Translate

الخميس، 8 يونيو 2023

النور الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى الجزء الأول

النور الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى   الجزء الأول 

https://www.albayan.ae/polopoly_fs/1.2154061.1475840224!/image/image.jpg

النور الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى

 الجزء الأول قدم له فضيلة الشيخ محمد حسان 

و فضيلة الشيخ محمود المصري

كتبه أمين بن الحسن الأنصاري

تقديم الكتاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللَّه تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللَّه فلا مُضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 103 ] . { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النساء : 1 ] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 70، 71 ] . أما بعد : فإن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة ، وتلك الشريعة تنظم شئون الحياة ولا يقبل اللَّه من قومٍ شريعتهم حتى تصحّ عقيدتهم . فالتوحيد ليس أمرًا ثانويًّا حتى نؤجله أو نؤخره ، بل هو الأساس الذي يقوم عليه الدين كله ، ومن أجل ذلك ظل النبي ﷺ يربي أصحابه على التوحيد ثلاث عشرة سنة في مكة . وظل النبي ﷺ يربي أصحابه على التوحيد حتى آخر لحظة في حياته ؛ لأن قضية التوحيد هي التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض وأرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة والنار . والتوحيد الذي تثبته كلمة التوحيد ينقسم إلى ثلاث أقسام وهي : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو موضوع تلك الرسالة المباركة . وهذا الباب كم زلت فيه أقدام وكم ضلَّت فيه أفهام . فتوحيد الأسماء والصفات : (( هو إفراد اللَّه تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته بحيث يؤمن العبد بما أثبت اللَّه لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله ﷺ من الأسماء والصفات على الوجه الذي أراد اللَّه ورسوله ﷺ وعلى الوجه اللائق به من غير إثبات مثيل له ؛ لأن إثبات المثيل لله تعالى شرك به ))( ) . قال الإمام الشنقيطي - رحمه اللَّه - في رسالته القيمة (( الأسماء والصفات نقلًا وعقلًا )) : اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف . واعلموا أن مبحث آيات الصفات دل القرآن العظيم أنه يتركز على ثلاث أسس ، من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه والسلف الصالح ، ومن أخل بواحدٍ من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل .

وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها القرآن العظيم . الأول : تنزيه اللَّه جل وعلا أن يُشبه شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين ، وهذا الأصلُ يدل عليه قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، { لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، { فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [ النمل : 74 ] . الثاني من هذه الأسس : هو الإيمان بما وصف اللَّه به نفسه ؛ لأنه لا يصف اللَّه أعلمُ باللَّه من اللَّه : { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [ البقرة : 140 ] . والإيمان بما وصفه به رسوله ﷺ لأنه لا يصف اللَّه بعد اللَّه أعلم باللَّه من رسول الله الذي قال اللَّه في حقه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 3 - 4 ] . الثالث من هذه الأسس : قطع الطمع عن إدراك كيفية ذات اللَّه عز وجل : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [ طه : 110 ] . وها نحن نتعايش بقلوبنا من خلال تلك السطور مع تلك الرسالة الرقيقة للأخ الحبيب / أمين بن الحسن الأنصاري ، حفظه اللَّه ، حيث يأخذ بقلوبنا لتلك الواحة الغنَّاء التي حوت من الأزهار أجملها ، ومن الرياحين أطيبها ، ومن المياه أعذبها ، لنتعرف على شرحٍ ممتعٍ لأسماء اللَّه الحسنى . فأسأل اللَّه عز وجل أن ينفع بتلك الرسالة كما نفع بأصولها ، وأن يجزي مؤلفها خير الجزاء ، وأن يرزقنا التوحيد الخالص ، وأن يحشرنا يوم القيامة مع سيد الموحدين محمد بن عبد اللَّه - عليه أفضل الصلاة والتسليم . وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . وكتبه الفقير إلى عفو الرحيم الغفار محمود المصري ( أبو عمار )

مقدمة فضيلة الشيخ / محمد حسان الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ وبعد . فإنه لا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بتحقيق التوحيد ... الذي من أجله خلق الله الأرض والسماوات .. وهو محض حق الله على جميع المخلوقات .. ولأجله بعث الله الرسل وجاءت جميع الرسالات . وبه انقسم الناس إلى شقي وسعيد .. وقريب وبعيد .. ومقبول وطريد .. وبه انفصلت دار الكفر عن دار الإيمان ، وتميزت دار النعيم من دار الجحيم !! وذلك لأن التوحيد هو أصل الدين وأساسه .. ورأس أمره .. وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنه متشعبة منه مكملات له .. فهو دين شامل ومنهج حياة متكامل !! ومن أعظم وأجل وأشرف أبوابه باب توحيد الأسماء والصفات ، وهو إفراد الله جل جلاله بأسماء الجلال وصفات الكمال ، والإيمان بها كما جاءت في القرآن والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ثم التعبد بها وبمقتضياتها للملك القدير . وهذا الباب من أشرف وأجل أبواب التوحيد لأنه يتعلق بذات الله جل وعلا ومعرفة أسمائه الحسنى وصفتاته العلا معرفة صحيحة صادقة تدحض الشرك والتعطيل والتشبيه والتمثيل والإلحاد والتأويل امتثالاً عملياً لقول الرب القدير " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " . والحق أقول : كم ضلت في هذا الباب أفهام ! وكم زلت فيه أقلام وأقدام! والموفق من وفقه الله تعالى للفهم عن الله ورسوله ﷺ. إذ أن سوء الفهم عن الله ورسوله ﷺ أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً وما وقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع في القديم والحديث ما وقعوا فيما وقعوا إلا بسوء الفهم عن الله ورسوله ﷺ . لذا نرى الإمام البخاري يترجم في صحيحه في كتاب العلم بابا بعنوان :" باب الفهم في العلم " وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " . ولقد وفق الله أخانا الحبيب الشيخ / أمين – حفظه الله فقدم لنا هذا البستان الماتع في هذا الباب الجليل بعد مقدمة في غاية الأهمية في الأبواب الثلاثة الأولى بأسلوب جميل سهل ثم شرح الأسماء الحسنى بمنهاجية جمعت بين التأصيل العلمي والأسلوب المنهجي والبيان الرقراق الوعظي ، فبدأ بالتأصيل اللغوي والشرعي للاسم ، ثم بالأدلة الشرعية ثم بالآثار الإيمانية لهذا الاسم الكريم فجزاه الله خير الجزاء . وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنه صالح الأعمال وأن يقر أعيننا جميعاً بعودة الأمة إلى التوحيد الخالص بشموله وكماله وأن يرزقنا وإياه الإخلاص في القول والعمل وألا يجعل حظنا من ديننا قولنا وأن يحسن نياتنا وأعمالنا وأن يختم لنا وله ولجميع المسلمين بخاتمة الموحدين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.

وكتبه / أبو أحمد

محمد حسان – القاهرة / شوال / 1423هـ

هذا الكتاب قال تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وعبادة الله مستحيلة على من لا يعرفه ، ولذلك كان أول ما فرضه الله على خلقه معرفته قال تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله " (محمد : 19 ) وقال أبو القاسم الأصبهانى : " ولو أراد رجل أن يتزوج إلى رجل أو يزوجه أو يعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته واسم أبيه وجده وسأل عن صغير أمره وكبيره . فالله الذى خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها" ومن أجل ذلك فقد أصدرت هذا المؤلف المتواضع فى أسماء الله الحسنى راجيا أن يجعلنى الله سببا فى معرفته وحبه وعبادته لدى خلقه وقد قسمت الكتاب إلى اربعة أبواب رئيسية وهى كالتالى . 1- الباب الأول : فضائل الأسماء الحسنى 2- الباب الثانى : قواعد فى الأسماء الحسنى 3- الباب الثالث : أربعة تنبيهات هامة وهى 1- إحصاء الأسماء الحسنى "معناه وأنواعه" 2- الإلحاد فى الأسماء الحسنى "معناه وأنواعه" 3- الدعاء بالأسماء الحسنى "معناه وأنواعه" 4- النهى عن إطلاق الأسماء الخاصة بالله على خلقه 4- الباب الرابع : شرح الأسماء الحسنى من خلال عدة 1- المعنى اللغوى للإسم 2- المعنى الشرعى للإسم 3- الدليل من القرآن أو صحيح السنة على ورود الإسم 4- آثار الإيمان المترتبة على معرفة الإسم 5- "ليس كمثله شئ" فى كل أسمائه وصفاته تبارك وتعالى. وإقرأ فى هذا الجزء من هذه الأسماء " الرحمن – الرحيم – الملك – القدوس – الغنى – الوهاب – الأعلى – الشافى – الغفور – الودود – الواسع "

المقدمة بسم اللَّه ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . نحمد الله ، ونستعينه ونستغفره ، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده اللَّهُ فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ... وبعد : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 103 ] . { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النساء : 1 ] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 70، 71 ] . ثم أما بعد ، فإن أصدق الحديث كلام اللَّه ، وخير الهدي هدي محمد ( عليه الصلاة والسلام ) ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ... وبعد : أيها الأحبة في اللَّه ، إني والله لسعيد بلقائكم من خلال هذه السلسلة الطيبة (( سلسلة أسماء اللَّه الحسنى )) ، والتي أسميتها (( النور الأسنى في شرح أسماء اللَّه الحسنى )) ، والتي نحاول أن نقترب من خلالها من أسماء الله الحسنى بشيء من الشرح لمعانيها الجميلة ، وفوائدها الجليلة ، فكل اسم فيها كالكوكب الساطع ، والنجم اللامع ، تهدي الحائرين ، وتضيء الطريق للسائرين إلى رب العالمين . كالبدر حيث التفتَّ رأيتَه يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا

كالشمس في كبد السماء وضوئها يغشى البلادَ مشارقًا ومغاربًا

وقد سبقني في التأليف في أسماء اللَّه الحسنى عددٌ من أكابر العلماء الأجلاء، وقد أبلوْا فيها بلاءً حسنًا ، (( نسأل اللَّه عز وجل أن يرحمهم رحمة واسعة ، وأن يجزيهم عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرًا )) ، وقد اختلفت اتجاهاتُ هؤلاء العلماء في تناول الأسماء الحسنى ، فمنهم من اهتم ببيان الأسماء الحسنى وجمعها من آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وبيان الطرق الضعيفة في الحديث والتحذير منها ، ومنهم من كان شغله الشاغل شرح وتوضيح القواعد التي لا تُعْلَم الأسماء الحسنى إلا من خلالها ، واتجه فريقٌ آخر إلى كشف عقائد الفِرَق التي ضلَّت بسوء اعتقادهم في أسماء اللَّه الحسنى وصفاته العُلى لجهلٍ منهم ، أو لهوى في نفوسهم ، فمن تلك الفرق من وقع في التأويل ، ومنهم من انزلق في التعطيل ، وآخرون ذهبوا إلى التكييف والتشبيه ، فتَصَدى لهم علماء الأمَّة المخلصون ، فَبَيَنُوا ضلالَهم ، وفنَّدوا أباطيلهم ، وأوضحوا أخطائهم ، وحذروا عامة الأمة منهم ، وجاهدوهم بالحجة الواضحة ، والأدلة الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة ، وأما البعض الآخر فقد رأى أن الطريقة المُثْلَى لتقريب الناس إلى ربهم هي تعريفهم بأسماءِ اللَّهِ الحُسنى وصفاته العُلى ببيان معانيها وشرحها ، وما يترتب على ذلك من إيمانٍ صحيحٍ وعملٍ صالح . وقد أحسن كلٌ من هؤلاءِ العلماء في مجاله ، شريطة اتباعه لكتاب اللَّه وسنة رسوله وبفهم السلف الصالح من هذه الأمة من أصحاب رسول الله ( عليه الصلاة والسلام ) ومن تبعهم بإحسان ممن شُهد لهم بالثقة والعدالة واجْتَنَبُوا البدعة والضلالة ، فقد قال النبي ( عليه الصلاة والسلام ) : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تَمسَّكُوا بها ، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ))( ). وقال ابن مسعود ( رضي اللَّه عنه ): ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتم)( ). وقال عمر بن عبد العزيز ( رضي اللَّه عنه ) : ( قف حيث وقف القوم ، فإنهم عن علم وَقَفُوا ، وبِبصرٍ نافذٍ كَفُّوا ، وهم على كَشْفِها كانوا أقوى ، وبالفضلِ لو كان فيها كانوا أحْرَى ، فلأن قلتم : حَدَثَ بعدهم ، فما أحْدَثَه إلا من خالف هدْيَهم ، ورَغِبَ عن سنتهم ، ولقد وصَفُوا منه ما يَشْفِي ، وتكلَّموا منه بما يكْفِي ، فما فوقهم مُحسِّر ، وما دونَهُم مُقصِّر ، لقد قصَّر عنهم قومٌ فجفوا وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم )( ). وقد حاولت في هذا المؤلَّف المتواضع أن أجمع للقارئ المسلم أكبر فائدة ممكنة ، مستفيدًا ممن سبقني من العلماء( ) ، راجيًا عموم النفع للمسلمين ، مُقتصرًا على الصحيح من الأدلة من كتاب اللَّه وسنة رسوله ( عليه الصلاة والسلام ) على قدر الاستطاعة( ) ؛ إذ عَهِدتُ إلى بعض الثقات من أهل الحديث تحقيق أحاديث الكتاب ، ولكن لظروفهم وضيق الوقت فقد أُجِّل بعضها إلى طبعة قادمة إن شاء اللَّه . وقد ذكرت سند الحديث وتخريجه كما جاء في المصدر الذي نقلته منه ، وربما لم أذكر المصدر نفسه كما حدث في كتاب صحيح الأحاديث القدسية فقد نقلت منه أكثر الأحاديث القدسية ، ونقلت سند المؤلف من غير عزوها إليه في مصدره . وصدَّرت هذا الكتاب بدراسة بعض فضائل الأسماء الحُسنى وبعض القواعد الهامة في معرفتها ، ثم شرعت في تناول كل اسم من الأسماء الحسنى ببعض الشرح لمعانيه وآثار الإيمان به، ضارعًا إلى اللَّه تبارك وتعالى أن يرزقني وإياكم معرفته وحبه، وأن يجعلنا سببًا في ذلك للناس أجمعين . كما أرجو من إخواني النصح في اللَّه عز وجل ، فمن وجد خيرًا في هذا المُؤَّلف المتواضع فليدعُ اللَّهَ لكل من ساهم فيه من تأليف وكتابة أو نصيحة وإرشاد بالمغفرة والسَّدَاد ، وأن يعطيه لغيره لتعمَّ به الفائدة إن شاء الله ، ومن وجد تقصيرًا وخللًا فليبادر بالنصح حتى نصلحه إن شاء اللَّه ، فقد قال النبي ﷺ : (( الدين النصيحة )) . قالوا : لمن ؟ قال : (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ))( ) . وقال عمر رضي الله عنه : (( رحم اللَّه امرءًا أهدى إليَّ عيوبي )) . والكمال لله وحده . وقد قسَّمتُ الكتاب عدة أجزاء ، وهذا هو الجزءُ الأول منه ، وقد قسَّمته كذلك إلى أربعة أبواب رئيسية ، وهي كالتالي : (( الباب الأول )) : من فضائل الأسماء الحسنى . (( الباب الثاني )) : قواعد في الأسماء الحسنى . (( الباب الثالث )) : أربعة تنبيهات هامة : وهي : 1- الإحصاء للأسماء الحسنى ( معناه وأنواعه ) . 2- الدعاء بالأسماء الحسنى ( معناه وأنواعه ) . 3- الإلحاد في الأسماء الحسنى ( معناه وأنواعه ) . 4- النهي عن التسمي بأسماء الله الخاصة به وتغيير الاسم من أجل ذلك . (( الباب الرابع )) : شرح الأسماء الحسنى : وذلك في خمس خطوات : الأولى : المعنى اللغوى للاسم . الثانية : الدليل الشرعى للاسم . الثالثة : المعنى الشرعى للاسم . الرابعة : آثار الإيمان بالاسم . الخامسة : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وإن كان من توفيق فمن الله وحده ، وإن كان من تقصيرٍ فمن نفسي ومن الشيطان ، ونسأل الله ( عز وجل ) أن يهدينا إلى سواء السبيل ، وأن يرزقنا حبه وحب من يحبه وحب عملٍ يقربنا إلى حبه ، وأن يلهمنا فعل الخيرات وترك المنكرات ، وحب المساكين ، فإنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل . والحمد لله رب العالمين . وكتبه / الفقير إلى اللَّه أمين بن الحسن الأنصاري القاهرة : في شوال 1423هـ ت : 4010543

* *

الباب الأول (( من فضائل الأسماء الحسنى ))

أيها الأحبة في اللَّه : أسماء الله الحسنى كلها خير ، بل كل الخير ليس إلا ثمرة لها ، وكل الفضل ليس إلا زهرة من شجرتها . يا مُنْبِتَ الأزهارِ عاطرةِ الشذا

هذا الشذا الفواحُ نفحُ شذاكا يا مُجْرِي الأنهارِ ما جريانُها إلا انفعالة قطرةٍ لِنداكا

فتعالوا بنا أيها الأحبة ولتمشي أقدامُ المحبةِ على أرضِ الاشتياق إلى جنة أسماء ربنا تبارك وتعالى ، ولندخل بساتينها النضرة ، ولنقطف من فضائلها زهرة ، ولنرتشف من عسلها قطرة . - أولاً : (( الأسماء الحسنى من أعظم أسباب دخول الجنة )) : لمن عرفها وآمن بها وأدَّى حقَّها . فعن أبي هريرة (( رضي اللَّه عنه )) قال: قال رسول اللَّه ﷺ: (( لله تسعةٌ وتسعون اسمًا مائة إلاَّ واحدة لا يحفظها أحدٌ إلا دخل الجنة )) . وفي رواية : (( من أحصاها دخل الجنة ))( ) . ثانيًا : الأسماء الحسنى تعرِّفك باللَّه عزَّ وجلَّ : عن أبي بن كعب رضي اللَّه عنه أن المشركين قالوا للنبي ﷺ : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }( ) . ثالثًا : معرفة الأسماء الحسنى أصل عبادة الله تبارك وتعالى : قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني في بيان أهمية معرفة الأسماء الحُسنى : قال بعض العلماء : أول فرض فرضه اللهُ على خلقه معرفته ، فإذا عرَفه الناس عبدوه ، وقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } [ محمد : 19 ] . فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها ، فيعظموا اللَّه حقَّ عظمته . قال : ولو أراد رجل أن يتزوج إلى رجل أو يُزَوِّجه أو يُعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته ، واسم أبيه وجدِّه ، وسأل عن صغير أمره وكبيره ، فاللَّه الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطته أولى أن نعرف أسماءه ، ونعرف تفسيرها( ) . اهـ . فمثلًا : فمن عرف أنه حييُّ كريم قوي فيه رجاؤه وازداد فيه طمعه ، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( إن ربكم تبارك وتعالى حَييٌّ كريم يستحي مِن عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا ))( ) . رابعًا : الأسماء الحسنى أعظم الأسباب لإجابة الدعاء : قال تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] . فدعاء الله بأسمائه الحسنى هو أعظم أسباب إجابة الدعوة وكشف البلوة ، فإنه يرحم ؛ لأنه الرحمن ، الرحيم ، ويغفر ؛ لأنه الغفور ، وكان النبي ﷺ يسأل اللَّه بأسمائه الحُسنى ويتوسل إليه بها ، فكان يقول : (( أسألك بكل اسم هو لك ، سمَّيت به نفسك ، أو علَّمته أحدًا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي ... ))( ) . وقد دخل رسول اللَّه ﷺ المسجد ، فسمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت اللَّه لا إله إلا أنت ، الأحد الصمد الذي لم يَلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد . فقال : (( لقد سألت اللَّه بالاسم الذي إذا سُئِل به أعطى ، وإذا دُعي به أجاب )) . وفي رواية فقال : (( والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب ، وإذا سُئِل به أعطى )) . وفي رواية لأحمد : أنه سمع رجلاً يقول بعد التشهد : اللهم إني أسألك يا اللَّه الأحد الصمد ، الذي لم يَلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد أن تغفر لي ذنوبي ، إنك أنت الغفور الرحيم . فقال رسول اللَّه ﷺ : (( قد غُفِرَ له ، قد غُفِرَ له )) . ثلاثًا( ) . خامسًا : إن اللَّه يحب من أحب أسماءَه الحسنى : عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي ﷺ بعث رجلاً على سَريَّة ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ﷺ ، فقال : (( سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ )) فسألوه ، فقال : (( لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحبُّ أن أقرأ بها )) . فقال النبي ﷺ : (( أخبروه أن الله يحبه )) ( ) . وفي حديث آخر ، قال الرجل : إني أحبها . فقال : (( حُبُّك إياها أدخلك الجنة ))( ) . سادسًا: دعاء اللَّه بأسمائه الحسنى أعظم أسباب تفريج الكروب وزوال الهموم: عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه ﷺ أنه قال : (( ما أصاب أحدًا قط همٌ ولا حزنٌ ، فقال : اللهمَّ إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أَمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكُمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميَّت به نفسك ، أو علَّمته أحدًا من خلقِك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب اللَّه همَّه وحزنه وأبدل مكانه فرحًا )) . فقيل : يا رسول اللَّه ، أفلا نتعلمها ؟ فقال : (( بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها )) ( ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبيُّ ﷺ يدعو عند الكرب يقول : لا إله إلا اللَّه العظيمُ الحليمُ ، لا إله إلا الله ربُّ السماواتِ والأرضِ ورب العَرشِ العظيم( ) . وفي رواية للنسائي وصححه الحاكم عن علي: لقنني رسول الله ﷺ هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل كرب أو شدة أن أقولها . سابعًا : الأسماء الحسنى أصل كل شيء : قال تعالى : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [ الحديد : 3 ] . وقال رسول اللَّه ﷺ : (( اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ... ))( ) . فإن اللَّه هو الأول فلم يسبقه شيءٌ ، وكل شيء دونه إنما هو من خلقه ومن ثمرة أفعاله ومن آثار أسمائه وصفاته . قال ابن القيم رحمه اللَّه : وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده ، فوجود من سواه تابع لوجوده ، تبع المفعول المخلوق لخالقه ، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه ، فالعلم بأسمائه تبارك وتعالى وإحصاؤها أصل لسائر العلوم ، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم ؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم ؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها( ) . ومن أمثلة ذلك : الأصل في الخلق أن اللَّه هو( ) (( الخالق )) ، فلا يوجد خلقٌ غير خلقه ، ولا يوجد خالق سواه . قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الرعد : 16 ] . والأصل في الرزق أن اللَّه هو الرزَّاق . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ] . فهو الرزَّاق ولا رازق سواه ، وكل رزق إنما هو رازقه ، وما من عطاءٍ إلا وهو الذي أعطاه ، قال تعالى على لسان نبيه موسى : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] . والأصل في الرحمة أن اللَّه تبارك وتعالى هو الرحمن والرحيم ، فكل رحمة مشتقة من رحمته ، فها هي الرحم قد اشْتق اسمها من اسمه الرحمن ، قال رسول اللَّه ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : (( أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسمًا من اسمي ... ))( ) . إخوتاه : كل ما نراه من رحمات بين الخلائق ليست إلا آثار رحمة واحدة لرب الأرض والسماوات ؛ اللَّه الرحمن الرحيم تبارك وتعالى . قال رسول اللَّه ﷺ : (( إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة )) - وفي حديث آخر : (( كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض - فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمةً واحدة )) . وفي رواية : (( إن للَّه مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها - وفي رواية : حتى ترفع الدابَّةُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ، وأخَّر اللَّهُ تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ))( ) . فكل رحمة مهما عظُمت إنما هي من اللَّه على الحقيقة ، فأعظم الناس رحمة بالناس هو رسول اللَّه ﷺ ، قد وصفه اللَّه بقوله : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، فما هذه الرحمة العظيمة والأخلاق الكريمة إلا نسيم من رحمة اللَّه عز وجل . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وقال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] . إخـوتـاه : كل الرحمات من اللَّه ، فلا يرسلها غيره ولا يمسكها سواه . قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 12 ] . فإذا لم يرحم اللَّه فمن إذًا الذي يرحم !! مددت يدي إليك ربي تضرعًا فإذا رددت فمن ذا يرحم

والأصل في المغفرة أن اللَّه هو الغفار ، والغفور ، قال تعالى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } [ آل عمران : 135 ] . وكل عفوٍ ومغفرة إنما يكون من مغفرة اللَّه وعفوه ، وهو الذي علَّم عباده كيف يعفون ويغفرون . قال تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [ النور : 22 ]. ثامنًا: معرفة اللَّه بأسمائه وصفاته هي أصل خشيته تبارك وتعالى: إن العلم بأسماء الله جل ثناؤه وصفاته ومعرفة معانيها يُحْدِثُ خشية ورهبة في قلب العبد ، فمن كان بالله أعرف فهو منه أخوف ، ومن كان به أعلم كان على شريعته أقوم ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] . قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية : إنما يخاف اللَّهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ بقدرته على ما يشاء من شيء وأنه يفعل ما يريد( ) . وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه : ليس العلم عن كثرة الرواية ، ولكن العلم الخشية( ) ، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] . ولذلك فقد كان رسول اللَّه ﷺ أشد الناس خشية للَّه تبارك وتعالى ؛ لأنه كان أعلم الناس به ، فقد قال النبي ﷺ : (( أنا أعلمكم باللَّه وأشدكم له خشية ))( ) . وفي حديث آخر قال ﷺ : (( إن أتقاكم وأعلمكم باللَّه أنا ))( ) . فمعرفة الله عز وجل أساس تعظيمه وخشيته وأعظم أسباب البعد عمَّا يغضبه . فقد قال النبي ﷺ : (( إن اللَّه أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول : سبحانك ما أعظمك ربَّنا ، فيُرد عليه : لا يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا ))( ) . أي : لو عَلِمَ الحالفُ باللَّه كذبًا عظمة اللَّه جل جلاله لخَشِيَه واتقاه وما اجترأ على هذا الفعل وأمثاله . تاسعًا : من عرف الأسماء الحسنى كما ينبغي فقد عرف كلَّ شيء : أيها الأحبة في اللَّه ، إن أسماء اللَّه الحسنى كلها حُسن وبركة ، ومن حُسنها أنها تعرفك بكل شيء على حقيقته من غير إفراطٍ ولا تفريط . فمن عرف أن اللَّه عزَّ وجلَّ هو الخالق ، عرف أن كل ما دونه مخلوق ، قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الرعد : 16 ] . ومن عرف أن اللَّه عز وجل هو الرزاق علم أن كل ما دونه مرزوق ، قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] ، وكذلك يعلم أنه لا يملك الرزق سواه ، قال تعالى : { وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [ النمل : 64 ] . ومن عرف أن اللَّه تبارك وتعالى هو الملك ، عرف أن كل ما دونه مملوك ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } [ المائدة : 17 ] . ولذلك قيل : مَن عرف ربه فقد عرف نفسه . فمن عرف ربه بالغِنى ، عرف نفسه بالفقر . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] . ومن عرف ربه بالبقاء عرف نفسه بالفناء . قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] . ومن عرف اللَّه بالعلم ، عرف نفسه بالجهل ، قال تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] . وحين ركب الخضر مع موسى عليهما السلام السفينة ، نظر إلى عصفور قد نقر في البحر نقرة أو نقرتين ، فقال الخضر لموسى (( عليهما السلام )) : (( ما علمي وعلمك من علم اللَّه إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ))( ) . فمن عرف اللَّه عزَّ وجلَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ، علم أنه بالكمال موصوف ، وبالإحسان والجمال والجلال معروف ، وعرف أيضًا نفسه بكل نقص وعيب ، إلا أن يرزقه الله عز وجل كمال الإيمان وصالح الأعمال فيورث له ذلك عبودية صادقة بالانكسار بين يدي الجبار تبارك وتعالى ، فيذل لعزته ويخضع لقوته . وهذا هو دأب الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، فها هو رسول اللَّه ﷺ يتعبد لربه بذلك فيقول : (( اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ... ))( ) . فلما عرف أن اللَّه هو ربه وإلهه وخالقه ، عرف نفسه بعبوديته له ، فقال: (( وأنا عبدك ... )) . وقال أيضًا في دعاء الاستخارة : (( فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ... )) . عاشرًا : حسن الظن( ) باللَّه عز وجل : ويُعد حسن الظن باللَّه تعالى ثمرة للفضيلة السابقة . فمن عرف غِنى الله وفقر خلقه ، وقدرة اللَّه وعجز خلقه ، وقوة اللَّه وضعف خلقه ، عرف مقدار افتقار الخلق لغنى الله ، وضعفهم لقوته ، وتواضعهم لعظمته ، وذلتهم لعزته ، تبارك وتعالى . فإذا تبين له ذلك على الحقيقة حال إذن يُعظِّم اللَّهَ وحده ويخافه ويصبح عبدًا له وحده ، فمن دخل قلبه اليقين على قدرة اللَّه ، خرج منه اليقين على قدرة الخلق ، ومن خشي اللَّه تبارك وتعالى خرجت من قلبه خشية مَنْ سواه ، فورث له ذلك حسنَ ظنه باللَّه عز وجل واعتصام به دون سواه وتوكل عليه دون غيره وسلم له في كل أمره ، وهذا بعينه ما حدث لرسول اللَّه ﷺ وصاحبه رضي الله عنه في الغار حين أحاط بهم المشركون ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لو نظر أحدهم أسفل قدميه لرآنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما ظنك باثنين اللَّه ثالثهما ))( ) . الحادية عشرة : لا يضر مع اسم اللَّه شيء : ومن فضائل أسماء اللَّه الحُسنى أنها يُستجلب بها الخير ويستدفع بها الشر. فاسم اللَّه يدفع( ) الضرر ويرفعه( ). فعن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه ( عليه الصلاة والسلام ) يقول : (( ما من عبدٍ يقول في صباح كل يوم ، ومساء كل ليلة : بسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، ثلاث مرات فيضره شيء ))( ) . الثانية عشرة : الأسماء الحسنى وأثرها في الحلال والحرام : ولم تقتصر فضائل الأسماء الحسنى وبركتها على حياة القلوب وتفريج الكروب ، بل وكذلك كان لها أعظم الأثر في الفقه ، فترى أن ذكر اسم اللَّه على شيء قد يفرق بين الحلال والحرام . فأحلّ اللَّهُ عز وجل الذبيحة التي ذُكِر اسمُه عليها ، بل وأمر بالأكل منها . قال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 118 ] . وعاتب من لا يأكل مما ذكر اسم اللَّه عليه ، قال تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] . وعن عدي بن حاتم قال : سألت النبي ﷺ قلت : أُرسِلُ كلابي المعلمة ؟ قال : (( إذا أرسلتَ كلابَك المعلمةَ وذكرتَ اسم اللَّه فأمسكن فكُل ))( ) . وقد نهى عن أكل اللحم أو الصيد الذي لم يُذكر اسمُ اللَّه عليه ، قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] . الثالثة عشرة : العلم بأسماء اللَّه الحسنى أعظم العلوم وأشرفها : إن أشرف العلوم هي العلوم الشرعية ، وأشرف العلوم الشرعية هو العلم بأسماء اللَّه الحسنى ، وصفاته العُلى ؛ لتعلقها بأشرف من يمكن التعلم عنه ؛ وهو اللَّه سبحانه وتعالى( ) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى : والقرآن فيه من ذكر أسماء اللَّه وصفاته وأفعاله ، أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة ، والآيات المتضمنة لذكر أسماء اللَّه وصفاته أعظم قدرًا من آيات المعاد ، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك - أي لأسماء الله وصفاته - كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي ﷺ أنه قال لأُبي بن كعب : (( أَتَدري أي آية من كتاب اللَّه معك أعظم ؟ )) . قال : قلت : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] )) . قال : فضرب في صدري وقال : (( واللَّه ليهنك العلم أبا المنذر ))( ) . وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ من غير وجه أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن( )( ) . الرابعة عشرة : بركة الأسماء الحسنى في المعيشة : قال تعالى : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 78 ] . ومن بركة الأسماء الحسنى أن الشيطان لا يقرب ما ذُكر عليه اسمُ الله ، قال رسول الله ﷺ : (( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ))( ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال : (( قال إبليس : يا رب ، ليس أحدٌ من خلقك إلا جعلت له رزقًا ومعيشة ، فما رزقي ؟ قال : ما لم يُذكرعليه اسمي ))( ) . الخامسة عشرة : بركة الأسماء الحسنى تلحق الذرية : فقد قال النبي ﷺ فيما يرويه عنه ابن عباس رضي اللَّه عنهما : (( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال : بسم اللَّه ، اللهمَّ جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولدُ في ذلك لم يضره شيطان أبدًا ))( ) . السادسة عشرة : أسماء اللَّه أعظم أسباب شفاء : فإن اللَّه تبارك وتعالى هو خالق البدن ويعلم دائَه ، وبيده وحده شفاؤه ، ودواؤه ، وخير دواء ، وأعظم شفاء هو أسماء اللَّه عز وجل ، ولذلك حين عاد جبريل عليه السلام رسولَ اللَّه ﷺ في مرضه لم يجد سببًا للشفاء خيرًا من أن يرقيه باسم اللَّه عز وجل . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبيَّ ﷺ فقال : يا محمد ، أشتكيت ؟ قال : (( نعم )) . قال : (( بسم اللَّه أرقيك ، من كل شيءٍ يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد ، اللَّه يَشْفِيك ، بسم اللَّه أرقيك ))( ) . السابعة عشرة : النجاة من الوسوسة : فمن عرف الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ثبت إيمانه وصدق يقينه ، فكان لمجاهدة الشيطان أشد وعلى دفع الوساوس أقوى . فعن أبي زميل قال : سألت ابن عباس ، فقلت : ما شيءٌ أجد في صدري؟ قال : ما هو ؟ قلت : واللَّه ما أتكلم به ، قال : فقال لي أشيءٌ من شك ؟ قال : وضحك ، قال : ما نجا من ذلك أحد . قال حتى أنزل الله عز وجل : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } الآية [ يونس : 94 ] ، قال : فقال لي : (( إذا وجدت في نفسك شيئًا ، فقُل : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3 ] ))( ) . * *

قواعد في أسماء اللَّه تعالى

القاعدة الأولى : أسماء اللَّه تعالى كلها حسنى( ) : أي بالغة في الحسن غايته ، وفي الجمال ذروته ، قال اللَّه تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه لا احتمالاً ولا تقديرًا . قال ابن القيم رحمه اللَّه : وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان

من بعض آثار الجميل فربها أولى وأجدر عند ذي العرفان

فجماله بالذات والأسماء والـ أوصاف والأفعال بالبرهان(2)

وقال أيضًا : أسماؤه أوصاف مدح كلُّها مشتقة قد حملت لمعاني(3)

ولحسن أسماء اللَّه معنيان : الأول : حُسْنَى في معناها وفي نفسها . الثاني : حُسْنَى في أثرها لمن تعبد للَّه بها . أما المعنى الأول : فإن أسماء اللَّه كلُّها حُسْنٌ وجمالٌ ، وخيرٌ وكمالٌ ، وقوةٌ وجلالٌ . مثال ذلك : (( الحي )) اسم من أسماء اللَّه تعالى ، متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسْبَق بعدم ولا يلحقها زوال ولا يطرأ عليها خلل . الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها . قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] ، وقال النبي ﷺ : (( إن اللَّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ))( ) . مثال آخر : (( العليم )) اسم من أسماء اللَّه تعالى متضمن للعلم الكامل الذي لم يُسبق بجهل ولا يلحقه نسيان ، قال اللَّه تعالى : { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى } [ طه : 52 ] . وعلمه عز وجل هو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً ، قال تعالى : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } . الوجه الثاني : أن أسماء اللَّه الحسنى كلها حُسن في آثارها وعواقبها( ). فمن ذلك : أولاً : أن من عرفها فقد عرف الله عز وجل ، فهي حُسنى في المقصد والثمرة التي هي معرفة اللَّه عز وجل . ثانيًا : أن اللَّه عز وجل وَعَد عليها بعظيم الثواب من دخول الجنة لمن أحصاها وحفظها ، فهي حُسنى في العاقبة والأجر لمن تعلَّمها وآمن بها وأدَّى حقَّها ، فقد قال النبي ﷺ : (( إن لله تسعةً وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة ))( ) . ثالثًا : ومن تمام أنها حُسنى أن اللَّه تبارك وتعالى لا يُدعى إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] . القاعدة الثانية : أسماء الله تعالى توقيفية : أي لا مجال للعقل فيها ؛ أي لا بد وأن تكون معرفتُها من خلال الأدلة الشرعية من القرآن وصحيح السنة المطهرة . قال السفاريني لكنها في الحق توقيفية لنــا بذا أدلة وفيــة وهذا لأسباب منها : الأول : أنها من أمور الغيب التي لا يَعلمها الخلقُ إلا أن يعلمهم اللَّهُ إياها من خلال الوحي إلى الأنبياء والرسل ، قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [ الجن : 26، 27 ] . الثاني : أن عقل الإنسان قاصرٌ لا يمكنه إدراك ما يستحقه اللَّه تعالى من الأسماء ، قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } ، وقال النبي ﷺ: (( لا أحصي ثناءً عليك ))( ) . لذلك يجب الوقوف في معرفة أسماء الله على الشرع ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } . ثالثًا : لأن القول على اللَّه بغير علم من أشد المحرمات : فتسمية اللَّه تعالى بما لم يُسمِّ به نفسه أو إنكار ما سمَّى به نفسه جناية في حقه تعالى وتَوَعَّدَ اللَّهُ من فعل ذلك بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [ الحج : 3، 4 ] . وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَمٍ لِلْعَبِيدِ } [ الحج : 8- 10 ] . وقال النبي ﷺ : (( من تعمَّد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار )) . هذا عقاب الكاذب على النبي ﷺ ، فكيف بمن يكذب على اللَّه عز وجل ؟! القاعدة الثالثة : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } : قال ابن القيم رحمه اللَّه( ) : لا شيء يشبه ذاته وصفاته سبحانه عن إفك ذى البهتان

