نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل: خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه؛ فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش:
تهدي رؤوس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطى المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة؛ كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم: ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر:
لعلك باك إن تغنت حمامة ... يميد بها غصن من الأيك مائل
وقال آخر:
وأقلقني قتل الكناني بعده ... فكادت بي الأرض الفضاء تميد
ومنه قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } . وقال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة، مثله {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} بمعنى مرضية و {مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق. قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً} {تَكُونُ} نعت لمائدة وليس بجواب.
(6/367)
وقرأ الأعمش {تَكُنْ} على الجواب؛ والمعنى: يكون يوم نزولها {عِيداً لأَوَّلِنَا} أي لأول أمتنا وآخرها فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قال الجوهري وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم؛ ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية قال:
عيدية أرهنت فيها الدنانير
وقد تقدم وقرأ زيد بن ثابت {لأَوَّلانَا وَآخِرِنَا} على الجمع قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم. {وَآيَةً مِنْكَ} يعني دلالة وحجة. {وَارْزُقْنَا} أي أعطنا. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي خير من أعطى خير من ورزق لأنك الغني الحميد.
115- {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}
(6/368)
قوله تعالى {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤاله عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير قال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فالذي عليه الجمهور وهو الحق نزولها لقوله تعالى: {إني منزلها عليكم} وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه وقيل: وعدهم بالإجابة فلما قال لهم: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} الآية استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا: لا نريد هذا؛ قاله الحسن. وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت
قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل: "صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم" فصاموا ثلاثين يوما وقالوا: يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وذكر أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" له: حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح وهو سربال من مسوح أسود ولِحاف أسود فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع
(6/369)
على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية. فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها؛ فقال عيسى: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى" فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك فقال عيسى: "أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها" فقال الحواريون: يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى صلوات الله عليه فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كله البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون قال الثعلبي: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فبلغ ذلك اليهود فجاؤوا غما ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون وهو رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى صلوات الله عليه: "أما افترقتم بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا" فقال شمعون: وإله بني إسرائيل ما أردت بذلك سوءا فقالوا: يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام: "يا سمكة احيي بإذن الله" فاضطربت السمكة طرية تَبِصُّ عيناها، ففزع الحواريون فقال عيسى: "ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا" وقال: "لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا
(6/370)
ولا من طعام الجنة ولكنه شيء ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت" فقال عيسى: "يا سمكة عودي كما كنت" فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون: يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال عيسى: "معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها" فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مَثُلَة وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان وأهل الماء الأصفر، وقال: "كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه" وقال: "يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم" فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يتجشؤون فبرئ كل سقيم أكله منه واستغنى كله فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاؤوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفيء الفيء موضعه وقال الثعلبي: فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام "يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء" فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء وشككوا والناس فقال الله يا عيسى: "إني آخذ بشرطي" فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالأكباء والأكباء هي الكناسة واحدها كبا بعدما كانوا يأكلون الطعام الطب وينامون على الفرش اللينة فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول"ألست بفلان" ؟ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام فلبثوا كذلك سبعة أيام ومنهم من يقول: أربعة أيام،
(6/371)
ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا؟ الأرض ابتلعتهم أو ما صنعوا؟!.
قلت: في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده وعن ابن عباس وأبي عبدالرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية: كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام؛ وذكره الثعلبي وقال عمار بن ياسر وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه: أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير" قال أبو عيسى: هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة حدثنا حميد بن مسعد قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا وقال سعيد بن جبير: أنزل على المائدة كله شيء إلا الخبز واللحم. وقال عطاء: نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم. وقال كعب: نزلت المائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم.
قلت: هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها؛ لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب: اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا: نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان؛ ورياضا خضرا وعبقريا قال: فدعا الله فإذا
(6/372)
عين ساحة ورياض خضر وعبقري ثم قال أحدهم سلوني فأدعوا الله لكم بما شئتم فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم؛ فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال: فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر.
