Translate

الخميس، 8 يونيو 2023

تفسير سورة المائدة الايات من 90 الي95. وتفسير سورة المائدة الايات من 96 الي103.

تفسير سورة المائدة الايات من 90 الي95. وتفسير سورة المائدة الايات من 96 الي103.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

===

المائدة - تفسير ابن كثير

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }

يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر، وهو القمار.

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: الشَطْرَنج من الميسر. رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عُبَيس بن مرحوم، عن حاتم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، به.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي (1) حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن لَيْث، عن عطاء ومجاهد وطاوس -قال سفيان: أو اثنين منهم-قالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.

ورُوي عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب (2) وقالا حتى الكعاب، والجوز، والبيض التي (3) تلعب بها الصبيان، وقال موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر هو القمار.

وقال الضحاك، عن ابن عباس قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة.

وقال مالك، عن داود بن الحُصَيْن: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.

وقال الزهري، عن الأعرج قال: الميسر والضرب بالقداح على الأموال والثمار.

وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو من الميسر.

رواهن ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا هذه الكِعَاب الموسومة التي يزجر بها زجرًا فإنها من الميسر". حديث غريب. (4)

__________

(1) في أ: "الأعمشي".

(2) في أ: "حبيب مثله".

(3) في أ: "الذي".

(4) وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/297)، وقال: "وقال أبي: هذا حديث باطل وهو من علي بن يزيد، وعثمان لا بأس به".

(3/178)

وكأن المراد بهذا هو النرد، الذي ورد في الحديث به في صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الحُصَيب الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنَّرْدَشير فكأنما صَبَغ يده في لحم خنزير ودَمه". (1) وفي موطأ مالك ومسند أحمد، وسنني أبي داود وابن ماجه، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله". (2) وروي موقوفًا عن أبي موسى من قوله، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مكي بن إبراهيم (3) حدثنا الجُعَيْد، عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي، أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول: أخبرني، ما سمعت أباك يقول عن رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم؟ فقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل الذي يلعب بالنرد، ثم يقوم فيصلي، مثل الذي يتوضأ بالقَيْح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". (5)

وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر: أنه شرّ من النرد. وتقدم عن علي أنه قال: هو من الميسر، ونص على تحريمه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وكرهه الشافعي، رحمهم الله تعالى.

وأما الأنصاب، فقال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها.

وأما الأزلام فقالوا أيضًا: هي قداح كانوا يستقسمون بها.

وقوله: { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي سَخَط من عمل الشيطان. وقال سعيد بن جبير: إثم. وقال زيد بن أسلم: أي شر من عمل الشيطان.

{ فَاجْتَنِبُوهُ } الضمير عائد على الرجس، أي اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهذا ترغيب.

ثم قال تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وهذا تهديد وترهيب.

ذكر الأحاديث الواردة في [بيان] (6) تحريم الخمر:

قال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيج (7) حدثنا أبو مَعْشَر، عن أبي وَهْب مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فأنزل الله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } إلى آخر الآية [البقرة:219]. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه (8) في

__________

(1) صحيح مسلم برقم (2260).

(2) الموطأ (2/958) والمسند (4/394) وسنن أبي داود برقم (4938) وسنن ابن ماجة برقم (3762).

(3) في أ: "علي بن إبراهيم" وهو خطأ.

(4) في أ: "عن النبي".

(5) المسند (5/370) وقال الهيثمي في المجمع (8/113): "فيه موسى بن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".

(6) زيادة من أ.

(7) في د، ر: "شريج".

(8) في ر: "الصحابة".

(3/179)

المغرب، خلط في قراءته، فأنزل الله [عز وجل] (1) آية أغلظ منها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] وكان الناس يشربون، حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق. ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قالوا: انتهينا ربنا. وقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، [وناس] (2) ماتوا على سرفهم (3) كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان؟ فأنزل الله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلى آخر الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم". انفرد به أحمد. (4)

وقال الإمام أحمد: حدثنا خَلَف بن الوليد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي مَيْسَرة، عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (5) أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } فَدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في سورة النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان (6) منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر: انتهينا. (7)

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عَمْرو بن عبد الله السَّبِيعي وعن أبي ميسرة -واسمه عمرو بن شُرَحبيل الهمداني-عن عُمَر، به. وليس له عنه سواه، قال أبو زُرْعَة: ولم يسمع منه. وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي. (8)

وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحِنْطَة، والشعير، والخمر ما خامر العقل. (9)

وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا محمد بن بِشْر، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، حدثني نافع، عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. (10)

حديث آخر: قال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن أبي حميد، عن المصري -يعني أبا طعمة

__________

(1) زيادة من أ.

(2) زيادة من أ.

(3) في ر: "شربهم"، وفي أ: "فرشهم".

(4) المسند (2/351).

(5) زيادة من أ.

(6) في أ: "حتى كان".

(7) في أ: "انتهينا انتهينا".

(8) المسند (1/53) وسنن أبي داود برقم (3670) وسنن الترمذي برقم (3049) وسنن النسائي (8/286).

(9) صحيح البخاري برقم (4619) وصحيح مسلم برقم (3032).

(10) صحيح البخاري برقم (4616).

(3/180)

قارئ مصر -قال: سمعت ابن عمر يقول: نزلت في الخمر ثلاث آيات، فأول شيء نزل: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية [البقرة: 219] فقيل: حرمت الخمر. فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها كما قال الله تعالى. قال: فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية: { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [النساء: 43]. فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم ثم نزلت: (1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر". (2)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى، حدثنا محمد بن إسحاق، عن القعقاع بن حكيم؛ أن عبد الرحمن بن وَعْلَة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف -أو: من دوس-فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فلان، أما علمت أن الله حرمها؟" فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فلان، بماذا أمرته؟" فقال: أمرته أن يبيعها. قال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". فأمر بها فأفرغت في البطحاء.

رواه مسلم من طريق ابن وَهْب، عن مالك، عن زيد بن أسلم. ومن طريق ابن وهب أيضًا، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد كلاهما -عن عبد الرحمن بن وَعْلَة، عن ابن عباس، به. ورواه النسائي، عن قتيبة، عن مالك، به. (3)

حديث آخر: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية (4) من خمر، فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال: "إنها قد حرمت بعدك". قال: يا رسول الله، فأبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، حرم عليهم شُحُوم البقر والغنم، فأذابوه، وباعوه، والله حَرّم الخمر وثمنها". (5)

وقد رواه أيضًا الإمام أحمد فقال: حدثنا رَوْح، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام قال: سمعت شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الرحمن بن غَنْم: أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر، فلما كان عام حُرّمت جاء براوية، فلما نظر إليه ضحك فقال (6) أشعرت أنها حرمت بعدك؟" فقال: يا رسول الله، ألا (7) أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، انطلقوا إلى ما حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه، فباعوه به ما يأكلون، وإن الخمر حرام

__________

(1) في أ: "فنزلت".

(2) مسند الطيالسي برقم (1957).

(3) المسند (1/230) والموطأ (2/846) وصحيح مسلم برقم (1579) وسنن النسائي (7/307)

(4) في أ: "صلى الله عليه وسلم كل عام راوية".

(5) وفي إسناده انقطاع.

ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/57) من طريق زيد بن أخزم، عن أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن تميم الداري به.

(6) في أ: "وقال".

(7) في أ: "أفلا".

(3/181)

وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام". (1)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن نافع بن كَيسان أن أباه أخبره (2) أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق، يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيب (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا كيسان، إنها قد حرمت بعدك". قال: فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها قد حرمت وحرم ثمنها". فانطلق كيسان إلى الزقاق، فأخذ بأرجلها ثم هراقها. (4)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيي بن سعيد، عن حميد، عن (5) أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كَعْب، وسُهَيْل بن بيضاء، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم، حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فما قالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اكف ما بقي في إنائك، فوالله (6) ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ. (7)

أخرجاه في الصحيحين -من غير وجه-عن أنس (8) وفي رواية حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ، فإذا مناد ينادي، قال: اخرج فانظر. فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت، فَجرت في سِكَكِ المدينة، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فَأهْرقها. فهرقتها، فقالوا -أو: قال بعضهم: قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم. قال: فأنزل الله: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية. (9)

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد (10) حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دُجَانة، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر. فسمعت مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أمّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

__________

(1) المسند (4/226) وقال الهيثمي في المجمع (4/88)، "فيه شهر وحديثه حسن وفيه كلام".

(2) في أ: "أن أباه قد أخبره".

(3) في أ: "جيد".

(4) المسند (4/337) وقال الهيثمي في المجمع (4/88): "فيه نافع بن كيسان وهو مستور".

(5) في ر: "بن".

(6) في أ: "فرأيته".

(7) المسند (3/181)

(8) صحيح البخاري برقم (4620) وصحيح مسلم برقم (1980).

(9) هذا لفظ مسلم في صحيحه برقم (1980).

(10) في د، ر: "عبد الحميد".

(3/182)

إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلة من مات وهو يشربها؟ فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] } (1) الآية، فقال رجل لقتادة: أنت سَمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم. وقال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم -أو: حدثني من لم يكذب، ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب. (2)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحر، عن بكر بن سوادة، عن قيس بن سعد بن عبادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي تبارك وتعالى حرم عَلَيّ الخمر، والكُوبَة، والقنّين. وإياكم والغُبيراء فإنها ثلث خمر العالم". (3)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا فرج بن فضالة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع (4) عن أبيه، عن عبد الله بن عَمْرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزْر، والكُوبة والقِنّين. وزادني صلاة الوتر". قال يزيد: القنين: البرابط. تفرد به أحمد. (5)

وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو عاصم -وهو النبيل-أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم". قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وكل مسكر حرام". تفرد به أحمد أيضا (6)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبي طعمة -مولاهم-وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنت الخمر على عشرة وجوه: لعنت الخمر بعينها وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومُبتاعها، وعاصرها، ومُعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها".

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث وكيع، به. (7)

وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا أبو طِعْمة، سمعت ابن عمر يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد، فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه، فكان عن يمينه وكنت عن يساره. ثم أقبل عمر فتنحيت له، فكان عن يساره. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر -قال ابن عمر-: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية -قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ -فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال: "لعنت الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها،

__________

(1) زيادة من ر.

(2) تفسير الطبري (10/578) ورواه البزار في مسنده برقم (2922) "كشف الأستار" من طريق عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بنحوه.

(3) المسند (4/422) وقال الهيثمي في المجمع (5/54): "فيه عبيد الله بن زحر وثقة أبو زرعه والنسائي وضعفه الجمهور".

(4) في ر: "نافع".

(5) المسند (2/163) وقال الهيثمي في المجمع (2/240): "فيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع وهو مجهول".

(6) المسند (2/171).

(7) المسند (2/25) وسنن أبي داود برقم (3674) وسنن ابن ماجة برقم (3380).

(3/183)

وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها". (1)

وقال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن ضَمْرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة، فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال: "اغد عليَّ بها". ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته، ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته. (2)

حديث آخر: قال عبد الله بن وَهب: أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح، وابن لَهِيعة، والليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن ثابت بن يزيد الخولاني أخبره: أنه كان له عم يبيع الخمر، وكان يتصدق، فنهيته عنها فلم ينته، فقدمت المدينة فتلقيت (3) ابن عباس، فسألته عن الخمر وثمنها، فقال: هي حرام وثمنها حرام. ثم قال ابن عباس، رضي الله عنه: يا معشر أمة محمد، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم، ونبي بعد نبيكم، لأنزل فيكم كما أنزل فيمن قبلكم، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة، ولَعمري لهو أشد عليكم، قال ثابت: فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر، فقال: سأخبرك عن الخمر، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فبينما هو محتب حَلّ حُبْوَته ثم قال: "من كان عنده من هذه الخمر فليأتنا بها". فجعلوا يأتونه، فيقول أحدهم: عندي راوية. ويقول الآخر: عندي زقٌّ أو: ما شاء الله أن يكون عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني". ففعلوا، ثم آذنوه فقام وقمت معه، فمشيت عن يمينه وهو متكئ عليّ، فألحقنا أبو بكر، رضي الله عنه، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلني عن شماله، وجعل أبا (4) بكر في مكاني. ثم لحقنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فأخرني، وجعله عن يساره، فمشى بينهما. حتى إذا وقف على الخمر قال للناس: "أتعرفون هذه (5) قالوا: نعم، يا رسول الله، هذه الخمر. قال: "صدقتم". قال: "فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها". ثم دعا بسكين فقال: "اشحذوها". ففعلوا، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق، قال: فقال الناس: في هذه الزقاق منفعة، قال: "أجل، ولكني إنما أفعل ذلك غضبًا لله، عز وجل، لما فيها من سخطه". فقال عمر: أنا أكفيك يا رسول الله؟ قال: "لا".

قال ابن وَهْب: وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث. رواه البيهقي. (6)

حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بِشْران، أنبأنا إسماعيل بن محمد

__________

(1) المسند (2/71).

(2) المسند (2/132) وقال الهيثمي في المجمع (5/54): "رواه أحمد بإسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وفي الآخر أبو طعمة، وقد وثقه محمد بن عمار الموصلي، وضعفه مكحول وبقية رجاله ثقات".

(3) في أ: "فلقيت".

(4) في ر: "أبو" وهو خطأ.

(5) في ر: "هذا".

(6) السنن الكبرى (8/286).

(3/184)

الصفار، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شُعْبَة، عن سِماك، عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال: أنزلت في الخمر أربع آيات، فذكر الحديث. قال: وضع رجل من الأنصار طعامًا، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا، فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل. وقالت قريش: نحن أفضل. فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكان أنف سعد مفزورًا. (1) فنزلت آية الخمر: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ] } (2) إلى قوله تعالى: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } أخرجه مسلم من حديث شعبة. (3)

حديث آخر: قال البيهقي: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو علي الرفاء، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع هذا بي، أخي فلان -وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن (4) والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي، حتى وقعت (5) الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ] (6) فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] } (7)

ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة، عن حجاج بن منهال. (8)

حديث آخر: قال ابن جرير: حدثني محمد بن خَلَف، حدثنا سعيد بن محمد الجرْمي، عن أبي تُمَيْلَة، عن سلام مولى حفص أبي القاسم، عن أبي بريدة، عن أبيه قال: بينا نحن قُعُود على شراب لنا، ونحن رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية لنا، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، إذ نزل تحريم الخمر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلى آخر الآيتين (9) { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون } ؟ قال: وبعض القوم شَربته في يده، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا، كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم (10) فقالوا: انتهينا ربنا. (11)

حديث آخر: قال البخاري: حدثنا صَدَقة بن الفضل، أخبرنا ابن عُيَينة، عن عمرو، عن جابر

__________

(1) في د، ر: "مفزورة".

(2) زيادة من ر، أ.

(3) السنن الكبرى (8/285) ولفظه عنده. "أنزلت في أربع آيات". وصحيح مسلم برقم (1748).

(4) في د، أ: "ضغائن فيقول".

(5) في أ: "حتى إذا وقعت".

(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ إلى آخر الآية".

(7) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى آخر الآية".

(8) السنن الكبرى (8/285) وسنن النسائي الكبرى برقم (11151).

(9) في أ: "الآية".

(10) في أ: "باطنهم".

(11) تفسير الطبري (10/572).

(3/185)

قال: صَبَّح ناس غداة أحد الخمر، فَقُتلوا من يومهم جميعًا شهداء، وذلك قبل تحريمها.

هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه (1) وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن عَبْدة، حدثنا سفيان، عن (2) عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد، فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم. فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } ثم قال: وهذا إسناد صحيح. وهو كما قال، ولكن في سياقته غرابة.

حديث آخر: قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فنزلت: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية.

ورواه الترمذي، عن بُنْدار، غُنْدَر (3) عن شعبة، به نحو. وقال: حسن صحيح. (4)

حديث آخر: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب القمي، عن عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة، فلقيه رجل من المسلمين فقال: يا فلان، إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تَلّ، وسجى عليها بأكسية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بلغني أن الخمر قد حرمت؟ قال: "أجل" قال: لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: "لا يصلح (5) ردها". قال: لي أن أهديها إلى من يكافئني منها؟ قال: "لا". قال: فإن فيها مالا ليتامى في حجري؟ قال: "إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوّضُ أيتامك من مالهم". ثم نادى بالمدينة، فقال رجل: يا رسول الله، الأوعية ننتفع بها؟. قال: "فَحُلُّوا أوكيتها". فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب. (6)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن السُّدِّي، عن أبي هُبيرة -وهو يحيى بن عَبَّاد الأنصاري-عن أنس بن مالك؛ أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال: "أهرقها". قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: "لا".

ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، من حديث الثوري، به نحوه. (7)

حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رَجاء، حدثنا عبد العزيز بن

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4618).

(2) في ر: "بن".

(3) في ر، أ: "بندار عن غندر".

(4) مسند الطيالسي برقم (715) وسنن الترمذي برقم (3051).

(5) في أ: "لا يصح".

(6) مسند أبي يعلى (3/404) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1980) "مجمع البحرين" من طريق جعفر بن حميد به.

قال الهيثمي في المجمع (4/88): "في إسنادهما يعقوب القمي، وعيسى بن جارية وفيهما كلام وقد وثقا".

(7) المسند (3/119) وصحيح مسلم برقم (1983) وسنن أبي داود برقم (3675) وسنن الترمذي برقم (1294).

(3/186)

أبي سلمة، حدثنا هلال بن أبي هلال، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: إن هذه الآية التي في القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال: هي في التوراة: "إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب، والمزامير، والزَّفْن، والكِبَارات -يعني البرابط--والزمارات -يعني به الدف-والطنابير-والشعر، والخمر مرة لمن طعمها. أقسم الله بيمينه وعزة حَيْله من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه (1) يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس".

وهذا إسناد صحيح.

حديث آخر: قال عبد الله بن وَهْب: أخبرني عمرو بن الحارث؛ أن عمرو بن شُعَيب حدثهم، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال". قيل: وما طينة الخبال؟ قال: "عصارة أهل جهنم".

ورواه أحمد، من طريق عمرو بن شعيب. (2)

حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني، قال: سمعت النعمان -هو ابن أبي شيبة الجَنَدي-يقول عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مَخمَّر خَمْر، وكل مُسْكِر حَرَام، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال". قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله قال: "صديد أهل النار، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال"

تفرد أبو داود. (3)

حديث آخر: قال الشافعي، رحمه الله: أنبأنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة".

أخرجه البخاري ومسلم، من حديث مالك، به. (4)

وروى مسلم عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مُسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يُدْمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة". (5)

حديث آخر: قال ابن وَهْب: أخبرني عمر بن محمد، عن عبد الله بن يَسار؛ أنه سمع سالم بن

__________

(1) في أ: "إلا عطشته".

(2) المسند (2/178) ورواه الحاكم في المستدرك (4/146) والبيهقي في السنن الكبرى (8/287) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله بن وهب به.

(3) سنن أبي داود (3680).

(4) مسند الشافعي برقم (1763) "بدائع المنن" وصحيح البخاري برقم (5575) وصحيح مسلم برقم (2003).

(5) صحيح مسلم برقم (2003).

(3/187)

عبد الله يقول: قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه، والمُدْمِن الخمر، والمنَّان بما أعطى".

ورواه النسائي، عن عمر بن علي، عن يزيد بن زُرَيْع، عن عمر بن محمد العُمَري، به. (1)

وروى أحمد، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة منَّان ولا عاق، ولا مُدْمِن خمر". (2)

ورواه أحمد أيضًا، عن عبد الصمد، عن عبد العزيز بن مسلم (3) عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، به. وعن مروان بن شجاع، عن خَصِيف، عن مجاهد، به (4) ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا، عن الحسين الجَعْفِي، عن زائدة، عن بن ابن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد، كلاهما عن أبي سعيد، به. (5)

حديث آخر: قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق، ولا مُدْمِن خمر، ولا منَّان، ولا ولد زنْيَة". (6)

وكذا رواه عن يزيد، عن همام، عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، به (7) وقد رواه أيضًا عن غُنْدر وغيره، عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن نُبَيْط بن شُرَيط، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق والديه، ولا مدمن خمر".

ورواه النسائي، من حديث شعبة كذلك، ثم قال: ولا نعلم (8) أحدًا تابع شعبة عن نبيط بن شريط. (9)

وقال البخاري: لا يعرف لجابان سماع من عبد الله، ولا لسالم من جابان ولا نبيط.

وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد، عن ابن عباس -ومن طريقه أيضًا، عن أبي هريرة، فالله أعلم.

وقال الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن أباه قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فَعَلقته امرأة غَوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت: إنا ندعوك لشهادة. فدخل معها، فطفقت

__________

(1) سنن النسائي الكبرى برقم (2343) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/288) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله بن وهب به.

(2) المسند (3/44).

(3) في ر: "أسلم".

(4) المسند (3/28).

(5) سنن النسائي الكبرى برقم (4920).

(6) المسند (2/203).

(7) المسند (2/164).

(8) في ر: "يعلم".

(9) المسند (2/201) وسنن النسائي الكبرى برقم (4914)

(3/188)

كلما دخل بابًا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عَليّ أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر. فسقته كأسًا، فقال: زيدوني، فلم يَرِم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه.

رواه البيهقي (1) وهذا إسناد صحيح. وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "ذم المسكر" عن محمد بن عبد الله بن بَزِيع، عن الفضيل بن سليمان النميري، عن عمر بن سعيد، عن الزهري، به مرفوعًا (2) والموقوف أصح، والله أعلم.

وله شاهد في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". (3)

وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، عن سِماك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: لما حرمت الخمر قال أناس: يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية. قال: ولما حُوّلت القبلة قال أناس: يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (4) } [البقرة:143].

وقال الإمام أحمد: حدثنا داود بن مِهْران الدباغ، حدثنا داود -يعني العطار-عن ابن خُثَيْم، عن شَهْرِ بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرب الخمر لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلة، إن مات مات كافرًا، وإن تاب تاب الله عليه. وإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبَال". قالت: قلت: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "صديد أهل النار". (5)

وقال الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قيل لي: أنت منهم".

وهكذا رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، من طريقه. (6)

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قرأت على أبي، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وهاتان الكعبتان الموسمتان اللتان تزجران (7) زجرًا، فإنهما مَيْسِر العَجَم". (8)

__________

(1) السنن الكبرى (8/287) من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري به. وقد خولف يونس بن يزيد خالفه عمر بن سعيد بن السرحة، فرواه عن الزهري مرفوعا، كما سيأتي في رواية ابن أبي الدنيا.

(2) ذم المسكر برقم (1) ورواية يونس بن يزيد أرجح من رواية عمر بن سعيد بن السرحة، فقد لينه بعض الأئمة. قالوا: "وأحاديثه عن الزهري ليست بمستقيمة".

(3) صحيح البخاري برقم (6810) وصحيح مسلم برقم (57).

(4) المسند (1/295).

(5) المسند (6/460) وقال الهيثمي في المجمع (5/69): "فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد حسن حديثه، وبقية رجاله ثقات".

(6) صحيح مسلم برقم (2459) وسنن الترمذي برقم (3053) وسنن النسائي الكبرى برقم (11153).

(7) في ر: "الموسمتان الذين يزجران" وهذا على لغة من يلزم المثنى الألف.

(8) المسند (1/446) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.

(3/189)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) }

قال الوالبي، عن ابن عباس قوله: { لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقربوه.

وقال مجاهد: { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني: صغار الصيد وفراخه { وَرِمَاحِكُمْ } يعني: كباره.

وقال مُقَاتِل بن حَيَّان: أنزلت هذه الآية في عُمْرة الحُدَيْبِيَّة، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم (1) في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.

{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } يعني: أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا (2) ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك:12].

وقوله هاهنا: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: لمخالفته أمر الله وشرعه.

ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه. وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها. والجمهور على تحريم قتلها أيضًا، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة أم المؤمنين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم (3) الغُراب والحدأة، والعَقْرب، والفأرة، والكلب العَقُور". (4)

وقال مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". أخرجاه. (5)

ورواه أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثله. قال أيوب، قلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك

__________

(1) في ر: "يغشاهم".

(2) في ر: "جهرًا وسرًا".

(3) في ر: "الحرام".

(4) صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).

(5) صحيح البخاري برقم (1826) وصحيح مسلم برقم (1199).

(3/190)

فيها، ولا يختلف في قتلها. (1)

ومن العلماء -كمالك وأحمد-من ألحق بالكلب العقور الذئب، والسَّبْعُ، والنِّمْر، والفَهْد؛ لأنها أشد ضررًا منه فالله أعلم. وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم: الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلّها. واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة (2) بن أبي لهب قال: "اللهم سَلِّط عليه (3) كلبك بالشام" (4) فأكله السبع بالزرقاء، قالوا: فإن قتل ما عداهن فَدَاها كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك.

قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السباع العوادي.

وقال الشافعي [رحمه الله] (5) يجوز للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه، ولا فرق بين صغاره وكباره. وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل.

وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب؛ لأنه كلب بري، فإن قتل غيرهما فَدَاه، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه. وهذا قول الأوزاعي، والحسن بن صالح بن حيي.

وقال زُفَر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه.

وقال بعض الناس: المراد بالغراب هاهنا الأبقع (6) وهو الذي في بطنه وظهره بياض، دون الأدرع وهو الأسود، والأعصم وهو الأبيض؛ لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس، عن يحيى القَطَّان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس يقتلهن المحرم: الحية، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور".

والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه.

وقال مالك، رحمه الله: لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه.

وقال مجاهد بن جَبْر وطائفة: لا يقتله بل يرميه. ويروى مثله عن علي.

وقد روى هُشَيْم: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عما يقتل المحرم، فقال: "الحية، والعقرب، والفُوَيْسِقَة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي".

__________

(1) صحيح مسلم برقم (1199).

(2) في ر: "عتبية".

(3) في ر: "عليهم".

(4) رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/339) من طريق زهير بن العلاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به مرسلا وذكر قصة. ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 163) من طريق محمد بن إسحاق، عن عثمان بن عروة بن الزبير، عن أبيه وذكر قصة. ورواه البيهقي في دلائل النبوة (2/338) من طريق عباس بن الفضل، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه به وذكر قصة.

(5) زيادة من ر.

(6) في ر: "المراد بالأبقع هاهنا الغراب".

(3/191)

رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن أحمد بن منيع، كلاهما عن هشيم. وابن ماجه، عن أبي كريم (1) عن محمد بن فضيل، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (2)

وقوله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوب قال: نبئت عن طاوس قال: لا يحكم (3) على من أصاب صيدًا خطأ، إنما يحكم (4) على من أصابه متعمدًا.

وهذا مذهب غريب عن طاوس، وهو متمسك بظاهر الآية.

وقال مجاهد بن جبير: المراد بالمتعمد هنا (5) القاصد إلى قتل الصيد، الناسي لإحرامه. فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه، فذاك أمره أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه.

رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليث بن أبي سليم وغيرهما، عنه. وهو قول غريب أيضًا. والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. قال الزهري: دل (6) الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العَمْد، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمّد مأثوم والمخطئ غير مَلُوم.

وقوله: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها: "فجزاؤه مثل ما قتل من النعم".

وفي قوله: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافًا لأبي حنيفة، رحمه الله، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليًا أو غير مثلي، قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه، وإن شاء اشترى به هديًا. والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز وذكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب "الأحكام"، وأما إذا لم يكن الصيد مثليًا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه، يحمل إلى مكة. رواه البيهقي. وقوله: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل، أو بالقيمة في غير المثل، عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين؟ على قولين:

__________

(1) في ر: "كريب".

(2) سنن أبي داود برقم (1848) وسنن الترمذي برقم (838) وسنن ابن ماجة برقم (3089).

(3) في ر: "نحكم".

(4) في ر: "نحكم".

(5) في ر: "هاهنا".

(6) في ر: "تدل".

(3/192)

أحدهما: " لا؛ لأنه قد يُتَّهم في حكمه على نفسه، وهذا مذهب مالك.

والثاني: نعم؛ لعموم الآية. وهو مذهب الشافعي، وأحمد.

واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا جعفر -هو ابن بُرْقَان-عن ميمون بن مِهْران؛ أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال: قتلت صيدًا وأنا محرم، فما ترى عليَّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر، رضي الله عنه، لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما (1) قال؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما تنكر؟ يقول الله تعالى: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.

وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يحتمل هاهنا. فبين له الصديق الحكم برفق وتُؤدَة، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم، فأما إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم، فقد قال ابن جرير:

حدثنا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وَكِيع بن الجراح، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قَبِيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجًا، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -أو: برح-فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا، قال: فَعَظَّمْنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، قال: فقص عليه القصة قال: وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة -يعني عبد الرحمن بن عوف-فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها. قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل، عَظّم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه: اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل (2) ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة. قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم؟ قال: ثم أقبل عليَّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني، قال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شابّ السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب.

وقد روى هُشَيْم هذه القصة، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة، بنحوه. ورواها أيضًا عن حُصَيْن، عن الشعبي، عن قبيصة، بنحوه. وذكرها مرسلة عن عُمَر: بن بكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن سِيرين.

__________

(1) في ر: "فيها".

(2) في ر: "فلعل".

(3/193)

وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، أخبرني أبو جرير البَجَلِيّ قال: أصبت ظَبْيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ بتَيْس أعفر.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن مُخارق، عن طارق قال: أوطأ أربد ظبيًا فقتلته (1) وهو محرم فأتى عمر؛ ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جَدْيًا، قد جمع الماء والشجر. ثم قال عمر: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }

وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين، كما قاله الشافعي وأحمد، رحمهما الله.

واختلفوا: هل تستأنف (2) الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين، فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة (3) وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه (4) الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا؛ لقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }

وقوله تعالى: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي: واصلا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم، بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة.

وقوله: { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } أي: إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعَم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد رحمهم الله، لظاهر الآية "أو" فإنها للتخيير. والقول الآخر: أنها على الترتيب.

فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيُقوّم الصيد المقتول عند مالك، وأبي حنيفة وأصحابه، وحماد، وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا، ثم يشتري به طعام ويتصدق به، فيصرف لكل مسكين مُدٌ منه عند الشافعي، ومالك، وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُطعِم كل مِسْكين مُدَّيْن، وهو قول مجاهد.

وقال أحمد: مُدّ من حنطة، أو مدان من غيره. فإن لم يجد، أو قلنا بالتخيير (5) صام عن (6) إطعام كل مسكين يومًا.

وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا. كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه، فإن الشارع أمر كعب بن عُجْرَة أن يقسم فَرَقًا بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفَرَقُ ثلاثة آصع.

واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي: محله الحرم، وهو قول عطاء. وقال مالك: يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد، أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.

__________

(1) في د، ر : "فقتله".

(2) في ر: "يستأنف".

(3) في ر: "صاحبه".

(4) في ر: "به".

(5) في ر: "أو قلنا التخيير".

(6) في ر: "من".

(3/194)

ذكر أقوال السلف في هذا المقام:

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس في قوله: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال: إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد نظر كم ثمنه، ثم قُوّم ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا، قال: { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال: إنما أريد بالطعام الصيام، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه.

ورواه ابن جرير، من طريق جرير.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } إذا (1) قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل إبِلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا.

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد: والطعام مُدٌّ مُدّ تشبَعهم. (2)

وقال جابر الجُعْفي، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد: { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قالوا: إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي. رواه ابن جرير.

وكذا روى ابن جُرَيْج عن مجاهد، وأسباط عن السُّدِّي أنها على الترتيب.

وقال عطاء، وعكرمة، ومجاهد -في رواية الضحاك-وإبراهيم النَّخَعِي: هي على الخيار. وهو رواية الليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. واختار ذلك ابن جرير، رحمه الله تعالى.

وقوله: { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي: أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } أي: في زمان الجاهلية، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية.

ثم قال: { َ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

قال ابن جُرَيْج، قلت لعطاء: ما { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } قال: عما كان في الجاهلية. قال: قلت: وما { َ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ؟ قال: ومن عاد في الإسلام، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة قال: قلت: فهل في العود حَدُّ تعلمه؟ قال: لا. قال: قلت: فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه؟ قال:

__________

(1) في ر: "فإذا".

(2) في ر: "شبعهم".

(3/195)

لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، عز وجل، ولكن يفتدي. رواه ابن جرير. (1)

وقيل معناه: فينتقم الله منه بالكفارة. قاله سعيد بن جبير، وعطاء.

ثم الجمهور من السلف والخلف، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية (2) وإن تكرر ما تكرر، سواء الخطأ في ذلك والعمد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: من قتل شيئًا من الصيد خطأ، وهو محرم، يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك كما قال الله، عز وجل.

وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعًا، عن هشام -هو ابن حسان-عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس فيمن أصاب صيدًا فحُكم (3) عليه ثم عاد، قال: لا يحكم عليه، ينتقم الله منه.

وهكذا قال شُرَيْح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخَعِي. رواهن ابن جرير، ثم اختار القول الأول.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان، عن زيد أبي المعلى، عن الحسن البصري؛ أن رجلا أصاب صيدًا، فتجوز عنه، ثم عاد فأصاب صيدًا آخر، فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ }

وقال ابن جرير في قوله: { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } يقول عَزَّ ذكره: والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة.

وقوله: { ذُو انْتِقَامٍ } يعني: أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.

__________

(1) تفسير الطبري (11/48).

(2) في ر: "والثانية والثالثة".

(3) في د، ر: "يحكم".

========

المائدة - تفسير القرطبي

90- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

91- {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}

92- {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}

فيه عشرة مسألة:

الأولى- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نَفِيُّ منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة.

(6/285)

وتقدم اشتقاقها. وأما {الْمَيْسِرُ} فقد مضى في {البقرة} القول فيه. وأما الأنصاب فقيل: هي الأصنام. وقيل: هي النرد والشطرنج؛ ويأتي بيانهما في سورة {يونس} عند قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} وأما الأزلام فهي القداح، وقد مضى في أول السورة القول فيها. ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا؛ فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره.

الثانية- تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي في تجارتهم؛ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر. وقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب؛ فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا. وقد مضى في {البقرة} و{النساء}. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} و {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} نسختها التي في المائدة. {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ} . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت في آيات من القرآن؛ وفيه قال: وأتيت على نفر من الأنصار؛ فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا،

(6/286)

وذلك قبل أن تحرم الخمر؛ قال: فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر؛ قال: فأكلت وشربت معهم؛ قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار؛ قال: فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر – {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} .

الثالثة- هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه؛ يدل عليه آية النساء {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} على ما تقدم. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر؛ ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لما قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقري وخرج عنه. وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه. والله أعلم.

الرابعة- قوله تعالى: {رِجْسٌ} قال ابن عباس في هذه الآية: {رِجْسٌ} سخط وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس. والرجز بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة

(6/287)

لا غير. والرجس يقال للأمرين. ومعنى {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي بحمله عليه وتزيينه. وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدى به فيها.

الخامسة- قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يريد ابعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة {المائدة} نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ} وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روى ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك؛ يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك. ثم علق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب. والله أعلم.

السادسة- فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة؛ قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق. والجواب؛ أن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا

(6/288)

يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. والله أعلم.

فإن قيل: التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا؛ فكم من محرم في الشرع ليس بنجس؛ قلنا: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدل على نجاستها؛ فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة. وسيأتي في سورة {الحج} ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

السابعة- قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل علمت أن الله حرمها" قال: لا، قال: فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بم ساررته" ؟ قال: أمرته ببيعها؛ فقال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" ، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ فهذا حديث يدل على ما ذكرناه؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة. "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" الحديث.

الثامنة- أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله؛ ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة؛ والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.

(6/289)

التاسعة- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها؛ لأن الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا. وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال: "لا" ونهى عن ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد. وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها؛ وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن مسعد والكوفيين. وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز. وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال: لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده. قال أبو عمر: احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء؛ وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح. وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر؛ وليس في رأي أحد حجة مع السنة. وبالله التوفيق. وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك. وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت. وروى أشهب عن مالك قال: إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله؛ وهذه الرواية ذكرها ابن عبدالحكم في كتابه. والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها، ولكن ليهريقها.

العاشرة- لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب، وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.

(6/290)

الحادية عشرة- ذكر ابن خويز منداد أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها حريق؛ وهذا نقل لا يعرف لمالك، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة. ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها. وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها. والحمد لله.

الثانية عشرة- هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} الآية. فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى؛ قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر؛ فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة. والله أعلم.

الثالثة عشرة- مُهدي الراوية يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقول بعض الأصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه،

(6/291)

بل بين له الحكم؛ ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء؛ إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. وقد تقدم في سورة {البقرة} والحمد لله؛ وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر. وقد مضى في صدر هذه السورة القول، في الأنصاب والأزلام. والحمد لله.

الرابعة عشرة- قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها، ونهانا عنها. روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن؛ فأنزل الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} الآية.

الخامسة عشرة- قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي، وروي: بعبدالرحمن كما تقدم في {النساء}. وقال عبيدالله بن عمر: سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال أبو عبيد: تأول قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} .

السادسة عشرة- قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال: انتهينا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت؛ فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكاك المدينة.

(6/292)

السابعة عشرة- قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا. وكرر {وَأَطِيعُوا} في ذكر الرسول تأكيدا. ثم حذر في مخالفة الأمر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة؛ فقال: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي خالفتم {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يُعصى أو يُطاع.

93- {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

فيه تسع مسائل:

الأولى- قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر؟ - ونحو هذا - فنزلت الآية. روى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الحمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت؛ فقال: اذهب فاهرقها - وكان الخمر من الفضيخ - قال: فجرت في سكك المدينة؛ فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية.

الثانية- هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه

(6/293)

شيء؛ لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح؛ لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع؛ وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم؛ فرفع الله ذلك التوهم بقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية.

الثالثة- هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر؛ وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره؛ وقد قال الحكمي:

لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة

ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيدالله عن شيبان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزبيب والتمر هو الخمر" وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه - وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس؛ ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير؛ والخمر ما خامر العقل" . وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر؛ يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه. وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا؛ وقال الشاعر:

تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وصرت حليفا لمن عابه

شراب يدنس عرض الفتى ... ويفتح للشر أبوابه

(6/294)

الرابعة- قال الإمام أبو عبدالله المازري: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حُدّ؛ فأما المستخرج من العنب المسكر النيئ فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار؛ وفي المطبوخ المستخرج من العنب؛ فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النيئ؛ فأما المطبوخ منهما، والنيئ والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل؛ فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد؛ وأما النيئ منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه؛ وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع. قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة؛ فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه؛ فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل؟ فلا بد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد؛ فحينئذ يقال لهم: كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك. وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه؛ وهذا كما يقول في قياس الأمة على العبد في سراية العتق. ثم العجب، من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الأمة، لأحاديث لا يصح شيء منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحيح شيء منها. وسيأتي في سورة {النحل} تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

(6/295)

الخامسة- قوله تعالى: {طَعِمُوا} أصل هذه اللفظة في الأكل؛ يقال: طعم الطعام وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما؛ قال الشاعر:

نعاما بوجرة صعر الخدود ... لا تطعم النوم إلا صياما

وقد تقدم القول في {البقرة} في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} بما فيه الكفاية.

السادسة- قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات، والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ونظير قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} السابعة- قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فيه أربعة أقوال: الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار؛ والمعنى اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها؛ والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم؛ والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء. والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم، وأحسنوا العمل. الثالث: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، ومعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا. وقال محمد بن جرير: الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني، الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل.

(6/296)

الثامنة- قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات؛ فضله بأجر الإحسان

التاسعة- قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضى الله عنهم، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبدالله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعُمِّر. وكان ختن عمر بن الخطاب، خال عبدالله وحفصة، وولاه عمر بن الخطاب على البحرين، ثم عزله بشهادة الجارود - سيد عبدالقيس - عليه بشرب الخمر. روى الدارقطني قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثني سعيد بن عفير، حدثني يحيى بن فليح بن سليمان، قال: حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس: أن الشُرّاب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد؛ قال: ليم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله! فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ فقال له: إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها؛ فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول؛ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا لمن غبر وحجة على الناس؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية؛ ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى؛ فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الآية؛ فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر؛ فقال عمر: صدقت ماذا ترون؟ فقال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا

(6/297)

هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة؛ فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة.

وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس قال: لما قدم الجارود من البحرين قال: يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا، وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك؛ فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة؛ فدعا عمر أبا هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنطعت في الشهادة؛ ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر؛ فقال: أقم على هذا كتاب الله؛ فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم؟ فقال الجارود: أنا شهيد؛ قال: قد كنت أديت الشهادة؛ ثم قال لعمر: إني أنشدك الله! فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك؛ فقال الجارود: أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني! فأوعده عمر؛ فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة؛ فقال عمر: يا قدامة إني جالدك؛ فقال قدامة: والله لو شربت - كما يقولون - ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: ولم يا قدامة؟ قال: لأن الله سبحانه يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية إلى {الْمُحْسِنِينَ} . فقال عمر: أخطأت التأويل يا قدامة؛ إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا؛ فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا، فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط، أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي! والله لأجلدنه؛ ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك؛ ائتوني بسوط غير هذا. قال: فجاءه أسلم بسوط تام؛ فأمر عمر بقدامة فجلد؛

(6/298)

فغاضب قدامة عمر وهجره؛ فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها فلما استيقظ عمر قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاؤوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما. قال أيوب بن أبي تميمة: لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره. قال ابن العربي: فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني، وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح؛ وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد، فكان هذا من أفسد تأويل؛ وقد خفي على قدامة؛ وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما؛ قال الشاعر:

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على عمر

وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا؛ ذكره الكيا الطبري.

94- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

فيه ثمان مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار. وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، مستعملا جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت. وقيل: إنها نزلت عام الحديبية؛ أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض

(6/299)

صيد اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجهم وعمرتهم.

الثانية- اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما: أنهم المحلون؛ قاله مالك. الثاني: أنهم المحرمون قال ابن عباس؛ وتعلق بقوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم؛ فإن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد، وما شرع له من وصفه في كيفية الاصطياد. والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس مُحلِهم ومُحرِمهم؛ لقوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} أي: ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة.

الثالثة- قوله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} يريد ببعض الصيد، فمن للتبعيض، وهو صيد البر خاصة؛ ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا، قال الطبري وغيره. وأراد بالصيد المصيد؛ لقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} .

الرابعة- قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} بيان لحكم صغار الصيد وكباره.

وقرأ ابن وثاب والنخعي: {ينَالُهُ} بالياء منقوطة من تحت. قال مجاهد: الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد. وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وكل شيء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى.

الخامسة- خص الله تعالى الأيدي بالذكر لأنها عظم التصرف في الاصطياد؛ وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك؛ وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه؛ وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أول السورة بما فيه الكفاية والحمد لله.

(6/300)

السادسة- ما وقع في الفخ والحبالة فلربها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه. وما وقع في الجبح المنصوب في الجبل من ذباب النحل فهو كالحبالة والفخ، وحمام الأبرجة ترد على أربابها إن استطيع ذلك، وكذلك نحل الجباح؛ وقد روي عن مالك. وقال بعض أصحابه: إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يرد. ولو ألجأت الكلاب صيدا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسل الكلاب دون صاحب البيت، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت.

السابعة- احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعدُ شيئا، وهو قول أبي حنيفة.

الثامنة- كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} يعني أهل الإيمان، لقوله تعالى في صدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه جمهور أهل العلم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهو عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه.

قلت: هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعا عندهم فلا يكون من طعامهم، فيسقط عنا هذا الإلزام؛ فأما إن كان مشروعا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم. والله أعلم.

95- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}

(6/301)

فيه ثلاثون مسألة:

الأولى- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية. وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} .

الثانية- قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} القتل هو كل فعل يميت الروح، وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه؛ فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مقيتا للروح.

الثالثة- من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل؛ يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شيء عليه سوى الاستغفار؛ لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى؛ ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار. وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه؛ لأن قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى.

الرابعة- لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة؛ وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام؛ فأفاد مقصوده من حل الأكل؛ أصله ذبح الحلال. قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد؛ إذ الأهلية لا تستفاد

(6/302)

عقلا، وإنما يفيدها الشرع؛ وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد؛ لقوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} فقد انتفت الأهلية بالنهي. وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم؛ فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه؛ فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله.

الخامسة- قوله تعالى: {الصَّيْدَ} مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيد؛ ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فأباح صيد البحر إباحة مطلقة؛ على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى.

السادسة- اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه؛ فقال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها؛ وهي مثل فراخ الغربان. ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب؛ مثل الأسد والذئب والنمر والفهد؛ وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة. قال إسماعيل: إنما ذلك لقوله عليه السلام: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" الحديث؛ فسماهن فساقا؛ ووصفهن بأفعالهن؛ لأن الفاسق فاعل للفسق، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر؛ فلا تدخل في هذا النعت. قال القاضي إسماعيل: الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس. قال: ومن ذلك الحية والعقرب؛ لأنه يخاف منهما، وكذلك الحدأة والغراب؛ لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس. قال ابن بكير: إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة؛ وفي الفأرة لقرضها السقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر. وفي الغراب

(6/303)

لوقوعه على الظهر ونقبه عن لحومها؛ وقد روي عن مالك أنه قال: لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال القاضي إسماعيل: واختلف في الزنبور؛ فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله؛ وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يطعم قاتله شيئا؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه. وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها. وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب، العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما؛ وإن قتل غيره من السباع فداه. قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه؛ قال: ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر؛ وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها؛ فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها.

قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله! وقال زفر بن الهذيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه؛ لأنه عجماء فكان فعله هدرا؛ وهذا رد للحديث ومخالفة له. وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله؛ وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السّمْع وهو المتولد بين الذئب والضبع، قال: وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء؛ لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فدل أن الصيد

(6/304)

الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا؛ حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع؛ فإن قيل: فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل؟ قيل له: ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه؛ لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره؛ فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي؛ قاله أبو عمر.

السابعة- روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" . اللفظ للبخاري؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا" . وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة؛ لأنه تقييد مطلق. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويرمي الغراب ولا يقتله" . وبه قال مجاهد. وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر، والله أعلم. وعند أبي داود والترمذي: والسبع العادي؛ وهذا تنبيه على العلة.

الثامنة- قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} عام في النوعين من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد؛ يقال: رجل حرام وامرأة حرام، وجمع ذلك حُرُم؛ كقولهم: قذال وقذل. وأحرم الرجل دخل في الحرم؛ كما يقال: أسهل دخل في السهل. وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم. يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم، أو تلبس بالإحرام؛ إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف؛ قاله ابن العربي.

التاسعة- حرم المكان حرمان، حرم المدينة وحرم مكة وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم

(6/305)

المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما. وقال ابن أبي ذئب: عليه الجزاء. وقال سعد: جزاؤه أخذ سلبه، وروي عن الشافعي. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير مُحرّم، وكذلك قطع شجرها. واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه" . وأخذ سعد سلب من فعل ذلك. قال: وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النفير؛ فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم. وكذلك حديث عائشة؛ أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه. ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين لابتيها حرام" فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة. وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة؛ دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد.

ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها" ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة. قال القاضي عبدالوهاب: وهذا قول أقيس عندي

(6/306)

على أصولنا، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام. ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة. وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به؛ لما روي عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم؛ فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم؛ فقوله: "نفلنيه" ظاهره الخصوص. والله أعلم.

العاشرة- قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي؛ والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام. والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:

الأول: ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا. الثاني: أن قوله: {مُتَعَمِّداً} خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة. الثالث: أنه لا شيء على المخطئ والناسي؛ وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود. وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل عل أن غيره بخلافه. وزاد بأن قال: الأصل براءة الذمة فمن

(6/307)

ادعى شغلها فعليه الدليل. الرابع: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان؛ قاله ابن عباس، وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم وإبراهيم، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة؛ قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة. الخامس: أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} . قال: ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه؛ قال مجاهد: فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها؛ قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه. ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان؛ وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا، ويستغفر الله، وحجه تام؛ وبه قال ابن زيد. ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: "هي صيد" وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقال ابن بكير من علمائنا: قول سبحانه: {مُتَعَمِّداً} لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد {مُتَعَمِّداً} ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة، وأن الصيد فيه كفارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ. والله أعلم.

الحادية عشرة- فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له. وروي عن ابن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الإسلام، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} . وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد

(6/308)

وشريح. ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام، وتوجُهُ الخطاب عليه في دين الإسلام.

الثانية عشرة- قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فيه أربعة قراءات؛ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} برفع جزاء وتنوينه، و {مِثْلُ} على الصفة، والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم. وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه. و {فَجَزَاءُ} بالرفع غير منون و {مِثْلُ} بالإضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل، و {مِثْلُ} مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك. ونظير هذا قوله تعالى: {أو من كان ميتا أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} التقدير كمن هو في الظلمات؛ وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس كهو شيء. وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه. وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول. وهو قول الشافعي على ما يأتي. وقوله: {مِنَ النَّعَمِ} صفة لجزاء على القراءتين جميعا. وقرأ الحسن {مِنَ النَّعْمِ} بإسكان العين وهي لغة. وقرأ عبدالرحمن {فَجَزَاءٌ} بالرفع والتنوين {مِثْلَ} النصب؛ قال أبو الفتح: {مِثْلَ} منصوبة بنفس الجزاء؛ والمعنى أن يجزى مثل ما قتل. وقرأ ابن مسعود والأعمش "فجزاؤه مثل" بإظهار {هاء}؛ ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل.

الثالثة عشرة- الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى. وفي "المدونة": من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال: لا جزاء عليه. قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه. وقيل: عليه من الجزاء بقدر ما نقصه. ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه. ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد، أو تركه محوفا عليه فعليه جزاؤه كاملا.

(6/309)

الرابعة عشرة- ما يُجزَى من الصيد شيئان: دواب وطير؛ فيُجزَى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة؛ وبه قال الشافعي. وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية؛ وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام. وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة؛ فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك. والدبسي والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام. وحكى ابن عبدالحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة؛ قال: وكذلك حمام الحرم؛ قال: وفي حمام الحل حكومة. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله؛ فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر. وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء؛ فإن المثل هو الأصل في الوجوب؛ وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة {فَجَزَاءٌ مِثْلُ}. احتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا، في النعامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به؛ لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر؛ وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه. ودليلنا عليه قول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية. فالمثل يقتضي بظاهرة المثل الخلقي الصوري دون المعنى، ثم قال: {مِنَ النَّعَمِ} فبين جنس المثل؛ ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه؛ ثم قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية؛ فصح ما ذكرناه. والحمد لله. وقولهم: لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين؛ فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص.

(6/310)

الخامسة عشرة- من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره؛ وهو قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شيء بعناق ولا جفرة؛ قال مالك: وذلك مثل الدية؛ الصغير والكبير فيها سواء. وفي الضب عنده واليربوع قيمتهما طعاما. ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي اعتبار الجذع والثني، ويقول بقول عمر: في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة؛ رواه مالك موقوفا. وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة" قال: والجفرة التي قد ارتعت. وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير: وما الجفرة؟ قال: التي قد فطمت ورعت. خرجه الدارقطني. وقال الشافعي: في النعامة بدنة، وفي فرخها فصيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخله عجل؛ لأن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات. قال ابن العربي: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا؛ قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف. ودليلنا قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ولم يفصل بين صغير وكبير. وقوله: {هَدْياً} يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الإطلاق. وذلك يقتضي الهدي التام. والله أعلم.

السادسة عشرة- في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك. وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة. قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر؛ فان استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة. روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه؛ خرجه الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين" .

(6/311)

السابعة عشرة- وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، دون ما يراد له من الأغراض؛ لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره. ولأن الناس قائلان - أي على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد؛ ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم؛ فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له. وأما الفيل فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان؛ وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر.

الثامنة عشرة- قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} روى مالك عن عبدالملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت؛ فحكما عليه بعنز؛ فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله، هل تقرأ سورة {المائدة}؟ فقال: لا؛ قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة {المائدة} لأوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله سبحانه يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا عبدالرحمن بن عوف.

التاسعة عشرة- إذا اتفق الحَكَمان لزم الحكم؛ وبه قال الحسن والشافعي. وإن اختلفا نظر في غيرهما. وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليهما؛ لأنه عمل بغير تحكيم. وكذلك

(6/312)

لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام؛ لأنه أمر قد لزم؛ قال ابن شعبان. وقال ابن القاسم: إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز. وقال ابن وهب رحمه الله في "العتبية": من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد، كما خيره الله في أن يخرج {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي؛ وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مد يوما؛ وكذلك قال مالك في "المدونة"

الموفية عشرين- ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا. وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة، ويجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم.

الحادية والعشرون- لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه: يكون الجاني أحد الحكمين؛ وهذا تسامح منه؛ فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى؛ لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين.

الثانية والعشرون- إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل. وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبدالرحمن. وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم كبش؛ قالوا: أو على كل واحد منا كبش؛ قال: إنكم لمعزز بكم، عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد

(6/313)

عليكم. وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم. ودليلنا قول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وهذا خطاب لكل قاتل. وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم؛ فثبت ما قلناه.

الثالثة والعشرون- قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم محلون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم؛ فإن ذلك لا يختلف. وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين.وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلون "صيدا" في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة؛ فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة. قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا.

الرابعة والعشرون- قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويرسل من الحل إلى مكة، وينحر ويتصدق به فيها؛ لقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه.

(6/314)

الخامسة والعشرون- قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي. قال ابن وهب قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوم الصيد الذي أصاب، فينظركم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما. وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه؛ والصواب الأول. وقال عبدالله بن عبدالحكم مثله قال عنه: وهو في هذه الثلاثة بالخيار؛ أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا. وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء؛ لأن {أَوْ} للتخيير قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي ذلك أحب أن يفعل فعل. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل إيلا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما؛ وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما. والطعام مد مد لشبعهم. وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ} إن لم يجد الهدي. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما؛ وقال: إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعاما، فإنه يجد جزاءه. وأسنده أيضا عن السدي. ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره.

السادسة والعشرون- اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف؛ فقال قوم: يوم الإتلاف. وقال آخرون: يوم القضاء. وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. قال ابن العربي: واختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف؛ والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم.

(6/315)

السابعة والعشرون- أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة؛ لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة؛ وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي. وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء؛ وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام. وقال حماد وأبو حنيفة: يكفر بموضع الإصابة مطلقا. وقال الطبري: يكفر حيث شاء مطلقا، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه. وأما من قال يصوم حيث شاء؛ فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها. وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة؛ فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قاله إنه يكون بكل موضع؛ فاعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم.

الثامنة والعشرون- قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل؛ قاله الكسائي. وقاله الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكسائي، تقول: عندي عدل دراهمك من الدراهم، وعندي عدل دراهمك من الثياب؛ والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان، وهو قول البصريين. ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد قال مالك: يصوم عن كل مد يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة؛ وبه قاله الشافعي. وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؛ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده. وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة؛ فبهذا النظر يكثر الإطعام. ومن أهله العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين؛ قالوا: لأنها أعلى الكفارات. واختاره ابن العربي. وقاله أبو حنيفة رحمه الله: يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى.

(6/316)

التاسعة والعشرون- قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} الذوق هنا مستعار كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة ومنه الحديث "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا" . الحديث والوبال سوء العاقبة. والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بغد أكله. وطعام وبيله إذا كان ثقيلا؛ ومنه قوله:

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

وعبر بأمره عن جميع حاله.

الموفية ثلاثين- قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} بمعنى في جاهليتكم من قتلكم الصيد؛ قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه. وقيل: قبل نزول الكفارة. {وَمَنْ عَادَ} يعني للمنهي {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي بالكفارة. وقيل: المعنى {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} يعني في الآخرة إن كان مستحلا؛ ويكفر في ظاهر الحكم. وقال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيله له: اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك أعظم من أن يكفر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهله العلم لعظم إثمها. والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير. وقد روي عن ابن عباس: يملأ ظهره سوطا حتى يموت وروي عن زيد بن أبي المعلى: أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته؛ وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} {عَزِيزٌ} أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده. {ذُو انْتِقَامٍ} ممن عصاه إن شاء.

===

المائدة - تفسير الطبري

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) }

قال أبو جعفر: وهذا بيانٌ من الله تعالى ذكره للذين حرَّموا على أنفسهم النساءَ والنومَ واللحمَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تشبُّهَا منهم بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم كتابَه يَنْهاهم عن ذلك فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )، [سورة المائدة: 87].

(10/563)

فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضًا في حدودي، فتحلُّوا ما حرَّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز، كما غيرُ جائزٍ لكم تحريم ما حلّلت، وإنيّ لا أحبُّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه وتقدَّموا عليه، كانوا من المعتدين في حدوده = فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسِرَ الذي تَتَياسرونه، والأنصاب التي تذبحُون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ="رجْس"، يقول: إثم ونَتْنٌ سَخِطه الله وكرهه لكم ="من عمل الشيطان"، يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام، من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم ="فاجتنبوه"، يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه (1) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لكي تنجَحُوا فتدركوا الفلاحَ عند ربكم بترككم ذلك. (2)

* * *

وقد بينا معنى"الخمر"، و"الميسر"، و"الأزلام" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (3)

* * *

وأما"الأنصاب"، فإنها جمع"نُصُب"، وقد بينا معنى"النُّصُب" بشواهده فيما مضى. (4)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 10 : 292 ، تعليق: 3. والمراجع هناك.

(2) انظر تفسير"اجتنب" فيما سلف 8 : 233 ، وهي هناك غير مفسرة ، ثم 8 : 340.

(3) انظر تفسير"الخمر" فيما سلف 4 : 320 ، 321.

= وتفسير"الميسر" فيما سلف 4 : 321 ، 322 - 325.

= وتفسير"الأزلام" فيما سلف 9 : 510 - 515.

(4) انظر تفسير"النصب" 9 : 507 - 509.

(10/564)

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

وروي عن ابن عباس في معنى"الرجس" في هذا الموضع، ما:-

12510 - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"رجس من عمل الشيطان"، يقول: سَخَطٌ.

* * *

وقال ابن زيد في ذلك، ما:-

12511 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رجس من عمل الشيطان"، قال:"الرجس"، الشرُّ.

* * *

القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، (1) ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام ="ويصدّكم عن ذكر الله"، يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، (2) وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ="وعن الصلاة"، التي فرضها عليكم ربكم ="فهل أنتم منتهون"،

__________

(1) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف 7: 145/10: 136.

(2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 9: 489 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(10/565)

يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، (1) وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟.

* * *

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.

فقال بعضهم: نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروهَ عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تحر يمَها. (2)

ذكر من قال ذلك:

12512 - حدثنا هناد بن السريّ، قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهمّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"البقرة":( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ، [سورة البقرة: 219]. قال: فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! فنزلت الآية التي في"النساء":( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) [سورة النساء: 43]. قال: وكان مُنَادِي النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران! قال: فدُعِي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فلما انتهى إلى قوله:"فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا !! (3)

__________

(1) انظر تفسير"الانتهاء" فيما سلف 482 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

(2) انظر ما سلف في تحريم الخمر 4: 330-336/8: 376 ، 377.

(3) الأثر: 12512 -"أبو ميسرة" هو: "عمرو بن شرحبيل الهمداني" ، سمع عمر ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما من الصحابة. مضى برقم: 2839 ، 2840 ، 9228. وهذا الخبر رواه أبو جعفر من خمس طرق ، عن أبي إسحق ، عن أبي ميسرة.

ورواه أحمد في مسنده رقم: 378 من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحق ، بمثله ، وأبو داود في سننه 3 : 444 رقم: 3670 ، بمثله ، وفيه: "بيانًا شفاء". والنسائي في سننه 8 : 286 ، 287 ، بمثله. والترمذي في سننه في كتاب التفسير من طريق محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، مرفوعًا ، ثم من طريق أبي كريب محمد بن العلاء ، عن وكيع. عن إسرائيل ، مرسلا. ولكن جاء هنا في رواية هناد بن السري ، عن وكيع ، مرفوعًا. وقال الترمذي بعد ذكر رواية أبي كريب: "وهذا أصح من حديث محمد بن يوسف" ، يعني أنه أصح مرسلا. وانظر ما سيأتي في باقي التخريج.

ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 278 ، من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل بمثله ، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي.

ورواه البيهقي في السنن 8 : 285 ، من طريق عبيد الله بن موسى أيضًا ، ومن طريق إسمعيل بن جعفر ، عن إسرائيل ، بمثله.

ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 39 ، من طريق محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، (كطريق الترمذي) وفيه زيادة: "فإنها تذهب العقل والمال" ، الآتية في رقم: 12513 ، وليس في رواية الترمذي.

ورواه الواحدي في أسباب النزول: 154 ، من طريق أحمد بن حنبل ، عن خلف بن وليد ، عن إسرائيل ، بمثل ما في المسند.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 1 : 499 ، 500/ ثم 3 : 225 ، وقد صحح أخي السيد أحمد هذا الحديث في المسند رقم: 378 ، ثم قال: "وذكره ابن كثير في التفسير 1 : 499 ، 500/3: 226 وقال: هكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن أبي إسحق. وكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق الثوري ، عن أبي إسحق ، عن أبي ميسرة ، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي ، عن عمر ، وليس له عنه سواه. ولكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. والله أعلم. وقال علي بن المديني: "هذا إسناد صالح صحيح. وصححه الترمذي. وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله: انتهينا - إنها تذهب المال وتذهب العقل".

قال أخي السيد أحمد: "وقول أبي زرعة أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر ، لا أجد له وجهًا. فإن أبا ميسرة لم يذكر بتدليس ، وهو تابعي قديم مخضرم ، مات سنة 63. وفي طبقات ابن سعد 6 : 73 ، عن أبي إسحق قال: أوصى أبو ميسرة أخاه الأرقم: لا تؤذن بي أحدًا من الناس ، وليصل علي شريح قاضي المسلمين وإمامهم = وشريح الكندي ، استقضاه عمر على الكوفة ، وأقام على القضاء ستين سنة ، فأبو ميسرة أقدم منه".

أقول: ولم يذكر أحد غير أبي زرعة فيما بحثت ، أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر ، بل كلهم ذكر سماعه من عمر.

(10/566)

12513 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا أبى، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تَذْهب بالعقل والمال! = ثم ذكر نحو حديث وكيع. (1)

__________

(1) الأثر: 12513 - هذه الزيادة: "فإنها تذهب العقل والمال" ، أشرت إليها في التعليق السالف في رواية أبي جعفر النحاس ، وذكرها ابن كثير ، من رواية ابن أبي حاتم.

(10/567)

12514 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر بن الخطاب: اللهم بيِّن لنا، فذكر نحوه.

12515 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله.

12516 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. (1)

12517 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسِر، فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى:( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما ) [سورة البقرة: 219]، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخْصة، نأكل الميسر ونشرَب الخمر، ونستغفر من ذلك!. حتى أتى رجلٌ صلاةَ المغرب، فجعل يقرأ:( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [سورة الكافرون]. فجعل لا يجوز ذلك، (2)

ولا يدري ما يقرأ، فأنزل الله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) [سورة النساء: 43]. فكان الناس يشربون الخمرَ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره:"إنما

__________

(1) الآثار : 12514 - 12516 - انظر التخريج في رقم: 12512.

(2) في المطبوعة ، والدر المنثور: "لا يجود ذلك" (بتشديد الواو المكسورة) ، وفي المخطوطة كما أثبته غير منقوطة ، وهو الصواب إن شاء الله.

(10/568)

الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"، فقالوا: انتهينا يا رب ! (1)

* * *

وقال آخرون: نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص. وذلك أنه كان لاحَى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلَحْيَىْ جمل، ففَزَر أنفه، فنزلت فيهما. (2)

ذكر الرواية بذلك:

12518 - حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد أنه قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم! قال: فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف. قال: فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى آخر الآية. (3)

__________

(1) الأثر: 15217 - ذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 318 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(2) "لاحاه يلاحيه ملاحاة ولحاء": إذا نازعه وشاتمه = و"لحي الجمل" (بفتح اللام وسكون الحاء): وهما"لحيان": وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم. يقال: لحي الجمل ، ولحي الإنسان ، وغيرهما. وكان في المطبوعة: "لحي" بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة بالتثنية: "لحيي" = و"فزر الشيء": صدعه. و" فزر أنفه": شقه.

(3) الأثر: 12518 - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد. كلها صحيح.

فرواه من هذه الطريق الأولى أحمد في مسنده رقم: 1567 ، 1614 ، مطولا. ورواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة في مسنده: 28 ، رقم: 208.

ورواه مسلم من طريق أبي جعفر هذه ، عن محمد بن المثنى نفسه (15 : 186 ، 187) وفيه"وكان أنف سعد مفزورًا" ، بخلاف رواية أبي جعفر"أفزر الأنف". ورواه مطولا بغير هذا اللفظ من طريق"الحسن بن موسى ، عن زهير ، عن سماك".

ورواه البيهقي في السنن 8 : 285 ، من طريق وهب بن جرير ، عن شعبة.

ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 40 ، من طريق زهير ، عن سماك.

ورواه الواحدي في أسباب النزول: 154.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 230 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 315 ، وقصر في نسبته ، وزاد أيضًا نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

وكان في المخطوطة: "صنع رجل من الأنصار فدعانا" ، أسقط"طعامًا" ، وهي ثابتة في المطبوعة ، وفي جميع روايات الخبر. ولذلك أثبتها.

وقوله: "فكان سعد أفرز الأنف" ، في جميع الروايات: "مفزور الأنف" ، أي مشقوقه ، كما سلف في التعليق: 2 ، ص569 ولم تقيد كتب اللغة: "أفزر الأنف" ، على"أفعل". وهذا مما يثبت صحته ، وهو جائز في العربية.

(10/569)

12519 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، قال حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد قال، قال سعد: شربتُ مع قوم من الأنصار، فضربت رجلا منهم = أظنّ بفكّ جمل = فكسرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر"، إلى آخر الآية. (1)

12520 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فذكر نحوه. (2)

12521 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، أن سالم بن عبد الله حدَّثه: أن أول ما حُرِّمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابًا له شربوا فاقتتلوا، فكسروا أنف سعدٍ، فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر"، الآية. (3)

* * *

__________

(1) الأثر: 12519 - في المطبوعة: "قال حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك" ، وهو خطأ لا شك فيه وكان في المخطوطة في آخر الصفحة: "قال حدثنا أبو الأحوص قال" ثم بدأ في الصفحة التالية: "عن سماك..." ، فنسى الناسخ في نسخة فأسقط"حدثنا شعبة" ، وبدأ: "عن سماك".

(2) الأثر: 12520 - هذا الأثر والذي قبلها طريقان أخريان للأثر رقم: 12518 ، انظر التخريج في التعليق عليه.

(3) الأثر: 12521 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 315 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(10/570)

وقال آخرون: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار.

ذكر من قال ذلك:

12522 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا. حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض. (1) فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! = وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن = والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، (2) فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلِّفين: رجْسٌ في بطن فلانُ قتل يوم بدر، (3) وقتل فلان يوم أحُدٍ! فأنزل الله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) [سورة المائدة: 93]، . الآية. (4)

__________

(1) في المطبوعة: "عبث بعضهم ببعض" ، وهكذا جاء في جمبع روايات الأثر ، فيما بين يدي من الكتب ، ولكنها في المخطوطة كما أثبتها ، وهي صحيحة إن شاء الله.

(2) في المطبوعة: "في قلوبهم الضغائن" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(3) في المطبوعة: "هي رجس ، وهي في بطن فلان" ، وهكذا في سائر المراجع ، وأثبت ما في المخطوطة ، وكأنه صواب أيضا.

(4) الأثر: 12522 -"ربيعة بن كلثوم بن جبر الديلي البصري" ، روى له مسلم والنسائي ، متكلم فيه ، وهو ثقة. مضى برقم: 6240. وكان في المطبوعة: "ربيعة بن كلثوم عن جبير ، عن أبيه" ، وهو خطأ. وفي المخطوطة"ربيعة بن كلثوم عن جبر ، عن أبيه" ، وهو خطأ أيضًا ، وإن كان فيها"جبر" على الصواب. وجاء في المستدرك خطأ"جبير" وهو خطأ يصحح. مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/266 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن أبي حاتم 1/2/477 ، 478 ، وثقه يحيى بن معين. وفيه عن علي بن المديني ، قال: "سمعت يحيى بن سعيد يقول ، قلت: "لربيعة بن كلثوم في حديث ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، هو: عن ابن عباس؟ قال: وهل كان يروي سعيد بن جبير إلا عن ابن عباس؟".

وأبوه"كلثوم بن جبر بن مؤمل الديلي" ، ثقة ، وثقه أحمد مضى برقم: 6240 ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/227 ، وابن أبي حاتم 3/2/164.

وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 8 : 285 ، 286 ، والحاكم في المستدرك 4 : 141 ، ولم يذكر فيه شيئًا ، ولكن قال الذهبي في تعليقه على المستدرك: "قلت: صحيح على شرط مسلم". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 18 ، وقال: "رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح". ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 40 مختصرًا ، بغير إسناد.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 230 ، من رواية البيهقي في السنن ، وقال: "ورواه النسائي في التفسير ، عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة ، عن حجاج بن منهال".

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 315. وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(10/571)

12523 - حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا]، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصابُ والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان"، إلى آخر الآيتين،"فهل أنتم منتهون"، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا! (1)

* * *

__________

(1) الأثر: 12523 -"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني" ، شيخ الطبري ، مضى برقم: 126 ، 6534.

"سعيد بن محمد بن سعيد الجرمي". كوفي ثقة. روى عنه البخاري ومسلم. قال أبو زرعة: "ذاكرت عنه أحمد بأحاديث ، فعرفه" وقال: صدوق ، وكان يطلب معنا الحديث". مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/471 ، وابن أبي حاتم 2/1/59.

و"أبو تميلة" ، هو: "يحيى بن واضح الأنصاري" مضى مرارًا ، آخرها رقم: 9009.

و"سلام ، مولى حفص ، أبو القاسم الليثي" ، مروزي ، مترجم في الكبير 2/2/134 ، وابن أبي حاتم 2/1/262. وقال البخاري في الكبير: "سمع عبد الله بن بريدة ، عن أبيه: نزلت في تحريم الخمر" ، قاله سعيد الجرمي: سمع يحيى بن واضح ، سمع سلاما" ، إشارة إلى هذا الخبر. ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وقال المعلق على الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: "وفي الثقات: سلام الليثي ، والد أبي عبيد القاسم بن سلام". وكان في المطبوعة هنا: "مولى حفص بن أبي قيس" لا أدري كيف استحل لنفسه تغيير ما كان في المخطوطة صوابًا ، إلى خطأ لا ندري ما هو.

و"ابن بريدة" ، هو"عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي" قاضي مرو ، أخوه: "سليمان بريدة" ، كانا توأمين. روى عن أبيه ، وابن عباس ، وابن عمرو ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهم من الصحابة. تكلم فيه أحمد بن حنبل. قال الجوزجاني: "قلت لأبي عبد الله: سمع عبد الله من أبيه شيئًا؟ قال: ما أدري ، عامة ما يروى عن بريدة عنه. وضعف حديثه". ووثقه ابن معين وأبو حاتم. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 13. وكان في المطبوعة"أبي بريدة" ، وهو خطأ محض ، صوابه في المخطوطة.

وأبوه"بريدة بن الحصيب الأسلمي" ، صحابي قديم الإسلام ، قبل بدر. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه.

وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 230 ، من رواية أبي جعفر ، وفيه"عن أبي بريدة" كخطأ المطبوعة. والسيوطي في الدر المنثور 2 : 315.

والزيادة التي بين القوسين من تفسير ابن كثير ، وهو لم ينقل هذا عن غير الطبري ، فلذلك زدتها ، والظاهر أنها سقطت من ناسخ نسختنا. وإن كان السيوطي قد ذكر الأثر بغير هذه الزيادة.

وقوله: "ونحن على رملة" ، يعني ، في رملة منبتة مريعة. و"الباطية": ناجود الخمر ، وهي إناء عظيم من زجاج ، تملأ من الشراب ، وتوضع بين الشرب يغرفون منها ويشربون. وقوله: "قال بالإناء" ، يعني: أماله ثم نزعه ، كفعل الحجام وهو ينزع كأس الحجامة.

(10/572)

وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر، لا بسبب السُّكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر. فلذلك نهاهم الله عن الميسر.

ذكر من قال ذلك:

12524 - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع = قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه = قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، (1) فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه. (2)

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "حزينًا سليبًا" ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت."حرب الرجل ماله ، فهو محروب وحريب": إذا أخذ حريبته ، وهو ماله الذي يعيش به ، وتركه بلا شيء.

(2) الأثر: 12524-"جامع بن حماد" ، انظر ما علقته على الأثر رقم: 12344.

واذكر أن هذا الأثر قد مضى قبل ، ولكن خفي علي مكانه.

(10/573)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إنّ الله تعالى قد سمَّى هذه الأشياء التي سمّاها في هذه الآية"رجسًا"، وأمر باجتنابها.

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دُعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر = وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نالَ سعدًا من الأنصاري عند انتِشائهما من الشراب = وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدَهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضِه، (1) وليس عندنا بأيِّ ذلك كان، خيرٌ قاطع للعذر. غير أنه أيّ ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميعَ أهل التكليف، وغيرُ ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية. فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان، فرضٌ على جميع من بلغته الآية من التكليفُ اجتنابُ جميع ذلك، كما قال تعالى:"فاجتنبوه لعلكم تفلحون".

* * *

القول في تأويل قوله : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه" ="وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، في اجتنابكم

__________

(1) "يسره" ، يعني: غلبه في الميسر ، وأخذ ماله. قال الزمخشري: "من المجاز: أسروه ، ويسروا ماله. وتياسرت الأهواء قلبه ، قال ذو الرمة: بِتَفْرِيقِ أَظْعَانٍ تيايَسَرْنَ قَلْبَهُ ... وَخَانَ العَصَا مِنْ عَاجِلِ البَيْنِ قَادِحُ

وهذا اللفظ كما استعمله أبو جعفر ، لم تقيده كتب اللغة ، ولكن مقالة الزمخشري دالة على صوابه ، كما قالوا من"القمار": "قمره".

(10/574)

ذلك، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجَركم عنه من هذه المعانِي التي بيَّنها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالِفوا الشيطان في أمره إيّاكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوةَ والبغضاءَ بينكم بالخمر والميسر=

"واحذروا"، يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرّمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقِدَكم عند ما أمركم به، فتُوبقوا أنفسكم وتهلكوها="فإن توليتم"، يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به، وتنتهوا عما نهيناكم عنه، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، واتباع ما جاءكم به نبيكم (1) ="فاعملوا أنما على رسولنا البلاغُ المبين"، يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنِّذَارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، (2) مبينةً لكم بيانًا يُوضِّح لكم سبيل الحقّ، والطريقَ الذي أمرتم أن تسلكوه. (3) وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المُرْسَل إليه دون الرسل.

وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولَّى عن أمره ونهيه. يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهيي، فتوقّعوا عقابي، واحذَرُوا سَخَطي.

* * *

__________

(1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف: 393 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(2) "النذارة" (بكسر النون) قال صاحب القاموس: "النذير: الإنذار كالنذارة ، بالكسر. وهذه عن الإمام الشافعي رضي الله عنه". انظر رسالة الشافعي ص: 14 ، الفقرة: 35 ، وتعليق أخي السيد أحمد عليها.

(3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 9: 428 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(10/575)

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

القول في تأويل قوله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا= إذْ أنزل الله تحريم الخمر بقوله:"إنما الخمرُ والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه": كيفَ بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنّا نشربها؟ = ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرَّمه عليهم (1) ="إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، (2) وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله="وعملوا الصالحات"، يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم (3) ="ثم اتقوا وآمنوا"، يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا="ثم اتقوا وأحسنوا"، يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك"الإحسان"، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه (4) ="والله يحب المحسنين"، يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها.

__________

(1) انظر تفسير"الجناح" 9 : 268 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك= وتفسير"طعم" فيما سلف 5 : 342.

(2) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).

(3) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).

(4) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف: 512 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(10/576)

فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل= والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير= والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال.

* * *

فإن قال قائل: ما الدليل على أنّ"الاتقاء" الثالث، هو الاتقاء بالنوافل، دون أن يكون ذلك بالفرائضِ؟

قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إيّاها، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمِها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكرُه في آيةٍ واحدة.

* * *

وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه، جاءت الأخبار عن الصَّحابة والتابعين.

* ذكر من قال ذلك:

12525 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية. (1)

__________

(1) الأثران: 12525 ، 12526- إسنادهما صحيح.

رواه أحمد في مسنده: 2088 ، 2452 ، 2691 مطولا ، 2775.

ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

ورواه الحاكم في المستدرك 4 : 143 ، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي ، وقال: "صحيح".

وذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 233 ، من حديث أحمد في المسند.

وذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 320 ، وزاد نسبته إلى الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان.

(10/577)

12526 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه.

12527- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال، أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينَا أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، حتى مالت رءوسهم من خَليط بُسْرٍ وتمر. (1) فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القِلال، (2) وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، فأصبْنَا من طِيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلةُ من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" الآية، فقال رجل لقتادة: سمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم! قال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! وحدّثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب! (3)

__________

(1) "البسر" (بضم الباء وسكون السين): التمر قبل أن يرطب ، وهو ما لون منه ولم ينضج ، فإذا نضج فقد أرطب.

(2) "القلال" جمع"قلة" (بضم القاف): وهي الجرة الكبيرة.

(3) الأثر: 12527-"عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري" ، ثقة. مضى برقم: 6822 ، 10317.

و"عباد بن راشد التميمي" ، قال أحمد: "ثقة صدوق" ، وضعفه يحيى بن معين ، وتركه يحيى القطان. روى له البخاري مقرونًا بغيره. ومضى برقم 11060.

و"أم سليم" المذكورة في الخبر ، هي: "أم سليم بنت ملحان الأنصارية" ، لها صحبة ، وهي والدة أنس بن مالك ، وزوج أبي طلحة الأنصاري ، خطبها أبو طلحة وهو مشرك ، فأبت عليه إلا أن يسلم ، فأسلم.

وذكر هذا الخبر ابن كثير في تفسيره 3 : 228 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير ، وكذلك السيوطي في الدر المنثور 2 : 320.

وخبر أنس هذا ، رواه البخاري من طريق أخرى بغير هذا اللفظ (الفتح 8 : 209). ومسلم في صحيحه بغير هذا اللفظ من طرق 13 : 148-151. والنسائي في السنن 8 : 287 ، 288.

(10/578)

12528 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، الآية. (1)

12529- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال البراء: مات ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، الآية. (2)

12530- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات

__________

(1) الأثران: 12528 ، 12529- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 97 ، رقم: 715 ، من طريق شعبة ، به.

ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: 12528) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: 12529) ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 231 ، من مسند أبي داود الطيالسي.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 320 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(2) الأثران: 12528 ، 12529- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 97 ، رقم: 715 ، من طريق شعبة ، به.

ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: 12528) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: 12529) ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 231 ، من مسند أبي داود الطيالسي.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 320 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(10/579)

جناح فيما طعموا"، فيمن قُتِل ببدر وأحُدٍ مع محمد صلى الله عليه وسلم.

12531- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا علي ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم. (1)

12532 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، إلى قوله:"والله يحب المحسنين"، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة"، بعد"سورة الأحزاب"، (2) قال في ذلك

__________

(1) الأثر: 12531-"خالد بن مخلد القطواني" ثقة ، مضى برقم 2206 ، 4577 ، 8166 ، 8397.

و"علي بن مسهر القرشي" ، ثقة ، مضى برقم: 4453 ، 5777.

وهذا الخبر ، رواه مسلم في صحيحه (16 : 14) من طرق ، عن علي بن مسهر ، عن الأعمش ، بمثله.