فإن أسماء اللَّه الحسنى ، وصفاته العُلى ليس كمثلها شيءٌ من خلقه ، فينبغي الإيمان بها كما جاءت في الشرع بلا تكييف ، ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] . فينبغي إجراء النصوص على ظاهرها من غير إنكار ولا تأويل والإيمان بها كما أراد اللَّه عز وجل ورسوله ﷺ . قال الشافعي رحمه اللَّه : (( آمنت باللَّه وبما جاء عن الله ، على مراد الله ، وآمنت برسول الله ، وبما جاء عن رسول اللَّه ، على مراد رسول اللَّه ))( ). وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه في قول النبي ﷺ : (( إن اللَّهَ ينزل إلى سماء الدنيا .. )) ، و(( إن اللَّه يُرى في القيامة )) وما أشبه هذه الأحاديث : (( نؤمن بها ونصدق بها ، لا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد شيئًا منها ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، ولا نرد على رسول الله ﷺ ولا نصف اللهَ بأكثر مما وصف به نفسه بلا حدٍ ولا غاية : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ونقول كما قال ، ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك ، ولا يبلغه وصف الواصفين ، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شُنِّعَت ، ولا نتعدَّى القرآن والحديث ، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول ﷺ وتثبيت القرآن ))( ) . فسبحان اللَّه ، كيف يشبه المملوكُ مالكَه ، والمرزوقُ رازقَه ، والمخلوق خالقَه ؟! قال تعالى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] . مثال ذلك : للَّه سمع ، ولكنه ليس كسمع خلقه ، فسَمْعُ الناس يكون بجارحة تطرأ عليها الأمراض ويصيبها الخلل ، ثم إذا سمعت فإنها تسمع الصوت العالي وقد لا تسمع المنخفض وتسمع القريب ولا تسمع البعيد ، وتسمع الجهر ولا تسمع السر وتختلط عليها الأصوات فلا تميز بعضها عن بعض ، ثم يذهب ما تبقى منها ويفنى بالموت ، أين هذا من سمع اللَّه جل جلاله وتقدست أسماؤه ، فإنه يسمع ما تحت الأرض كما يسمع ما فوق السماء ، ويسمع الجماعة كما يسمع الفرد ، والقريب والبعيد عنده سواء ، والسر عنده مثل العلن ، قال تعالى : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، وقال تعالى : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الملك : 13 ] . فلا تشغله الأصوات الكثيرة عن الصوت المنفرد ، ولا أصوات صاخبة عن صوت منخفص ، فإن اللَّه تبارك وتعالى يسمع دبة النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . وانظر إلى عائشة رضي الله عنها وهي تسبِّحُ ربها لِما علمت من إحاطة سمعه بالأصوات ، فتقول : (( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي ﷺ تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا }( ) [ المجادلة : 1 ] )) . مثال آخر : للَّه وجه ، ولكنه ليس كوجوه الخلق ، فمن وجوه الخلق ما يكون دميمًا ، ولو كان جميلاً ، فهو جمالٌ بشريٌ ناقصٌ تأتي عليه الأغيار ، والحوادث ، فالمرض يُذْبلُ نضرَته ، والهِرَم يطفئ وضاءته ، ثم هو على كُلِّ الأحوال إلى فناء ، أين هذا من وجه اللَّه تبارك وتعالى الذي يفيض بالجلال ويستحى من جماله الجمال ، فقد قال النبي ﷺ : (( إن اللَّهَ جميلٌ يحب الجمال ))( ) . وقال النبي ﷺ وهو يصف جمال وجه اللَّه : (( حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ))( ) ، وجماله ثابتٌ لا يتغير ، ودائمٌ لا يفنى ، قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] . القاعدة الرابعة : الأسماء الحسنى ليست أعلامًا فقط ، ولكنها تحمل صفات ومعاني : قال ابن القيم رحمه اللَّه( ) : أسماءه أوصاف مدح كلها قد حملت لمعاني

والاسم العلم هو ما دل على صاحبه وعرَّفه وميَّزه عن غيره ، كأن يُسمى رجلٌ (( صادق )) أو (( كريم )) ، ولكنه ليس بالضرورة أن تكون صفتُه (( الصدق )) أو (( الكرم )) ، فقد يُسمى كريمًا ويكون بخيلاً في صفته ، أو يكون اسمه (( صادقًا )) ، والكذب من صفاته . أما أسماء اللَّه الحسنى فهي أعلام وأوصاف معًا ، تحمل معاني وتعبر عن صفات اللَّه التامَّة الكمال والجمال . فمثلاً : من أسماء اللَّه تعالى : الغفور ، والرحيم . قال تعالى : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . (( فهو الغفور )) فإنه يغفر الذنوب جميعًا ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . (( وهو الرحيم )) فرحمته وسعت كل خلقه ، قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } . مثال آخر : اسمه الخالق جل جلاله فإنه يحمل صفة الخلق ، قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ، وقال تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 2 ] ، وكذلك اسمه (( الكريم )) عز وجل ، فإن الخلق جميعًا يحيون من نعمه ويُرزقون من كرمه . قال النبي ﷺ : (( يد الله ملأى لا تغيضها( ) نفقة سَحَّاء( ) الليل والنهار )) . وقال : (( أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده ))( ). القاعدة الخامسة : باب الصفات أوسع من باب الأسماء : أي أن الصفات أكثر من الأسماء ، وذلك لأن كل الأسماء تحمل صفات - كما تقدم شرحه - فكل اسم تشتق منه الصفة التي يحملها ، ولكن لا يصح اشتقاق اسم من أسماء اللَّه تعالى من الصفات ، فكل اسمٍ يحمل صفة وليس كل صفة تحمل اسم . مثال ذلك : اسم اللَّه (( الرحمن )) يحمل صفة الرحمة ؛ لقوله تعالى : { فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } ، وكذلك اسمه (( العزيز )) يحمل صفة العِزة ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ يونس : 139 ] ، وهكذا . ولكن في الصفات ليس كذلك . مثال ذلك : أن للَّه صفة الكلام ؛ لقوله تعالى لنبيه موسى : { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [ الأعراف : 144 ] ، فهل يصح الادعاء بأن من أسماء اللَّه تعالى اسم (( المتكلم )) ؟ لا يصح بالطبع ، وكذلك صفة (( المكر )) و(( الكيد )) ، فقد ثبتت بالدليل من كتاب اللَّه ، فقال تعالى : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا } [ الطارق : 15، 16 ] ، فلا يصح أن يُقال أن من أسماء اللَّه (( الماكر )) أو (( الكائد )) . وذلك لأن أسماء اللَّه كلها حُسْنَى ، فكل ما تحمله من الصفات العُلَى ، أما الصفات في اللغة فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول : أن تكون صفات كمالٍ مطلق كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، فهي تثبت لله كلها ويُنفى عنه ما يضادها من صفات النقص مثل إثبات صفة الحياة ونفي صفة الموت ، كقوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] . الثاني : نقص مطلق كالعجز ، والموت ، والفقر ، فهي تُنْفَى عن اللَّه كلها ، ولكن يثبت لله تعالى ما يضادها . (( مثال ذلك )) : صفة الظلم فإنها تُنفى كلها عن اللَّه تبارك وتعالى ويثبت له العدل بل الكرم ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] ؛ لأن نفي النقص وحده لا يعني الكمال ، فلابد من نفي النقص وإثبات لضده . الثالث : صفات تحتمل كمالاً من وجه ونقصًا من وجه آخر ، فيُثْبَتُ لله تعالى فيها وجوه الكمال ، ويُنْفَى عنه منها وجوه النقص . مثال : (( المكر )) و(( الخداع )) فإنها لو كانت من ضعيف لا يقوى على أخذ حقه فهو نقص ، وإن كانت من منافق خبيث يمكر بالمؤمنين ويخادعهم لتحقيق غرض خبيث في نفسه فهو نقص وهو من مذموم الصفات وهذا وأمثاله يُنْفَى كلُّه عن اللَّه جل جلاله . أما إن كان (( المكر )) عقوبة بالماكرين وانتقامًا من المخادعين فهو من الكمال ، وإن كان بغير ظلم ولا ضعف فهو من الكمال ، وإن كان بعد التحذير والانذار والإمهال فهو تمام العدل والرحمة ، فهذا وأمثاله يُثْبَتُ لله جل جلاله { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً } [ الكهف : 49 ] ، { وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] . القاعدة السادسة : الأسماء الحسنى لا تزيد ولا تنقص : فإن أسماء اللَّه الحسنى بالغة في الحسن ذروته ، وفي الكمال غايته ، كمالاً لم يسبقه نقصان ولا يأتي عليه الأغيار في الأزمان ، فالزيادة تكون أحد أمرين : الأول : إما أن تكون الزيادة من أسماء الله حسنى أيضًا ، وهذا يستحيل في حق الله عز وجل ؛ إذ أن الأسماء الحسنى قد صُرفت كلُّها لله وحده سواءً التي سمَّى بها نفسه أو التي أنزلها في شرعه أو استأثر بها في علم الغيب عنده ، أو علَّمها لأحدٍ من خلقه . والثاني : أن تكون الزيادة ليست من الأسماء الحسنى ، وهذا لا يليق باللَّه جل جلاله وتقدَّست أسماؤه ، وأن الشر لا يصح صرفُه لله ، فقد قال النبي ﷺ : (( والشر ليس إليك ))( ) . القاعدة السابعة : هل حُصرت الأسماء الحسنى بعددٍ معين ؟ أسماء اللَّه تعالى غير محصورة بعدد معين ؛ لقوله ﷺ في الحديث المشهور : (( أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو علمته أحدًا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ... ))( ) . وما استأثر اللَّه تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به ، فأما قوله ﷺ : (( إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، مَن أحصاها دخل الجنة ))( ) . فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة : إن أسماء اللَّه تسعة وتسعون اسمًا من أحصاها دخل الجنة ، أو نحو ذلك . ونظير ذلك أن تقول : عندي مائة درهم أعددتُها للصدقة ، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة. ولم يصح عن النبي ﷺ تعيين هذه الأسماء ، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف( ) . * *

الباب الثالث أربعة تنبيهات هامة أولاً : من أحصاها دخل الجنة : عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال : (( إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة ))( ) . فما هو معنى الإحصاء( ) ؟ قيل في معنى الإحصاء عدة أقوال ؛ منها : الأول : أن يَعُدَّها حتى يستوفيها حفظًا ويدعو ربه بها ، ويثني عليه بجميعها ؛ كقوله تعالى : { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [ الجن : 28 ] . واستدل له الخطابي بقوله ﷺ - كما في الرواية الأخرى: (( من حفظها دخل الجنة ))( ) . وقال النووي : قال البخاري وغيره من المحققين : (( معناه حفظها ، وهذا هو الأظهر لثبوته نصًا في الخبر )) . وقال في (( الأذكار )) : وهو قول الأكثرين . وقال ابن الجوزي : (( من أحصاها )) أي : من عدها ليستوفيها حفظًا . وقد ردَّ هذا القول الحافظ ابن حجر ، فقال : وفيه نظر ؛ لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ : (( حفظها )) تعيين السرد عن ظهر قلب ، بل يحتمل الحفظ المعنوي( ) . يقصد - واللَّه أعلم - أن يحترم أسماء اللَّه ويوقرها ويحافظ على ما تقتضيه من معاني الإيمان ويعمل به . وقال الأصيلي : ليس المراد بالإحصاء عدَّها فقط ؛ لأنه قد يعدها الفاجر ، وإنما المراد العلم بها . الثاني : أن يكون المراد بالإحصاء (( الإطاقة )) ؛ كقوله تعالى : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } [ المزمل : 20 ] . وكقول النبي ﷺ : (( استقيموا ولن تحصوا ))( ) . أي : لن تبلغوا كل الاستقامة . وقال أهل اللغة : (( لن تحصوا )) أي: لا تحصوا ثوابه( ) . فيكون المعنى : أن يطيق الأسماء الحسنى ويُحسِن المراعاة لها وأن يعمل بمقتضاها ، وأن يعتبرها فيُلزم نفسَه بواجبها . فإذا قال : يا رحمن يا رحيم ، تذكر صفة الرحمة ، واعتقد أنها من صفات اللَّه سبحانه ، فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته ، وإذا قال : (( السميع البصير )) علمَ أنه يراه ويسمعه وأنه لا تخفى عليه خافية وأنه يعلم السر كما يعلم العلن ، ويعلم الباطن كما يعلم الظاهر ، فيحافظ على قدسيتها ويرعي حرمتها ، فيخافه في سره وعلنه ويراقبه في كافة أحواله ، فإذا حدثته نفسه بمعصيةٍ ذكَّرها بقدرة الله وعظمته وأسمائه وصفاته لعلها تنزجر كما قيل : إذا ما دعتك النفس إلى ريبة والنفس داعية إلى العصيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

الثالث : أن يكون الإحصاء بمعنى العقل والمعرفة : فيكون معناه أن من عرفها ، وعقل معانيها ، وآمن بها دخل الجنة وهو مأخوذ من الحصاة وهي العقل ، والعرب تقول : فلان ذو حصاة أي ذو عقل ومعرفة بالأمور( ) . الرابع : قال القرطبي : المرجو من كرم اللَّه تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على أحد هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة . وهذه المراتب الثلاثة للسابقين والصديقيين وأصحاب اليمين . ثانيًا : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : قال تعالى : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 180 ]. قال ابن السكِّيت : أن الملحد هو : المائل عن الحق ، المدخل فيه ما ليس منه ، والإلحاد في اللغة : هو الزيغ والميل والذهاب عن سنن الصواب ، ومنه يمسي الملحدُ ملحدًا ؛ لأنه مال عن طريق الحق . والإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها . قال ابن القيم رحمه اللَّه : أسماؤه أوصاف مدح كلها مشتقة قد حملت لمعان

إياك والإلحاد فيها إنه كفر معاذ اللَّه من كفران

وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشراك والتعطيل والكفران

والإلحاد في أسماء الله أنواع : الأول : أن تسمي الأصنام بها ، فسمى المشركون الأحجار والأشجار والأوثان التي كانوا يعبدونها (( آلهة )) ، وسمّوا اللات من (( الإله )) ، والعُزَّى من (( العزيز )) ، ومناة من (( المنان )) . فهذا إلحاد ؛ لأنهم عدلوا ومالوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة . الثاني : تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له (( أبًا )) ، وتسمية الفلاسفة له (( موجبًا بذاته )) ، أو (( علة فاعلة بالطبع )) ، وقول الكرامية أنه (( جسم )) ، وقول بعضهم إنه (( جوهر )) ، ونحو ذلك . وهذه الأسماء باطلة ؛ لأن أسماء اللَّه تعالى توقيفية ، فتسميته بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها ، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة يُنَزَه اللَّهُ تعالى عنها . الثالث : وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص ؛ كقول اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة -: إنه فقير ، وقولهم : إنه استراح بعد أن خلق الخلق ، وقولهم : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ، { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } . الرابع : تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها وأنها مجرد أعلام فقط لا تتضمن صفات ولا معاني وهو مذهب الجهمية وأتباعهم ، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم . ويقولون : لا حياة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به ، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعًا ولغة وفطرة ، وهو يقابل إلحاد المشركين ، فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء المعطلة سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها ، فكلاهما ملحدُ في أسمائه جل جلاله وتقدست أسماؤه. الخامس : تشبيه صفاته بصفات خلقه ، تعالى اللَّه عما يقول المُشَبِّهون علوًا كبيرًا ، قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، وهذا الإلحاد يقابل إلحاد المعطلة ، الذين سبق ذكرهم ، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها ، وهؤلاء شبَّهُوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه ، وقد صدق من قال : (( من شبه فكأنما يعبد صنمًا ، ومن عطل فكأنما يعبد عدمًا )) . السادس : الميل عن الصواب في نطق أسماء الله وتغيير حروفها من اللغة العربية التي أُنزل بها القرآن وجاءت به السنة المتضمنة لأسماء الله الحُسنى إلى لهجات أخرى مثل العامية ، كأن يقول الرجل : ( اللاه ) يقصد بها ( اللَّه ) ويقول : (( الأُدُّوس )) يقصد بها اسم الله تعالى (( القُدُّوس )) أو يقول : (( الجوى )) يقصد بها اسم الله (( القوي )) جل جلاله وتقدست أسماؤه ، وكذلك من يقول : (( الرَّزاء )) ، وهو يقصد بذلك اسم الله (( الرزَّاق )) ، تبارك وتعالى ، وهذا خطأ عظيم ، إذ أن معنى (( الرزاء )) أي : الذي يأتي بالمصائب والبلايا ، بخلاف الرزاق الذي يأتي بالرزق والخير ، وكذلك يقول الناس : (( الستار )) ، ولكن الصحيح هو (( الستير )) ، وهذه من الأخطاء التي يجب التنبيه عليها والتحذير منها واجتنابها بالذات لمن عرفها ويستطيع تغييرها إلى الصواب في النطق . السابع : إدخال أسماء لم يرد بها دليل صحيح في الأسماء الحُسنى كأن يطلق بعض الناس على اللَّه اسم (( الموجود )) أو (( المقصود )) أو (( المُهدي )) ، وكذلك اسم (( العال )) ، ولكن الذي ورد (( العلي ، والأعلى ، والمتعال )) ، كذلك (( الونيس )) ، و(( المُتجلِّي )) . أو كما يدعي الجهلاء من عباد القبور أن من أسمائه كلمة (( هو )) ، و(( هو )) معلوم أنه ضمير قد يضاف إلى أي غائب ، وهو ليس من أسماء الله تبارك وتعالى . ثالثًا : فادعوه بها وهذا من أعظم ثمرات معرفة الأسماء الحسنى ؛ إذ أنه لا يصح دعاءُ اللَّه تبارك وتعالى إلا بأسمائه الحُسنى وصفاته العلى . قال ابن القيم رحمه اللَّه : (( فلا يُثنى على الله إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ، وكذلك لا يُسئل إلا بها ))( ) . ودعاءُ اللَّه تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ثلاثة أنوع : الأول : دعاء الإيمان والعبادة : كما في قوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } [ مريم : 48 ] . قال ابن كثير رحمه اللَّه : أي اجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله : { وَأَدْعُو رَبِّي } أي : وأعبد ربي وحده لا شريك له( ). وكما في قوله جل وعلا: { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } [الجن: 20 ]. قال ابن كثير رحمه اللَّه : (( إنما أدعو ربي )) أي : إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه ولا أشرك به أحدًا( ). وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (( الدعاء هو العبادة ))( ) . الثاني : دعاء الحمد والثناء : وهو الدعاء الذي يُظهر العبدُ فيه محبَّتَه لربه بالثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وهذا هو أفضل الدعاء ؛ لقول النبي ﷺ : (( إن أفْضَلَ الذكر : لا إله إلا اللَّه ، وأفضل الدعاء : الحمد لله ))( ) . ولذلك فقد كان أفضل ما يقوله أهل الجنة وهم في أعظم نعمة وأكمل رحمة وقد امتلأت قلوبهم بحب ربهم هو (( الحمد لله )) ، قال تعالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] . الثالث : دعاء المسألة والطلب : وهذا كقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وكقوله جل وعلا : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] . فيكون دعاءُ المؤمنين لربهم بما عرفوا من أسمائه الحسنى وصفاته العُلى مما زادهم في كرمه طمعًا ، وفيما عنده رجاءً ، وعليه توكلاً فيطلبون منه المغفرة لأنه الغفور ، ويسألونه العفو لأنه العفو . وإليك أمثلة من هذا النوع من الدعاء : - عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : كان يُعدُّ لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم : (( رب اغفر لي وتُب عليَّ إنك أنت التواب الغفور ))( ) . ويسأل العفو لأنه العَفُو : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ، أرأيت إن علمتُ أيّ ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : (( قولي : اللهم إنك عفوٌ تحبُ العفو فاعفُ عني ))( ) . ويسأل الهبة ؛ لأنه الوهَّاب : فكان من دعاء سليمان عليه السلام : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] . ومن دعاء المؤمنين : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] . رابعًا : النهي عن التَسَمِّي بأسماء الله وتغيير الاسم من أجل ذلك : قال ابن كثير : (( والحاصل أن من أسماء اللَّه ما يُسَمَّى به غيره ، ومنها ما لا يُسمى به غيره ، كاسم (( اللَّه )) ، و(( الخالق )) و(( الرازق )) ونحو ذلك ))( ) . عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال : (( إن أخنع اسم عند اللَّه رجلٌ تَسَمَّى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله ))( ) . قال سفيان : مثل شاهان شاه . أي : ملك الملوك باللغة الفارسية ، و(( أخنع )) يعني : أوضع وأحقر ، وفي رواية : (( أغيظ رجل على اللَّه يوم القيامة وأخبثه )) وأغيظ من الغيظ ، وهو مثل الغضب والبغض ، فيكون بغيضًا عند اللَّه مغضوبًا عليه . واللَّه أعلم . قوله : (( أخبثه )) وهو يدل على أنه خبيث عند اللَّه فاجتمعت في حقه ثلاثة صفات ذميمة هي الخبث والذُّل وأنه بغيضًا إلى اللَّه ؛ لأنه نازع اللَّه بعض أسمائه وصفاته وأدَّعى لنفسه ما ليس له ؛ لأن الله هو خالق الخلق ، ومالك الملك كله على الحقيقة كما ورد في الحديث : (( اللهم رب كل شيء ، وملك كل شيء ، وإله كل شيء ))( ) . ولذلك يجب تغيير هذه الأسماء ؛ لأنها لا تُطْلَق إلا على الله عز وجل . عن هانئ بن يزيد والد شريح بن هانئ : أنه كان يُكنى أبا الحكم ، فقال له النبي ﷺ : (( إن اللَّه هو الحَكَم ، وإليه الحُكم ، فلم تكنى أبا الحكم ؟ )) . فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين . فقال ﷺ : (( ما أحسن هذا . فما لك من الولد ؟ )) قلت : شُريح ، ومسلم ، وعبد اللَّه ، قال : (( فمن أكبرهم ؟ )) قلت : شُريح . قال : (( فأنت أبو شريح ))( ) . * *

(( الرحمن - الرحيم )) جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه

أولاً : المعنى اللغوي : الرحمة : هي الرقة والتَّعَطُّف ، والاسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، و(( رحمن )) أشد مبالغة من (( رحيم )) ؛ لأن بناء (( فعلان )) أشد مبالغة من (( فعيل )) ونظيرهما نديم وندمان . وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا( ) . ثانيًا ورود الاسمين في القرآن الكريم : ذُكر (( الرحمن )) في القرآن سبعًا وخمسين مرة ؛ منها قوله تعالى : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ] . وأما اسمه (( الرحيم )) ، فقد ذُكر أكثر من مائة مرة ؛ منها : قوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 54 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] ، وقوله سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وهو كثير في القرآن ، انظر سورة (( البقرة )) ( 173 ، 182 ، 189 ) . معنى الاسمين في حق اللَّه تعالى : الاسمان مشتقان من الرحمة ، و(( الرحمن )) أشد مبالغة من (( الرحيم )) ، ولكن ما الفرق بينهما ؟ هناك ثلاثة أقوال في الفرق بين هذين الاسمين الكريمين: الأول : أن اسم (( الرحمن )) : هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة. و(( الرحيم )) : هو ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، فذكر الاستواء باسمه (( الرحمن )) ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، فخصَّ المؤمنين باسمه (( الرحيم ))( ) . ولكن قد يُردُّ على هذا القول بقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] . القول الثاني : هو أن (( الرحمن )) دال على صفة ذاتية ، و(( الرحيم )) دال على صفة فعلية . قال ابن القيم رحمه اللَّه: إن (( الرحمن )) دالٌ على الصفةِ القائمة به سبحانه، و(( الرحيم )) دال على تعلقها بالمرحوم (( أي بمن يرحمهم اللَّه )) ، فكان الأول للوصف والثاني للفعل . فالأول دال على أن الرحمة صفته ، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته . وإذا أردت فهم هذا فتأمَّل قوله : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ، ولم يجئ قط (( رحمن بهم )) فعُلِمَ أن (( رحمن )) هو الموصوف بالرحمة و(( رحيم )) هو الراحم برحمته( ). القول الثالث : أن (( الرحمن )) خاص الاسم عام المعنى ، و(( الرحيم )) عام الاسم خاص المعنى . إذ أن (( الرحمن )) من الأسماء التي نُهِيَ عن التسمية بها لغير الله تبارك وتعالى ، كما قال عز وجل : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 11 ] ، فعادل به الاسم الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهو (( اللَّه ))( ) . ولذلك قال ابن القيم رحمه اللَّه عن اسم (( الرحمن )) : ولما كان هذا الاسم مختصًا به تعالى حَسُنَ مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك . ولم يجيء قط تابعًا لغيره بل متبوعًا وهذا بخلاف العليم ، والقدير ، والسميع والبصير ، ونحوها ، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة ، فتأمل هذه النكتة البديعة( ) . وعن الحسن أنه قال : (( الرحمن )) اسم لا يستطيع الناسُ أن ينتحلوه ، تسمى به تبارك وتعالى ، ولذا لا يجوز أن يُصْرَف للخلق( ) . وأما (( الرحيم )) فإنه تعالى وصف به نبيَّه عليه الصلاة والسلام ، حيث قال: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، فيُقال : رجل رحيم ، ولا يقال : رحمن . قال ابن كثير : والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يُسمى به غيره ، ومنها ما لا يُسمى به غيره ، كاسم (( اللَّه )) ، و(( الرحمن )) ، و(( الخالق )) ، و(( الرزاق )) ، ونحو ذلك ، فلهذا بدأ باسم اللَّه ووصفه بالرحمن ؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم ؛ لأن التسمية أولاً تكون بأشرف الأسماء ، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص( ) . اهـ . من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين : أولاً : التعرُّف على اللَّه برحمته والإيمان بها . وسنحاول فيما يلي التعرض إلى جانبٍ من رحمة اللَّه عزَّ وجلَّ ، عسى أن ترق القلوبُ إلى خالقها وتشتاق النفوس إلى بارئها . 1- ربكم ذو رحمة واسعة : قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] . 2- رحمة اللَّه تغلب غضبه : قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ] . قال ابن كثير في هذه الآية : أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحسانًا وامتنانًا( ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : (( إن اللَّه لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه : إن رحمتي سبقت غضبي )) . وفي رواية : (( لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتابه هو يكتب على نفسه ، وهو وضع عنده على العرش : إن رحمتي تَغْلِبُ غضبي ))( ) . 3- إن للَّه مائة رحمة : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (( إن للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها )) . وفي رواية : (( حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وأخَّر اللَّه تسعًا وتسعين رحمة يرحمُ بها عباده يوم القيامة )) . وفي رواية : (( إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة )) . وفي رواية : (( كل رحمةٍ طباق ما بين السماء والأرض ، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ))( ) . هذه رحمة اللَّه المخلوقة ، فكيف برحمة اللَّه التي هي من صفاته وليست مخلوقة ولا تنفد أبدًا وليس لها حدّ ، ولا نهاية . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] . ولذلك فقد قال النبي ﷺ : (( لو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد ))( ) . 4- إن اللَّه تبارك وتعالى بيده الرحمة وحده : ومن رحمته : أن أحدًا من خلقه لا يستطيع أن يحجب رحمته أو منعها عن أحبابه ، قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] . فرحمة اللَّه لا تعزُّ على طالب في أي زمان أو مكان : وجدها إبراهيم وسط ألسنة النار ، ووجدها يوسف في غيابت الجُبِّ وغياهب السجن ، ووجدها إسماعيل وأمُّه هاجر في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء ، ووجدها يونس في بطن الحوت ، ووجدها موسى في اليمِّ وهو طفل وفي قصر فرعون وهو متربص به ، ووجدها أصحاب الكهف حين افتقدوها في القصور بين أقوامهم ، ووجدها رسول اللَّه ﷺ وصاحبه في الغار وهما مطاردان( ) . 5- اللَّه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها : وذلك لأن رحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من جزءٍ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته هو الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قدم على رسول اللَّه ﷺ بسبي ، فإذا امرأة من السبي تبتغي - وفي رواية البخاري -: تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته . فقال لنا رسول الله ﷺ : (( أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ )) قلنا: لا واللَّه ! وهي تقدر على أن لا تطرحه . فقال رسول اللَّه ﷺ : (( اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها ))( ) . وقال حماد بن سلمة : (( ما يسرني أن امري يوم القيامة صار إلى والديَّ إن ربي أرحم بي من والديَّ )) . * *

ثانيًا : فانظر إلى آثار رحمة اللَّه : إن آثار وعلامات رحمة اللَّه أظهر من أن تُبين وأكثر من أن تُحْصَى ، قال تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . ففي كل نعمة رحمة يستدل عليها كل ذي عقل صحيح ، ويعرفها كل ذي قلب سليم ، ولا ينكرها إلا كل ظلومٍ كفارٍ ، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى دليل . كما قال الشاعر : وكيف يَصحُّ في الأذهان شىءٌ

إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلٍ

وقد اخترنا بعض هذه الآثار على سبيل المثال ، فمن ذلك : 1- خلق الإنسان : فمن رحمة اللَّه تعالى أنه خلق الإنسان من عدم وأنشأه وجعل له السمع والبصر والفؤاد والعقل ، كل هذا من تراب فأيُّ فضل وأيُّ نعمة بعد اصطفاء اللَّهِ لبعض التراب والطين ليجعله إنسانًا يعقل ويشعر ويؤمن ثم يدخله الجنة ، فسبحان اللَّه وبحمده . قال تعالى : { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] . 2- النبوة والرسالة رحمة : فقد سُمَّيت النبوة والوحي رحمة كما في قوله تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } [ هود : 28 ] . قال ابن كثير : في هذه الآية : أي على يقين وأمرٍ جليّ ، ونبوةٍ صادقة وهي الرحمة العظيمة من اللَّه به( ) . 3- إرسال النبيِّ ﷺ : قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ﷺ : (( إني لم أُبعث لعانًا وإنما بُعثت رحمة ))( ) . وفي الحديث الآخر : (( إنما أنا رحمة مهداة ))( ) . 4- نزول القرآن : قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] . 5- أن جعلك مسلمًا : قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]. قال ابن كثير : أي بهذا الذي جائهم من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به( ) . وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي أُمر فيه بالفرح . 6- ندائه في الثلث الأخير من الليل ليرحم عباده : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ ، قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخرُ يقولُ : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ))( ) . وفي حديث آخر : (( من ذا الذي يَسْتَرْزِقُني أرْزُقْه ؟ من ذا الذي يستكشفُ الضرَّ أكْشِفْه )) . حتى ينفجر الصبح( ) . وفي حديث آخر : (( ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول ، فيقول : أنا الملكُ ، أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني .. ))( ). بالله عليك لو أن أمير بلدك ، أو رئيس دولتك بعث إليك أنه سوف يأتي إليك ليحقق لك ما تتمنى منه ، ألا يجعلك هذا له مُحبًّا وإلى لقائه متشوقًا ؟ هل كنت تنام وتتركه ؟ أو تنسى موعده ؟ وهل ستكون موقنًا على تنفيذ ما تتمنى أم لا ؟ هذا من بشر ضعيف لا يملك لك ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًا فكيف برب العالمين جل جلاله . 7- تقرُّبُه إلى خَلْقِهِ : سبحان اللَّه يتقرب من خلقه وهو غني عنهم ، ويتودَّدَ إليهم وهم لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا ، ولكن نعمة منه وفضلاً ورحمة وإحسانًا . وانظر أخي الكريم وتأمَّل هذا الحديث الذي تنفطر له القلوبُ وتدمعُ له العيونُ . فعن أبي هريرة قال : رُبَّما ذكر النبي ﷺ قال : (( قال اللَّه عز وجل : إذا تَقَرَّبَ العبدُ منِّي شِبْرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا ، وإذا تقرَّب مني ذراعًا تقربت منه باعًا أو بوعًا ))( ) . يا اللَّه ، يا اللَّه ، مَنْ يتقرب إلى مَن ؟ ومَنْ يُهرول إلى مَنْ ؟ يتقرب الخالق إلى المخلوق ويهرول ملك الملوك إلى عبد فقير صعلوك . سبحان اللَّه ما أرحمه وما أكرمه . 8- ذكره لعباده الصالحين : وعن أنس قال : قال رسول الله ﷺ : (( قال اللَّه : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة ، أو في ملأ خير منهم ، وإن دنوتَ مني شبرًا ، دوتُ منك ذراعًا ، وإن دنوتَ مني ذراعًا دنوتُ منك باعًا ، وإن أتيتني تمشي ، أتيتك أهرول )) . قال قتادة : فاللَّه عز وجل أسرع بالمغفرة . أخي الكريم ، هل تصورت كيف يذكرك ربك ؟ هل تَخَيَّلْتَ أن يذكرك اللَّهُ باسمك ؟ نعم يذكرك أنت باسمك بين ملائكته في الملأ الأعلى . من الذي يذكرك ؟ اللَّه . اللَّه . اللَّه الذي يذكرك . فيا له من عظيم شرفٍ وكبير قدرٍ لا يعرفه إلا من عرف ربَّه وأحبَّه ، فانظر إلى واحد من هؤلاء وهو أبي بن كعب رضي الله عنه حين عَلِمَ أن اللَّه تبارك وتعالى قد ذكره باسمه ، وكيف هطلت عيناه دمع الفرح والحنين إلى أرحم الراحمين . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ لأُبي بن كعب : (( إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } )) . قال : وسمَّاني لك ؟ قال : (( نعم )) . فبكى( ). قال يحيى بن معاذ الرازي : يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمتَّ شوقًا إلى مولاك . فليس العجب من قوله : (( فاذكرونى )) ، ولكن العجب كل العجب من قوله : (( أذكركم )) ، فليس العجب أن يذكر الضعيفُ القوىَّ ، أو يذكر الفقيرُ الغنىَّ ، أو يذكر الذليلُ العزيزَ ، إنما العجب أن يذكر القوىُّ الضعيف ، والغنىُّ الفقير ، والعزيزُ الذليلَ . 9- صبر اللَّه جلال جلاله على الأذى من خلقه : فسبحان اللَّه ما أحلمه ، وما أكرمه وما أرحمه ، يخلق ويُعْبَدُ غيرُه ، ويرزق ويُشكرُ سواه ، خيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد من الذين يدَّعون له الولد يصبر على أذاهم ويبعث إليهم بأرزاقهم ، عسى أن يصادف هذا الكرم عقلاً ذاكيًا أو قلبًا واعيًا أو نفسًا طيبة أو فطرة سليمة تفيق من غفوتها وترجع عن ضلالتها تعرف ربَّها فتعبده وحده وتحبه وحده سبحانه وتعالى . وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال : قال النبي ﷺ : (( ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من اللَّه يدَّعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ))( ) . هذه رحمته سبحانه بمن أشرك به ، فكيف رحمته بمن وحَّده وعبده وأطاعه وأحبه وأحب رسوله وجاهد في سبيله . 10- رحمته بالتائبين( ) : فإن التائبين قد انكسرت قلوبهم لعظمته ، وذلَّت جباهم لعزته ، وأتوه راجين رحمته ويخافون عذابه ، فما عسى أن تكون رحمة اللَّه بهم ؟ فإليك شيء منها : أولاً : يغفر الذنوب مهما عَظُمَت : عن أنس رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله ﷺ يقول : (( قال اللَّه تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة ))( ) . ثانيًا : ويبسط يده للتائبين ليلاً ونهارًا : عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه عن النبي ﷺ قال : (( إن اللَّه تعالى يبسط يده بالليل لتيوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها ))( ) . ثالثًا : ويفرح بتوبة عبده : ومع هذا فقد فرح بها فرحًا هو أشد من فرحة رجلٍ وجد حياته بعدما عدَّ نفسه من الأموات ، وهي فرحة إحسانٍ وبِرٍّ ولطف ، لا فرحة محتاجٍ إلى توبة عبده منتفعٍ بها . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( للَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ))( ) . وفي رواية : (( للَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك ؛ إذ هو بها قائمة عنده بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ))( ) . ففي هذا الحديث دليل على فرح اللَّه عز وجل بالتوبة من عبده إذا تاب إليه ، وأنه يحب ذلك سبحانه وتعالى محبة عظيمة ، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا ، فالله غني عنا ، ولكن لمحبته سبحانه للكرم فإنه يحب أن يغفر وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ ، ولهذا يفرح بتوبة الإنسان( ) . رابعًا : ويبدل السيئات حسنات : قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 70 ] . وقال الحسن البصري : أبدلهم اللَّه العمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا ، وأبدلهم بالفجور إحصانًا ، وبأدلهم بالكفر إسلامًا( ) . 11- صَلاتُه جل جلاله على المؤمنين : قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] . قال ابن كثير : والصلاة من اللَّه ثناؤه على العبد عند الملائكة . حكاه البخاري عن أبي العالية ... وقال غيره : الصلاة من اللَّه عز وجل الرحمة ، وقد يقال : لا منافاة بين القولين . واللَّه أعلم( ) . 12- مضاعفة الحسنات والأجور : فمن رحمته سبحانه مضاعفة الحسنات إلى ضعاف كثيرة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ))( ) . ومن الأعمال ما ينميها اللَّه حتى يجعلها كالجبل . فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيبٍ ولا يقبل اللَّه إلا الطيب ، فإن اللَّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ))( ) . 13- رحمة اللَّه تبارك وتعالى بقلوب عباده : فقد قال النبي ﷺ : (( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ))( ) . 1- فإذا شاء اللَّهُ لعبد الهدى شرح قلبه للإسلام . قال تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] . 2- وإذا أراد بعبد رشادًا حبَّبَ إليه الإيمان وزينه في قلبه فعاش بالإيمان سعيدًا وعن الكفر والعصيان بعيدًا . قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 7، 8 ] . 3- ويُسعد المؤمنين بحبهم له ولرسوله وحب المؤمنين في اللَّه فيشعر بحلاوة الإيمان ولذة القرب من الرحمن جل جلاله . عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللَّهُ ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ))( ) . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم : 96 ]. وذلك بعكس الطغاة والعصاة أمثال المشركين من أهل الكتاب ، فقد قال تعالى في النصارى : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ المائدة : 114 ] . 14- الجنة من رحمة اللَّه عز وجل : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( تحاجَّت الجنة والنار ، فقالت النار : أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقطُهم ، قال اللَّه تبارك وتعالى للجنة : أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنتِ عذابٌ أعذِّبُ بك من أشاء من عبادي ))( ) . 15- دخول الجنة برحمة اللَّه عز وجل : قال رسول الله ﷺ : (( لا يدخل أحدًا الجنة عمله )) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا ، إلا أن يتغمدني اللَّه بمغفرة منه ورحمة ))( ) . 16- شفاعة أرحم الراحمين في أهل النار : فما من أحدٍ يملك لغيره شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يأذن اللَّه لمن يشاء ويرضى . قال تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } . وسيجعل اللَّه درجاتٍ للشفاعة والشافعين ، فهناك شفاعة للأنبياء والمرسلين ، وشفاعة للصديقين ، وشفاعة الشهداء فيُشَفِّعُهم اللَّه عز وجل ، ثم بعد ذلك يشفع هو سبحانه وبحمده شفاعة فيخرج أضعاف ما أخرجه كل هؤلاء حتى يعجب أهلُ الجنة من ذلك ، وإليك صورًا من شفاعة أرحم الراحمين : شفاعته عز وجل في الموحدين : عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال في حديث الشفاعة الطويل : (( ثم يقال : ادعوا الصديقين فيشفعون ، ثم يقال : ادعوا الأنبياء ، قال : فيجيء النبيُّ ومعه العِصابة ، والنبي ومعه الخمسةُ والستة ، والنبي وليس معه أحد ، ثم يقال : ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا ، وقال : فإذا فعلت الشهداء ذلك . قال : يقول الله عز وجل : أنا أرحم الراحمين ، أَدْخِلُوا جَنَّتِي من كان لا يُشْرِك بي شيئًا )) . قال : (( فيدخلون الجنة ... ))( ) . وفي حديث آخر : (( فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأُخْرِجَنَّ منها من قال : لا إله إلا اللَّه ))( ) . وفي رواية : أن اللَّه تبارك وتعالى يقول للرسل : (( اذهبوا ، أو انطلقوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان فأخرجوه )) . ثم يقول اللَّه عز وجل : (( أنا الآن أُخْرِج بعلمي ورحمتي )) . فيُخرج أضعافَ ما أخرجوا وأضعافه فيكتب في رقابهم عتقاء اللَّه عز وجل ، ثم يدخلون الجنة( ) . 17- رحمته بالنمل ، سبحان اللَّه وبحمده : عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : قَرَصَتْ نملةُ نبيًا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأُحْرقت ، فأوحى اللَّه إليه : (( أنْ قَرَصَتْك نملة أحرقت أمةً من الأمم تُسبح اللَّه ))( ) . وفي رواية : (( فأوحى اللَّه إليه : فهلا نملةً واحدةً ))( ) . فسبحان من لم تمنعه عظمته وكبريائه من رحمة الضعيف الصغير من خلقه حتى يعاتب نبيًا له من أجل نملٍ ، لا حول له ولا قوة إلا بربه . ثالثًا : ليس كمثله شيء في رحمته : وذلك من عدة أوجه : أولاً : رحمة الخلق مخلوقة فتوجد بوجودهم وتفنى بفنائهم ، أما رحمة اللَّه عز وجل فإنها صفة ذاتية له لا تفنى ولا تبيد ، قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] . ثانيًا : رحمة الخلق قليلة محدودة ، أما رحمة اللَّه فقد وسعت كل شيء ، فكلٌ يرحم بقدر قدرته ، فالناس يرحمون في حالٍ دون آخر ، فيرحمون القريب دون الغريب ، ويرحمون الحبيب دون العدو ، أما رحمة اللَّه عز وجل فقد عمَّت الخلق جميعًا ، قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف : 156 ]. ثالثًا : رحمة الناس تختلط باللهفة والضعف لمن يرحم ، فالأم إذا مرض ولدُها تحزن ، وإذا غاب عنها تقلق وإذا مات هلعت ، وذلك من حبها له ورحمتها عليه ، وقد بكى النبي ﷺ عند موت ابنه إبراهيم ، وحزن عليه ، وذلك من رحمته به ﷺ . عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : (( يا ابن عوف ، إنها رحمة )) . ثم أتبعها بأخرى ، فقال : (( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))( ) . ولكن اللَّه جل جلاله لا يحزن ولا يتألم ولا يبكي ولا يقلق ، ولا يتلهف، وهكذا ما لهذه الصفات من نقص وضعف لا يخفى على كل عاقل أن هذا لا يليق باللَّه سبحانه وبحمده . إنما يرحم من قوة ، ويعفو من قدرة ، ويغفر في عزَّة ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون . رابعًا : لا تقنطوا من رحمة اللَّه : قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] . قال النبي ﷺ : (( لو يعلم المؤمن ما عند اللَّه من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد ))( ) . ولذا فإن القنوط من رحمة اللَّه من علامات الكفر والضلال ، وما يقنط من رحمة اللَّه عز وجل إلا رجلٌ من اثنين : ضال ، أو كافر ، قال تعالى : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ } [ الحجرات : 56 ] . وقد نصح يعقوب عليه السلام بنيه بألا ييأسوا من روح اللَّه أبدًا ، وذلك في قوله تعالى : { وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . عن جندب أن رسول اللَّه ﷺ قال : (( أن رجلاً قال : واللَّه لا يغفر اللَّهُ لفلان ، وإن اللَّه تعالى قال : من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان ، فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطتُ عملك ))( ) . وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه وقد قال لضمضم بن جوس اليمامي : يا يمامي لا تقولنَّ لرجل : واللَّه لا يغفر اللَّه لك ، أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا . فقال له : يا أبا هريرة ، إن هذه الكلمة ، يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه ، إذا غضب ، قال أبو هريرة : فلا تقلها ، فإني سمعت النبي ﷺ يقول : (( كان في بني إسرائيل رجلان ؛ كان أحدهما مجتهدًا في العبادة ، وكان الآخر مسرفًا على نفسه ، فكانا متآخين ، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب ، فيقول : يا هذا أقصر ، فيقول : خلَّني وربي ، أبعثت عليَّ رقيبًا ؟ قال : إلى أن رآه يومًا على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك أقصر ، قال : خلَّني وربِّي ابعثت عليَّ رقيبًا ؟ قال : فقال : واللَّه لا يغفر اللَّهُ لك ، أو لا يدخلك اللَّه الجنة أبدًا ، قال أحدهما : قال : فبعث اللَّه إليهما مَلَكًا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أكنت بي عالمًا ؟ أكنت على ما في يدي خازنًا ؟ اذهبوا به إلى النار . قال : فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ))( ) . خامسًا : من أسباب الحرمان من رحمة اللَّه تبارك وتعالى : فبالرغم من سعة رحمة اللَّه وعظمتها ، إلاَّ أن هناك من الناس من حرموا أنفسهم منها بذنوبهم ، وسنذكر فيما يلي جانبًا منهم : أولاً : من لا يَرحم لا يُرحم : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبَّلَ رسولُ اللَّه ﷺ الحسن بن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا . فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال : (( من لا يَرْحَمُ ، لا يُرْحَم ))( ) ، ولِمَ يرحم اللَّه من لم يرحم عباده الذين خلقهم بيده ونفخ فيهم من روحه ؟ وقد قال النبي ﷺ : (( لا يرحم اللَّه من لا يرحم الناس ))( ) . ثانيًا : تعذيب الناس : فعن ابن مسعود البدري رضي الله عنه قال : كنت أضرب غلامًا لي بالسوط ، فسمعت صوتًا من خلفِي : (( اعْلَمْ أبا مسعود أن اللَّهَ أقدرُ عليك منك على هذا الغلام )) . فقلت : لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا . وفي رواية : فقلت : يا رسول اللَّه ، هو حرٌ لوجه اللَّه ، فقال : (( أما لو لَمْ تَفْعَل لَلَفَحَتْكَ النارُ أو لَمَسَّتْكَ النارُ ))( ) . وعن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما قال : أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول : (( إن اللَّه يُعذِّب الذين يُعذّبون الناس في الدنيا )) ( ). ثالثًا : تعذيب الحيوانات : فقد حرَّم اللَّه تعذيب الحيوان والحشرات ، ويعاقب من فعل ذلك ؛ فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله ﷺ قال : (( عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّة : حبستها حتى ماتَتْ فدخَلَتْ فيها النار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاشِ الأرض ))( ) . رابعًا : الاختلاف والفرقة : وكفى بنزع الرحمة عن المختلفين ثلاثة أمور كل منها أشد من الأخرى . الأولى : حرمان المغفرة : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( تُفْتَح أبوابُ الجنةِ يوم الاثنين ويوم الخميس فيُغفَرُ لكلِ عبدٍ لا يُشرك باللَّه شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : أنظِرُوا هَذَيْنِ حتى يصطلحا ، أنظروا هذين حتى يصطلحا ))( ) . الثانية : ضياع الهُدى : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما حُضِرَ رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فيهم عمرُ بن الخطاب ، قال النبي ﷺ : (( هَلمَّ أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده )) . فقال عمر : إن النبي ﷺ قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسْبُنَا كتابُ اللَّه . فاختلف أهل البيت فاختصموا . منهم من يقول : قرِّبُوا يكتب لكم النبي ﷺ كتابًا لن تضلوا بعده . ومنهم من يقول ما قال عمر . فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ﷺ قال رسول الله ﷺ : (( قوموا عنِّى )) . وكان ابن عباس يقول : إن الرَّزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم( ) . الثالثة : إخفاء ليلة القدر عن المسلمين : عن عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله ﷺ ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : (( خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان ، فَرُفعِت ... ))( ) . سادسًا : من أسباب رحمة اللَّه لخلقه : 1- طاعة اللَّه ورسوله : فكلما كان العبدُ أكثر طاعة لله تبارك وتعالى ورسوله ﷺ كلما كان أكثر استحقاقًا لرحمة اللَّه عز وجل . قال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ آل عمران : 132 ] . وقال عز وجل : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] . 2- الإحسان : قال اللَّه تبارك وتعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] ، وقال النبي ﷺ : (( إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ... ))( ) . 3- تقوى اللَّه تبارك وتعالى : فإن كانت رحمة اللَّه قد وسعتْ كل شيء وشملت البر والفاجر ، والمسلم والكافر ، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة اللَّه آناء الليل وأطراف النهار وهذا في الدنيا وتلك هي الرحمة العامة ، أما الرحمة الخاصة بدخول الجنة في الآخرة فهي للمؤمنين والمتقين وحدهم . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ] . 4- صلة الرحم : عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (( قال اللَّه : أنا اللَّه ، وأنا الرحمن ، خلقتُ الرَّحِمَ وشققتُ لها اسمًا من اسمي ، فَمَنْ وصلها وَصلتُه ، ومن قطعها بتَتُّه ))( ) . وبَتَتُّه : أي قطعتُه . فانظر أخي الكريم إلى هذه الشكوى المرة من الرحم المقطوعة إلى اللَّه ، وانظر أتحب أن تكون من الواصلين للرحم أم من القاطعين . وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال : إن الرحم مشْجَنَةٌ من الرحمن ، تقول : يا ربِّ ، إني قُطِعْتُ ، يا ربِّ إني ظُلمتُ ، يا ربِّ إني أُسئَ إليَّ ، يا ربِّ ، يا ربِّ ، فيُجِيبُها ربُّها عز وجل ، فيقولُ : (( أما تَرْضَيْنَ أن أصِل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ ))( ) . وفي رواية : (( ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب ، قال : فذاك )). قال أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ]( ) . 5- التماس مرضاة اللَّه : عن ثوبان عن النبي ﷺ قال : (( إن العبد ليلتمسُ مرضاةَ اللَّه ، ولا يزالُ بذلك ، فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ لجبريل : إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني ، ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول جبريل : رحمة اللَّه على فلان ، ويقولها حملة العرش ، ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السماواتِ السبعِ ، ثم تَهبِطُ له إلى الأرض ))( ) . 6- الصبر على الابتلاء : قال تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155- 157 ] . قال ابن كثير : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } أي : ثناءً عليهم ، وقال سعيد بن جبير : أي أمَنَة من العذاب( ) . ومن رحمة اللَّه بمن استرجع عند المصيبة أنه يخلف له خيرًا منها . عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول: (( ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتني واخلف لي خيرًا منها ، إلا أجره اللَّه في مصيبته وأخلف له خيرًا منها )) . قالت : فلما تُوفِّيَ أبو سلمة قلتُ كما أمرني رسول الله ﷺ ، فأخلف اللَّهُ لي خيرًا منه ، رسول اللَّه ﷺ( ) . فيا لسعادة أم سلمة ، فقد تزوجها النبي ﷺ بصبرها . 7- رحمة الناس : فعن عبد اللَّه بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال وهو على المنبر : (( ارحموا تُرْحَمُوا ، واغفروا يَغْفِر اللَّهُ لكم ))( ) . من أسامة بن زيد رضي الله عنها أن صبيًا قد رُفع في حجر النبي ﷺ ونفسه تقعقع ففاضت عينا النبي ﷺ ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول اللَّه ؟ قال : (( هذه رحمةٌ وضعها اللَّهُ في قلوب من شاء من عباده ولا يرحم اللَّه من عباده إلا الرحماء )) . وفي رواية : (( إنما يرحمُ اللَّه من عباده الرحماء ))( ) . (( من رحم رُحم ومن تجاوز تجاوز اللَّهُ عنه )) والجزاء من جنس العمل . فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( حُوسِب رجلٌ ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيءٌ إلا أنه كان يخالطُ الناس ، وكان موسرًا ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال اللَّه عز وجل : نحن أحق بذلك منه ، تجاوزوا عنه ))( ) . قد يعجب المرءُ من رحمة اللَّه بعبدٍ تجاوز عن فقير فيكافؤه بالنجاة من النار والخلود في الجنة ، ولكنه يكون أكثر عجبًا حين يرحم اللَّهُ امرأة من البغايا ويغفر لها من أجل شربة ماء سقتها لكلب ، فما أرحم اللَّه ، وما أكرمه ، وما أعظمه . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي ﷺ : (( بينما كلب يُطَيِّفُ بَركِيَّةٍ قد كاد يقتله العطشُ إذ رأته بَغِيُّ من بغايا بني إسرائيل ، فنزعت موقها فاستقت له به فسقته ، فَغُفِر لها به ))( ) . 8- من جوائز الرحمن لمن رحم إخوانَه : فمن رحم الناس رحمه الله ، ومن قضى حاجة إخوانه ، قضى اللَّه حاجته، ومن أحسن إلى الناس ، أحسن اللَّه إليه ، والجزاء من جنس العمل . قال رسول الله ﷺ : (( أحب الناس إلى اللَّه تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى اللَّه عزَّ وجلَّ سرور يدخله على المسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينًا أو يطرد عنه جوعًا ، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد شهرًا ، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تُهيأ له أثبت اللَّه قدمه يوم تزول الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ))( ) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال : (( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته ، ومن فَرَّج عن مسلم كربة ، فرَّجَ اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة ))( ) . 9- الجماعة رحمة : قال تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } . قيل في هذه الآية المرحومون لا يختلفون . وقد جاء في بعض الحديث : (( الجماعة رحمة والفرقة عذاب )) . وقال النبي ﷺ : (( يد الله مع الجماعة )) . ويقصد بالجماعة : أي جماعة المسلمين والرفقة الصالحة فإن لزومهم كله خير ، فإنهم يذكرونك إن غفلت ، ويعلمونك إن جَهلْتَ ، ويُواسُونَكَ إن أُصِبْتَ . فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء ، وعُدَّةٌ في البلاء ، ولا تصاحب إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله عز وجل ، ولا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره . سابعًا : دعاء اللَّه باسميه (( الرحمن ، الرحيم )) : 1- دعاء الثناء والحمد : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال : قال اللَّه تعالى : (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال اللَّه تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم . قال اللَّه : أثنى عليَّ عبدى ... ))( ) . 2- ومن ذلك أيضًا دعاء المسألة والطلب : قال ابن كثير : قال ابن المبارك : الرحمن إذا سُئِل أعطى ، والرحيم إذا لم يُسأل يغضب ، وهذا كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( من لم يسأل اللَّهَ يغضب عليه ))( ) . وقال بعض الشعراء : لا تسألنَّ بنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

اللَّه يغضب إن تركت سؤاله وبنيَّ آدم حين يسأل يغضب

فمن عرف رحمة اللَّه تبارك وتعالى وسَعَتَها ازداد فيها طمعًا واشتد فيما عند اللَّه طلبًا وعزم في سؤال حاجته . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم في المسألة ، فإنه لا مُسْتَكْرهِ له )) . وفي رواية : (( وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مُكْرِه له ))( ) . وعن أنس بن مالك قال : قال النبيُّ ﷺ لفاطمة : (( ما يمنعك أن تَسمعي ما أُوصيك به ! أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حيُّ يا قيومُ برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كلَّه ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ))( ) . ومن دعاء المؤمنين ما جاء في قوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] . وكان من دعاء أصحاب الكهف لمَّا هجروا قومهم خوفًا منهم وهربًا من طغيانهم وظلمهم فلم يجدوا ملاذًا إلا رحمة اللَّه تعالى ، قال اللَّه عز وجل : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } [ الكهف : 10 ] . { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } . • * *

(( الملك ، المالك ، المليك )) جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه المُلْكُ : هو التصرف بالأمر والنهي في الجمهور ، وذلك يختص بسياسة الناطقين ، ولهذا يقال : مَلِكُ الناس ، ولا يقال : مَلِكُ الأشياء . و(( المَلْك )) ، و(( المَلِك )) ، و(( المَليك )) ، و(( المالك )) : ذو الملك . والمُلْكُ الحقُّ الدائم لله .. والملكوت : مختص بمِلْكِ الله تعالى وهو مصدر مَلَكَ أدخلت فيه التاء ، نحو : رحموت ، ورهبوت ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] ، والمملكة : سلطان المَلِكِ وبقاعه التي يتملَّكها . وملاك الأمر : ما يُعْتَمد عليه منه ، وقيل : القلب ملاك الجسد . والمِلاكُ : التزويج ، وأمْلَكُوه : زَوَّجُوه ، شُبِّه الزوج بملكٍ عليها في سياستها ، وبهذا النظر قيل : كاد العروس أن يكون مَلِكًا( ) . قال ابن سيده : المَلْك ، والمُلك ، والمِلْك : احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به . وتملكه : أي ملكه قهرًا أو أملكه الشيء وملَّكه إياه تمليكًا جعله ملكًا له . الدليل على ورود هذه الأسماء الكريمة : أما اسم الله الملك ، فقد جاء في القرآن عدة مرات ؛ منها قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [ طه : 114 ] ، وقوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ } [ الحشر : 23 ] . وأما اسم المليك فلم يرد إلا مرة واحدة في قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [ القمر : 54- 55 ] . وقد جاء اسم (( المالك )) في الحديث الشريف . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال : (( لا مالك إلا اللَّه ))( ) . المعنى في حق اللَّه عز وجل : قال الزجاج : وقال أصحاب المعاني : الملك ، النافذ الأمر في ملكه إذ ليس كل مالك ينفذ أمره أو تصرفه فيما يملكه ، فالملك أعمُّ من المالك ، واللَّه تعالى مالك المالِكين كلِّهم ، وإنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته تعالى( ) . قال الخطابي : الملك : هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات ، فأما المالك : فهو خاص الملك( ) . وقال الليث : الملك هو اللَّه - تعالى وتقدس - ملك الملوك له الملك وهو مالك يوم الدين( ) . وقال ابن جرير : الملك الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا تحت سلطانه( ). وقال ابن كثير : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ } [ الحشر : 23 ] أي : المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة( ) . قال ابن القيم رحمه اللَّه : الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصرَّف في خلقه بقوله وأمره ، وهذا هو الفرق بين الملك والمالك ؛ إذ المالك هو المتصرِّف بفعله ، والملك هو المتصرِّف بفعله وأمره ، والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرِّف بفعله وأمره( ) . من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين 1- لا ملك إلا الله : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال : (( لا ملك إلا الله ))( ) . وقال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] . ولا يمتلك أحدٌ شيئًا إلا من بعد إذنه . قال تعالى : { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 247 ] . 2- فعَّال لما يريد : 1- قال ابن القيم : الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصَّرف في خلقه بقوله وأمره( ) . قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ]. فالملك الحق هو اللَّه جل جلاله ، فكل شيءٍ تحت قهره ويحدث بقَدَرِه ويتحرك بأمره كما جاء في الحديث القدسي أن أبا ذر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله ﷺ : يقول الله تعالى : (( أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري بشيءٍ إذا أردته أن أقول له كن فيكون )) ( ) . فقد ملك اللَّه كل شيءٍ بأمره ونهيه وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك : 1- في خلق السماوات والأرض : عن ابن ..... رضي الله عنهما في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . قال للسماء : (( أخرجي شمسك وقمرك ونجومك )) ، وقال للأرض : (( شقِّقي أنهارَك وأخرجي ثمارك )) . فقالتا : أتينا طائعين( ) . 2- في خلق آدم وذريته : قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران ] . 3- في نجاة إبراهيم عليه السلام من النار : فعندما كسَّر الأصنام التي تُعبد من دون الله أراد قومه أن يحرقوه ، فلما ألقوه في النار ما بعث الله ريحًا لتطفئها ولا ماءً ليخمدها ولا ملكًا ليُخرج إبراهيم ، إنما تكلم بكلمة إلى النار فخضعت لأمر الملك الجبار ، قال تعالى : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] . 4- في عقوبة أصحاب السبت : لما اعتدى أصحاب السبت واحتالوا على أمر الله فاصطادوا يوم السبت عاقبهم الله ولكن بِمَ عاقبهم ؟ عاقبهم بكلمة منه ، كلمة غيرت حياتهم وصورتهم وآخرتهم إلى أبشع حال ، فأما صورتهم فتحولت إلى صورة القرود ونهايتهم في جنهم وبئس الورد المورود ، وذلك جزاء ناقض العهود ، إنهم اليهود ، قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 65، 66 ] . وقال تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] . سبحان الملك ، بكلمة منه أصبحوا قردة ، فإن الأجساد ملك لله فهو خالقها ومدبرها ورازقها وملكها وهي تدين له بالولاء والطاعة كبقية مخلوقات الله ، فعندما قال لهم : كونوا قردة استقبلت أجسامهم الأمر فأصبحت أجسام قردة واستقبلت أيديهم وأرجلهم الأمر فأصبحت أيدي وأرجل قردة ، بل وقلوبهم أصبحت قلوب قردة ، كما قال مجاهد . سبحان الله ، أجسامهم بين أيديهم وقلوبهم في أجوافهم ولا يملكون منها مثقال ذرة ويملكها الله عز وجل من فوق سبع سموات بكلمة واحدة ، { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . 3- ذُلَّ الملوك بين يدي ملك الملوك جل جلاله وتقدست أسماؤه : فإن ملوك الأرض قد أختصوا في الدنيا بالعزة والمنعة والسلطان والقوة وهذه نعمة من الله عليهم فمن شكرها فقد فاز ومن كفر تلك النعمة ولم يؤد شكر هذه الخصوصية اختصه الله بعذابٍ من عنده ، والجزاء من الجنس العمل ، فمن ذلك . 1- غَلْقُ أبواب السماء دون حاجتهم : فإن اللَّه عز وجل قد جمع لهم أسباب الحكم والعطاء وجعل بيدهم خزائن الأرض فمن حجبها عن الضعفاء والمساكين حجب الله عنه ما ينفعه وعطل عليه حاجته . فقد قال النبي ﷺ : (( ما من إمام أو والٍ يغلقُ بابه دون ذوي الحاجة والخلة ، والمسكنة ، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته ، وحاجته ومسكنته ))( ) . 2- احتجاب الله عنهم يوم القيامة : فمن ملك من أمر الناس شيئًا تَطَلَّعوا إليه ورجوا ما عنده فإن حجب نفسه عنهم وحرمهم مما يرجون احتجب اللهُ عنه يوم القيامة وحرمه مما يرجو من النجاة . فقد قال النبيُّ ﷺ : (( من ولي من أمور المسلمين شيئًا فاحتجب دون خلتهم ، وحاجتهم ، وفقرهم ، وفاقتهم ، احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته ، وفاقته ، وفقره ))( ) . وقال النبي ﷺ : (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم : شيخ زانٍ ، وملك كذَّاب ، وعائل مستكبر ))( ) . 3- يأتي الملوك إلى الله مغلولة أيديهم إلى أعناقهم : فكما كانوا أحرارًا طلقاءً في الأرض لا يسئلهم أحدٌ من الخلق ولا يتقيدون في حركتهم كبقية الرعية فإنهم يأتون يوم القيامة مغلولين إلى الله عز وجل . قال النبي ﷺ : (( ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى اللَّهَ مغلولة يده إلى عنقه ، فكَّه بره أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزيٌ يوم القيامة ))( ) . 4- ويُحْرمون من شفاعة النبي ﷺ : فكما أن الظلمة من ملوك الأرض ظلموا الناس حقوقهم ، ولم يعدلوا فيهم بشرع الله ولم يَشفع عندهم ضعف الرعية ومسكنتهم فإنهم يُحْرَمُون من شفاعة النبي ﷺ . فقد قال النبي ﷺ : (( صنفان من أُمتي لن تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم غشوم ، وكل غالٍ مارق )) ( ) . 5- لا يدخلون الجنة : فكما أن الأمن والعدل يكون نعيمًا للضعفاء والمساكين ، بل ولكل الرعية وقد حرمهم منهم الملك الظالم وغشهم وضيع مصالحهم فإنه يُحرم من دخول الجنة . فقد قال النبي ﷺ : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت ، وهو غاش لرعيته ، إلا حرَّم الله عليه الجنة ))( ) . 6- وهم أشد الناس عذابًا : فإن أشد الظلم ما كان من ولي الأمر وأعظم الألم من الجور هو ألم تعذيبه لما له من قوة وما عنده من سلطان ، فإن عذَّب الناس لا يجدون من بطشه مفرًا إلا إلى الله ، ولذلك فإن الظالم من الملوك لن يجد مفرًّا من النار . فقد قال النبي ﷺ : (( أيما راعٍ استرعى رَعِيَّة فَغَشَّها فهو في النار ))( ) . وقال النبي ﷺ : (( أشد الناس يوم القيامة عذابًا إمام جائر )) ( ) . وعن حذيفة رضي اللَّه عنه : (( يؤتى بالولاة يوم القيامة عادِلِهمْ وجائِرِهِمْ ، حتى يقفوا على جسر جهنم ، فيقول اللَّه عز وجل : فيكم طلبتي ، فلا يبقى جائرٌ في حكمه ، مُرتشٍ في قضائه ، مميلٌ سَمْعَه أحدَ الخصمين إلا هوى في النار سبعين خريفًا ، ويؤتى بالرجل الذي ضرب فوق الحد فيقول اللَّه : لم ضربت فوق ما أمرتك ؟ فيقول : يا رب ، غضبت لك . فيقول : أكان لغضبك أن يكون أشد من غضبي ؟! ويُؤْتى بالذي قصَّرَ فيقول : عبدي لِمَ قصرت ؟ فيقول : رحمته ، فيقول : أكان لرحمتك أن تكون أشدَّ من رحمتي ؟! ))( ) . 4- لمن الملك اليوم ؟ قال تعالى : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، وهو يوم القيامة الذي يزول فيه كل مالك ومملوك إلا ملك الملوك جلَّ جلاله . قال تعالى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] . وعن سهل بن سعد قال : سمعت النبي ﷺ يقول : (( يُحْشَرُ الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقىِّ ، ليس فيها عَلَمٌ لأحد ))( ) ، ليس عليها مملكة لملك ، ولا سلطنة لذي سلطان ، ولا قوة لحاكم ، ولا حكم لقاضي ، ولا قدرة لوالي ، ليس على الأرض معلم لذي عرش ولا تاجٍ ولا صولجان ، و{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } . وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض )) ( ) . فقد ذهب الملوك وما ملكوا ، وقد فني الحُكَّام ، وما حكموا ، فقد هلك كسرى وقيصر ، وذي يزنٍ ، وساسان ، و{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } . ولله درُّ القائل : لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان

فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سرَّه زمن ساءته أزمان

وعالم الكون لا تبقى محاسنه ولا يدوم على حالٍ لها شان

أين الملوك ذوُو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليل وتيجان

وأين ما شاده شدَّاد من إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسان

وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عادٌ وشدادٌ وقحطان

أتى على الكل أمرٌ لا مَرَدَّ له قَضَوْا فكأن الكل ما كانوا

وصار ما كان من مُلكٍ ومِنْ مَلِكٍ كما حكى عن خيال الطيف وسنان

دار الزمان على (( دَارَا )) وقائله وأَمَّ كسرى فما آواه إيوان

كأن الصعب لم يسهل له سبب يومًا ولم يملك الدنيا سليمان( )

{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } 5- النهي عن التسمية بملك الملوك : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( أخنع اسمٍ عند اللَّه )) . وقال سفيان غير مرة : أخنع الأسماء عند الله (( رجل تسمى بملك الأملاك )) . وفي رواية : (( أخنى الأسماء يوم القيامة عند اللَّه رجل تسمى بملك الأملاك ))( ) . قال سفيان : مثل شاهان شاه : أي ملك الملوك باللغة الفارسية . فنبه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدَّى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم( ) . ومعنى أخنع : أي أوضع اسم وأذله قال أبو عبيد : الخانع الذليل وخنع الرجل ذلَّ . قال ابن بطال : وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذُلاً حتى أخنى : أي أفحش اسم من الخنا وهو الفحش في القول . وجاء في رواية مسلم : (( أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه )) . قال ابن حجر : واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد ، ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء( ) . وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أيضًا قال : قال رسول الله ﷺ : (( اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله ))( ) . 6- التواضع : فإن من عرف أن اللَّه هو الملك الحق ، فلا بد له من أن يتواضع ولا يرفع نفسه فوق منزلة العبيد حتى لو كان من الملوك فإنه لا يعدو كونه عبدًا فقيرًا يقع تحت قهر الله وسلطانه . عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : (( يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ... ))( ) . فبماذا يجيب الجبارون والمتكبرون بعد هذا النداء ؟ وقد كان رسول الله ﷺ أشد الناس تواضعًا لربه ، ومن أجل ذلك اختار أن يكون عبدًا رسولاً وأبى أن يكون ملكًا نبيًا . عن أبي هريرة قال : جلس جبريل إلى النبي ﷺ ، فنظر إلى السماء ، فإذا مَلَك ينزل ، فقال جبريل : (( إن هذا الملك ما نزل منذُ يوم خُلِقَ قبل الساعة ، فلما نزل ، قال : يا محمد ، أرسلني إليك ربك ، قال : أفَمَلِكًا نبيًا يجعلُك أو عبدًا رسولاً ؟ قال جبريل : تواضع لربك يا محمد ، قال : بل عبدًا رسولاً ))( ) . وقالت عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله ﷺ بعد ذلك لا يأكل متكئًا يقول : (( آكل كما يأكل العبدُ ، وأجلس كما يجلس العبدُ ))( ) . 7- لكل ملك حِمَى : فإياك ومعصية اللَّه عزَّ وجلَّ فإنها منطقة خَطيرة ، وبقعة وَعِرة ، فمن ارتكب شيئًا من محارم اللَّه فقد تعدى حدَّه وعرَّض نفسه لعقوبة الملك ، فمن أراد لنفسه النجاة فليتقى عقوبة الملك باجتناب محارمه . فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : معت رسول الله ﷺ يقول : (( إن الحلال بَيِّـنٌ وإن الحرامَ بَيِّـنٌ ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس ، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملكٍ حِمَى ، ألا وإن حِمَى اللَّه محارمه ... ))( ). وقد كان أصحاب النبي ﷺ يتركون ثلاثة أرباع الحلال خشية الحرام ، وكان ابن ععمر يقول : (( أُحب أن أجعل بيني وبين الحرام حائلاً من الحلال )) ، وجاء في بعض الحديث : (( لن يبلغ العبد أن يكون تقيًا حتى يدع ما لا بأس به خشية مما به بأس )) . 8- ليس كمثله شيء في ملكه : أولاً : ملك الخلق سببي وملك الله ذاتي : فإن الخلق لا يكونوا ملوكًا إلا بأسباب الملك ، فلا بد له من مملكة يملكها أو ناس يحكمهم ، ولا بد له كذلك من أعوانٍ على ملكه ، فلا بد له من بطانة تحميه ، ووزراء يُشاورهم ، وجنود ينفِّذون أمره على الرعية ، فملوك الخلق يحتاجون إلى ملكهم . أمَّا اللَّه عزَّ وجل ، فإن ملكه ذاتي لا يحتاج سماوات ولا أرض ولا عرض ولا شيءٍ أبدًا ، فهو الملك قبل الخلق ، وهو الملك بعد الخلق ، وهو الملك بدون الخلق ، وكذلك ليس لله وزير ولا نظير ولا بطانة ، حتى جنود الله فإنهم لا يحمونه ولا يملكون له نفعًا ولا ضرًا ، إنما هو الذي بيده النفع والضر وحده وبيده الملك وحده ، والخلق كلهم لله وبالله ويحتاجون إلى الله ولا يحتاج هو إلى أحدٍ منهم . ملك الخلق فانٍ ، وملك الله باق : فإن الفناء قد كُتب على المخلوقات ، فإما أن يفنى المُلك بضياعه من يد صاحبه فتُسلب المملكة من صاحبها أو يزول الملوك أنفسهم عن ممالكهم بالمرض ، أو يجور عليهم من هو أشد قوة من الملوك ، أو يموت ويترك ذلك . أما الله عزَّ وجلَّ فإنه الحي القيوم ، ملكه ثابت ، لا يتغير ، باقٍ لا يفنى ، دائم لا يزول ، فلا يفارقه ملكه ، ولا يزول عنه بجور جائر ولا بظلم ظالم ، قال تعالى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ، { وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ } ، فهو صاحب القوة والعظمة والكبرياء ، قال تعالى : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ البقرة : 165 ] . وكذلك لا يفارق هو ملكه بالغياب أو الموت ؛ لذلك انظر إلى الحسرة والألم الذي يحدث للملوك عند تركهم المُلك بل والدنيا وما فيها . فقد حُكي عن هارون الرشيد أنه انتقى أكفانه بيده عند الموت ، وكان ينظر إليها ويقول : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [ الحاقة : 28، 29 ] . ورُوي عن المأمون أنه افترش رمادًا واضجع عليه وقال : (( يا من لا يزول ملكه ، ارحم من زال ملكه ، ويا من لا يموت ارحم من يموت )) . هذا ما يساويه الملك في الدنيا : سأل هارون الرشيد بعض العلماء أن ينصحه فقال له : يا أمير المؤمنين ، إذا عطشت وحُبِس عنك الماءُ فكم تساوي شربة الماء عندك ؟ فقال هارون الرشيد : نصف ملكي ، فقال له : وإذا شربتها وحُبِسَت في جسدك فكم يساوي إخراجها ؟ قال : النصف الآخر من ملكي . قال : يا أمير المؤمنين ، اتقي اللَّه في ملك نصفه شربة ماء والنصف الآخر إخراجها . فبكى هارون الرشيد . 9- دعاء اللَّه بهذه الأسماء الكريمة : 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( من قال : لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على شيء كل شيءٍ قدير في يوم مائة مرة كانت له عِدلُ عشرِ رقاب( ) وكُتِبَتْ له مائة حسنة ، ومُحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رَجُلٌ عمل أكثر منه ))( ) . 2- وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : (( من قال : لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات ، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ))( ) . 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (( قال اللَّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله ربِّ العالمين . قال اللَّه تعالى : حمدني عبدي . وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال اللَّه تعالى : أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي )) . وقال مرة : (( فوض إليَّ عبدي ))( ) . * *

(( القُدُّوس )) تبارك وتعالى المعنى اللغوي : وله معنيان في اللغة : الأول : أن (( القدوس )) فعول من القدس وهو الطهارة ، و(( القَدَس )) بالتحريك السطل بلغة أهل الحجاز ؛ لأنه يُتقدس منه : أي يُتطهر منه . وقال تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ]. قال الزجاج : معنى (( نقدس لك )) أي : نطهر أنفسنا لك . ولهذا قال : (( بيت المقدس )) أي : البيت المطهر ، أو المكان الذي يُتَطهَّر به من الذنوب . وقال الفراء : الأرض المقدسة الطاهرة ، وهي دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، و(( روح القدس )) هو جبريل عليه السلام معناه روح الطهارة ، أي : خُلِقَ من الطهارة . وقيل : لأنه ينزل بالقُدْس من الله ، أي : بما يُطَهِّر به نفوسنا وهو القرآن ، والحكمة ، والفيض الإلهي . المعنى الثاني : أنَّ القدس : هي البركة ، والأرض المقدسة أي : المباركة ، وهو قول قتادة ، وإليه ذهب ابن الأعرابي ، ويقويه أن اللَّه تعالى قد بيَّن أن الأرض المقدسة مباركة ، وذلك في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ، وهي الأرض المقدسة. (( والقُدُّوس )) على وزن : (( فعول )) بالضم من أبنية المبالغة( ). الدليل الشرعي : وقد ورد في القرآن والسُّنة ، أما في القرآن فقد جاء في موضعين : الأول : في سورة الحشر في قوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ } [ الحشر : 23 ] . الثاني : في مطلع سورة الجمعة وهو قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الجمعة : 1 ] . معنى الاسم في حق الله تعالى : قال ابن القيم : (( القدوس )) : المُنَزَّه من كل شر ونقص وعيب ، كما قال أهل التفسير هو الطاهر من كلِّ عيب ، المُنَزَّه عمَّا لا يليق به( ) . وقال ابن جرير في قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ]، {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } : ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ونصلي لك ، {وَنُقَدِّسُ لَكَ} : ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك ))( ) . اهـ . وقال البيهقي : (( القدوس )) هو الطاهر من العيوب المنزه عن الأولاد والأنداد ، وهذه صفة يستحقها بذاته( ) . وقال الغزالي : هو المنزه عن كل وصف يدركه حسٌّ ، أو يتصوره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يقضى به تفكير( ) . وقال ابن كثير في معنى القدوس : أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال( ) . وقال الألوسي : (( القدوس )) البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانًا أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به ، أو الذي لا يحد ولا يتصور( ) . وقال ابن القيم في النونية : هذا ومن أوصافه القدوس ذا الـ

تنزيه بالتعظيم للرحمـن * *

من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم 1- القدسية التامة لله من جميع الوجوه : فهو القدوس في أسماء وصفاته وأفعاله ، فأسماؤه كلها حُسنى لا شرّ فيها وصفاته كلها عليا لا نقص فيها وأفعاله كلها حكمة وعزة لا خلل فيها . فإن الله تبارك وتعالى هو القدوس من كل النقائص والعيوب منزه عن كل الآفات ، فمن ذلك على سبيل المثال : أولاً : تقدَّس أن يكون له شريك : قال تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } [ البقرة : 255 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }. ثانيًا : تقدَّس أن يكون له زوجة أو ولد : أخبر تعالى عن الجن أنهم قالوا : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا } [ الجن : 3 ] . وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } . ثالثًا : تقدَّس عن الموت ، والنوم : قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } . وقال تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } . وقال النبي ﷺ : (( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ))( ). * *