مسألة: جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم والسفرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب خرج أبو عبدالله الترمذي الحكيم: حدثنا محمد بن بسار قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يونس عن قتادة عن أنس قال ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق قال: قلت لأنس فعلام كانوا يأكلون ؟ قال: على السفر قال محمد بن بشار: يونس هذا هو أبو الفرات الإسكاف.
قلت: هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه: حسن غريب قال الترمذي أبو عبدالله: الخوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم وما كانت العرب لتمتهنها وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله: ولا في سكرجة لأنها أوعية الأصباغ وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم وكان يقول: "انهسوا اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ" فإن قيل: فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال: لو كان الضب حراما
(6/373)
ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ خرجه مسلم وغيره. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة" خرجه الثقات وقيل: إن المائدة كل شيء يمد ويبسط مثل المنديل والثوب وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل: مائدة، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا: سر كاتم وهو مكتوم وعيشة راضية وهي مرضية وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا: رجل مشؤوم وإنما هو شائم وحجاب مستور وإنما هو ساتر قال فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه والمائدة ما مد وبسط والسفرة ما أسفر عما في جوفه وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها وعن الحسن قال: الأكل على الخوان فعله الملوك وعلى المنديل فعل العجم وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة والله أعلم.
116- {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريح وأكثر المفسرين: إنما يقال له هذا يوم القيامة وقال السدي وقطرب قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت؛ واحتجوا بقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} فإن {إِذْ} في كلام العرب لما مضى. والأول أصح يدل عليه ما قبله من قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} ا لآية
(6/374)
وما بعده {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} . وعلى هذا تكون {إِذْ} بمعنى {إِذْا} كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} أي إذا فزعوا وقال أبو النجم:
ثم جزاه الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السماوات العلا
يعني إذا جزى وقال الأسود بن جعفر الأزدي:
فالآن إذ هازلتهن فإنما ... يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا
يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع وفي التنزيل {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} ومثله كثير وقد تقدم. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع الثاني: قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده، وادعوا عليه ما لم يقل فإن قيل فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له.
قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} خرج الترمذي عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فلقاه الله" {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآية كلها قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين: أحدهما: تنزيها له عما أضيف إليه الثاني خضوعا لعزته وخوفا من سطوته ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال: {سُبْحَانَكَ} ثم قال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أن ادعى لنفسي ما ليس من حقها يعني أنني
(6/375)
مربوب ولست برب وعابد ولست بمعبود ثم قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فرد ذلك إلى علمه وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها. ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي تعلم ما في غبيي ولا أعلم ما في غيبك وقيل: المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقيل: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل: تعلم سري ولا أعلم سرك لأن السر موضعه النفس وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة
قلت: والمعنى في هذه الأقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. {إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.
117- {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني في الدنيا بالتوحيد. { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} {أَنِ} لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} . ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلوا كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين.
قوله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي حفيظا بما أمرتهم. {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} {مَا} في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} قيل: هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى
(6/376)
فلما رفعتني إلى السماء قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه وفاة الموت وذلك قوله تعالى: {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} يعني الذي ينيمكم ووفاة الرفع قال الله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} . وقوله {كُنْتَ أَنْتَ} "أنت هنا" توكيد {الرَّقِيبَ} خبر {كُنْتَ} ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم؛ وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة لأنها في موضع الرقيب من علو المكان. {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي من مقالتي ومقالتهم وقيل على من عصى وأطاع؛ خرج مسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال: "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال: "فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"
118- {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} شرط وجوابه {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مثله روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح، والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(6/377)
واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل الهاء والميم في {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده؛ الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء وقد قرأ جماعة: {فإنك أنت الغفور الرحيم} وليست من المصحف ذكره القاضي عياض في كتاب "الشفا" وقال أبو بكر الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليس بمشاكل لقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لأن الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية
(6/378)
كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض خرج مسلم من غير طريق عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي" وبكى فقال الله عز وجل: "يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك" وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نفسه أولى لما بيناه وبالله التوفيق.