ورواه الترمذي من طريق سفيان بن وكيع ، عن خالد بن مخلد ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

ورواه الحاكم في المستدرك 4 : 143 ، 144 ، من طريق سليمان بن قرم ، عن الأعمش ، بزيادة في لفظه ، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وإنما اتفقا على حديث شعبة ، عن أبي إسحق ، عن البراء ، مختصر هذا المعنى" ، ولم أجده حديث البراء في الصحيحين ، كما قال الحاكم. وأما الذهبي فلم يزد في تعليقه على المستدرك إلا أن قال: "صحيح". ولم أجد من نسب حديث البراء إلى الشيخين ، وهو الذي مضى برقم: 12528 ، 12529. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 18 ، بمثل لفظ الحاكم في المستدرك ، ثم قال: "في الصحيح بعضه ، رواه الطبراني ، ورجاله ثقات". وهذا هو الصحيح لا ما قال الحاكم.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 233 وقال: "رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي من طريقه".

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 321 ، في موضعين ، قال في مثل لفظ الحاكم: "أخرجه الطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه". ثم رواه مختصرًا كرواية أبي جعفر ، ونسبه إلى مسلم ، والترمذي والنسائي ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(2) قوله: "بعد سورة الأحزاب" ، كأنه يعني بعد نزول سورة الأحزاب ، وليس في سورة الأحزاب ذكر تحريم الخمر ، وكأنه عنى بذلك"بعد غزوة الأحزاب" ، وأخشى أن يكون قوله: "سورة الأحزاب" ، سهوا من الناسخ ، والصواب"غزوة الأحزاب" ، ولكن هكذا جاء في الدر المنثور أيضًا 2 : 321 ، ونسب الخبر ، لعبد بن حميد ، وابن جرير.

(10/580)

رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين"، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك.

12533- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قالوا: يا رسول الله، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر! فأنزل الله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين= وقال مرة أخرى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم="إذا ما اتقوا وأحسنوا"، بعد ما حُرِّم، وهو قوله:( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ )، [سورة البقرة: 275].

12534- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم. فلما حرِّمت قالوا: كيف تكون علينا حرامًا، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا

(10/581)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين="والله يحب المحسنين".

12535 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدرٍ وأحُدٍ.

12536 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية، هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية.

* * *

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله="ليبلونّكم الله بشيء من الصيد"، يقول: ليختبرنكم الله (1) ="بشيء من الصيد"، يعني: ببعض الصيد.

وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع. (2)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"بلا" فيما سلف: 389 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(2) في المطبوعة: "فالابتلاء ببعض لم يمتنع" ، وهو كلام فارغ من كل معنى. وفي المخطوطة: "فالابتلاء ببعض لا يخشع" ، أساء الناسخ ، الكتابة ، فأساء الناشر التصرف. وصواب العبارة ما أثبت ، لأن أبا جعفر أراد أن يقول إن قوله تعالى: "بشيء من الصيد" ، هو صيد البر خاصة ، دون صيد البحر ، ولم يعم الصيد جميعه بالتحريم. وهذا بين جدًا فيما سيأتي بعد في تفسير هذه الآيات. فصح ما أثبته من قراءة المخطوطة السيئة الكتابة.

(10/582)

وقوله:"تناله أيديكم"، فإنه يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ= وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم.

* * *

وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

12537 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال:"أيديكم"، صغارُ الصَّيد، أخذ الفراخ والبيض= و"الرماح" قال: كبارُ الصيد.

12538 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

12539- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تناله أيديكم ورماحكم"، قال: النَّبْل="رماحكم"، تنال كبير الصيد، (1) ="وأيديكم"، تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض.

12540 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: ما لا يستطيع أن يفرَّ من الصيد.

__________

(1) في المطبوعة: "قال: النبل ، ورماحكم تنال..." بزيادة "واو" للعطف ، والصواب ما في المخطوطة ، بحذف"الواو".

(10/583)

12541 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد. وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله.

12542 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أيديكم ورماحكم"، قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقرَبوه.

12543 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن حميد الأعرج، وليث، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفّر.

* * *

القول في تأويل قوله : { لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله، أيها المؤمنون، ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهلَ طاعة الله والإيمان به، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه، (1) ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه، (2) ويجتنبه خوف عقابه="بالغيب"، بمعنى: في الدنيا، بحيث لا يراه. (3) .

* * *

وقد بينا أن"الغيب"، إنما هو مصدر قول القائل:"غاب عنّى هذا الأمر

__________

(1) في المطبوعة: "والمنتهون إلى حدوده" ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(2) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف من فهارس اللغة.

(3) يعني أبو جعفر ، بحيث لا يرى العقاب عيانًا في الدنيا ، كما يراه عيانًا في الآخرة.

(10/584)

فهو يغيب غَيْبًا وغَيْبَةً"، وأنّ ما لم يُعَاين، فإن العرب تسميه"غَيْبًا". (1)

* * *

فتأويل الكلام إذًا: ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه.

* * *

وأما قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فإنه يعني: فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، (2) بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله="فله عذابٌ، من الله="أليم"، يعني: مؤلم موجع. (3)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف 1 : 236 ، 237 / 6 : 405.

(2) انظر تفسير"اعتدى" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).

(3) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).

(10/585)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله="لا تقتلوا الصيد"، الذي بينت لكم، وهو صيد البر دون صيد البحر="وأنتم حرم"، يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة.

* * *

و"الحرم"، جمع"حَرَام"، والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد. تقول:"هذا رجل حرام" و"هذه امرأة حرَام". فإذا قيل:"محرم"، قيل للمرأة:"محرمة". و"الإحرام"، هو الدخول فيه، يقال:"أحرَم القوم"، إذا دخلوا في الشهر الحرام، أو في الحَرَم.

* * *

فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة.

* * *

وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا. (1)

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في صفة"العَمْد" الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارةَ والجزاء في قتله الصيد.

__________

(1) انظر تفسير"التعمد" فيما سلف 9: 57.

(10/7)

فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامَه في حال قتله. وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدًا قتله، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله.

قالوا: وهذا أجلُّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو يكونَ له كفارة.

* ذكر من قال ذلك:

12544 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، من قتله منكم ناسيًا لإحرامه، متعمدًا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرًا لحُرْمه، (1) متعمدًا لقتله، لم يحكم عليه.

12545 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمدًا وهو يعلم أنه محرم، ويتعمد قتله، (2) قال: لا يحكم عليه، ولا حج له. وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبَه وهو ناس لإحرامه، متعمدًا لقتله = أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة. (3)

12546 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه (4) ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمدُ المكفَّر.

12547 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.

__________

(1) في المخطوطة"ذاكرا" في آخر السطر وفي أوله: "الحرمه" وصواب قراءتها ما في المطبوعة. و"الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء): الإحرام بالحج.

(2) في المطبوعة: "ومتعمد قتله" والصواب من المخطوطة.

(3) قوله: "مرة" يعني مرة واحدة فإن عاد لم يحكم عليه ، ومن عاد فينتقم الله منه.

(4) "الحرم" (بضم فسكون) مضى تفسيره في التعليق رقم: 1.

(10/8)

12548- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد قال: العمد هو الخطأ المكفَّر.

12549 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا ليث قال، قال مجاهد: قول الله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره: أن يصيب الصيدَ وهو يريد غيره فيصيبه، فهذا العمد المكفَّر، فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره، فهذا لا يحكم عليه. هذا أجلُّ من أن يحكم عليه. (1)

12550- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: يقتله متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.

12551- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

12552 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، قال ابن جريج"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلَّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا لحرمه، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر.

12553 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:"ومن قتله منكم متعمدًا"، للصيد ، ناسيًا لإحرامه ="فمن اعتدى بعد ذلك"، متعمدًا للصيد يذكرُ إحرامه. (2)

12554 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدًا ذاكرًا

__________

(1) الأثر: 12549-"يونس بن محمد بن مسلم البغدادي" الحافظ مضى برقم: 5090.

(2) الأثر: 12553-"سهل بن يوسف الأنماطي" مضى في مثل هذا الإسناد رقم: 10648.

(10/9)

لإحرامه: لم يحكم عليه = قال إسماعيل: وقال حماد، عن إبراهيم، مثل ذلك.

12555 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا حماد بن سلمة قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، الآية، فسألته، فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل، إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرًا وقلت: ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني، ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديًا بالغ الكعبة، وإنما جُعل الطعام والصيام [كفارة]، فهذا لا يبلغُ ثمن الهدي، (1) والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة.

12556 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه، ولا مريدٍ غيره، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر.

12557- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله غيرُ محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه مُحْرِم، وأنه حرام، فذلك يوكَل إلى نقمة الله، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة.

12558- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "... هديًا بالغ الكعبة فإن لم يجد يحكم عليه ثمنه ، فقوم طعامًا ، فتصدق به ، فإن لم يجد حكم عليه الصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة" غير ما كان في المخطوطة كل التغيير. والذي كان في المخطوطة هو ما أثبته حاشى الزيادة التي بين القوسين زدتها استظهارا من سياق الآية ليستقيم الكلام. وقوله: "فهذا لا يبلغ ثمن الهدي" كأنه يعني إطعام المساكين. والجملة بعد ذلك تحتاج إلى فضل تأمل ، ولم أجد الخبر في مكان غير هذا المكان.

(10/10)

وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لحُرْمه.

* ذكر من قال ذلك:

12559 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.

12560- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج = وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم عن ، ابن جريج قال ، قال طاوس: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا" .

12561 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري أنه قال: نزل القرآن بالعَمْد، وجرت السنة في الخطأ= يعني: في المحرم يصيب الصيدَ.

12562- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، قال: إن قتله متعمدًا أو ناسيًا، حكم عليه. وإن عاد متعمدًا عُجِّلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله.

12563 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال : إنما جعلت الكفارة في العمد، ولكن غُلِّظ عليهم في الخطأ كي يتقوا.

12564 - حدثنا عمرو بن على قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، نحوه.

12565 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، خبرنا ابن جريج قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا" .

* * *

(10/11)

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرّم قتل صيد البر على كل محرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا بقوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد" ثم بيَّن حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدًا لقتله، ولم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا. (1) وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.

فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه = في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا.

* * *

وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، (3) دون القول الذي قاله مجاهد. (4)

وأما ما يلزم بالخطأ قاتله، فقد بيّنا القول فيه في كتابنا:(كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) ، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطإ ذكر، فنذكر أحكامه.

* * *

__________

(1) السياق: "بل عم... كل قاتل صيد""كل" مفعول: "عم".

(2) في المخطوطة: "من كتاب نص ولا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم". وما في المطبوعة أحسن في السياق.

(3) يعني رقم: 12559 ، 12561.

(4) يعني رقم: 12544- 12551 ورقم: 12556 ، 12558.

(10/12)

وأما قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم"، فإنه يقول: وعليه كِفاءٌ وبَدل، (1) يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول. يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول، مثل ما قتل من النعم. (2)

* * *

وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله:(فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) .

* * *

وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين:(فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) ، بإضافة"الجزاء" إلى"المثل" وخفض"المثل".

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، بتأويل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ:( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، لأن الجزاء هو المثل، فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه.

وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالإضافة، رأوا أن الواجبَ على قاتل الصيد أن يَجْزِي مثله من الصيد بمثلٍ من النعم. وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه، بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتولَ نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد، ولن يضاف الشيء إلى نفسه. (3)

__________

(1) في المطبوعة: "كفارة وبدل" والصواب من المخطوطة. و"كفاء الشيء" (بكسر الكاف): مثله ونظيره من قولهم: "كافأه على الشيء مكافأة وكفاء": جزاه.

(2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27 ، 28 ، 314/6: 576/7: 2279: 57.

(3) في المطبوعة: "ولن يضاف..." وهو غير جيد ، وفي المخطوطة: "فإن يضاف" ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت.

(10/13)

ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه، بالتنوين ونصب"المثل". (1) ولو كان"المثل" غير"الجزاء" لجاز في المثل النصب إذا نوِّن"الجزاء"، كما نصب"اليتيم" إذ كان غير"الإطعام" في قوله: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [سورة البلد: 14، 15] وكما نصب"الأموات""والأحياء"، ونون"الكِفَات" في قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [سورة المرسلات: 25، 26]، إذ كان"الكفات" غير"الأحياء""والأموات". وكذلك الجزاء لو كان غير"المثل"، لاتسعت القراءة في"المثل" بالنصب إذا نون"الجزاء". ولكن ذلك ضاق، فلم يقرأه أحد بتنوين"الجزاء" ونصب"المثل"، إذ كان"المثل" هو"الجزاء"، وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاءٌ هو مثلُ ما قتل من النعم. (2)

* * *

ثم اختلف أهل العلم في صفة"الجزاء"، وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. (3) .

فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم، فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة.

* ذكر من قال ذلك:

12566 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم" ، قال: أما"جزاء مثل ما قتل من النعم" فإن قتل نعامة أو حمارًا

__________

(1) بل روى ذلك أبو الفتح ابن جني في كتابه"المحتسب" ونسبها لأبي عبد الرحمن يعني السلمي فيما أرجح. وذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات ص: 34 ونسبها إلى محمد بن مقاتل وإن كان ما في المطبوع: "فجزاء مث" بنصب"جزاء" والصواب بنصب"مثل".

(2) في المخطوطة: "هو ما قتل من النعم" والصواب ما في المطبوعة.

(3) في المطبوعة: "بمثله من النعم" وفي المخطوطة: "مثل من النعم" فرأيت قراءتها كما أثبتها.

(10/14)

فعليه بَدَنة. وإن قتل بقرة أو أيِّلا أو أرْوَى (1) فعليه بقرة. أو قتل غزالا أو أرنبًا فعليه شاة. وإن قتل ضبًّا أو حرباءَ أو يَرْبوعًا، فعليه سَخْلة قد أكلت العُشب وشربت اللبن. (2)

12567 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد قال، سئل عطاء: أيغَرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى ذكره :"فجزاء مثل ما قتل من النعم"؟ (3)

12568 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثله.

12569 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا أصاب المحرم الصيدَ ، وجب عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءه ذبَحه فتصدق به، فإن لم يجد جزاءه قوَّم الجزاء دراهم، ثم قوم الدراهمَ حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.

12570 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به

__________

(1) "الأيل" (بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة): وهو ذكر الوعول. و"الأروى" إناث الوعول وهو اسم لجمعها واحدتها"أروية" (بضم الهمزة وسكون الراء والواو مكسورة والياء مشددة مفتوحة). وجاء بها هنا وهو يعني"الأروية".

(2) "السخلة" (بفتح فسكون): ولد الشاة من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى.

(3) الأثر: 12567-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" مضى برقم: 3356 ، 5526.

وأما "ابن مجاهد" فلم أستطع أن أعرف من هو ، وكان في المطبوعة: "أبي مجاهد" وأثبت ما في المخطوطة وكأنه الصواب ، وإن أعياني أن أعرف صدر اسمه.

(10/15)

ذوا عدل منكم هديًا بالغَ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذا أصاب المحرم الصيد ، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد، نظر كم ثمنه = قال ابن حميد: نظر كم قيمته = فقوّم عليه ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="أو كفارة طعام مساكين، أو عدلُ ذلك صيامًا"، قال: إنما أريد بالطعام الصيام، فإذا وجد الطعام وَجد جزاءه.

12571 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم" فإن لم يجد هديًا، قُوِّم الهدي عليه طعامًا، وصام عن كل صاع يومين.

12572- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة"، قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه، فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا.

12573 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت وصاحبٌ لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل علي رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك قال فقال: اذبح كبشًا. (1)

__________

(1) الأثر: 12573-"عبد الملك بن عمير بن سويد القرشي" المعروف بالقبطي و"ابن القبطية". رأى عليا وأبا موسى. مترجم في التهذيب.

و"قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي" روى عن عمر وشهد خطبته بالجابية ثقة في فقهاء الطبقة الأولى من فقهاء أهل الكوفة بعد الصحابة. مترجم في التهذيب.

هذا وخبر قبيصة بن جابر سيرويه أبو جعفر من طرق من رقم: 12573- 12577ن ثم: 12586- 15288 بألفاظ مختلفة. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 181 من طريق سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك.

ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 237 ، 238 وهو رقم: 12588 عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر وأشار إلى بعض طرقه هنا. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 329 بنحو من لفظ رقم: 12588 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم قال: "وصححه" ولم أجده في مظنته من المستدرك للحاكم.

(10/16)

12574 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن الشعبي قال : أخبرني قبيصة بن جابر، نحوا مما حدَّث به عبد الملك.

12575 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال : قتل صاحب لي ظبيًا وهو محرم، فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويُسْقي إهابها. (1)

12576 - حدثني هناد قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال : قتل رجلٌ من الأعراب وهو محرم ظبيًا، فسأل عمر، فقال له عمر: اهدِ شاة. (2)

12577 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين= وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا حصين= عن الشعبي قال ، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! (3) قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! (4) قال: فجاء عبد الرحمن، فحكما شاة.

__________

(1) الأثر: 12575- هو مختصر الأثر رقم: 12588 وسيأتي تفسير"يسقى إهابها" في التعليق عليه هناك.

(2) الأثر: 12576- هذا خبر مرسل عن عمر"بكر بن عبد الله المزني" لم يسمع من عمر. ولكنها قصة قبيصة بن جابر التي ذكرها قبل.

(3) "الدرة" (بكسر الدال): عصا قصيرة يحملها السلطان او غيره يدب بها. ودرة أمير المؤمنين عمر أشهر درة في التاريخ.

(4) "غمص الشيء يغمصه غمصا": حقره واستصغره واستهان به. يعني: اتحتقر الفتيا وتستهين بها وتزدريها؟

(10/17)

12578 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم" ، قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل.

12579 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلتُ صيدًا فإذا هو أعور، أو أعرج، أو منقوص، أغرم مثله؟ قال: نعم، إن شئت. قلت: أوْفَي أحبُّ إليك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولدَ الظبي، ففيه ولد شاة. وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله، فكلّ ذلك على ذلك.

12580 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" ما كان من صيد البر مما ليس له قرن = الحمار أوالنعامة= فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعِلٍ أو أيِّل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثَنِيَّة. (1) وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حَمَلٌ صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة من طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوَّم ويتصدق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا. وإن أصاب فرخ طير برِّية أو بيضها، فالقيمة فيها طعامٌ أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على

__________

(1) "الثنية" يعني الثنية من المعز ، وهو ما دخل في السنة الثانية أو الثالثة.

(10/18)

بِكارة الإبل، (1) فما لَقِح منها أهداه إلى البيت، وما فسد منها فلا شيء فيه.

12581 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد: من قتله = يعني الصيد = ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر، فعليه مثله هديًا بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعامًا. فإن لم يجد، صام عن كل مُدٍّ يومًا. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة، كان له= إن كان ذا يسار= مُوَسَّعًا (2) إن شاء يهدي جزورًا أو عَدْلَها طعامًا أو عدلها صيامًا، أيّتهن شاء، (3) من أجل قوله: فجزاء، أو كذا أو كذا (4) قال: فكل شيء في القران:"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.

12582 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم قال : من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدًا، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وأما"كفارة طعام مساكين"، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي، العصفورَ يقتل، فلا يكون فيه. قال:"أو عدل ذلك صيامًا"، عدل النعامة، أو عدل العصفور، أو عدل ذلك كله.

* * *

وقال آخرون: بل يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة.

__________

(1) "البكارة" (بكسر الباء) جمع"بكر" و"بكرة" (بفتح الباء): وهو الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من اللناس.

(2) في المطبوعة: "كان له إن كان ذا يسار ما شاء" بحذف"الواو من قوله"وإن كان" وهو لا معنى له ، وفي المخطوطة: "كان له وإن كان ذا يسار من سا" فرأيت أن أقرأها كما أثبتها فهو حق المعنى. لأنه يريد أن يقول: إن الله وسع له ورخص في هذا النخيير الذي ذكره بعد.

(3) في المطبوعة: "أيهن شاء" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.

(4) في المطبوعة: "أو كذا" مرة واحدة وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.

(10/19)

* ذكر من قال ذلك:

12583 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبدة، عن إبراهيم قال : ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته.

12584 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن حماد قال : سمعت إبراهيم يقول: في كل شيء من الصيد ثمنه.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية، ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم، كما قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى:"من النعم"، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء.

* * *

فإن قال قائل: فإن الدراهمَ وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم، فيهديه القاتل، فيكون بفعله ذلك كذلك جازيًا بما قتل من الصيد مثلا من النعم!

قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرًا [ أو معيبا، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا] (1) كبيرًا أو سليمًا = أو كان المقتول من الصيد كبيرًا أو سليمًا بقيمته من النعم إلا صغيرًا أو معيبًا= (2) أيجوز له أن يشتريَ بقيمته خلافه وخلافَ صفته فيهديه، أم لا يجوز ذلك له، وهو لا يجوز إلا خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله، ترك قوله في ذلك. لأنّ أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه، (3) إلا ما

__________

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرا أو كبيرا او سليما أو كان المقتول من الصيد..." وهو كلام لا يستقيم إلا بهذه الزيادة التي زدتها بين القوسين وتصحيح"أو كبيرا" بما أثبته"إلا كبيرا" وهو ما اسظهرته من سياق كلام أبي جعفر.

(2) في المطبوعة: "ولا يصيب بقيمته..." والصواب ما في المخطوطة.

(3) في المطبوعة: "بقيمته ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة.

(10/20)

يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراءَ مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرًا معيبًا، (1) أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي. (2)

وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنزيل. وذلك أنّ الله تعالى ذكره، أوجب على قاتل الصيد من المحرِمين عمدًا، المثلَ من النعم إذا وجده. وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم، وهو إلى ذلك واجدٌ سبيلا.

ويقال لقائل ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر:"ما على قاتل ما لا تبلغُ من الصيد قيمته ما يصاب به من النَّعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام. (3) لأن الله تعالى إنما خيَّر قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل، سقط عنه فرض الآخرَيْن. لأن الخيار إنما كان له، وله إلى الثلاثة سبيل. فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل، بطل فرض الجزاء عنه، لأنه ليس ممن عُني بالآية= نظيرَ الذي قلت أنت:"إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه، وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام"،= هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

* * *

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا أجازوا شرى مثل المقتول" وصواب كل ذلك ما أثبت وإنما وهم الناسخ في"أجازوا" فإن جواب"إذا" يدل على خلافه وصواب ما أثبت.

(2) في المطبوعة: "أجازوا في الهدي" غير ما في المخطوطة لوهم الناسخ كما قلت في التعليق السالف.

(3) في المطبوعة: "ما لا يبلغ" وهو في المخطوطة غير منقوطة وصوابها ما أثبت. وسياق هذه الجملة: "ما على قاتل ما تبلغ... من إطعام ولا صيام" يعني ليس على قاتل صيد لا تبلغ قيمته أن يشتري بها من النعم ما يجوز مثله في الأضاحي= إطعام أو صيام.

(10/21)

القول في تأويل قوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم= يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل= (1) "هديًا"، يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل، أي يُهْدَي فيبلغ الكعبة. (2) و"الهاء" في قوله:"ويحكم به"، عائدة على"الجزاء". (3) .

* * *

قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل: أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه، فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا، حكما عليه من الضأن بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وَحْش، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيرًا من البقر، وإن كان صغيرًا فصغيرًا. وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهًا من النعم، (4) فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره .

* * *

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلافٍ في ذلك بينهم.

* ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه:

__________

(1) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 6: 51 ، 60 .

(2) في المطبوعة: "أن يهدي" وأثبت ما في المخطوطة.

(3) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف 4: 34 ، 35/9: 466.

(4) في المخطوطة: "ينظر إلى أشبه الأشياء" والصواب ما في المطبوعة.

(10/22)

12585 - حدثنا هنّاد بن السريّ قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال : كان رجلان من الأعراب محرِمين، فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. (1) فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: (2) وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر، فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: (3) "يحكم به ذوا عدل منكم"، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.

12586 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال : ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك. قال فقال: اذبح كبشًا= قال يعقوب في حديثه، فقال لي: اذبح شاة= فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت: إن أميرَ المؤمنين لم يدرِ ما يقول! فقال صاحبي: انحر ناقتك. فسمعها عمر بن الخطاب، فأقبل عليَّ ضربًا بالدِّرة وقال: تقتل الصيد وأنت محرم، وتَغْمِصُ الفُتْيا! (4) إن الله تعالى يقول في كتابه:"يحكم به ذوا عدل منكم"، هذا ابن عوف، وأنا عمر! (5)

12587 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين، عن

__________

(1) في المطبوعة: "فأجاش" بالجيم وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط."حاش الصيد حوشا وحياشا" و"أحاشه" و"أحوشه" و"حشت عليه الصيد" و"أحشته": إذا نفرته نحوه وأخذته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة ثم سقته نحوه وجمعته عليه.

(2) في المخطوطة في الموضعين: "عمرو" وهو خطأ محض ، وفي المطبوعة في الآخرة منهما"عمرو" وهو خطأ.

(3) في المطبوعة: "فقرأها عليهما" والصواب ما في المخطوطة.

(4) انظر تفسير"غمص الفتيا" فيما سلف ص: 17 تعليق: 4.

(5) الأثر: 12586- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12573.

(10/23)

الشعبي قال ، أخبرني قبيصة بن جابر، بنحو ما حدث به عبد الملك.

12588 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجًا (1) فكنا إذا صلينا الغداة، اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، (2) قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبيٌ أو بَرَح، (3) فرماه رجل منا بحجر، فما أخطأ خُشَّاءه، (4) فركب رَدْعَه ميتًا. (5) قال: فعظَّمنا عليه. فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة. قال : وإذا إلى جنبه رجلٌ كان وجهه قُلْبُ فضة (6) =يعني عبد الرحمن بن عوف = فالتفت إلى صاحبه فكلمه. قال: ثم أقبل علي الرجل قال : أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركتَ بين العمد والخطأ، أعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وَاسْقِِ إهابَها. (7) قال: فقمنا من عنده، فقلت: أيها الرجل،

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "خرجنا" لم يذكر"حجاجا" ولكن ابن كثير نقله عن هذا الموضع وفيه"حجاجا" وكذلك هي في رواية البيهقي في السنن 5: 181. وإذن فقد سقط من الناسخ"حجاجا" فلذلك أثبتها.

(2) "صلاة الغداة" هي صلاة الفجر.

(3) "سنح الظبي" أتاك عن يسارك و"برح": أتاك عن يمينك.

(4) في المطبوعة: "خششاءه" وأثبت ما في المخطوطة وهي بضم الخاء وتشديد الشين المفتوحة وكلتاهما صواب وبهما روى الخبر. و"الخشاء" و"الخششاء": وهو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتئ خلف الأذن.

(5) في المطبوعة: "فركب وودعه ميتا" وهو كلام ساقط جدا. وفي المخطوطة: "فركب ودعه ميتا" وهو تصحيف صوابه ما أثبت. يقال للقتيل: "ركب ردعه": إذا خر لوجهه على دمه. وركوبه عليه: أن الدم يسيل ثم يخر عليه صريعا. وأصل"الردع" ما تلطخ به الشيء من زعفران أو غيره ، وهو أثره ولونه.

(6) "القلب" (بضم فسكون": سوار يكون قلدا واحدا أي ليا واحدا. وفي الحديث: "أن فاطمة حلت الحسن والحسين رضي الله عنهما بقلبين من فضة" أي: سوارين من فضة. وصفة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طبقات ابن سعد 3/1/94: "كان رجلا طويلا حسن الوجه رقيق البشرة فيح جدّا (ميل في الظهر أو العنق) أبيض مشربا حمرة لا يغير لحيته ولا رأسه".

(7) قوله"أسق إهابها" يعني: أعط إهابها من يدبغه ويتخذ من جلده سقاء. و"السقاء" ظرف الماء من الجلد. و"الإهاب": الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ.

(10/24)

عظِّم شعائر الله! (1) فما درى أمير المؤمنين ما يُفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعلَّ ذاك! (2) قال قبيصة: ولا أذكر الآية من"سورة المائدة":"يحكم به ذوا عدل منكم" قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا إلا ومعه الدِّرّة! قال : فعلا صاحبي ضربًا بالدّرة، (3) وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحُكم! قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحِلَّ لك اليوم شيئًا يحرُم عليك مني! (4) قال: يا قبيصة بن جابر، إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر (5) بيِّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعةُ أخلاق حسنة وخلق سييء، فيفسد الخلق السييء الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب! (6)

12589 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن مخارق، عن طارق قال : أوطأ أربدُ ضَبًّا (7) فقتله- وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي! فحكما فيه جَدْيًا قد جَمَع الماء والشجر. (8) ثم قال عمر:"يحكم به ذوا عدل منكم". (9)

12590 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان، فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني، وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان.

12591 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه قال: لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا، وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب. (10)

__________

(1) في المخطوطة: "أعظم شعائر الله" وما في المطبوعة هو الموافق لما في سنن البيهقي وهو أولاهما لمطابقته نص آية"سورة الحج": "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".

(2) في المطبوعة: "ففعل ذاك" والصواب هو ما في المخطوطة وابن كثير يقول: فلعل ذلك أن يكون جزاء مثل ما قتلت من الصيد. وفي ابن كثير: "يعني أن يجزئ عنك" وهذا النص ليس في المخطوطة فلذلك لم أزده في هذا الموضع ، أخشى أن يكون من كلام ابن كثير.

(3) روى البيهقي هذا الخبر بغير هذا اللفظ وقال عند هذا الموضع: "فما علمت بشيء والله ما شعرت إلا به يضرب بالدرة على= وقال مرة: على صاحبي" فهذه التي هنا هي إحدى الروايتين.

(4) يعني أنه لما أقبل عليه عمر وعوف أنه ضاربه كما ضرب صاحبه رهب عمر واخافه بقوله: إنه لن يحله من ضرب بشرة هي عليه حرام إلا بحقها. فلذلك هاب عمر أن يضربه كما ضرب صاحبه. فانظر إلى ما طبع عليه أسلافنا من حرية الطباع وما وقذ الإسلام من عرامهم حتى كف عمر يده مخافة أن يصيب من أبشار المسلم حراما لا يحل له إلا بحقه.

(5) قوله: "فسيح الصدر" أي: واسع الصدر وذلك من دلائل القوة ومتانة التركيب وهذه المقالة من عمر من أبلغ ما يهدى إلى الشباب فإن البلاء إنما يأتي من سوء الخلق ، وخلق سيئ واحد يجر وراءه جميع مساوي الأخلاق.

(6) الأثر: 12588- انظر تخريج خبر قبيصة بن جابر فيما سلف في التعليق على رقم: 12573.

وختم البيهقي هذا الأثر (السنن 5: 181) وهو من رواية ابن أبي عمر ، عن سفيان عن عبد الملك بن عمير: "قال ابن أبي عمر ، قال سفيان: وكان عبد الملك إذا حدث بهذا الحديث قال: ما تركت منه ألفا ولا واوا".

(7) "أوطأ" يعني: حمل دابته حتى وطئت الضب أي داسته. فسرته كذلك لأنهم يقولون: "وطئ الشيء ووطأته ، وتوطأه" بمعنى: داسه ولم يذكروا"أوطأه" وإن كنت أرى القياس يعين عليه.

(8) قوله: "جمع الماء والشجر" يعني: فطم ورعى الماء والشجر وهذا تفسير لم أجده في شيء من مراجع اللغة او مجازها. ينبغي إثباته.

(9) الأثر: 12589-"مخارق" هو"مخارق بن خليفة بن جابر" ويقال: "مخارق بن عبد الله" و"مخارق بن عبد الرحمن" البجلي الأحمسي ، ثقة مضى برقم: 11682.

و"طارق" هو: "طارق بن شهاب البجلي الأحمسي" مضى برقم: 9744 ، 11682 ، 12073- 12075 ، 12085.

و"أربد" هو"أربد بن عبد الله البجلي" أدرك الجاهلية هكذا ترجم له ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث ، وذكر هذا الخبر مبينا فيه اسمه ثم قال: "إسناده صحيح ورواه الأعمش عن سليمان بن ميسره ، عن طارق ، ولم يسم الرجل".

ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 182 من طريق الشافعي عن سفيان بن عيينة. وهو في الأم 2: 165 ومسند الشافعي للسندي: 332 وشرحه الأستاذ حامد مصطفى بمثل ما شرحته قبل.

(10) في المطبوعة: "من الثعلب" وأثبت ما في المخطوطة وهو الجيد.

(10/25)

12592 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكير قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدًا وهو محرم، وعنده ابن صفوان، فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك، أو أقول فتصدقني. قال: قل وأصدقك.

12593 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل قال ، أخبرني ابن جرير البجلي قال : أصبت ظبيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ تيسًا أعْفَر= قال أبو جعفر:"الأعفر": الأبيض. (1)

12594 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور بإسناده عن عمر، مثله.

12595 - حدثنا عبد الحميد قال ، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن

__________

(1) الأثر: 12593-"أبو وائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي" مضى مرارا كثيرة. و"أبو جرير البجلي" لم يترجم له غير ابن سعد في الطبقات 6: 106ن 107 وقال: "روى عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد" وساق هذا الخبر مختصرا من طريق إسحق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن منصور عن أبي وائل ثم ساقه مطولا بنحو لفظه في خبر أبي جعفر: من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل عن منصور عن شقيق.

ورواه البيهقي في السنن 5: 181 ، 182 من طريق عبيد الله بن معاذ عن شعبة عن منصور بنحو لفظ أبي جعفر. ثم قال في آخره: "زاد فيه جرير بن عبد الحميد عن منصور: وأنا ناس لإحرامي". وهذه الزيادة في خبري ابن سعد ، في الأول: "وأنا ناس لإهلالي" وفي الآخر: "ولا أذكر إهلالي".

ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 239 عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 329 وزاد نسبته لأبي الشيخ.

وفي المطبوعة: "ابن جرير البجلي" والصواب من المخطوطة وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير مثل ما في المطبوعة وفي سنن البيهقي والدر المنثور: "أبو حريز" والصواب ما في طبقات ابن سعد.

وكان في المطبوعة: "فأتيت عبد الرحمن وسعيدا" والصواب ما أثبت من المخطوطة و"عبد الرحمن" هو"عبد الرحمن بن عوف" و"سعد" هو: "سعد بن أبي وقاص".

(10/27)

أشعث بن سوار، عن ابن سيرين قال : كان رجل على ناقة وهو محرم، فأبصر ظبيًا يأوي إلى أكمة، فقال: لأنظرنّ أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ (1) فوقعت عَنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، (2) فأتى عمر فذكر ذلك له، فحكم عليه هو وابن عوف عنزا عفراء= قال: وهي البيضاء.

12596 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب، عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيًا وهو محرم، (3) فأتى عمر فذكر ذلك له، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فأقبل على عبد الرحمن فكلمه، ثم أقبل على الرجل فقال: أهد عنزا عفراء .

12597 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم يمض فيه حكومة، استقبل به، فيحكم فيه ذوا عدل. (4)

12598 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة، عن يعلي، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره:"يحكم به ذوا عدل منكم". (5)

12599 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف،

__________

(1) في المطبوعة: "لأنظر أنا أسبق" وفي المخطوطة: "لأنظر وأنا أسبق" وصواب قراءتها ما أثبت.

(2) "العنز" الأنثى من المعزى والأوعال والظباء.

(3) انظر تفسير"أوطأ" فيما سلف ص: 26 تعليق: 1.

(4) أي لم يمض فيه حكم سابق. وقوله: "استقبل به" يعني: ابتدأ النظر فيه ، بغير حكم سابق.

(5) الأثر: 12598-"عمرو بن حبشي" تابعي ثقة ، مضى ومضى ضبط اسمه برقم: 2340.

(10/28)

عن حميد، عن بكر: أن رجلين أبصرا طبيًا وهما محرمان، فتراهنا، وخطرُ كل واحد منهما لمن سبق إليه. (1) فسبق إليه أحدهما، فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة، أتيا عمر يختصمان إليه، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فذكرا ذلك له، فقال عمر: هذا قِمارٌ، ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن، فقال: ما ترى! قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قَفَّى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عُمر ما يقول حتى سأل الرجل! فردّهما عمر فقال: إن الله تعالى ذكره لم يرضَ بعمر وحده، فقال:"يحكم به ذوا عدل منكم"، وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.

* * *

وقال آخرون: بل ينظر العَدْلان إلى الصيد المقتول، فيقوّمانه قيمته دراهمَ، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هَدْيًا. فالحاكمان يحكمان، في قول هؤلاء، بالقيمة. وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمتَه في الموضع الذي أصابه فيه.

* * *

وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول:"ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته"، (2) وهو قول جماعة من متفقِّهة الكوفيين.

* * *

وأما قوله:"هديًا" فإنه مُصَدَّر على الحال من"الهاء" التي في قوله:"يحكم به".

* * *

وقوله:"بالغ الكعبة" من نعت"الهدي" وصفته. وإنما جاز أن ينعت به، وهو مضاف إلى معرفة، (3) لأنه في معنى النكرة. وذلك أن معنى قوله:"بالغ

__________

(1) "الخطر" (بفتحتين): الرهن وهو السبق الذي يترامى عليه في التراهن. و"أخطر المال" جعله خطرا بين المتراهنين ، و"تخاطروا": تراهنوا وكان في المطبوعة: "وجعل كل واحد منهما" وهذه الكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة جدا ، رأيت أن أستظهر قراءتها كذلك من معنى الرهان. وهو الصواب إن شاء الله.

(2) هو رثم: 12583.

(3) في المطبوعة: "ينعت وهو مضاف" حذف"به" فاختل الكلام.

(10/29)

الكعبة"، يبلغُ الكعبة. فهو وإن كان مضافًا فمعناه التنوين، لأنه بمعنى الاستقبال، وهو نظير قوله:( هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) [سورة الأحقاف :24] ، فوصف بقوله:"ممطرنا""عارضًا"، لأن في"ممطرنا" معنى التنوين، لأن تأويله الاستقبال، فمعناه: هذا عارض يمطرنا. فكذلك ذلك في قوله:"هديًا بالغً الكعبة" .

* * *

القول في تأويل قوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين= و"الكفارة" معطوفة على"الجزاء" في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم".

واختلف القرأة في قراءة ذلك:

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة:( أو كفارة طعام مساكين ) بالإضافة. وأما قرأة أهل العراق، فإنّ عامتهم قرءوا ذلك بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام": أو كفارة طعام مساكين

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم". (1) .

* * *

واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أو كفارة طعام مساكين". (2) فقال بعضهم: معنى ذلك أنّ القاتل وهو محرم صيدًا عمدًا، لا يخلو من

__________

(1) انظر ما سلف ص: 13ن 14.

(2) انظر تفسير"الكفارة" فيما سلف 10: 531 تعليق: 11 والمراجع هناك.

(10/30)

وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره: من مثل المقتول هديًا بالغَ الكعبة، أو طعامُ مسكين كفارة لما فعل، أو عدلُ ذلك صيامًا= إلا أنه مخيَّر في أيِّ ذلك شاء فعل، وأنه بأيِّها كان كفَّر فقد أدّى الواجب عليه. وإنما ذلك إعلامٌ من الله تعالى عبادَه أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرُجَ حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم، لا يجزيه غيرُ ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا، أو لم يكن للمقتول مثلٌ من النعم، فكفارته حينئذ إطعام مساكين.

* ذكر من قال ذلك:

12600 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعامُ مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وَبال أمره" قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجدها، أطعم عشرين مسكينًا. (1) فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بَدَنَة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مُدٌّ شِبَعَهم. (2)

12601 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد

__________

(1) في المطبوعة: "فإن لم يجد" وأثبت ما في المخطوطة.

(2) الأثر: 12600- وسيأتي برقم: 12633 في المطبوعة: "يشبعهم" وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في المخطوطة هناك: "وشبعهم" بالواو والجيد ما هنا.

(10/31)

وأنتم حرمٌ" إلى قوله:"يحكم به ذوا عدل منكم" فالكفارة: من قتل ما دون الأرنب، إطعام.

12602 - حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال : إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءَه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد جزاءه، قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قوِّمت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل صاع يومًا. قال: إنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.

12603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن زهير، عن جابر، عن عطاء ومجاهد وعامر:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهَدْي. (1)

12604 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئًا من الصيد، عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قومت الدراهم طعامًا، ثم صامَ لكل نصف صاع يومًا.

12605- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال : إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه، فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع، صام له يومًا. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هديٍ، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به، حكم عليه الصوم، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="كفارة طعام مساكين" ، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي="أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به، مما لا يبلغ ثمن هدي، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يومًا.

__________

(1) زاد في المطبوعة: "ليذوق" وقطع الآية ، وأثبت ما في المخطوطة.