رابعًا : تقدَّس عن الظلم : قال تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظالموا ))( ) . وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } . وذلك مع قدرته على خلقه فهو خالقهم ومالكهم ، ولذلك فقد ورد اسم (( القدوس )) مرتين في القرآن اقترن فيهما باسمه الملك جل جلاله . خامسًا : تقدَّس عن الكذب : فقوله الصدق وخبره الحق ، قال سبحانه : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [ النساء : 87 ] ، وقال تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ حَ‍قًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } [ النساء : 122 ] . سادسًا : تقدَّس عن الضلال والنسيان : أخبر تعالى عن نبيه موسى أنه قال : { لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى } [ طه : 52 ]. سابعًا : تقدَّس عن الفقر والبخل - جل جلاله وتقدست أسماؤه : قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } ، وقال النبي ﷺ : (( يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سَحَّاء الليل والنهار ، وقال أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده ))( ) . ثامنًا : تقدَّس عن الفناء : قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] . تاسعًا : تقدَّس عن الشبيه والمثيل : قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، فلم يُقدِّس اللهَ من شبهه بخلقه أو نفي عنه أسماءه وصفاته فكلاهما على ضلال مبين. ولو استقصينا أوجه التقديس لله عز وجل ما استطعنا أبدًا ولا أحصيناها؛ لأنها لا نهاية لها وقال النبي ﷺ : (( لا أُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك )) ( ). 2- ليس كمثله شيء في قدسيته : فسبحان الله الملك القدوس عن كل نقص وعيب ، ومن قدسيته أنه ليس كمثله شيءٌ فيها ، وذلك لأسباب كثيرة منها . أولاً : قدسية الله تامة وكاملة ، وقدسية الخلق ناقصة : فإن قدسية الخلق وطهارتهم إنما تكون في حالٍ دون حال ، وفي جهة دون أخرى ، وعلى كل حال ومهما بلغت درجة كمال المخلوق ، فهي قدسية تناسب المخلوق الضعيف الناقص . فقد يتطهر العبد وقت العبادة في الصلاة أو غيرها ولكنه لا يملك هذا في جماعه لزوجته أو حال قضائه لحاجته . وقد يطهر نفسه بالطاعة والعبادة ولكنه يتدنس مرة أخرى بالمعصية والذنوب ، ومن ذلك قول النبي ﷺ : (( كل ابن آدم خطائين وخير الخطائين التوابون ))( ) . وقد يقدس العبد نفسه بألا يذلها للناس ويتعفف عما في أيديهم ، ولكنه سيظل دائمًا أبدًا محتاجًا إلى الله فقيرًا لغناه ذليلاً لعزته . أما الله جل جلاله فهو القدوس من جميع الوجوه منزه عن كل نقص من جميع الجهات مُبرأ من كل عيبٍ . ثانيًا : قدسية الله دائمة ، وقدسية الخلق مؤقتة : فقدسية الخلق لها بداية ولها نهاية فوجودهم سبقه العدم ، ويلحقه الفناء ، قال تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [ الإنسان : 1 ] ، وقال تعالى لنبيه زكرياء : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } [ مريم : 9 ] . فقد سَبق قدسيةَ الخلق عدمُهم ، وقد كان قبل كمالهم نقصُهم ويلحق بكل ذلك فناؤهم فقدسية الخلق محدودة بالوقت والحال . فعن ميسر بن جحاش القرشي أن رسول الله ﷺ بزق يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال : (( قال الله تعالى : يا ابن آدم ، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعَدَلْتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التَّراقي قلت : أتصدق وأنَّى أوان الصدقة ))( ) . ويُروَى أن أحد الملوك كان ماشيًا في موكبه فرأى رجلاً جالسًا تحت شجرة ، فلما مرَّ عليه لم يقم الرجل ولم يعظمه ، فقال له أو لا تعرفني ؟ قال : بل أعرفك : (( أوَّلُك نطفة قذرة ، وآخرك جيفة مزرة ، وأنت بين ذلك تحمل في بطنك العذرة( ) )) . أمَّا قدسية الله جل جلاله فهي قدسية دائمة فلم يسبق وجودها عدم ، ولا دنس ولا يلحقها نقص ولا خلل وليس لها نهاية ولا فناء . 2- التقديس الحق لله تبارك وتعالى يكون بشرعه : كما قال تعالى عن الملائكة في قولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] ، فالتقديس لله وتقديس الله بمعنى واحد ، وأفضل ما يمكن تقديس الله به هو عبادته بما جاء في شرعه من كتابه وسنة رسوله بالعقائد الصحيحة والأقوال الطيبة والأعمال الصالحة ، وهذا ما ارتضاه الله لنفسه من خلقه ، ومن ذلك : 1- تقديس الله بالتوحيد والإيمان الصحيح : فأعظم ما يُقَدِّس العبادُ به ربهم هو الإيمان والتوحيد ونفي الشركاء عنه والأنداد وتنزيهه عن كل نقص وعيبٍ نسبه إليه الكافرون والمشركون ، لذلك حين سُئل رسول الله ﷺ عن أعظم الذنوب قال : (( أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك ))( ) ، ولأن الشرك هو أعظم السبِّ لله جل جلاله وتقدست أسماؤه فقد قال تعالى في الحديث القدسي : (( كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي ، فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أولُ الخلق بأهون عليَّ من إعادته وأما شتمه إياي ، فقوله : اتخذ الله ولدًا ، وأنا الأحدُ الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لي كفوًا أحد ))( ). ومن أجل ذلك كان أعظم الأعمال وأفضلها هو الإيمان بالله . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سُئل أيُّ العمل أفضل ؟ فقال : (( إيمانٌ بالله ورسوله ... ))( ) . 2- تقديس الله بالقلوب : فإن اللَّه ينظر إلى القلوب فلا بد من تطهيرها لتليق بنظر اللَّه إليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ))( ) . وفي رواية لمسلم أيضًا زاد فيها : (( ... وأعمالكم )) . فمن ذلك حسنُ الظن بالله تعالى وحبُّه وخشيتُه والتوكل عليه وحب النبي ﷺ وحب المؤمنين في الله تبارك وتعالى وتطهير القلوب من النفاق والرياء والشهوات المحرمة ليسلم القلب لتقديس الله عز وجل ، فقد قال الله تعالى : { يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . 3- تقديس الله بالأعمال : كالطهارة : وهي تقديس البدن ليليق بعبادة الله وتلاوة كلامه المقدَّس والوقوف بين يديه في الصلاة . والصلاة : فإن العبد يقدس الله فيها بالتسبيح والتكبير والتعظيم ، وكذلك بالركوع والسجود . ولذلك فإن الصلاة تطهر العبد من دنس المعاصي والذنوب من جهتين : الأولى : أنها سبب لطهارته من ذنوبه السابقة . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (( أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء )) . قالوا : لا يبقى من درنه . قال : (( فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ))( ) . الثانية : النهي عن الخبائث فيما يعرض له . قال تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] . والزكاة : بأن يطيب ما ينفق في سبيل الله ، فقد قال النبي ﷺ : (( إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا ))( ) . وهي كذلك تطهير للنفس من الخبائث ، قال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] . وقد كانت عائشة رضي الله عنها تطيب الصدقة وتعطرها قبل أن تعطيها السائل وتقول : (( إنها لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل )) . دعاء الله باسمه القدوس : 1- فقد كان النبيُّ ﷺ الاسم في ركوعه وسجوده ، وهو دعاء ثناء وحمد . فعن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول الله ﷺ كان يقول في ركوعه وسجوده : (( سُبُّوح قدوسٌ رب الملائكة والروح ))( ) . 2- ذكر الله وتسبيحه به بعد الوتر : فقد كان النبيُّ يسبح اللهَ به بعد فراغه من صلاة الوتر كما جاء في حديث أُبي بن كعب قال : (( كان رسولُ الله ﷺ يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ))( ) .

(( الغَنِيُّ )) جل جلاله وتقدست أسماؤه المعنى اللغوي : الغنىُّ في كلام العرب الذي ليس بمحتاج إلى غيره ، وكذلك اللَّه ليس بمحتاج إلى أحدٍ جلَّ وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }( ) [ العنكبوت : 6 ] . وقال الراغب الأصفهاني : الغِنَى يقال على ضُروب : أحدها : عدم الحاجات ، وليس ذلك إلا لله تعالى وهو المذكور في قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ الحج : 64 ] . الثاني : قلة الحاجات ؛ وهو المشار إليه بقوله : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } [ الضحى : 8 ] . الثالث : كثرة القنيات ؛ كما جاء في قوله : { مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } [ النساء : 6 ] . الرابع : وقد يعني عدم الاحتياج إلى ما عند الناس فلا يفتقر إليهم فيتعفف عما عندهم ، كما قال تعالى : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } [ البقرة : 273 ] . وكما قال النبي ﷺ : (( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ))( ) . وكما قال الشاعر : العيش لا عيش إلا ما قنعت به قد يَكْثُرُ المالُ والإنسانُ مُفْتَقِر

الخامس : قد يعني (( الكفاية )) يقال : أغناني كذا ، وأغنى عنه كذا إذا كفاه ، كما في قوله تعالى : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ } [ الحاقة : 28 ] ، وكما قال تعالى : { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [ آل عمران : 10] . وقيل : (( تَغَنَّى )) بمعنى استغنى ، وحُمِل قوله ﷺ : (( ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن ))( ) على ذلك( ) . الدليل الشرعي : ورد الاسم في ثمان عشرة آية من كتاب الله ؛ منها قوله تعالى : { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } [ الأنعام : 133 ] . وقوله : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] . وقوله تعالى : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] . وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] . معنى الاسم في حق الله تعالى : قال ابن كثير : { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } [ الأنعام : 133 ] . (( وربك يا محمد )) الغنيُّ : أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم( ) . وقال أيضًا : (( غَنِيٌ عمَّا سواه وكلُ شيءٍ فقير إليه ))( ) . وقال ابن جرير في قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة : 267 ] ، واعلموا أيها الناس أن اللَّه عز وجل غنيُّ عن صدقاتكم وعن غيرها ، وإنما أمركم بها وفَرَضَها في أموالكم رحمةً منه لكم ليُغْنِي بها عَائِلكم ويقوي بها ضعيفكم ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم لا من حاجة به فيها إليكم( ) . وقال الزجاج : وهو (( الغَنِيُ )) المُسْتَغْنِي عن الخلق بقدرته وعز سلطانه والخلق فقراء إلى تَطَوُّلِهِ وإحسانه ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [ محمد : 38 ]( ) . وقال الزجاجي : الغنى في كلام العرب : الذي ليس بمحتاج إلى غيره ، وكذلك الله ليس بمحتاج إلى أحد ، جلّ وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ، كما قال : { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 6 ] . فاللَّه عز وجل ليس بمحتاج إلى أحد فيما خلق ويخلق ودبَّر ويُدبِّر ويُعْطِي ويَرْزُق ويَقْضِي ويُمْضِى ، لا رادَّ لأمْرِه وهو على ما يَشاءُ قدير( ) . وقال الخطابيُّ : (( الغَنِىُ )) هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لملكه ، فليست به حاجة إليهم ، وهم إليه فقراء محتاجون ، كما وصف نفسه تعالى فقال عزَّ من قائل : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [ محمد : 38 ] . قال ابن القيم رحمه اللَّه : وهو الغني بذاته فغناه ذا تىُّ له كالجود والإحسان

من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم

أولاً : لا يوصف بالغنى المطلق إلا الله : فإن اللَّه غني بذاته عن كل ما سواه . قال البيهقي : الغَني هو الذي لا تَعَلُّقَ له بغيره لا في ذاته ولا في صفات ذاته ، بل يكون مُنزَّهًا عن العلاقة مع الأغيار( ) ، ومن علامات ذلك الغنى : 1- أن اللَّه عز وجل (( غني عن الطعام والشراب )) - كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 56- 58 ] . 2- (( وهو غني عن الزوجة والولد )) ، وهذا يعني الوحدانية المطلقة ليس كما يَسُبُّه الكفارُ أصحاب عقيدة التثليث فإن الحاجة إلى الزوجة والولد ضعف وافتقار ، تعالى اللَّهُ عن ذلك علوًا كبيرًا . قال تعالى : { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [ يونس : 68 ]. 3- (( غني عن خلقه )) ، فما خلق اللهُ الخلقَ ليستأنس بهم من وحشة ، ولا ليستكثر بهم من قلة ، ولا لينصروه على عَدُوٍ ، ولكن خلقهم ليذكروه كثيرًا ويعبدوه طويلاً ويسبحوه بكرة وأصيلاً . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } . فإن اللَّه جل جلاله غنيُّ عن العلائق والروابط والصلات ، فصِلاَتُه بخلقه صِلاَتُ ربٍ رزَّاق لعباد محتاجين وصلته بهم صلة عطاء وتفضل بعد خلق وإيجاد ، أما صلة الخلق به سبحانه صلة أخذٍ من رزقه وانتفاع بما عنده ، فالعبد يدعو والله يجيب ، والخلق يحتاجون والزراق يعطيهم ، والعباد يفتقرون والغنيُّ يغنيهم ، وإذا قدَّموا شيئًا من أموالهم فإنما هم الذين ينتفعون به ويجازيهم بأضعاف ما عملوا ويزيدهم من فضله ، وانظر إلى أجمل حديث يعبِّر عن هذا المعنى ، قال اللَّه تعالى في الحديث القدسي : (( ... يا عبادي ، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نَقُصَ ذلك من ملكي شيئًا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))( ) . 4- (( وغني عن عبادة خلقِه )) . فهو غني عن إيمانهم ؛ قال تعالى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] . وغنيُّ عن شكرهم ؛ قال تعالى : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] . (( وغني عن جهادهم )) ؛ قال تعالى : { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 6 ] . ثانيًا : أنتم الفقراء إلى الله : فالرب سبحانه غنيُّ بذاته ، والعبد فقير بذاته ، محتاج إلى ربه ، لا غنى له عنه ، ولو طرفة عين . قال ابن القيم رحمه اللَّه : (( إن اللَّه هو الغني المطلق ، والخلق فقراء محتاجون إليه ، قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] ، بَيَّن سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمرٌ ذاتيٌ لهم لا ينفك عنهم ، كما أن كونه غنيًا حميدًا ذاتي له ، فغناه وحمده ثابتٌ له لذاته ، لا لأمرٍ أوجبه ، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه ، فلا يُعلَّل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان ، بل هو ذاتي للفقير ، فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة ، كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه . فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة ، وكل ما يُذكر ، ويُقدر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا عِلَلٌ لذلك ، إذ ما بالذات لا يُعلل ، فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته . وفقر العالم إلى اللَّه سبحانه أمر ذاتي لا يُعلَّلَ فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته . فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا ، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيًا ، كما أنه يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا ، والربُّ إلا ربًا . ثالثًا : فقر العباد إلى ربهم فقران : مما سبق عُرف أن فقر العباد إلى ربهم فقران : الأول : فقرٌ اضطراري ، وهو فقرٌ عام لا خروج لبرٍ ولا فاجرٍ عنه ، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ، ولا ثوابًا ولا عقابًا ، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ، ومصنوعًا . الفقر الثاني : فقر اختياري ، وهو فقر الخشية والطاعة وذلة العبودية . وهو نتيجة علمين شريفين ؛ أحدهما : معرفة العبد لربه ، والثاني : معرفته بنفسه ، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته ، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين ، فمن عرف ربه بالغنى المطلق ، عرف نفسه بالفقر المطلق ، ومن عرف ربه بالقدرة التامة ، عرف نفسه بالعجز التام ، ومن عرف ربه بالعِزِّ التام ، عرف نفسه بالمسكنة التامة ، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة التامة ، عرف نفسه بالجهل . فإن اللَّه تعالى قد أخرج العبد من بطن أمه ضعيفًا مسكينًا ، جاهلاً ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } . وسخر اللَّه له ما في البر والبحر مما يصلحه ويعينه على أمر دينه ودنياه ، فلما شعر بأن له قدرة على السعي ، واستطاعة على التدبير ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادَّعى لنفسه مُلكًا مع الله سبحانه ، ورأى نفسه بغير هذا الضعف الأول الذي كان عليه ، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة ؛ حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج ، بل كأن ذلك شخصًا غيره . كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن النبي ﷺ بزق يومًا في كفه ، فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : (( قال اللَّه : ابن آدمَ ، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سَوَّيْتُك وعدَلْتُك مشيْتَ بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قُلت : أتصدَّق ، وأنى أوان التصدق ))( ) . ومن هنا خَذَل من خذل ، ووفَّق من وفق ، فحجب المخذولَ عن حقيقته ونسي نفسه ، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه ، فطغى وعتا فحقَّتْ عليه الشِقْوَةُ ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6، 7 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل 5 - 10 ] . فأكمل الخلق أكملهم عبودية ، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين . وقد كان النبي ﷺ أعظم الناس افتقارًا إلى ربه ، وكان من دعائه : (( اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت ))( ) . وقد كان يعلم أن قلبه الذي بين جنبيه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئًا ، وأن اللَّه سبحانه يصرفه كما يشاء ، وكان يدعو : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ))( ) . ولما عُرض عليه المُـلْكُ والعبودية اختار أن يكون فقيرًا لربه ، وعبدًا لمولاه . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ﷺ : (( يا عائشة ، لو شئت لسارت معي جبال الذهب ، جائني ملك إن حُجْزته لتُساوي الكعبة ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول : إن شِئتَ نبيًّا عبدًا ، وإن شئت نبيًّا ملِكًا ؟ فنظرت إلى جبريل عليه السلام ، فأشار إليَّ أن ضع نفسك ، قال : فقلت : نبيًّا عبدًا )) . قالت : فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك لا يأكل متكئًا يقول : (( آكل كما يأكلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ ))( ) . فأصبح بهذا النوع من الافتقار سيد ولد آدم ، وصاحب لواء الحمد ، وأول من تفتح له الجنة ، وصاحب المقام المحمود ، وأُسري به في السماوات السبع ؛ لأنه كان كامل العبودية ، وكامل الافتقار لربه ، قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] . واستحق أن يُغْفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ففي حديث الشفاعة : (( إن المسيح يقول لهم : ائتوا محمدًا عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ))( ) . * *

رابعًا : ليس كمثله شيءٌ في غناه : وهذا من وجوه : الأول : كثرة ما عند اللَّه : قال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] . قال ابن كثير في هذه الآية : (( أي هو الخالق للأشياء المالك لها المُتَصرِّف فيها القادر عليها ، فالجميع ملكه وتحت قهره ، وقدرته وفي مشيئته ، فلا نظير له ولا وزير ، ولا عديل ولا والد ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، ولا إله غيره ولا رب سواه ))( ) . الثاني : غناه دائم : فما من مخلوق أصبح غنيًّا إلا بعد فقر أو تكون عاقبتُه إلى فقر أو يفني المال وصاحبه ، أما اللَّه جل جلاله فغناه دائم لا يفنى أبدًا ، قال تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] ، وقال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] . الثالث غناه ذاتيُّ : أي أن غنى اللَّه في ذاته وليس فيما يراه الناس من الملك في السماوات والأرض ، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له : كن فيكون ، ولكن غنى الخلق إنما يكون بما يمتلكون من ثروات وأموال ، فكل من وُصِف بالغنى من الخلق فإنما يحتاج إلى ما يملك ، أما اللَّه جل جلاله فإنما يحتاج كل ملكه وكل خلقه إليه ، فلا يحتاج اللَّه إلى العرش ولا حملته ولا الكرسي وعظمته ، ولا يحتاج إلى ميكائيل ليرزق الخلق ، ولا إلى جبريل لتبليغ رسالته ، بل كل هؤلاء وغيرهم من خلق الله يحتاجون إليه من كل الوجوه وهو غني عنهم من كل الوجوه . الرابع : غناه مطلق : فإن الخلق يحتاجون إلى ما تقوم به أبدانهم وأرواحهم ، وهذا يجعلهم فقراء إلى رزق اللَّه من كل الوجوه ، فإنهم فقراء إلى الطعام وإلى الشراب ، والنفس والروح والسعادة والزوجة والولد ، والسمع والبصر .. هذا فقرٌ مطلق إلى اللَّه الذي بيده هذه النعم وغيرها مما لا غنى عنه للخلق ، أما اللَّه جلَّ جلاله فإنه غنيّ عن ذلك كله ، بل وعن كل ما سواه ، تبارك وتعالى ، لذلك فإن غنى اللَّه غنى مطلق ، وكل العباد فقرهم إلى اللَّه فقر مطلق . * *

خامسًا : وأنه هو أغنى وأقنى من أسباب الغنى قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] . فإن الغنى والعطاء بيد من له ملك الأرض والسماء ، فلا يَغْتَني أحدٌ إلا بإذنه ، ولا يُرزق أحدٌ إلا من عطائِه ، وقد جعل اللَّه لرزقه أسبابًا يُغنى بها من أراد من عباده ، فمن هذه الأسباب : 1- المتفرغ للعبادة : قال تعالى في الحديث القدسي : (( يا ابن آدم ، تفرغ لعبادتي أملء صدرك غنىً ، وأسد فقرك، وإلاَّ تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ))( ) . وفي رواية قال : (( يا ابن آدم ، تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنًى وأملأ يديك رزقًا ، يا ابن آدم ، لا تباعد منِّي فاملأ قلبك فقرًا وأملأ يديك شغلاً ))( ) . 2- من نزلت به فاقة فأنزلها باللَّه : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: (( من أصابته فاقة( ) فأنزلها بالناس لم تُسدُّ فاقتُه ، ومن أنزلها باللَّه فيوشك( ) اللَّهُ له برزق عاجل أو آجل ))( ) . ولله درُّ القائل : لا تسألن بنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجبُ

اللَّهُ يغضبُ إن تركتَ سؤاله وبنيَّ آدم حين يُسأل يغضب

3- المتابعة بين الحج والعمرة : قال النبي ﷺ : (( تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد ))( ) . 4- تقوى اللَّه عز وجل : قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ، وقال اللَّه تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] . 5- الاستغفار : قال تعالى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [ الحج : 10- 12 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ، ومن كل هم فرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ))( ) . 6- إرادة الزواج تعفُّفًا : قال تعالى : { وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 32 ] . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : (( أطيعوا اللَّه فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ))( ). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( التمسموا الغنى في النكاح ))( ). وقال النبي ﷺ : (( ثلاثة حق على اللَّه عونهم : الناكح يُريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل اللَّه ))( ). 7- الاستغناء باللَّه عن الخلق : عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : (( ... من يَسْتعفف يعفُّه اللَّهُ ، ومن يَسْتَغني يُغْنِهِ اللَّه ))( ) . وقال النبي ﷺ : (( ليس الغِنَى عن كثرة العرض ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النفس ))( ) . وقد أحسن مَن قال : (( ما أجمل إحسان الأغنياء إلى الفقراء رجاءً لثواب اللَّه وأحسن منه تيهُ الفقراءِ على الأغنياء ثقة فيما عند اللَّه )) . 8- صلة الرحم : عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( من أحب أن يُبْسَط له في رزقه ، ويُنسأ له في أثره ، فليصل رحمه ))( ) . 9- الزكاة والصدقة : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( قال اللَّه عز وجل : أَنْفِق أُنْفِق عليك ))( ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: (( ما فتح رجل باب عطية بصدقة أو صلة إلا زاده اللَّه تعالى بها كثرة ، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده اللَّه تعالى بها قله ))( ) . 10- من كان همُّه الآخرة : قال النبي ﷺ : (( من كانت الآخرةُ نيتَه ، جمع اللَّه له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ... ))( ) . وكان أصحاب النبي ﷺ ينصح بعضهم بعضًا بثلاثة أمور، فيقولون : (( من أصلح ما بينه وبين اللَّه أصلح اللَّه الذي بينه وبين الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح اللَّهُ علانيته ، ومن اهتم بآخرته كفاه اللَّه أمر دنياه )) . 11- الدعاء : عن أبي هريرة أن النبي ﷺ كان يقول : (( إذا بقي ثلث الليل ينزل اللَّه عز وجل إلى سماء الدنيا ، فيقول : من ذا الذي يدعوني استجيب له ؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له ؟ من ذا الذي يسترزقني أرزقه ؟ من ذا الذي يستكشف الضرَّ أكشفه ))( ) . وعن سلمان رضي الله عنه قال : لمَّا خلق اللَّهُ آدم عليه السلام قال : (( واحدةٌ لي ، وواحدة لك ، وواحدة بيني وبينك ، فأما التي لي : تعبدني ولا تشرك بي شيئًا ، وأمَّا التي لك : فما عملت من شيءٍ جزيتك به ، وأنا أغفر وأنا غفورٌ رحيمٌ ، وأما التي بيني وبينك : منك المسألة والدعاء ، وعليَّ الإجابة والعطاء ))( ) . * *

من أسباب الفقر ... (( وهؤلاء يُفْقِرهم اللَّه ))

1- المعصية : جاء في الأثر : (( إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه )) . وقد قال النبي ﷺ : (( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنَّ أحدكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية اللَّه ، فإن اللَّه تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته ))( ) . 2- سؤال الناس : قال رسول الله ﷺ : (( ثلاثةٌ أُقْسِم عليها وأحدثكم حديثًا فاحفظوه : ما نقص مالُ عبد من صدقة ولا ظُلم عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده اللَّه عزًا، ولا فَتَحَ عَبْدٌ بابَ مَسْأَلةٍ إلا فَتَحَ اللَّهُ عليه بَابَ فقر ... ))( ) . وقال ﷺ : (( من أصابته فَاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته ، ومن أنزلها باللَّه فيوشكُ اللَّهُ له برزق عاجل أو آجل ))( ) . 3- الربا : قال تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 276 ] . قال ابن كثير : (( يخبر اللَّه تعالى أنه يمحق الربا يُذهبه إما بأن يُذْهِبه بالكلية من يد صاحبه ، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به ، بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ : (( إن الربا وإن كثرُ فإن عاقبته تصيرُ إلى قُل ))( ) ))( ) . 5- الكذب : عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( البَيِّعَان بالخيار ما لم يَتَفَرَّقَا فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما مُحِقَت بركةُ بيعهما ))( ) . 6- الحلف في البيع : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (( الحَلِفُ منفقةٌ للسلعة ، ممحقةٌ للكسب ))( ) . وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : (( إياكم وكثرة الحلف في البيع : فإنه يُنَفِّقُ ثم يمْحَقُ ))( ) . 7- مانع الزكاة : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ: (( لم يمنع قومٌ زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ))( ) . 8- ترك الحكم بما أنزل اللَّه : (( وخمس بخمس )) . فإن من فعل ذلك فقد خالف الغَنيَّ في حكمه فأفقرهم . عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( خمس بخمسٍ : ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل اللَّهُ إلا فشا فيهم الفقرُ ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طفَّفُوا المكيال إلا مُنِعوا النبات ، وأُخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطر ))( ) . 9- السخط والقنوط : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( إن من ضعف اليقين إرضاء الناس بسخط الله ، وحمدهم على رزق الله ، وذمِّهم على قدر الله وجلب الرزق بمعصية اللَّه ، فإن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا تدفعه كراهية كاره ، وإن الله برحمته جعل الرَّوْح في الرضى واليقين ، وجعل الفقر في السخط والقنوط )) . 10- من كانت الدنيا همَّه : قال رسول الله ﷺ : (( من كانت الدنيا همَّه فرَّق اللَّه عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ))( ) .

(( الوهاب )) تبارك وتعالى قال ابن القيم رحمه اللَّه : وكذلك الوهَّابُ من أسمائه فانظر مواهبه مدى الأزمان

أهل السماواتِ العُلَى والأرضِ عن تلك المواهب ليس ينفكان

المعنى اللغوي : الواهب : الكثير الهبة والعطية ، والوهَّاب على وزن الفعَّال للمبالغة ، فالله عز وجل هو الوهَّابُ يَهَبُ لعباده واحدٍ بعد واحدٍ ويعطيهم فجاءت الصفة على وزن فعَّال لكثرة ذلك وتردَّده . والهبة : الإعطاء تفضلاً وابتداءً من غير استحقاق ولا مكافأة ، وقيل : الهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عِوضٍ ولا غَرَضٍ وبغير قدرة من الموهوب على كسبها ولا تكون هبة إلا بهذين الركنين : 1- التملك . 2- بلا عوض( ) . الدليل الشرعي : ورد اسم (( الوهاب )) تبارك وتعالى في كتاب اللَّه سبحانه وتعالى ثلاث مرات وهي : الأولى : قال تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] . الثانية : قال جل جلاله : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] . معنى الاسم في حق الله جل جلاله : قيل : (( الوهَّاب )) هو الذي يهب العطاء دون عِوَض ويمنحُ الفضلَ بغير غرض . قال الخطابي : (( الوهَّاب )) هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يدٍ من غير استثابة ؛ أي من غير طلب للثواب من أحد . قال تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } [ البقرة : 22 ] . وقال جل جلاله : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] . فانظر إلى هباته - سبحانه وبحمده - تتابعت نعمه وفاض كرمه وزاد بره وكثر خيره . (( يغفِرُ ذنبًا ، ويُفرِّج كربًا ، ويَجْبُر كسيرًا ، ويُغني فقيرًا ، ويشفي سقيمًا ويُخْصِبُ عقيمًا ، ويعلِّم جاهلاً ، ويهدي ضالاً ، ويرشد حيرانًا ، ويغيث لهفانًا ، ويفك عانيًا ، ويكسو عاريًا ، ويُسلِّي صابرًا ، ويزيد شاكرًا ، ويقبل تائبًا ، ويجزي محسنًا ، ويعطي محرومًا ، وينصر مظلومًا ، ويقصم ظالمًا ، ويُقِيلُ عثرةً ، ويسترُ عورةً ، ويؤمِّن روعة ، ويزيل لوعة )) . وكل ذلك في غير استحقاقٍ من عباده ولا حقَّ لهم عليه . ولله درُّ القائل : ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعى لديه ضائع

إن نُعِّموا فبضله أو عُذِّبوا فبعدله وهو الكريم الواسع

لذلك قيل : (( الوهاب )) هو المتفضل بالعطايا الذي ينعم بها لا عن استحقاق عليه ، بل هي محض تفضل منه ، وما دفع أحدٌ من خلقه ثمنًا لها ولا كافأه عليها تبارك وتعالى ، وقيل أيضًا : (( الوهاب )) هو الذي يجود بجزيل العطاء والنوال كثير المنِّ والإفضال واللطف والإقبال ، يعطي من غير سؤال ، ولا يقطع فيما يحبه الآمال ، وصدق من قال : وهَّاب ما ترجو الخليقةُ من نعم سبحانه من رازق وهَّاب

والشاكرون من العباد يزيدهم نعمًا ويعطيهم بغير حساب

فانظر إلى هباته جل جلاله تحدثك عن خالقها ، وواهبها بأفصح لغة ، فتنطق بلسان حالها (( قائلةً )) : أن اللَّه عز وجل هو الذي وهبها في حالها ومآلها ولا وهَّاب لها غيره ولا رازق لها سواه . قال تعالى : { أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ النحل : 60 - 64 ] . ولو استقصينا الأدلة التي تتحدث عن هبات اللَّه جل جلاله في القرآن والسنة لا نكاد نحصيها كثرة وتعددًا وتنوعًا واختلافًا من كثرتها وتعددها واختلافها ، فما من مخلوق أُعطي رزقًا إلا والله هو الذي أعطاه ، وما من عبدٍ وُهِبَ نعمة إلا والله هو الذي وهبه . كما في قوله تعالى حين سُئل موسى عليه السلام عن اللَّه : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] . فالولد الصالح أيضًا هبة : قال تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 76 ] . وقال عز وجل عن نبيه داود عليه السلام : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] . وقال جل وعلا عن نبيه زكريا : { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى }[ الأنبياء : 90 ] . وقد يجمع اللَّه عز وجل لعبد من عباده كلا الهبتين من الذكور والإناث ، كما في قوله تعالى : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49، 50 ] . والزوجة الصالحة هبة : قال تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . وقال تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] . الأهل هبة : قال تعالى في نبيه أيوب عليه السلام : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا } [ ص 32 ] ، الأخ الصالح هبة ، قال تعالى عن نبيه موسى حين أرسل معه أخاه هارون : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [ مريم : 53 ] . النبوة هبة : قال جل وعلا عن نبيه موسى عليه السلام : { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 21 ] . وأخبر عن نبيه إسحاق ويعقوب عليهما السلام فقال : { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا } [ مريم : 49 ] . الأخلاق الطيبة هبة : فقد كان من دعاء النبي ﷺ : (( اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ))( ). وقال عز وجل عن هباته لبعض الأنبياء والرسل : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [ مريم : 50 ] . من آثار الإيمان باسم اللَّه (( الوهاب )) تبارك وتعالى : أولاً : أن (( الوهاب )) على الحقيقة هو اللَّه وحده . فإن كل من يهب شيئًا من الخلق إنما يهب من هبات اللَّه له ، فلا بد أن يهبه اللَّه ليَهَب ، وأن يُعطيَه اللَّه ليُعطي ، وأن يَرْزُقه اللَّه ليَرْزُق ، أما اللَّه فإنه يُطِعِم ولا يُطعم وهو يجير ولا يُجار عليه . وقال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] . ثانيًا : دعاء اللَّه باسمه الوهاب : وهذه ثمرة معرفة اللَّه بهذا الاسم الطيب رجاؤه وسؤاله من هباته وواسع فضله سبحانه وبحمده ، فمن نظر إلى واسع كرمه وجليل نعمه طمع في رحمته ، وخير من عرف اللَّهَ هم الأنبياءُ الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام . فانظر إلى نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام وهو يسأل الله عز وجل الحكم والصلاح ، فيقول : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ الشعراء : 83 ] . وتأمل نبي الله سليمان عليه السلام وهو يسأل المُلك فيقول : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } [ ص : 35 ] . وانتبه إلى دعاء نبي الله زكريا عليه السلام وهو يسأل الولد فيقول : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] . وقد سار الصالحون على درب الأنبياء والمرسلين عليهم السلام فتراهم يقولون : { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] . ثالثًا : العلم بأن الهبة ليست مجرد عطاء : فإن العطاء لا يكون هبة حتى يكون مقرونًا بطاعة وخير وبركة في الدنيا والآخرة . قال القاضي أبو بكر العربي : (( ولا تكون الهبة منه سبحانه والعطاء إلا أن يتعلق بنوع ما يكون به منعمًا محسنًا وذلك بما لا أَلَم فيه ولا ضرر فإذا كان ما يخلق ضررًا وألمًا لم تكن هبة )) . وهذا معنى قوله تعالى : { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ]. فقد علَّم اللَّه أولياءه كيف يسألونه الإنعام والإحسان على وجه لا يكون فيه مكر ولا استدراج ، كما فعل بالكفار حين خلق لهم ومكنَّهم مما فيه ضررهم وهلكتهم (( كالذي يُرْزَق فَيَطْغَى )) فالمرجو منه سبحانه هبة يكون مآلها كحالها ، لا تنفصل ولا تتغير ولا يقترن بها ضررٌ ولا ألم . وقد كان الأنبياء عليهم السلام يسألون ربهم تبارك وتعالى الهبات المقرونة بالمغفرة ، كما قال تعالى عن نبيه سليمان عليه السلام : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا } [ ص : 35 ] . ونبي اللَّه زكريا عليه السلام لم يسأل مجرد الولد والذرية ولكنه سأل وليًا للَّه صالحًا ؛ إذ قال : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا } [ مريم : 5 ] ، وسمعنا أن نبي اللَّه يحيى كان كثير البكاء ، فقال أبوه ( نبيُ اللَّه زكريا ) : يا رب ، إن ابني كثير البكاء ، فأُوحى إليه أن هذا ما سألتَهَ . قال : سألتُ وليًّا ، فقيل له : كذلك الأولياء لا يجف دمعهم . وقد وصف اللَّه عباد الرحمن فكان من دعائهم : { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يَعْنُونَ من يعمل بطاعة اللَّه فتقرَّ به أعينهم في الدنيا والآخرة( ) . فهم لا يسألون مجرد زوجة ، بل يسألون الصالحة منهن وهذا ما يسعدهم، كما قال النبي ﷺ : (( فاظفر بذات الدين تربت يداك ))( ) . ولا يسألون مجرد الولد والذرية ، ولكنهم يسألون أولادًا عُبَّادًا زُهَّادًا ، صالحين قانتين ، من الأبرار ليسوا من الفجار ، علماء ليسوا من الجهلاء . رابعًا : شكر اللَّه على هباته : من رأى هبات اللَّه لا يسعه إلا أن يسبح بحمده تبارك وتعالى ، كما قال خليل الرحمن عليه السلام حين وهبه اللَّه ولديه إسماعيل وإسحاق : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ إبراهيم : 39 ] . وقال النبي ﷺ : (( من لم يشكر الناس ، لم يشكر الله ))( ) . خامسًا الزهد : أيها الأحبة في اللَّه ، هل رأيتم هبة من هبات الدنيا قد بقيت لصاحبها ؟ فليعلم كل من وهبه اللَّه شيئًا من الدنيا أنه زائل عنه ولا بد ، فكما أخذه لابد أن يذهب عنه ، فلا ينشغل بالخلق عن خالقه ، ولا بالرزق عن رازقه ، ولا ينشغل بالهبة عن واهبها تبارك وتعالى ، ولا يشغله الفاني عن الباقي . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } . وقال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] . سادسًا : الرضا : الرضا إذا أُعطِي والرضا إذا مُنع . إن أُعِطيَ علم أن اللَّه عزَّ وجلَّ قد أعطاه برحمته ، وإن مُنِع علم أنّ الله تبارك وتعالى قد منعه بحكمته ، ولا يكون كعبد الدينار والدرهم ، فإنه لا يرضى إلا للدنيا ولا يسخط إلا لها ، فقد قال النبي ﷺ : (( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أُعطي رَضِيَ ، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ ))( ) . سابعًا : الصبر : الصبر عند المصيبة بضياع النعم والهبات : فقد يكون المنع هو عين العطاء ، فإن ابتلاك اللهُ بالحرمان من نعمة بأن صرفها عنك أو أخذها بعد أن وَهَبَك إياها فلا بد وأن هناك حكمة من ذلك ، فاصبر لحكم ربك ، وذلك لعدة أمور منها : 1- أن اللَّه يحب الصابرين . قال تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] . وقرب اللَّه أجمل من كل قريب ، وحب اللَّه أحلى من كل حبيب . ولله در القائل : لكل شيءٍ إذا فارقته عوض وليس للَّه إن فارقت من عوض