119- {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله لله وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم وقرأ نافع وابن محيصن {يَوْمَ} بالنصب ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر
(6/379)
فيوم ينفع خبر لـ {هَذَا} والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء وقال إبراهيم بن السري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فـ {يَوْمُ} ظرف للقول و {هَذَا} مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين وقيل: التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة وقال الكسائي والفراء: بني يوم ههنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
الزجاج ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لأن الفعل بمعنى المصدر وقيل: يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو {هَذَا} لأنه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول: القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول وقيل: يجوز أن يكون {هَذَا} في موضع رفع بالابتداء و {يَوْمِ} خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفيه قراءة ثالثة {يَوْمُ يَنْفَعُ} بالتنوين {الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الكلام حذف تقديره {فِيهِ } مثل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} وهي قراءة الأعمش.
قوله تعالى: {لَهُمْ جَنَّاتٌ} ابتداء وخبر. {تَجْرِي} في موضع الصفة. {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب
(6/380)
بعده أبدا {وَرَضُوا عَنْهُ} أي عن الجزاء الذي أثابهم به. {ذَلِكَ الْفَوْزُ} أي الظفر {الْعَظِيمِ} أي الذي عظم خيره وكثر وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.
120- {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. تمت سورة {المائدة} بحمد الله تعالى.
===============
المائدة - تفسير الطبري
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
القول في تأويل قوله : { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنزل عليهم من السماء.
(11/224)
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا". فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليومَ الذي نزلت فيه عيدًا نُعَظِّمه نحن ومن بعدَنا.
* ذكر من قال ذلك:
12997 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا" ، يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظِّمه نحن ومن بعدنا.
12998 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا" ، قال: أرادوا أن تكون لعَقِبهم من بعدهم.
12999 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا"، قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ ="وآخرنا" ، من بعدهم منهم.
13000- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، قال سفيان:"تكون لنا عيدًا" ، قالوا: نصلي فيه. نزلت مرتين.
* * *
وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعًا.
* ذكر من قال ذلك:
13001 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس أنه قال: أكل منها = يعني: من المائدة = حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس، كما أكل منها أولهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله"عيدًا" ، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهانًا.
* * *
(11/225)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: تكون لنا عيدًا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه، ونصلي له فيه، كما يعبد الناس في أعيادهم"، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في"العيد"، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال:"معناه: عائدة من الله علينا". وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل.
* * *
وأما قوله:"لأولنا وآخرنا"، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال:"تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"تكون لنا عيدًا" ، لأن ذلك هو الأغلب من معناه.
* * *
وأما قوله:"وآية منك" ، فإن معناه: وعلامةً وحجة منك يا رب، على عبادك في وحدانيتك، وفي صدقي على أنّي رسولٌ إليهم بما أرسلتني به (1) ="وارزقنا وأنت خير الرازقين" ، وأعطنا من عطائك، فإنك يا رب خير من يعطي، وأجود من تفضَّل، لأنه لا يدخل عطاءه منٌّ ولا نكَد. (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في"المائدة"، هل أنزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟
فقال بعضهم: نزلت، وكانت حوتًا وطعامًا، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداثٍ منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره.
ذكر من قال ذلك:
13002 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
(2) وانظر تفسير"الرزق" فيما سلف من فهارس اللغة (رزق).
(11/226)
شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نزلت المائدة، خبزًا وسمكًا.
13003 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية قال :"المائدة"، سمكة فيها طعم كلِّ طعام.
13004- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن فضيل، عن مسروق، عن عطية قال :"المائدة"، سمك فيه من طعم كل طعام.
13005- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال : نزلت المائدة خبزًا وسمكًا.
13006 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خِوانٌ عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا.
13007 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المنذر بن النعمان، أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا" ، قال: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات = قال الحسن، قال أبو بكر: (1) فحدَّثت به عبد الصمد بن معقل فقال: سمعت وهبًا، وقيل له: وما كان ذلك يُغْني عنهم؟ فقال: لا شيء، ولكن الله حَثَا بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكلوا جميعهم وأفضَلُوا.
13008 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال : هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.