(10/32)

12606 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال مجاهد:"ومن قتل منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثلُه هديًا بالغَ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعامًا، فيطعم كل مسكين مُدَّين. فإن لم يجد، صام عن كل مدَّين يومًا.

12607 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن قتله منكم متعمدًا"، إلى قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: إذا قتل صيدًا، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم [قُوِّم] الفداءُ، كم هو درهمًا، ثمّ قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، (1) فصام عن كل مسكين يومًا، ولا يحل طعام المسكين، لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء.

12608- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال : قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، (2) فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم". وما كان من كفارة بإطعام مساكين، (3) مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي"أو عدل ذلك صيامًا"، (4) قال عدل النعامة أو العصفور، (5) أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار ما شاء.

__________

(1) في المطبوعة: "فإن لم يجد ما حكم عليه قوم الفداء كم هو درهما ، وقدر ثمن ذلك..ز" وفي المخطوطة: "فإن لم يجد حكم عليه ثم الفداء كم هو درهما بين قدر ثمن ذلك..." ومكان (بين) (ثم) بين القوسين والعبارة بعد ذلك كله مشكلة ، لم أستطع أن أهتدي إلى مكانها في كتاب آخر ولا أن ألتمس لها تحريفا أرضى عنه.

(2) في المطبوعة: "مما جزاؤه" وأثبت ما في المخطوطة.

(3) في المطبوعة: "من كفارة طعام" وأثبت ما في المخطوطة.

(4) في المطبوعة: زاد في الآية"ليذوق" ثم قطع الآية.

(5) في المطبوعة: "أو العصفور" وأثبت ما في المخطوطة.

(10/33)

12609 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، فإن لم يجد جزاءً، قوِّم عليه الجزاءُ طعامًا، ثم صاع لكل صاع يومين.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم، الخيارُ بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام.

* ذكر من قال ذلك:

12610 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، في قول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم له ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إن أصابَ إنسان محرم نعامة، فإن له= وإن كان ذا يسار (1) أن يهدي ما شاء، جزورًا، أو عدلها طعامًا، أو عدلها صيامًا. قال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.

12611 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج، عن عطاء، في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال:"ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.

12612 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أسباط وعبد الأعلى، عن داود،

__________

(1) في المطبوعة: "إن كان ذا يسار" حذف الواو كما فعل في الأثر السالف: ص: 19 تعليق: 2 والصواب ما في المخطوطة.

(10/34)

عن عكرمة قال : ما كان في القرآن"أو""أو"، فهو فيه بالخيار. وما كان:"فمن لم يجد"، فالذي يليه ثم الذي يليه. (1)

12613 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن، مثله.

12614 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ليث، عن عطاء ومجاهد، أنهما قالا في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قالا ما كان في القران:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.

12615 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: ما كان في القرآن:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.

12616 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو حُرّة، عن الحسن= قال وأخبرنا عبيدة، عن إبراهيم= قالا كل شيء في القرآن"أو""أو"، فهو بالخيار، أيّ ذلك شاء فعل. (2)

12617 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : كل شيء في القرآن"أو""أو" فصاحبه مخيَّر فيه، وكل شيء:"فمن لم يجد" فالأول، ثم الذي يليه.

* * *

واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم، إذا اختار الكفارة بأحدهما دونَ الهدي.

__________

(1) في المطبوعة: "فمن لم يجد فالأول ثم الذي يليه" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض.

(2) الأثر: 12616-"أبو حرة البصري" هو"واصل بن عبد الرحمن" مضى برقم: 6385 وكان في المطبوعة هنا"أبو حمزة" والصواب من المخطوطة.

(10/35)

فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك، فإنّ الواجب عليه أن يقوِّم المثلَ من النعم طعامًا، ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يومًا

* ذكر من قال ذلك:

12618 - حدثنا هناد قال ، أخبرنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما"أو عدل ذلك صيامًا" ؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاة، أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مدّ يومًا يصومه.

* * *

وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يقوِّم الصيد المقتولَ طعامًا، ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة. (1) وإن اختار الصوم صام.

* * *

ثم اختلفوا أيضا في الصوم.

فقال بعضهم: يصوم لكل مدّ يومًا.

* * *

وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا.

وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا.

* * *

* ذكر من قال: المقوَّم لإطعام هو الصيد المقتول. (2)

12619 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد"، الآية، قال : كان قتادة يقول: يحكمان في النعم، فإن كان ليس

__________

(1) في المطبوعة: "ثم يتصدق بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة وهو لا بأس به.

(2) في المطبوعة: "المتقوم للإطعام" وفي المخطوطة بهذا الرسم غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/36)

عنده ما يبلغ ذلك، (1) نظروا ثمنه فقوَّموه طعامًا، ثم صام مكان كل صاع يومين.

* * *

وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام، لأن من وجد سبيلا إلى التكفير بالإطعام، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدلّ على صفة التكفير بالصوم= لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. (2) وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل. (3)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدًا مثلُ الذي قتل من النعم= لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم. وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم. والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا" أن يكون تخييرًا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلالا قبل حال

__________

(1) في المطبوعة: "فإن كان ليس صيده ما يبلغ ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة.

(2) في المخطوطة: "لأنه جعل التكفير..." وصوابه ما في المطبوعة.

(3) انظر ما سلف ص: 15 وما بعدها.

(10/37)

إحرامه، [عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد. (1) ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، (2) مخيَّر في تكفيره، فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك (3) فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، (4) .

ومن أبى ما قلنا فيه، قيل له: حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم، أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صيامًا= كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمتَ أن أحدهما مخيَّر في تكفير ما جعل منه، عِوَضٌ بأيّ الثلاث شاء، وأنكرت أن يكونَ ذلك للآخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك= فجعل الخيارَ فيه حيث أبيت، وأبى حيث جعلته له= فرقٌ من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا إذا ألزم في الآخر مثله. (5)

__________

(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "كما جعل الفدية من صيام او صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه ، نظير الصيد". وهو كلام غير مستقيم وهو اختصار لما في المخطوطة.

وكان في المخطوطة هكذا: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان حلالا قبل حال إحرامه كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه ، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد". وهي جملة مختلطة فيها بلا شك زيادة من الناسخ وهو قوله: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة او نسك" واستظهرت أن مكان هذه العبارة كما وضعته بين القوسين ، لتتم المناظرة بين الفعلين والعقوبتين والجزاءين وبذلك استقام الكلام إن شاء الله.

(2) في المطبوعة: "من إيذائه" وأثبت ما في المخطوطة وهو غير منقوطة.

(3) في المطبوعة والمخطوطة: "في تكفيره فعليه ذلك" وهو خطأ محض صوابه ما أثبت.

(4) في المطبوعة: "فمثله إن شاء الله قاتل الصيد" وفي المخطوطة: "فمثله مما شاله قاتل الصيد" واستظهرت الصواب من نص الآية"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم".

(5) انظر ما قاله أبو جعفر في الحلق فيما سلف 4: 76- 78.

(10/38)

ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام.

فقال بعضهم: يقوَّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه. (1) وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، (2) وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه.

* * *

وقال آخرون: بل يقوَّم ذلك بسعر الأرض التي يكفِّر فيها. (3)

* ذكر من قال ذلك:

12620 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال في محرم أصاب صيدًا بخراسان، قال : يكفر بمكة أو بمنًى. وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التي يكفّر بها.

12621 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، في رجل أصاب صيدًا بخراسان، قال : يحكم عليه بمكة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزأه بمثله من النَّعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه، (4) من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام. فإن جزاه بالإطعام، قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه، لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام. ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه ، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره؛ إنما شَرَط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي

__________

(1) في المطبوعة: "قيمته بالموضع" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض وليس في المخطوطة"فيه" وإثباتها واجب.

(2) يعني ما سلف رقم: 12583 ، 12584/ 12604 ، 12605.

(3) في المطبوعة: "يكفر بها" وأثبت ما في المخطوطة.

(4) في المطبوعة والمخطوطة: "في خلق" والجيد ما أثبت.

(10/39)

بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض.

* * *

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.

* ذكر من قال ذلك:

12622 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة. وما كان من صدقة أو صوم، حيث شاء.

* * *

وقد خالف ذلك مخالفون، فقالوا: لا يجزئ الهدى والإطعام إلا بمكة. فأما الصوم، فإن لم يكن كفَّر، به يصوم حيث شاء من الأرض. (1)

* ذكر من قال ذلك:

12623- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي= عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال : الدم والطعام بمكة، والصيامُ حيث شاء.

12624 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي= عن مالك بن مغول، عن عطاء قال : كفارة الحج بمكة.

12625 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء: أين يُتصدق بالطعام إن بدا له؟ قال: بمكة ، من أجل أنه بمنزله الهدي، قال :"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديًا بالغ الكعبة" ، من أجل أنه أصابه في حَرَم = يريد البيت = فجزاؤه عند البيت.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الأرض" وفي المخطوطة: "فإن لم يكن كفر به أن يصومه حيث شاء من الأرض" وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/40)

فأما الهدي، فإنّ من جَزَى به ما قتل من الصيد، (1) فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره (2) وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم= وعنَى بالكعبة في هذا الموضع، الحرم كله. (3) ولمن قدَّم بهديه الواجبَ من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده، ويطعمه. وكذلك إن كفر بالطعام، (4) فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب. وإن كفّر بالصوم فكذلك.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مضى.

* ذكر من قال ذلك:

12626 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء:"أو عدل ذلك صيامًا" ، هل لصيامه وقت؟ قال: لا إذ شاء وحيث شاء، وتعجيله أحبُّ إليّ.

12627 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: رجل أصابَ صيدًا في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرَّم أو غيره من الشهور، أيجزئ عنه؟ قال: نعم. ثم قرأ:"هديًا بالغ الكعبة" = قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ. (5)

__________

(1) في المطبوعة: "فأما الهدي ، فإنه من جراء ما قتل من الصيد" وهو كلام فاسد جدا وفي المخطوطة: "فإن من جرائه ما قتل من الصيد" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها.

(2) في المطبوعة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا وينحره أو يذبحه" وهو فاسد المعنى وفي المخطوطة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا قال تعالى ذكره وينحره..." وصواب قراءة"طسا" غير منقوطة"كما" كما أثبتها.

(3) في المطبوعة: "ويعني بالكعبة" وفي المخطوطة"وعنا بالكعبة" وصواب قراءتها ما أثبت.

(4) في المطبوعة: "بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة.

(5) الأثر: 12627-"يحيى" هو"ابن أبي زائدة" وهو: "يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" ومضى مرارا.

(10/41)

12628- حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم، عن عطاء قال : إذا قدمتَ مكة بجزاء صيدٍ فانحره، فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة" ، إلا أن يقدَم في العشر، فيؤخِّرُه إلى يوم النحر. (1)

12629- حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال : يتصدّق الذي يصيب الصيدَ بمكة. فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة" .

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرِمًا، عدلُ الصّيد المقتول من الصيام. وذلك أن يقوّم الصيد حيًّا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مدٍّ يومًا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عَدَل المدَّ من الطعام بصوم يوم في كفَّارة المُوَاقع في شهر رمَضَان. (2)

* * *

فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كلّ صاع في جزاءِ الصيد، صومَ يوم، قياسًا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره، وذلك حكمه على كَعْب بن عُجْرة إذ أمره أن يطعم إنْ كفَّر بالإطعام فَرْقًا من طعام، وذلك ثلاثة آصُعٍ بين ستّة مساكين (3) = إنْ كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، فجعل الأيام

__________

(1) في المطبوعة: "فيخر" بغير ضمير وأثبت ما في المخطوطة.

(2) انظر الأخبار في كفارة من أتى أهله في نهار رمضان وهو صائم في السنن الكبرى البيهقي 4: 221- 225.

(3) انظر خبر"كعب بن عجرة" إذ شكا رأسه من صئبانه ، فيما سلف في التفسير 4: 58- 69 الآثار رقم: 3334- 3359.

(10/42)

الثلاثة في الصوم عَدْلا من إطعام ثلاثة آصع، فإن ذلك بالكفارة في جزاءِ الصيد، أشبهُ من الكفارة في قتلِ الصيد بكفَّارة المُواقع امرأتَه في شهر رمضان؟. قيل: إن"القياس"، إنما هو رَدُّ الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلافَ بين الجميع من الحجّة أنه لا يجزئ مكفِّرًا كفَّر في قتل الصيد بالصوم، أن يعدِلَ صوم يوم بصاعِ طعام. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز خلافها فيما حدَّثت به من الدين مجمعةً عليه، (1) صحَّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعامَ في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إيَّاه في كفارة الحلق، إذْ كان غير جائز ردّ أصْلٍ على أصْلٍ قياسًا. وإنما يجوز أن يقاس الفرعُ على الأصل. (2) وسواء قال قائل:"هلا رددتَ حكم الصوم في كفارة قتلِ الصيد، على حكمه في حَلْق الأذى فيما يُعْدل به من الطعام" ؟= وآخر قال:"هلا رددت حكم الصوم في الحلق، على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يُعدلُ به من الطعام، فتُوجب عليه مكان كل مدٍّ أو مكان كل نصف صاع صومَ يوم"؟

* * *

وقد بينا فيما مضى قبل أن"العَدْل" في كلام العرب بالفتح، هو قدر الشيء من غير جنسه= (3) وأن"العِدْل" هو قدره من جنسه. (4)

وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول:"العدل" مصدر من قول القائل:"عَدَلت بهذا عَدْلا حسنًا". قال:"والعَدْل" أيضًا بالفتح،

__________

(1) في المطبوعة: "حدت به من الدين" (بتشديد الدال والتاء في آخره) وفي المخطوطة"حدث به" بالثاء وصواب قراءتها ما أثبت.

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان غير جائز وداخل على آخر قياسا" وفي المخطوطة مثلها مهملة غير منقوطة. وهو كلام لا معنى له ، بل الصواب المحض ما أثبت وذلك أن الكاتب كتب: "وداحل" وصوابها: "رد أصل" ثم كتب"على أحر" وصوابها: "على أصل" وهو ظاهر كلام أبي جعفر كما رأيت قبل ، وكما ترى بعد.

(3) في المطبوعة: "وهو قدر..." بزيادة"الواو" وهو خطأ.

(4) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 2: 35 ، 574. ثم معاني القرآن للفراء 1: 320 ، ثم مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 53 ، 175 ، 176.

(10/43)

المثل. ولكنهم فرَّقوا بين"العدل" في هذا وبين"عِدْل المتاع"، بأن كسروا"العين" من"عِدْل المتاع"، وفتحوها من قول الله تعالى: (1) وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123]، وقول الله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا" ، كما قالوا:"امرأة رَزان" وحجر رَزين". (2)

وقال بعضهم:"العدل" هو القسط في الحق، و"العِدْل" بالكسر، المثل. وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. (3) .

* * *

وأما نصب"الصيام" فأنه على التفسير، (4) كما يقال:"عندي ملء زقٍّ سمنًا"، و"قدر رطلٍ عسلا". (5)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. (6)

__________

(1) في المطبوعة: "من قولهم" وفي المخطوطة: "من قول هم" وهو خطأ غريب والصواب ما كتبت إن شاء الله.

(2) نص هذا الكلام ذكره صاحب لسان العرب في مادة (عدل) ولم يشر إليه في مادة (رزن) فهو مما يقيد في اللسان في موضعه. وجاء في اللسان"وعجز رزين" وهو خطأ يصحح ، إنما الصواب"وحجر" و"حجر رزين": ثقيل. وقد صرح صاحب أساس البلاغة فقال: "وامرأة رزان ، ولا يقال"رزينة".

(3) يعني ما سلف في 2: 35.

(4) "التفسير" هو التمييز وانظر ما سلف في فهارس المصطلحات.

(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 320.

(6) عند هذا الموضع انتهى المجلد الثامن من مخطوطة التفسير التي اعتمدناها. وفيها هنا ما نصه:

"تم المجلد الثامن بحمد الله وعونه

وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا.

يتلوه في التاسع إن شاء الله تعالى:

ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو

عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: ما

"عَدْل ذلك صيامًا"؟

قال: عدل الطعام من الصيام.

وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وسبعمئة".

ثم يليه في أول الجزء التاسع ما نصه:

"بسْم الله الرَّحمن الرحِيمِ

رَبِّ يَسِّرْ

بقية تفسير: "أَوْ عَدْلُ ذلك صِيَامًا".

(10/44)

12630- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: عَدْل الطعامِ من الصيام. قال: لكل مدٍّ يومًا، يأخذ زعَم بصيام رمضان وبالظِّهار. (1) وزعم إن ذلك رأى يراه، ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين، قلت: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاةٌ، قوِّمت طعامًا، ثم صام مكان كل مدٍّ يومًا. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة ؟

12631 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا" ، قال: بصوم ثلاثةَ أيام إلى عشرة أيام.

12632 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد:"أو عدل ذلك صيامًا" ، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به مما لا يبلُغ ثمنَ هدي، حكم عليه الصيامُ مكان كل نصفِ صاعٍ يومًا.

12633 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو عدل ذلك صيامًا" ، قال: إذ قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام

__________

(1) في المطبوعة: "يؤخذ" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. ومعنى قوله: "يأخذ" هنا ، يعني به يقيس ذلك بكفارة المواقع أهله في نهار رمضان ، وبكفارة الظهار.

(10/45)

ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامةً أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام: مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم. (1)

12634 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، [سألته] المحرِم يصيب الصيد (2) فيكون عليه الفدية، شاة، أو البقرة أو البدنة. فلا يجد، (3) فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوّم ثمنه طعامًا يتصدق به لكل مسكين مُدّ، ثم يصومُ بكُلّ مدٍّ يومًا. (4)

* * *

القول في تأويل قوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ }

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرمًا ما أوجبت من الجزاء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، (5) كي يذوق وبال أمره وعذابه.

* * *

يعني:"بأمره"، ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه.

* * *

__________

(1) الأثر: 12633- مضى هذا الأثر برقم: 12600 وفيه"شبعهم" بغير واو. وفي المخطوطة هنا"وشبعهم" بالواو والجيد حذف الواو. وفي المطبوعة هنا غيرها كما غيرها في الموضع السالف وكتب: "يشبعهم".

(2) في المطبوعة: "عن سعيد: المحرم..." وفي المخطوطة: "عن سعيد: عن المحرم" فظاهر أنه سقط من الناسخ قوله: "وسألته" كما أثبتها بين القوسين وهو حق السياق كما ترى. والذي حذفه لناشر"عن" حذف مفسد للكلام.

(3) في المطبوعة: "... أو البدنة فإن لم يجد فما عدل ذلك..." وهو تغيير فاسد جدا ، أداه إليه التصرف المعيب كما رأيت في التعليق السالف.

(4) في المطبوعة: "لكل مد" باللام وأثبت ما في المخطوطة.

(5) في المطبوعة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" وهو كلام لا معنى له ، وفي المخطوطة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها كما أثبته.

(10/46)

يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها، لأذيقه عقوبة ذنبه. بإلزامه الغرامة، والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. (1) .

* * *

وأصل"الوبال"، الشدّة في المكروه، ومنه قول الله عز وجل: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [سورة المزمل:16].

* * *

وقد بيّن تعالى ذكره بقوله:"ليذوق وبالَ أمره" ، أنَّ الكفاراتِ اللازمةَ الأموالَ والأبْدَانَ ، عقوباتٌ منه لخلقه، وإن كانت تمحيصًا لهم، وكفارةً لذُنُوبهم التي كفَّروها بها.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

12635 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وبال أمره"، فعقوبة أمرِه.

* * *

القول في تأويل قوله : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ }

قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله ، أيها المؤمنون، عمَّا سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حُرُم، و قتلِكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم،

__________

(1) انظر تفسير"ذاق" فيما سلف 7: 96 ، 446 ، 4528: 487.

(10/47)

بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يَقْتُله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَه، فينتقم الله منه. (1)

* * *

وقد يحتمل أن يكون معناه: (2) من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفَّارة فيها ما بيَّنت.

* * *

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

* ذكر من قال ذلك:

12636 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما"عفا الله عما سلف" ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت: ما"ومن عاد فينتقم الله منه" ؟ قال: من عاد في الإسلام، فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة.

12637- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء، فذكر نحوه= وزاد فيه، وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العَوْد من حدٍّ يعلم؟ قال: لا قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، ولكن يفتدي.

12638- حدثنا سفيان قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن عاد فينتقم الله منه" ، قال: في الإسلام، وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. (3)

__________

(1) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"سلف" فيما سلف 6: 14/ 8: 137 ، 150.

(2) في المطبوعة: "أن يكون ذلك معناه" زاد"ذلك" ليهلك العبارة!! وليست في المخطوطة.

(3) الأثر: 12638-"سفيان" هو: "سفيان بن وكيع". مضى مرارا.

*و"محمد بن بكر بن عثمان البرساني" مضى برقم: 5438.

*و"أبو خالد" هو الأحمر"سليمان بن حيان الأزدي" مضى برقم: 3956.

(10/48)

12639- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"عفا الله عما سلف" ، عمَّا كان في الجاهلية="ومن عاد" ، قال: في الإسلام="فينتقم الله منه" ، وعليه الكفارة. قال قلت لعطاء: فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.

12640- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال : يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان، وكلَّما أصاب، قال الله عز وجل:"عفا الله عما سلف" ، قال: ما كان في الجاهلية="ومن عاد فينتقم الله منه" ، مع الكفارة= قال سفيان، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا.

12641- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء:"عفا الله عما سلف" ، قال: عما كان في الجاهلية.

12642 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يحكم عليه كلَّما عاد.

12643 - حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال : كلَّما أصاب المحرم الصيد ناسيًا حُكِم عليه.

12644 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم قال : كلَّما أصاب الصيدَ المحرمُ حُكِم عليه.

12645 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال : من قتل الصيد ثم عاد ، حكم عليه.

12646 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال : يحكم عليه ، أفيُخْلَع! أفيُتْرك!. (1)

__________

(1) في المطبوعة: "فيخلع أو يترك" فأفسد معنى الكلام إفسادا والصواب من المخطوطة. وهذا الاستفهام تعجب ممن سأله: "أيحكم عليه كلما عاد" فأجابه بذلك تأكيدا للحكم عليه كلما قتل الصيد. يعني أن العائد عليه الحكم في كل مرة! وإلا لأصبح مخلوعا متروكا يفعل بعد ذلك ما شاء في قتله الصيد وهو محرم. وانظر الأثر الآتي رقم: 12652.

(10/49)

12647 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه.

12648 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا الفرات بن سلمان، عن عبد الكريم، عن عطاء قال : يحكم عليه كلَّما عاد. (1)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، بإلزامه الكفّارة.

* ذكر من قال ذلك:

12649 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو، عن زهير، عن سعيد بن جبير وعطاء في قوله الله تعالى ذكره :"ومن عاد فينتقم الله منه" ، قالا"ينتقم الله"، يعني بالجزاء="عفا الله عما سلف" ، في الجاهلية.

* * *

وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتلَ منكم الصيدَ حرامًا في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حرامًا، فاللهُ وليُّ الانتقام منه ، دون كفارة تلزمه لقتله إياه.

* ذكر من قال ذلك:

12650 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني

__________

(1) الأثر: 12648-"كثير بن هشام الكلابي" أبو سهل الرقي. نزل بغداد روى عنه أحمد وإسحق وابن معين ومحمد بن بشار بندار وغيرهم. مترجم في التهذيب والكبير للبخاري 4 1/218 وابن أبي حاتم 3/2/158.

و"الفرات بن سلمان الحضرمي الجزري الرقي" قال أبو حاتم: "لا بأس به محله الصدق صالح الحديث مترجم في تعجيل المنفعة: 331 والبخاري في الكبير 41/129 ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم 32/80 وكان في المطبوعة: "بن سليمان" والصواب من المخطوطة.

ثم انظر إسناد الأثر التالي رقم: 12663

(10/50)

معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له:"ينتقم الله منك"، كما قال الله عز وجل.

12651- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال . إذا أصاب المحرم الصيدَ حُكم عليه. فإن عاد ، لم يحكم عليه، وكان ذلك إلى الله عز وجل، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية:"ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام" .

12652- حدثنا هناد قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا داود، عن عامر قال : جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيدًا وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئًا؟ قال: لا. قال: لو قلت"نعم" ، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك، إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه، أفَيخْلَع! (1)

12653- حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال : إذا أصابَ الرجلُ الصيدَ وهو محرم، قيل له أصبت صيدًا قبل هذا؟ (2) فإن قال:"نعم"، قيل له: اذهب، فينتقم الله منك! وإن قال"لا"، حكم عليه.

12654- حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم ، في الذي يقتل الصيد ثم يعود ، قال : كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه، أمرُه إلى الله عز وجل.

12655 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن عيينة، عن داود بن أبي هند،

__________

(1) في المطبوعة: "أو يخلع" غير ما في المخطوطة بلا طائل والصواب ما أثبت من المخطوطة وانظر ما فعله في خاتمة الأثر رقم: 12646 والتعليق عليه ص49. رقم: 1.

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل هذا" وهو خطأ صوابه ما أثبت.

(10/51)

عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحًا فقال: أصبت صيدًا؟ ، قال: أصبت قبله صيدًا؟ قال: لا. قال : أما إنك لو قلت"نعم"، لم أحكم عليك.

12656 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن أبي عدي قال ، حدثنا داود، عن الشعبي، عن شريح، مثله.

12657 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن محمد، عن شريح ، في الذي يصيب الصيد قال : يحكم عليه، فإن عاد انتقمَ الله منه.

12658 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكّام بن سلم، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم بحكم به ذوا عدل منكم" ، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة، فإن عاد لم يحكم عليه ، وقيل له:"اذهب ينتقم الله منك"، ويحكم عليه في الخطأ أبدًا.

12659 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير قال : رُخّص في قتل الصيد مرة، فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه.

12660 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، مثله.

12661 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ، جميعًا عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس ، فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه، ثم أعاد ، قال : لا يحكم، ينتقم الله منه.

12662 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل:"ومن قتله منكم متعمدًا" ، يقول: متعمدًا لقتله ، ناسيًا لإحرامه، فذلك الذي يحكم عليه، فإن عاد لا يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك".

12663 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا الفرات

(10/52)

بن سلمان، عن عبد الكريم، عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك". (1)

12664 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا الأشعث، عن الحسن ، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود ، قال : لا يحكم عليه.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه ، عالمًا بتحريمه ذلك عليه، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا.

* ذكر من قال ذلك:

12665 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه" ، قال: من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرَّم ، وأنه ذاكرٌ لِحُرْمه (2) - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتلَ الصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله ، وهو يعرف أنه محرَّم ، وأنه حَرام، (3) فذلك يوكل إلى نقمة الله، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة.

* * *

وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل. (4)

* * *

__________

(1) الأثر: 12663-"كثير بن هشام الكلابي" و"الفرات بن سلمان الجزري" مضيا قريبا برقم: 12648 ، وكان في المطبوعة هنا أيضا"الفرات بن سليمان" وهو خطأ صوابه ما في المخطوطة.

(2) "الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء): الإحرام وقد سلف شرحه.

(3) "حرام" أي: محرم.

(4) يعني ما سلف رقم: 12662.

(10/53)

وقال آخرون: عُنِي بذلك شخصٌ بعينه.

* ذكر من قال ذلك:

12666 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا معتمر بن سليمان قال ، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم، فتجُوِّز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته، فذلك قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه" ، قال: في الإسلام. (1

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال: معناه:"ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة"، لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا= وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم" = أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل:"ولا كفارة عليه في الدنيا".

* * *

فإن ظن ظانّ أن الكفارة مزيلةٌ العقابَ، (2) ولو كانت الكفارةُ لازمةً له في الدنيا ، لبطلَ العقاب في الآخرة، فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عز وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب ، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقصُ من بعض، وينقص من بعض مما يزيد في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزانيَ البكرَ والزانيَ الثيِّبَ المحصن، وبين سارق

__________

(1) الأثر: 12666-"زيد""أبو المعلى" مترجم في"زيد بن مرة" و"زيد بن أبي ليلى""أبو المعلى" مولى بني العدوية. قال أبو حاتم: "صالح الحديث" وقال أبو داود الطيالسي: "وكان ثقة". مترجم في لسان الميزان 2: 511 والكبير للبخاري 2/1/370 ، وعلق عليه ناشر التاريخ. تعليقا وافيا. وابن أبي حاتم 1/2/573.

(2) في المطبوعة: "مزيلة للعقاب" بزيادة اللام وهو تغيير لعبارة أبي جعفر في المخطوطة. وقوله: "العقاب" منصوب مفعول به لقوله: "مزيلة".

(10/54)

ربع دينار وبين سارق أقلَّ من ذلك . فكذلك خالف بين عقوبته قاتلَ الصيد من المحرمين عمدًا ابتداءً ، وبين عقوبته عَوْدًا بعد بدء. فأوجب على الباديء المثلَ من النعم، أو الكفارة بالإطعام، أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جُرْمه بقوله:"ليذوق وبال أمره" ، وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عبادَه أنه فاعل به من الانتقام ، تغليظًا منه عز وجل للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حدٌّ في شيء ، مخالفًا حدًّا في غيره، ولا عقابٌ في الآخرة ، أغلظ من عقابٍ. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان.

* * *

وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نَهْي الله عن قتله = لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله . قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه= وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال= فعليه الجزاء والكفارة كلَّما عاد.

وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل. وكفي خطأ بقوله ، خروجه عن أقوال أهل العلم ، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عمّ بقوله:"ومن عاد فينتقم الله منه" ، كلَّ عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية، ولم يخصّ به عائدًا منهم دون عائد. فمن ادَّعى في التنزيل ما ليس في ظاهره ، كُلِّف البرهانَ على دعواه من الوجه الذي يجب التسليمُ له.

* * *

وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدًا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه ، فينتقم الله منه، كان معنى قوله: (1) "عفا الله عما سلف" ،

__________

(1) في المطبوعة: "فإن معنى قوله" وهو خطأ في قراءة المخطوطة وإفساد للسياق والمعنى جميعا.

(10/55)

إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءًا= (1) فإنّ في قول الله تعالى ذكره :"ليذوق وبال أمره" ، دليلا واضحًا على أن القول في ذلك غير ما قال ، لأن العفو عن الجرم: تركُ المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه ، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب:"قد عفي عنه". وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض.

* * *

فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة ، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟

قيل له: فإن كان ذلك جائزًا أن يكون تأويلَ الآية عندك= وإن كان مخالفًا لقول أهل التأويل= فما تُنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة ، (2) مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبالَ أمره الذي أذاقه المرة الأولى= ويترك عفوَه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. (3)

* * *

القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) }

قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيعٌ في سلطانه، لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته ، مانع. لأن

__________

(1) قوله: "فإن قول الله..ز" جواب قوله: "فأما من زعم...".

(2) يقال: "عفا له ذنبه" متعديا و"عفا له عن ذنبه" لازما.

(3) في المطبوعة: "فلم يقل في ذلك شيئا" وفي المخطوطة: "فلم يقول..." وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/56)

الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة المَنَعة. (1)

وأما قوله:"ذو انتقام" ، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه

__________

(1) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 10: 289 تعليق 1 ، والمراجع هناك

 وتفسير سورة المائدة الايات من 96 الي103.

  أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

=========

المائدة - تفسير ابن كثير

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)

{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) }

قال ابن أبي طلحة، عن (1) ابن عباس -في رواية عنه-وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيرهم في قوله: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } يعني: ما يصطاد منه طريًا { وَطَعَامُهُ } ما يتزود منه مليحًا يابسًا.

وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حيًا { وَطَعَامُهُ } ما لفظه ميتًا.

وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وأبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنهم. وعكرمة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم النخَعي، والحسن البصري.

قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي بكر الصديق أنه قال: { وَطَعَامُهُ } كل ما فيه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سِمَاك قال: حُدِّثتُ عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } وطعامه ما قذف.

قال: وحدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَز، عن ابن عباس في قوله: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال { وَطَعَامُهُ } ما قذف.

وقال عكرمة، عن ابن عباس قال: { وَطَعَامُهُ } ما لفظ من ميتة. ورواه ابن جرير أيضًا.

وقال سعيد بن المسيب: طعامه ما لفظه حيًا، أو حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن نافع؛ أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: إن البحر قد قذف حيتانًا كثيرًا مَيْتًا أفنأكله؟ فقال: لا تأكلوه. فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتى هذه الآية { وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } فقال: اذهب فقل له فليأكله، فإنه طعامه.

وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه، قال: وقد روي في ذلك خبر، وإن بعضهم يرويه موقوفًا. (2)

حدثنا هَنَّاد بن السُّرِّي قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } قال: طعامه ما لفظه ميتا".

ثم قال: وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة: (3)

__________

(1) في د: "قال".

(2) تفسير الطبري (11/69).

(3) تفسير الطبري (11/70).

(3/197)

حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال: طعامه: ما لفظه ميتًا.

وقوله: { ُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي: منفعة وقُوتًا لكم أيها المخاطبون { وَلِلسَّيَّارَةِ } وهو جمع سيَّار. قال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر وللسيارة: السَفْر. (1)

وقال غيره: الطريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، و { طَعَامُهُ } ما مات فيه أو اصطيد منه ومُلِّح وَقُدِّدَ زادًا للمسافرين والنائين عن البحر.

وقد روي نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، والسُّدِّي وغيرهم. وقد استدل جمهور العلماء على حل ميتة البحر بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن أنس، عن وَهْبِ بن كَيْسَان، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، قال: وأنا فيهم. قال: فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجُمع ذلك كله، فكان مَزْوَدَيْ تمر، قال: فكان يُقَوِّتُنَا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرِب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ومرت تحتهما فلم تصبهما. (2)

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين (3) وله طرق عن جابر.

وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر: فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها: العنبر قال: قال أبو عبيدة: مَيْتة، ثم قال: لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. ولقد رأيتُنا نغترف من وَقْب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفِدْر كالثور، أو: كقَدْر الثور، قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وَقْب عينه، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟" قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة. فقال بعضهم: هي واقعة أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضية واحدة، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم. (4)

__________

(1) في د: "للسفر".

(2) الموطأ (2/930).

(3) صحيح البخاري برقم (2483) وصحيح مسلم برقم (1935).

(4) صحيح مسلم برقم (1935).

(3/198)

وقال مالك، عن صفوان بن سُلَيم، عن سعيد بن سَلَمة -من آل ابن الأزرق: أن المغيرة بن أبي بردة-وهو من بني عبد الدار-أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطَّهُور ماؤه الحِلّ ميتته".

وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأهل السنن الأربعة، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حِبَّان، وغيرهم. وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) بنحوه.

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طرق، عن حماد بن سلمة: حدثنا أبو المُهَزّم -هو يزيد بن سفيان-سمعت أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج -أو عمرة-فاستقبلنا رِجْل جَراد، فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن، فأسقط في أيدينا، فقلنا: ما نصنع ونحن محرمون؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا بأس بصيد البحر" (2)

أبو المُهَزّم ضعيف، والله أعلم.

وقال ابن ماجه: حدثنا هارون بن عبد الله الحَمَّال، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله عن عُلاثة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جابر وأنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال: "اللهم أهْلك كباره، واقتل صغاره، وأفسدْ بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء". فقال خالد: يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: "إن الجراد نَثْرَة الحوت في البحر". قال هاشم: قال زياد: فحدثني من رأى الحوت ينثره. تفرد به ابن ماجه. (3)

وقد روى الشافعي، عن سعيد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم.

وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر، ولم يستثن من ذلك شيئًا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال: { طَعَامُهُ } كل ما فيه.

وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن قتل الضفدع". (4)

__________

(1) مسند الشافعي برقم (25) "بدائع المنن" والمسند للإمام أحمد (2/237) وسنن أبي داود برقم (83) وسنن الترمذي برقم (69) وسنن النسائي (1/50) وسنن ابن ماجة برقم (386) وصحيح ابن خزيمة برقم (111) وصحيح ابن حبان برقم (119).

(2) المسند (2/306) وسنن أبي داود برقم (1854) وسنن الترمذي برقم (850) وسنن ابن ماجة برقم (3222).

(3) سنن ابن ماجة برقم (3221) وقال البوصيري في الزوائد (3/ 64، 65): "هذا إسناد ضعيف لضعف موسى بن محمد بن إبراهيم، أورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق هارون بن عبد الله، وقال: لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعفه موسى بن محمد".

(4) المسند (3/453) وسنن أبي داود برقم (5269) وسنن النسائي (7/210).

(3/199)

وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: نَقِيقُها تسبيح. (1)

وقال آخرون: يؤكل من صيد البحر السمك، ولا يؤكل الضفدع. واختلفوا فيما سواهما، فقيل: يؤكل سائر ذلك، وقيل: لا يؤكل. وقيل: ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي، رحمه الله.

قال أبو حنيفة، رحمه الله: لا يؤكل ما مات في البحر، كما لا يؤكل ما مات في البر؛ لعموم قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [المائدة: 3].

وقد ورد حديث بنحو ذلك، فقال ابن مردويه:

حدثنا عبد الباقي -هو ابن قانع-حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيّ وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا الحسين بن زيد الطحان، حدثنا حفص بن غِياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صِدْتُموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر ميتًا طافيًا فلا تأكلوه".

ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية، ويحيى بن أبي أُنَيْسَة، عن أبي الزبير عن جابر به. وهو منكر. (2)

وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، بحديث "العَنْبَر" المتقدم ذكره، وبحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقد تقدم أيضًا.

وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحِلَّت لنا ميتتان ودَمَان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".

ورواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني والبيهقي. وله شواهد، وروي (3) موقوفًا، والله أعلم.

وقوله: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } أي: في حال إحرامكم يحرم (4) عليكم الاصطياد. ففيه دلالة على تحريم ذلك (5) فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدًا أثمَ وغَرم، أو مخطئًا غرم وحرم عليه أكله؛ لأنه في حقه كالميتة، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي -في أحد قوليه-وبه يقول عطاء، والقاسم، وسالم، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم. فإن

__________

(1) لم أجده عند البحث في سنن النسائي ولعلى أتداركه فيما بعد. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1852) من طريق الحجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة عن زرارة بن أوفي عن عبد الله بن عمرو به.

(2) ونكارته؛ لمخالفته الاية والأحاديث الصحيحة مثل حديث: "هو الطهور ماؤه"، وحديث العنبر.

(3) مسند الشافعي برقم (1734) ومسند أحمد (2/97) ومضى تخريجه عند الآية: 3 من هذه السورة.

(4) في د: "فحرام".

(5) في د: "التحريم".

(3/200)

أكله أو شيئًا منه، فهل يلزمه جزاء؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما: نعم، قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، قال: إن ذبحه ثم أكله فكفارتان، وإليه ذهب طائفة.

والثاني: لا جزاء عليه بأكله. نص عليه مالك بن أنس.

قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار، وجمهور العلماء. ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد، فإنما عليه حد واحد. (1)

وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل.

وقال أبو ثور: إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه، وحلال أكل ذلك الصيد، إلا أنني أكرهه للذي قتله، للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَيْد البَرِّ لكم حلال، ما لم تُصِيدوه

أو يُصَدْ لكم".

وهذا الحديث سيأتي بيانه. وقوله بإباحته للقاتل غريب، وأما لغيره ففيه خلاف. قد ذكرنا المنع عمن تقدم. وقال آخرون. بإباحته لغير القاتل، سواء المحرمون والمحلون؛ لهذا الحديث. والله أعلم.

وأما إذا صاد (2) حَلال صيدًا فأهداه إلى محرم، فقد ذهب (3) ذاهبون إلى إباحته مطلقًا، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا. حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر، عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، والزبير بن العوام، وكعب الأحبار، ومجاهد وعطاء -في رواية-وسعيد بن جبير. قال: وبه قال الكوفيون.

قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا بِشْر بن المفضل، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن أبى هريرة؛ أنه سئل عن لحم صيد صاده حَلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاهم بأكله. ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك.

وقال آخرون: لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية، ومنعوا من ذلك مطلقًا؛ لعموم هذه الآية الكريمة.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أنه كره أكل لحم الصيد للمحرم. وقال: هي مبهمة. يعني قوله: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .

قال: وأخبرني معمر، عن الزهري، عن ابن عمر؛ أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال.

__________

(1) الاستذكار لابن عبد البر (11/312).

(2) في د: "صاده".

(3) في د: "فذهبا".

(3/201)

قال معمر: وأخبرني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثله.