2- لأن اللَّه عز وجل هو صاحب النعم ، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : أرْسَلَتْ بنتُ النبيِّ ﷺ إن ابني قد احْتُضِر فاشهدنا ، فأرسل يقرئ السلام ويقول : (( إن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسَمَّى فلتصبر ولتحتسب ))( ) . وقال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 6 ] . فمن أعظم ما يُسلي العبد ويُصبِّره إرجاعه الأمر لصاحبه وتسليمه المُلك لمالكه ويعلم أنه لا حق له في النعم ، ولله أن يعطي ويمنع ويقبض ويبسط ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه . فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال له : (( أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحتسب به ؟ )) قلت : نعم . قال : (( فأنت خلقته ؟ )) قال : بل اللَّهُ خلقه . قال : (( فأنت هديته ؟ )) قال : بل اللَّه هداه . قال : (( فأنت ترزقه ؟ )) قال : بل اللَّه كان يرزقه ، قال : (( كذلك فضعه في حلال وجنِّبه حرامه ، فإن شاء اللَّه أحياه وإن شاء أماته ولك أجر ))( ) . 3- أن اللَّه يجزي الصابر على مصيبته ، والمحتسب الأجر عليها بخيرٍ مما فقد منه في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى في الحديث القدسي : (( إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة )) يريد عينيه( ) . ومن الأمثلة المُشْرِقَة بالصبر ، والناطقة بالرضى والاحتساب وقت المصيبة ما فعلته أم سُلَيْم رضي اللَّه عنها حين مات ولدها فغسَّلته وكفنته وتزينت لزوجها حتى جامعها ، فماذا كان جزاء هذا الصبر الجميل ؟ هذا ما يجيبنا عليه أنس بن مالك رضي الله عنه فيما اتفق عليه الشيخان ؛ فعن أنس رضي اللَّه عنه قال : كان ابنٌ لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة فقُبِض الصبيُ ، فلما رجع أبو طلحة ، قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سليم وهي أم الصبي : هو أسكن ما كان ، فقرَّبَتْ له العشاء فتعشى ، ثم أصاب منها ، فلما فرغ قالت : واروا الصبي ، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله ﷺ فأخبره . فقال : (( أعرستم الليلة ؟ )) قال : نعم . قال : (( اللهم بارك لهما )) ، فولدت غلامًا ، فقال لي أبو طلحة : احمله حتى تأتي النبي ﷺ ، وبعث معه بتمرات ، فقال : (( أمعه شيء ؟ )) قال: نعم تمرات . فأخذها النبي ﷺ فمضغها ، ثم أخذها من فِيه فجعلها في فِيِّ الصبي ، ثم حنَّكه وسماه عبد اللَّه . وفي رواية للبخاري : قال ابن عيينة : فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد قد قرأوا القرآن - يعني أولاد من عبد اللَّه المولود . وفي رواية لمسلم : مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب ، ثم تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك ، فوقع بها ، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها ، قالت : يا أبا طلحة ، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ، ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا . فقالت : فاحتسب ابنك . الثالث : أن اللَّه وإن ابتلي عبدًا بمصيبة فإنما يبتليه بشيء من المصائب ، ولكنه يُعافيه في كثير من النعم ويُنزل عليه أيضًا كثيرًا من الأرزاق ، فإذا تذكر العبدُ ما أنعم اللَّه به عليه هان عليه ما أصابه من البلاء وأعانه ذلك على الصبر والرضى عن اللَّه ، ولقد كان هذا هو حال السلف الصالح ، وسنذكر منها مثلاً ينطق بالحب وينبض بالرضى عن اللَّه في قضائه وقدره : عروة بن الزبير بن العوام : قطعت ساقُه ومات ولدُه في يومٍ واحد ، فلما جاءه الناس ليخفِّفوا عنه ويواسوه ، قال : إني واللَّه لراضٍ عن ربي ، فقد أعطاني اللَّهُ أربعة من الولد فأخذ واحدًا وأبقى ثلاثة فالحمد لله ، وأعطاني أربعة أطراف فأخذ واحدًا وأبقى ثلاثة ، فالحمد للَّه . ثامنا : ليس كمثله شيءٌ في هباته : إن اللَّه عزَّ وجلَّ هو (( الوهَّاب )) ، فلا يشبهه أحدٌ من مخلوقاته في هباته ، وذلك من وجوه : أولاً : لأنه خالق الهبات : فما من أحد من خلق اللَّه يهب هبةً إلا وهو محتاج إلى شيءٍ موجود مخلوق ليهبه ، وما خلق هذه الهبات وغيرها إلا اللَّه تبارك وتعالى ، فالناس يهبون من هبات اللَّه ، واللَّه يعطي من هباته هو ومن صُنع يده . قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } . ثانيًا : يهب بغير عوض ولا غرض : فكل من يهب شيئًا لغيره من الخلق فإنما يهبه لغرض في نفسه ، ومقابل يرجوه ، ولو لم يوجد هذا الغرض وذلك المقابل للهبات لم يُتصور حدوث الهبة . فالرجل يعطي الهبة لولدٍ أنجبه أو امرأة يتزوجها أو صديق يحبه ، ولو تصورنا أن هذه الروابط قد انفصلت أو انعدمت لم يُتصور معها الهبات ، فلو أن الولد عقَّ والده وهجره ، أو أن المرأة طُلِّقت من زوجها وتزوجت بآخر ، أو أن الصديق نقض عهده وخان ودَّه ، لم يُتصور وجود الهبات ، حتى العطاء للفقراء والمساكين الذين لا يُرجى منهم عطاءٌ ولا يتوقع منهم جزاءٌ فإنما يعطيهم من أجل غرضٍ آخر ؛ وهو النجاة يوم القيامة ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } [ الإنسان : 9 ] . أما اللَّه عزَّ وجلَّ فيهب بغير غرض ولا عوض ، يهب تفضلاً منه وإحسانًا ولطفًا منه وبرًا ، فكل المصلحة عائدة على العبد من هبات اللَّه في الدنيا والآخرة ، فمن ذلك أن اللَّه عز وجل أنزل المال لخلقه ليعينهم به على عبادته ثم يجزيهم على تلك العبادة الجنة في الآخرة . فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال : أن رسول الله ﷺ قال : (( إن اللَّه عز وجل قال : إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ))( ) . ثالثًا : كثرة هباته وعظمتها : فإن الناس وإن وهبوا فتكون هباتهم قاصرة ضعيفة ، فقد يهب الرجل مالاً أو نوالاً ، ولكن هل يستطيع أن يهب شفاءً لسقيم ، أو ولدًا لعقيم ؟ لا يقدر على ذلك وغيره إلا اللَّه وحده . قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ } . رابعًا : اللَّه عز وجلَّ هو الوهاب على الحقيقة : وكل الناس واهبين على المجاز أي لا يملكون العطاء إلا لمن أراد اللَّه ، فالوهَّاب في حقيقة الأمر وأصله هو اللَّه ، ولكن يجعل لذلك أسبابًا ، فقد قال النبي ﷺ : (( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه لك ))( ) . وحين جاء جبريل عليه السلام إلى مريم عليه السلام قال لها: { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا } ، وفي قراءة أُخرى : ( ليَهب لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا ) أي : أن الوهاب على الحقيقة هو اللَّه ، ولكن جبريل هو الذي تجري الهبة على يديه فيكون واهبًا على المجاز . خامسًا : عموم هباته وشمولها للخلق جميعًا : فإن العبد إن وهب غيره فإن هباته تكون خاصة بشخص دون آخر أو بجماعة دون غيرهم ، ولكن اللَّه عز وجل وهب خلقه جميعًا البر منهم والفاجر، المؤمن والكافر ، فما من أحد إلا وهو يتقلب في نعمه وينعم في هباته . قال تعالى : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } . سادسًا : الحكمة في الهبة : فإن الناس قد يهبوا من لا يستحق أو من تضره الهبة ، فيضروه من حيث أرادوا نفعه ، أمَّا اللَّه عزَّ وجلَّ فإنه حكيم فيما يهب ولمن يهب عليم بمن يستحق خبير بمن تصلحه الهبات ممن تفسده ، ولذلك فإنه لا يملك الهبة والنفع بها إلا الله وحده ، ولذلك فإنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . * *

العلي - الأعلى - المتعال (( جل جلاله وتقدست أسماؤه )) المعنى اللغوي : يأتي العُلُو في اللغة على أربعة معاني : 1- علو كل شيء ارتفاعه ، ويقال : علا فلانٌ الجبل إذا رقيه ويعلو عُلُوًا . 2- القهر والغلبة : يقال : علا فلانٌ فلانًا إذا قهره ، وعلوتُ الرجل غلبتُه ، ومن قول العرب : فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسرٍ وكاسرٍ

3- رفعة الشأن وعُلُو القدر : تقول العرب : (( على كعبه أي ارتفع شأنه ، كقوله تعالى : { وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى } [ طه : 4 ] ، والمعنى : هي الأشرفُ والأفضل بالإضافة إلى هذا العالم ، وتعالى : أي ترفَّع . 4- الكبر : كما قال تعالى في فرعون : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } [ القصص: 4 ]. وقال أيضًا : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } [ يونس : 83 ] ، وأيضًا كما قال تعالى في قوم فرعون : { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] . ورود هذه الأسماء في القرآن الكريم : ورد اسم اللَّه (( العليُّ )) في ثمانية مواضع منها : - قوله تعالى : { وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] . - وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج : 62 ] . - وقوله تعالى : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 12 ] . وأما اسم (( الأعلى )) فقد جاء في موضعين : - في قوله تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] ، وقوله : { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [ الليل : 20 ] . وأما (( المتعال )) فقد جاء مرة واحدة في قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 9 ] . معنى الأسماء في حق اللَّه تعالى : قال ابن كثير رحمه اللَّه : (( وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج : 62 ] كما قال : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 9 ] فكل شيءٍ تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه ؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا أكبر منه تعالى وتقدس ، وتنزَّه عزَّ وجلَّ عما يقول الظالمون المعتدون علوًا كبيرًا( ). فتعالى اللَّهُ عما يقول الجهميةُ وأشباهُهُم أن اللَّهَ في كل مكان ، وأنه أعلى وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء وفي أجواف جميع الحيوان ، تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : (( وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو ، وهو من صفات المدح له بذلك ، والتعظيم ؛ لأنه من صفات الكمال كما مدح نفسه بأنه العظيم ، والعليم ، والقدير والعزيز والحليم ونحو ذلك وأنه الحي القيوم ، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسنى فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه الصفات )) . فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللغوب ولا بضد العِزة وهو الذُّل ولا بضد الحكمة وهو السفه ، فكذلك لا يُوصف بضد العلو وهو السفول ، ولا بضد العظيم وهو الحقير ، بل هو سبحانه مُنزَّه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له ، فثبوت الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها وهي النقائص( ). اهـ. وقال ابن القيم رحمه اللَّه : هذا ومن توحيدهم إثبات أو صاف الكمال لربنا الرحمن

كعلوِّه سبحانه فوق السمــ ـاوات العُلى بل فوق كل مكان

فهو العليُّ بذاته سبحانه إذ يستحيل خلافُ ذا ببيان

وهو الذي حقًا على العرش استوى قد قام بالتدبير للأكوان * *

من آثار الإيمان بهذه الأسماء الكريمة

1- وجوب الإيمان بالعلو المطلق لله تبارك وتعالى من كل الوجوه : قال ابن القيم رحمه اللَّه : وهو العليُّ فكل أنواع العلـ ـوِّ له فثابتةٌ بلا نكران( )

وقال السعديُ (( العليُّ الأعلى )) : وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه : علو الذات وعلو القدر والصفات ، وعلو القهر والكبرياء ، فهو الذي على العرش استوى ، وعلىالملك احتوى ، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى( ). اهـ. إذن فجميع أنواع ومعاني العلوم ثابتة له سبحانه وتعالى دون أن نُعطِّل أو نُؤول شيئًا منها ، ومن أنواع العلو الثابتة لله جلَّ جلاله ما يلي : أولاً : إن اللَّه هو العلي في ذاته( ) : فقد قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وأخبر تعالى أن الأعمال الصالحة والكلام الطيب إليه يصعدان . قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . وقال تعالى : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [ غافر : 15 ] . قال ابن كثير في تلك الآية : يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم على جميع مخلوقات( ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: (( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى( ) عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها ))( ) . ثانيًا : هو العلي في كلامه : قال تعالى : { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [ التوبة : 40 ] ، فكلام اللَّه أعلى الكلام وأحكام الله أعلى الأحكام ، ومن ذلك كلامه الشرعي وكلامه القدري ، فأما كلامه الشرعي فقد قال تعالى عن القرآن الكريم : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] ، وقال تعالى : { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } [ عبس : 13، 14 ] . قال ابن كثير : جميع القرآن في صحف مكرمة أي معظمة موقرة ، (( مرفوعة )) أي عالية القدر ، (( مطهرة )) أي من الدنس والزيادة والنقص( ). وقد وصف الوليد بن المغيرة - وهو رجل كافر - كلام الله بقوله : (( وإنه يعلو ولا يُعلى عليه )) . أما كلامه القدري ، فإن الله إذا أراد شيئًا فَعَلَه وإذا أَمَرَ بشيءٍ حدث ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . وقال تعالى : { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } . ثالثًا : العلي في أسمائه وصفاته : فهو العلي في الملك ، قال تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ، والعلي في أسمائِه قال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } . رابعًا : واللَّه تعالى هو العلى في حكمه : قال تعالى : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } . خامسًا : وهو العلى في وحدانيته : (( فليس له زوجة أو ولد )) . فهو العلي المنزه أن تكون له صاحبةٌ أو ولد ، وهذا ما آمنت به الجن واعترفت به في قوله : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا } [ الجن : 3] . وهو العلي أن يكون له شركاءٌ أو أندادٌ : قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء : 42، 43 ] . 2- النبي ﷺ وأصحابه رضي اللَّه عنهم يؤمنون بأن اللَّه في السماء : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ ))( ) . وعن أنس رضي الله عنه أن زينب زوجة النبي ﷺ كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ وتقول : (( زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وزوجني اللَّهُ تعالى من فوق سبع سماوات )) . وفي رواية : وكانت تقول : (( إن اللَّه أنكحني في السماء ))( ). تعني قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } . وكذلك كانت عقيدة التابعين بإحسان للسلف الصالح . فقد قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب (( الإبانة )) : (( وأَئِمتنا كسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وسفيان بن عُيَيْنَة وحماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، والفضيل بن عياض ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، متفقون على أن اللَّه سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ))( ) . وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة المشهورة عنه : (( طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأُمة ، فما اعتقدوه اعتقدناه ، فممَّا اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي ﷺ في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها ، من غير تكييف ، ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، وأن اللَّه بائن من خلقه ، والخلق بائنون منه ، لا يَحِلُّ فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه ))( ) . 3- ثبوت الإيمان لمن آمن بعلو الله تبارك وتعالى : من غير تعطيل ولا تأويل ، فها هو الرسول ﷺ يشهد بالإيمان لمن آمن بعلو الله . فعن معاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال : وكان لي جارية ترعى غنمًا لي قِبَلَ أُحدٍ والجوانية ، فاطَّلَعْتُ ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم ، أسف كما يأسفون ، لكني صَكَكْتُها صكَّةً ، فأتيت رسولَ اللَّه ﷺ فعظَّم ذلك عليَّ قلتُ : يا رسول اللَّه ، أفلا أعْتِقُها ؟ قال : (( ائتني بها )) . فأتَيْتُه بها ، فقال لها: (( أين اللَّه ؟ )) قالت : في السماء ، قال : (( من أنا ؟ )) قالت : أنت رسول اللَّه. قال : (( اعتقها فإنها مؤمنة ))( ) . قال أبو سعيد الدارمي : ففي حديث رسول الله ﷺ هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن اللَّه عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن ، ولو كان عبدًا فأُعتق لم يَجُزْ في رقبة مؤمنة إذ لا يعلم أن اللَّه في السماء( ) . اهـ . 4- التواضع وذم التعالي والتكبر : قال ابن مسعود رضي الله عنه : من تواضع لله تخشعًا رفعه اللَّه ، ومن تكبَّر تجبرًا قسمه اللَّه . وقد كان النبي ﷺ أعظم الناس تواضعًا لربه ، فكان يقول : (( آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ))( ) . وانظر إلى ذكائه ﷺ وكم كان ربانيًّا ، فعندما نزل قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال : (( اجعلوها في ركوعكم )) ، وعندما نزلت : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] قال : اجعلوها في سجودكم( ) ، فاختار للناس تعظيم اللَّه في حال الخضوع وهو الركوع ، وأمرهم في أعظم موقف تذل فيه جباهُهُم وتغبر فيه وجوههم بأن يذكروا الله ويسبحوه باسمه الأعلى ليتذكروا ذِلتهم لعزته وخضوعهم لقوته ، فيكون ذلك سبب عزهم وهو أقرب المواقف للعبد من ربه ، فقد قال النبي ﷺ : (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء ))( ) . 5- ما علا شيءٌ من الدنيا إلا وُضِع : وما من طيرٍ طار وارتفع إلا كما طار وقـع

عن أنس رضي الله عنه قال : كانت ناقة رسول الله ﷺ العضباء لا تُسْبق أو لا تكاد تُسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبيُّ ﷺ ، فقال : (( حقٌ على اللَّه أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه ))( ) . وصدق من قال : الدنيا إذا حلت أوحلت ، وإذا كست أوكست ، وكم من مَلِكٍ له عَلاَمَاتٌ ، فلما عَلاَ ماتَ . أما التعالي الذي يعني التكبر ورغبة الترفع بالنفس عن الناس يجعل العبد جبارًا متكبرًا حتى يظن نفسه ندًا لله جل جلاله فيكون في ذلك هلاكه ، كما قال فرعون لقومه : { أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } . والمتكبر الذي يريد التعالي عن خلق اللَّه إنما ينازع اللَّهَ صفاته ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي : (( العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني بشيءٍ منهما عذَّبتُه ))( ) . ما من يدٍ إلا ويد اللَّه فوقها ولا ظالم إلا سَيُبْلى بظالم

6- الإخـلاص فإذا علم العبد أن الله تعالى هو العلى الأعلى فوق خلقه فهو فوقهم قاهر وعليهم قادر فلابد وأن يخشاه وحده ويرجوه وحده ويطلب منه الثوابَ وحده وقد وصف الله المخلصين بذلك كما قال تعالى : {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 19، 20]. 7- إن الله يحب معالي الأمور : إن اللَّه تبارك وتعالى هو العلي ، ولذلك فهو يحب معالي الأمور في كل شيء كالتوحيد والجهاد وحسن الخُلق ... وهكذا . وقد رُوى في بعض الحديث قال : (( إن اللَّه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ))( ) . 8- (( أولئك لهم الدرجات العُلى )) : فإن اللَّه عز وجل هو العلي وهو الذي يرفع ويخفض ولا يعلو أحدٌ إلا بطاعته ، ولعلوِ الناس عند اللَّه تبارك وتعالى أسباب .

فمن أسباب العلو : 1- الإيمان ، والعلم . قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11] . فإن الله يرفع بالعلم العبدَ المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك وقد جاء فى الصحيح أن نافع بن الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان وكان قد استعمله على أهل مكة فقال له عمر : (( من استخلفت على أهل الوادى ؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى فقال : ومن ابن أبزى ؟ فقال : رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى ؟ فقال : إنه قارىء لكتاب الله عالم بالفرائض . فقال عمر : أما إن نبيكم ﷺ قال : (( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين ))( ) . قال إبراهيم الحربى : كان عطاء بن رباح عبدًا أسودًا لامرأة من مكة وكان أنفه باقلاه ، قال : وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلى فلما صلى انفتل إليهم فمازالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم ، فقال سليمان لابنيه قوما فقاما ، فقال : يا بنيا لا تُقصرا فى طلب العلم فإنى لا أنسى ذُلَّنا بين يدى هذا العبد الأسود . وقال الحربى : وكان محمد ابن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخلة فى بدنه وكان منكباه خارجين كأنهما زجان فقالت أمه : يا بنى لا تكون فى مجلس قومٍ إلا كنت المضحوك منه المسخور به فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك ، فوَلِىَ قضاء مكة عشرين سنة ، قال وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرتعد حتى يقوم . وقال عبد الله بن داود : سمعت سفيان الثورى يقول : (( إن هذا الحديث عز فمن أراد به الدنيا وجدها ومن أراد به الآخرة وجدها . قال سفيان بن عيينة : أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء . وصدق القائل : ما الفَضْلُ إلاَّ لأَهْلِ العِلْـم إنَّهُمُ عَلَى الهُدَى لِمَن اسْتَهْدى أَدلاَء وقَدْرَ كُلِّ امْرىءٍ ما كَانَ يُحْسَنُه والجَاهِلُونَ لأهْلَ العلِم أَعَدَاءُ فَفُزْ بِعلم تَعش حـــيا به أَبدًا الناسُ مَوْتَى وأَهْلُ العِلْم أَحْيَاءُ

2- القرءان تلاوته وحفظه والعمل به عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قال : قال النبى ﷺ : (( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين ))( ) . فإن الله يرفع صاحب القرءان فى الدنيا والآخرة فأما فى الدنيا بالبركة فى العمر والسعة فى الرزق وحب الناس . وأما فى الآخرة فإن صاحب القرءان يرفعه الله فى الجنة ولا يزال يُرَّقِيَه حتى آخر آية معه . فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضى الله عنهما) عن النبى ﷺ قال : ((يُقال لصاحب القرءان : اقرأ وارتقِ( ) ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤوها ))( ) . وعن عائشة (رضى الله عنها) قالت : قال رسول الله ﷺ : (( الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذى يقرأن القرءان ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ))( ) . والماهر : أى الذى يُجيد لفظه على ما ينبغى بحيث لا يتشابه ولا يقف فى قراءته ، (مع السفرة) أى الملائكة أو الرسل (عليهم الصلاة والسلام) أى معهم فى منازلهم فى الآخرة . قال القاضى : يُحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له فى الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة لإتصافه بصفتهم مِنْ حَمْل كتاب الله تعالى قال ويُحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم ))( ) . 3- التواضع : لله ما أجمل هذه الصفة وما أعظمها فكم قرَّبت من الله عبدًا بعيدًا وكم أعقبت بعد تعبٍ عهدًا سعيدًا ، وكم أثمرت بعد خمول ذكرٍ صيتًا مجيدًا ، وكم رفعت بعد ذُلٍّ عبدًا رشيدًا . والجزاء من جنس العمل . قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا } [ القصص : 183 ] . وقال النبى ﷺ : (( ما نَقَصُتْ صدقةٌ من مال وما زاد اللهُ عبدًا بعفو إلا عِزَّا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )) ( ) . وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) عن رسول الله ﷺ قال : (( ما من آدمى إلا فى رأسه حَكَمَة( ) بيدِ مَلَك ، فإذا تواضع قيل للملك : (( ارفعْ حكمته ، وإذا تكبر قيل للملك : ضع حكمته ))( ) . ولذلك فإن المتكبر والذى يُريد العلو على الخلق فإن الله يجزيه بضد ما قصد . فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى ﷺ قال : (( يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فى صور الناس يعلوهم كل شىء من الصغار حتى يدخلوا سجنا فى جهنم يقال له بولس تَعلوهم نار الأنيار يُسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ))( ) . وقيل أن التواضع : (( هو أن تخرج من بيتك فما تلقى أحدًا إلا ظننته خيرًا منك )) . 4- "الشهادة فى سبيل الله" : فإن الشهيد قد قاتل لتكون كلمةُ اللهِ هى العُليا وقُتِل من أجل ذلك فجازاه الله بأن رفعه وأعلى درجاته فى الجنة فمن ذلك . (( أولاً )) جُعِل مأواهم تحت العرش : عن ابن مسعود (رضى الله عنه) أن رسول الله ﷺ قال : (( إن أرواح الشهداء فى جوف طير خضر ، لها قناديل تحت العرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوى إلى تلك القناديل … )) ( ) . (( ثانيًا )) للمجاهدين فى الجنة مائة درجة : عن أبى هريرة (رضى الله عنه) عن النبى ﷺ أنه قال : (( وإن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها اللهُ للمجاهدين فى سبيله ))( ) . (( ثالثًا )) من الشهداء من يسكن الفردوس الأعلى . عن أنس (رضى الله عنه) أن أم الربيع بنت البراء وهى أم حارثة بن سراقة أتت النبى ﷺ فقالت : يا رسول الله ألا تحدثنى عن حارثة ، (وكان قتل يوم بدر) فإن كان فى الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه فى البُكاء فقال : (( يا أم حارثة إنها جنان فى الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ))( ) . الله أكبر . ما أهنئه من عيش ، وما أعظمه من رزق فى الفردوس الأعلى أتدرى أخى الحبيب ما هى الفردوس ؟ لقد قال النبى ﷺ : (( إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ))( ) .

رابعًا : من الشهداء من يكلمه الله بغير حجاب : عن جابر بن عبد الله (رضى الله عنهما) قال : لقينى رسول اللهﷺ فقال لى : (( يا جابر مالى أراك منكسرًا ؟ )) . قلت : يا رسول الله استُشْهِدَ أبِى ، قُتِل يوم أُحُدٍ وترك عِيَالاً ودَيْنًا . قال : (( أفلا أبشرك بما لَقِى اللهُ به أباك ؟ )) . قال : قلت بلى يا رسول الله . قال : (( ما كَلَّم اللهُ أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب )) . وأحيا أباك فكلَّمه كِفاحًا( ) فقال : (( يا عبدى تمَنَّ على أُعْطِك ))، قال يارب تحيينى فأُقْتَل فيك ثانيةً ، قال الربُّ عز وجل : (( إنه قد سبق منِّى : أنهم إليها لا يرجعون )) . قال : وأُنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } [آل عمران : 16]( ) . 9- ليس كمثله شيءٌ في عُلُوِّهِ : فإن اللَّه هو العلي الأعلى جل جلاله وتقدست أسماؤه ، فلا يدانيه أحدٌ في علوه ، ولا يماثله شيءٌ في رفعته ، وذلك من وجوه منها : 1- له العلو المطلق من جميع الوجوه : فما من أحد من الخلق بلغ علوًا إلاَّ كان علوًا ناقصًا ، فقد يعلو في مالٍ ولا يعلو في رياسة أو حُكم ، أو يعلو في الدنيا ولا يعلو في الآخرة ، وقد يعلو في وقتٍ دون آخر ، أو في حال دون حال ، كمثل من يعلو في حال قوته دون ضعفه ، أو صحته دون مرضه ، أو شبابه دون هرمه . أما العلو المطلق من جميع الوجوه وفي كل الأحوال فهو لله عز وجل ، فإن اللَّه تعالى هو العلي الذي لا أعلى منه ولا يعلو عليه بل لا يدانيه أحدٌ من خلقه . ولذلك قال اللَّه عز وجل : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ... } . فإنه قد علا في الأرض وتكبر فيها ولم يستطع أن يعلو في السماء . 2- علو اللَّه دائم : فعلو الخلق مؤقت يسبقه العدم ويلحقه الفناء . أما علو اللَّه عز وجل فهو علوٌ لم يسبقه انخفاض ولا يلحقه دنو ، دائم لا يتغير ، ثابت لا يتبدل . 3- رحمته في علوه : فكل من أصابه شيءٌ من علو الدنيا فإنه يبتعد عن الضعفاء والمساكين ، وقد يأنف منهم . أما اللَّه سبحانه وبحمده قريب في علوه ، رحيم في كبريائه ، ودودٌ في عظمته ، عفوٌ في قدرته ، لا يمنعه شيءٌ عن خلقه إذا دُعي أجاب ، ولا يقف على بابه الحُجَّاب ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة ] . * *

الواسع تبارك وتعالى المعنى اللغوى : قال الجوهرى : الوُسْعُ والسَّعة : الجِدة والطاقة . قال تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أى على قدر غناه وسعته . وأوسع الرجل : إذا صار ذا سَعَةٍ وغِنَى . قال الأصبهانى : السعة تقال فى الأمكنة ، وفى الحال ، وفى الأفعال . كالقدرة ، والجود ونحو ذلك . ففى الأماكن قال تعالى : { أَرْضِي وَاسِعَةٌ } . وكقوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } . وفى الحال كقوله تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ } . وكقوله جل ذكره : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } . وفى القدرة قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } . قيل : (( لا يكلفهم إلا ما يُثمر لهم السعة أى جنة عرضها السموات والأرض كما قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . أما قوله تعالى : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } . فوصف لله جل ذكره نحو قوله تعالى : { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } . وقوله تبارك وتعالى : { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . فعبارة عن سعة قدرته وعلمه ورحمته وإفضاله كقوله تعالى : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } . وكما قال عز وجل : {ورحمتي وسعت كل شيء}( ). وروده فى القرآن الكريم : جاء فى القرآن ثمان مرات منها : قوله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور 32] . وقوله : { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 47] . وقوله : { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 26]. وقوله : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 261] . وكقوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 115] . معنى الاسم فى حق الله تعالى : قال الحليمى : "الواسع" ومعناه الكثير مقدوراته ومعلوماته المنبسط فضله ورحمته ، وهذا تنزيهٌ له من النقص والعِلَّة وإعتراف له بأنه لا يُعْجزه شىء ولا يخفى عليه شىء ورحمته وسعت كل شىء( ) . قال ابن جرير : "إن الله واسع عليم" يعنى جل ثناؤه بقوله (واسع) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجُود والتدبير( ) . وقال : "والله واسع عليم" والله واسع بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء ، "عليم" بمن هو أهل لملكه الذى يؤتيه وفضله الذى يعطيه ، فيعطيه ذلك لعلمه به وأنه لما أعطاه أهل إما للإصلاح به ، وإما لأن ينتفع هو به( ) كما فى قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 247 ] . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : "إن الله واسع عليم" أى جواد يسع لما يُسأل( ) ، وذلك كقوله تعالى فى الحديث القدسى : "… يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحدٍ فسألونى فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر …"( ) . وفى المقصد : "الواسع" مشتق من السعة والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ، وتضاف أخرى إلى الإحسان وبسط النعم ، وكيفما قدر وعلى أى شىء نزل فالواسع المطلق هو الله تعالى ، لأنه إن نظر إلى علمه فلا ساحة لبحر معلوماته ، بل تنفد البحار لو كانت مدادًا لكلماته ، وإن نُظِر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته وكل سعة وإن عَظُمَت فتنتهى إلى طرف والذى لا ينتهى إلى طرف هو أحقّ باسم السعة والله تعالى هو الواسع المطلق ، لأن كل واسع بالإضافة (أى بالمقارنة) إلى ما هو أوسع منه ضيق ، وكل سعة تنتهى إلى طرف فالزيادة عليها متصورة ، وما لا نهاية له ولا طرف فلا يُتَصوَّر عليه زيادة( ) . من آثار الإيمان باسم الله "الواسع" : أولاً : العلم بأن الله هو الواسع الحق : فى صفاته ونعوته فقد قال السعدى : الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها بحيث لا يحصى أحدٌ ثناءً عليه كما قال النبى ﷺ : (( لا أحصى ثناءً عليك … ))( )، بل هو كما أثنى على نفسه واسع العظمة والسلطان والملك ، واسع الفضل والإحسان ، عظيم الجود والكرم . ومن صور السعة في أسماء الله وصفاته ما يلي : 1 – فالله عز وجل واسع فى رحمته : قال تعالى : { فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } [الأنعام : 147] . وقال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأعراف : 156] . قال النبى ﷺ : (( إن لله مائة رحمة ))( ) . 2 - "واسع المغفرة" : قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [النجم : 32] . وقال تعالى فى الحديث القدسى : (( يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ، يا ابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ))( ) . 3 – "واسع الملك" فقد وسَّع اللهُ ملكه على خلقه . فوسّع الأرض ، قال تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر : 10] . ووسّع فى السماء قال تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات : 47] . وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما : " أن الأرض فى السماء الأولى كحلقة فى فلاة( ) . وأن السماء الأولى فى الثانية كحلقة فى فلاة … وهكذا كل سماء فى التى تليها … حتى قال والسموات السبع فى الكرسى كحلقة فى فلاة والكرسى فى العرش كحلقة فى فلاة . 4 – "واسع فى رزقه" قال الأصبهانى : ومن أسمائه (( الواسع )) وسعت رحمته الخلق أجمعين ، وقيل وسع رزقه الخلقَ أجمعين ، لا تجد أحدًا إلا وهو يأكلُ رزقَه ، ولا يقدر أن يأكل غير ما رُزِق( ) . وقال تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور : 32] . 5- "واسع فى علمه" وعلم الله من أعظم الصفات التى تجلَّت فيها سعة الله وأكثر الأسماء التى اقترنت باسم "الواسع" هو اسم "العليم" فقد ورد اسمُ "الواسع" ثمان مرات اقترن فيها باسم "العليم" سبع مرات . وهذا لكثرة الخلق وتعددهم . فإن الله يعلم عدد قطرات المطر ، وأوراق الشجر وحبَّات الثمر ، والحسنات والسيئات ،…" لذلك نجد أعظم الخلق إيمانًا بالله "عز وجل" يسبحون بحمده ويثنون عليه بسعة علمه . فقد قالت الملائكة { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7] . وقال إبراهيم عليه السلام : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الأنعام : 87] . وسأل فرعونُ موسى عليه السلام : { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى } [طه : 51 ، 52] . فالله عز وجل وسع عِلْمُه الماضى والحاضر والمستقبل ويعلم الغيب كما يعلم الشهاة قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } . ويعلم السر كما يعلم العلن قال تعالى : {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} [طه : 7] ، وقال تعالى : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الملك : 13] . فلا يشغله علم الغيب عن الشهادة ، ولا علم السر عن العلن ، ولا الكثير عن القليل فقد وسِعَها جميعًا علمًا وأحصاها عددًا قال تعالى : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [الجن : 28] . وقال تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59] . وقال ابن القيم : وهو العليم أحاط علما بالذى فى الكون من سر ومن إعلان

وكذلك يعلم ما يكون غدًا وما قد كان والموجود فى ذا الآن

وكذاك أمرٌ لم يكن لو كان كيــ ـف يكون ذاك الأمر ذا إمكان

ولهذا لو أن أشجار الأرض أصبحت أقلاما والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا لكتابة هذه الكلمات والمعلومات من كلمات الله لنفدت البحار وتكسرت الأقلام ولم تنفد كلمات الله . قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [لقمان : 27] . وقال ابن القيم رحمه الله : كلماته جلَّت عن الإحصاءِ والتعدادِ بل عن حصر ذى الحُسْبان

لو أن أشجارَ البلادِ جميعها الأقلام تكتبها بكل بنان

والبحر تلقى فيه سبعة أبحر لكتابة الكلمات كل زمان

نفدت ولم تنفد بها كلماته ليس الكلام من الإله بفان

6- "الواسع فى شرعه" فقد وسَّع الله شرعه على خلقه فوَسِعَ جميعَ أصنافهم وأحوالهم فمن ذلك : أولاً : أنه يسع كل الناس . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [سبأ : 28] . وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((… وكان النبى يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبُعثِتُ إلى الناس عامة )) ( ) . وقال أيضًا : " بُعِثْتُ إلى الأبيضِ والأحمر"( ) . قال مجاهد يعنى الجن والإنس وقال غيره يعنى العرب والعجم والكل صحيح( ) . ثانيًا : سعة الشرع لكل شىء . قال تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38] . فما من شيء في الكون إلا ولكتاب اللَّه عليه سلطان إما تصريحًا أو تلميحًا أو إشارة . فقد وَسِعَ الشرعُ كل أحوال الناس ، فى النوم واليقظة فى الحياة والموت ، والصغير والكبير ، الرجال والنساء ، كما علمُّهم الإيمان والعبادات والطهارة والأخلاق والمعاملات كما وصف الغيب من الملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار … وجميع جوانب الحياة الدنيا والآخرة . لذا فإن شرع الله "تبارك وتعالى" يوصف بالشمول والإحاطة . ثالثًا : "اليُسْرُ فى الأحكام" . قال القرطبى : (( الواسع )) أى يوسع على عباده فى دينهم ولا يُكَلفِّهم ما ليس فى وسعهم( ) . فما من عزيمة إلا ومعها رخصة والأمر إن ضاق على الناس وسَّعه اللهُ عليهم ومصداق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة : 185] . وقوله تبارك وتعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة : 28] . وكقوله عز وجل : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا }. وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الدِّين يُسر … ))( ) . فمن هذا اليسر : 1- فى الصلاة : كانت خمسين فجعلها الله خمسا فى العمل وخمسين فى الأجر . 2- التيمم عند فقد الماء أو تعذر إستعماله : عن عائشة (رضى الله عنها) : "أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فأرسل رسول الله ﷺ ناسا من أصحابه فى طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبى ﷺ شكوا ذلك إليه فَنَزَلَتْ آية التيمم ، فقال أسيد بن الحُضير (رضى الله عنه) لعائشة ( رضي اللَّه عنها ) : جزاكِ الله خيرا فوالله ما نزل بِك أمرٌ قط إلا جعل اللهُ لك منه مخرجا ، وجعل للمسلمين بركة )) ( ) . وقال تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [المائدة : 6] . 3- الرخص للمسافر والمريض : خُفِّفَتْ الصلاة للمسافر فأصبحت الصلاة الرباعية ركعتين فقط ، ورخص له فى الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، ورخص للصائم فى الإفطار إن كان مسافرا ثم يقضى فى أيام أخر وكذلك للمريض . 4- إباحة الطلاق لمن ضاقت عليهم حياتهم الزوجية . قال تعالى : { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } [النساء : 130] . قال ابن جرير : (( يُغْنِ الله الزوج والمرأة المطلقة من سعة فضله أما هذه فبزوج هو أصلح لها من المطلق ، أو برزق واسع وعصمة ، وأما هذا فبرزق واسع وزوجة هى أصلح له من المطلقة أو عفة (( وكان الله واسعًا )) يعنى لهما فى رزقه إياهما وغيرهما من خلقه (( حكيما )) فيما قضى بينهما من الفرقة والطلاق ، ونسمع الآن عن إتجاه الغرب للرجوع إلى الطلاق بعد أن حرّموه على أنفسهم وضيقوا ما وسعه الله عليهم . ثانيًا : (( من عبادة اللَّه باسمه الواسع )) : 1- الطمع فى رحمة الله ومغفرته : قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ }. فمن علم أن الله واسع الرحمة طمع فيها وازداد رجاؤه لها ولا ييأس منها أبدا . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا قال : اللهم ارحمنى ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا ، فقال له رسول الله ﷺ : (( لقد حَجَّرت واسعًا ، يريد رحمة اللَّه )) ( ) . 2- الفرار بالدين من الفتن : فإن الله قد وسَّع على خلقه فى الأرض ليعبدوه فإن ضُيِّق عليهم موضع وسَّع الله غيره قال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } [العنكبوت : 56] . وعن الزبير بن العوام (رضي الله عنه) أن رسول الله ﷺ قال : (( البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله فحيثُما أصبت خيرًا فأقم )) ( ) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : (( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفرُّ بدينه من الفتن ))( ) . ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير المنزلين من الناس هناك أصحمة النجاشى ملك الحبشة رحمه الله تعالى فآواهم وأيدهم بنصره( ) . ورُوى عن عطاءٍ فى قوله تعالى : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } [الزمر : 10] . قال : " إذا دُعيتم إلى معصيته فاهربوا" ثم تلا الآية { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [النساء : 9] . 3- الإنفاق فى سبيل الله : فإن الله واسع الرزق يوسِّع على من وسَّع على خلقه ويجازيه بأعظم مما أعطى وخيرًا مما بذل حتى يجعله له بسبعمائة ضعف أو يزيد ، ولذلك عقَّب على جزاء المنفقين باسمه الواسع جل جلاله . قال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 261] . وقد رُوى عن رسول الله ﷺ أنه قال : (( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرٍ إلى سبعمائة ضعف ))( ) . وعن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل اللهُ إلا الطيِّب فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ))( ) . 4- " الصبر هو أوسع الرزق " : فإن الصبرَ جوادٌ لا يكبو وسلاح لا يُفَل وما رُزق عبدٌ الصبر إلاَّ وُسِع عليه أمره فى الدنيا والآخرة . فعن أبى سعيد الخدرى (رضى الله عنهما) قال : قال النبى ﷺ : (( ومن يتَصبَّر يُصَبِّره اللهُ ، وما أُعطىَ أحَدٌ عطاءً خَيرًا وأوسع من الصبر )) ( ) . وانظر إلى بُشرى الصابرين يوم الفزع، وأمنهم يوم الخوف ، وتأمل ما أعطاهم الله يوم الحرمان فيُجَازَى الناس بأعمالهم فإن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًا فشر ويُجْزَى الصابرون بغير حساب والجزاء من جنس العمل . قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر : 10] . 5- حُبُّ الله "تبارك وتعالى" وطاعته هما أوسع الفضل : فإن حُبَّ الله هو أعظم الرزق وأكرمه وأفضله فإذا رزقه اللهُ عبدًا فقد وسَّع عليه فى حياته الدنيا والآخرة ، لذا فإن هذا الرزق العظيم والفضل العميم يحتاج إلى سعة الله فى رزقه وفضله على خلقه فانظر إلى الموضع الذى ذُكر فيه أحبابُ الله وصفاتهم وتأمَّل كيف عقَّب اللهُ بعدها باسمه الواسع مما يدل على عظمة هذا الرزق وفضله ولا يأتى به إلا الله . قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54] . ولذلك أنعم الله على نبيه ﷺ بأعظم السعة فَوَسَّع عليه حياته الدنيا والآخرة فشرح صدره بالإيمان وحُبِّ الرحمن ، قال تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] . ثالثًا : المعصية والتنطع هما أعظم أسباب الضيق : فإن الله عز وجل قد وسَّع على خلقه فى شرعه لذلك فمن خالف الشرع بالمعصية أو بالتشدد والتنطع فقد ضيَّق على نفسه ما وسَّعه الله عليه . فبالمعصية يُضيق على العبد رزقُه كما جاء فى بعض الآثار : " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " . وقال ابن عباس (رضى الله عنهما) : " إن للمعصية لظلمة فى القلب ولعتمة فى الوجه ولقلة فى الرزق ولضعف فى البدن ولبغضة فى قلوب الخلق". وضيق الصدر : قال تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ الأنعام : 125 ] . بل وتضيق الأرض كلها على العاصى : فعندما تخلَّف ثلاثة من أصحاب النبى ﷺ عن غزوة تبوك وعلموا أنهم عصوا الله ورسوله ﷺ حزنوا على ذلك واعتزلهم الناس وضاقت عليهم حياتهم بل والأرض كلها وضاقت عليهم أنفسهم حتى تاب الله عليهم وعفا عنهم "عليهم الرضوان" . قال تعالى : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة : 118] .