13009 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) "أبو بكر" هو"عبد الرزاق" ، وهو: "عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري".
(11/227)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"مائدة من السماء" ، قال: مائدة عليها طعام، أُتوا بها؛ حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينزل عليهم. (1)
13010 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال:"لعلها لا تنزل غدًا!"، فرفعت.
13011 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عَمار بن ياسر، فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال فقلت: لا! قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال : فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإنّي أعذبكم عذابًا لا أعذّبه أحدا من العالمين! قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورَفعوا وخانوا، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم معشر العرب، كنتم تتْبعون أذنابَ الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهارون على العرَب، ونهاكم أن تكنزوا الذهبَ والفضة. وايمْ الله. لا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تكنزوهما، ويعذِّبكم عذابًا أليمًا.
13012 - حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر
__________
(1) في المطبوعة ، غير هذه العبارة تغيرًا شاملا مزيلا لمعناها ، فكتب: مائدة عليها طعام ، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم" ، وأثبت ما في المخطوطة.
أما المعنى الذي صحح الناشر الأول عليه هذا الأثر ، فهو مخالف لهذا كل المخالفة ، لأنه من قول من قال: "لم تنزل على بني إسرائيل مائدة" ، وهو قول مروي عن مجاهد فيما سيأتي رقم: 13021.
(11/228)
قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت المائدة خبزًا ولحمًا، وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادّخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير. (1)
13013- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا يوسف بن خالد قال ، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في المائدة قال : كانت طعامًا ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
13014- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار قال : نزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمر الجنة، فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبئوا وادَّخروا، فحوّلهم الله قردة وخنازير. (2)
13015 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمرُ من ثمار الجنة، وأمروا أن لا
__________
(1) الأثر: 13012 -"الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي البصري" ، ثقة. مضى برقم: 8281.
و"سفيان بن حبيب البصري" ، ثقة ، مضى برقم: 11302 ، 11321.
و"خلاس بن عمرو الهجري" ، مضى مرارًا ، منها: 4557 ، 5134 ، وغيرهما.
وكان في المطبوعة: "جلاس بن عمرو" ، وهو خطأ.
وهذا الخبر ، رواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه ، بإسناده عن الحسن بن قزعة ، ثم قال: "هذا حديث رواه أبو عاصم وغير واحد ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن عمار ، موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة = حدثنا حميد بن مسعدة ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن أبي عروبة ، نحوه ، ولم يرفعه. وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا".
وانظر الأثر التالي رقم: 13014 ، وهو الخبر الموقوف.
(2) الأثر: 13014 - انظر التعليق على رقم: 13012 ، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"جلاس بن عمرو" وهو خطأ.
(11/229)
يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، (1) وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك، أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغدٍ.
* * *
وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم.
* ذكر من قال ذلك:
13016 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل، اختلفت عليها الأيدي بكل طعام.
13017 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان قالا كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام.
13018- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة، في:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء" ، قالا رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم. (2)
* * *
وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة.
* * *
ثم اختلف قائلو هذه المقالة.
فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات.
* ذكر من قال ذلك:
13019 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أبلاهم الله به" ، وهو لا يصح ، صواب قراءته ما أثبت.
(2) الأثران: 13017 ، 13018 -"زاذان الكندي الضرير" ، مضى برقم: 9508.
(11/230)
عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء" ، قال: مثل ضُرب، لم ينزل عليهم شيء.
* * *
وقال آخرون: إنّ القوم لما قيل لهم:"فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذِّبه عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من العالمين" ، استعفَوْا منها فلم تنزل.
* ذكر من قال ذلك:
13020 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان الحسن يقول: لما قيل لهم:"فمن يكفر بعد منكم" ، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
13021- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن: أنه قال في المائدة: لم تنزل. (1)
13022 - حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنزل عليهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه.
وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.
وبعدُ، فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك:"إني منزلها عليكم"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره:
__________
(1) الأثر: 13021 -"منصور بن زاذان الثقفي الواسطي" ، أبو المغيرة. ثقة ، روى عن أبي العالية ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن ، وابن سيرين. مترجم في التهذيب.