قال ابن عبد البر: وبه قال طاوس، وجابر بن زيد، وإليه ذهب الثوري، وإسحاق بن راهويه -في رواية-وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.

وقال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه -في رواية-والجمهور: إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد، لم يجز للمحرم أكله؛ لحديث الصعب بن جثامة: أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء -أو: بوَدّان-فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنّا حُرُم".

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة (1) قالوا: فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله، فرده لذلك. فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وَحْش، كان حلالا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله. ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان منكم أحد أشار إليها، أو أعان في قتلها؟" قالوا: لا. قال: "فكلوا". وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة. (2)

وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال قتيبة في حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم-يقول: "صيد البر لكم حلال -قال سعيد: وأنتم حرم-ما لم تُصِيدوه أو يُصَدْ لكم".

وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعًا، عن قتيبة. وقال الترمذي: لا نعرف للمطلب سماعًا من جابر. (3)

ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن مولاه المطلب، عن جابر ثم قال: وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس.

وقال مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعَرْج، وهو محرم في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد فقال

__________

(1) صحيح البخاري برقم (1825، 2573) وصحيح مسلم برقم (1193).

(2) صحيح البخاري برقم (2914، 5490) وصحيح مسلم برقم (1196).

(3) سنن أبي داود برقم (1851) وسنن الترمذي برقم (846) وسنن النسائي (5/187).

(3/202)

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

لأصحابه: كلوا، فقالوا: أوَلا تأكل أنت؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي. (1) (2)

{ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) }

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ } يا محمد: { لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أي: يا أيها الإنسان { كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } يعني: أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، كما جاء في الحديث: "ما قَلَّ وكَفَى، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى".

وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه: حدثنا أحمد بن زُهَيْر، حدثنا الحَوْطِي، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا مُعان (3) بن رِفاعة، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه". (4)

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي: يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه، واقنعوا بالحلال واكتفوا به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } هذا تأديب من الله [تعالى] (5) لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا { عَنْ أَشْيَاءَ } مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر". (6)

وقال البخاري: حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن

__________

(1) الموطأ (1/354)

(2) لم يتعرض الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لتفسير بقية الآيات، كما في جميع النسخ المخطوطة، ولعل ذلك -والله أعلم- لأنه قد تطرق إلى تفسير معانيها في متشابهتها في سورة البقرة.

(3) في د: "يعلى".

(4) ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب (1/201) وابن الأثير في أسد الغابة (1/284) من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن به، وفي إسناده علي بن يزيد الألهاني وهو متروك. وللفاضل عداب الحمش رسالة في الذب عن ثعلبة بن حاطب بين فيها نكارة هذه القصة وتوسع في ذلك.

(5) زيادة من د.

(6) رواه أبو داود في السنن برقم (4860) والترمذي في السنن برقم (3896) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، وسيأتي سياقه.

(3/203)

موسى بن أنس، عن أنس بن مالك قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت مثلها قط، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" قال: فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: "فلان"، فنزلت هذه الآية: { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ }

رواه النَّضْر وروح بن عبادة، عن شعبة (1) وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج، به. (2)

وقال ابن جرير: حدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية، قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر، فقال: "لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم". فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". قال: ثم قام عمر -أو قال: فأنشأ عمر-فقال: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا عائذًا بالله -أو قال: أعوذ بالله-من شر الفتن قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط". أخرجاه من طريق سعيد. (3)

ورواه مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس بنحو ذلك -أو قريبًا منه-قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس، فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه. (4)

وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا قَيْس، عن أبي حَصِين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أبي (5) ؟ فقال: "في النار" فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة"، فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك، والله أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } (6) إسناده جيد. (7)

وقد ذكر هذه القصة (8) مرسلة غير واحد من السلف، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله:

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4621).

(2) صحيح البخاري برقم (6486، 7295) وصحيح مسلم برقم (2359) والمسند (3/210) وسنن الترمذي برقم (3056).

(3) تفسير الطبري (11/100) وصحيح البخاري برقم (7091) وصحيح مسلم برقم (2359).

(4) رواه الطبري في تفسيره (11/102) من طريق معمر به.

(5) في د: "أين أنا".

(6) تفسير الطبري (11/103).

(7) في د: "إسناد جيد".

(8) في د: "ذكرها".

(3/204)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فقام خطيبًا فقال: "سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به". فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له: عبد الله بن حُذَافة، وكان يُطْعَن فيه، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال: "أبوك فلان"، فدعاه لأبيه، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله، وقال: يا رسول الله، رضينا بالله ربًّا، وبك نبيًا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي، فيومئذ قال: "الولد للفِرَاش وللعاهرِ الحَجَر".

ثم قال البخاري: حدثنا الفَضْل بن سَهْل، حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا أبو خَيْثَمَة، حدثنا أبو الجُويرية، عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تَضل ناقتُه: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها. تفرد (1) به البخاري. (2)

وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البَخْتَريّ -وهو سعيد بن فيروز-عن (3) علي قال: لما نزلت هذه الآية: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [آل عمران: 97] قالوا: يا رسول الله، (4) كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: "لا ولو قلت: نعم لوجبت"، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية.

وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق منصور بن وردان، به (5) وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول: أبو البختري لم يدرك عليًّا.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم الحج" فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: "من السائل؟" فقال: فلان. فقال: "والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوَجَبَتْ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم"، فأنزل الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى ختم الآية.

ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة -وقال: فقام مِحْصَن الأسدي-وفي رواية من هذه الطريق: عُكَاشة بن محْصن-وهو أشبه. (6)

__________

(1) في د: "رواه".

(2) صحيح البخاري برقم (4622).

(3) في د: "وعن".

(4) في د: "أفي".

(5) المسند (1/113) وسنن الترمذي برقم (3055) وسنن ابن ماجة برقم (2884)

(6) تفسير الطبري (11/105).

(3/205)

وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.

وقال ابن جرير أيضًا: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "كتب عليكم الحج". فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكت واستغضب، ومكث طويلا ثم تكلم فقال: "من السائل؟" فقال الأعرابي: أنا ذا، فقال: "ويحك، ماذا يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحَرَج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه" قال: فأنزل الله عند ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية. (1) في إسناده ضعف.

وظاهر (2) الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:

حدثنا حَجَّاج قال: سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" الحديث.

وقد رواه أبو داود والترمذي، من حديث إسرائيل (3) -قال أبو داود: عن الوليد-وقال الترمذي: عن إسرائيل-عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم، به. ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.

وقوله: { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم، وذلك [على الله] (4) يسير.

ثم قال (5) { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي: عما كان منكم قبل ذلك، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

وقيل: المراد بقوله: { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق (6) وقد ورد في الحديث: "أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته" (7) ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها. (8)

__________

(1) تفسير الطبري (11/107).

(2) في د: "فظاهر".

(3) المسند (1/395) وسنن أبي داود برقم (4860) وسنن الترمذي برقم (3896).

(4) زيادة من د.

(5) في د: "وقوله".

(6) في د: "أو تعسير".

(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (7289) ومسلم في صحيحه برقم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(8) في د: "إليه".

(3/206)

{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي: ما لم يذكره (1) في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تُرِكْتُم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم". (2)

وفي الحديث الصحيح أيضًا: " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها". (3)

ثم قال: { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي: قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي: بسببها، أي: بينت لهم ولم (4) ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد.

قال، العَوْفِي، عن ابن عباس قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج". فقام (5) رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فقال: "والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما (6) استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه". فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ (7) ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه (8) رواه ابن جرير.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } قال: لما نزلت آية الحج، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا". فقالوا: يا رسول الله، أعامًا واحدًا أم كل عام؟ فقال: "لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت: كل عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم". ثم قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } إلى قوله: { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } (9) رواه ابن جرير.

وقال خَصِيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } قال: هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك (10) "ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا"، قال: وأما عكرمة فقال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم قال: { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } رواه ابن جرير.

__________

(1) في د: "لم يذكرها".

(2) صحيح مسلم برقم (1337).

(3) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/13) من طريق داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به مرفوعًا.

(4) في د: "فلم".

(5) في د: "فقال".

(6) في د: "لما".

(7) في د: "لتغليظ".

(8) في د: "بيانه".

(9) في د : " إلى قوم بها كافرين " وهو خطأ".

(10) في د: "قال بعدها".

(3/207)

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

يعني عكرمة رحمه الله: أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصَّفَا ذهبا وغير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وقد قال الله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [الأسراء: 59] وقال تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ . وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام: 109-111].

{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) }

===========

المائدة - تفسير القرطبي

96- {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}

فيه ثلاث عشرة مسألة:

(6/317)

الأولى- قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} هذا حكم بتحليل صيد البحر، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب. وقد مضى القول في البحر في {البقرة} والحمد لله. و {مَتَاعاً} نصب على المصدر أي متعتم به متاعا.

الثانية- قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده، والبر وحده، والتمر وحده، واللبن وحده، وقد يطلق على النوم كما تقدم؛ وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه؛ أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} الآية صيده ما صيد وطعامه ما لفظ البحر. وروي عن أبي هريرة مثله؛ وهو قوله جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وروي عن ابن عباس طعامه وهو في ذلك المعنى. وروي عنه أنه قال: طعامه ما ملح منه وبقي؛ وقاله معه جماعة. وقاله قوم: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره.

الثالثة- قال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه. وكره الحسن أكل الطافي من السمك. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح؛ ذكره عبدالرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال: الجراد والحيتان ذكي؛ فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وبما رواه

(6/318)

أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه" . قاله الدارقطني: تفرد به عبدالعزيز بن عبيدالله عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبدالعزيز ضعيف لا يحتج به. وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ قاله الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان وعبدالرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم؛ رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب. وكذلك رواه أيوب السختياني، وعبيدالله بن عمر وابن جريح، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قاله أبو داود: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الدارقطني: وروي عن إسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا، ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره. وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري في رواية الأشجعي: يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتا، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له: "العنبر" وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان. وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا" فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله؛ لفظ مسلم وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها. وأسند عنه أيضا أنه قال: أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء. وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال: أطيبة هي لم تتغير؟

(6/319)

قالوا: نعم قال: فكلوها وارفعوا نصيبي منها؛ وكان صائما. وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال: اهدوها إلي. وقال عمر بن الخطاب: الحوت ذكي والجراد ذكي كله؛ رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية، وهو حجة للجمهور؛ إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال: أنتم تقولون خنزيرا! وقاله الشافعي: لا بأس بخنزير الماء وقال الليث: ليس بميتة البحر بأس. قال: وكذلك كلب الماء وفرس الماء. قال: ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء.

الرابعة- اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم: كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان. الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك. والصحيح أكل ذلك كله؛ لأنه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل. ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب. قال ابن عطية: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في "المدونة" فإنه قال: الضفادع من صيد البحر. وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه يراعي أكثر عيش الحيوان؛ سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر؟ فقال: حيث يكون اكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه؛ وهو قول أبي حنيفة. والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب. قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه؛ لأنه تعارض فيه دليلان، دليله تحليل ودليل تحريم، فيغلب دليله التحريم احتياطا. والله أعلم.

(6/320)

الخامسة- قوله تعالى: {وَلِلسَّيَّارَةِ} فيه قولان: أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر. الثاني: أن السيارة هم الذين يركبونه، كما جاء في حديث مالك والنسائي: أن رجلا سأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقاله النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" قال ابن العربي قاله علماؤنا: فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم "نعم" لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش؛ لأن الجواب مرتبط بالسؤال، فكان يكون محالا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة، وبيان الشرع فقاله: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" .

قلت: وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، إلا ما نص بالتخصيص عليه، كقوله لأبي بردة في العناق:"ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك".

السادسة- قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} التحريم ليس صفة للأعيان، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} أي فعله الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي.

السابعة- اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقاله مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني

(6/321)

عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم" قال أبو عيسى: هذا أحسن حديث في الباب؛ وقال النسائي: عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه. وبه قاله الحسن بن صالح والأوزاعي، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه. والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقوله عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم: كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي وبه قالت طائفة من أهله المدينة، وروي عن مالك. وقاله أبو حنيفة وأصحابه: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي واسمه زيد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق، من حديث مالك وغيره. وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه "إنما هي طعمة أطعمكموها الله" وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد؛ لعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . قال ابن عباس: هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحاق. واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: "إنا لم نرده عليك إلا إنا حُرُم" خرجه الأئمة واللفظ لمالك. قاله أبو عمر: وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش؛ وقال سعيد بن جبير

(6/322)

في حديثه: عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت؛ وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش. وقاله عطاء في حديثه: أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال: "إنا حرم" وقال طاوس في حديثه: عضدا من لحم صيد؛ حدث به إسماعيل عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم. قال إسماعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجله النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان أكله جائزا؛ قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث: فرده يقطر دما كأنه في ذلك الوقت. قال إسماعيل: إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل؛ فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه؛ قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى.

الثامنة- إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وبه قال أبو ثور، وروي عن مجاهد وعبدالله بن الحارث مثله وروي عن مالك. وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر: عليه أن يرسله، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن. وجه القول بإرساله قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وهذا عام في الملك والتصرف كله. ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه، أصله النكاح.

التاسعة- فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه، وأكل لحمه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها.

(6/323)

العاشرة- إذا دل المحرم حِلاً على صيد فقتله الحلال اختلف فيه، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه، وهو قول ابن الماجشون. وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض؛ فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة.

الحادية عشرة- واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر؛ فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كله واحد منهما جزاء. وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره؛ ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة: "هل أشرتم أو أعنتم" ؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء. والأول أصح. والله أعلم.

الثانية عشرة- إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء؛ لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين: الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع.

الثالثة عشرة- قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير. والله أعلم.

97- {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

فيه خمس مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} جعل هنا بمعنى خلق وقد تقدم. وقد سميت الكعبة كعبة لأنها مربعة وأكثر بيوت العرب مدورة وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها

(6/324)

وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، مستديرا كان أو غير مستدير. ومنه كعب القدم وكعوب القناة. وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها. والبيت سمي بذلك لأنها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن. وسماه سبحانه حراما بتحريمه إياه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس" وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله.

الثانية- قوله تعالى: {قِيَاماً لِلنَّاسِ} أي صلاحا ومعاشا، لأمن الناس بها؛ وعلى هذا يكون {قِيَاماً} بمعنى يقومون بها. وقيل: {قِيَاماً} أي يقومون بشرائعها. وقرأ ابن عامر وعاصم {قِيَاماً} وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقد قيل: {قوام}. قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بد في الحكمة الإلهية، والمشيئة الأولية من كاف يدوم معه الحال ووازع يحمد معه المآل. قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعله أمورهم إلى واحد يزعهم عن التنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويرد الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه. روى ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؛ ذكره أبو عمر رحمه الله. وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة؛ فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الأمور، ويكف الله به عادية الجمهور؛ فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} . قال العلماء: فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر هي:

(6/325)

الثالثة- هو اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا أي نفسا ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. واقتطعوا فيها ثلث الزمان. ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام، وهو شهر رجب الأصم ويسمى مضر، وإنما قيل له: رجب الأصم؛ لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، ويسمى منصل الأسنة؛ لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسنة من الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص:

وشهر بني أمية والهدايا ... إذا سيقت مضرجها الدماء

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الله؛ أي شهر آل الله، وكان يقال لأهله الحرم: آل الله. ويحتمل أن يريد شهر الله؛ لأن الله متنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه. وسيأتي في "براءة" أسماء الشهور إن شاء الله. ثم يسر لهم الإلهام، وشرع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما، أو علقوا عليه نعلا، أو فعله ذلك الرجل بنفسه من التقليد على ما تقدم بيانه أول السورة لم يروعه أحد حيث لقيه، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالإسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام، فانتظم الدين في سلكه، وعاد الحق إلى نصابه، فأسندت الإمامة إليه، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} الآية. وقد مضى في {البقرة} أحكام الإمامة فلا معنى لإعادتها.

الخامسة- قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا} {ذَلِكَ} إشارة إلى جعل الله هذه الأمور قياما؛ والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم.

(6/326)

98- {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تخويف {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ترجية، وقد تقدم هذا المعنى.

99- {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}

قوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} أي ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ وفي هذا رد على القدرية كما تقدم. وأصله البلاغ البلوغ، وهو الوصول. بلغ يبلغ بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وتبلغ تبلغا، وبالغه مبالغة، وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ وتبالغ الرجل إذا تعاطى البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية؛ لأنه يبلغ مقدار الحاجة. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي تظهرونه، يقال: بدا السر وأبداه صاحبه يبديه. {وَمَا تَكْتُمُونَ} أي ما تسرونه وتخفونه في قلوبكم من الكفر والنفاق.

100- {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

قوله تعالى :{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} فيه ثلاث مسائل:

الأول- قال الحسن: {الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} الحلال والحرام. وقال السدي: المؤمن والكافر. وقيل: المطيع والعاصي. وقيل: الرديء والجيد؛ وهذا على ضرب المثال. والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها؛ فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميله العاقبة. قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ

(6/327)

وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقوله {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؛ فالخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا، ولا مكانا ولا ذهابا، فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار وهذا بين. وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة، ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج.ولما كان هذا هي:

الثانية- قال بعض علمائنا: إن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن، فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح، بل يفسخ أبدا، ويرد الثمن على المبتاع إن كان قبضه، وإن تلف في يده ضمنه؛ لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد. وقيل: لا يفسخ نظرا إلى أن البيع إذا فسخ ورد بعد الفوت يكون فيه ضرر وغبن على البائع، فتكون السلعة تساوي مائة وترد عليه وهي تساوي عشرين، ولا عقوبة في الأموال. والأول أصح لعموم الآية، ولقوله عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".

قلت: وإذا تتبع هذا المعنى في عدم الاستواء في مسائل الفقه تعددت وكثرت.فمن ذلك الغاصب

الثالثة- إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غرس إنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس؛ لأنه خبيث، وردها؛ خلافا لأبي حنيفة في قوله: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله عليه السلام: "ليس لعرق ظالم حق" . قال هشام: العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ليستحقها بذلك. قال مالك: العرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس في غير حق. قال مالك: من غصب أرضا فزرعها، أو أكراها، أو دارا فسكنها

(6/328)

أو أكراها، ثم استحقها ربها أن على الغاصب كراء ما سكن ورد ما أخذ في الكراء واختلف قوله إذا لم يسكنها أو لم يزرع الأرض وعطلها؛ فالمشهور من مذهبه أنه ليس عليه فيه شيء؛ وقد روي عنه أنه عليه كراء ذلك كله. واختاره الوقار، وهو مذهب الشافعي؛ لقوله عليه السلام: "ليس لعرق ظالم حق" وروى أبو داود عن أبي الزبير أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها، وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس حتى أخرجت منها وإنها لنخل عم. وهذا نص. قال ابن حبيب: والحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرا على الظالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعا، وإن شاء نزعه من أرضه؛ وأجر النزع على الغاصب. وروى الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض" قال علماؤنا: إنما تكون له القيمة؛ لأنه بنى في موضع يملك منفعته. وذلك كمن بنى أو غرس بشبهة فله حق؛ إن شاء رب المال أن يدفع إليه قيمته قائما، وإن أبى قيل للذي بنى أو غرس: ادفع إليه قيمة أرضه براحا؛ فإن أبى كانا شريكين. قال ابن الماجشون: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض براحا، ثم تقوم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحا كان العامل شريكا لرب الأرض فيها، إن أحبا قسما أو حبسا. قال ابن الجهم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كراؤها فيما مضى من السنين. وقد روي عن ابن القاسم وغيره أنه إذا بنى رجل في أرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه، فإنه يعطيه قيمة بنائه مقلوعا والأول أصح لقوله عليه السلام: "فله القيمة" وعليه أكثر الفقهاء.

الرابعة- قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه الخبيث. وقيل: المراد به النبي

(6/329)

صلى الله عليه وسلم نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تقدم معناه.

101- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

102- {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}

فيه عشر مسائل:

الأولى- روى البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري عن أنس قال، قال رجل: يا نبي الله، من أبي ؟ قال: "أبوك فلان" قال فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية. وخرج أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا" فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: "النار". فقام عبدالله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله فقال: "أبوك حذافة" وذكر الحديث قال ابن عبدالبر: عبدالله بن حذافة أسلم قديما، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم؛ ولما قال من أبي يا رسول الله؛ قال: "أبوك حذافة" قالت له أمه: ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ! فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام ؟ قال: "لا ولو قلت نعم لو جبت" ، فأنزل الله تعالى:

(6/330)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} إلى آخر الآية. واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن إلا أنه مرسل؛ أبو البختري لم يدرك عليا، واسمه سعيد. وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، ثم عاد فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فقال: "ومن القائل" ؟ قالوا: فلان؛ قال: "والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه. وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام؛ وهو قول سعيد بن جبير؛ وقال: ألا ترى أن بعده: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ}

قلت: وفي الصحيح والمسند كفاية. ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض. والله أعلم. و {أَشْيَاءَ} وزنه أفعال؛ ولم يصرف لأنه مشبه بحمراء؛ قاله الكسائي وقيل: وزنه أفعلاء؛ كقولك: هين وأهوناء؛ عن الفراء والأخفش ويصغر فيقال: أشياء؛ قال المازني: يجب أن يصغر شييات كما يصغر أصدقاء؛ في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون.

الثانية- قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فقال: لم تزل المسائل منذ قط تكره. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات وواد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا، قيل، وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" قال كثير من العلماء: المراد

(6/331)

بقوله "وكثرة السؤال" التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها. قال مالك: أدركت أهله هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا؛ وقاله أيضا مالك وقيله: المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} قال ابن خويز منداد: ولذلك قال بعض أصحابنا متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين هو وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة.

قلت: والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها. والله أعلم.

الثالثة- قال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأن هذه الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا.

قلت قوله: اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح، وإنما كان الأولى به أن يقول: ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل، لكنه جرى على عادته، وإنما قلنا كان أولى به؛ لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن؛ ذكره الدارمي في مسنده؛ وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن قال فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال:

(6/332)

هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا؛ قال: دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم. قال الدارمي: حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن؛ منهن {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} ، {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} وشبهه ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

الرابعة- قال ابن عبدالبر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به فشفاء العي السؤال؛ ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره؛ قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد؛ فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها، ونشدت في مظانها، والله يفتح في صوابها.

الخامسة- قوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه غموض، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ثم قال: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فأباحه لهم؛ فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في {عنها} ترجع إلى أشياء أخر؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يعني آدم، ثم قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي ابن آدم؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال؛ فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم؛ فقد أباح هذا النوع من السؤال: ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل،

(6/333)

ولم يجز ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} . فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه؛ فأما ما مست الحاجة إليه فلا.

السادسة- قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن المسألة التي سلفت منهم. وقيل: عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها. وقيل: العفو بمعنى الترك؛ أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه من ساءكم. وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية. وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها" والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير؛ أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير؛ بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعودوا لأمثالها. فقوله: {عَنْهَا} أي عن المسألة، أو عن السؤالات كما ذكرناه.

السابعة- قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله؛ وذلك كسؤاله قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة؛ وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم. والله أعلم.

الثامنة- إن قال قائل: ما ذكرتم من كراهية السؤال والنهى عنه، يعارضه قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فالجواب؛ أن هذا الذي أمر الله به عباده

(6/334)

هو ما تقرر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبدالله عباده به؛ ولم يذكره في كتابه. والله أعلم.

التاسعة- روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجله مسألته." قال القشيري أبو نصر: ولو لم يسأل العجلاني عن الزنى لما ثبت اللعان. قال أبو الفرج الجوزي: هذا محمول على من سأل عن الشيء عنتا وعبثا فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه؛ والتحريم يعم.

العاشرة- قال علماؤنا: لا تعلق للقدرية بهذا الحديث في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شيء وبسببه، تعالى الله عن ذلك؛ فإن الله على كله شيء قدير، وهو بكل شيء عليم؛ بل السبب والداعي فعله من أفعاله، لكن سبق القضاء والقدر أن يحرم من الشيء المسؤول عنه إذا وقع السؤال فيه؛ لا أن السؤال موجب للتحريم، وعلة له، ومثله كثير {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}

103- {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}

فيه سبع مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ} جعل هنا بمعنى سمى، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي سميناه. والمعنى في هذه الآية ما سمى الله، ولا سن ذلك حكما، ولا تعبد به شرعا، بيد أنه قضى به علما، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا؛ فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية.

الثانية- قوله تعالى: {مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} {مِنْ} زائدة. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي على وزن النطيحة والذبيحة. وفي الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. وأما السائبة فهي التي كانوا

(6/335)

يسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحيرة لغة هي الناقة المشقوقة الأذن؛ يقال بحرت أذن الناقة أي شققتها شقا واسعا، والناقة بحيرة ومبحورة، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة. قال ابن إسحاق: البحيرة هي ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلي سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها؛ فهي البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعي: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت؛ قال:

محرمة لا يطعم الناس لحمها ... ولا نحن في شيء كذاك البحائر

وقال ابن عزيز البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوه وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها وقاله عكرمة فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تجس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد؛ وقال به أبو عبيد؛ قال الشاعر:

وسائبة لله تنمي تشكرا ... إن الله عافى عامرا أو مجاشعا

وقد يسيبون غير الناقة، وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء. وقيل: السائبة هي المخلاة لا قيد عليها، ولا راعي لها؛ فاعل بمعنى مفعول، نحو {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضية. من سابت الحية وانسابت؛ قال الشاعر:

عقرتم ناقة كانت لربي ... وسائبة فقوموا للعقاب

وأما الوصيلة والحام؛ فقال ابن وهب، قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها؛ فأما الحام فمن الإبل؛ كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس

(6/336)

وسيبوه؛ وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة في الغنم؛ قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا؛ فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء. والحامي الفحل إذا ركب ولد ولده. قال:

حماها أبو قابوس في عز ملكه ... كما قد حمى أولاد أولاده الفحل

ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهر فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم.

الثالثة- روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب" وفي رواية "عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار" . وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك" فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؛ قال: "لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي" وفي رواية: "رأيته رجلا قصيرا أشعر له وفرة يجر قصبه في النار". وفي رواية ابن القاسم وغيره عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يؤذي أهله النار بريحه" مرسل ذكره ابن العربي وقيل: إن أول من ابتدع ذلك جنادة بن عوف. والله أعلم. وفي الصحيح كفاية. وروى ابن إسحاق: أن سبب نصب الأوثان، وتغيير دين إبراهيم عليه السلام

(6/337)

عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق ويقال عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها فنمطر، ونستنصر بها فننصر؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: "هبل" فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ}. {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني من قريش وخزاعة ومشركي العرب {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بقولهم: إن الله أمر بتحريمها، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لرضا ربهم في طاعة الله، وطاعة الله إنما تعلم من قوله، ولم يكن عندهم من الله بذلك قول، فكان ذلك مما يفترونه على الله. وقالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} يعني من الولد والألبان {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} يعني إن وضعته ميتا اشترك فيه الرجال والنساء؛ فذلك قوله عز وجل: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي بكذبهم العذاب في الآخرة {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي بالتحريم والتحليل. وأنزل عليه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وأنزل عليه: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وأنزله عليه: {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} .

الرابعة- تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الأحباس ورده الأوقاف؛ بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة والفرق بيّنٌ. ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال: هذه تكون حبسا، لا يجتنى ثمرها، ولا تزرع أرضها، ولا ينتفع منها بنفع، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة. وقد قال علقمة لمن سأله عن هذه الأشياء: ما تريد إلى شيء كان من عمل أهله الجاهلية وقد ذهب. وقال نحوه ابن زيد. وجمهور العلماء على القول بجواز الأحباس والأوقاف ما عدا أبا حنيفة

(6/338)

وأبا يوسف وزفر؛ وهو قول شريح أن أبا يوسف رجع عن قول أبى حنيفة في ذلك لما حدثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احبس الأصل وسبل الثمرة". وبه يحتج كل من أجاز الأحباس؛ وهو حديث صحيح قاله أبو عمر. وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قال لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز؛ فقال له مالك: هذه الأحباس أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه. وأما ما احتج به أبو حنيفة من الآية فلا حجة فيه؛ لأن الله سبحانه إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله تعالى وإزالة المصلحة التي للعباد في تلك الإبل. وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف. ومما احتج به أبو حنيفة وزفر ما رواه عطاء عن ابن المسيب قال: سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر من ولده فقال: لا حبس عن فرائض الله؛ قالوا: فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين حكم بذلك. واحتج أيضا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى، عن عكرمة عن ابن عباس، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما أنزلت سورة {النساء} وأنزل الله فيها الفرائض: ينهى عن الحبس. قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته على ما أذن الله به على لسان نبيه وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم ليس من الحبس عن فرائض الله؛ ولا حجة في قول شريح ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق؛ وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله في آخر عمره، وأخوه غير معروف فلا حجة فيه؛ قال ابن القصار.

فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف عن ملك أربابها لا إلى ملك مالك؟ قال الطحاوي يقال لهم: وما ينكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها

(6/339)

صاحبها مسجداً للمسلمين، ويخلي بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير مالك، ولكن إلى الله تعالى؛ وكذلك السقايات والجسور والقناطر، فما ألزمت مخالفك في حجتك عليه يلزمك في هذا كله. والله أعلم.

الخامسة- اختلف المجيزون للحبس فيما للمحبس من التصرف؛ فقال الشافعي: ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد، إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته، وتكون بيده ليفرقها ويسلبها فيما أخرجها فيه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يزل يلي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله عز وجل قال: وكذلك علي وفاطمة رضي الله عنهما كانا يليان صدقاتهما؛ وبه قال أبو يوسف وقال مالك: من حبس أرضا أو نخلا أو دارا على المساكين وكانت بيده يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه، أنه ليس بحبس ما لم يجزه غيره وهو ميراث؛ والربع عنده والحوائط والأرض لا ينفذ حبسها، ولا يتم حوزها، حتى يتولاه غير من حبسه، بخلاف الخيل والسلاح، هذا محصل مذهبه عند جماعة أصحابه؛ وبه قال ابن أبي ليلى.

السادسة- لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته؛ وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو أن يفتقر المحبس، أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه. ذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا تجري غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا كانوا يوم حبس أغنياء أو فقراء غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس ولكن يبقى منه سهم للمساكين ليبقى عليه اسم الحبس؛ ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على سبيل المسكنة، وليس على حق لهم دون المساكين.

السابعة- عتق السائبة جائز؛ وهو أن يقول السيد لعبده أنت حر وينوي العتق، أو يقول: أعتقتك سائبة؛ فالمشهور من مذهب مالك عند جماعة أصحابه أن ولاءه لجماعة المسلمين، وعتقه نافذ؛ هكذا روى عنه ابن القاسم وابن عبدالحكم وأشهب وغيرهم، وبه

(6/340)

قال ابن وهب؛ وروى ابن وهب عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته؛ قال ابن عبدالبر: وهذا عند كله من ذهب مذهبه، إنما هو محمول على كراهة عتق السائبة لا غير؛ فإن وقع نفذ وكان الحكم فيه ما ذكرناه. وروى ابن وهب أيضا وابن القاسم عن مالك أنه قال: أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه؛ فإن وقع نفذ وكان ميراثا لجماعة المسلمين، وعقله عليهم. وقال أصبغ: لا بأس بعتق السائبة ابتداء؛ ذهب إلى المشهور من مذهب مالك؛ وله احتج إسماعيل القاضي ابن إسحاق وإياه تقلد. ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم، وأن عبدالله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا سائبة. وروي ابن شهاب وربيعة وأبي الزناد وهو قول عمر بن عبدالعزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم.

قلت: أبو العالية الرياحي البصري التميمي رضى الله عنه ممن أعتق سائبة؛ أعتقته مولاة له من بني رياح سائبة لوجه الله تعالى، وطافت به على حلق المسجد، واسمه رفيع بن مهران، وقال ابن نافع: لا سائبة اليوم في الإسلام، ومن أعتق سائبة كان ولاؤه له؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن الماجشون، ومال إليه ابن العربي؛ واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق سائبة فولاؤه له" وبقوله: "إنما الولاء لمن أعتق". فنفى أن يكون الولاء لغير معتق، واحتجوا بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} وبالحديث "لا سائبة في الإسلام" وبما رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: قال رجل لعبدالله: إني أعتقت غلاما لي سائبة فماذا ترى فيه؟ فقال عبدالله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، إنما كانت تسيب الجاهلية؛ أنت وارثه وولي نعمته.

============

المائدة - تفسير الطبري

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

القول في تأويل قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أحل لكم" ، أيها المؤمنون ،"صيد البحر" = وهو ما صيد طريًّا ، كما:-

12667 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال : قال عمر بن الخطاب في قوله:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: صيده ، ما صيد منه. (1)

12668 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال : حُدِّثت، عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: فصيده ما أخذ. (2)

12669 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: صيده ، ما صيد منه. (3)

12670 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي قال ، حدثنا محمد بن سلمة

__________

(1) الأثر: 12667-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: 3911 قال ابن سعد: "كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه". وقال شعبة: "أحاديثه واهية". وقد مضى الكلام فيه. وكان في المخطوطة هنا"عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ سيأتي على الصواب في رقم: 12687 في المخطوطة.

وأبوه: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: 8 ، 67 ، 3015 ، 8394 ، ثقة. وهذا الخبر مختصر الخبر الآتي رقم: 12687 وسياتي تخريجه هناك.

(2) الأثر: 12668- سيأتي هذا الخبر بنفس هذا الإسناد بغير هذا اللفظ برقم 12686.

(3) الأثر: 12669- رواه البيهقي في السنن 9: 255 من طريق خلف بن خليفة عن حصين مطولا بنحوه.

(11/57)

الحرّاني، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: صيده ، الطريّ. (1)

12671- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الهذيل بن بلال قال ، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: صيدُه ، ما صِيد. (2)

12672 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: الطريّ.

12673 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسن بن علي بن الحنفيّ = أو: الحسين، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس يقول: صيد البحر ، ما اصطاده. (3)

__________

(1) الأثر: 12670-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي القرشي" الأقطع مضى برقم: 6254.

وكان في المطبوعة: "البرقي" وهو خطأ محض.

و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي" ثقة مضى برقم: 175.

(2) الأثر: 12671-"هذيل بن بلا الفزاري المدائني""أبو البهلول" ضعيف قال ابن معين"ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "هو لين ليس بالقوي". وقال ابن حيان: "يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل فصار متروكا". وقال ابن سعد: "كان ضعيفا". ولكن قال أبو حاتم: "محله الصدق يكتب حديثه". وضعفه النسائي والدارقطني. مترجم في الكبير 4/2/245 ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم 4/2/113 وفي تعجيل المنفعة: 430 ولسان الميزان 6: 192 وميزان الاعتدال 3: 251. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هذيل ابن هلال" بالهاء وهو خطأ محض. وسيأتي على الصواب في المخطوطة: "بلال" في رقم: 12693 ، ولكن الناشر سيغيره هناك إلى"هلال" خطأ أيضا.

*و"عبد الله بن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي" روى عن أبيه وقيل لم يسمع منه وروى عن عائشة وابن عباس وابن عمر. روى عنه"هذيل بن بلال" وجرير بن حازم وابن جريج والأوزاعي وعكرمة بن عمار وغيرهم. ثقة. وكان مستجاب الدعوة. مترجم في التهذيب.

(3) الأثر: 12673="الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" لم أجد لأحدهما ترجمة في المراجع التي بين يدي. وكان في المطبوعة: "الجعفي" وهو تغيير بلا هدى. فإن"الجعفي" هو"الحسين بن علي الجعفي" مضى مرارا كثيرة وهو أجل من أن يشك في اسمه أبو جعفر أو سفيان بن وكيع. ثم انظر الأثر التالي رقم: 12692.

(11/58)

12674 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: الطريّ.

12675- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن العلاء بن بدر، عن أبي سلمة قال :"صيد البحر" ، ما صيد. (1)

12676- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.

12677 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير ، مثله.

12678- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر" ، قال: السمك الطريّ.

12679 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحل لكم صيد البحر" ، أما"صيد البحر" ، فهو السمك الطريّ، هي الحيتان.

12680 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال : صيده ، ما اصطدته طريًّا- قال معمر ، وقال قتادة: صيده ، ما اصطدته. (2)

12681 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره :"أحل لكم صيد البحر" ، قال: حيتانه.

__________

(1) الأثر: 12675-"العلاء بن بدر" نسب إلى جده وهو: "العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي" مضى برقم: 7939.

(2) الأثر: 12680-"أبو سفيان" هو"أبو سفيان المعمري""محمد بن حميد اليشكري". مضى برقم: 1787 ، 8829.

(11/59)

12682 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمر بن أبي سلمة قال ، سئل سعيد عن صيد البحر فقال ، قال مكحول ، قال زيد بن ثابت: صيده ، ما اصطدت. (1)

12683 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة" ، قال: يصطاد المحرِم والمحلُّ من البحر، ويأكلُ من صيده.

12684 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال : قال أبو بكر: طعام البحر كلُّ ما فيه= وقال جابر بن عبد الله: ما حَسر عنه فكُلْ. وقال: كلّ ما فيه= يعني: جميع ما صيدَ (2) .

12685 - حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة" ، قال: هو كل ما فيه.

* * *

وعنى ب"البحر" ، في هذا الموضع ، الأنهار كلها. والعرب تسمى الأنهار"بحارًا"، كما قال تعالى ذكره:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) . (3)

__________

(1) الأثر: 12682-"عمرو بن أبي سلمة التنيسي" مضى برقم: 3997 ، 5230 ، 5444 ، 6628 ، وكان في المطبوعة هنا"عمر بن أبي سلمة" وهو خطأ ذاك أقدم من هذا (انظر ما مضى رقم: 12667). والصواب من المخطوطة.

و"سعيد" هذا هو"سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي" مضى رقم: 6529 8966 ، 9071. ومضى أيضا في الأثر: 3977 غير مترجم في مثل هذا الإسناد.

وهذا الخبر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 ولم ينسبه لغير الطبري.

(2) الأثر: 12684- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 ، ولم ينسبه لغير الطبري .

(3) مضى ذكر"البحر" في سورة البقرة: 50 (2: 50) ولم يشرح هذا الحرف هناك. وهذا من وجوه اختصار تفسيره. ولكن جاء تفسير"البحر" في الأثر السالف رقم: 3985 بغير هذا المعنى ، فانظره.

(11/60)

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام: أحل لكم ، أيها المؤمنون ، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله.

* * *

واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وطعامه" .

فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتًا، نحو الذي قلنا في ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

12686- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال ، حدثت عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، وطعامه ، ما قَذَف. (1)

12687- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال : كنت بالبحرين، فسألونى عما قذف البحر. قال : فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمتُ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكرت ذلك له، فقال لي: بم أفتيتهم؟ (2) قال ، قلت: أفيتهم أن يأكلوا؟ قال : لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدِّرَّة! قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم" ، فصيده ، ما صيد منه= وطعامه ، ما قَذَف. (3)

__________

(1) الأثر: 12686- مضى بهذا الإسناد بغير هذا اللفظ فيما سلف رقم: 12668. وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 242 والسيوطي في الدر المنثور 2: 331 وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(2) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" وهو الأصل وهو صواب.

(3) الأثر: 12687- مضى مختصرا بهذا الإسناد رقم: 12667. وذكرت هناك ما قالوه في ضعف"عمر بن أبي سلمة".

وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 254 ، من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانه عن عمر بن أبي سلمة بنحوه.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 331 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد ، وابن المنذر وأبي الشيخ.

(11/61)

12688 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم" ، قال: طعامه ما قَذَف.

12689- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله:"احل لكم صيد البحر وطعامه" ، قال: طعامه ما قذف.

12690- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، مثله.

12691 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه" ، كل ما ألقاه البحر. (1)

12692 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسن بن علي = أو: الحسين بن على الحنفي، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال :"طعامه" ، ما لفظ من ميتته. (2)

12693- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الهذيل بن بلال قال ، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه" ، قال:"طعامه" ، ما وجد على الساحل ميتًا. (3)

__________

(1) الأثر: 12691-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي" مضى مرارا منها رقم: 29 ، 174 ، 4415 ، 7287 ، 7499. وهو غير الذي سيأتي بعده ، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر رقم: 12673.