التنطع : عن ابن مسعود (رضى الله عنه) أن النبى ﷺ قال : (( هلك المُتَنَطِّعُون )) قالها ثلاثًا( ) . "دعاء الله باسمه الواسع " : 1- " الاستغفار " من علم أن الله قد وَسِعَ كل شىءٍ رحمة وعلمًا فلابد وأن يسترحم ربَّه ويستغفره من ذنبه ويدعوه بذلك كما قالت الملائكة فى استغفارهم للمؤمنين . { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [غافر : 7] . 2- " الاستخارة " : من علم أن الله واسع العلم يعلم السر والعلن والغيب والشهادة ، (وأنه واسع القدرة) فهو على كل شىءٍ قادر وفوق خلقه قاهر ولا ينفع ولا يضر غيرُه إلا بأذنه لا يسعه إلا أن يفوِّض إليه أمره ويتوكل عليه فى كل شأنه ويستخيره فى صغير أمره وكبيره وكان هذا هو حال النبى ﷺ وأصحابه الكرام فقد كانوا يتبرأون من حولهم وقوتهم إلى حول الله وقوته فأعزهم الله أعظم العز وكان لهم من التوفيق أعظم النصيب . عن جابر (رضى الله عنه) قال : كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة فى الأمور كلها كالسورة من القرآن ، يقول : (( إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إنى اسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ ، واسْتَقدرُك بقُدرتِك وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علاَّم الغيوب : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمرَ خيرٌ لى فى دينى ومعاشى وعاقبةِ أمرى ، أو قال : عاجل أمرى وآجله فاقدُرْه لى ويسِّرْهُ لى ثمَّ بارك لى فيه . وإن كنتَ تعلمُ أن هذا الأمر شرُّ لى فى دينى ومَعَاشِى وعَاقِبَةِ أمرى )) أو قال : : (( عاجل أمرى وآجِلِه ، فاصْرفهُ عنى وَأَصْرفْنى عنه واقْدُرْ لى الخيرَ حيث كان ، ثم رضنى به ، قال : ويسمَّى حاجتُه ))( ) . * *

(( الشافي )) جل جلاله وتقدست أسماؤه

أولاً : المعنى اللغوي : الشفاء : البُرءُ من المرض . يقال : شفاه الله يُشفيه شِفَاءً . والشفاء أيضًا : ما يُبْرئُ من المرض بإذن الله . يقال : أشفاه اللَّه عسلاً ، إذا جعله له شفاءً حكاه أبو عبيدة . واستشفى : طلب الشفاء ، ونال الشفاء أيضًا( ) . الدليل ورد في الحديث الشريف : عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله ﷺ كان إذا أتى مريضًا أو أُتي به إليه ، قال ﷺ : (( أَذْهِبِ الباس ربَّ الناس ، اشفِ وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شِفاؤُك ، شفاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا ))( ) . المعنى الشرعي للاسم في حق اللَّه : قال الحليمي : قد يجوز أن يقال في الدعاء : يا شافي ؛ لأن اللَّه عز وجل يشفي الصدور عن الشَّبه والشكوك ، ومن الحسد والغلول والأبدان من الأمراض والآفات ، لا يقدر على ذلك غيره ، ولا يُدْعى بهذا الاسم سواه . * *

من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم

أولاً : لا شافي إلا اللَّه : فإن الشفاء من الأمراض لا يحدث بالطبيب وخبرته ، أو بالدواء وقوته ، وإنما يحدث بإذن اللَّه وحده ، ومن ذلك قول النبي ﷺ : (( اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ))( ) . وإلى هذا أشار جبريل عليه السلام للنبي ﷺ حين عاده في مرضه . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبيَّ ﷺ فقال : (( يا محمد ، اشْتَكَيْت ؟ قال : نعم . قال : بِسْم اللهِ أرْقِيكَ من كلِّ شيءٍ يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسدٍ ، الله يَشْفِيك ، بسم اللَّه أرقيك ))( ) . فجبريل هو خير الأطباء من الخلق ؛ لأنه يعالج بالوحي والمريض هو خير الناس وأطيبهم بدنًا ونفسًا وهو رسول الله ﷺ ، والدواء هو خير الدواء ؛ لأنه رقية (( بسم الله الشافي )) ، ومع ذلك فإن جبريل عليه السلام يتبرأ من حوله وقوته إلى حول اللَّه وقوته ويقول : (( اللَّه يشفيك )) أي أن الرقية منِّي ولكن الشفاء كله من اللَّه وحده . وكذلك ما أكرم اللَّه به نبيه عيسى من شفاء المرضى وإبراء الأعمى فيُبصر والأبرص فيُشفى وحتى إحياء الموتى ، ولكن هذا كله بإذن الله ، وهذا ما قاله نبيُّ اللَّه عيسى عليه السلام في قوله تعالى : { وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } [ آل عمران : 49 ] . وفي قصة أصحاب الأخدود عندما جاء جليس الملك وقد عمي إلى الغلام المؤمن بهدايا وقال له : (( ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحدًا ، إنما يشفي اللَّه تعالى ))( ) . ولذلك من الخطأ العظيم وفساد الإيمان أن يقول الرجلُ : لولا الطبيب فلان لما شُفِيت ، ولولا الدواء كذا ما عُفِيت ، فإن الأسباب لا تعمل وحدها ولكنها تعمل بإذن اللَّه وتقديره ؛ لأنه خالقها ومُقدِّرها ، فما نزلَ المرضُ إلا بإذن اللَّه ، وما نزل الدواء والشفاء إلا بإذن الله ، كما قال النبي ﷺ : (( ما أنزل اللَّهُ داءً إلا أنزل له شفاء ))( ) . وقال أيضًا : (( لكل داءٍ دواءٌ ، فإذا أُصِيبَ دَوَاءُ الداءِ بَرأَ بإذن الله عز وجل ))( ) . فكم من مريض عوفي بإذن الله بعدما عجز الأطباء أمام مرضه ، وكم من طبيب أُصيب بالمرض الذي كان يُداوي منه الناس ، وكان فيه هلاكه ، ولم يجد من يداويه . ولله درُّ القائل : قل للمريض عُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا

قل للطبيب تخطفته يدُ الردَى يا شافي الأسقام( ) من أرداكا

ثانيًا : المرض جندي من جنود اللَّه : فإن اللَّه تبارك وتعالى خلق الخلق صالحين لعبادته ، صحَّحَ أبدانهم للقيام بذلك وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة ، وباطنة لعلَّهم يشكرون ، فإن أطاعوه زادهم ، وإن عصوه عاقبهم ؛ لقوله تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] ، ومما جعله الله سببًا للثواب والعقاب أيضًا هو المرض ، فقد يكون المرض سببًا للمغفرة ، بل ودخول الجنة ، وقد يكون عقوبة وانتقامًا لمن عصى اللَّه عز وجل في الدنيا قبل الآخرة . أولاً : المرض رحمة من اللَّه بالمؤمنين : فإن اللَّه يرحم به عباده المؤمنين فيغفر لهم به الخطيئات ، ويرفع به الدرجات ، ويسكنهم الجنات ، فمن ذلك : 1- مغفرة الذنوب : عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال : (( ما يصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وصبٍ ، ولا هَمٍّ ولا حَزنٍ ، ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها ، إلا كفَّر اللَّه بها من خطاياه ))( ) . والوصب : المرض . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : دخلت على رسول اللَّه ﷺ وهو يوعك ، فقلتُ : يا رسول الله ، إنك توعك وعكًا شديدًا ، قال : (( أجل ، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم )) . قلتُ : ذلك أن لك أجرين؟ قال : (( أجل ، ذلك كذلك ، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفَّر اللَّه بها سيئاته ، كما تَحُط الشجرةُ ورقها ))( ). 3- النجاة من النار : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه عاد مريضًا ومعه أبو هريرة من وعك كان به ، فقال له رسول الله ﷺ : (( أبشر ، إن اللَّه عز وجل يقول : ناري أسلِّطُها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حَظَّه من النار في الآخرة ))( ) . 4- المريض يظفر بمعية اللَّه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( إن اللَّه عز وجل يقولُ يوم القيامة : يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني ، قال : يا ربِّ ، كيف أعودُك ؟ وأنت ربُّ العالمين ! قال : أما عَلِمتَ أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده ؟ ))( ) . 5- دخول الجنة : عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول: (( إن اللَّه عزَّ وجلَّ قال : إذا ابْتَلَيْتُ عبدي بحبيبتيه فصبر عَوَّضْتُه عنهما الجنة ))( ) . حبيبتيه : أي عينيه . وعن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما : ألا أُريكَ امرأةً من أهل الجنة ؟ فقلت : بلى . قال : هذه المرأةُ السوداءُ أتت النبي ﷺ ، فقالت : إني أُصرعُ وإني أتكشَّف( ) فادع اللَّه تعالى لي، قال : (( إن شئت صبرتِ ولك الجنة ، وإن شئت دعوتُ اللَّهَ تعالى أن يُعافِيَكِ )) . فقالت : أصْبِرُ ، فقالت : إني أتكشف ، فَادْعُ اللَّهَ أن لا أتكشف ، فدعا لها )( ) . 5- والجنة في عيادة المرضى : عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (( ما من مسلم يعود مسلمًا غُدْوة إلا صلى عليه سبعون ألف مَلك حتى يمسي ، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف مَلك حتى يصبح ، وكان له خريف في الجنة ))( ) . غُدْوة : ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس . العشية : آخر النهار . الخريف : الثمر المخروف : أي المجُتنى . 6- ومن المرضى من له أجر الشهداء : عن أنس أنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (( الطاعون شهادة لكل مسلم ))( ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( الشهداء خمسة : المبطون ، والمطعون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل اللَّه ))( ) . (( المبطون )) : الذي يموت بداء البطن . و(( المطعون )) : الذي يموت بالطاعون . و(( صاحب الهدم )) : الذي يموت تحت الهدم . وعن جابر بن عَتِيك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : (( الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله : المبطون شهيد ، والغريق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمطعون شهيد ، وصاحب الحريق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجمع شهيد ))( ) . ثانيًا : المرض عذابٌ لمن عصى اللَّهَ ورسولَه : فإن اللَّه عز وجل ، يعاقب من عصاه ، ومن هذه العقوبات الأمراض ، قال تعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله ، كيف الفلاح بعد هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، فكل سوء عملناه جُزينا به . فقال النبي ﷺ : (( غفر اللهُ لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ، ألست تنصب ، ألست تحزن ، ألست تصيبك الآواء )) . قال : بلى ، قال : (( فهو مما تُجزون به ))( ) . وقد ذكر في بعض الأدلة من شرع اللَّه تعالى عدة أسباب للعقوبة بالأمراض منها : 1- ظهور الفحشاء : عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال : (( لم تظهر الفاحشة( ) في قوم قط حتى يُعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع( ) التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال ... ))( ) . 2- دعوة المظلوم : فمن أعظم الأسباب التي تصيب بالمرض أن يدعوَ المظلوم على من ظلمه بأن يُبتلى به ، وقد قال النبيُّ ﷺ : (( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب ))( ) . ومن ذلك أن امرأة ادَّعت على سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه أنه أخذ شيئًا من أرضها ، فقال سعيد : (( اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها )) . قال عروة بن الزبير رضي الله عنه : فما ماتت حتى ذهب بصرها وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت( ) . وفي رواية لمسلم : (( أنها رؤيت عمياء تلتمس الجُدُر تقول : أصابتني دعوة سعيد وأنها مرت على بئرٍ في الدار التي خاصمته فيها فوقعت فيها وكانت قبرها )) . وقد انتقم اللَّه من بعض الكافرين والعصاة بالأمراض ، ومن أشهرهم : 1- أبو لهب - لعنه اللَّه : وهو الذي نزلت فيه سورة المسد : أخذ اللَّهُ جل جلاله أبا لهب بمكة إذ أصابه بمرض خبيث يقال له مرض العدسة ، وكان ذلك يوم هزيمة المشركين ببدر ، فما أن بلغه خبرُ هزيمة قومه حتى أصيب بمرض العدسة ، فمات شرَّ ميته ، حتى إنهم لم يقدروا على تغسيله ، فصبُّوا عليه الماء من بعيد من شدة الرائحة الكريهة التي تفوح من جسمه الذي نضج وتهرَّى( ) بصورة لم يعرف لها نظير( ) في طريقه إلى جنهم وبأس المصير . 2- الأسود بن عبد يغوث : كان من المستهزئين ، وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه : هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى ، وكان يقول للنبي ﷺ مستهزئًا به : أما كُلِّمت اليوم من السماء يا محمد ؟! خرج عدو اللَّه من أهله يومًا ، فأصابه السموم فاسودَّ وجهه ، وأصابته الأكلة (( مرض )) فامتلأ جسمه قيحًا فمات شرَّ ميته ، فلا رحمه اللَّه ، ولا خفف عنه يومًا عذابه( ) . 3- غلام أحمد القادياني : وقد ادعى النبوة وقذف الأنبياء وسبَّهم وتطاول عليهم ، بل ورفع نفسه فوق منزلتهم وكذب على اللَّه ورسله ، فكان جزائه من جنس عمله ، وأُصيب (( بالكوليرا )) حتى ضعف جسمه ، وكان يقضي حاجته في فراشه ، حتى خرجت النجاسة من فمه ، فقد قال أبو زوجته : (( ولما اشتد مرضه أيقظوني فذهبت إليه ورأيت ما يعانيه من الألم ، فخاطبني قائلاً : أصبت بالكوليرا ثم لم ينطق بعد هذه الكلمة حتى مات ))( ) . هذا ، وقد نشرت الجرائد الهندية - آنذاك -: أن غلام أحمد المتنبي القادياني لما ابتلي بالكوليرا كانت النجاسة تخرج من فمه قبل موته ، ومات وكان جالسًا في بيت الخلاء لقضاء الحاجة . 4- ومن أهل جهنم من يعذب بالمرض : فمن ذلك أنهم يحشرون وقد فقدوا أبصارهم وأسماعهم ، فيأتون يوم القيامة وقد أصاب عيونهم العمى وألسنتهم البكم وآذانكم الصم ، قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَ صُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [ الإسراء : 97 ] . ومن ذلك أيضًا عقوبة النائحة بالجَرَب . فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( النائحة إذا لم تَتُب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب ))( ) . السربال : هو القميص . الدرع : هو ما يرتديه المقاتلون في الحرب وهي من الحديد . الثالث : تَدَاووا يا عباد اللَّه : فإن اللَّه هو الشافي ، وقد جعل الشفاء في أسباب أنزلها وأمَرَ النبي ﷺ بالتداوي بها وبغيرها من أسباب الشفاء المشروعة . عن أسامة بن شُريكٍ قال : كنت عند النبيِّ ﷺ وجاءت الأعرابُ فقالوا : يا رسول الله ، أنتداوى ؟ فقال : (( نعم يا عباد الله : تَدَاووا فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شِفاءً ، غير داءٍ واحدٍ )) . قالوا : ما هو ؟ قال : (( الهرم ))( ) . والأخذ بالأسباب في التداوي من الأمراض بأسباب الشفاء لا يُنافي التوكل ، بل هو من حُسن التوكل على اللَّه ومن كمال التوحيد ؛ إذ أنه يأخذ بالأسباب وهو يعلم أنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذن اللَّه ولا تَرُدُّ شيئًا من قدر اللَّه . فعن أبي خُزامة قال : قلت : يا رسول اللَّه ، أرأيت رُقى نسترقيها ، ودواءً نتداوى به ، وتُقاةً نتقيها ، هل تَرُدُّ من قدر اللَّه شيئًا ؟ فقال : (( هي من قدر اللَّه ))( ) . الرابع : لا تتداووا بمحرم : فقد رُوي عن أبي الدرداء مرفوعًا : (( إن اللَّه خلق الداء والدواء فتدَاووا ، ولا تَتَدَاووا بحرام ))( ) . وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها انتبذت فجاء رسول الله ﷺ والنبيذ يَهدُر ، فقال : (( ما هذا ؟ )) قالت : فلانة اشتكت فَوُصِف لها ، قالت : فدفعه برجله فكسره ، وقال : (( إن اللَّه لم يجعل في حرامٍ شفاءً ))( ). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ))( ) . وأتى رجلٌ لابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : إن أخي مريض اشتكى بطنه وأنه نعت له الخمر أفأسقيه ؟ قال عبد اللَّه : سبحان الله ! ما جعل اللَّه شفاء في رجس ، إنما الشفاء في شيئين : العسل شفاء للناس ، والقرآن شفاء لما في الصدور( ) . * *

ليس كمثله شيءٌ في الشفاء أولاً : قدرة اللَّه على الشفاء : فكل من شُفِيَ على يدي طبيب أو غيره ، إنما يُشْفى بسببٍ كتناول الدواء ونحوه ، ولا يستطيع أحدٌ أن يدَّعي أنه يُداوي مريضًا بغير سبب ، أمَّا اللَّه عز وجل فإنه يَشْفِي بقدرته وحده ، بالسبب وبدون السبب ، وضد السبب ، إن شاء . فصفة الشفاء عند اللَّه من صفات أفعاله وغير مسببة . ثانيًا : علم اللَّه للداء والدواء : كلما كان الطبيب أكثر علمًا بفنون الطب كلما كان أكثر خبرة بالمرض وعِلَّته ، وكذلك دوائه وعلاجه ، فقد يعلم طبيبٌ أكثر من غيره في ذلك ، ويُفَضَل عليه ، ولكن ذلك أمر نسبيٌ في الخلق ، فقد يعلم شيئًا ويجهل أشياءً ، وإذا علمها قد لا يحيط بكل جوانبها ، وقد يعرف المرض ولا يعرف له علاج ، وإذا علم الدواء لا يملك الشفاء لأحد . أما اللَّه عز وجل فإنه يعلم الداء والدواء جملة وتفصيلاً ؛ إذ هو خالق البدن ومدبر أمره وخالق الداء وقادر على دفع ضره . وقد قال إبراهيم عليه السلام : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 78- 80 ] الثالث : الآثار الجانبية والمضاعفات : فمن يداوي أو يصف دواءً لمريض فإنه يغلب على ظنه أن الشفاء في هذا الدواء ، ولكنه لا يملك للمريض أن لا تظهر عليه أعراض جانبية لهذا الدواء ، وكذلك مضاعفات الدواء ، فقد تكون في بعض الأحوال أشد خطورة من المرض نفسه ، وهذا معلوم مشهور بين الناس ، حتى أن صانعي الدواء أنفسهم يذكرون ذلك في نشرة الأدوية . أما اللَّه تبارك وتعالى وحده هو القادر على أن يشفي شفاءً تامًا كاملاً لا يترك خلفه مرضًا ولا توجد له آثارًا ، وذلك قول النبي ﷺ : (( اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاءً لا يغادر سقمًا ))( ) . قد يكون الشفاء من الابتلاء : قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } ، فإن الشفاء من نعم اللَّه على عبده ، فإما أن يشكر ، وإما أن يكفر . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : (( إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص ، وأقرع ، وأعمى ، أراد اللَّه أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال : أي شيءٍ أحب إليك ؟ قال : لون حسنٌ ، وجلدٌ حسنٌ ويَذْهبُ عنِّي الذي قد قَذِرَني الناس ، فمسحه فذهب عنه قَذَرُهُ وأُعطي لونًا حسنًا ، فقال : فأيُّ المال أحبُّ إليك ؟ قال : الإبل - أو قال : البقر - شك الراوي ، فأُعطي ناقة عشراء فقال : بارك الله لك فيها ، فأتى الأقرع فقال : أي شيءٍ أحبُّ إليك ؟ قال : شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس فمسحه فذهب عنه وأُعطي شعرًا حسنًا ، قال : فأي المال أحبُّ إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملاً قال : بارك الله لك فيها ، فأتى الأعمى فقال : أي شيءٍ أحبُّ إليك ؟ قال : أن يردَّ الله عليَّ بصري فأبصر الناس ، فمسحه فردَّ الله إليه بصره . فقال : أي المال أحبُّ إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والدًا فانتج هذان وولَّد هذا فكان لهذا وادٍ من الإبل ، ولهذا وادٍ من البقر ، ولهذا واد من الغنم ، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة ، فقال : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت ، وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا ، وردَّ عليه مثل ما ردَّ هذا ، فقال : إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت . وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك . أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فردَّ الله إليَّ بصري فخذ ما شئت ، ودعْ ما شئت ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله عز وجلَّ ، فقال : أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك ))( ) . رابعًا : من أسباب الشفاء : 1- القــرآن : قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى عن القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [ فصلت : 44 ] . قال ابن القيم رحمه اللَّه : فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء( ) القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة ، وما كل أحدٍ يُوفَّق للاستشفاء به . وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان ، وقبول تام ، واعتقاد جازم ، واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدًا . وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء ، الذي لو نزل على الجبال لصدَّعها ، أو على الأرض لقطعها( ) . 2- الرُّقى بالقرآن والمعوِّذات : عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان ينفثُ( ) على نفسه - في المرض الذي مات فيه - بالمعوذات ، فلما ثقل كنتُ أنفثُ عليه بهنَّ وأمسحُ بيده نفسَه لبَرَكَتها( ) . وسُئِل الزهري : كيف ينفث ؟ قال : كان ينفثُ على يديه ثم يمسح بهما وجهه . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرني النبيُّ ﷺ - أو أمَرَ - أن يُسترقى من العين( ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا : (( العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا اسْتُغْسِلتم فاغسلوا ))( ) . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى الإنسانُ لشيء منه كان به قرحة أو جُرح قال النبي ﷺ بإصبعه هكذا [ ووضع سفيان وهو أحد رواة الحديث سبابته في الأرض ] ثم رفعها باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليُشْفَى به سقيمنا بإذن ربِّنا( ) . 3- العســل : قال تعالى عن العسل : { شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } [ النحل : 69 ] . عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : (( الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كيَّة بنار ، وأنهى أُمَّتي عن الكي ))( ) . 4- الحبة السوداء : عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبيَّ ﷺ يقول : (( إن هذه الحبَّة السوداء شفاءٌ من كل داء ، إلا السام )) . قلتُ : وما السامُ؟ قال : الموت( ). 5- القُسْط الهندي البحري ، والحجامة : عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : (( إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ))( ) . وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن رسول الله ﷺ دخل على عائشة وعندها صبيُّ تسيلُ منخراه دمًا ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : به العُذْرَةُ( ) ، أو وجع في رأسه ، فقال : (( ويْلكُنَّ ، لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها عُذْرَةٌ أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطًا هنديًّا فلتحكه بماء ثم تسعطه( ) إياه )) . فأمرت عائشة رضي الله عنها فصُنع ذلك بالصبي فَبِرأ( ) . 6- ألبان الإبل ، والبقر : عن أنس رضي الله عنه أن ناسًا كان بهم سَقمٌ ، قالوا : يا رسول الله ، آونا وأطعمنا . فلما صحُّوا قالوا : إن المدينة وخمة . فأنزلهم الحرَّة في ذود( ) له، فقال : اشربوا من ألبانها . فلما صحُّوا ...( ) . وعن النبي ﷺ أنه قال : (( إن الله عزَّ وجلَّ لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاء إلا الهرم فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر))( ). 7- المــاء : عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي ﷺ قال : (( الحُمى من فيح جهنم فاطفِئوها بالماء )) ( ) . وكان شفاء نبيِّ اللَّه أيوب عليه السلام في الماء . قال تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 41، 42 ] . قال ابن كثير : قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين ، وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ، ففعل فأنبع الله تعالى له عينًا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينًا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرًا وباطنًا ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }( ) . 8- مـاء زمـزم : ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ شرب من ماء زمزم ، وأنه قال : (( إنها مباركة ، وهي طعام طعمٌ وشفاء سقم ))( ) . وقد غسل جبريلُ صدر النبي ﷺ بماء زمزم . 9- الصدقة : عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: ((داووا مرضاكم بالصدقة))( ). دعاء اللَّه باسمه (( الشافي )) تبارك وتعالى :

وقد جاء في ذلك : 1- الدعاء للمرضى : عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان يعودُ بعضَ أهله يمسح بيده اليُمنى ويقولُ : (( اللهم ربَّ الناس ، أذهب البأس اشفِ أنت الشافي لا شفاءَ إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقمًا ))( ) . 2- دعاء الأخ لأخيه : وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : عادني رسول الله ﷺ ، فقال : (( اللهم اشفِ سعدًا ، اللهم اشْفِ سعدًا ، اللهم اشف سعدًا ))( ) . 3- دعاءٌ للعافية : وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي ﷺ ، قال: (( من عاد مريضًا لم يَحْضُرْهُ أجلُه ، فقال عنده سبع مرات : أسأل اللهَ العظيم ربَّ العرش العظيم أن يَشْفِيَكَ : إلا عافاه اللَّه من ذلك المرض ))( ). 4- دعاء يُنجي من النار : عن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله ﷺ أنه قال : (( من قال : لا إله إلا الله ، واللَّه أكبر صدَّقه ربه ، فقال : لا إله إلا أنا ، وأنا أكبر . وإذا قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، قال : يقول : لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد ، قال : لا إله إلا أنا ، لي الملك ولي الحمد ، وإذا قال : لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال : لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي ، وكان يقولُ : من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار ))( ) . * *

الغفور ، الغفار " تبارك وتعالى " المعنى اللغوى : أصل الغَفْر : التغطية والستر ، غفر الله له ذنوبه : سترها وتقول العربُ : اصْبُغ ثوبك بالسواد فهو أغفر لوسخه أى أحملُ له وأغطى له . وكذا غَفَر الشيبَ بالخضاب وأغفره أى : سَتَره ، والمغفرة : التغطية ، والمِغْفَر : هو حلق يتقنع به المتسلح يقيه ويستره( ) . وقيل : هو مأخوذ من الغَفَر نبت تُدَاوى به الجراح إذا ذُرَّ عليها دمَلَها وأبرأها بإذن الله( ) . وهذا يبين أن المعصية داء والمغفرة دواء . الدليل الشرعى : ورد (الإسمان) الغفار ، والغفور جل جلاله وتقدست أسماؤه فى القرآن والسُّنة وقد ذُكر اسمُ اللهِ الغفور فى القرآن فى إحدى وتسعين آية ، وأما اسمه "الغفار" فقد جاء فى خمس آيات ، فَعُلِم أن ورود "الغفور" فى القرآن أكثر بكثير من "الغفار" و"الغفار" أبلغ من "الغفور" وكلاهما من أبنية المبالغة ، فمن المواضع التى ورد فيها اسم "الغفور" . قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الشورى : 5] . وقال : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } [البروج : 14] . وأما الغفار فقد جاء فى قوله تعالى : { أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [الزمر : 5] . وقوله تعالى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } [نوح ] . معنى الاسمين فى حق الله تعالى : قال الزجاج : ومعنى الغَفْر فى حق الله سبحانه هو الذى يستر ذنوب عباده ويغطيهم بستره( ) . وقال الخطابى : فالغفار الستير لذنوب عباده ، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته ومعنى الستر فى هذا : أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه ولا يهتك ستره بالعقوبة التى تُشْهِرُهُ فى عيونهم( ) . وقال أبو عبيد : والمغفرة من الذنوب إنما هو إلباس الله الناس الغفران وتغمدهم به( ) . وقال السعدى (رحمه الله) : (العَفُوُ – الغَفُورُ – الغَفَّارُ ) . الذى لم يزل ولا يزال بالعفو معروفًا ، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا كل أحدٍ مضطر إلى عفوه ومغفرته ، كما هو مضطر إلى رحمته وكرَمه ، وقد وَعَدَ بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها قال تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [طه : 82]( ) . وقال ابن القيم فى النونية : وهو الغفور فلو أتى بقرابها من غير شرك بل من العصيان

لأتاه بالغفران مِلءَ قُرابِها سبحانه هو وَاسِعُ الغفران( )

وقيل : إن (الغفار ، والغفور) صيغتى مبالغة لصفة المغفرة لله عز وجل فالغفور على وزن فعول أى كثير المغفرة فى العدد والتكرار وأما (الغفَّار) على وزن (فعَّال) أى يغفر مغفرة عظيمة فى قدرها وأثرها فالغفور يناسب كثرة خطايا الخلق وتكرارها و(الغفار) يناسب عظيم الإجرام وكبير الآثام وكلا النوعين من الذنوب واقع من الخلق فسبحان الله الذى يعامل خلقه بما يناسبهم من أسمائه وصفاته . * *

من آثار الإيمان بهذين الإسمين الكريمين أولاً : معرفة اللَّه وحُبِّه : من عرف مغفرة الله لعباده على ظلمهم ، وعظيم عفوه عنهم مع إساءتهم فقد عرف جانبًا عظيمًا من صفات اللَّه جل جلاله ، وإليك جانبًا من هذه الصفات : 1- لا يغفر الذنوب إلا الله : قال تعالى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } [آل عمران : 135] . قال ابن كثير : أى لا يغفر أحدٌ سواه . وعن الأسود بن سريع أن النبى ﷺ أتى بأسير فقال : "اللهم إنى أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد" فقال النبى ﷺ : ((عرف الحق لأهله))( ) . وكان من دعاء النبى ﷺ : ((وأبوءُ بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))( ) . 2- إن ربك واسع المغفرة : قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [النجم : 32] ، فإن اللَّه عز وجل وسعت رحمته كل شيء ، ومغفرته أعظم من كل ذنب ، فقد قال اللَّه تعالى في الحديث القدسي : (( يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة ))( ) . 3- إن اللَّه يغفر الذنوب جميعًا : فمهما عظُمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله ورحمته أعظم منها بل ومن كل شىء فلا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من عفوه وغفرانه أحدٌ أبدًا . قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . قال ابن عباس رضى الله عنهما فى هذه الآية : "قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ، ومن زعم أن عزيرًا ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول الله تعالى لهؤلاء : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء . من قال {أنا ربكم الأعلى} وقال { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } . ثم قال ابن عباس (رضى الله عنهما) من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل( ) . وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : إن أكثر آية فى القرآن فرحًا فى سورة الغرف : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }( ) . وقال النبى ﷺ : ((لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) ( ) . حتى الشرك يغفره الله لمن تاب فما أعظم ربنا وما أكرم إلهنا وما أحنَّه على خلقه وهو غنى عنهم ، وما أحبه لِتوبتهم وهم لا يضرونه شيئًا ولا ينفعونه . ولله درُّ القائل : يارب إن كثرت ذنوب عظيمة فلقد علمتُ أن عفوك أعظم

دعوتك ربي كما أمرت تضرعًا فإذا رددت فمن ذا يرحم

إن كان لا يدعوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم

مالى إليك وسيلة إلا الرجا وعظيم عفوك ثم إنى مسلم

4- "الستر على عبده" : قال النبى ﷺ: ((إن الله عز وجل حَيىُّ ستيرٌ يحب الحياءَ والستر …))( ). وقال ابن القيم رحمه الله : وهو الحَيِىُّ فليس يفضح عبده عند التجاهر منه بالعصيان

لكنه يلقى عليه ستره فهو الستير وصاحب الغفران

فإن الله تبارك وتعالى يحب الستر على عباده فى الدنيا والآخرة . فعن ابن عمر (رضى الله عنهما) قال : قال رسول الله ﷺ : ((يدنو أحدُكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول : عملتَ كذا وكذا ؟ فيقول : نعم ويقول : عملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم , فيقرره ثم يقول : إنى سَتَرتُ عليك فى الدنيا ، فأنا أغفرها لك اليوم )) ( ) . وفى رواية : ((فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا وإنى أغفرها لك اليوم فيُعطى صحيفة حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيُنادى بهم على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على الله )) ( ) . وإذا سَتَر اللهُ مؤمنًا فى الدنيا فكذلك يستره يوم القيامة . فعن أبى هريرة (رضى الله عنه) عن النبىِّ ﷺ قال : ((لا يستر اللهُ على عبد فى الدنيا ، إلا ستره الله يوم القيامة)) ( ) . بل ويستر من ستر المسلمين فقد قال النبى ﷺ : ((… ومن ستر مسلمًا ستره اللهُ يوم القيامة)) ( ) . ويَذُم من يتتبع عورات المسلمين ويفضح أمرهم ويكشف سترهم وتوعدهم على ذلك ، فقد قال النبىُّ ﷺ : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم ، يتَّبع اللهُ عورته ومن يتبع عورته يفضحه فى بيته ))( ) . فسبحان اللَّهِ على ستره لمن عصاه ورحمته بمن جفاه . وللَّه درُّ القائل : فكم عصيتك يا مولاى من جهل وأنت يا سيدى فى الغيب تسترنى لأبكين بدمـــع العين من ندم لأبكين بكــاء الواله الحزن 5- إن اللهَ يحب التوابين : فإن الله عز وجل يحب التوبة أكثر من حب التائب لها ويحب المغفرة أكثر من حب الناس أن يُغفر لهم . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة : 222] . ومن حُبَّه تبارك وتعالى للتوبة والاستغفار أنه إذا لم يُذنب الناسُ لذهب بهم ولأتى بقوم ليذنبوا فيستغفروا ليغفر لهم . فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال النبى ﷺ : ((والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون اللهَ تعالى فيغفرُ لهم )) ( ) . وقد أحسن من قال : دعوتُ كريمًا قد وثقت بصنعه وليس من يدعو الكريم يخيب

فيا من يحب العفو إنى مذنب ولا عفو إلا أن تكون ذنوب

6- ويفرح بهم : عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله فى أرض فلاة( ) )) ( ) . وفى رواية مسلم : (( لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت( ) منه وعليها طعامه وشرابه فأيس( ) منها فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده بخطامها( ) ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدى وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح )) . 7- ويضحك إليهم : عن أبى هريرة (رضى الله عنه) أن رسول الله ﷺ قال : ((يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة يقاتل هذا فى سبيل الله فيُقْتَل ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيُسْتَشْهَدُ ))( ) . 8- ويُسَخِّر لهم مخلوقاته : فمن عظيم رحمة اللَّه عزَّ وجلَّ أنه يحب للتائبين الرحمة والقبول ، وأن يدخلهم الجنة حتى أنه يُسَخِّر لهم الأرض مثل ما حدث في توبة قاتل المائة ؛ إذ أوحي للأرض الطيبة أن تقترب منه وأن تبتعد عنه الأرض الخبيثة حتى تأخذه ملائكة الرحمة . فسبحان الله . عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه عن النبي ﷺ قال : (( كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا ، ثم خرج يسأل ، فأتى راهبًا فسأله ، فقال له : هل من توبة ؟ قال : لا ، فقتله ، فجعل يسأل ، فقال له رجل : ائْتِ قرية كذا وكذا - وفي رواية لمسلم : فإن بها أناسًا يعبدون اللَّه فاعبد الله معهم - فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى اللَّه إلى هذه : أن تقرَّبي ، وأوحى إلى هذه : أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فَوُجِدَ إلى هذه( ) أقرب بشبرٍ فَغُفِرَ له ))( ) . 9- ويغضب على من قنَّط الناس من رحمته : عن جنب (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((إن رجلاً قال : واللهِ لا يغفر اللهُ لفلان . قال اللهُ : "من ذا الذى يتألَّى علىَّ أن لا أغفر لفلان ، فإنى قد غفرتُ لفلان وأحبطت عملك)) ( ) . وفى رواية قال : ((فوالذى نفس أبى القاسم بيده ، لتكلم بكلمة أوبقت( ) دنياه وآخرته)) ( ) . ثانيًا : المسارعة إلى التوب بعد الذنب : قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران : 133] . أخى الحبيب : أسرع أسرع . أدرك . أدرك . ولا تترك حبيبك من أجل من يبغضك ، ولا تخاصم مولاك من أجل عدوه وعدوك وفرَّ إليه من ذنوبك تجده أرحم بك من نفسك وأحنَّ عليك من أُمك ، وأسْرِع إليه تجده إليك أسرع فإنه إلى توبتك بالفرح . قال تعالى فى الحديث القدسى : ((واللهِ للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ، ومن تقرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعًا ، ومن تقرب إلىَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا . وإذا أقبل إلىَّ يمشى أقبلت إليه أهرول )) ( ) . ثالثًا : اغْفِرُوا يُغْفَر لكم : ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ من غفر للناس غَفَرَ الله له ، ومن تجاوز عنهم تجاوز الله عنه والجزاء من جنس العمل . عن عبد الله بن عمرو عن النبى ﷺ أنه قال وهو على المنبر : ((ارحموا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يغفر اللَّه لكم …))( ) . وعن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال النبى ﷺ : ((كان رجل يُدَاينُ الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فتجاوز عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا ، فَلَقى اللهَ فتجاوز عنه )) ( ) . رابعًا : من علامات المغفرة : إن من الحق أن نعلم أن المغفرة بيد اللَّه وحده ولا يعلمها إلا اللَّه ، ولكن اللَّه عزَّ وجلَّ قد جعل لها علامات ومُبشرات ، فمن رُزق إياها يُرجى أن يكون غُفِر له . 1 – أن يُرزق توبة نصوح . قال تعالى : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة : 39] . وقيل : ((من رُزق التوبة لم يُحرَم من القبول ، ومن رُزق الشكر لم يحرم من الزيادة ، ومن رُزِق التوكل لم يُحرم من الكفاية ، ومن رزق الاستغفار لم يحرم من المغفرة ، ومن رزق الدعاء لم يحرم من الإجابة)) . وقيل عن التوبة النصوح : هي التوبة الصادقة من كل الذنوب والخطايا . 2 – الندم . قال رسول الله ﷺ : ((الندم توبة ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)) ( ) . 3- فرحة التائب بالمغفرة : فإن التائب الذي نجا من ذنبه وخرج من معصيته كغريق أُنْقِذَ بعد ما رأى الموتَ ، وكمريض شُفِي بعد ما يأس من الشفاء وكأمٍ وجدت ولدها بعد ضياعه منها ، ومن ذلك ما فعله كعب بن مالك رضي الله عنه حين بُشر بالتوبة من اللَّه فقد خرَّ ساجدًا شكرًا لله وتصدق بكثير من ماله وأعطى بشَّرَه بالتوبة ملابسه التي يرتديها وهو لا يملك غيرها . فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال حين سمع البُشرى : (( فخررت ساجدًا وعرفت أنه جاء فرجٌ ، فلما جائني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشراه ، واللَّه ما أملك غيرهما يومئذ )) . فلما أتى رسولَ اللَّه ﷺ قال له : (( إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللَّه وإلى رسوله ))( ) . 4- البكاء من خشية الله . قال النبى ﷺ : ((عينان لا تمسهما النار أبدًا عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس فى سبيل الله)) ( ) . ألا يا عينى ويحك أسعدينى بطوع الدمع فى ظلم الليالى لعلك فى القيامة أن تفوزى بخير الدهر فى تلك الليالى قال عمر بن ذر : ((ما رأيت باكيًا قطَّ إلا خُيل إلىَّ أن الرحمة قد تنزلت عليه)) . وعن ثوبان مرفوعًا : "طوبى لمن ملك لسانه ، ووسعه بيته ، وبكى على خطيئته"( ) . وقال سفيان بن عيينة : البكاء من مفاتيح التوبة ، ألا ترى أنه يرق فيندم . وعن مجاهد : أن نبى الله داود (عليه السلام) بكى من خطيئته حتى هاج ما حوله . وقد يكون البكاء أيضًا من حيائه من الله عز وجل . 4 – تبديل السيئات حسنات . قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان : 7] . وفى معنى هذه الآية قولان : القول الأول : أنهم يبدَّلون مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . روى عن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال قال فى هذه الآية : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات حسنات( ) . وقال عطاء بن أبى رباح : هذا فى الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرًا( ) . وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات( ) . وقال الحسن البصرى : أبدلهم الله بالعمل السيىء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا ، وأبدلهم بالفجور إحصانًا ، وبالكفر إسلامًا( ) . "أما القول الثاني" : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات( ) : عن أي ذرٍ قال : قال رسول الله ﷺ : (( إني لأعلم آخرَ أهل الجنةُ دخولاً الجنة ، وآخر أهل النار خروجًا منها ، رجل يؤتى به يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، وارفعوا عنه كبارها ، فتعرض عليه صغارُ ذنوبه ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول : نعم ، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تُعرض عليه ، فيقال له : فإنَّ لك مكان كل سيئةٍ حسنةً ، فيقول : رب قد عملتُ أشيئًا لا أراها هاهنا )) . فلقد رأيت رسول اللَّه ﷺ يضحك حتى بدت نواجذه( ) . خامسًا : من موانع المغفرة : 1 – الشرك : فإن المشرك قد كفر باللَّه الذي له صفة المغفرة والذي لا يغفر سواه ، فكيف يُغْفَر لمن كفر بمن يغفر الذنوب ويستر العيوب ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48]. 2 – أصحاب البدع : فكما أن أصحاب البدع يريدون للناس الضلال ويحبون حياة الظلام فإن الله لا يخرجهم إلى نور التوبة والهداية ، حتى يتوبوا من ذلك . فعن أنس (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعةٍ حتى يَدَع بدعته)) ( ) . 3 – المجاهرة بالمعاصى : فكما أن العاصى لا يستحى من ذنبه ويجهر به فإن الله لا يستر عيبه ولا يغفر ذنبه . فعن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : سمعت رسول الله يقول : ((كل أمتى معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجلُ بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) ( ) . 4- طلوع الشمس من مغربها : وذلك حين يتغير نظام الكون ولا يكون أحدٌ من الناس على وجه الأرض إلا آمن ، ولكن هذا موضع لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها ، تاب الله عليه ))( ) . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : (( إن اللَّه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ))( ) . 5- الغرغرة : عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال : (( إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ))( ) . 6- الهجران بين المسلمين : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( تُعْرَضُ الأعمالُ في كل اثنين وخميس فيَغْفِرُ اللَّهُ لكل امرئٍ لا يُشْركُ باللَّه شيئًا ، إلاَّ امرءًا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا ))( ) . سادسًا : من أسباب المغفرة : فإن اللَّه برحمته قد جعل للمغفرة أسبابًا يُيَسِّرُها لمن شاء ويوفق إليها من يريد ، وسنعرض فيما يلي لبعض هذه الأسباب ، وهي كما يلي : 1 – الإسلام يكفر كل ما سبق من السيئات . عن أبى سعيد الخدرى (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((إذا أسلم العبدُ فحسُنَ إسلامُه ، يُكفِّرُ اللهُ عنه كلَّ سيئة كان زلَّفها وكان بعد ذلك القصاصُ ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها )) ( ) . 2 – الموت على التوحيد . قال تعالى فى الحديث القدسى : (( يا ابن آدم إنك لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة )) ( ) . 3 – الإتباع لرسول الله ﷺ . قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [الحجرات : 14] . 4 – الأذان . قال رسول الله ﷺ : (( إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم والمؤذن يغفر له مدَّ صوته ، ويُصَدِّقه من سمعه من رطب ويابس ، وله مثلُ أجر من صلى معه )) ( ) . 5 – الذكر عند الأذان . عن رسول الله ﷺ أنه قال : (( من قال حين يسمع المؤذِّن : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، رضيت بالله ربًا وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام دينًا غُفِرَ له ذنبه )) ( ) . 6 – إحسان الوضوء . عن رسول الله ﷺ أنه قال : (( من توضَّأ فأحسن الوضوء ، خرجت خطاياه من جسده ، حتى تخرج من تحت أظافره ))( ) . 7 ، 8 – المشى إلى المسجد وانتظار الصلاة . عن رسول الله ﷺ أنه قال : (( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ )) قالوا : بلى يا رسول اللَّه ، قال : (( إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكمُ الرباطُ ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ))( ) . وعن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت اللَّه ، ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداها تحط خطيئة ، والأخرى ترفع درجة )) ( ) . 9 – الصلاة . عن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شىء ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء . قال : فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ))( ) . وعن عثمان بن عفان (رضى الله عنه) قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ((ما من امرىءٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرةً وذلك الدَّهْرُ كلُّهُ ))( ) . 10 – صلاة الجمعة . عن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ قال : (( من اغتسل ، ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدِّر له ، ثم أنصت حتى يفرغ الإمامُ من خطبته ، ثم يصلى معه ، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وفضل ثلاثة أيام))( ) . 11 – صلاة ركعتين بعد الوضوء . يقبل عليها بقلبه ووجهه : عن النبى ﷺ أنه قال : (( ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم فيركع ركعتين ، يُقْبِلُ عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة وغُفِر له ))( ) . 12 – من وافق تأمينُه تأمين الملائكة . قال أبو هريرة (رضى الله عنه) : قال رسول الله ﷺ : (( إذا أمَّن الإمامُ فأمِّنوا فإنه من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غفر له ما تقدم من ذنبه ))( ) . 13 – السجود . قال رسول الله ﷺ : (( إنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك اللهُ بها درجة ، وحطَّ عنك بها خطيئة ))( ) . 14 – الذكر دُبُرُ كل صلاة . عن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : (( من سبح الله فى دُبُر كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين ، وحَمد الله ثلاثًا وثلاثين ، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شىءٍ قدير ، غُفرت خطاياه، وإن كانت مثل زَبَد البحر ))( ) . 15 – قيام الليل . قال رسول الله ﷺ : (( عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربةٌ إلى الله ، ومنهاة عن الإثم ، وتُكفير للسيئات ، ومطردة للداء عن الجسد ))( ) . 16 – الصدقة . قال النبى ﷺ : (( والصدقة تطفىء الخطيئةَ كما يطفىء الماءُ النارُ ))( ) . 17 – صيام رمضان . قال النبى ﷺ : (( من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه ))( ) . 18 – قيام رمضان . قال النبى ﷺ : (( من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه ))( ) . 19 – قيام ليلة القدر . قال النبى عليه الصلاة والسلام : (( من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه ))( ) . 20 – صوم يوم عرفة . قال النبى ﷺ : (( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة ))( ) . 21 – صوم عاشوراء . قال النبى ﷺ : (( … صوم عاشوراء يُكفِّر سنة ماضية ))( ) . 22 – الحج المبرور . قال النبى ﷺ : (( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمُّه ))( ) . وقال أيضًا : (( ... وأن الحجَّ يهدم ما كان قبله ))( ) . أي يهدم ما كان قبله من الذنوب . 23 – العُمْرة . قال رسول الله ﷺ : (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما … ))( ) . وقال أيضًا : (( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكيرُ خبث الحديد ))( ) . 24 – مسح الحجر الأسود والركن اليمانى . عن ابن عمرُ رضى الله عنهما قال : قال النبى ﷺ : ((إن مسح الحجر الأسود والركن اليمانى يحطان الخطايا حطَّا …))( ) . 25 – الشهادة فى سبيل الله . عن المقدام بن معديكرب (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : (( للشهيد عند الله ست خصال : يُغفر له فى أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويشفع فى سبعين إنسانًا من أقاربه ))( ) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضى الله عنهما) أن رسول الله ﷺ قال : ((يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين))( ) . 26 – ذكر الله . التسبيح : عن سعد (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ )) فسأله سائل من جلسائه : كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال : (( يسبح مائة تسبيحةٍ فيُكتَبُ له ألف حسنة ، أو يُحط عنه ألفُ خطيئة ))( ) . 27 – قول سبحان الله وبـحمده . عن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((من قال سبحان الله وبحمده فى يوم مائة مرة حُطَّت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر))( ) . وفى رواية : (( من قال حين يمسى وحين يصبح)) . 28 – الصلاة على النبى عليه الصلاة والسلام . عن أنس (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((من صلى علىَّ صلاة واحدةً ، صلى الله عليه عشرة صَلواتٍ وحُطَّتْ عنه عشر خطيئات ورُفِعتْ له عشر درجات))( ) . 29 – كفارة المجلس . عن جبير بن مطعم (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((من قال : سبحان الله وبحمده ، سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، استغفرك وأتوب إليك ، فقالها فى مجلس ذكر كانت كالطابع يُطبع عليه ومن قالها فى مجلس لغوٍ كانت كفارة له))( ) . 30 – العفو عن الناس . قال تعالى : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور ] . عن أبى هريرة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : (( كان رجلٌ يداين الناس فكان يقول لفتاه : إذا أتيت مُعسرًا فتجاوز عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنا ، فلقى الله فتجاوز عنه ))( ) . 31 – السهولة فى التجارة . عن جابر (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((غفر الله لرجل ممن كان قبلكم ، كان سهلاً إذا باع سهلاً إذا اشترى سهلاً إذا اقتضى))( ) . 32 – إماطة الأذى عن طريق المسلمين . قال النبى ﷺ : (( بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوكٍ على الطريق فأخَّره فشَكَرَ اللهُ له فغفر له )) . وفى رواية قال : (( لقد رأيت رجلاً يتقلب فى الجنة فى شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذى المسلمين ))( ) . 33 – عيادة المريض . عن على (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : (( ما من رجلٍ يعودُ مريضًا ممسيًا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح ، ومن أتاه مُصْبحًا، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسى))( ). 34 – تغسيل المسلم وتكفينه . قال رسول الله ﷺ : (( من غسَّل ميتًا فسَتَرَهُ ، سَتَرَه اللهُ من الذنوب ، ومن كفَّنه ، كساه الله من السندس ))( ) . 35 – من صلى عليه مائة عند موته . عن ابن عمر (رضى الله عنهما) قال : قال رسول الله ﷺ : ((ما من رجل يصلِّى عليه مائة إلا غُفِر له))( ) . 36 – مصافحة المسلم أخاه . قال رسول الله ﷺ : (( إذا تصافح المسلمان ، لم تفرَّق أكُفُّهما حتى يُغْفَر لهما ))( ) . 37 – البلاء . عن أبى سعيد وأبى هريرة (رضى الله عنهما) عن النبىِّ ﷺ قال : ((ما يُصيبُ المسلم من نصبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمِّ ولا حَزَن ولا أذَىً ولا غَمِّ حتى الشَّوكَةَ يُشَاكُها إلا كَفَّرَ الله بها من خطاياه ))( ) . النصب : أى التعب ، والوصب : أى المرض . 38 – المرض بالحُمَّى . عن جابر (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ - لأم السائب - : ((لا تسُبِّى الحُمَّى ، فإنها تذهب خطايا بنى آدَم كما يُذهِبُ الكيرُ خبث الحديد))( ) . 39 – الصرع . عن أبى أُمامة (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله ﷺ : ((ما من عبد يصرعُ صرعةً من مرض ، إلاَّ بعثه اللهُ منها طاهرًا))( ) . 40 – رحمة الحيوان . عن أبى هريرة (رضى الله عنه) أنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( بينما كلب يُطيف( ) برَكيَّةٍ( ) قد كاد يقتله العطش إذ رأته بَغِىُّ من بغايا بنى إسرائيل فَنَزَعَتْ موقها فاستقت لهُ بِهِ فسقته فغُفِر لها به))( ) . 41- حُسْن الظن بالله تعالى . قال تعالى فى الحديث القدسى : (( أنا عند ظن عبدى بى ، وأنا معه حيث يذكرنى ))( ) . فمن ظن أنه يرحمه رحمه ، ومن ظن أنه يغفر له غفر له . عن ابن عباس (رضى الله عنهما) قال : قال رسول الله ﷺ : ((قال الله تعالى : من علم أنى ذو قدرةٍ على مغفرة الذنوب ، غفرت له ولا أبالى ، ما لم يشرك بى شيئًا))( ) . فعلى العبد المؤمن المحب لربه أن يعرف جميل صفحه ويرجو عظيم عفوه وليقول بلسان حاله : فلما قسى قلبى وضاقت مذاهبى جعلت الرجا منى لعفوكِ سُلَّما

تعاظمنى ذنبى فلما قرنته بعفوك ربى كان عفوك أعظما * *

سابعًا : ليس كمثله شيءٌ في مغفرته 1- فمن يغفر من الناس إنما يغفر أخطاءً دون أخرى ، فقد يغفر الصغائر دون الكبائر ويعفو عن القليل دون الكثير وإذا غفر ذنبًا كبيرًا قد يتذكره لصاحبه بعد حين فيؤلمه ذلك ويثير عليه أحقاده وضغائنه مرةً أُخرى ، وقد حدث مثل هذا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أسلم الرجل الذي قتل زيد بن الخطاب أخا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد كان يكره النظر إلى هذا الرجل ، أما اللَّه عز وجل فإنه يغفر الذنوب جميعًا مهما عَظُمَت كما سلف في الشرح . 2- قد يغفر الناسُ لمن أساء إليهم مضطرين إلى ذلك لمصلحة لهم عند من آذاهم أو خشية ممَّن ظلمهم أو لضعفٍ منهم . أما اللَّه عز وجل فإنه يغفر عن عزة ، فقد أخبر اللَّه عن نبيه عيسى أنه قال: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] . ويعفو عن قدرة . قال تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } [ النساء : 149 ]. 3- قد يغفر الناس عن جهلٍ بعظيم الجناية التي ارتُكِبَت في حقهم ، فمنهم من لو علم مدى الإساءة من الجاني وتفاصيل معصيته ومكره به وترصده له لكي يظفر منه بلحظة غفلة كي يضره أو يسيء إليه أو علم ما كان يخفيه في صدره من خيانة وسوء طوية لما استطاع أن يغفر له أبدًا ، أما اللَّه عزَّ وجلَّ فإنه يعلم كل شيءٍ عن معصية العصاة الظاهر من أمرهم والباطن ، ومع ذلك فإنه يغفر ويرحم ويعفو ويتكرم ويتجاوز عما يعلم ، وقد قال تعالى : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الملك : 13 ] ، لذلك عندما سمع الإمام أحمد بن حنبل رجلاً يقول : إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن اللَّهَ يغفل ســاعة أو أن ما تُخفي عليه يغيب فبكى رحمه اللَّه ودخل بيته وأغلق عليه الباب وهو يردد : (( إذا ما خلوت الدهر يومًا ... )) . لذلك قد جاء من الدعاء : (( اللهم اغْفِرْ وارحم واعفو وتكرَّم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم )) . 4- قد يغفر العبد التقي لغيره ولكن هل يستطيع أن يمحو سيئات العاصي أو أن يُصلح حاله أو يزيد في حسناته ؟ كلا لا يفعل ذلك إلا اللَّه فإن اللَّه يعفو ويغفر ويمحو السيئات ، بل ويبدلها حسنات لمن حَسُنت توبته وخلصت نيته . قال تعالى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } [ آل عمران : 135 ] ، لذلك حُق للمؤمنين التائبين أن يقولوا للَّه : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] .

ثامنًا : دعاء الله باسميه الغفار والغفور 1- عن شداد بن أوس (رضى الله عنه) عن النبى ﷺ قال : ((سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوءُ لك بنعمتك علىَّ وأبوء لك بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . قال : ومن قالها فى النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة ))( ) . 2- وعن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول قبل موته (( سبحان الله وبحمده ، استغفر اللهَ وأتوب إليه ))( ) . 3- وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : كنَّا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة : (( رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الغفور ))( ). 4- عن علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله ﷺ إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم : (( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ))( ) .

* *

(( الودود )) تبارك وتعالى المعنى اللغوي : قال ابن سِيدَه : (( الوُدُّ )) : هو الحب يكون في جميع مداخل الخير ، ووَدِدْتُ الشيء أوده ، وهو من (( الأمنية )) وشدة التعلق بحدوث الشيء . مثل قوله تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ البقرة : 96 ] أي : يتمنى أن يعيش ألف سنة . وكقوله تعالى : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } [ المعارج : 11، 12 ] . قال ابن العربي : اتفق أهل اللغة على أن المودة هي المحبة . قال تعالى : { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] . وجمع بينهما الأصفهاني فقال : (( الوُدُ محبة الشيء وتمني كونه ، ويستعمل في كل واحد من المعنيين على أن التمني يتضمن معنى الوُدِّ ؛ لأن التمني هو تَشَهِّي حصول ما توده ))( ) . ويأتي أيضًا بمعنى الملازمة مع التعلق ، وجاء منها (( الودَدَ )) بمعنى الوتد لثبوته ولشدة ملازمته للخمية وتعلقه بها ، وكان أصلها الودد ثم أضغمت الدالان . الدليل الشرعي : ورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم مرتين : الأولى : في قوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [ هود: 90 ] . الثانية : في قوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } [ البروج : 13، 14 ] . معنى الاسم في حق اللَّه تبارك وتعالى : قال ابن عباس : الودود : هو الرحيم . رواه علي بن أبي طلحة . وقال البخاري : الودود : هو الحبيب . قال الزجاجي فيه قولان ؛ أحدهما : أنه مفعول بمعنى فاعل كقولك : (( غفور )) بمعنى غافر ، وشكور بمعنى شاكر ، فيكون معنى الودود في صفات اللَّه عز وجل على هذا المذهب من أهل اللغة أنه تبارك وتعالى يودُّ عباده الصالحين ويُحبهم . الثاني : أنه فعول ، فتقديره أنه عز وجل مودود ؛ أي يوده عباده ويحبونه( ) . وقد نطق القرآن بكليتهما وأثبتهما اللَّه لنفسه في كتابه وسنة رسوله . قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] . قال ابن القيم رحمه اللَّه : وهو الودود يحبهم ويحبه

أحبابه والفضل لمنان

وهو الذي جعل المحبة في قلوبهم وجازاهم بحب ثان

هذا هو الإحسان محضا لا معاوضة ولا لتوقع الشكران

لكن يُحِبُّ شَكُوَرهم وشُكُوَرهم لا لاحتياج منه للشكران( )

قال السعدي رحمه اللَّه : الودود الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم ويحبونه فهو أحب إليهم من كل شيء قد امتلئت قلوبهم من محبته ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه وانجذبت أفئدتهم إليه وُدَّاً وإخلاصًا وإنابة من جميع الوجوه( ) . قال الخطابي : وقد يكون معناه أن يوددهم إلى خلقه كقوله جل وعز : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }[ مريم : 96 ]( ). وقيل : (( الودود )) : هو المتحبب إلى أولياءه بمعرفته ، وإلى الطائعين بقربه ، وإلى المذنبيين بمغفرته ، وإلى التائبين بقبولهم وعفوه عنهم ، وإلى المتوكلين بكفايته ، وإلى المحسنين برحمته ، وإلى المتقين بنعمته ، وإلى عامة الناس بعظيم إفضاله وكثير إنعامه . وقد قيل : هو الوادُّ لأهل طاعته ، والراضي عنهم بأعمالهم والمحسن إليهم لأجلها والمادح لهم بها . ولله درُّ القائل : ودود تحب الخير للخلق كلهم

وتثنى عليهم والثناء جميل

ودود بلا ميل ودود بلا هوى فأنت غني عن سواك جميل

لك الحمد من ترضى عنه فإنه عزيز ومن لم ترض عنه ذليل

ودود قريب من عبادك مالِك مفاتيح الغيب ما إليه سبيل

وقال الشيخ السعدي : (( إن اللَّه يتودد إلى أولياءه وخواصِّ خلقه بمحبته لهم ووضع محبته في قلوبهم ، غرسها غرسًا ونمَّاها كما تُنَمى البذرةُ حتى تكون شجرة ، فسعدُوا بحبه في الدنيا وبقربه في دار نعيمه في الآخرة ، فهذا هو الإحسان المحض على الحقيقة ، إذ منه السبب ومنه المسبب ، فالمصلحة كلها عائدة إلى العبد فتبارك الذي جعلها - أي تلك المحبة - وأودعها في قلوبهم ثم لم يزل ينميها ويقويها حتى وصلت في قلوب الأصفياء إلى حالة تتضائل عندها جميعُ المحابِّ ، وَتُسَليِّهم عن الأحبابِ ، وتُهَوِنُ عليهم المصابَ ، وتُلذِّذُ لهم مشقة الطاعات ، وتغنيهم عن محبة ما سواه ))( ) . ولسان حالهم يقول : ليتك تعفو والحياه مريرة

وليتك ترضى والأنام غِضَاب

ليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الوُدُّ فالكل هينٌ وكل ما فوق التراب تراب

(( من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم )) لهذا الاسم الكريم أثران عظيمان : الأول : حب اللَّه لعباده المؤمنين وعلاماته وأسبابه . الثاني : حب المؤمنين للَّه تعالى وعلاماته وأسبابه . وسنحاول فيما يلي أن نتناولها ببعض التفصيل والشرح ، وسنبدأ - إن شاء اللَّه تعالى - بحب الخلق للَّه عز وجل ، تأدبًا مع اللَّه عز وجل وسعيًا إلى حبِّه ومرضاته ، عسى أن يجعلنا من أحبابه ومُحبِّيه . أولاً : حب المؤمنين للَّه (( عز وجل )) وعلاماته : أيها الأحبة ، إن الحبَّ لشيءٌ عجيب يودعه اللَّه قلوبَ الأصفياء من خلقه فتسعد به نفوسُهم ، وتهنأ به قلوبُهم ، فتسهر لمناجاته الجفون ، وتبكي من الشوق إليه العيون ، فالحب علامة على سلامة الفطرة ، ودليل على الحياة ، فالكائنات من حولنا تشعر وتحب فتدقُ بالحب قلوبُها وتتأثر بها نفوسها . وقبل أن نبدأ في حبِّ المؤمنين لربهم نحبُّ أن نتعرف على بعض هذه المخلوقات حتى نعلم ماذا تعني كلمة الحب ، وإليك بعضًا من الصور المشرقة من محبة تلك الكائنات ما أجملها وما أبلغها . فانظر إلى الفرس العربي وهو مشغول بحب صاحبه له ويدعو اللَّه عز وجل أن يُحَبِّبَه إلى صاحبه ، وذلك في كل يوم ، فكل أيامه سؤالاً للمحبة . فعن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ﷺ : (( إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول : اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه ))( ). فالفرس العربي يحب صاحبه ويألفه ويفرح لقربه ويحزن لفقده . رُوي أن رجلاً اسمه الزعتري كان له فرس يحبه ويرعاه ، وكان يخلط له الشعير بالسكر ، فأحبه الفرسُ ، فلما مرض الزعتريُ أضرب الفرسُ عن الطعام ووقف عند باب الحجرة التي بها صاحبه ولم يبرحه ، فلما مات الزعتري انطلق الفرس إلى أحد الروابي فوق الجبل وألقى بنفسه ليلقى مصرعه حزنًا على صاحبه الذي أحبه( ). حتى الجماد والصخور تُحبُّ وتُحَبُّ : فتأمل قول النبي ﷺ عن جبل أُحد : (( هذا جبلٌ يحبنا ونحبه ))( ) . اللَّه أكبر . الجبل يحب الخلق ، فكيف حبه لربِّ الخلق ! وقد بكى جذع النخل حبًّا لرسول اللَّه ﷺ واشتياقًا إليه وإلى ما كان يسمع من ذكر اللَّه . فعن جابر رضي الله عنه قال : كان جذع يقوم إليه النبيُّ ﷺ ، يعني في الخطبة ، فلما كان يوم الجمعة قعد النبيُّ ﷺ على المنبر ، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق . وفي رواية : فصاحت صياح الصبي فنزل النبيُّ ﷺ حتى أخذها فضمَّها إليه فجعلت تئنُّ أنين الصبيِّ الذي يُسَكَّتُ حتى استقرت . قال : (( بكت على ما كانت تسمع من الذكر ))( ) . تلك الكائنات تحب من أحبها وأحسن إليها ، فكيف باللَّه عز وجل سبحانه وبحمده تتابعت نعمه وزاد كرمه وفاض بره ، وأسبغ على خلقه نعمه ظاهرة وباطنة ، حتى عجزوا عن إحصاء آلائه ، فكيف يجب أن تكون محبتُه وكيف غفل عنه الغافلون وأعرض عنه العصاة والمذنبون ، جل جلاله وتقدست أسماؤه . فأين البَشَر الذين لم تدق قلوبهم بحب اللَّه من هذه الكائنات ؟ فواللَّه إنها لأعقل منهم ، وإن الصخر لألين من قلوبهم فإنهم أناس قست قلوبهم ولو شبهناها بالحجارة لكان ذلك ظلمًا للحجارة . وأصدق وصف لهم هو قول اللَّه عز وجل : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ البقرة : 74 ]. فكيف يعيش العبد بغير حُبِّ رازقهِ وخالقهِ وإلهه ومعبوده ؟ بل كيف يحيا دون أن يعرف إن كان اللَّهُ يُحِبُّه أم لا . فإنه ليس بعد الحب إلا البغض وليس بعد النعيم إلاَّ الجحيم . من أجل ذلك وَجَبَ على كل مَنْ كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن يتعلم حبَّ اللَّه عز وجل يتعرَّف عليه ويسأل نفسه هل يحب اللَّهَ ؟ وهل هو صادق في ذلك ؟ وما علامات الحب الصادق للَّه عز وجل ، كذلك هل يحبه اللَّه أم لا ؟ وما علامات حُبِّ اللَّه له ؟ من أجل ذلك نحن سنتناول هذا ببعض التفصيل ، نبدأ بحب العبد لربه وعلاماته وباللَّه التوفيق : معنى حُبَّ المؤمنين لربهم تبارك وتعالى : قال ابن القيم رحمه اللَّه تعالى : لا يكون العبد موحدًا صادقًا في حبه لله عز وجل إلا بأربعة شروط : أولاً : (( أن يحبَّ اللَّه عز وجل حبًّا من جنس حب العبادة المقرون بالذلة والخضوع والافتقار والطاعة المطلقة )) . حبًّا لا يشابه أي حبٍ آخر ، حبًّا لا يشابه حب الشهوة للنساء ، ولا حب البر للآباء ولا حُب الشفقة بالأبناء ولا حب الندِّية للأصدقاء ، بل يحبه تبارك وتعالى حب العابد لربه ، والمخلوق لخالقه ، والمملوك لمالكه ، والمرزوق لرازقه ، حبًّا مقرونًا بالخشية ، قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] . ثانيًا : (( أن لا يحب شيئًا مثله معه ، بل ولا تبقى مثقال ذرة من هذا الحب- أي حب العبادة - إلا صرَفَها للَّه وحده )) ، فلا يحب أحدًا غير اللَّه عز وجل مثله في النوع ، وكذلك في الكمية فلا يحب أحدًا أكثر من اللَّه بل لا يحب أحدًا مثل اللَّه أصلاً حتى وإن كان حبُّه لهذه الأشياء ليس حب العبادة . فمن فعل ذلك عرَّض نفسه لعقوبة اللَّه عز وجل . فقد قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] . قال الحسن البصري : هذه أشدُّ آية في الوعيد لمن آثر شيئًا في المحبة على اللَّه ورسوله والجهاد في سبيله . ثالثًا : ألا يحب شيئًا غير اللَّه إلا من أجله . وهو الحبَّ في اللَّه تبارك وتعالى . رابعًا : أن يبغض ما يباعده عن اللَّه أشد من بغضه لأبغض الأشياء إليه وهي النار . وقد جمع ثلاثة منها حديث النبي ﷺ الذي قال فيه : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحب المرءَ لا يُحبُّه إلا للَّه وأن يكره أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذه اللَّهُ منه كما يكره أن يقذف في النار ))( ) . علامات محبة العبد لربه : فإن الحب لا تخفى دلائله

كالطيب يخرج من حامل المسك

اعلم أخي الحبيب وفقني اللَّه وإياك إلى ما فيه رضاه أن العبد لم يُخلق إلا ليحب اللَّهَ ويعبده وهناك علامات لذلك الحب تفرق بين الصادق والكاذب؛ لأن الإنسان قد يظن أنه يحب اللَّه عز وجل وهو ليس كذلك ، وقد يظن أنه قريب من اللَّه وهو منه بعيد . وللَّه در القائل : وكل يدَّعي حبًا لربي

وربى لا يقر لهم بذاكا

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكا

فأما من بكى فيذوب وجدًا وينطق بالكذب من قد تباكا

فكم من من غافل وهو يظن أنه من الذاكرين . وكم من عاص وهو يظن أنه من الطائعين . وكم من كفور وهو يظن أنه من الشاكرين . وكم من جهول وهو يظن أنه من العالمين . وكم من عبدٍ يدعوه اللَّه عز وجل ليقلع عن ذنبه ويعود إلى ربه ويَنَعَم بحبه وهو معرض عنه ويظن أنه من المقبلين عليه المتقربين إليه وليس هذا إلا لأنه يحكم بهواه ويتبع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءه من ربه الهدى . ويَصدقُ على هؤلاء قول القائل : تطوى المراحلَ عن حبيبك دائبًا

وتظل تبكيه بدمع ساجم

كذبتك نفسك لست من أحبابه تشكو البعاد وأنت عين الظالم

ولهذا وأمثاله نقول : أفق وأدرك ما فاتك ، فواللَّه لو ضاعت منك الفرصة وانتهت حياتك وأنت على هذا لتكونن من الذين قال اللَّه فيهم : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الهكف : 103، 104 ] . فأزل عن عينيك غشاوة المعاصي وعن قلبك حكم الهوى ، من قبل أن ينطبق عليك قول القائل : أتترك من تحب وأنت جار

وتطلبهم إذا بعد المزارُ

تركت سؤالهم وهم حضور وترجو أن تخبرك الديارُ

فنفسك لُم ولا تَلُم المطايا ومت كمدًا فليس لك اعتذارُ

فمن أحب اللَّهَ حقًا ظهرت عليه علامات الحب ، فإن الحب في القلب ولكن تظهر آثاره على البدن كله . فقد قال النبي ﷺ : (( في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ))( ) . لذلك يكون حبُّ اللَّه عز وجل اعتقادًا بالجنان وقولاً باللسان وعملاً بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، فمن هذه العلامات : 1- طاعة اللَّه وترك معصيته : كما قال بعضهم : تعصي الإله وأنت تزعم حبه

هذا وربي في القياس بديع

إن كنت صادقًا في حبه لأطعته إن المحب لمن يحب مُطيع

وقال آخر : وكن لربك ذا حُب لتخدمه

إن المحبين للأحباب خُدامُ

2- اتباع النبي ﷺ في كل شيء : بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه . قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] . قال الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قومُ أنهم يحبون اللَّه فابتلاهم - أي امتحنهم - بهذه الآية : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] . وكانوا يسمونها آية المحنة( ) ، فإذا صدقوا في دعواهم واتبعوا رسول اللَّه ﷺ أحبهم اللَّه عز وجل ، وذلك أعظم لهم من أن يحبوه . قال بعض السلف : (( ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب )) . أي ليس الشأن أن تُحِبَ اللَّهَ لأنه قد يكون حبُّك هذا ادعاء ولكن الشأن أن يُحِبَّك اللَّهُ لأن اللَّه لا يحب إلا الطيبين . قال رسول اللَّه ﷺ : (( إن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا ))( ) . 3- حب القرآن : قال رسول اللَّه ﷺ : (( من سرَّه أن يحب اللَّه ورسوله فليقرأ في المصحف ))( ) . وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه : (( من كان يحب أن يعلم أنه يحب اللَّهَ فليعرض نفسه على القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب اللَّهَ فإنما القرآن كلام اللَّه )) . وكان ابن مسعود رضي اللَّه عنه إذا أُهدي إليه المصحف يفرح به ويقول كلام ربي كلام ربي . وقال أيضًا : (( أطلب قلبك عند ثلاثة مواضع ؛ عند قراءة القرآن ، ومجالس العلم ، ووقت السحر ، فإن لم تجد قلبك فسل اللَّهَ أن يَمُن عليك بقلبٍ فإنك لا قلبك لك )) . وقال عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه : (( لو طَهُرَتْ قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم )) . وقال الفضيل بن عياض : كفى باللَّه حبيبًا وبالقرآن مؤنسًا وبالموت واعظًا ومن لم يتخذ اللَّه صاحبًا والقرآن مؤنسًا فلا آنس اللَّه وحشته . وكان بعض المشايخ من محفِّظِي القرآن يقسم أنه عندما يقرأ القرآن يشعر بحلاوة العسل تنزل في ريقه : (( اللهم ارزقنا حلاوة ذكرك يا كريم )) . آمين . 4- الشوق إلى لقاء اللَّه تبارك وتعالى ورؤية وجهه الكريم : وَدِدْتُ أن جوانجي وجوارحي

مقلٌ تراك وما لهن جفون

وَدِدْت دمع الخافقين لمقلتى حتى عزيز الدمع فيك يهون

أخي الكريم ، هل رأيت حبيبًا لا يحب رؤية حبيبه ؟ فمن أحب أحدًا أحب رؤيته ؛ لذلك يبيت المؤمنون ويصبحوا وهَمُّهم الأكبر لقاء اللَّه ورؤيته . قال تعالى : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ] . قال أبو عثمان الحيري : هذه تعزية للمشتاقين . معناه : إني أعلم أن اشتياقكم إليَّ غالب وأنا أَجَّلْتُ أجلاً وعن قريب يكون وصولوكم إلى ما تشتاقون إليه( ) . وهو لقائكم بي ورؤيتكم لي . وكان رسول الله ﷺ عنده من الشوق إلى لقاء الله عز وجل ما أذهب صبره على لقاء ربه الرحيم ورؤية وجهه الكريم حتى كان يسأل الله عز وجل ويدعوه به ويتمنى حدوثه ، فانظر إلى دعائه ورجائه ﷺ ، حيث يقول : (( وأسألك نعيمًا لا ينفد ، وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضِرَّة ولا فتنة مُضلة ، اللهم زينا بزينةِ الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ))( ) . وكان ﷺ يفرح بالمطر ويتلقاه بثوبه ولما يُسئل عن ذلك يقول : (( إنه حديث عهد بربه ))( ) . ومن أجل ذلك يكون أعظم نعيم لأهل الجنة هو رؤية اللَّه عزَّ وجلَّ ، فإذا رأوه تضاءلت أمام رؤيته كل اللذات وشغلوا به عما سواه ، ولسان حالهم يقول : ولو أن عيني إليك الدهر ناظرة

جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر

وقال الشافعي رحمه اللَّه: ((لو لم أعلم أني سأرى الله يوم القيامة لما عبدته )). 5- الحب في اللَّه والبغض في اللَّه : ففيه حلاوة الإيمان ، وهو أوثق عُرى الإيمان : عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال : (( ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان ؛ أن يكون اللَّهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ))( ) . وقال رسول اللَّه ﷺ : (( أوثق عُرى الإيمان المولاة في اللَّه والمعاداة في اللَّه والحب في الله والبغض في اللَّه عز وجل ))( ) . وبه كمال الإيمان . قال رسول اللَّه ﷺ : (( من أحب للَّه وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ))( ) . معنى الحب في اللَّه : قيل : وحدُّ الحب في اللَّه : هو كل حب لولا الإيمان باللَّه واليوم الآخر لم يُتَصَوَّر وجودُه فهو حب في اللَّه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . وقال يحيى بن معاذ : الحب في اللَّه لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء ، أي لا يزيد بأمرٍ من أمور الدنيا من الهدايا والعطايا وإنما يزيد بالطاعة والهداية ، ولا ينقص بالبُعد والجفاء وإنما ينقص بالمعصية والتقصير . وقال رسول الله ﷺ : (( ما توادَّ اثنان في اللَّه فيُفَرَّق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدُهما ))( ) . ولا يكون للأنساب والرحم : قال النبي ﷺ : (( إن من عباد اللَّه لعبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل : من هم لعلنا نحبهم ؟ قال : هم قوم تحابوا بروح اللَّه على غير أموال ولا أنساب ))( ) . وانظر إلى مصعب بن عمير وكيف كان حبه في اللَّه . ففي غزوة بدر أَسَرَ بلالُ بن رباح رضي الله عنه أخا مصعب بن عمير رضي اللَّه عنه فرآه مصعبُ فقال لبلال : يا بلال شدَّ وثاق أسيرك ، فإن له أمًّا غنية ستفديه بمالٍ كثيرٍ . فقال له أخوه : أتقول هذا وأنا أخوك ؟ فقال له مصعب : إن بلالاً أخي دونك . أحق الخلق بالحبِّ في اللَّه : أولاً : رسول اللَّه ﷺ : قال النبي ﷺ : (( فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ))( ) . وقال أيضًا : (( لا يؤمن عبدٌ حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين ))( ) . ثانيًا : أصحاب النبي ﷺ من المهاجرين والأنصار . فقد قال النبي ﷺ : (( آية الإيمان حُبُّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ))( ) . وقال أيضًا في الأنصار : (( لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ))( ). ثالثًا : حُبُّ آل بيت النبي ﷺ . فقد قال النبي ﷺ : (( أحبوا اللَّه لما يغذوكم به من النعم وأحبوني لحبكم للَّه وأحبوا أهل بيتي لحبكم لي ))( ) . وحبُّهم يعني ودَّهم والحفاظ عليهم ورعايتهم وصلتهم ، فقد قال النبي ﷺ : (( أذكركم اللَّه في أهل بيتي ، أذكركم اللَّه في أهل بيتي ))( ) . وليس كما يفعل عبَّادُ القبور بالطواف حول المقامات والقبور والنذر لها والنحر عندها فإن ذلك من الشرك الذي نهى عنه اللهُ ورسولُه ؛ لذلك قال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه لمن غالَى في حُبِّهم : (( احببتمونا حتى أصبح حبكم عارًا علينا )) . 6- الرضا بقضاء اللَّه وقدره : فعن أنس رضي اللَّه أن النبي ﷺ قال : (( إن اللَّه تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم فمن رضى فله الرضى ومن سخط فله السخط ))( ) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال - في ابتلاء الأنبياء والصالحين -: (( إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها ، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ))( ) . وعن النبي ﷺ أن اللَّه عز وجل قال : (( إن عبدي المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنيه ))( ) . 7- حب الصلاة والشوق إليها : سبحان من لو سجدنا بالعيون له

على شبا الشوك المُحْمَى من الإبرِ

لم نبلغ العُشرَ مِنْ مِعْشَار نعمته ولا العُشَيْرَ ولا عُشْرًا من العُشْر

أنت الحبيب وأنت الحبُ يا أملي من لي سواك من أرجوه يا ذُخري

وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 1، 2 ]، وقال تعالى في وصفه لعباد الرحمن : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } [ الفرقان ] ، وقال النبي ﷺ : (( وجُعلت قرةُ عيني في الصلاة ))( ) . وكان يقول : (( يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها ))( ) . وكان يصلي من الليل حتى تتورم قدماه ، ويقول : (( أفلا أكون عبدًا شكورًا ))( ) . وكان إذا نودي للصلاة خرج وترك أهله وولده . فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : كان رسول الله ﷺ يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة( ) . وربما ترك أحبَّ الناس إليه أيضًا من أجل صلاته بالليل . عن عطاء قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي اللَّه عنها فقال عبيد بن عمير : حدِّثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله ﷺ ، فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي ، فقال : (( يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي )) . قالت : قلت : واللَّه إني لأحب قربك ، وأحب ما يسرُّك . قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي ، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره ، ثم بكى ، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض( ) . 8- ذكر اللَّه والإكثار منه : وإذا ذكرتك كاد الشوق يقتلني وأرقتني أحزانٌ وأوجاع

فإذا ذكرتك صار كلي فيك السنةً وإذا سَمِعْتُ صار كُلِّي فيك أسماع

قال النبي ﷺ : (( أحب الأعمال إلى اللَّه أن تموت ولسانك رطب من ذكر اللَّه ))( ) . وقال أيضًا : (( سبق المفردون )) . قالوا : ما المفردون يا رسول الله ؟ قال : (( الذاكرون اللَّه كثيرًا والذاكرات ))( ) . وقال ﷺ : (( وعليك بذكر الله تعالى ، وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض ))( ) . أخي الحبيب : إن اللَّه يذكر المؤمنين ولا ينساهم ، فكيف ينساه المحبون الصادقون في حبهم . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 42، 43 ] . فإذا ذكرته ذكرك مرة ثانية ، قال تعالى في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم ))( ) . وقال تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } وقيل : ليس العجب قوله: (( فاذكروني )) ، ولكن العجب كلُّه من قوله : (( أذكركم )). أخي الحبيب : هل تعلم أنه ما من شيء في هذا الكون إلا يحب اللَّه ويذكره . قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } ، وقال تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ }، وقال النبي ﷺ : (( ما تستقل الشمس فيَبقى شيءٌ من خلق اللَّه إلا سبَّح اللَّهَ بحمده إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم ))( ) . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } . أخي الحبيب : هل سمعت نداء اللَّه لك بأن لا يلهيك عنه شيء ؟ وما عسى أن تكون الإجابة ؟ إن إجابة هذا النداء لا تكون إلا بدمع العيون ورقة القلوب وحنينها إلى هذا الإله العظيم والربِّ الكريم . وقل كالذي قال : ما عنك يشغلني مالٌ ولا ولدٌ نسيتُ باسمك ذكرَ المالِ والولدِ

فلو سُفِكَتْ دمائي في الترب لانكتبت بها حروف اسمك لم تنقص ولم تزد

وانظر إلى المحبين الصادقين وكيف كان ذكرهم لرب العالمين . رسول اللَّه ﷺ لا يأتي عليه وقت إلا وهو ذاكر لربه ، عن عائشة رضي اللَّه عنها ، قالت : (( كان رسول الله ﷺ يذكر الله تعالى على كل أحيانه ))( ) . حتى في النوم ، فقد قال النبي ﷺ : (( يا عائشة إن عينَيَّ تنامان ولا ينام قلبي ))( ) . أبو الدرداء يسبح مائة ألف تسبيحة في كل يوم : عن أبي حلبس : قيل لأبي الدرداء ، وكان لا يفتر عن الذكر : كم تسبح في كل يوم ؟ قال : مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابع( ) . وانظر إلى أحمد بن حرب . قال زكريا بن دَلَّوَيْه : كان أحمد بن حرب إذا جلس بين يدي الحجام ليُحفى شاربه ، يسبح ، فيقول له الحجام: اسكت ساعة ، فيقول : اعمل أنت عملك ، وربما قطع من شفته وهو لا يعلم. 9- حبُّ الموت مع الراحة والعافية : 1- قال أبو عثمان النيسابوري : علامة الاشتياق حُبِّ الموت مع الراحة والعافية ، فإن يوسف حين أُلقي في الجُبِّ لم يقل : توفَّني وحين أُدخل السجن لم يقل توفني وحين مُكِّن في الأرض وأصبح من الملوك وتمت له النعمة قال : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وكان رسول الله ﷺ أعظم الناس اشتياقًا لربه فقد كان يتعجل لقاءه ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول اللَّه ﷺ الناس وقال : (( إن اللَّه خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله )) . قال : فبكى أبو بكر رضي الله عنه فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول اللَّه ﷺ عن عبد خُير ، فكان رسول اللَّه ﷺ هو المخُير وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه أعلمنا( ) . أبو الدرداء : كان من المشتاقين ، فيقول رضي الله عنه : أحبُّ الجوع والمرض والموت ، فقيل له : (( إنك تحبَّ أشياء لا يحبها كثيرٌ من الناس ، فقال: أنا إن جُعْتُ رقَّ قلبي ، وإن مرضت خفَّ ذنبي ، وإن متُّ قابلت ربي )). ومعاذ بن جبل : يستعذب الموت للقاء الله فيقول عند موته : (( أخنق خنقك فوالله إني لأحبك )) . ورُوي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت لما أتاه ليقبض روحه : (( هل رأيت خليلاً يميتُ خليله ؟ فأوحى اللَّه تعالى إليه : قل له : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله ؟ فقال : يا ملك الموت ، الآن فاقبض ))( ) . وفي رواية أخرى : (( قال ملك الموت : يا رب ، إن عبدك إبراهيم جزع من الموت ، فقال : قل له : الخليل إذا طال به العهد من خليله اشتاق إليه . فبلغه ، فقال : نعم يا رب ، قد اشتقت إلى لقائك ، فأعطاه ريحانة فشمها فقبض فيها ))( ) . وصفٌ جامع في المحبة اجتمع الشيوخ في مكة - شرفها اللَّه - فتذاكروا أشياءً في المحبة ، فقالوا للجنيد وكان أصغرهم سنًا : (( هات ما عندك يا عراقي ، فأطرق رأسه ودمعت عيناه وقال : عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه ، متصل بذكر ربه قائمٌ ، بأداء حقوقه ، ناظرٌ إليه بقلبه ، أحرق قلبه نور هيبته ، وصفا شربه من كأس مودته، فانكشفت له صفات الجبار من أستار غيبه ، فإن نطق فبالله ، وإن تكلم فعن الله ، وإن سكن فمع اللَّه ، فهو لله وبالله ومع اللَّه ، فبكى الشيوخ وقالوا : ما على هذا مزيدٌ جبرك الله يا تاج العارفين )) . * *

حبُّ اللَّه لعباده الصالحين وعلاماته أولاً : فضل حب اللَّه للمؤمنين : قال بعض الصالحين : ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحب ، أي ليس الأمر أن تظن أنك تحب اللَّه ، ولكن الشأن العظيم أن يحبك اللَّه ؛ لأن اللَّه لا يحب إلا من استحق ذلك الحُب . ولحبّ اللَّه لعبده فضائل كثيرة ، بل الخير كله تابع لتلك المحبة . فمن هذه الفضائل : 1- أحباب اللَّه هم الطيبون : قال النبي ﷺ : (( إن اللَّه طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا ))( ) . فإن كان اللَّه لا يقبل إلا طيبًا فكيف يحب من لم يكن طيبًا . 2- إن اللَّه يدافع عن أحبابه : قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } ، وجعل لأولياءه النصيب الأعظم من هذا الدفاع ، فقال تعالى في الحديث القدسي : (( من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب ))( ) . 3- إن اللَّه لا يُعذِّب أحبابه : قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } [ المائدة : 18 ] . قال ابن كثير رحمه اللَّه : (( قال بعض الشيوخ لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يرد عليه ، فتلا عليه الشيخ هذه الآية: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } ، وهذا الذي قال حسن وله شاهد في المسند للإمام أحمد أنه قال : مرَّ النبي عليه الصلاة والسلام في نفرٍ من أصحابه وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، وسعت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول اللَّه ، ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار ، قال فحفظهم النبي ﷺ فقال : (( لا والله ما يلقي حبيبه في النار ))( ) . 4- يحبه جبريل وأهل السماء (( يحببه إلى خلقه )) : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أن النبي ﷺ قال : (( إذا أحبَّ اللَّه تعالى العبد نادى جبريل : إن اللَّه تعالى يحب فلانًا فأحببه فيحبه جبريل فيُنَادِى في أهل السماء : (( إن اللَّه يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ))( ) . ثانيًا : معنى محبة اللَّه للمؤمنين : إن اللَّه طيبٌ غاية الطيب ، جميل غاية الجمال ، كامل الصفات والنعوت غاية الكمال فإذا أحب أحدًا فلا بد أن يكون جميلاً طيبًا فإن اللَّه عز وجل لا يحب كما يُحب الخلق بعضهم بعضًا فإن الخلق قد يحدث بينهم الحبُ لصلة النسب أو للهوى والدنيا ، أمَّا الله جلَّ جلاله فلا يحب بالهوى ولا للدنيا فإنها لا تزن عنده جناح بعوضة فقد قال النبي ﷺ : (( إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))( ) . فإذا أحبَّ اللَّه أحبَّ بالحق ، وإذا أبغض أبغض بالحق . وللَّه درُّ القائل : ودودٌ بلا ميل ودودٌ بلا هوى فأنت غنيٌ عن سواك جميل

لذلك نجد أن حب اللَّه تبارك وتعالى لعباده مقرونًا بصفات طيبة وأعمال صالحة . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، وقال أيضًا : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] ، وقال أيضًا : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 76 ] ، وقال أيضًا : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [ آل عمران : 159 ] ، وقال أيضًا : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] . وكذلك بغضه لا يكون إلا للمعصية والعصاة والطغيان والطغاة ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [ البقرة : 276 ] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ آل عمران : 140 ] . ثالثًا : من أسباب حب اللَّه للعبد : أولاً : اتباع النبي ﷺ : قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] . الثاني : التقرب إلى اللَّه جل جلاله بالنوافل بعد الفرائض : قال تعالى في الحديث القدسي : (( ... وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه ))( ) . الثالث : القرآن الكريم : قال النبي ﷺ : (( ما أذِنَ للَّه لشيءٍ ما أذن لنبيٍّ حسن الصوت يتغنىَّ بالقرآن يجهر به ))( ) . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيِّ ﷺ ، فقال : (( سلوه لأي شيءٍ يصنع ذلك ؟ )) فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي ﷺ: (( أخبروه أن اللَّه يحبه ))( ). الرابع : الحبُّ في الله ، والتجالس في الله ، ونحو ذلك : قال تعالى في الحديث القدسي : (( وَجَبَتْ محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتباذلين فيَّ والمتزاورين فيَّ )) ( ) . وقال عز وجل : (( حقَّت محبتي للمتحابين فيَّ ، وحُقت محبتي للمتواصلين فيَّ وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ ، وحُقَّت محبتي للمتزاورين فيَّ وحقَّت محبتي للمتباذلين فيَّ المتحابين فيَّ على منابر من نور ، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء ))( ) . وقال رسول اللَّه ﷺ : (( إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي ، يوم لا ظل إلا ظلي ))( ) . الخامس : حبُّ الأنصار : عن البراء قال : قال النبي ﷺ : (( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبَّهم أحبه اللَّه ومن أبغضهم أبغضه اللَّه ))( ) . السادس : الزهد في الدنيا : عن أبي العبَّاس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ ، فقال : يا رسول اللَّه ، دُلني على عمل إذا عملته أحبني اللَّهُ وأحبني الناس ، فقال : (( ازهد في الدنيا يُحِبُّكَ اللَّهُ ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناسُ ))( ) . السابع: قوة الإيمان : قال النبي ﷺ : (( المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّه من المؤمن الضعيف ))( ) . الثامن : المداومة على العمل الصالح : قال النبي ﷺ : (( أحبُّ الأعمال إلى اللَّه أدومها وإن قلَّ ))( ) . التاسع : ثلاث خصال من حُسن الخلق : (( إن اللَّه يحب العبد التقيَّ الغنىَّ الخفىَّ ))( ) .

العاشر : أن يُعطيه الدين والإيمان : قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( إن اللَّه يُعطي الدنيا من يُحبُّ ومن لا يحبّ ولا يعطي الدِّينَ إلا لمن أحبَّ ))( ) . وفي رواية : (( ... ولا يُعْطِي الإيمانَ إلا من أحبَّ )) . الحادي عشر : إلتماس مرضاة اللَّه : عن ثوبان عن النبي ﷺ قال : (( إن العبد يلتمس مرضاة اللَّه عز وجل فلا يزال كذلك ، فيقول : يا جبريل ، إن عبدي فلانًا يلتمس أن يرضيني برضائي عليه . قال : فيقول جبريل عليه السلام : رحمة اللَّه على فلان ، وتقول حملة العرش ، ويقول الذين يلونهم حتى يقول أهل السماوات السبع ثم يهبط إلى الأرض )) ، ثم قال رسول اللَّه ﷺ : (( وهي الآية التي أنزل اللَّه عليكم في كتابه : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم : 96 ] ، وإن العبد ليلتمس سخط اللَّهِ فيقول اللَّه عز وجل : (( يا جبريل ، إن فلانًا يستسخطني ألا وإن غضبي عليه )) . فيقول جبريل : غضب اللَّه على فلان وتقول حملةُ العرش ويقول مَنْ دونهم ، حتى يقوله أهل السماوات السبع ثم يهبط إلى الأرض( ) . الثاني عشر : هؤلاء الثلاثة يحبهم اللَّهُ ويضحك إليهم : عن أبي الدرداء رضي اللَّه عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( ثلاثة يُحبهم اللَّهُ ، ويضحك إليهم ، ويستبشر بهم : الذي إذا انكشفت فِئةٌ قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل فإما أن يُقْتَل ، وإما أن ينصره اللَّه عز وجل ويكفيه فيقول : انظروا إلى عبدي هذا كيف صَبَرَ لي بنفسه ؟ والذي له امرأة حَسَنَةٌ وفراش ليِّنٌ حسنٌ فيقوم من الليل ، فيقول : يَذَرُ شهوتَه ويذكُرُني ولو شاء رَقدَ ، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسَهِرُوا ثم هجعوا ، فقام من السَّحَر في ضراء وسراء ))( ) . فإن اللَّه عز وجل أحق من يجاهد في سبيله وأعظم من سُهِر من أجله ، وللَّه درُّ القائل : سهر العيون لغير وجهك باطل وبكاؤهن لغير فقدك ضائع

رابعًا : علامات محبة اللَّه للعبد : كما أن حُبَّ المؤمنين لله له علامات تؤكده ، فإن لحبِّ الله لعباده علامات كذلك وهي كالبُشرى العاجلة لهم لتطمئن بها قلوبُهم ، وتسعد بها نفوسُهم فيا سعادة من وُفِّقَ وكانت فيه هذه العلامات أو بعضها ، ويا فرحة من أكرمه اللَّه بحبِّه وأسعده بقربه ، وسنذكر هنا بعض هذه العلامات : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّه ﷺ : (( إن اللَّه تعالى قال : وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّهُ ، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأُعْطِينه ولئن استعاذني لأُعيذنه ))( ) . وفي هذا الحديث ذُكرت ستُ علامات لمحبة اللَّه لعبده : 1- كنت سمعه الذي يسمع به : أي لا يسمع إلا ما يحبه الله ويرضاه كسماعه للدعوة إلى اللَّه ولكلام اللَّه ورسوله ؛ لقول النبي ﷺ : (( ما أذن اللَّه لشيءٍ مثلما أذِن لنبي حسن الصوت يقرأ القرآن يجهر به ))( ) . وكذلك لا يحب الاستماع إلى السوء من القول كالكذب والغيبة وغيرها فإن اللَّه لا يحب ذلك كقوله تعالى : { لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } . وكذلك يعرض عن اللغو والغناء المحرم ، قال اللَّه في عباد الرحمن : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [ الفرقان ] ، وقد يكون سمعه الذي يسمع به أيضًا أن يرزقه الفراسة في الأقوال فيعرف ما تعنيه كلمات الحق أو كلمات الباطل فيعرف أصناف الناس من خطابهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . قال ابن كثير في هذه الآية : أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يُفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه وهو المراد من لحن القول كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : (( ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلا أبداها اللَّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه )) . وفي الحديث : (( ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلا كساه اللَّه تعالى جلبابها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ))( ) . وقد يعني بذلك أيضًا أن يكون حكمه على ما يسمع بشرع اللَّه تبارك وتعالى ، فالطيب ما كان في الشرع طيبًا ، والخبيث ما حكم عليه الشرع بالخبث مهما كان فيه تزيين الشيطان وإغرائه . 2- وبصره الذي يبصر به : فَيُحِب النظر لآيات اللَّه الكونية مثل السماوات والأرض وما فيها أو الشرعية مثل كتاب اللَّه وسنة رسوله ﷺ كما قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ } [ آل عمران : 190 ]. ولا يحب النظر إلى ما حرَّم اللَّه كأن يشاهد شيئًا من الباطل أو يحضره ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } [ الفرقان : 72 ] ، و(( الزور )) قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام ، فلا يشهدونه ولا يحضرونه . وقيل : هو أعياد المشركين ، وقال عمرو بن قيس : (( هي مجالس السوء والخنا )) . وقال محمد ابن الحنفية : (( هو اللغو والغناء )) . وقال مالك عن الزهري : شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه كما جاء في الحديث : (( من كان يؤمن باللَّه واليوم والآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر ))( ) . اهـ . وقد يكون ذا بصيرة فيما يراه من كثرة حفظه لنظره وبعده عن الحرام . فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى بنور الله . فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيءٍ قط : إني لأظنه كذا إلا كان كما يظنُّ( ) . وقال شاه بن جاع الكرماني : (( من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن الحرام وكف نفسه عن الشهوات واعتاد الحلال لم تخطئ فراسته )) . وكان شاه هذا لا تخطئ له فراسة( ). 3- ويده التي يبطش بها : أي لا تمتد يده إلا إلى ما يحب الله ويرضى كالتعاون على البر والتقوى ويكفها عما حرَّم اللَّه تعالى فلا يمس بها ما لا يحلُّ له كالنساء الأجنبيات أو يأخذ بها ما ليس له كحقوق الناس ولا تمتد بالأذى كأن يضرب أو يظلم ، كما قال النبيُّ ﷺ : (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه ))( ) . وقد كان لرسول الله ﷺ أعظم النصيب من هذا الحب ، ولذلك فقد قالت عائشة رضي الله عنها : (( ما ضرب رسول الله ﷺ شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيءٌ من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى ))( ) . 4- ورجله التي يمشي بها : فلا يمشي إلى ما حرّم الله من الأعمال والأماكن ، فقد قال النبي ﷺ : (( والرِّجل زناها الخُطا ))( ) . ولا يتكبر في مشيته ، فإنها مشية يبغضها الله ورسوله ، فقد قال النبي ﷺ : (( بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مُرَجَّل رأسه يختال في مشيته ؛ إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ))( ) . ولكنه يسعى في الخير كالجهاد في سبيل الله ، فقد قال النبي ﷺ : (( لغدوة في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها ))( ) . أو المشي إلى المساجد ، فقد قال النبي ﷺ : (( من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ اللَّه له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح ))( ) . 5- وإن سألني أعطيته : فأي أجر أعظم من هذا ، وأي جائزة هي أفضل من أن يعطيه اللَّهُ ما سأل، فمن ذلك ما أكرم اللَّه به أصحاب الكهف من الآيات العظيمة حين قالوا: { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } ، وحين قال يونس عليه السلام : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، فقال تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } . 6- ولئن استعاذني لأُعيذنَّه : وإذا استعاذ بالله من شر فتنةٍ أو بطش ظالم أعاذه الله فمن ذلك : حفاظته ليوسف عليه السلام حين راودته امرأة العزيزعن نفسه ، فقال : { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ، فأعاذه الله من ذلك . وكفايته من بطش الطغاة لطفل أصحاب الأخدود ، فكلما أرادوا قتله قال : (( اللهم أكفنيهم بما شئت )) ، فيكفيه اللَّه وينجيه ويهلك أعداءه . عصمته لعاصم بن ثابت من نجس المشركين . فقد قتل عاصم بن ثابت اثنين من المشركين يوم أحد ، فنذرت أمهما أن تقتل عاصمًا وتشرب في قحف رأسه الخمر وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة ، فلما غدرت هذيل بالمسلمين وأرادوا قتل عاصم بن ثابت قال : اللهم إني أحمي لدينك وأدافع عنه، فاحم لحمي وعظمي ولا تُظفِر بهما أحدًا من أعداء اللَّه . وقال أيضًا : اللهم إني حميت دينك أول النهار فاحم جسدي آخره . فلما قُتل أحاط به الدَّبْر ( وهو النحل والذنانير ) فما استطاع أحدهم لمسه ، فقالوا : دعوه إلى الليل ، فبعث اللَّه الوادي فاحتمل عاصمًا فذهب به . فلما بلغ عمر بن الخطاب ما حدث قال : يحفظ اللَّه العبد المؤمن ، كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته ، فمنعه اللَّه بعد وفاته كما امتنع في حياته( ) . 7- حُسن الخاتمة : قال النبي ﷺ : (( إذا أراد اللَّه بعبد خيرًا عسله قبل موته )). قيل : وما عسله ؟ قال : (( يفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه ))( ) . وقال أيضًا : (( من أحب لقاء اللَّهِ أحبَّ اللَّهُ لقاءَه ، ومن كره لقاءَ اللَّهِ كره اللَّهُ لقاءَه )) . فقالت عائشة رضي اللَّه عنها - أو بعض أزواجه -: إنا لنكره الموت ، فقال : (( ليس ذلك ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوانِ اللَّه وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه ، فأحبَّ لقاء اللَّه فأحب اللَّه لقاءه ))( ) . ورُوي عن عائشة رضي الله عنها : (( إذا أراد اللَّه بعبدٍ خيرًا قيَّضَ له قبل موته بعامٍ مَلَكًا يُسَدِّدُه ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان ، فإذا حضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه ، فذلك حين أحبَّ لقاء اللَّهِ وأحب اللَّهُ لقاءَه ))( ). ليس كمثله شيء في محبته( ) : فكل من أحب غير اللَّه فنسأله بعض الأسئلة ومن إجابته عليها سيعلم الفرق بين حب اللَّه وحُب غيره : - هل عَلِم من تحبه أنك تحبه وكم تحبه ؟ - هل إذا علم محبتك له بَادَلَكَ المحبة وأحبك هو أيضًا ؟ - هل إذا أحبَّك من تحب تضمن ثباته على ذلك الحب وألا يتقلب عليك قَلْبُه ويتحول عنك حُبُّه ؟ - وهل إذا أحبَّك تضمن ألا ينافسك في محبته غيرُك فينصرف عنك ويهجرك ؟ - وإذا ضمنت ذلك كله هل تضمن بقاءَه معك لتنعم بحبه وتهنأ بقربه ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة بكلمة واحدة وهي : (( لا )) . فلا تتوافر هذه الشورط إلا في حبِّ اللَّه وحده ، فمن ذلك : 1- فإنه يعلم محبتك له وكم تحبه من غير أن تتكلم فإنه يعلمها من قلبك فإنه عليم بذات الصدور . 2- ولا نقول أن اللَّه عزَّ وجلَّ يبادل الناس المحبة ، إنما نقول أن اللَّه تبارك وتعالى يحب أحبابه قبل حبهم له ، قال تعالى : (( يحبهم ويحبونه )) ، فقدَّم محبتَه لهم على محبتهم له . 3- وحبُّ اللَّه للخلق لا يغيره شيء إلا أن يغير العبد ما بنفسه تجاه ربه فينقض عهده ويترك وُدَّه ، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 53 ] . وجاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : (( ما من قوم كانوا على ما يغضب اللَّهَ فتحولوا عنه إلى ما يرضيه إلا حوَّلهم اللَّه مما يغضبهم إلى ما يرضيهم ، وما من قوم كانوا على ما يُرضى اللَّه عز وجل فتحوَّلوا عنه إلى ما يغضبه إلا حوَّلهم اللَّه مما يرضيهم إلى ما يغضبهم )) . 4- وكثرة المتنافسين على حب الله لا تزيدهم عنده إلا محبة لهم ورضا عنهم ولا يشغله بعضهم عن بعض فإن الطريق إلى اللَّه يتسع لهم كلما تنافسوا فيه . 5- حبُّ اللَّه لأحبابه باقي لا يفنى إذا ماتوا على ذلك فهو معهم في الدنيا وفي القبر وفي الدار الآخرة ، فقد قال جبريل عليه السلام للنبي ﷺ : (( عش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ... ))( ) . وصدق من قال : ومن كانت لغير اللَّه خلته فخليله منه على خطر * *

دعاء اللَّه باسمه (( الودود )) جل جلاله وتقدست أسماؤه فإن الحبَّ وحىٌّ وإلهامٌ لا يأتي به إلا الله ، فمن أراده على الحقيقة سأل اللهَ عز وجل أن يرزقه إياه ، وتأمل أخي الحبيب هذا الدعاء لنبي الله داود عليه السلام ، وانظر ماذا كان يسأل : 1- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( كان من دعاء داود عليه السلام : اللهم إني أسألك حُبَّك ، وحُبَّ من يُحبُّك ، والعملَ الذي يُبَلِّغني حُبَّك : اللهم اجعل حبك أحبَّ إليَّ من نفسي ، وأهلي ، ومن الماء البادر ))( ) . 2- فقد علَّم اللَّه نبيه محمدًا ﷺ أن يسأله حبَّه وحبَّ من يحبه . فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : أن النبيَّ ﷺ قال : (( إن اللَّه قال له : قل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون ، أسألك حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقرب إلى حبك ))( ) . أحب الكلام إلى الله ورسوله : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ))( ) . 2- وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله ؟ إن أحبَّ الكلام إلى الله : سبحان الله وبحمده ))( ) . * *

تحم بحمد اللَّه وتوفيقه الجزءُ الأول من سلسلة (( النور الأسنى في شرح أسماء اللَّه الحسنى )) . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وموعدنا مع الجزء الثاني ، إن شاء اللَّه تبارك وتعالى .

موضوعات الكتاب تقديم الكتاب المقدمة الباب الأول: من فضائل الأسماء الحُسنى الأولى: الأسماء الحسنى من أعظم أسباب دخول الجنة الثانية: الأسماء الحسنى تعرِّفك باللَّه عزَّ وجلَّ الثالثة: الأسماء الحسنى أصل عبادة اللَّه تبارك وتعالى الرابعة: الأسماء الحسنى أعظم الأسباب لإجابة الدعاء الخامسة: إن اللَّه يحب من أحب أسمائه الحُسنى السادسة: دعاء اللَّه باسمائه الحسنى أعظم أسباب تفريج الكروب وزوال الهموم السابعة: الأسماء الحسنى أصل كل شيء الثامنة: معرفة اللَّه باسمائه وصفاته هي أصل خشيته تبارك وتعالى التاسعة: من عرف الأسماء الحسنى كما ينبغي فقد عرف كل شيء العاشرة: حسن الظن باللَّه عزَّ وجلَّ الحادية عشرة: لا يضر مع اسم اللَّه شيء الثانية عشرة : الأسماء الـحُسنى وأثرها في الحلال والحرام الثالثة عشرة: العلم بأسماء اللَّه الحسنى أعظم العلوم وأشرفها الرابعة عشرة: بركة الأسماء الحسنى في المعيشة الخامسة عشرة: بركة الأسماء الحسنى تلحق الذرية السادسة عشرة: أسماء اللَّه سبب للشفاء السابعة عشرة: النجاة من الوسوسة الباب الثاني: قواعد الأسماء الحسنى القاعدة الأولى: أسماء اللَّه تعالى كلها حسنى القاعدة الثانية: أسماء اللَّه توقيفية القاعدة الثالثة: ليس كمثله شيءٌ القاعدة الرابعة: الأسماء الحسنى ليست أعلامًا فقط ولكنها تحمل معاني وصفات القاعدة الخامسة: باب الصفات أوسع من باب الأسماء القاعدة السادسة : الأسماء الحسنى لا تزيد ولا تنقص القاعدة السابعة: هل حُصرت الأسماء الحسنى بعدد معين ؟ الباب الثالث: أربعة تنبيهات هامة الأول: إحصاء الأسماء الحسنى«معناه­ أنواعه» الثاني: الإلحاد في الأسماء الحسنى«معناه­ أنواعه» الثالث: دعاء اللَّه بأسمائه الحسنى«معناه­ أنواعه» الرابع: النهي عن التسمي بأسماء اللَّه وتغيير الاسم من أجل ذلك الباب الرابع:«شرح الأسماءُ الحُسنى» 1، 2­«الرحمن­ الرحيم» الفرق بين الاسمين ربكم ذو رحمة واسعة إن للَّه مائة رحمة الرحمة بيد اللَّه وحده اللَّه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها فانظر إلى آثار رحمة اللَّه القرآن والإسلام من رحمة اللَّه ندائه في الثلث الأخير من الليل ليرحم عباده تقربه إلى خلقه وذكره لهم صبره جلَّ جلاله على الأذى من خلقه رحمته بالتائبين صلاته على المؤمنين النجاة من النار ودخول الجنة بشفاعة أرحم الراحمين رحمته بالمخلوقات الضعيفة ليس كمثله شيءٌ في رحمته لا تقنطوا من رحمة اللَّه من أسباب الحرمان من رحمة اللَّه تبارك وتعالى 1- من لا يَرحم لا يُرحم 2- تعذيب الناس 3- تعذيب الحيوانات 4- الاختلاف والفُرقة من أسباب رحمة الخلق طاعة اللَّه ورسوله صلة الرحم التماس مرضاة اللَّه الصبر رحمة الناس الجماعة رحمة دعاء اللَّه باسميه«الرحمن، الرحيم» 3، 4، 5«الملك­ المالك­ المليك» لا ملك إلا اللَّه فعالٌّ لما يريد ذلُّ الملوك بين يدي ملك الملوك احتجاب اللَّه عنهم يوم القيامة يأتون إلى اللَّه مغلولة أيديهم إلى أعناقهم يحرمون الشفاعة لا يدخلون الجنة هم أشد الناس عذابًا لمن الملك اليوم ؟ النهي عن التسمية بملك الملوك النبيُّ عليه الصلاة والسلام يترك المُلكَ تواضعًا لله ليس كمثله شيءٌ في ملكه دعاء اللَّه بهذه الأسماء الكريمة 6- القدوس جلَّ جلاله القدسية التامة لله وحده من جميع الوجوه تقدس عن الشركاء والأنداد والزوجة والولد تقدس عن كل نقص وعيب«الموت، والنوم، والكذب...» التقديس الحق لله تعالى يكون بشرعه ليس كمثله شيءٌ في قدسيته دعاء اللَّه باسمه القدوس 7- «الغني» جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه لا يوصف بالغنى المطلق إلا اللَّه غني عن كل ما سواه أنتم الفقراء إلى اللَّه فقر العباد إلى اللَّه عز وجل فقران ليس كمثله شيء في غناه وأنه هو أغنى وأقنى من أسباب الغنى«هؤلاء يغنيهم اللَّه» من أسباب الفقر«هؤلاء يفقرهم اللَّه» 8- «الوهاب» تبارك وتعالى الوهاب على الحقيقة هو اللَّه وحده دعاء اللَّه باسمه الوهاب ليست الهبة مجرد العطاء شكر اللَّه على هباته الرضا بالعطاء الصبر على فقد النعم ليس كمثله شيءٌ في هباته 9، 10، 11 العلي­ الأعلى­ المتعال وجوب الإيمان بالعلو المطلق لله تبارك وتعالى من كل الوجوه النبي ﷺ وأصحابه رضي اللَّه عنهم يؤمنون بأن اللَّه في السماء ثبوت الإيمان لمن آمن بعلو اللَّه تبارك وتعالى التواضع وذم التعالي ما علا شيءٌ من الدنيا إلا وُضع إن اللَّه يحب معالي الأمور الإخلاص من أسباب العلو 1- العلم والإيمان 2- القرآن الكريم 3- التواضع 4- الشهادة في سبيل الله ليس كمثله شيءٌ في علوه 12- «الواسع» تبارك وتعالى معنى الاسم في حق الله العلم بأن اللَّه هو الواسع الحق الواسع في رحمته­ مغفرته الواسع في علمه الواسع في شرعه من عبادة الله باسمه الواسع الفرار بالدين من الفتن الإنفاق في سبيل الله الصبر هو أوسع الرزق حبُّ اللَّه وطاعته هما أوسع الفضل المعصية والتنطع هما أعظم أسباب الضيق دعاء اللَّه باسمه الواسع 13- الشافي جل جلاله وتقدست أسماؤه لا شافي إلا اللَّه المرض جندي من جنود الله المرض رحمة بالمؤمنين من المرضى من له أجر الشهداء المرض عذاب لمن عصى اللَّه ورسوله الفحشاء والظلم سبب للعقوبة بالأمراض صور لمن عوقبوا بالأمراض«أبو لهب­ الأسود بن يغوث­ غلام أحمد القادياني» ومن أهل جهنم من يُعذب بالأمراض تدووا يا عباد الله قد يكون الشفاء من الابتلاء ليس كمثله شيء في شفائه من أسباب الشفاء دعاء اللَّه باسمه«الشافي» تبارك وتعالى دعاءٌ للعافية وكلمات من قالها لم تطعمه النار 14، 15­ الغفور، الغفار، جل جلاله وتقدست أسماؤه ­ لا يغفر الذنوب إلا الله: ­ إن ربك واسع المغفرة: ­ إن اللَّه يغفر الذنوب جميعًا: ­ ستر الله على عباده إن الله يحب التوابين ، ويفرح بهم ، ويضحك إليهم ويُسخِّر لهم مخلوقاته ويغضب على من قنط الناس من رحمته المسارعة للتوبة من علامات المغفرة من موانع المغفرة من أسباب المغفرة ليس كمثله شيء في مغفرته دعاء الله باسمايه الغفار والغفور 16- الودود الودود« هو الحبيب » حب المخلوقات لله معنى حب المؤمنين لله من علامات حب العبد لربه 1- طاعة الله وترك معصيته 2- اتباع النبي عليه الصلاة والسلام 3- حب القرآن 4- الشوق إلى لقاء الله ورؤية وجهه الكريم 5- الحب في الله والبغض في الله أحق الناس بالحب في الله 6- الرضا بالقضاء 7- حب الصلاة والشوق إليها 8- الإكثار من ذكر الله 9- حب الموت مع الراحة والعافية وصف جامع في المحبة حب الله لعباده الصالحين أولًا : فضل حب الله للمؤمنين إن الله لا يعذب أحبابه يحبه جبريل وأهل السماء ثانيًا : معنى محبة الله للمؤمنين ثالثًا : من أسباب حب الله للعبد التقرب إلى الله« تعالى » بالنوافل بعد الفرائض القرآن الكريم حب الأنصار الزهد في الدنيا صفات يحبها الله ويحب أصحابها هؤلاء الثلاثة يحبهم الله رابعًا : من علامات محبة الله للمؤمنين ليس كمثله شيء في محبته دعاء الله باسمه« الودود » تبارك وتعالى أحبَّ الكلام إلى الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...