(11/231)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
"إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول:"إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول:"فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين" ، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك.
* * *
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون كان سمكًا وخبزًا، وجائزٌ أن يكون كانَ ثمرًا من ثمر الجنة، وغيرُ نافع العلم به، ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرَّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) }
قال أبو جعفر: وهذا جواب من الله تعالى ذكره القومَ فيما سألوا نبيّهم عيسى مسألةَ ربهم، من إنزاله مائدة عليهم. فقال تعالى ذكره: إني منزلها عليكم، أيها الحواريون، فمطعمكموها ="فمن يكفر بعد منكم"، يقول: فمن يجحد بعد إنزالها عليكم، وإطعاميكموها - منكم رسالتي إليه، وينكر نبوة نبيِّي عيسى صلى الله عليه وسلم، ويخالفْ طاعتي فيما أمرته ونهيته ="فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين"، من عالمي زمانه. ففعل القوم، فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم، فيما ذكر لنا، فعذبوا، فيما بلغنا، بأن مُسِخوا قردة وخنازير، كالذي:-
13023 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إني منزلها عليكم" الآية، ذكر لنا أنهم حوِّلوا خنازير.
(11/232)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
13024- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي المغيرة القوّاس، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشدّ الناس عذابًا ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. (1)
13025- حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن عوف قال : سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إنّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة: من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون. (2)
13026 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فمن يكفر بعد منكم" ، بعد ما جاءته المائدة ="فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين" ، يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدًا من العالمين غير أهل المائدة.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"،"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله".
* * *
__________
(1) الأثران: 13025 ، 13026 -"أبو المغيرة القواس" ، روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه عوف. وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: "لا أعلم أحدًا يسميه". ضعفه سليمان التيمي ، ووثقه ابن معين. مترجم في الكنى للبخاري: 70 ، وابن أبي حاتم 4/2/439.
(2) الأثران: 13025 ، 13026 -"أبو المغيرة القواس" ، روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه عوف. وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: "لا أعلم أحدًا يسميه". ضعفه سليمان التيمي ، ووثقه ابن معين. مترجم في الكنى للبخاري: 70 ، وابن أبي حاتم 4/2/439.
(11/233)
وقيل: إن الله قال هذا القولَ لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
13028 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" ، قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أنّ عيسى أمرَهم بذلك، فسأله عن قوله فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" إلى قوله:"وأنت على كل شيء شهيد" .
* * *
وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
13029 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" ، قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقرَّ له بالعبودية على نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلا.
13030 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال : قال الله: يا عيسى، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟ فأُرْعِدت مفاصله، وخشي أن يكون قد قال، فقال: سبحانك، إن كنت قلته فقد علمته = الآية.
13031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر،
(11/234)
عن قتادة في قوله:"يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" ، متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول:"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" ؟
= فعلى هذا التأويل الذي تأوَّله ابن جريج، يجب أن يكون"وإذ" بمعنى: و"إذا"، كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ، [سورة سبأ: 51]، بمعنى: يفزعون، وكما قال أبو النجم:
ثُمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنَّا إذْ جَزَى... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلا (1)
والمعنى: إذا جزى، وكما قال الأسود: (2)
فَالآنَ ، إذْ هَازَلْتُهُنَّ ، فإنَّمَا... يَقُلْنَ: ألا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا !!ٌٌ (3)
بمعنى: إذا هازلتهن.
__________
(1) الأضداد لابن الأنباري: 102 ، والصاحبي: 112 ، واللسان (طها) وسيأتي بعد قليل في هذا الجزء ص: 317 ، بزيادة بيت. وقوله: "العلالي" ، جمع"علية" (بكسر العين ، وتشديد اللام المكسورة ، والياء المشدودة): وهي الغرفة العالية من البيت. وأرد بذلك: "في عليين" ، المذكورة في القرآن. وقد قال هدبة من خشرم أيضًا ، فتصرف: كأنَّ حَوْطًا، جزاهُ اللهُ مَغْفِرَةً ... وَجَنَّةً ذاتَ عِلِّيٍّ وأشْرَاعِ
و"الأشراع" ، السقائف.