(2) الأثر: 12692-"الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" مضى الكلام عنه ، وإني لم أجده فيما سلف رقم: 12673. وغيره هنا في المطبوعة وكتب"الجعفي" وهو هنا أيضا في المخطوطة: "الحنفي".

(3) الأثر: 12693-"الهذيل بن بلال الفزاري المدائني" مضى برقم: 12671 ، وهو في المخطوطة هنا"بلال" ولكن غيره الناشر في المطبوعة فكتب: "هلال" وهو خطأ كما بينت هناك.

*و"عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي" مضى أيضا برقم: 12671.

(11/62)

12694 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس قال :"طعامه" ، ما قذف به.

12695 - حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم" ، قال:"طعامه" ، هو كل ما فيه.

12696 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال ، أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه" ، ميتته= قال عمرو: وسمعت أبا الشعثاء يقول: (1) ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه.

12697 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال ، أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وطعامه متاعًا لكم" ، قال:"طعامه" ، ميتته. (2)

12698 - حدثنا حميد بن مسعدة (3) قال ، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم" ، قال:"طعامه"، ما قذف.

12699 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا معمر بن سليمان قال ، سمعت عبيد الله، عن نافع قال : جاء عبد الرحمن إلى عبد الله فقال: البحر قد ألقى حيتانًا كثيرة؟ قال: فنهاه عن أكلها، ثم قال: يا نافع، هات

__________

(1) في المطبوعة: "وسمع" وفي المخطوطة: "وسمعه" وصواب قراءتها ما أثبت كما سيأتي في رقم: 12702.

(2) الأثر: 12697-"أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد" اسمه"عبد الله بن حفص" ثقة مضى برقم: 3035.

(3) في المخطوطة: "جرير بن مسعدة" والصواب ما في المطبوعة.

(11/63)

المصحف! فأتيته به، فقرأ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال، قلت:"طعامه"، هو الذي ألقاه. قال: فالحقْهُ، فمُرْهُ بأكله. (1)

12700- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب، عن نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر، فقال: إن البحر قذف حيتانًا كثيرة ميتة، أفنأكلها؟ قال: لا تأكلوها! فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ"سورة المائدة"، فأتى على هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: اذهب، فقل له فليأكله، فإنه طعامه. (2)

12701 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.

12702- حدثني المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال ، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال ، قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم" ، قال: ميتته= قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب"طعامه" إلا مالحه. (3)

12703 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال ، أخبرنا نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر، أميتة هي؟ قال: نعم! فنهاه عنها، ثم دخل البيت فدعا

__________

(1) الأثر: 12699-"عبد الرحمن" هو: "عبد الرحمن بن أبي هريرة" و"عبد الله" هو"عبد الله بن عمر" وسيأتي تخريجه في الذي يليه.

(2) الأثر: 12700- هو طريق أخرى للأثر السالف.

*وهذا الخبر رواه مالك عن نافع بمثله في الموطأ: 494. ورواه البيهقي عن مالك في السنن الكبرى 9: 255. وسيأتي من طريق أخرى برقم: 12703.

*ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 242 ولم يخرجه وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 332 ، وقصر في نسبته وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر.

(3) الأثر: 12702- مضى هذا الأثر من رواية أبي جعفر عن"محمد بن المثنى" بمثل إسناده هنا رقم: 12696.

(11/64)

بالمصحف فقرأ تلك الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم" ، قال:"طعامه"، كل شيء أخرج منه، فكله، فليس به بأس. وكل شيء فيه يأكل، ميت أو بساحليه. (1)

12704 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال قتادة:"طعامه"، ما قذف منه. (2)

12705 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد، عن ليث، عن شهر، عن أبي أيوب قال : ما لفظ البحر فهو طعامه، وإن كان ميتًا.

12706 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن شهر، قال : سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى ذكره :"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا"، قال: هو ما لفظ البحر.

* * *

وقال آخرون: عنى بقوله:"وطعامه"، المليح من السمك (3) = فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومَليحه في كل حال، في حال إحلالكم وإحرامكم. (4)

* ذكر من قال ذلك:

12707 - حدثنا سليمان بن عُمَر بن خالد الرقيّ قال ، حدثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وطعامه"، قال:"طعامه"، المالح منه. (5)

__________

(1) الأثر: 12703- مضى هذا الخبر بثلاثة أسانيد أخرى رقم: 12699- 12701 وخرجته في رقم: 12700. وفي المطبوعة: "ميتا" بالنصب وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب لا بأس به. وفي المطبوعة: "بساحله" بالإفراد وفي المخطوطة بالتثنية كما أثبتها.

(2) الأثر: 12704- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12680"أبو سفيان" هو: المعمري ، "محمد بن حميد اليشكري".

(3) "المليح" على وزن"فعيل" هو المملح يقال: "سمك مال ومليح ومملوح ومملح".

(4) في المطبوعة أسقط من العبارة"في حال" وأثبتها من المخطوطة.

(5) الأثر: 12707-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: 12670 ، وكذلك هو في المخطوطة أما في المطبوعة فقد جعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ في موضعين صوابه ما أثبت.

أما قوله: "المالح منه" فقد استنكر الجوهري وغيره أن يقال: "سمك مالح" وقال يونس: "لم أسمع أحدا من العرب يقول: مالح". والذي لم يسمعه يونس سمعه غير هو جاء في فصيح الشعر وهكذا جاء في الآثار التي هنا وهو صواب لا شك فيه عندي والصواب ما قاله ابن بري أن وجه جوازه هذا من جهة العربية أن يكون على النسب مثل قولهم: "ماء دافق" أي ذو دفق. وكذلك"ماء مالح" أي: ذو ملح وكما يقال: "رجل تارس" أي ذو نرس و"رجل دارع" أي ذو درع. قال: ولا يكون هذا جاريا على الفعل وهو الصواب إن شاء الله. (انظر لسان العرب ، مادة: ملح).

(11/65)

12708- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، يعني: بطعامه، مالحه، وما قذف البحر منه، مالحه. (1)

12709- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، وهو المالح.

12710 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مجمّع التيمي، عن عكرمة في قوله:"متاعًا لكم" قال: المليح. (2)

12711 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سالم الأفطس وأبي حصين، عن سعيد بن جبير قال : المليح.

12712 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن

__________

(1) في المطبوعة: "وما قذف البحر من مالحه" غير ما في المخطوطة فأفسد العبارة. وقوله"مالحه" الأخيرة خبر المبتدأ"ما قذف البحر منه".

(2) الأثر: 12710-"سفيان" هو الثوري.

و"مجمع التيمي" هو: "مجمع بن سمعان "أو"مجمع بن صمعان" أبو حمزة التيمي الكوفي النساج الحائك. قال ابن عيينة: "كان له من الفضل غير قليل". روى عنه أبو حيان التيمي وسفيان الثوري. ووثقه يحيى بن معين. مترجم في الكبير للبخاري 4/1/409 وابن أبي حاتم 4/1/295. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سفيان بن مجمع التيمي" وهو خطأ لا شك فيه. وليس في الرواة من يسمى كذلك.

(11/66)

منصور، عن إبراهيم:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: المليح، وما لَفَظ.

12713 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"! فإن قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له. وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. (1)

12714 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: المنبوذ، السمك المالح.

12715- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وطعامه"، قال: المالح.

12716- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"وطعامه"، قال: هو مليحُه . (2) ثم قال: ما قَذَف.

12717 - حدثنا ابن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه"، قال: مملوح السمك.

12718- حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرني الثوري، عن منصور قال : كان إبراهيم يقول:"طعامه"، السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذفَ به.

12719- حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال :"طعامه"، المليح.

12720 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن مجاهد قال :"طعامه"، السمك المليح.

__________

(1) الأثر: 12713- سيأتي مطولا برقم: 12753.

(2) في المطبوعة: "مالحه" وأثبت ما في المخطوطة وهكذا قراءتها على سوء كتابة الناسخ.

(11/67)

12721 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير= قال شعبة، فقلت لأبي بشر: ما الصِّير؟ قال: المالح. (1)

12722- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا هشام بن الوليد قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير. قال قلت: ما الصير؟ قال: المالح.

12723 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: أما"طعامه"، فهو المالح.

12724 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما تزوّدت مملوحًا في سفرك.

12725 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو قال ، قال جابر بن زيد: كنا نُحَدَّث أن"طعامه" مليحه، ونكره الطافي منه. (2)

* * *

__________

(1) "الصير" (بكسر الصاد) ويقال له: "الصحناة" وقيل: هي السمكات المملوحة التي تعمل منها الصحناة وهي كالفسيخ في بلادنا ذكرها جرير في شعره فقال في هجاء آل المهلب وهم من الأزد: إن الخلافة لم تقدر ليملكها ... عبد لأزدية في بظرها عقف

كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا

و"الكنعد": ضرب من السمك. وقوله: "جدفوا" أكلوا"الجدف" (بفتحتين) وهو يكون باليمن تاكله الإبل فتجزأ به عن الماء ولا يحتاج مع اكله إلى شرب ماء.

وفي المخطوطة في المواضع كلها: "الصر" مهملة لا تقرأ صوابها في المطبوعة.

(2) الأثر: 12725-"سفيان" هو الثوري= أو"سفيان بن عيينة" كلاهما روى عن عمرو بن دينار."عمرو" هو"عمرو بن دينار". وكان في المطبوعة: "سفيان بن عمرو" وهو خطأ محض.

و"جابر بن زيد الأزدي" هو"أبو الشعثاء" مضى كثيرا وترجم في: 5316 ، 5472.

(11/68)

وقال آخرون:"طعامه"، ما فيه.

* ذكر من قال ذلك:

12726 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال : طعام البحر، ما فيه.

12726 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن حريث، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ما جاء به البحر بموجه، هكذا. (1)

12728 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد قال :"طعامه"، كل ما صيد منه. (2)

* * *

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قولُ من قال:"طعامه"، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد، فقال:"أحل لكم صيد البحر"، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه، فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه.

وأما"المليح"، فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله:"احل لكم صيد البحر"، فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم

__________

(1) في المطبوعة: "ماء به البحر بوجه" فغير وحذف"هكذا" كأنه ظن"هكذا" إشارة إلى استشكال كلمة"بموجه"! وهذا غريب. وقوله: "هكذا" يريد بذلك الإشارة إلى أنه جاء طافيا.

(2) الأثر: 12728-"حميد بن عبد الرحمن بن حميد الراسي" مضى برقم: 4926 ، 8770. و"الحسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري" مضى برقم: 178 ، 5347 ، 7594.

(11/69)

عبادَه تعالى ذكره: إحلالَه ما صيد من البحر بقوله:"أحل لكم صيد البحر" . فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك:"ومليحه الذي صيد حلال لكم"، لأن ما صيد منه فقد بُيِّن تحليله، طريًّا كان أو مليحًا، بقوله:"أحل لكم صيد البحر" والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة.

* * *

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا خبر، وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقلِه عنه من الصحابة، وذلك ما:-

12729 - حدثنا هناد بن السريّ قال ، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا فهو طعامه". (1)

* * *

وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة.

12730 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو،

__________

(1) الأثر: 12729 ، 12730-"عبدة بن سليمان الكلابي" قال أحمد: "ثقة ثقة وزيادة مع صلاح في بدنه". روى له أصحاب الكتب الستة. ومضى مرارا برقم : 222 ، 2323 ، 2758 ، 3022 ، ومواضع غيرها ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ثقة وروى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: 8 ، 3015.

و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" تابعي جليل إمام ثقة. مضى برقم: 8 ، 67 ، 3015 ، 8394 ، وغيرها.

وهذا الخبر لم أجد أحدا ذكره إلا السيوطي في الدر المنثور 2: 331 ولم ينسب هذا المرفوع إلا لابن جرير أما الخبر الآتي وهو الموقوف فإنه زاد نسبته لابن أبي حاتم.

وأما الخبر الموقوف الثاني رقم: 12730 ففيه"ابن أبي زائدة" وهو"يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" وهو من حفاظ الكوفيين كان متقنا ثبتا صاحب سنة ، مستقيم الحديث. روى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: 850 ، 4246.

فإسناد المرفوع والموقوف كلاهما إسناد صحيح ورجالهما ثقات حفاظ. وكتبه محمود محمد شاكر.

(11/70)

عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا. (1)

* * *

القول في تأويل قوله : { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"متاعًا لكم"، منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به= (2) "وللسيارة"، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا.

* * *

و"السيارة"، جمع"سيّار". (3)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

12731 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرني أبو إسحاق، عن عكرمة أنه قال في قوله:"متاعًا لكم وللسيارة"، قال: لمن كان بحضرة البحر="وللسيارة"، السَّفْر.

12732 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، ما قذف البحر، وما يتزوّدون في أسفارهم من هذا المالح= يتأوّلها على هذا.

12733- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع عن حماد قال ، حدثنا

__________

(1) الأثر: 12730- انظر التعليق على الأثر السالف.

(2) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 8: 551 تعليق: 1 والمراجع هناك.

(3) اقتصرت كتب اللغة على أن"السيارة": القافلة أو القوم يسيرون وأنه أنث على معنى الرفقة أو الجماعة. وجعله أبو جعفر جمعا ، كقولهم"جمال" و"جمالة" (بتشديد الميم) و"حمار" و"حمارة".

(11/71)

يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، مملوح السمك، ما يتزودون في أسفارهم.

12734 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقيّ قال ، حدثنا مسكين بن بكير قال ، حدثنا عبد السلام بن حبيب النجاري، عن الحسن في قوله:"وللسيارة"، قال: هم المحرمون. (1)

12735 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، أما"طعامه"، فهو المالح منه، بلاغٌ يأكل منه السيار في الأسفار. (2)

12736 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال:"طعامه"، مالحه، وما قذف البحر منه، يتزوَّده المسافر= وقال مرة أخرى: مالحه، وما قذف البحر. فمالحه يتزوده المسافر.

12737 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا للكم وللسيارة"، يعني المالح يتزوّده. (3)

__________

(1) الأثر: 12734-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: 6254 ، 12670 ، 12707ن وغيره في المطبوعة كما غيره فيما سلف فجعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ محض صوابه في المخطوطة.

و"مسكين بن بكير الحراني" أبو عبد الرحمن الحذاء روى عنه أحمد بن حنبل ثقة. مترجم في التهذيب.

أما "عبد السلام بن حبيب النجاري" فلم أجد في الرواة عن الحسن أو غيره من اسمه ذاك. ووجدت في الرواة عن الحسن البصري"عبد السلام بن أبي الجنوب المدني" وهو شيخ مدني متروك مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3/1/45 وميزان الاعتدال 2: 129. فلعله يكون هو.

(2) "بلاغ" يعني"بلغة" (بضم الباء) وهو ما يتبلغ به المرء من الزاد أي يكتفي به حتى يبلغ مستقره. وكان في المطبوعة: "السيارة" بالتاء في آخره وأثبت ما في المخطوطة.

(3) في المطبوعة: "فيتزوده" والجيد ما في المخطوطة.

(11/72)

وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-

12738 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعامه متاعا لكم"، قال: أهل القرَى="وللسيارة"، أهل الأمصَار.

12739- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"متاعًا لكم"، قال: لأهل القرى="وللسيارة"، قال: أهل الأمصار، والحيتانُ للناس كلهم. (1)

* * *

وهذا الذي قاله مجاهد: من أن"السيارة" هم أهل الأمصار، لا وجه له مفهوم، إلا أن يكون أراد بقوله:"هم أهل الأمصار"، هم المسافرون من أهل الأمصار، فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما"السيارة"، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم. (2)

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "أهل الأمصار وأجناس الناس كلهم" وأداه إلى هذا ما جاء في الدر المنثور 2: 232 عن مجاهد: "وطعامه قال: حيتانه= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأسفار وأجناس الناس كلهم" ثم ما جاء في المخطوطة مما دخله التحريف وذلك: "أهل الأمصار والحباب للناس كلهم" والدر المنثور لا يوثق بطباعته والجملة فيه خطأ لا شك فيه ، فقوله"أهل الأسفار" لا شك أنها"أهل الأمصار" وأما قوله: "حيتانه" هنا فإن ذلك من سوء اختصار السيوطي فإن"حيتانه" تفسير لقوله: "صيد البحر" كما مضى في الاثر رقم: 12681 من تفسير مجاهد لصيد البحر. وأما "طعامه" فقد فسرها مجاهد"السمك المليح" كما مضى في رقم: 12720 وهو مراد هنا في هذا الموضع. فظاهر أنه أراد: "طعامه السمك المليح= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأمصار= والحيتان للناس كلهم" يعني أنه لا يدخل قوله تعالى: "متاعا لكم وللسيارة" في بيان قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر" بل في بيان قوله: "وطعامه" وهو السمك المليح. هذا هو الصواب وأما ما في الدر المنثور وما في المطبوع من هذا التفسير فكلام لا يستقيم.

(2) في المطبوعة: "فأما السيارة فلا يشمل المقيمين في أمصارهم وهو كلام مريض وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط وهذا صواب قراءته. والمعنى: فلا نعقله أن يكون معناه: المقيمون في أمصارهم. وقد مضى استعمال أبي جعفر"نعقله" في مثل هذه العبارة في مواضع سلفت ليس عندي الآن بيانها.

(11/73)

القول في تأويل قوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر="ما دمتم حرمًا"، يقول: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم. (1)

* * *

ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحُرِّم عليكم صيدُ البر" .

فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرَّم علينا كل معاني صيد البر: من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملُّك.

* ذكر من قال ذلك:

12740 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه قال : حج عثمان بن عفان، فحج عليّ معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حَلال، فأكل منه، ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا! فقال عليّ:"وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (2)

__________

(1) انظر تفسير"ما دام" فيما سلف 10: 185= وتفسير"حرم" فيما سلف: 7.

(2) الأثر: 12740-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مولى بني هاشم صدوق في حفظه شيء بعد ما كبر. مضى برقم: 2028.

و"عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" لقبه: "ببة" ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه رسول الله روى عن جماعة من الصحابة. روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الله بن الحارث عن نوفل: وهو خطأ صرف.

وأبوه: "الحارث بن نوفل بن الحارث". روى عن رسول الله وعن عائشة. استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أعمال مكة ، ومات بالبصرة في خلافة عثمان. مترجم في التهذيب.

وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وقوله: "صاده حلال" يعني: رجل حلال غير محرم بحج.

وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر ، وإسناد آخر. في رقم: 12745 ، 12746.

(11/74)

12741 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هرون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن صبيح بن عبد الله العبسي قال : بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض، (1) فنزل قديدًا، فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر، فاستعاره منه، فاصطاد به من اليعاقيب، (2) فجعلهن في حظيرة. فلما مرّ به عثمان طبخهن، ثم قدمهن إليه، فقال عثمان: كلوا! فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه! فقال عثمان: مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد، ولا يحل أكله وأنا محرم! فقال عثمان: بيِّن لنا! فقال عليّ:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (3)

12742- حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد قالا أخبرنا

__________

(1) "العروض" (بفتح العين): مكة والمدينة وأكنافهما.

(2) "اليعاقيب" جمع"يعقوب" طائر وهو ذكر الحجل والقطا.

(3) الأثر: 12741-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" ثقة مضى برقم: 6656 ، 5526. و"عمرو بن أبي قيس الرازي ثقة مضى برقم: 6887 ، 9346.

و"سماك" هو"سماك بن حرب" ثقة مضى مرارا.

و"صبيح بن عبد الله العبسي" روى عن علي وروى عنه سماك بن حرب. مترجم في الكبير البخاري 2/2 / 319 وابن أبي حاتم 2 /1/ 449. ولم يذكرا فيه جرحا. وقد مضى ذكره في التعليق على رقم: 7595 (وقع هناك خطأ فيما نقلته عن التاريخ الكبير"على الفروض" وصوابه"على العروض" فليصحح هناك وفي تاريخ البخاري). وفي المخطوطة والمطبوعة: "صبيح بن عبيد الله" والتصحيح من البخاري وابن أبي حاتم.

وهذا الخبر رواه البخاري مختصرا في التاريخ قال: "حدثني حسن بن خلف أخبرنا إسحق عن شريك عن سماك عن صبيح بن عبد الله العبسي". وهو الإسناد التالي لهذا.

(11/75)

إسحاق الأزرق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبيد الله العبسي قال : استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض= ثم ذكر نحوه، وزاد فيه، قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث، ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب، أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه! (1) فأرسل إليه عثمان، وسأله عن أكل الصفيف، فقال: أما أنتَ فتأكل، وأما نحن فتنهانا؟ فقال: إنه صيد عام أوّلَ وأنا حلال، فليس عليّ بأكله بأس، وصيد ذلك = يعني اليعاقيب = وأنا محرم، وذبحن وأنا حرَام. (2)

12743 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسًا بلحم الصيد للمحرم، وكرهه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. (3)

12744 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.

12745 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث: أنه شهد عثمان وعليًّا أُتيا بلحم، فأكل عثمان ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: أنحن صِدْنا أو

__________

(1) "الصفيف" هو لحم يشرح عراضا حتى ترق البضعة منه فتراها تشف شفيفا ويوسع مثل الزغفان ثم يشرر في الشمس حتى يجف. فإذا دق الصفيف فهو"القديد". وكان في المخطوطة في هذا الموضع"تصفف" وفي الذي يليه"التصفيف" غير منقوطة وهو رسم خطأ صوابه في المطبوعة.

(2) الأثر: 12742-"إسحق الأزرق" هو إسحق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي" مضى برقم: 3339 ، 4224. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو إسحق الأزرق ، وهو خطأ وسهو من ناسخ وهو على الصواب في إسناد البخاري الذي نقلته آنفا في تخريج الأثر السالف.

(3) الأثر: 12743-"عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري" مضى برقم: 2154 ، 6589 ، 6591 ، 6819.

و"يونس" هو: "يونس بن عبيد بن دينار العبدي" مضى برقم: 2616 ، 4931.

(11/76)

صيد لنا؟ فقرأ عليّ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (1)

12746 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال : حج عثمان بن عفان، فحج معه علي، فأتي بلحم صَيدٍ صاده حلالٌ، فأكل منه وهو محرم، ولم يأكل منه عليّ، فقال عثمان: إنه صيدَ قبل أن نحرم! فقال له علي: ونحن قد نزلنا وأهالينا لنا حلال، (2) أفيحللن لنا اليوم؟ (3)

12747 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن عليًّا أتى بِشِقّ عَجُز حمار وهو محرم، فقال: إنّي محرم. (4)

12748 - حدثنا ابن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال، ما كان محرمًا. (5)

__________

(1) الأثر: 12745- مضى هذا الخبر برواية"عبد الله بن الحارث بن نوفل" عن أبيه"الحارث بن نوفل" برقم: 12740 ، وسيأتي رقم: 12747.

(2) في المطبوعة: "ونحن قد بدا لنا" وفي المخطوطة: "ونحن مر لنا" غير منقوطة وهذه قراءتها فيما أرجح.

(3) الأثر: 12746-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" أحاديثه واهية ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، مضى برقم: 3911 ، 12667.

وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: 12755 ، مختصرا بغير هذا اللفظ.

(4) الأثر: 12747-"هرون" هو"هرون بن المغيرة" مضى قريبا برقم: 12741.

و"عمرو" هو"عمرو بن أبي قيس" مضى أيضا برقم: 12741.

و"عبد الكريم" هو"عبد الكريم بن مالك الجزوي" مضى برقم: 892 ، 1566. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن عمرو بن عبد الكريم" وهو خطأ. ليس في الرواة من يسمى بذلك.

ومضى هذا الخبر بإسناديه رقم: 12740 ، 12745.

(5) الأثر: 12748-"سعيد" هو"سعيد بن أبي عروبة".

و"يعلى بن حكيم الثقفي" روى عن سعيد بن جبير وعكرمة ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة والنسائي وقال أبو حاتم: "لا بأس به" مترجم في التهذيب.

(11/77)

12749 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال ، أخبرنا نافع: أن ابن عمر كان يكره كل شيء من الصيد وهو حرام، أخذ له أو لم يؤخذ له، وَشِيقةً وغيرها. (1)

12750- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الله قال ، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيدَ وهو محرم، وإن صاده الحلالُ.

12751 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أنّ طاوسًا كان ينهى الحرامَ عن أكل الصيد، وشيقة وغيرها، صيد له أو لم يُصد له.

12752 - حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا الأشعث قال ، قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرمَ لم يأكل من لحمه حتى يحلّ. فإن أكل منه وهو محرم، لم ير الحسن عليه شيئًا. (2)

12753 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام وهارون عن عنبسة، عن سالم قال : سألت سعيد بن جبير، عن الصيد يصيده الحلال، أيأكل منه المحرم؟ فقال: سأذكر لك من ذلك، إن الله تعالى ذكره قال:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فنهي عن قتله، ثم قال:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، ثم قال تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"، فإن

__________

(1) "الوشيقة": لحم يغلي في ماء وملح إغلاءة واحدة ، ولا ينضج فيتهرأ ثم يخرج فيصير في الجبجبة وهو جلد بعير يقور ، ثم يجعل ذلك اللحم فيه ، فيكون لهم زادا في أسفارهم.

(2) الأثر: 12752-"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي" ثقة مضى برقم: 7507 ، 7818 ، 9878.

(11/78)

قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له، وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال:"وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا"، وهو عليك حرام، صدته أو صاده حلال. (1)

* * *

وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، ما استحدَث المحرم صيدَه في حال إحرامه أو ذبحه، أو استُحْدِث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال، فلا بأس بأكله للمحرم. وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه، فغير محرم عليه إمساكه.

* ذكر من قال ذلك:

12754 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة: أن سعيد بن المسيب حدّثه، عن أبي هريرة: أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك . (2)

12755 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال ، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال : نزل عثمان بن عفان رحمه الله العَرْجَ وهو محرم، (3) فأهدى صاحبُ العرج له قَطًا، (4) قال: فقال لأصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد

__________

(1) الأثر: 12753- مضى هذا الأثر مختصرا برقم: 12713.

(2) الأثر: 12754- إسناده صحيح. وخرجه السيوطي في الدر المنثور باختلاف يسير في لفظه ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وسيأتي هذا الأثر بأسانيد أخرى رقم: 12756 ، 12757 ، 12762.

(3) "العرج" (بفتح فسكون) وهي قرية جامعة على طريق مكة من المدينة ، على جادة الحاج.

(4) في المخطوطة: "رطا" غير منقوطة كأنها تقرأ"بطا" ولكن الذي جاء في الروايات السالفة وما سيأتي برقم: 12771 أنها"قطا "أو" يعاقيب" وهي ذكور الحجل والقطا ، والصواب إن شاء الله ما كان في المطبوعة: "قطا". و"القطا": طائر كالحمام.

(11/79)

على اسمي، (1) قال: فأكلوا ولم يأكل. (2)

12756 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالرَّبَذة، فسألوه عن لحم صيدٍ صاده حلال، ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر. (3)

12757- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن عمر، نحوه. (4)

12758 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الشعثاء قال : سألت ابن عمر عن لحم صيد يُهديه الحلال إلى الحرام، فقال: أكله عمر، وكان لا يرى به بأسًا. قال قلت: تأكله؟ قال: عمر خير مني. (5)

__________

(1) قوله: "إنما اصطيد على اسمي" أي من أجله ، وهو تعبير قديم يقيد ، ولا يزال يجري على ألسنة العامة إلى هذا اليوم وهو صحيح فصيح. وانظر ما يفسره في خبر مالك في الموطأ: 354 ، وسيأتي رقم: 12764.

(2) الأثر: 12755-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى قريبا رقم: 12746. وسيأتي من طريق أخرى برقم: 12771 بغير هذا اللفظ عن أبي سلمة من فعله هو.

(3) الأثر: 12756 ، 12757- مضى برقم: 12754.

(4) الأثر: 12756 ، 12757-مضى برقم: 12754 .

(5) الأثر: 12758 ، 12759_"أبو إسحق" هو: "أبو إسحق السبيعي الهمداني".

و"أبو الشعثاء" سيأتي في الأثر رقم: 12763 أنه"أبو الشعثاء الكندي" وهو غير"أبي الشعثاء ، جابر بن زيد" الذي مضى برقم: 5136 ، 5472 ، 12406 ، 12725.

و"أبو الشعثاء الكندي" هو: "يزيد بن مهاصر" كوفي روى عن ابن عمر ، وابن عباس. ترجم له البخاري في الكبير 4 /2 / 363 في"يزيد بن مهاصر" وقال: "كناه محمد بن عبد الله بن نمير" ولم يزد على ذلك. وترجم له ابن أبي حاتم 4/2/287 في"يزيد بن مهاصر أبو الشعثاء الكندي" ثم قال: "روى عنه أبو إسحق الهمداني وأبو العنبس ويونس بن أبي إسحق وأبو سنان الشيباني". ثم عاد فترجم له 42/391 وقال: "روى عنه أبو سنان الشيباني وسعيد بن سعيد الثعلبي. سمعت أبي يقول ذلك ، ويقول: "لا يسمى وهو كوفي. قال علي بن المديني: أبو الشعثاء الذي روى عنه أبو إسحق الهمداني ويونس بن أبي إسحق ، وأبو العنبس وأبو سنان هو الكندي وليس هو سليم [يعني: سليم بن أسود المحاربي]- سمعت أبي يقول: أبو الشعثاء الكندي اسمه: يزيد بن مهاصر. وخالف عليا في ذلك".

فظاهر هذا أنه غير"أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي" ولكني رأيت الحافظ ابن حجر قال في ترجمة"أبي العنبس" في التهذيب 8: 189 أنه روى عن"أبي الشعثاء جابر بن يزيد الكندي" فلا أدري أوهم الحافظ أم هكذا اختلف عليه في ذلك.

وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 5: 189 من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن أبي إسحق ، سمعت أبا الشعثاء".

وسيأتي برقم: 12763 ، بغير هذا اللفظ مختصرا. وكتبه محمود محمد شاكر.

(11/80)

12759- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء قال : سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام، قال: كان عمر يأكله. قال قلت: فأنت؟ قال: كان عمر خيرًا مني.

12760 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال : استفتاني رجلٌ من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم، فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم، قال: فما أفتيته؟ قال: قلت: أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة! وقال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده. (1)

12761 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا خارجة عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن كعب قال : أقبلت في أناس محرمين، فأصبنا لحمَ حمار وحش، فسألني الناس عن أكله، فأفتيتهم بأكله، وهم محرمون. فقدمنا على عمر، فأخبروه أنّي أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون،

__________

(1) الأثر: 12760- مضى مختصرا برقم: 12754 ، بغير هذا الإسناد."هشام" هو"هشام صاحب الدستوائي".

و"يحيى" هو"يحيى بن أبي كثير الطائي" ثقة روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 9189 ، 11505- 11507.

و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا ، منها رقم: 12667.

وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 188 ، من طريق: "حفص بن عبد الله السلمي ، عن إبراهيم بن طهمان عن هشام" بمثله.

(11/81)

فقال عمر: قد أمَّرته عليكم حتى ترجعوا. (1)

12762 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال : مررت بالرَّبَذة، فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال؟ فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. قال : بم أفتيتهم؟ (2) قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك. (3)

12763 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح، عن يونس، عن أبي الشعثاء الكندي قال : قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قومًا حلالا ومعهم لحم صيد، فإما باعوهم، وإما أطعموهم؟ فقال: حلال. (4)

__________

(1) الأثر: 12761-"مصعب بن المقدام الخثعمي" ثقة وضعفه بعضهم ، ولكن روى له مسلم مضى برقم: 1291 ، 3001.

و"خارجة" هو"خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني" وقد مضى برقم: 9668 ، قال أخي السيد أحمد هناك: "مختلف فيه جدا والأكثر على تضعيفه ، ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1: 499: خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين ، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة".

و"زيد بن أسلم" ثقة ثبت. مضى كثيرا.

و"عطاء" هو"عطاء بن يسار" مضى مرارا.

و"كعب" هو"كعب الأحبار".

وهذا الخبر صحيح ، رواه مالك في الموطأ: 352 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مطولا. ورواه البيهقي في السنن 5: 189 ، من طريق مالك.

(2) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" فكتبتها على ما درجنا عليه"بم" وفي المطبوعة: "فبم".

(3) الأثر: 12762- مضى حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة من طريقين أخريين رقم: 12754 ، 12756.

وهذا الخبر رواه مالك في الموطأ 351 عن يحيى بن سعيد بغير هذا اللفظ ثم رواه بعد من طريق"ابن شهاب عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر" ولفظه أقرب إلى لفظ أبي جعفر هذا.

(4) الأثر: 12763-"يونس" هو"يونس بن أبي إسحق السبيعي مضى مرارا وانظر التعليق على رقم: 12758 ، 12759.

و"أبو الشعثاء الكندي" مضى الكلام في أمره واسمه فيما سلف في التعليق على الأثرين رقم 75: 12 ، 12759 ، ومضى تخريجه هناك.

(11/82)

12764 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا محمد بن سعيد قال ، حدثنا هشام= يعني ابن عروة= قال ، حدثنا عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى نزلوا بالرَّوحاء، فقُرِّب إليهم طير وهم محرمون، فقال لهم عثمان: كلوا، فإني غير آكله! فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا؟ فقال عثمان: إني لولا أظنّ أنه اصطيد من أجلي، لأكلت! (1) فأكل القوم. (2)

12765 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن الزبير كان يتزوّد لحوم الوحش وهو محرم. (3)

12766 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.

12767 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : ما صيد من شيء وأنت حرام فهو عليك حرام، وما صيد من شيء وأنت حلال فهو لك حلال.

__________

(1) في المطبوعة: "صيد من أجلي" وأثبت ما في المخطوطة.

(2) الأثر: 12764-"يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" تابعي ثقة جليل ، وينسب إلى جده فيقال: "يحيى بن حاطب" مضى برقم: 8367.

و"عبد الرحمن" هو أبوه"عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" وهو في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة وفقهائهم ، ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.

وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 191 من طريف أحمد بن يوسف السلمي ، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه بنحوه.

(3) الأثر: 12765- إسناده صحيح ، رواه مالك في الموطأ: 350 ، عن هشام ابن عروة عن أبيه: "أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم" هذا لفظه. فأراد بقوله"لحوم الوحش" الظباء فهي من الوحش.

(11/83)

12768 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، فجعل الصيد حرامًا على المحرم صيده وأكله ما دام حرامًا. وإن كان الصيدُ صِيدَ قبل أن يحرم الرجل، فهو حلالٌ. وإن صاده حرامٌ لحلال، فلا يحلّ له أكله.

12769 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال؟ قال : كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يُحرِم أكل منه، وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه.

12770- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال : كان عطاء يقولُ إذا سئل في العَلانِية: أيأكل الحرامُ الوَشيقةَ والشيء اليابس؟ (1) = يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبيِّن لك في مجلس، إن ذبح قبل أن نُحرم فكل، وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع. (2)

* * *

وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني.

* ذكر من قال ذلك:

12771- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا ابن أبي مريم

__________

(1) "الوشيقة" مضى تفسيرها في ص: 78 ، تعليق: 1.

(2) هكذا هذا الخبر في المخطوطة إلا أنه كتب: "وإن ذبح قبل أن تحرم" بالواو. وأنا في شك من سياق هذا الخبر ، أخشى أن يكون سقط منه شيء فإن السياق يقتضي أن يقال: إذا سئل في العلانية يقول: لا. ولكن هكذا جائ ، ولم أجده في مكان آخر ، فتركته على حاله حتى يصححه من يجده.

(11/84)

قال ، حدثنا يحيى بن أيوب قال ، أخبرني يحيى، أن أبا سلمة اشترى قَطًا وهو بالعَرْجِ وهو محرم، ومعه محمد بن المنكدر، فأكلها. (1)

فعاب عليه ذلك الناس. (2)

* * *

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه، إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال، فيحلّ له حينئذ أكله، للثابت عن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-

12772 - حدثناه يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج= وحدثني عبد الله بن أبي زياد قال ، حدثنا مكي بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الملك بن جريج= قال ، أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدي لنا طائرٌ، فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، (3) وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4)

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "فأكله" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.

(2) الأثر: 12771-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي" شيخ الطبري مضى برقم: 1909 ، 4612 ، 4923.

و"ابن أبي مريم" هو"سعيد بن أبي مريم" مضى برقم: 160 ، 5455 ، 8335.

و"يحيى بن أيوب الغافقي" مضى برقم: 3877 ، 4330.

و"يحيى" هو"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" مضى برقم: 4859 ، 9679.

و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف". مضى قريبا.

(3) في المطبوعة: "وافق من أكل" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب الموافق لما في صحيح مسلم. وقوله: "وفق من أكل": دعا له بالتوفيق ، واستصوب فعله.

(4) الأثر: 12772-"يحيى بن سعيد" هو القطان.

و"مكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد التميمي" الحافظ روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب.

و"معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان التيمي" ثقة.

وأبوه"عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي" هو"شارب الذهب" صحابي أسلم يوم الحديبية ، وقيل يوم الفتح.

وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 8: 111 ، 112 ، والبيهقي في السنن الكبرى 5: 188.

(11/85)

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا، فردّه فقال: إنا حُرُم (1) = وفيما روي عن عائشة: أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فردّها (2) وما أشبه ذلك من الأخبار؟

قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى، بيانُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه، وهو حلال لحلال، ثم أهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام، فرده وقال:"إنه لا يحل لنا لأنا حرم"، وإنما ذكر فيه أنه أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فردّه. وقد يجوز أن يكون ردُّه ذلك من أجل أنّ ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

وقد بيَّن خبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لحم صيد [البر] للمحرم حلال إلا ما صاد أو صيد له"، (3) معنى ذلك كله.

فإذ كان كلا الخبرين صحيحًا مخرجهما، فواجبٌ التصديقُ بهما، وتوجيه كلّ واحد منهما إلى الصحيح من وجه، وأن يقال:"ردُّه ما ردّ من ذلك من أجل

__________

(1) حديث الصعب بن جثامة ، رواه مسلم في صحيحه من طرق 8: 103- 106 ، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 191 ، 194 واستوفى تخريجه هناك.

(2) حديث عائشة رواه أحمد في المسند 6: 40. وقد مضى تفسير"الوشيقة" فيما سلف ص: 78 تعليق: 1.

(3) حديث جابر بن عبد الله خرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 190 ، فانظر ما قاله فيه ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 333 وقال: أخرجه أحمد والحاكم وصححه. وزدت ما بين القوسين من الخبر ، وهو ساقط من المخطوطة والمطبوعة.

(11/86)

أنه كان صِيد من أجله= وإذنه في كل ما أذن في أكله منه، من أجل أنه لم يكن صِيد لمحرم ولا صاده محرم، فيصح معنى الخبرين كليهما.

* * *

واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله:"وحرم عليك صيد البر ما دمتم حرمًا" .

فقال بعضهم:"صيد البر"، كل ما كان يعيش في البرّ والبحر، وإنما"صيد البحر"، ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه

* ذكر من قال ذلك:

12773 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = ، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، قال: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصده، (1) وما كان حياته في الماء فذاك. (2)

12774 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الحجاج، عن عطاء قال : ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه، نحو السلحفاة والسرطان والضفادع.

12775 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن عطاء قال : كل شيء عاش في البر والبحر فأصابه المحرم، فعليه الكفارة.

12776 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال : خرجنا

__________

(1) في المطبوعة: "لا تصيده" وفي المخطوطة: "ولا تصده" وهذا صواب قراءتها.

(2) الأثر: 12773- في المخطوطة: "هل كان حياته في الماء فذاك" ولا أدري ما"وهل" هنا وما في المطبوعة أشبه بالصواب. وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 332/ بمثل ما في المطبوعة ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(11/87)

حجاجًا معنا رجلٌ من أهل السَّواد معه شُصُوص طير ماءٍ، فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا. (1)

12777 - وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت يزيد بن أبي زياد قال ، حدثنا حجاج، عن عطاء: أنه كَرِه للمحرم أن يذبح الدجاج الزِّنجي، لأن له أصلا في البر. (2)

* * *

وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر. (3)

* ذكر من قال ذلك:

12778- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال، ابن جريج أخبرناه، قال : سألت عطاء عن ابن الماء، أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده.

12779 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن عطاء بن أبي رباح قال، أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ، فهو منه.

* * *

__________

(1) الأثر: 12776-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مضى قريبا برقم: 12740 ، وكان في حفظ يزيد شيء بعد ما كبر.

و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" روى عن أبيه وعكرمة. وروى عنه يزيد بن أبي زياد. وهو ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الملك عن سعيد بن جبير" وهو خطأ محض.