(2) هو الأسود بن يعفر النهشلي ، أعشى بني نهشل.
(3) ديوان الأعشين: 293 ، والأضداد لابن الأنباري: 101 ، من قصيدة له ، ذهب أكثرها فلم يوجد منها في الكتب المطبوعة ، غير هذا البيت ، وخمسة أبيات أخرى ، في ديوانه ، وفي العيني (هامش خزانة الأدب 4: 103) ، وهي أبيات جياد: صَحَا سَكَرٌ مِنْه طَوِيلٌ بِزَيْنَيَا ... تَعَاقَبَهُ لَمَّا اسْتَبَانَ وجَرَّبَا
وَأَحْكَمَهُ شَيْبُ القَذَالِ عَنِ الصِّبَا ... فَكَيْفَ تَصَابِيه وَقَدْ صَار أَشْيَبَا?
وَكَان لَهُ، فِيمَا أَفَادَ، خَلاَئِلٌ ... عَجِلْنَ، إذَا لاقَيْنَهُ، قُلْنَ: مَرْحَبَاٌ!!
فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بهِ ... أصَعَّدَ فَي عُلْوِ الهَوَى أم تَصَوَّبَا?
طَوَامِحُ بالأَبْصَارِ عَنْه، كَأَنَّمَا ... يَرَيْنَ عَلَيْهِ جُلَّ أَدْهَمَ أجْرَبَا
(11/235)
وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا، وجَّه تأويل الآية إلى:"فمن يكفر بعدُ منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين" في الدنيا = وأعذبه أيضًا في الآخرة:"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك، قولُ من قال بقول السدي، وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وأن الخبرَ خبرٌ عما مضى، لعلَّتين:
إحداهما: أن"إذْ" إنما تصاحب = في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها = الماضيَ من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم، (1) وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، (2) أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر.
والأخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
* * *
فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟
قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل:
__________
(1) انظر ما سلف من القول في"إذ" و"إذا" 1: 349 - 444 ، 493/3: 92 ، 98/6: 407 ، 550/7 : 333/9 : 627. وانظر ما سيأتي ص: 317.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فتوجيه" بالفاء ، والجيد ما أثبت.
(11/236)
أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه، كما يقول القائل لآخر:"أفعلت كذا وكذا"؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له:"أفعلته"، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه.
والآخر: إعلامه أنّ قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده، وبدّلوا دينهم بعده. فيكون بذلك جامعًا إعلامَه حالَهم بعده، وتحذيرًا له قيله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين"، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به (2) = ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق"، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك، وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ = (3) "إن كنت قلته فقد علمته"، يقول: إنك لا يخفى عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به.
* * *
القول في تأويل قوله : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى، أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به، فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت
__________
(1) في المطبوعة: "وتحذيره" ، غير ما كان في المخطوطة لغير طائل.
(2) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف 1: 474 - 476 ، 495/2 : 537/6 : 423.
(3) في المطبوعة: "فهل يكون للعبد" ، وفي المخطوطة: "فيكون يكون للعبد" ، هكذا ورجحت قراءتها كما أثبتها.
(11/237)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
قلته فقد علمته" . ثم قال:"تعلم ما في نفسي"، يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: ا"تخذوني وأمي إلهين من دون الله"، كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ ="ولا أعلم ما في نفسك"، يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه ="إنك أنت عَلام الغيوب"، يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم:"اعبدوا الله ربي وربكم" ="وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم"، يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم (2) ="فلما توفيتني" ،
__________
(1) انظر تفسير"علام الغيوب" فيما سلف قريبًا: 211 = وتفسير"الغيب" 1: 236 ، 237/6 : 405/10 : 585.
(2) انظر تفسير: "شهيد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) = وتفسير"ما دام" فيما سلف 10: 185/ 11 : 74.
(11/238)
يقول: فلما قبضتني إليك (1) ="كنت أنت الرقيب عليهم" ، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، (2) لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم.
وفي هذا تبيانُ أن الله تعالى ذكره إنما عرّفه أفعالَ القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله".
="وأنت على كل شيء شهيد" يقول: وأنت تشهد على كل شيء، لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيتُ وشهدت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله:"كنت أنت الرقيب عليهم" ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13032 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدى:"كنت أنت الرقيب عليهم" ، أما"الرقيب"، فهو الحفيظ.
13033 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كنت أنت الرقيب عليهم" ، قال: الحفيظ.
* * *
وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربَّه من الله تعالى، توقيفًا منه له فيه. (3)
* ذكر من قال ذلك:
13034 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن معمر،
__________
(1) انظر تفسير"توفاه" فيما سلف 6: 455 - 461/8 : 73/9 : 100.
(2) انظر تفسير"الرقيب" فيما سلف 7 : 523.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "توفيقًا" (بالفاء قبل القاف) ، في هذا الموضع وما يليه.
وهو خطأ من الناسخ والناشر لا شك فيه ، صوابه ما أثبت. يقال: "وقفت الرجل على الكلمة توقيفًا" ، إذا علمته الكلمة لم يكن يعلمها ، أو غابت عنه. أي أنها كانت من تعليم الله إياه ، لم يقلها من عند نفسه.
(11/239)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
عن ابن طاوس، عن أبيه:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" ، قال: الله وقَّفَه. (1)
13035- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري قال ، قرئ على سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه طاوس قال : احتج عيسى، والله وقّفه:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، الآية.
13036 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال : قال الله تعالى ذكره:"يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" ؟ قال: فأُرعدت مفاصله، وخشى أن يكون قد قالها، فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" .
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها ="فإنهم عبادك"، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به ="وإن تغفر لهم"، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم ="فإنك أنت العزيز"، (2) في
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "الله وفقه" ، وانظر التعليق السالف ، وكذلك ما سيأتي في الأثر التالي.
(2) انظر تفسير"العباد" ، و"المغفرة" ، و"العزيز" ، و"الحكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) ، (غفر) ، (عزز) ، (حكم).
(11/240)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه ="الحكيم"، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب، كالذي:-
13037 - حثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم" ، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام ="فإنك أنت العزيز الحكيم" . وهذا قول عيسى في الدنيا.
13038 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" ، قال: والله ما كانوا طعَّانين ولا لعَّانين.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"هذا يوم ينفع الصادقين". فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة:(هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ)، بنصب"يوم".
* * *
وقرأه بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة، وعامة قرأة أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ، برفع"يوم". فمن رفعه رفعه ب"هذا"، وجعل"يوم" اسمًا، وإن كانت إضافته غير محضة، لأنه قد صار كالمنعوت. (1)
__________
(1) في المطبوعة: "لأنه صار" ، أسقط"قد".
(11/241)
وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل"اليوم" و"الليلة"، عملهم فيما بعدها. إن كان ما بعدها رفعًا رفعوها، كقولهم:"هذا يومُ يركب الأمير"، و"ليلةُ يصدر الحاج"، و"يومُ أخوك منطلق". وإن كان ما بعدها نصبًا نصبوها، وذلك كقولهم:"هذا يومَ خرج الجيش، وسار الناس"، و"ليلةَ قتل زيد"، ونحو ذلك، وإن كان معناها في الحالين"إذ" و"إذا".
* * *
وكأن من قرأ هذا هكذا رفعًا، وجَّه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة.
* * *
وكذلك كان السدي يقول في ذلك.
13039 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال الله:"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" ، هذا فصل من كلام عيسى، وهذا يوم القيامة.
* * *
يعني السدي بقوله:"هذا فصل من كلام عيسى" : أن قوله:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" إلى قوله:"فإنك أنت العزيز الحكيم"، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة.