(2) الأثر: 12777- هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى" وهذا إشعار بأنه سيروي الحديث السالف عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه ولكن اختلف الأمر جدا. فإذا هو عن"حجاج عن عطاء" وإذا معناه بمعزل عن معنى الحديث الذي قبله ، بل هو بمعنى الحديث رقم: 12775 وعن حجاج عن عطاء أيضا ولكن ذلك من رواية"ابن حميد" لا من رواية"أبي كريب" فتبين بذلك أنه ليس يصح أن يكون هذا الأخير قد تأخر عن مكانه. فأخشى أن يكون الناسخ قد اضطرب فاضطرب تصحيح هذا الموضع.

(3) في المخطوطة: "ما كان أكثر كونه في البر" بزيادة"أكثر" هنا ، وهو لا يصح.

(11/88)

القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) }

قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه.

يقول تعالى ذكره: واخشوا الله، أيها الناس، واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه (1) وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي غيرها، فإنّ لله مصيرَكم ومرجعَكم، (2) فيعاقبكم بمعصيتكم إياه، ومجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له.

* * *

القول في تأويل قوله : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، (3) ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم="والشهر الحرام والهدي والقلائد"، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره، وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم.

* * *

و"الكعبة"، سميت فيما قيل"كعبة" لتربيعها.

* * *

__________

(1) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).

(2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف 4: 228 /229 ، 6/ 9 : 425.

(3) انظر تفسير"جعل" فيما سلف 3: 18.

(11/89)

* ذكر من قال ذلك:

12780 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت"الكعبة"، لأنها مربعة.

12781 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدب، عن النضر بن عربي، عن عكرمة قال : إنما سميت"الكعبة"، لتربيعها. (1)

* * *

وقيل"قيامًا للناس" بالياء، وهو من ذوات الواو، لكسرة القاف، وهي"فاء" الفعل، فجعلت"العين" منه بالكسرة"ياء"، كما قيل في مصدر:"قمت""قيامًا" و"صمت""صيامًا"، فحوّلت"العين" من الفعل: وهي"واو""ياء" لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل:"قمت قوامًا"، و"صمت صِوَامًا"، وكذلك قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، فحوّلت، واوها ياء، إذ هي"قوام". (2)

وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز: (3)

قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين (4)

فجاء به بالواو على أصله.

* * *

وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، (5) بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه.

__________

(1) الأثر: 12781-"هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي""أبو النضر" الإمام الحافظ مضى برقم: 184 ، 8239.

و"أبو سعيد المؤدب" هو: "محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي" ثقة مأمون مضى برقم 8239 ، 12310.

(2) انظر تفسير"قيام" فيما سلف 7: 568 ، 569.

(3) هو حميد الأرقط.

(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 177.

(5) في المطبوعة: "يحترم ذلك" وصوابه من المخطوطة وفي المخطوطة: "ويعطيه" وصوابه ما في المطبوعة.

(11/90)

وأما"الكعبة"، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى"حرامًا"، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، (1) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (2)

* * *

وقوله:"والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا.

* * *

و"الناس" الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم.

فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم.

* * *

وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة.

* * *

وبمثل الذي قلنا في تأويل"القوام"، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، القوام، على نحو ما قلنا.

12782 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قوامًا للناس.

12783 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن سعيد بن جبير:"قيامًا للناس"، قال: صلاحًا لدينهم.

12784- حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: حين لا

__________

(1) "الخلي": الرطب الرقيق من النبات. و"اختلى الخلي": جزه وقطعه ونزعه. و"عضد الشجرة" قطعها.

(2) انظر ما سلف 3: 45- 51.

(11/91)

يرْجون جنة ولا يخافون نارًا، فشدّد الله ذلك بالإسلام.

12785- حدثني هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: شدةً لدينهم.

12786- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جيير، مثله.

12787 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها.

12788 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يعني قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم.

12789 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس، هو قوام أمرهم.

* * *

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، (1) فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن"القوام" للشيء، هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، (2) لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم

__________

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "من قائلها" بالإفراد وما أثبته أولى بالصحة.

(2) في المطبوعة: "كالملك" والصواب الجيد ما في المخطوطة.

(11/92)

في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

12790 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، (1) فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، (2) حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية.

12791- حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ.

__________

(1) عندي أن الصواب"ألقاها الله" باللام في هذا الموضع ، والذي يليه ، ولكن هكذا هي في المخطوطة.

(2) "الإذخر": حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب ويطحن فيدخل في الطيب. و"اللحاء" قشر الشجر. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم): شجر من الطلح.

(11/93)

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

12792 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والقلائد"، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ، فيعرفون بذلك.

* * *

وقد أتينا على البيان عن ذكر:"الشهر الحرام"= و"الهدي"= و"القلائد"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)

* * *

القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم، علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء"عليم"، لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم، وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته. (2)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"الشهر الحرام" فيما سلف 3: 575- 579/4: 299 ، 300 وما بعدها/9: 466= وتفسير"الهدي" فيما سلف 4: 24 ، 25/9: 466/11: 22= وتفسير"القلائد" فيما سلف 9: 467- 470.

(2) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(11/94)

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)

القول في تأويل قوله : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: اعلموا، أيها الناس، أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخف عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يُحْصيها عليكم لمجازيكم بها، شديد عقابُه من عصاه وتمرَّد عليه، على معصيته إياه= وهو غفور لذنوب من أطاعه وأنابَ إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها= رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها. (1)

* * *

القول في تأويل قوله : { مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) }

قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد. يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، أيها الناس، بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم= إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا، ثم إلينا الثواب على الطاعة، (2) وعلينا العقاب على المعصية ="والله يعلم ما تبدون وما تكتمون"، يقول: وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به= من المعاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به، (3) لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق

__________

(1) انظر تفسير"شديد العقاب" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(2) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف 10: 575.

(3) في المطبوعة: "من المعاصي التارك العمل" أسقط ما كان في المخطوطة ، وكان فيها: "من المعاصي التي ، رسالتنا" هكذا كتبت وبين الكلام بياض ورسم" ، " بالحمرة. فآثرت قراءتها كما أثبتها.

(11/95)

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

به بلسانه="وما تكتمون"، يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق. (1)

يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك، لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس، مما في السموات وما في الأرض، وبيده الثواب والعقاب= فحقيق أن يُتَّقى، وأن يُطاع فلا يعصى.

* * *

القول في تأويل قوله : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي (2) = ولو أعجبك كثرة الخبيث"، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصى فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته= وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا.

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصى الله فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم، كما:-

__________

(1) انظر تفسير"تبدون" و"تكتمون" في فهارس اللغة"بدا" و"كتم".

(2) انظر تفسير: "استوى" فيما سلف 9: 85= وتفسير"الخبيث" فيما سلف 5: 558 ، 559/7: 424 ، 527= وتفسير"الطيب" فيما سلف 10: 513 تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

(11/96)

12793 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي،"لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة"الخبيث"، قال: الخبيث، هم المشركون= و"الطيب"، هم المؤمنون.

* * *

وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به بعض أتباعه، يدل على ذلك قوله:"فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون"

* * *

القول في تأويل قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث، فتصيروا منهم="يا أولي الألباب"، يعني بذلك أهلَ العقول والحِجَى، الذين عقلوا عن الله آياته، وعرفوا مواقع حججه. (1) ="لعلكم تفلحون" ، يقول: اتقوا الله لتفلحوا، أي: كي تنجحوا في طلبكم ما عنده. (2)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"أولي الألباب" فيما سلف 3 : 383/ 4 : 162 /5 : 580 /6 : 211 وفي التعليق على المواضع السالفة خطأ ، يصحح من هنا.

(2) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 10: 564 تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(11/97)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانًا له أحيانًا، واستهزاءً أحيانًا. فيقول له بعضهم:"من أبي"؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته:"أين ناقتي"؟ فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياءَ من ذلك= كمسألة عبد الله بن حُذافة إياه من أبوه="إن تبد لكم تسؤكم"، يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه، ساءكم إبداؤها وإظهارها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* ذكر الرواية بذلك:

12794 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن بُغَيل قال ، حدثنا زهير بن معاوية قال ، حدثنا أبو الجويرية قال : قال ابن عباس لأعرابيّ من بني سليم: هل تدري فيما أنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" ؟= حتى فرغ من الآية، فقال: كان قوم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل:"من أبي"؟ = والرجل تضل ناقته فيقول:"أين ناقتي"؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. (1)

__________

(1) الأثر: 12794-"حفص بن بغيل الهمداني المرهبي" ، ثقة مضى برقم: 9639 ، وكان في المطبوعة هنا"بعض بني نفيل" ، وفي المخطوطة: "بعض بن نفيل" ، وكله خطأ ، وكذلك جاء خطأ في فتح الباري"حفص بن نفيل" بالفاء ، وهو"بغيل" بالغين ، على التصغير.

و"زهير بن معاوية الجعفي" ، هو"أبو خيثمة". ثقة ثبت ، روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 2144 ، 2222.

و"أبو الجويرية" هو"حطان بن خفاف بن زهير بن عبد الله بن رمح بن عرعرة الجعفي" ، روى عن ابن عباس. ثقة ، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة". مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1109 ، وابن أبي حاتم 1/2/304.

وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 212) من طريق الفضل بن سهل ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية ، عن أبي الجويرية ، بنحوه. وأشار إلى إسناد أبي جعفر ، الحافظ ابن حجر في شرح الحديث. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 250 ، وذكر حديث البخاري: "تفرد به البخاري".

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 334 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه.

(11/98)

12795 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس قال : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوه بالمسألة، (1) فصعد المنبر ذات يوم، فقال:" لا تسألوني عن شيء إلا بيَّنْتُ لكم! (2) قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالا فأرى كل إنسان لافًّا ثوبَه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحَى يُدعى إلى غير أبيه، (3) فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال:"أبوك حذافة"! قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم أرَ الشرّ والخيرَ كاليوم قط! (4) إنه صُوِّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط ! = وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (5)

__________

(1) "أحفاه بالمسألة" و"أحفى السؤال": ألح عليه ، وأكثر الطلب واستقصى في السؤال.

(2) في المطبوعة: "إلا بينته" بالضمير كما في صحيح مسلم وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب أيضا.

(3) يقال: "أنشأ فلان يفعل كذا" أي: أقبل يفعل أو ابتدأ يفعل وهو هنا في هذا الموضع والذي يليه ، أحسنه أن يفسر: "أقبل"= و"لاحى الرجل أخاه": إذا نازعه وسابه وشاتمه.

(4) في المطبوعة: "لم أر في الشر والخير" بزيادة"في" كما في مسلم: "لم أر كاليوم قط في الخير والشر" واتبعت المخطوطة فحذفت"في".

(5) الأثر: 12795-"أبو عامر" هو العقدي: "عبد الملك بن عمرو القيسي" ، ثقة مأمون ، مضى مرارا كثيرة جدا.

و"أبو داود" هو الطيالسي.

و"هشام" هو الدستوائي.

وهذا الخبر ، رواه مسلم في صحيحه من طرق (15: 114 ، 115) ، من طريق: يوسف ابن حماد المعنى ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، ثم أشار إلى روايته من طريق يحيى بن حبيب الحارثي ، عن خالد بن الحارث ، عن هشام= ومن طريق محمد بن بشار ، عن محمد ابن أبي عدي ، عن هشام. وهو مثل طريق أبي جعفر. وسيأتي أيضًا برقم: 12797. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 334 ، واقتصر على نسبته لابن جرير ، وابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وقصر فلم ينسبه إلى صحيح مسلم.

(11/99)

12796 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني موسى بن أنس قال ، سمعت أنسًا يقول، قال رجل: يا رسول الله، من أبي؟ قال:"أبوك فلان"! قال: فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (1)

12797- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: فحدَّثنا أن أنس بن مالك حدَّثهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفَوْه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال:"لا تسألوني اليومَ عن شيء إلا بينته لكم! فأشفقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه

__________

(1) الأثر: 12796="محمد بن معمر بن ربعي القيسي البحراني" ، شيخ الطبري روى عنه أصحاب الكتب الستة ، ومضى برقم: 241 ، 3056 ، 5393.

و"روح بن عبادة القيسي" ، مضى برقم: 3015 ، 3355 ، 3912.

و"موسى بن أنس بن مالك الأنصاري" ، تابعي ثقة قليل الحديث ، مضى برقم: 11475.

وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه من طريقين عن شعبة ، من طريق منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، عن أبيه ، عن شعبة (الفتح 8: 210- 212) مطولا ، وأشار بعده إلى رواية النضر ، وروح بن عبادة ، عن شعبة= ثم رواه من طريق محمد بن عبد الرحيم ، عن روح ، عن شعبة ، مختصرًا كالذي هنا (الفتح 13: 230) وخرجه الحافظ ابن حجر في الموضعين.

ورواه مسلم في صحيحه (15: 112) ، من طريق محمد بن معمر ، بمثل رواية أبي جعفر.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 334 ، وزاد نسبته إلى الترمذي ، والنسائي ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(11/100)

وسلم أن يكون بين يديه أمر قد حضر، فجعلتُ لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كُلا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجلٌ كان يُلاحَى فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال:"أبوك حذافة"! قال: ثم قام عمر = (1) أو قال: فأنشأ عمر = فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا عائذًا بالله = أو قال: أعوذ بالله = من سوء الفتن! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صُوِّرت لي الجنة والنارُ حتى رأيتهما دون الحائط. (2)

12798 - حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع قالا حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا ابن عون، قال : سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله:"ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: ذاك يوم قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به! قال: فقام رجل، فكره المسلمون مَقامه يومئذ، فقال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك حذافة، قال: فنزلت هذه الآية. (3)

12799 - حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: نزلت:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم

__________

(1) في المطبوعة: "ثم قال عمر" غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب.

(2) الأثر: 12797- هو مكرر الأثر رقم: 12795 بنحو لفظه ورواه أبو جعفر هنا من طريق سعيد عن قتادة وهي طريق مسلم التي رواها في صحيحه ، كما أشرت إليه في تخريج الخبر رقم: 12795.

(3) الأثر: 12798-"أحمد بن هشام" شيخ أبي جعفر ، لم أستطع أن أحدد من يكون ، وهناك: "أحمد بن هشام بن بهرام" ، "أبو عبد الله المدائني" مترجم في تاريخ بغداد 5: 197.

و"أحمد بن هشام بن حميد" ، "أبو بكر المصري" ، سكن البصرة ، وحدث بها. مترجم أيضًا في تاريخ بغداد 5: 198.

وأما "معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري" ، "أبو المثنى" ، الحافظ البصري ، فقد سلف برقم: 10482.

(11/101)

تسؤكم"، في رجل قال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك فلان.

12800- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني سفيان، عن معمر، عن قتادة قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه، فقام مغضبًا خطيبًا فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي إلا حدثتكم! فقام رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة. واشتدّ غضبه وقال: سلوني! فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم، فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا= قال معمر، قال الزهري، قال أنس مثل ذلك: فجثا عمر على ركبتيه= (1) فقال: رضينا بالله ربًّا= وبالإسلام دينًا= وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والذي نفسي بيده، لقد صُوِّرت لي الجنةُ والنارُ آنفًا في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر= قال الزهري، فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعقّ منك قط! أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس!! فقال: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقتُه. (2)

12801 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فقام

__________

(1) هذه إشارة من سفيان إلى رواية يونس عن الزهري ورواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: "برك عمر "أو" فبرك عمر على ركبتيه" كما في مسلم 15: 113 ، والبخاري (الفتح 13: 230).

(2) الأثر: 12800- هذا الخبر من رواية سفيان ، عن معمر ، عن قتادة عن أنس= ومن روايته عن معمر ، عن الزهري ، عن أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 13: 230) من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، وأخرجه مسلم في صحيحه (15: 112) من يونس ، عن الزهري ، ثم أشار في (15 : 114) إلى طريق عبد الرازق ، عن معمر. أما خبر طريق قتادة ، عن أنس ، فقد مضى برقم: 12795 ، 12797.

*وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 249.

(11/102)

خطيبًا فقال: سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به! فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له"عبد الله بن حذافة"، وكان يُطْعن فيه، قال : فقال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك فلان! فدعاه لأبيه. فقام إليه عمر فقبَّل رجله وقال: يا رسولَ الله، رضينا بالله ربًّا، وبك نبيًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك! فلم يزل به حتى رَضِيَ، فيومئذ قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر". (1)

12802 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارٌّ وجهه! حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة ! فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشِرْك، والله يعلمُ من آباؤنا! قال: فسكن غضبه، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (2)

* * *

__________

(1) الأثر: 12801- روى الحاكم في المستدرك 3: 631 من طريق نعيم بن حماد عن هشيم عن سيار عن أبي وائل:

"أن عبد الله بن حذافة بن قيس قال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبُوك حُذافة ، الولد للفراش وللعَاهر الحجَرُ. قال: لو دعوتتي لحبشيٍّ لاتبعته! فقالت له أُمُّه: لقد عَرَّضتني! فقال: إنِّي أردتُ أن أستريح!".

(2) الأثر: 12802-"الحارث" هو"الحارث بن أبي أسامة" منسوبًا إلى جده ، وهو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي" ، مضت ترجمته برقم: 10295.

و"عبد العزيز" هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" ، من مولد سعيد بن العاص ، كان كذابًا يضع الأحاديث ، وذمه يطول. ومضى برقم: 10295.

و"قيس" هو"قيس بن الربيع الأسدي" ، وهو ثقة ، ولكنهم ضعفوه ، ومضى أيضًا برقم 10295.

و"أبو حصين" هو"عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي" ، روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 642 643 ، 8961 ، 8962.

و"أبو صالح" هو"ذكوان السمان" ، من أجل الناس وأوثقهم. سلف مرارًا.

وإسناد هذا الخبر إلى"قيس بن الربيع" ، إسناد هالك ، ولكن ابن كثير في تفسيره 2: 249 ، ساقه عن هذا الموضع من الطبري ثم قال: "إسناده جيد" ، وكيف ، وفيه"عبد العزيز بن أبان"؟

وذكر هذا الخبر ، الجصاص في أحكام القرآن 2: 483 ، يقول: "روى قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي هريرة" ، ولم يذكر إسناده.

(11/103)

وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ.

* ذكر من قال ذلك:

12803 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا منصور بن وردان الأسدي قال، حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، لما نزلت هذه الآية:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ) سورة آل عمران :97]، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: أفي كل عام؟ فسكت. ثم قال: لا ولو قلت:"نعم" لوجبت"! فأنزل الله هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (1)

__________

(1) الأثر: 12803-"منصور بن وردان الأسدي" العطار الكوفي ، شيخ أحمد. روى عن فطر بن خليفة ، وعلي بن عبد الأعلى. ذكره ابن حبان في الثقات ، ووثقه أحمد. وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه". مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/347 ، وابن أبي حاتم 4/1/180.

"على بن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي" ، أبو الحسن الأحول. وثقه البخاري والترمذي ، وقال الدارقطني: "ليس بالقوي" مترجم ، في التهذيب.

وهذا الخبر ، رواه أحمد في المسند رقم 905 ، من طريق منصور بن وردان الأسدي ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البختري ، عن علي قال ، بمثل ما في رواية أبي جعفر غير موصولة.

ورواه الترمذي في كتاب التفسير عن أبي سعيد ، عن منصور بن وردان ، بإسناده بمثل رواية أحمد ، وقال: "هذا حديث حسن غريب من حديث علي".

ورواه الحاكم في المستدرك 2: 293 ، 294 ، من طريق أحمد بن موسى بن إسحق التميمي ، عن مخول بن إبراهيم النهدي ، عن منصور بن وردان. ولم يقل فيه الحاكم شيئًا ، وقال الذهبي في تعليقه: "مخول: رافضي ، = وعبد الأعلى ، هو ابن عامر ، ضعفه أحمد".

ورواه ابن ماجه في السنن رقم: 2884 من طريق محمد بن عبد الله بن نمير ، وعلي بن محمد ، عن منصور بن وردان ، بمثله.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 195/3: 250 ، وذكر خبر الترمذي وما قاله ثم قال: "وفيما قال نظر. لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي".

و"قال أخي السيد أحمد في شرح المسند (رقم: 905): "إسناده ضعيف ، لانقطاعه ، ولضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي".

(11/104)

12804 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن ابن عياض، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،"إن الله كتب عليكم الحج! فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: من السائل؟ فقال: فلان! فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم! فأنزل الله هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، حتى ختم الآية. (1)

12805 - حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي قال ، أخبرنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد قال ، سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، كتب الله عليكم

__________

(1) الأثر: 12804-"عبد الرحيم بن سليمان الطائي الرازي" ، الأشل. ثقة مضى برقم: 2028 ، 2030 ، 2254 ، 8156 ، 8157 ، 8161. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الرحمن بن سليمان" ، والصواب من تفسير ابن كثير.

و"إبراهيم بن مسلم الهجري" ضعيف ، لين الحديث ، مترجم في الكبير للبخاري 1/1/326 ، وضعفه ، وابن أبي حاتم 1/1/131 ، وميزان الاعتدال للذهبي 1: 31.

و"أبو عياض" هو: "عمرو بن الأسود العنسي" ، ويقال: "عمير بن الأسود" ، ثقة ، مضى برقم: 11255. وكان في المطبوعة: "ابن عياض" ، والصواب من المخطوطة.

وهذا خبر ضعيف إسناده ، لضعف"إبراهيم بن مسلم الهجري".

ذكره الجصاص في أحكام القرآن 2: 483 ونقله ابن كثير في تفسيره عن هذا الموضع 3: 250.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 335 ، وزاد نسبته إلى الفريابي وابن مردويه.

(11/105)

الحج. فقام مِحْصن الأسدي فقال: أفي كل عام، يا رسول الله؟ فقال:"أمَا إنّي لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عنى ما سكتُّ عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، إلى آخر الآية. (1)

12806- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم= فذكر مثله، إلا أنه قام: فقام عُكَّاشة بن محصن الأسدي. (2)

12807 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر قال ، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان

__________

(1) الأثر: 12805-"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق العبدي" ثقة ، مضى برقم: 1591 ، 2575 ، 9951.

وأبوه "علي بن الحسن بن شقيق" ثقة أيضًا مضى برقم: 1591 ، 2575.

وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن الحسين بن شقيق" ، وهو خطأ.

و"الحسين بن واقد المروزي" ، ثقة ، مضى برقم: 4810 ، 6311.

و"محمد بن زياد القرشي الجمحي" أبو الحارث ، روى له أصحاب الكتب الستة ، روى عن أبي هريرة وعائشة ، وعبد الله بن الزبير. مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/82 ، وابن أبي حاتم 3/2/257.

وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده مختصرًا ومطولا. رواه مختصرًا من طريق محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، وليس فيه ذكر الحج ، ولا السؤال ، ولا ذكر السائل ، في المسند 2: 447 ، 448 ، من طريق وكيع ، عن حماد ، عن محمد بن زياد. ثم رواه: 2: 467 ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد.

ثم رواه مطولا فيه ذكر الحج ، والسؤال عنه ، والسائل"رجل" ، لم يبين في الخبر اسمه (2: 508) من طريق يزيد بن هرون ، عن الربيع بن مسلم القرشي ، عن محمد بن زياد ، وليس فيه ذكر الآية ونزولها.

ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه (9: 100) ، عن زهير بن حرب ، عن يزيد بن هرون بمثله.

ورواه البخاري مختصرًا أيضًا (الفتح 13: 219- 224) من طريق إسمعيل بن أبي أويس ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة.

ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 325 ، 326 من طريق عبيد الله بن موسى ، عن الربيع بن مسلم القرشي ، ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن يزيد بن هرون.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 335 ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ ، وابن مردويه ، بمثل رواية أبي جعفر هنا.

وفي جميع ذلك جاء"فقال رجل" ، مبهمًا ليس فيه التصريح باسمه ، وقال النووي في شرحه على مسلم (9: 101): "هذا الرجل هو الأقرع بن حابس ، كذا جاء مبينًا في غير هذه الرواية والرواية التي جاء فيها مبينا هي من حديث ابن عباس ، وفيها: "فقام الأقرع بن حابس فقال" ، رواها أحمد في مسنده من طرق عن ابن شهاب الزهري ، عن أبي سنان ، عن ابن عباس ، وهي رقم: 2304 ، 2642 ، 3303 ، 3510 ، 3520 وكذلك رواها البيهقي في السنن الكبرى 4: 326.

وقد أشار الحافظ ابن حجر في الفتح (13: 220) إلى حديث مسلم ، وما فيه من زيادة السؤال عن الحج ، ثم قال: "وأخرجه الدارقطني مختصرًا وزاد فيه"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"= وله شاهد عن ابن عباس ، عند الطبري في التفسير". قلت: يعني الأثر السالف رقم: 12794 ، لا هذا الأثر. ولم يشر الحافظ إلى خبر الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد.

وقد اختلف على"الحسين بن واقد" في اسم الرجل الذي سأل ، فجاء في هذا الخبر"محصن الأسدي" ، وفي الذي يليه"عكاشة بن محصن الأسدي" ، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره 3: 250 ، 251 ، الخبر السالف رقم 12804 ، ثم قال: "ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة وقال: فقام محصن الأسدي ، وفي رواية من هذا الطريق: عكاشة بن محصن ، وهو أشبه" ، ولم يزد على ذلك.

وهذا اختلاف في اسم الرجل"الأقرع بن حابس" ، أو "عكاشة بن محصن الأسدي" ، وأوثقهما أن يكون"الأقرع بن حابس" ، فإنها جاءت بأسانيد صحاح لا شك في صحتها. أما علة ما جاء في رواية أبي جعفر ، فذلك أن"الحسين بن واقد المروزي" ، ثقة ، قال النسائي: "لا بأس به" ووثقه ابن معين. ولكن قال ابن حبان: "من خيار الناس ، وربما أخطأ في الروايات" ، وقال أحمد: "في أحاديثه زيادة ، ما أدري أي شيء هي! ونفض يده" ، وقال الساجي: "فيه نظر ، وهو صدوق ، يهم".

و"رواية الثقات الحفاظ عن"محمد بن زياد ، عن أبي هريرة" ، لم يذكر فيها"عكاشة ابن محصن" ، ولم يبين الرجل ، ولكن الحسين بن واقد ، رواه عن محمد بن زياد ، فبين الرجل ، وخالف البيان الذي روي من طرق صحاح عن ابن عباس أنه"الأقرع بن حابس" ، فهذا من فعل"الحسين بن واقد" ، ييد ما قاله أحمد وغيره: أن في أحاديثه زيادة لا يدري أي شيء هي! وكتبه محمود محمد شاكر.

(2) الأثر: 12806- هو مكرر الأثر السالف ، وقد ذكرت القول فيه هناك.

(11/106)

بن عمرو قال ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: كتب عليكم الحج!" فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فغَلِقَ كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكتَ (1) واستغضب، (2) فمكث طويلا ثم تكلم فقال: من السائل؟ فقال الأعرابي: أنا ذا! فقال: ويحك! ماذا يُؤْمِنك أن قول"نعم"، ولو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت لكفرتم! ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحَرَج، (3) والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرَّمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه! قال: فأنزل الله تعالى عند ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء"، إلى آخر الآية. (4)

12808 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، وذلك أن رسول الله أذّن في الناس فقال:"يا قوم، كتب عليكم الحجّ!" فقام رجل من بني أسد فقال:

__________

(1) في المطبوعة وابن كثير: "فعلا كلام رسول الله" ، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة"فعلن" كأن آخرها"نون" وهي غير منقوطة. وفي مجمع الزوائد: "فعلق" بالعين المهملة ، وأرجح أن الصواب ما أثبته. يقال: "غلق فلان ، في حدته" (بفتح الغين وكسر اللام) أي: نشب ، قال شمر: "يقال لكل شيء نشب في شيء فلزمه: قد غلق" ، ومنه: "استغلق الرجل": إذا ارتج عليه ولم يتكلم ، يعني أنه انقطع كلامه. فكأن هذا هو الصواب إن شاء الله.

وقوله بعد: "وأسكت" (بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الكاف) بالبناء للمعلوم فعل لازم ، بمعنى سكت. قال اللحياني: "يقال تكلم الرجل ثم سكت -بغير ألف- فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قيل: "أسكت" ، وقيل": "أسكت" أطرق ، من فكرة أو داء أو فرق. وفسروا الخبر أنه: "أعرض ولم يتكلم". وبعض الخبر في اللسان (سكت).

(2) في المطبوعة وابن كثير زيادة: "وأغضب واستغضب" ، لا أدري من أين جاءا بها. وليست"وأغضب" في المخطوطة. وقوله: "واستغضب" ضبطت في المخطوطة بفتحة على الضاد ، وكذلك ضبطت في لسان العرب (سكت) ولم يذكر أصحاب اللغة: "استغضب" لازمًا ، بل ذكروا"غضب" و"أغضبته فتغضبب" ، ولكن ما جاء هنا له شاهد من قياس اللغة لا يرد. فهذا مما يزاد على نص المعاجم. ولو قرئ: "استغضب" بالبناء للمجهول ، لكان جيدًا أيضًا وهو قياس محض"استغضب ، فغضب".

(3) قوله: "أئمة الحرج" ، يعني الذين يبتدئون السؤال عن أشياء ، تحرم على الناس من أجل سؤالهم ، فهم كالأئمة الذين تقدموا الناس ، فألزموهم الحرج. و"الحرج" أضيق الضيق.

(4) الأثر: 12807-"زكريا بن يحيى بن أبان المصري" ، روى عنه أبو جعفر آنفًا رقم: 5973 ، وقال أخي السيد أحمد هناك: "لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب" ، وصدق ، لم يرد اسمه مبينًا كما جاء هنا وهناك. ولكن قد روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه 1: 39 قال: "حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا ابن عفير" ، ثم روى عنه في المنتخب من كتاب"ذيل المذيل" (13: 39): "حدثني زكرياء بن يحيى بن أبان المصري ، قال ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث" ، ثم في (13: 63): "حدثني زكرياء بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا أحمد بن أشكاب" ثم في (13: 109): "حدثني زكرياء بن يحيى قال ، حدثنا أحمد بن يونس" فالذين حدث عنهم كلهم مصريون.

وأخشى أن يكون هو"زكريا بن يحيى الوقار المصري" ، "أبو يحيى" مترجم في لسان الميزان 2: 485 ، وابن أبي حاتم 1/2/601 وميزان الاعتدال 1: 350 ، روى عن عبد الله بن وهب المصري فمن بعده ، وعن زكريا بن يحيى الأدم المصري ، والقاسم بن كثير المصري. وولد زكريا بن يحيى الوقار سنة 174 ، ومات سنة 254 ، فهو مظنة أن يروى عنه أبو جعفر ، كان من الصلحاء العباد الفقهاء ، ولكن قال ابن عدي: "يضع الحديث ، كذبه صالح جزرة. قال صالح: حدثنا زكريا الوقار ، وكان من الكذابين الكبار". وقال أيضًا: "رأيت مشايخ مصر يثنون على أبي يحيى في العبادة والاجتهاد والفضل ، وله حديث كثير ، بعضه مستقيم ، وبعضه موضوعات وكان هو يتهم بوضعها ، لأنه يروى عن قوم ثقات أحاديث موضوعة. والصالحون قد رسموا بهذا: أن يرووا أحاديث موضوعة ، ويتهم جماعة منهم بوضعها".

وأما "أبو زيد": "عبد الرحمن بن أبي الغمر" ، المصري الفقيه من شيوخ البخاري روى عنه خارج الصحيح ، مضى برقم: 4329. وفي المطبوعة: "بن أبي العمر" بالعين المهملة وهو خطأ.

و"أبو مطيع": "معاوية بن يحيى الشامي الأطرابلسي" ، ثقة ، وقال ابن معين: "ليس بذاك القوي" ، وقال الدارقطني: "ضعيف". مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/336 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن أبي حاتم 4/1/384 ، ووثقه أبو زرعة.

و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي" ، ثقة مضى برقم: 7009.

و"سليم بن عامر الكلاعي ، الخبائري" ، ثقة روى عن أبي أمامة ، وغيره من الصحابة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/126 ، وابن أبي حاتم 2/1/211.

وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا 3: 204 وقال: "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن جيد".

ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 251 عن هذا الموضع من التفسير ، وقال: "في إسناده ضعف" ، وكأن علة ضعفه عنده ، هو"زكريا بن يحيى بن أبان المصري" ، وفي إسناده في ابن كثير خطأ ، كتب"عبد العزيز بن أبي الغمر" ، وهو خطأ محض.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 335 ، وزاد نسبته لابن مردويه. ثم انظر ما ختم به أبو جعفر فصله هذا ص: 112 ، أن مخرج هذا الأخبار صحاح عنده.

(11/108)

يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، فقال: والذي نفس محمد بيده، لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تِبيانه. (1)

12809 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح قال ، حدثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم"، قال: لما أنزلت آية الحج، نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجُّوا. فقالوا: يا رسول الله، أعامًا واحدًا أم كل عام؟، فقال: لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت"كل عام"، لوجبت، ولو وجبت لكفرتم. ثم قال الله تعالى ذكره: (2) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" ، قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فوعظهم فانتهوا.

12810- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقيل:

__________

(1) الأثر: 12808- قد بين أخي السيد أحمد في الخبر رقم: 305 ، ضعف هذا الإسناد الدائر في التفسير وقال: "هو إسناد مسلسل بالضعف من أسرة واحدة" ثم شرح الإسناد شرحًا مفصلا.

(2) في المطبوعة أسقط"ثم" وهي لا غنى عنها في هذا الموضع وهي ثابتة في المخطوطة.

(11/110)

أواجب هو يا رسول الله كل عام؟ قال: لا لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما أطقتم، ولو لم تطيقوا لكفرتم. ثم قال: سلوني، فلا يسألني رجل في مجلسي هذا عن شيء إلا أخبرته، وإن سألني عن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقام عمر فقال: يا رسول، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله.

* * *

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي.

* ذكر من قال ذلك:

12811- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس"لا تسألوا عن أشياء"، قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك:"ما جعل الله من كذا ولا كذا؟ (1) = قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم فال:"قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين" . قال: فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس، فما لك تقول هذا؟ فقال: هَيْهَ. (2)

12812- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون،

__________

(1) القائل هو"خصيف".

(2) قوله: "هيه" هنا بفتح الهاء وسكون الياء وفتح الهاء الآخرة. يقال ذلك للشيء ينحى ويطرد. وأما "هيه" (بكسر الهاء الأولى وكسر الآخرة أو فتحها) فهي مثل"إيه" ، تقال أمرًا للرجل ، تستزيده من الحديث المعهود بينكما. وإشارة عكرمة بالطرد والتنحية ، لما كان بين مجاهد وعكرمة وانظر ما سلف من سوء رأي مجاهد في عكرمة في التعليق على رقم: 10445 ، 10469.

(11/111)

عن عكرمة قال : هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي= وقال سعيد بن جبير: هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ، كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه، ومسألة سائله إذ قال:"الله فرض عليكم الحج"، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل.

وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس، فقولٌ غير بعيد من الصواب، ولكنْ الأخبارُ المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القولَ به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسئلة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره الله لهم المسألة عن الحج:"أكل عام هو، أم عامًا واحدًا"؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل كلِّها، فأخبرَ كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله، وأجل غيره. (1) وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاحٌ، فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أولى.

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "أو أجل غيره" ، استجلب "أو" مكان"واو" العطف ، فأفسد الكلام إفسادًا.

(11/112)

القول في تأويل قوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه، من فرائض لم يفرضها الله عليهم، وتحليل أمور لهم يحلّلها لهم، وتحريم أشياء لم يحرِّمها عليهم قبلَ نزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابًا ولا وحيًا، لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيانٌ بوحي وتنزيل ساءكم، لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم إنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم، ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤونة وكلفة= وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي، كنتم من التقدم عليه في فُسْحة وسَعة= وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقًّا إلى ما كنتم ترونه باطلا ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم ببيان أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، (1) ليسَّر عليكم ما أنزلته إليه من بيان كتابي، وتأويل تنزيلي ووحيي (2)

وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:-

12813 - حدثنا به هناد بن السري قال ، حدثنا أبو معاوية، عن داود

__________

(1) في المطبوعة: "وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي" ، وهو كلام بلا معنى ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لا فيها: "سان" غير منقوطة ، فقرأها خلطأً.

(2) في المطبوعة"بين لكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي" ، وهي أيضًا كلام بلا معنى ، وكان في المخطوطة هكذا"لسس عليكم ما أنزلته إليه من اساي كتابي" ، وصواب قراءتها إن شاء الله هو ما أثبت.

(11/113)

بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال : إن الله تعالى ذكره فرَض فرائض فلا تضيِّعوها، ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. (1)

12814 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال : كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحلّ وحرَّم، فما أحلّ فاستحلُّوه، وما حرَّم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه. ثم يتلو:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" .

12815- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا الضحاك قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني عطاء، عن عبيد بن عمير أنه كان يقول: إنّ الله حرّم وأحلَّ، ثم ذكر نحوه.

* * *

وأما قوله:"عفا الله عنها" فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها، أن يؤاخذكم بها، أو يعاقبكم عليها، إن عرف منها توبتكم وإنابتكم (2) ="والله غفورٌ" ، يقول: والله ساتر ذنوب من تاب منها، فتارك أن يفضحه في الآخرة ="حليم" [ذو أناة عن ] أن يعاقبه بها، لتغمده التائبَ منها برحمته، وعفوه، عن عقوبته عليها. (3)

* * *

__________

(1) الأثر: 12813- هذا الخبر ، رواه أبو جعفر موقوفًا على أبي ثعلبة الخشني ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 336 مرفوعًا ، ونسبه لابن المنذر ، والحاكم وصححه. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 252 فقال: "وفي الحديث الصحيح أيضًا" ، ولم أستطع أن أجده في المستدرك ، أو غيره من الكتب الصحاح.

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرف" ، والسياق يقتضي: "إذ".

(3) انظر تفسير"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"حليم" فيما سلف 5: 117 ، 521/ 7: 327 وزدت ما بين القوسين من تفسير أبي جعفر السالف ، فإن الكلام بغير ذلك أو شبهه غير مستقيم كل الاستقامة.

(11/114)

قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

وبنحو الذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا. وذلك ما:-

12816 - حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تسألوا عن أشياء" ، يقول: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه. (1)

* * *

القول في تأويل قوله : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد سأل الآيات قومٌ من قبلكم، فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين، منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتُجَّ بها عليهم، وبرهانًا على صحة ما جُعلت برهانًا على تصحيحه= كقوم صالح الذين سألوا الآيةَ، فلما جاءتهم الناقة آيةً عقروها= وكالذين سألوا عيسى مائدة تنزل عليهم من السماء، فلما أعطوها كفروا بها، وما أشبه ذلك.

فحذَّر الله تعالى المؤمنين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها، فقال لهم: لا تسألوا الآيات، ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فقد سأل الآيات من قبلكم قومٌ، فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين، كالذي:-

__________

(1) الأثر: 12816- هو بعض الأثر السالف رقم: 12808.

(11/115)

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

12817 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال؛ حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك. (1)

12818 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"قد سألها قوم من قبلكم"، قد سأل الآيات قوم من قبلكم، وذلك حين قيل له: غيِّر لنا الصَّفا ذهبًا.

* * *

القول في تأويل قوله : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة، ولا سيَّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حَمَى حاميًا = ولكنكم الذين فعلتم ذلك، أيها الكفرة، فحرَّمتموه افتراء على ربكم، كالذي:-

12819 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن ابن الهاد = وحدثني يونس قال ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال ، حدثني الليث قال ، حدثني ابن الهاد =، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرُّ قُصْبَه في النار، وكان أول من سيَّب السُّيَّب". (2)

__________

(1) الأثر: 12817- هو بعض الأثر السالف رقم: 12808.

(2) الأثر: 12819- رواه أبو جعفر بإسنادين: أولهما"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري" ، ثقة مضى برقم: 2377.

وأبوه: "عبد الله بن عبد الحكم بن أعين" ، الفقيه المصري ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، و"شعيب بن الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري" ، ثقة ، مضى برقم: 3034 ، 5314

وأبوه"الليث بن سعد" الإمام الجليل القدر ، مضى برقم: 186 ، 187 ، 2072 ، 2584 ، 9507.

و"ابن الهاد" هو: "يزيد بن الهاد" منسوبا إلى جده ، وهو: "يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد" ثقة ، مضى برقم: 2031 ، 3034 ، 4314.

وأما الإسناد الثاني فتفسيره:

"يونس" هو"يونس بن عبد الأعلى الصدفي" ثقة مضى برقم: 1679 ، 3503 وغيرها.

و"عبد الله بن يوسف التنيسي الكلاعي" ثقة من شيوخ البخاري. مترجم في التهذيب.

وخبر أبي هريره هذا ، من طريق الليث بن سعد ، عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رواه أحمد في المسند رقم: 8773 ، وأشار إليه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 214) وقد رواه قبل من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب ، عن سعيد ، ورواه أحمد قبل ذلك منقطعا رقم: 7696 ، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي هريرة وقد استوفى أخي السيد أحمد في شرحه بيان ذلك. وأما مسلم فقد رواه في صحيحه 17: 189 من طريق صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب عن سعيد.

وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 253 ، وذكر رواية البخاري الآنفة: "قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت ، عن الزهري هكذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف ، وسكت ولم ينبه عليه= قال ابن كثير: وفيما قاله الحاكم نظر ، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن الزهري نفسه ، والله أعلم". وتفسير كلام ابن كثير أن ابن الهاد قد ثبت سماعه من الزهري. ولم يبين هو ما أراد أبو الحجاج بما قال ولم يفسره. ولم يشر الحافظ ابن حجر في الفتح (8: 214) إلى شيء مما قاله المزي.

وأما "القصب" (بضم فسكون): هي الأمعاء كلها. وأما قوله: "سيب السيب" فإن"سيب الدابة أو الناقة أو الشيء": تركه يسيب حيث شاء ، أي يذهب حيث شاء. وأما "السيب" (بضم السين وتشديد الياء المفتوحة) فهو جمع"سائبة" على مثال"نائحة ونوح" و"نائم ونوم" كما سلف في تعليقي على الأثر رقم: 10447 ، وشاهده رواه ابن هشام في سيرته هذا البيت (1: 93): حَوْلَ الوَصَائِل فِي شُرَيْفٍ ... حِقَّةٌ وَالحَامِيَاتُ ظُهُورُها

وَالسُّيَّبُ وتجمع"سائبة" أيضًا على"سوائب" وهو القياس. وقد جاء في إحدى روايتي صحيح مسلم (17: 189): "أول من سيب السيوب" (بضم السين والياء) وقال القاضي عياض في مشارق الأنوار: "أول من سيب السوائب ، وفي الرواية الأخرى: أول من سيب السيوب" ، ولم يبين ذلك. وبيانه أن"السيوب" جمع"سيب" (بفتح فسكون) مصدر سميت به"السائبة" وقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف في يوم الشورى: "وإن الحيلة بالنطق أبلغ من السيوب في الكلم" وفسروه تفسيرين ، الأول ما في لسان العرب: "السيوب: ما سيب وخلى فساب أي ذهب" والآخر ما قاله الزمخشري في الفائق: "السيوب مصدر: ساب كان قياسا جمع"سائب" و"سائبة" على"سيوب" فإن ما جاء مصدره على"فعول" كان جمع"فاعل" منه على"فعول" مثل"شاهد وشهود" و"قاعد وقعود" و"حاضر وحضور" وقد ذكرت ذلك في تعليق سالف وانظر شرح الشافية 2: 158. فهذا تفسير ما أغفله القاضي عياض ، والنووي في شرح صحيح مسلم.

وكان في المطبوعة: "أول من سيب السائبة" ، غير ما في المخطوطة وهو اطراح سيئ لأمانة العلم!! وكتبه محمود محمد شاكر.

(11/116)

12820 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا

(11/117)

محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم، رأيتُ عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: عسَى أن يضرّني شبهه، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أوّل من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي". (1)

12821 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد عرفت أوّلَ من بَحَر البحائر، رجلٌ من مُدْلج كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرّم ألبانهما وظهورَهما، وقال: هاتان لله! ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار يؤذِي أهل النار ريح قُصْبه. (2)

12822 - حدثنا هناد قال، حدثنا عَبْدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن فلان بن فلان بن خندف يجرّ قصْبه في النار، وهو أوّل من غيَّر دين إبراهيم، وسيب السائبة، وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون! فقال أكثم: يا رسول الله، أيضرني شبهه؟ قال:"لا لأنك مُسلم، وإنه كافر". (3)

__________

(1) الأثر: 12820-"محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي" روى له أصحاب الكتب الستة ، تابعي ثقة كثير الحديث مضى برقم: 4249.

و"أبو صالح" هو: "ذكوان السمان" ، تابعي ثقة. مضى مرارًا.

وأما "محمد بن إسحق" ، صاحب السيرة ، فقد مضى توثيق أخي السيد أحمد له في رقم: 221 وفي غيره من كتبه.

وهذا الخبر ساقه ابن كثير في تفسيره 3: 254 ، هو ورقم: 12822 ، وفي البداية والنهاية 2: 189 ، ثم قال"وليس هذان الطريقان في الكتب من هذا الوجه" يعني الصحاح وإلا فإن هذا الخبر ثابت بإسناد محمد بن إسحق في سيرة ابن هشام 1: 78 ، 79 وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب بغير إسناد ص: 55 وذكره ابن الأثير بإسناده 1: 123 ، 124 ، وابن حجر في الإصابة (ترجمة: أكثم بن الجون) ونسبه لابن أبي عروبة وابن مندة من طريق ابن إسحق وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 338 فخلط في تخريجه تخليطا شديدا فقال: "أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه" وإنما ذلك رقم: 12822 ، الآتي بعد. وسيأتي هذا الخبر مطولا من طريق أخرى رقم: 12827 ، وهو إسناد أبي جعفر الثاني في رواية سيرة ابن إسحق.

وقوله: "عسى أن يضرني شبهه" يعني: لعله يضرني شبهه ، يتخوف أن يكون ذلك. وفي المطبوعة: "أخشى أن يضرني شبهه" وهو مخالف للرواية ، وإنما اختلط عليه خط ناسخ المخطوطة إذ كتبها مختلطة: "تحتي" كأنه أراد أن يكتب شيئًا ، ثم عاد عليه حتى صار"عسى" منقوطة وبمثل ما في المطبوعة ، جاءني في الدر المنثور. وكثرة مثل ذلك دلتني على أن هذه النسخة المخطوطة التي ننشرها هي التي وقعت في يد السيوطي ، والصواب ما أثبته من السيرة ، ومن نقل عنها.

وكان في المخطوطة أيضًا: "وحمى الحمى" ، وهو خطأ محض ، صوابه من مراجع هذا الخبر.

(2) الأثر: 12821-"هشام بن سعد المدني""يتيم زيد بن أسلم" كان من أوثق الناس عن زيد وهو ثقة ، وتكلم فيه بعضهم مضى برقم: 5490. وهذا خبر مرسل.

وسيأتي من طريق معمر ، عن زيد بن أسلم برقم: 12824.

(3) الأثر: 12822-"عبدة" هو"عبدة بن سليمان الكلابي" ثقة مضى قريبا برقم: 12729. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبيدة" وهو خطأ صوابه في تفسير ابن كثير.

و"محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي" و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضيا أيضًا في مثل هذا الإسناد رقم: 12729 وهذا إسناد رجاله ثقات.

وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 4: 605 ، من طريق أبي حاتم الرازي ، عن محمد ابن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو وفيه"فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف" مصرحا ثم قال: "وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

وقد مر بك أن ابن كثير قال في تفسيره 3: 254 والبداية والنهاية 2: 189 ، أنه ليس في الكتب يعني الصحاح ولم يزد.

وأما الحافظ ابن حجر فخرجه في الإصابة (ترجمة أكثم بن الجون) من طريق أحمد بن حنبل ، عن محمد بن بشر العبدي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، بمثله ثم أشار إلى طريق الحاكم في المستدرك. ولكن أعياني أن أجد خبر أحمد في المسند.

وأما الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم فقد رواه في كتاب جمهرة الأنساب ص: 223 من طريق علي بن عمر الدارقطني عن الحسين بن إسمعيل القاضي المحاملي عن سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن محمد بن عمرو. ثم قال أبو محمد بعد سياقه أحاديث البخاري ومسلم وهذا الحديث وهي أربعة هذا ثالثها: "أما الحديث الأول والثالث والرابع ، ففي غاية الصحة والثبات" فحكم لهذا الخبر بالصحة.

وفي المطبوعة هنا: "عمرو بن فلان بن فلان بن فلان بن خندف""فلان" ثلاث مرات وهو مخالف لما في المخطوطة ، وخطأ بعد ذلك فإن ما بين"عمرو" و"خندف" اثنان لا ثلاثة. وهكذا في المخطوطة والمطبوعة: "لا لأنك مسلم" ولولا اتفاقهما لرجحت أن تكون: "لا إنك مسلم" كما في رواية غيره.

(11/118)

12823 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال : رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قُصْبه في النار، وهو أوّل من سيّب السوائب. (1)

12824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أوّل من سيب السوائب، وأوّل من غيَّر عهد إبراهيم! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجرّ قُصْبه في النار، يؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أوّل من بحر البحائر! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعدَ ذلك، فلقد رأيته في النار هو، وهما يعضّانه بأفواههما، ويخبطانه بأخفافهما. (2)

__________

(1) الأثر: 12823- هذا خبر مرسل كما ترى ، لم يرفعه عبد الرزاق.

(2) الأثر: 12824- هذا أيضًا خبر مرسل ، وهو طريق أخرى للخبر السالف رقم: 12821. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (8: 214 ، 215) ثم قال: "والأول أصح" ، يعني ذكر هذا الرجل من بني مدلج ، أنه أول من بحر البحائر ، وأن الصواب ما جاء في الأخبار الصحاح قبل ، أنه عمرو بن لحي.

و"بنو مدلج" هم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن اليأس ابن مضر بن نزار بن معد ليسوا من قريش. وكانت فيهم القيافة والعيافة ، منهم"مجزز المدلجي" الذي سر النبي صلى الله عليه وسلم بقيافته (جمهرة الأنساب: 176 ، 177).

(11/120)

و"البحيرة" الفعيلة من قول القائل:"بَحَرْت أُذن هذه الناقة"، إذا شقها،"أبحرُها بحرًا"، والناقة"مبحورة"، ثم تصرف"المفعولة" إلى"فعيلة"، فيقال:"هي بحيرة". وأما"البَحِرُ" من الإبل فهو الذي قد أصابه داءٌ من كثرة شرب الماء، يقال منه:"بَحِر البعيرُ يبحر بَحَرًا"، (1) ومنه قول الشاعر: (2)

لأعْلِطَنَّهُ وَسْمًا لا يُفَارَقُهُ ... كَمَا يُحَزُّ بِحَمْيِ المِيسَمِ البَحِرُ (3)

وبنحو الذي قلنا في معنى"البحيرة"، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

12825 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (4) أرأيت

__________

(1) هذه على وزن"فرح يفرح فرحًا".

(2) أعياني أن أجد قائله.

(3) سيأتي في التفسير 29: 19 (بولاق) لسان العرب (بحر)."علط البعير يعلطه علطًا" وسمه بالعلاط. و"العلاط" (بكسر العين): سمة في عرض عنق البعير ، فإذا كان في طول العنق فهو"السطاع" (بكسر السين). هذا تفسير اللغة أنه في العنق وأما أبو جعفر الطبري فقد قال في تفسيره (29: 19)"والعرب تقول: والله لأسمنك وسما لا يفارقك يريدون الأنف" ثم ذكر البيت وقال: "والنجر": داء يأخذ الإبل فتكوى على أنوفها. وذكر هناك بالنون والجيم كما أثبته وله وجه سيأتي إلا أني أخشى أن يكون الصواب هناك ، كما هو هنا بالباء والحاء ، وقوله: "بحمى الميسم". يقال: "حمى المسمار حميا وحموا": سخن في النار و"أحميت المسمار في النار إحماء". و"الميسم" المكواة التي يوسم بها الدواب. وأما "البحر" فقد فسره أبو جعفر ولكن الأزهري قال: "الداء الذي يصيب البعير فلا يروى من الماء هو النجر بالنون والجيم ، والبجر بالباء والجيم وأما البحر: فهو داء يورث السل".

وهذا البيت في هجاء رجل وإيعاده بالشر شرا يبقى أثره.

وكان في المطبوعة: "لأعطنك" بالكاف في آخره والصواب من المخطوطة ومما سيأتي في المطبوعة من التفسير (29: 19) ومن لسان العرب.

(4) في المطبوعة ، أسقط"له" وهي ثابته في المخطوطة: وهي صواب.

(11/121)

إبلك ألست تنتجها مسلَّمةً آذانُها، فتأخذ الموسى فتجْدَعها، تقول:"هذه بحيرة"، وتشق آذانها، تقولون:"هذه صَرْم"؟ قال: نعم! قال : فإن ساعدَ الله أشدّ، وموسَى الله أحدَ! كلّ مالك لك حلالٌ، لا يحرَّم عليك منه شيء. (1)

12826- حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال ، سمعت أبا الأحوص، عن أبيه قال أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تُنتَجُ إبل قومك صحاحًا آذانُها، فتعمد إلى الموسَى فتقطع آذانها فتقول:"هذه بُحْرٌ"، وتشقها أو تشق جلودها فتقول:"هذه صُرُمٌ"، فتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال: نعم! قال: فإن ما آتاك الله لك حِلّ، وساعد الله أشدّ، وموسى الله أحدّ = وربما قال: ساعدُ الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحدّ من موساك. (2)

__________

(1) الأثر: 12825- هذا الخبر رواه أبو جعفر بإسنادين هذا والذي يليه."عبد الحميد بن بيان القناد" شيخ أبي جعفر ، مضى مرارا.

و"محمد بن يزيد الكلاعي" الواسطي وثقه أحمد وهو من شيوخه مضى برقم: 11408.

و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي" ثقة مضى برقم: 5694 ، 5777.

و"أبو إسحق" هو السبيعي الإمام. مضى مرارا.

و"أبو الأحوص" هو: "عوف بن مالك بن نضلة الجشمي" تابعي ثقة ، مضى برقم: 6172.

وأبوه: "مالك بن نضلة بن خديج الجشمي" ويقال: "مالك بن عوف بن نضلة" وبهذا ترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 17. وأما في التاريخ الكبير للبخاري 4/1/303 ، فإني رأيت فيه: "مالك بن يقظة الخزاعي والد أبي الأحوص له صحبة". و"أبو الأحوص" المشهور هو"عوف بن مالك بن نضلة" فظني أن الذي في التاريخ خطأ فإني لم أجد هذا الاسم في الصحابة فيكون فيه خطأ في"يقظة" وهو"نضلة" وفي"الخزاعي" وهو: "الجشمي" والله أعلم.

وهذا الخبر جاء في المخطوطة كما أثبته وفي المطبوعة: "وتشق آذانها وتقول" بالإفراد فأثبت ما في المخطوطة.

وقوله: "مسلمة آذانها" أي: سليمة صحاحًا. وسأشرح ألفاظه في آخر الخبر الآتي وما كان من الخطأ في المطبوعة والمخطوطة في"صرم" بعد تخريجه هناك.

(2) الأثر: 12826- هذا الخبر ، مكرر الذي قبله.

*رواه من طريق شعبة ، عن أبي إسحق مطولا أبو داود الطيالسي في مسنده: 184 رقم: 1303.

*ورواه أحمد في المسند عن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحق= ثم من طريق عفان عن شعبة في المسند 3: 473.

*ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 10 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق.

*وخرجه ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم 3: 256 مطولا ولم ينسبه إلى غيره.

*وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 337 مطولا جدًا ونسبه إلى أحمد ، وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات. أما لفظه عند السيوطي فلا أدري لفظ من يكون ، فإنه ليس لفظ من ذكرت آنفا تخريج الخبر من كتبهم.

*ثم رواه أحمد في المسند 4: 136 ، 137 من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو ابن عمرو عن عمه أبي الأحوص عن أبيه بلفظ آخر مختلف كل الاختلاف.

*وهذا شرح غريب هذين الخبرين."نتج الناقة ينتجها نتجا" (على وزن: ضرب): إذا تولى نتاجها أي ولادها. وأما قوله في الخبر الثاني: "هل تنتج إبل قومك" فهو بالبناء للمجهول. يقال: "نتجت الناقة تنتج" (بالبناء للمجهول): إذا ولدت.

*و"جدع الأنف والأذن والشفة": إذا قطع بعض ذلك. وأما قوله: "هذه صرم" فقد كتبت في المخطوطة والمطبوعة في الخبرين"حرم" بالحاء وكذلك وقع في تفسير ابن كثير ، والصواب من المراجع التي ذكرتها ومن بيان كتب اللغة في تفسير هذا الخبر.

*وتقرأ"صرم" في الخبر الأول بفتح فسكون و"الصرم" القطع سماها المصرومة بالمصدر كما يدل على صواب ذلك من قراءته ما جاء في شرح اللفظ في لسان العرب مادة (صرب). وأما في الخبر الثاني فإن قوله: "هذه بحر" (بضم الباء والحاء) جمع"بحيرة" وقوله: "هذه صرم" (بضم الصاد والراء) جمع"صريمة" وهي التي قطعت أذنها وصرمت. وهذا صريح ما قاله صاحب اللسان في مادتي"صرم" و"صرب" والزمخشري في الفائق"صرب" وروى أحمد في المسند 4: 136 ، 137: "صرماء" ولم تشر إليها كتب اللغة. وأما الومخشري وصاحب اللسان فقد رويا: "وتقول: صربى" (على وزن سكرى). وقال في تفسيرها: كانوا إذا جدعوا البحيرة أعفوها من الحلب إلا للضيف فيجتمع اللبن في ضرعها من قولهم: "صرب اللبن في الضرع": إذا حقنه لا يحلبه. ورويا أنه يقال إن الباء مبدلة من الميم كقولهم"ضربة لازم ، ولازب" ، وأنه أصح التفسيرين.

(11/122)

وأما"السائبة": فإنها المسيَّبة المخلاة. وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه، فيحرِّم الانتفاع به على نفسه، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبدَه سائبةً ، فلا ينتفع به ولا بولائه. (1)

__________

(1) انظر تفسير"السائبة" فيما سلف 3: 386 تعليق: 1.

(11/123)

وأخرجت"المسيَّبة" بلفظ"السائبة"، كما قيل:"عيشة راضية"، بمعنى: مرضية.

* * *

وأما"الوصيلة"، فإن الأنثى من نَعَمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنًا بذكر وأنثى، قيل:"قد وصلت الأنثى أخاها"، بدفعها عنه الذبح، فسمَّوها"وَصيلة".

* * *

وأما"الحامي"، فإنه الفحل من النعم يُحْمَى ظهره من الركوب والانتفاع، بسبب تتابُعِ أولادٍ تحدُث من فِحْلته.

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء، وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك.

* ذكر الرواية بما قيل في ذلك:

12827 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، (1) عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ: أن أبا صالح السمان حدّثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعيّ: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به، ولا به منك! (2) فقال أكثم: أيضرّني شبهه يا نبيّ الله؟ قال: لا إنك مؤمن وهو كافر، (3) وإنه كان أوّل من غيَّر دين إسماعيل، ونصب الأوثان، وسيَّب السائبَ فيهم. (4)

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق" وهو خطأ محض كما ترى في تخريجه.

(2) مضى في الأثر: 12820 ، "فما رأيت رجلا" وهذه رواية أخرى.

(3) في المطبوعة: "لا لأنك مسلم" غيرها وهي في المخطوطة وابن هشام كما أثبتها.

(4) في المطبوعة: "سيب السوائب فيهم" وأثبت ما في المخطوطة وإن كان الناسخ كتب"السائب فيهم" وصوابه من سيرة ابن هشام.

وهذا الشطر من الخبر هو حديث أبي هريرة وقد مضى آنفًا برقم: 12820 ومضى تخريجه هناك. أما الشطر الثاني الذي وضعته في أول السطر فإنه من كلام ابن إسحق نفسه ، كما سترى في التخريج.

(11/124)

= وذلك أن الناقة إذا تابعت بين عشرإناث ليس فيها ذكر، (1) سُيِّبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزَّ وبرها، ولم يشرَب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها، ثم خلّى سبيلها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي"البحيرة" ابنة"السائبة".

و"الوصيلة"، أن الشاة إذا نَتَجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت"وصيلة"، قالوا:"وصلت"، فكان ما وَلدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، (2) إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله، ذكورُهم وإناثهم (3) .

و"الحامي" أنّ الفحل إذا نُتِج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكرٌ، حمي ظهره ولم يركب، ولم يجزّ وبره، ويخلَّى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" إلى قوله:"ولا يهتدون".

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إذاتابعت ثنتي عشرة إناثا ليس فيهما ذكر" إلا أن في المخطوطة: "ليس فيهم" وهما خطأ محض ، وصواب هذه العبارة هو ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها إلا أنني جعلت"فيهن" مكان"بينهن" في سيرة ابن هشام لما سيأتي بعد في الخبر"فيهن" مكان"بينهن" فيما يقابلها من سيرة ابن هشام.

(2) الأثر: 12827- صدر هذا الخبر إلى قوله: "سيب السائب فيهم" هو حديث أبي هريرة السالف رقم: 12820 ، وهو في سيرة ابن هشام 1: 78 ، 79 ، وقد خرجته هناك.

وأما الشطر الثاني إلى آخر الخبر ، فهو من كلام ابن إسحق وهو في سيرة ابن هشام 1: 91 ، 92.

(3) في المطبوعة: لذكورهم دون إناثهم ، وفي المخطوطة: لذكورهم بينهم ، غير منقوطة والصواب من سيرة ابن هشام.

(11/125)

12828 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق في هذه الآية:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" = قال أبو جعفر: سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه = قال: فأتيت علقمة فسألتُه، فقال: ما تريد إلى شيء كانت يَصنعه أهل الجاهلية. (1)

12829 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ قال ، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم قال : أتيت علقمة، فسألته عن قول الله تعالى:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ"، فقال: وما تصنع بهذا؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية! قال: فأتيت مسروقًا فسألته، فقال:"البحيرة"، كانت الناقة إذا ولدت بطنًا خمسًا أو سبعًا، شقوا أذنها، وقالوا:"هذه بحيرة" = قال:"ولا سائبة" ، قال: كان الرجل يأخذ بعضَ ماله فيقول:"هذه سائبة" = قال:"ولا وصيلة"، قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث، وإذا ولدت ذكرًا وأنثى في بطن قالوا:"وصلت أخاها"، فلا يأكلونهما. قال: فإذا مات الذكر أكله الذكور دون الإناث = قال:"ولا حام"، قال : كان البعير إذا وَلد وولد ولده، قالوا:"قد قضى هذا الذي عليه"، فلم ينتفعوا بظهره. قالوا:"هذا حمًى". (2)

__________

(1) في المطبوعة: "كانت تصنعه" والصواب من المخطوطة.

(2) الأثر: 12829-"يحيى بن إبراهيم المسعودي" شيخ الطبري هو: "يحيى ابن إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى برقم: 84 ، 5379 ، 8811 ، 9744.

وأبوه: "إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى برقم: 84 ، 5379 ، 8811 ، 9744.

وأبوه"محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى في ذلك أيضا.

وجده"أبو عبيدة بن معن المسعودي" مضى أيضًا.

وكان في المطبوعة هنا: "هذا حام" وأثبت ما في المخطوطة.

(11/126)

12830 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح قال : سألت علقمة عن قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة" ، قال: ما تصنع بهذا؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية.

12831 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص:"ما جعل الله من بحيرة" ، قال: البحيرة: التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت.

12832 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن الشعبي:"ما جعل الله من بحيرة". قال: البحيرة، المخضرمة (1) "ولا سائبة"، والسائبة: ما سُيِّب للعِدَى (2) = و"الوصيلة"، إذا ولدت بعد أربعة أبطن = فيما يرى جرير = ثم ولدت الخامس ذكرًا وأنثى، وصلتْ أخاها = و"الحام"، الذي قد ضرب أولادُ أولاده في الإبل.

12833- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: و"الوصيلة" التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرًا وأنثى، قالوا:"وصلت أخاها"، وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد.

__________

(1) "المخضرمة" من النوق والشاء المقطوعة نصف الأذن أو طرف الأذن أو المقطوعة إحدى الأذنين وهي سمة الجاهلية. وفي الحديث: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة مخضرمة".

(2) "العدي" (بكسر العين ودال مفتوحة): الغرباء يعني الأضياف كما جاء في سائر الأخبار. هكذا هي في المخطوطة"العدي" أما المطبوعة ففيها: "للهدي" وهو تحريف وخطأ محض. ولو كان في كتابة الناسخ خطأ فأقرب ذلك أن تكون"للمعتري" يقال: "عراه يعروه واعتراه" إذا غشيه طالبا معروفه. ويقال: "فلان تعروه الأضياف وتعتريه" أي تغشاه وبذلك فسروا قول النابغة: أَتَيْتُكَ عَارِيًا خَلَقًا ثِيَابِيْ ... عَلَى خَوْفٍ تُظَنَّ بِيَ الظُّنُون

أي: ضيفًا طالبًا لرفدك.

(11/127)

12834 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا، عن الشعبي: أنه سئل عن"البحيرة"، فقال: هي التي تجدع آذانها. وسئل عن"السائبة"، فقال: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم، فتذهب فتختلطُ بغنم الناس، (1) فلا يشرب ألبانها إلا الرجال، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعًا.

12835 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة" وما معها:"البحيرة"، من الإبل يحرّم أهل الجاهلية وَبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة، (2) فهو"الحامي". و"الحامي"، اسمٌ. (3) و"السائبة" من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد، كان على هيئتها. فإذا ولدت في السابع ذكرًا أو أنثى أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم. وإن توأمت أنثى وذكرًا فهي"وصيلة"، (4) لترك ذبح الذكر بالأنثى. (5) وإن كانتا أنثيين تركتا.

12836 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ،

__________

(1) في المطبوعة: "... عند آلهتهم لتذبح فتخلط بغنم الناس" غير ما في المخطوطة فأفسد الكلام إفسادًا. وقوله: "فتذهب فتختلط" ذكرت في 7: 457 تعليق: 6 أن العرب تجعل"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام طلبا لتصوير حركة أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه" لا يراد بهما معنى"الذهاب" و"القعود" ومثلهما كثير في كلامهم ثم انظر هذا ص: 250ن 251 ، تعليق: 1.

(2) "ضرب" من"الضراب" (بكسر الضاد) وهو سفاد الجمل الناقة ونزوه عليها.

(3) في المطبوعة حذف قوله: "والحامي اسم" لظنه أنه زيادة لا معنى لها. ولكنه أراد أن"الحامي" اسم لهذا الجمل من ولد البحيرة ، وليس باسم فاعل.

(4) قوله: "توأمت" هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ولم أجدهم قالوا في ذلك المعنى إلا: "أتأمت المرأة وكل حامل": إذا ولدت اثنين في بطن واحد. فهذا حرف لا أدري ما أقول فيه إلا أنه هكذا جاء هنا.

(5) في المطبوعة والمخطوطة: "ترك" بغير لام ، والذي أثبته أشبه عندي بالصواب.

(11/128)

حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة" ، فالبحيرة، الناقة، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن، فيعمد إلى الخامسة، ما لم تكن سَقْبًا، (1) فيبتك آذانها، ولا يجزّ لها وبرًا، ولا يذوق لها لبنًا، فتلك"البحيرة" ="ولا سائبة" ، كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء ="ولا وصيلة" ، فهي الشاة إذا ولدت سبعًا، عمد إلى السابع، فإن كان ذكرًا ذبح، وإن كانت أنثى تركت، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما، قالوا:"وصلت أخاها"، فيتركان جميعًا لا يذبحان. فتلك"الوصيلة" = وقوله:"ولا حام" ، كان الرجل يكون له الفحل، فإذا لقح عشرًا قيل:"حام، فاتركوه" .

12837 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة" ، ليسيِّبوها لأصنامهم ="ولا وصيلة"، يقول: الشاة ="ولا حام" يقول: الفحلُ من الإبل.

12838 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، تشديدٌ شدّده الشيطانُ على أهل الجاهلية في أموالهم، وتغليظ عليهم، فكانت"البحيرة" من الإبل، (2) إذا نتج الرجلُ خمسًا من إبله، نظر البطن الخامس، فإن كانت سقبًا ذبح فأكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرُهم وأنثاهم، وإن كانت حائلا = وهي الأنثى = تركت، فبتكت أذنها، فلم يجزّ لها وَبرٌ، ولم يشرب لها لبن، ولم يركب لها ظهرٌ، ولم يذكر لله عليها اسم.

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فما لم يكن سقبا" وصواب ذلك ما أثبت. و"السقب" الذكر من ولد الناقة. قال الأصمعي: إذا وضعت الناقة ولدها فولدها ساعة تضعه"سليل" قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى. فإذا علم فإن كان ذكرا فهو"سقب".

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل الإبل" وهو خطأ لا شك فيه.

(11/129)

وكانت"السائبة"، يسيبون ما بدا لهم من أموالهم، فلا تُمنع من حوض أن تشرع فيه، (1) ولا من حمًى أن ترتع فيه = وكانت"الوصيلة" من الشاء، من البطن السابع، إذا كان جديًا ذبح فأكله الرجال دون النساء. وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم. وإن جاءت بذكر وأنثى قيل:"وصلت أخاها فمنعته الذبح" = و"الحام"، كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة، أو ولد ولده، قيل:"حام حمى ظهره"، فلم يزَمَّ ولم يخطم ولم يركب.

12839- حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" ، فالبحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، إن كان الخامس سقبًا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم، وكانت أمه من عُرْض الإبل. وإن كانت رُبَعة استحيوها، (2) وشقوا أذن أمِّها، وجزّوا وبرها، وخلوها في البطحاء، فلم تجُزْ لهم في دية، ولم يحلبوا لها لبنًا، ولم يجزّوا لها وبرًا، ولم يحملوا على ظهرها، وهي من الأنعام التي حرمت ظهورها = وأما"السائبة"، فهو الرجل يسيِّب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله أو برأ من وَجع، أو ركب ناقة فأنجح، فإنه يسمي"السائبة" (3) يرسلها فلا يعرض لها أحدٌ من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا = وأما"الوصيلة"، فمن الغنم، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة، فكان آخر ذلك جديًا، ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة، وإن كانت عناقًا استحيوها، (4) وإن كانت جديًا وعناقًا استحيوا الجدي من أجل العَناق، فإنها وصيلة وصلت

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا تمتنع" ، والصواب ما أثبت.

(2) "الربع" (بضم الراء وفتح الباء): الفصيل الذي ينتح في الربيع ، وهو أول النتاح ، والأنثى"ربعة".

(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "يسمى السائبة" ، وأرجح أن الصواب: "يسيب السائبة" ،

(4) "العناق" (بفتح العين): الأنثى من ولد المعز.

(11/130)

أخاها = وأما"الحام"، فالفحل يضرب في الإبل عشرَ سنين = ويقال: إذا ضرب ولد ولده = قيل:"قد حمى ظهره"، فيتركونه لا يمسُّ ولا ينحرُ أبدًا، ولا يمنع من كلأ يريده، وهو من الأنعام التي حُرِّمت ظهورها.

12840 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب في قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، قال:"البحيرة" من الإبل، التي يمنح درّها للطواغيت (1) = و"السائبة" من الإبل، كانوا يسيِّبونها لطواغيتهم = و"الوصيلة"، من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى بأنثى، (2) فيسمونها"الوصيلة"، يقولون:"وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر"، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم = أو: يذبحونها، الشك من أبي جعفر= و"الحام"، الفحل من الإبل، كان يضربُ. الضرابَ المعدودة. (3) فإذا بلغ ذلك قالوا:"هذا حام، قد حمى ظهره"، فترك، فسموه"الحام"= قال معمر قال قتادة، إذا ضرب عشرة.

12841- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة قال :"البحيرة" من الإبل، كانت الناقة إذا نُتِجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرًا، (4) كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى، بتكوا آذانها ثم أرسلوها، فلم ينحروا لها ولدًا، ولم يشربوا لها لبنًا، ولم يركبوا لها ظهرًا = وأما"السائبة"، فإنهم كانوا يسيِّبون بعض إبلهم، فلا تُمنع حوضًا أن تشرع فيه، ولا مرعًى أن ترتع فيه ="والوصيلة"، الشاة كانت إذا

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع" بالعين ، وصوابه بالحاء.

(2) في المطبوعة: "تبكر" ، والصواب من المخطوطة. ويقال: "ابتكرت الحامل" ، إذا ولدت بكرها ، و"أثنت" في الثاني ، و"ثلثت" في الثالث.

(3) في المطبوعة: "المعدود" بغير تاء في آخره ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب.

(4) في المطبوعة: "فإن كان الخامس" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب.

(11/131)

ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرًا، ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت.

12842 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سلمان، عن الضحاك:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" ، أما"البحيرة" فكانت الناقة إذا نَتَجُوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا، وإن كان رُبَعة شقُّوا أُذنها واستحيوها، وهي"بحيرة"، وأما السَّقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نَتَجوها ميْتًا، فرجالهم ونساؤهم فيه سواءٌ، يأكلون منه = وأما"السائبة"، فكان يسيِّب الرجل من ماله من الأنعام، فيُهْمَل في الحمى، فلا ينتفع بظهره ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه = وأما"الوصيلة"، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحُوا السابع إذا كان جديًا، وإن كان عناقًا استحيوه، وإن كان جديًا وعناقًا استحيوهما كليهما، وقالوا:"إن الجدي وصلته أخته، فحرَّمته علينا" = وأما"الحامي"، فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده قالوا:"قد حمى هذا ظهره، وأحرزه أولاد ولده"، (1) فلا يركبونه، ولا يمنعونه من حِمى شجر، ولا حوض مَا شرع فيه، وإن لم يكن الحوض لصاحبه. وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم: لا إن ركبوا، ولا إن حملوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا، ولا إن باعوا. ففي ذلك أنزل الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، إلى قوله:"وأكثرهم لا يعقلون" .

12843 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد، في قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، قال: هذا شيء كان يعمل به أهل الجاهلية، (2) وقد ذهب. قال:"البحيرة"، كان الرجل

__________

(1) في المطبوعة: "وأحرز أولاد ولده" ، صوابه من المخطوطة."أحرزه": صانه وحفظه ووقاه.

(2) في المطبوعة: "كانت تعمل به" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/132)

يجدع أذني ناقته، ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه، لا تحلب ولا تركب = و"السائبة"، يسيبها بغير تجديع = و"الحام" إذا نتج له سبع إناث متواليات، قد حمي ظهره، ولا يركب، ولا يعمل عليه = و"الوصيلة"، من الغنم: إذا ولدت سبع إناث متواليات، حمت لحمها أن يؤكل.

12844- حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال ، حدثنا الليث بن سعد قال ، حدثني ابن الهاد، عن ابن شهاب قال ، قال سعيد بن المسيب:"السائبة" التي كانت تسيَّب فلا يحمل عليها شيء = و"البحيرة"، التي يمنح دَرُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد (1) = و"الوصيلة"، الناقة البكر تبتكر أوّل نتاج الإبل بأنثى، (2) ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسمُّونها للطواغيت، يدعونها"الوصيلة"، أنْ وصلت أخواتها إحداهما بالأخرى (3) ="والحامي"، فحل الإبل، يضرب العَشْر من الإبل. فإذا نقضَ ضِرابه (4) يدعونه للطواغيت، وأعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئًا، وسموه"الحامي".

* * *

قال أبو جعفر: وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام، فلا نعرف قومًا يعملون بها اليوم.

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع درها" ، والصواب ما أثبت.

(2) في المطبوعة والمخطوطة هنا"تبكر" ، وانظر ما سلف ص: 131 تعليق2.

(3) حذف في المطبوعة: "أخواتها" ، ولا ضرورة لحذفها ، فالكلام مستقيم.

(4) في المطبوعة والمخطوطة: "نقص ضرابه" ، وهو لا معنى له ، والصواب: "نفض" بالنون والفاء والضاد. يقال"نفضت الإبل وأنفضت": نتجت كلها. قال ذو الرمة: كِلاَ كَفْأَتَيهْا تُنْفِضَانِ، وَلَمْ يَجِدْ ... لَهَا ثِيلَ سَقْبٍ في النِّتَاجَيْنِ لاَ مِسُ

يعني: أن كل واحد من الكفأتين (يعني النتاجين) تلقى ما في بطنها من أجنتها ، فتوجد إناثًا ليس فيها ذكر. وقوله: "نفض ضرابه" ، لم تذكر كتب اللغة هذه العبارة ، ولكن هذا هو تفسيرها: أن تلد النوق التي ضربها إناثًا متتابعات ليس بينهن ذكر ، كما سلف في الآثار التي رواها أبو جعفر.

(11/133)

فإذا كان ذلك كذلك= وكانَ ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه (1) = إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر، ولا في الشرك، نعرفه = إلا بخبر، (2) وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلافَ الذي ذكرنا، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الأسماء، فما بيّنا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية، وأما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به. وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائرٍ الجهلُ بذلك إذا كان المرادُ من علمه المحتاجُ إليه، موصلا إلى حقيقته، (3) وهو أن القوم كانوا يحرِّمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله، (4)

اتباعًا منهم خطوات الشيطان، فوبَّخهم الله تعالى ذكره بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال. فالحرام من كل شيء عندنا ما حرَّم الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم، بنصٍّ أو دليل، والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك. (5)

* * *

القول في تأويل قوله : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب"الذين كفروا" في هذا الموضع، والمراد بقوله:"وأكثرهم لا يعقلون" .

فقال بعضهم: المعنيّ ب"الذين كفروا" اليهود، وب"الذين لا يعقلون"، أهل الأوثان.

__________

(1) كان في المطبوعة: "لا توصل إلى عمله" ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(2) السياق: "لا يوصل إلى عمله. . . إلا بخبر".

(3) في المطبوعة: "موصلا إلى حقيقته" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب المعنى.

(4) في المطبوعة: "كانوا محرمين من أنعامهم" ، والجيد من المخطوطة.

(5) في المطبوعة: "ما أحله الله" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(11/134)

* ذكر من قال ذلك:

12845 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن دواد بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب" ، قال: أهل الكتاب ="وأكثرهم لا يعقلون" ، قال: أهل الأوثان. (1)

* * *

وقال آخرون: بل هم أهل ملّة واحدة، ولكن"المفترين"، المتبوعون و"الذين لا يعقلون"، الأتباع.

* ذكر من قال ذلك:

12846 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا خارجة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون"، هم الأتباع = وأما"الذين افتروا"، فعقلوا أنهم افتروا. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب" ، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل، وحموا الحوامي، مثل عمرو بن لحي وأشكاله ممن سنّ لأهل الشرك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله دين الحق، (3) وأضافوا إلى الله تعالى ذكره: أنه هو الذي حرّم ما حرّموا، وأحلَّ ما أحلوا، افتراءً على الله الكذب وهم يعلمون، واختلاقًا عليه الإفك وهم يفهمون، (4) فكذبهم الله تعالى ذكره في

__________

(1) الأثر: 12845 -"محمد بن أبي موسى" ، مضى برقم: 10556.

(2) في المطبوعة: "يعقلون أنهم افتروا" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(3) في المطبوعة: "ممن سنوا لأهل الشرك ، . . . وغيروا" بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض ، لا يرده أنه قال بعده"وأضافوا" بالجمع.

(4) في المطبوعة: "وهم يعمهون" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.

(11/135)

قيلهم ذلك، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا، فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك، ويفترون على الله الكذب.

= (1) وأن يقال، إن المعنيين بقوله:"وأكثرهم لا يعقلون" ، هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك لهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن وأخبروهم أنها من عند الله، كذبةٌ في إخبارهم، أفَكَةٌ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقُّون، وفي إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرَّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى ذكره كذب وباطل. (2) وهذا القول الذي قلنا في ذلك، نظير قول الشعبي الذي ذكرنا قبلُ. (3) ولا معنى لقول من قال:"عني بالذي كفروا أهل الكتاب"، وذلك أن النكير في ابتداء الآية من الله تعالى ذكره على مشركي العرب، فالختم بهم أولى من غيرهم، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يُصرف من أجله عنهم إلى غيرهم

وبنحو ذلك كان يقول قتادة:

12847 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأكثرهم لا يعقلون" ، يقول: تحريمُ الشيطان الذي حرّم عليهم، (4) إنما كان من الشيطان، ولا يعقلون.

  _____

(1) قوله: "وأن يقال" ، معطوف على قوله في أول الفقرة: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال.

(2) انظر تفسير"افترى" فيما سلف 6: 292/8: 451.

(3) في المطبوعة ، أسقط"قبل" ، لسوء كتابتهافي المخطوطة.

(4) في المطبوعة: "يقول: لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرم عليهم" ، زاد وغير ، فأفسد الجملة إفسادًا ، وهو يظن أنه يصلحها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...