* * *
وأما النصب في ذلك، فإنه يتوجه من وجهين:
أحدهما: أن إضافة"يوم" ما لم تكن إلى اسم، تجعله نصبًا، لأن الإضافة غير محضة، وإنما تكون الإضافة محضة، إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير"اليوم" في ذلك:"الحين" و"الزمان"، وما أشبههما من الأزمنة، كما قال النابغة:
(11/242)
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا... وَقُلْتُ ألَمَّا تَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ (1)
والوجه الآخر: أن يكون مرادًا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن، يومَ ينفع الصادقين = فيكون"اليوم" حينئذ منصوبًا على الوقت والصفة، بمعنى: هذا الأمر في يوم ينفع الصادقين صدقهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب:( هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) ، بنصب"اليوم"، على أنه منصوب على الوقت والصفة. لأن معنى الكلام: إنّ الله جل وتعالى ذكره أجاب عيسى حين قال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته" ، إلى قوله:"فإنك أنت العزيز الحكيم" ، فقال له عز وجل: هذا القولُ النافعُ = أو هذا الصدق النافع = يوم ينفع الصادقين صدقهم. ف"اليوم" وقت القول والصدق النافع.
* * *
فإن قال قائل: فما موضع"هذا"؟
قيل: رفع.
فإن قال: فأين رَافعه؟
__________
(1) ديوانه: 38 ، ومعاني القرآن للفراء 1: 327 ، وسيبويه 1: 369 ، والخزانة 3: 151 والعيني (هامش الخزانة) 3 : 406/ 4 : 357 ، وسيأتي في هذا التفسير 19: 88/ ثم 30 : 57 ، (بولاق) ، ورواية أبي جعفر هنا"ألما تصح" كرواية الفراء ، وفي سائر المراجع"ألما أصح". وهما روايتان صحيحتا المعنى.
وهذا البيت من قصيدته التي قالها معتذرا إلى النعمان بن المنذر ، متنصلا مما قذفه به مرة بن ربيعة عند النعمان ، يقول قبله: فَكَفْكَفْتُ مِنِّي عَبْرَةً فَرَدَدْتُهَا ... على النَّحْرِ، مِنْها مُسْتَهِلٌّ ودامِعٌ
يقول: عاقبت نفسي على تشوقها إلى ما فات من صباي ، فقد شبت وشابت لداتي ، وقلت لنفسي: ألم تفق بعد من سكرة الصبا ، وعهد الناس بالمشيب أنه يكف من غلواء الشباب!
(11/243)
قيل: مضمر. وكأنه قال: قال الله عز وجل: هذا، هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، كما قال الشاعر: (1)
أَمَا تَرَى السَّحَابَ كَيْفَ يَجْرِي ?... هذا، وَلا خَيْلُكَ يَا ابْن بِشْرِ
يريد: هذا هذا، ولا خيلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك، في الآخرة عند الله ="لهم جنات تجري من تحتها الأنهار" ، يقول: للصادقين في الدنيا، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ثوابًا لهم من الله عز وجل على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله، فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه ="خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها ="أبدًا"، دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. (2)
وقد بينا فيما مضى أن معنى"الخلود"، الدوام والبقاء. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين
__________
(1) لم أعرف هذا الراجز
(2) انظر تفسير"أبدًا" فيما سلف 9: 227/10: 185.
(3) انظر فهارس اللغة فيما سلف (خلد).
(11/244)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ="ورضوا عنه" ، يقول: ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه (1) ="ذلك الفوز العظيم"، يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، (2) وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا.
* * *
القول في تأويل قوله : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيها النصارى،"لله ملك السموات والأرض" ، يقول: له سلطان السموات والأرض (3) ="وما فيهن" ، دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم، ودون أمه، ودون جميع من في السموات ومن في الأرض، فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهن، وعيسى وأمُّه من بعض ذلك بالحلول والانتقال، يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال، أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن. ينبِّههم وجميعَ خلقه على موضع حجته عليهم، ليدَّبروه ويعتبروه فيعقلوا عنه ="وهو على كل شيء
__________
(1) انظر تفسير"الرضا" فيما سلف 6 : 262/9 : 480/10 : 144.
(2) انظر تفسير"الفوز". فيما سلف 7: 452 ، 472/8 : 71 .
(3) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 8: 480 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(11/245)
قدير"، (1) يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، قادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم، لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده، لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة.
* * *
(آخر تفسير سورة المائدة) (2)
__________
(1) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة (قدر).
(2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه:
"آخر تفسير سورة المائدة صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم يَتْلُوهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ، تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْعَامِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمينَ" ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق