كلمات السداد على متن الزاد
عَلى مَتنِ "الزّاد" للشيخ فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل
مُبَارَك
المتَوفَى عَام 1376هـ
عُني به
محمد بن حسن بن عبد الله آل مبارك
ترجمة الشارح
هو الشيخ العالم الورع الزاهد فيصل بن عبدالعزيز بن فيصل بن حمد المبارك العلاَّمة المحدث الفقيه المفسِّر الأصولي النحوي الفرضي .
- ولد رحمه الله في حريملاء عام 1313هـ ، فحفظ القرآن صغيراً ، ثمَّ طلب العلم على علماء حريملاء في وقته.
1ـ ومنهم جدُّه لأُّمِّه الشيخ العالم الورع ناصر بن محمد الراشد .
2ـ وعمُّه العلاَّمة الشيخ محمد بن فيصل المبارك .
ثمَّ طلب العلم بعد ذلك على علماء الرياض ، ثمَّ غيرها من البلدان .
مكانته العلمية ونبوغه المبكر:
- تصف المراجع العلمية الشيخ فيصل بأنه العالم الجليل والفقيه المحقق، والعلاّمة المدقق، وتتجلّى منزلة الشيخ فيصل العلمية في كثرة وعلو مشايخه الذين تلقى العلم على يديهم، حيث إنَّه قرأ على كثيرٍ من أفذاذ العلماء وأساطين العلم في ذلك الوقت، بل كاد أن يستوعبهم، رحمهم الله أجمعين.
3ـ فقد أخذ عن عالم عصره وفريد دهره الشيخ عبدالله بن عبداللطيف .
4ـ وأخذ الفرائض عن أفرض أهل زمانه الشيخ عبدالله بن راشد الجلعود.
5ـ وأخذ علم النحو عن سيبويه العصر الشيخ حمد بن فارس.
6ـ وأخذ علم الحديث عن محدث الديار النجديَّة الشيخ المحدث سعد بن حمد بن عتيق.
7- وكذلك عن الشيخ المحدِّث الرُّحَلَة محمد بن ناصر المبارك الحمد.
8ـ وأخذ أيضاً عن الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري.
9ـ والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع رحمهم الله.
10ـ وممَّا يدلُّ على علو كعب الشيخ فيصل في العلوم الشرعية أنَّ الشيخ عبدالعزيز النمر أجازه إجازة الفتوى عام 1333هـ وكان الشيخ فيصل حينذاك في العشرين من عمره.
(1/1)
- وقد ترجم له الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف في كتابه "مشاهير علماء نجد" ـ والذي اقتصر فيه على كبار علماء نجد ـ ترجمة حافلة تليق بمكانته العلميَّة.
- وكذلك تتجلى مكانته العلمية في آثاره الجليلة والكثيرة التي سطَّرها ، قال الشيخ عبدالمحسن أبا بطين - رحمه الله - : "وقد ألف كتباً كثيرة صار لها رواجٌ في جميع أقطار المملكة العربية السعودية" .
- وكذلك فإنَّ للشيخ رحمه الله تلامذة نابغين في كثيرٍ من الأقطار التي أقام ها، وبعضهم اقتصر في تحصيله العلمي على استفادته من الشيخ رحمه الله، والبعض منهم وصل إلى درجاتٍ علميَّة متميِّزة، كعضوية هيئة كبار العلماء، وهيئة التمييز، وكثيرٌ منهم قد تأهَّل للقضاء.
إجازاته العلميَّة:
(أ) أجازَهُ الشيخُ سعدُ بنُ حَمَدٍ بنِ عَتِيقٍ محدث الديار النجدية:
- بتدريس أمهات كتب الحديث.
- وكذلك تدريس أمهات كتب مذهب الإمام أحمد.
- ثمَّ أجازه الشيخ سعد إجازة خاصَّة في علم التفسير.
(ب) وكذلك أجازه الشيخ عبدالله بن عبدالعزيزالعنقري بجميع مرويَّاته.
(جـ) وقد أجازه الشيخ عبدالعزيز النمر إجازةَ الفتوى عام 1333هـ.
تلاميذه:
تخرَّج على يدي الشيخ رحمه الله أجيالٌ من طلبة العلم، وليَ كثيرٌ منهم القضاء في عدَّة جهات.
من أبرزهم:
الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد - رحمه الله - قاضي الرياض ووادي الدواسر.
الشيخ عبدالرحمن بن سعد بن يحيى - رحمه الله - قاضي الرياض وحريملاء.
الشيخ فيصل بن محمد المبارك - رحمه الله - رئيس هيئة الحسبة وعضو مجلس الشورى بجدة .
الشيخ سعد بن محمد بن فيصل المبارك - رحمه الله - قاضي وادي الدواسر ثم الوشم .
الشيخ محمد بن مهيزع رحمه الله قاضي الرياض .
الشيخ ناصر بن حمد الراشد رحمه الله رئيس ديوان المظالم .
مؤلفاته :
(أ) في العقيدة :
(1/2)
1- (القصد السديد شرح كتاب التوحيد) في مجلد، وقد طبع مؤخراً عام 1426هـ عن دار الصميعي بتحقيق الأخ الشيخ عبد الإله الشايع وفَّقه الله.
2- (التعليقات السنية على العقيدة الواسطية) في مجلد صغير، وقد طبع مؤخراً عام 1426هـ عن دار الصميعي بتحقيق الأخ الشيخ عبد الإله الشايع وفَّقه الله.
(ب) علم التفسير:
3ـ (توفيق الرحمن في دروس القرآن) في أربعة أجزاء، وقد طبُع هذا التفسير مرتين، وآخرهما عام 1416هـ عن دار العاصمة بالرياض، بعناية وتحقيق الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الزير.
4- (القول في الكرة الجسيمة الموافق للفطرة السليمة)، مخطوط، في مجلد(1).
ـــــــــــــــ
(1) ومنه مخطوطة في مكتبة الملك فهد -تصنيف رقم (261/3)-، وعنها مصوَّرة بدارة الملك عبدالعزيز/ مكتبة الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك.
(جـ) علم الحديث:
5- (لذة القارئ مختصر فتح الباري) في ثمانية مجلدات(1)، ذكر الشيخ عبدالمحسن أبا بطين أنه تحت الطبع، والشيخ عبدالمحسن من أعرف الناس بكتب الشيخ فيصل لأنه طَبع أكثرها في مكتبته الأهلية، وبعضها طُبعت بواسطته في غيرها من المكتبات(2)، وقال الزركلي: "شرع بعض الفضلاء بطبعه"(3)، إلاَّ أنَّه وللأسف الشديد فإن هذا الكتاب النفيس(4) في حكم المفقود.
6- ( نَقْعُ الأُوام(5) بشرح أحاديث عمدة الأحكام )، خمسة أجزاء كبار، في إحدى عشر مجلَّداً، مخطوط(6).
7- (أقوال العلماء الأعلام على أحاديث عمدة الأحكام)، في مجلدين ضخمين - في سبعة ملازم-، وهو مختصرٌ عن سابقِه(7).
ـــــــــــــــــ
( ) اعتمدت تسمية الشيخ عبدالمحسن أبا بطين للكتاب، بينما تسمي بعض المصادر المترجمة للشيخ الكتاب (تذكرة القارئ).
(2) مثل مكتبة البابي الحلبي بمصر.
(3) الأعلام للزركلي/ج 5/ص 168.
(1/3)
(4) بلا شكَّ أنَّ الكتاب المذكور هاهنا نفيسٌ جداًّ، إذ إنَّه هو الاختصار الوحيد - فيما أعلم - للسفر الجليل المشهور "فتح الباري"، وقد اطَّلعتُ مؤخَّرا على مختصرٍ للفتح لبعض المعاصرين، وهو نافع في بابه، ولكن فيه إيجازٌ شديدٌ جداًّ.
(5) للنقع معانٍ عِدَّةٌ، منها: الرَّيُّ بعد الظمأ، و"الأُوام" هو: شِدَّة العطش.
(6) ومنه مخطوطة كاملة، بخطِّ الشيخ فيصل رحمه الله في مكتبة الملك فهد/ تصنيف "مكتبة حريملاء"، تحت رقم = ( 228/3) - (247/3) - (251/3) - (231/3) - (256/3) - (255/3 ) - (241/3) - (230/3) - (260/3) - (239/3) - (238/3).
(7) ومنه أيضاً مخطوطةٌ كاملة بدارة الملك عبدالعزيز/ مكتبة الشيخ عبدالمحسن أبابطين، وعنها مصوَّرة بدارة الملك عبدالعزيز أيضاً/ مكتبة الشيخ فيصل المبارك.
ومنه أيضاً نسخةٌ - (لعلَّها مبيَّضة) - وصل فيها المؤلف إلى منتصف الجزء الأول، وهي بدارة الملك عبدالعزيز/ مكتبة الشيخ عبدالمحسن أبابطين.
8- (خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام) للمقدسي، مجلد في أربعمائة صفحة، طبع مراراً.
9- (مختصر الكلام شرح بلوغ المرام) لابن حجر، طبع ضمن (المجموعة الجليلة)، ثم طبع مفرداً عن المجموعة في الرياض عن دار إشبيليا عام 1419هـ.
10- (بستان الأحبار(1) باختصار نيل الأوطار) للشوكاني، في مجلدين، وقد طبع مرتين، آخرهما عن دار إشبيليا عام 1419هـ.
11- (تجارة المؤمنين في المرابحة مع رب العالمين) مجلد في 271 صفحة، طبع مرتين.
12- (تطريز رياض الصالحين)، في مجلَّدٍ ضخم، طبع في عام 1423هـ - عن دار العاصمة - بتحقيق الشيخ الدكتور عبدالعزيز الزير.
13- (محاسن الدين على متن الأربعين) طبع ضمن المجموعة الجليلة، ثمَّ طبع مفرداً عن دار إشبيليا بالرياض عام 1420هـ.
14- (تعليم الأحبّ أحاديث النووي وابن رجب) وقد طبع قديماً ضمن (المختصرات النافعة).
(1/4)
15- (نصيحة المسلمين) وهي رسالة لطيفة طبعت في الكويت في أواخر حياة الشيخ تحت اسم: "نصيحة دينية"، على نفقة الشيخ عطا الشايع الكريع الجوفي رحمهما الله.
16- (وصية لطلبة العلم) رسالة لطيفة، وقد قام بتحقيق هذه الرسالة مع (نصيحة المسلمين) (2) الشيخ الدكتور عبدالعزيز الزير عام 1424هـ.
ـــــــــــــــ
(1) (أحبار) - بالحاء المهملة - جمع حَبْر وهو العالم، وابن عباس رضي الله عنهما - هو حبر هذه الأمة أي: عالمها.
(2) طبعتا تحت عنوان: (نصيحة نافعة ووصية جامعة) للشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك.
17- (غِذاءُ القلوب ومفرِّجُ الكروب) وقد طُبِع قديماً ضمن مجموع: (المختصرات النافعة).
(د) جهود الشيخ فيصل الفقهية:
اعتنى الشيخ رحمه الله بالتصنيف في علم الفقه لا سيما في أخريات حياته رحمه الله.
18- فشرَحَ "زاد المستقنع" بكتابه: (كلمات السداد على متن زاد المستقنع)، مطبوع، وهو كتابنا هذا، وهو شرحٌ لطيف ميسَّر، ومنه مخطوطةٌ اطلعتُ عليها في مكتبة الملك فهد، تصنيف/ مكتبة حريملاء، وقد أفدتُ من المخطوطة المذكورة في تصويب بعض الأخطاء واستدراك بعض السقط، مع الرجوع -غالباً- إلى الأصول التي نقل عنها الشارح، وقد طُبِع هذا الكتابُ مرتين دون تحقيق، آخرهما عام 1405هـ عن مكتبة النهضة.
- ثمَّ شرحَ الشيخ - رحمه الله -"الروض المربع" عِدَّة شروح، هي:
19- (المرتع المشبع شرح مواضع من الروض المربع) في أربعة أجزاء، وست مجلدات كبيرة، وهو تحت الطبع.
20- (مختصر المرتع المشبع) مخطوط في مجلد، ولم يكمله.
21- (مجمَع الجوادِّ(1) حاشية شرح الزاد) مخطوط، وصلنا منه شرحُ "كتاب البيوع".
22- ثمَّ وضع عليه فهرساً أسماه: (زبدة المراد فهرس مجمع الجواد) مخطوط.
23- وألَّف الشيخ رسالة فقهية صغيرة باسم: (القول الصائب في حكم بيع اللحم بالتمر الغائب)، مخطوطة.
(1/5)
24- كما ألَّف الشيخ رحمه الله - في علم أصول الفقه - رسالةً قيِّمةً بعنوان: (مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد)، مطبوع.
ــــــــــــــ
( ) الجوادُّ بتشديد الدال : جمع جادَّة، وهي الطريق الواضح.
25- وكذلك ألَّف الشيخ رحمه الله في الفقه الحديثي: (الغرر النقية شرح الدرر البهيَّة) مطبوع بتحقيقي عام 1426هـ.
- أمَّا في علم الفرائض فقد ألَّف الشيخ فيصل رحمه الله في هذا الباب من علم الفقه رسالتين هما:
26- (الدلائل القاطعة في المواريث الواقعة)، مطبوع.
27- (السبيكة الذهبية على متن الرحبية)، مطبوع.
(هـ) في علم النحو:
28- (صلة الأحباب شرح ملحة الإعراب)، وهو - فيما يظهر لي- من كُتُب الشيخ المفقودة.
29- وألَّف الشيخ أيضاً كتابه: (مفاتيح العربية (على متن الآجرومية)، وهو شرحٌ ممتع متوسِّط على متن "الآجرُوميَّة" طُبِع قديماً ضمن مجموعة الشيخ المسمَّاة: ( المختصرات الأربع النافعة ) ، ثم طبع عام 1426هـ -عن دار الصميعي ـ بتحقيق الشيخ عبدالعزيز بن سعد الدغيثر .
30 ـ رسالة مختصرة بعنوان: (لُباب الإعراب في تيسير علم النحو لعامَّة الطلاب)، وقد طبعت بتحقيقي عام 1425هـ (1).
ــــــــــــ
(1) ممَّا ينبغي أن يلاحظ خلال دراسة مؤلفات الشيخ فيصل رحمه الله أنَّه قد تَمَّ طبع بع-ض كتب الشيخ فيصل رحمه الله في مجاميع، ولعلَّ ذلك كان - في الغالب - بسبب ظروف الطباعة الصعبة في ذلك الوقت، وهذه المجاميع هي:
(أ) ( المجموعة الجليلة ):
وقد طبعت ثلاث مرات، أولاها عام 1372هـ في المكتبة الأهلية بالرياض، والثانية في دمشق على نفقة تلميذه الشيخ عبدالرحمن بن عطا الشايع عام 1404هـ، والثالثة بمطابع القصيم، وتَجمعُ ثلاث مختصرات هي: =
...........................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/6)
= أ- (مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد) وقد طبع مفرداً عام 1413هـ عن دار السلف، بتحقيق الشيخ راشد بن عامر الغفيلي.
ب- (محاسن الدين بشرح الأربعين النووية)،و قدطبع مفرداً عن دار إشبيليا عام 1420هـ.
ج- (مختصر الكلام شرح بلوغ المرام) لابن حجر، وقد طبع مفرداً في الرياض عن دار إشبيليا عام 1419هـ.
(ب) (المختصرات الأربع النافعة):
وقد طبعت ثلاث طبعات، أولاها عام 1369هـ، وثانيها عام 1371هـ، وآخرها عام 1405هـ، وتجمع أربع مختصرات هي:
أ- (مفتاح العربية (1) على متن الآجرومية) ومنه مخطوطة في مكتبة الملك فهد بعنوان "مفاتيح العربية" بخط الشيخ.
ب- (الدلائل القاطعة في المواريث الواقعة) ومنه مخطوطة في مكتبة الملك فهد.
ج- (غذاء القلوب ومفرج الكروب).
د- (تعليم الأحبّ أحاديث النووي وابن رجب).
ومنها مخطوطةٌ كاملة بدارة الملك عبدالعزيز/ مكتبة الشيخ عبدالمحسن أبابطين.
(ج-) - معلمة الشيخ فيصل المسمَّاة : ( زبدة الكلام في الأصول والآداب والأحكام):
فعندما أقام الشيخ رحمه الله في الجوف في أخريات حياته جمع رحمه الله مجموعاً علمياًّ مفيداً، ضمَّت بعض شروحه رحمه الله على جُملةٍ من المتون العلميَّة، وذلك للتسهيل والتيسير على طلبة العلم الذين قد يجدون بعض الصعوبة في تمييز ومعرفة ومراعاة الترتيب والتسلسل المرحلي لدراسة المتون العلمية في كافة الفنون والعلوم الشرعية، وقد سمَّى هذا المجموع: (زبدة الكلام في الأصول والآداب والأحكام).
- ولعلَّ سبب جمع المصنف رحمه الله للمجموعين الأولين: "المجموعة الجليلة" و"المختصرات النافعة" هو ظروف الطباعة الصعبة في ذلك الوقت، أمَّا المجموع الأخير فقد اختار الشيخ المتون المشروحة فيه بعناية ورتَّبها ترتيبا دقيقا، ولذلك تجد أنَّ بعض تلك المتون المشروحة كانت قد تَمَّت طباعتها في المجموعين السابقين.
(1/7)
وقد انتخب رحمه الله فصولها بحيث تكون "كالمكتبة العلمية" للمتوسطين من طلبة العلم للترقي في مدارج الطلب، والانخراط في جملة المنتسبين إلى أهل العلم.
قال الشيخ رحمه الله في أول هذه المعلمة - أو الموسوعة المصغَّرة:
(أمَّا بعد، فإنَّ كتب العلم قد كثُرت وانتشرت، وبُسِطَت واختُصِرت، فرأيتُ أن أجمَعَ منها ما يحفظُه الطالب ويعتمِد عليه، ونقلتُ من كلام أهل العلم ما يبيِّن بعض معانيه، ليكونَ أصلاً يَرجِعُ=
وفاته:
ولي الشيخ فيصل القضاء في عِدَّة بلدان، كان آخِرها منطقة الجوف، والتي توفي بها في السادس عشر من ذي القعدة من عام 1376هـ، عن ثلاثةٍ وستين عاماً قضاها في الدعوة إلى الله، وفي العلم والتعليم والتصنيف رحمه الله(1).
والله المستعان، وعليه التكلان ، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــ
= إليه، وجسراً يعبُرُ منه إلى غيره إن شاء الله تعالى، والعالم الربَّاني هو الذي يربِّي الناس بأصول العلم وواضحاتِه، قبل فروعه ومشكلاته، ورتَّبتُ الكتب التي أردتُ، فبدأتُ:
1- ب- (الأربعين النووية)
2- ثمَّ ب-(عمدة الأحكام) للحافظ عبدالغني المقدسي في الحديث.
3- ثمَّ (كتاب التوحيد).
4- ثمَّ (العقيدة الواسطية).
5- ثمَّ (بلوغ المرام).
6- ثمَّ (الدرر البهيَّة).
7- ثمَّ (نبذة في أصول الفقه).
8- وختمتُها ب- (غذاء القلوب ومفرج الكروب).
وسمَّيتُه (زبدة الكلام في الأصول والآداب والأحكام )، وأسأل الله أن ينفعني به وجميع من قرأه أو سمعه إنَّه لطيفٌ خبيرٌ ، آمين) ا.هـ.
( ) انظر في مصادر ترجمة الشيخ فيصل - رحِمه الله - :
أ - (علماء نجد خلال ثمانية قرون) للشيخ عبدالله البسام - رحمه الله - ج- 5 ص- 392 إلى 402.
ب - الأعلام للزركلي: ج-5 /ص- 168.
ج- (مشاهير علماء نجد) للشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ/ الطبعة الثانية.
د - ( روضة الناظرين) للقاضي/ج2 /ص178-181.
(1/8)
هـ - (العلامة المحقق والسلفي المدقق: الشيخ فيصل المبارك) لفيصل بن عبدالعزيز البديوي.
و - (المتدارك من تاريخ الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك) لمحمد بن حسن المبارك.
كلمات في التعريف بهذا الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتاب (زاد المستقنع) تصنيف الإمام العلامة شرف الدين أبي النجا موسى بن أحمد بن موسى بن سالم المقدسي الحجاوي المتوفى عام 968 من الهجرة، وهو مختصر كتاب (المقنع) الذي صنفه شيخ الإسلام موفق الدين بن عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى عام 620 من الهجرة - هو كتاب مفيد في موضوعه، وقد شرحه شرحاً لطيفاً فضيلة الأستاذ العلامة المحقق الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك ليتم النفع به، وسماه (كلمات السداد على متن الزاد) فجزاه الله أحسن الجزاء(1).
ڑڑٹڑ
ڑ(1) هذه المقدمة الوجيزة سطَّرها ناشر الطبعة الأولى و هو الشيخ عبدالمحسن أبا بطين رحمه الله .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يُحْمد، وصلى الله وسلم على أفضل المُصْطَفَيْنَ محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبَّد.
أما بعد: فهذا مختصرٌ(1)
__________
(1) * هذا المختصرُ صغيرُ الحجمِ، كبيرُ الفائدةِ كثيرُ المسائل النافعةِ، يَعرف قَدْرَه من حَفِظَه، ولكن ينبغي لطالب العلم أن يحفظ قبله (عُمْدَةَ الأحكام) في الحديث لأنه الأصلُ، وكذلك (بلوغ المرام) فإذا حفظ ذلك وقد رزقه الله تعالى فَهْماً في كتابه واتِّباعاً لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإنصافَ والعدلَ في القولِ والحُكْمِ، فقد استحقَّ الفُتيا والقضاءَ وبالله التوفيق.
(1/9)
في الفقه من مُقْنِع الإمام الموفَّق أبي محمد على قولٍ واحد، وهو الراجحُ في مذهبِ أحمد، وربما حذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوع، وزدتُ ما على مثله يُعْتَمد، إذ الهممُ قد قَصُرتْ، والأسبابُ المُثَبِّطةُ عن نيلِ المرادِ قد كَثُرَتْ، ومع صِغَرِ حَجْمه حوى ما يُغنِي عن التطويل، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
كتاب الطهارة
وهي: ارتفاعُ الحدث وما في معناه، وزوالُ الخَبَث.
والمياه ثلاثة: طهور لا يرفع الحدث، ولا يزيلُ النجسَ الطارئَ غيرُه، وهو الباقي على خِلْقته، فإن تغيَّر بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي(1) أو سُخِّنَ بنجس كُرِه، وإن تغير بمكثه أو بما يَشُقُّ صَوْنُ الماء عنه من نابت فيه وورق شجر، أو بمجاورة مَيْتَةٍ، أو سخن بالشمس أو بطاهر لم يكره، وإن استعمل في طهارة مستحبَّة كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغَسْلةٍ ثانية وثالثة كُرِه.
وإن بلغ قُلَّتين(2)
__________
(1) * قوله: (أو بملح مائي) يعني إذا تغيَّر الماءُ بالملح المائي كُره، ولم يسلبه الطهورية؛ لأن أصله الماء كالملح البحري الذي ينعقد من الماء في السِّبَاخ ونحوها فلا يسلبه الطهورية وأما الملح المعدني، فيسلبه الطهوريةَ إذا غيَّر أحدَ أوصافه كالزَّعْفران ونحوه، قال في الإنصاف: هو المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقيل: حكمُه حكمُ البحري، اختاره الشيخ تقي الدين.
(2) * قوله: (وإن بَلَغ قُلَّتَين) إلى آخره، هذا ظاهرُ المذهب لحديث "إذا كان الماءُ قُلَّتَيْن لم يُنَجِّسْه شيءٌ"(1) وعنه لا يَنْجُسُ إلا بالتَّغَيُّر لحديث "الماء طهور لا يُنَجِّسُه شيءٌ إلا ما غَلَب على ريحِه أو طعمِه أو لونِه"(2)، اختاره الشيخ تقي الدين.
(1) أخرجه أبو داود في سننه برقم (63، 65) والترمذي في صحيحه برقم (67) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أبو داود في سننه برقم (66) والترمذي في صحيحه رقم (66) وحسَّنه الإمام أحمد في مسنده 3/31، 86. والنسائي في الصغرى 1/174 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/10)
- وهو الكثير وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً -
فخالطتْه نجاسةُ غير بول آدميٍّ أو عَذِرتِهِ المائعةِ(1)، فلم تُغَيِّرْه، أو خالطه البولُ أو العَذِرَةُ ويَشُقُّ نَزْحُه كماءِ مصانع طريق مكة فطَهُور.
ولا يَرْفع حَدَثَ رجلٍ طَهُورٌ يسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملةٍ عن حَدَث(2).
__________
(1) * قوله: (فخالطتْه نجاسةُ غيرِ بولِ آدمي أو عَذِرتِه المائعة) يعني: أنه يَنْجُسُ بالبول أو العَذِرةِ ولو كان كثيراً، وعنه لا يَنْجُس، اختارها أبو الخطاب وابن عقيل لخبر القُلَّتين، ولأن نجاسة الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب، قال في الإنصاف: وهذا المذهب، وهو قول الجمهور.
(2) * قوله: (ولا يرفع حدث رجل طهورٌ يسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملةٍ عن حَدثٍ). قال في المقنع: وإن خَلَت بالطهارة منه امرأةٌ فهو طهور، ولا يجوز للرجل الطهارةُ به في ظاهر المذهب، قال في الإنصاف: قال ابن رزين: لم يجز لغيرها أن يَتَوضَّأَ به في أضعفِ الروايتين، وعنه يَرْتفعُ الحَدَثُ مطلقاً كاستعمالهما معاً في أصح الوجهين فيه، قال في الفروع: اختارها ابن عقيل وأبو الخطاب، قال في الشرح الكبير: وهو أقيس إن شاء الله تعالى.
قلتُ: وهذا قول الجمهور وهو الصحيح، لأن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت في جَفْنة، فجاء ليغتسل منها فقالت له: إني كنت جُنُباً. قال: (إن الماء لا يجنب) وأما الحديث الآخر: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجلُ بفضل المرأة أو المرأةُ بفضل الرجل وليغترفا جميعاً)(1)، فهو محمول على التنزيه والله أعلم.
(1) أخرجه أبو داود في سننه برقم (82) والترمذي في صحيحه برقم (64) وابن ماجه في سننه برقم (373) من حديث الحكم بن عمرو.
(1/11)
وإن تغيَّر لونُه أو طعمُه أو ريحُه بطبخٍ أو ساقطٍ فيه(1)
__________
(1) * قوله: (وإن تغير طعمه أو ريحه أو لونه بطبخٍ أو ساقطٍ فيه) إلى آخره، قال في المقنع: القسم الثاني: ماء طاهر غير مطهر، وهو ما خالطه طاهر فغيَّر اسْمَه أو غلب على أجزائه أو طبخ فيه فغيَّره، فإن غير أحد أوصافه: لونه أو طعمه أو ريحه أو استعمل في رفع حدث أو طهارة مشروعة كالتجديد وغسل الجمعة أو غمس فيه يد قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثاً فهل يسلب طهور يته؟ على روايتين. قال في الإنصاف: قوله: فإن غير أوصافه: لونه أو طعمه أو ريحه فهل يَسْلبه طهور يته؟ على روايتين (إحداهما): يسلبه الطهورية وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، (والرواية الثانية): لا يسلبه الطهورية. قال في الكافي نقلها الأكثر، واختارها الآجري والمجد والشيخ تقي الدين، وعنه أنه طهور مع عدم طهور غيره، اختارها ابن أبي موسى.
قلتُ: وهذا أقرب لقول الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16].
قال في الإنصاف: قوله: (أو غُمِسَ فيه يدُ قائمٍ من نومِ الليل قبل غسلها ثلاثاً)، فهل يَسْلُب طهوريَّتَه؟ على روايتين:
(إحداهما): يسلبه الطهورية، وهو المذهب، وهو من المفردات.
(والرواية الثانية) :لا يسلبه الطهورية، جزم به في الوجيز، واختاره المصنِّف، والشارح والشيخ تقي الدين، قال في الشرح: وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، لأن الماء قبل الغمس كان طهوراً، فيبقى على الأصل.
ونَهْيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غمس اليدين كان لوهم النجاسة، فالوهم لا يزيل الطهورية، كما لم يُزِل الطهارة، وإن كان تعبُّداً اقتصر على مَوْرِدِ النَّصِّ، وهو مشروعية الغسل.
(1) كما في البخاري ـ حديث رقم (163) ، و مسلم حديث رقم (287) ، وانظر أحاديث "غمس اليدين في الإناء" جامع الأصول لابن الأثير برقم (5182) و ما بعده .
(1/12)
، أو ُرفع بقليله حَدَثٌ، أو غُمِسَ فيه يدُ قائم من نوم ليلٍ ناقضٍ لوضوء، أو كان آخرَ غَسْلةٍ زالت النجاسة بها فَظَاهِرٌ.
والنَّجَسُ: ما تغيَّر بنجاسة، أو لاقاها وهو يسير، أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها، فإن أضيف إلى الماء النَّجِس طَهُورٌ كثيرٌ غير تراب ونحوه، أو زال تغيُّر النَّجِس الكثير بنفسِهِ أو نُزِحَ منه فبقي بعده كثير غير متغير طَهُرَ.
وإن شكَّ في نجاسة ماءٍ أو غيره أو طهارتهِ بنى على اليقين، وإن اشتبه طهورٌ بنجسٍ حرُم استعمالُهما، ولم يتحرَّ، ولا يشترط للتيمم إراقتُهما ولا خَلْطُهما، وإن اشتبه بطاهر توضَّأ منهما وضوءاً واحداً: من هذا غرفة ومن هذا غرفة، وصلى صلاةً واحدةً، وإن اشتبهت ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ أو بمحرمةٍ صلَّى في كل ثوبٍ صلاة بعدد النَّجِس أو المُحَرَّم وزاد صلاةً(1).
باب الآنية
__________
(1) * قال في الإنصاف: يعني إن علم عدد الثياب النجسة، وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وهو من المفردات، وقيل: يتحرَّى مع كثرة الثياب النجسة للمَشَقَّة، اختاره ابن عقيل، وقيل: يتحرَّى سواء قَلَّتْ الثيابُ أو كثرت، اختارها الشيخ تقي الدين.
(1/13)
كل إناء طاهرٍ -ولو ثميناً-، يباح اتخاذُه واستعمالُه، إلا آنيةَ ذهبٍ وفضَّة ومُضَبَّباً بهما، فإنه يَحْرُم اتخاذُها واستعمالُها ولو على أُنثى، وتصحُّ الطهارةُ منها(1)، إلا ضَبَّةً يسيرةً من فضَّة لحاجة، وتُكره مباشرتُها لغير حاجة، وتُباح آنيةُ الكفار ـ ولو لم تحلَّ ذبائحُهم وثيابُهم ـ إن جُهل حالُها(2).
ولا يَطْهر جِلْدُ مَيْتةٍ بدباغ(3)، ويباح استعمالُه بعد الدبغ في يابس إذا كان من حيوان طاهر في الحياة، وعظمُ الميتةِ ولبنُها وكلُّ أجزائِها نجسةٌ غير شَعر ونحوه، وما أُبين من حيٍّ فهو كميتته.
باب الاستنجاء
__________
(1) * قوله: (وتصح الطهارة منها) أي من الآنية المحرمة. هذا المذهب، وعنه لا تصح، اختاره الشيخ تقي الدين.
(2) * قوله: (وتباح آنيةُ الكفار -ولو لم تحلَّ ذبائحُهم وثيابهُم- إن جُهل حالها) قال في المقنع: وثياب الكفار وأوانيهم طاهرةٌ مباحةُ الاستعمال ما لم تُعْلَم نجاستُها، قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعنه: ما ولِي عوراتهم كالسراويل ونحوه لا يصلي فيه، وعنه: أنَّ من لا تحلُّ ذبيحتهم كالمجوس وعبدة الأوثان لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم إلا بعد غَسْله، قال القاضي: وكذا من يأكل الخنزير من أهل الكتاب في موضع يمكنهم أكله.
(3) * قوله: (ولا يطهر جلد ميته بدباغ)، هذا المذهب وهو من المفردات وعنه يطهر منها ما كان طاهرا في حال الحياة، وهو الصحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشاة الميتة: (ألا انتفعتم بإهابها) قالوا: إنها ميته قال: (يطهرها الماء والقرض) وفي الحديث الآخر: (دباغ جلود الميتة طهورها).
(1/14)
يُستحب عند دخولِ الخلاء قولُ: (بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث)(1) وعند الخروج منه: (غُفرانَك(2). الحمد لله الذي أذهب عنِّي الأذى وعافاني)(3) ، وتقديمُ رِجْلِه اليُسرى دُخولاً واليُمنى خُروجاً، عكس مسجد ونعل، واعتمادُه على رجله اليسرى، وبعدُه في فضاء واستتارُه، وارتيادُه لبوله موضعاً رخواً، ومسحُهُ بيده اليسرى إذا فَرَغَ من بوله من أصل ذَكَرِه إلى رأسه ثلاثاً، ونَثْرُه ثلاثاً، وتحوُّلُه من موضعه ليستنجي في غيره إن خاف تلوثاً.
ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله تعالى، إلا لحاجة، ورفعُ ثوبه قبل دُنُوِّه من الأرض، وكلامُهُ فيه، وبولُه في شَقٍّ ونحوِه، ومسُّ فرجه بيمينه
ڑڑٹڑ
ڑ(1) رواه البخاري 1/242، ومسلم (375).
والخبث: بإسكان الباء الأفعال القبيحة، وبضم الخاء والباء: ذُكران الجن.ٹڑ
ڑ(2) رواه أحمد 6/155، وأبوداود (30)، وابن ماجه (300) وابن حبان (1431)، والترمذي (7)، وقال: حسن غريب، والحاكم 1/158 وصححه ووافقه الذهبي.ٹڑ
ڑ(3) رواه ابن ماجه (301) من حديث أنس، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، قال البوصيري: متفق على تضعيفه، والحديث بهذا اللفظ غير ثابت. ا.هـ.
وللحافظ ابن حجر كلام طويل حول الحديث في تخريجه للأذكار فليراجع هناك.
ورواه ابن السني (21) من حديث أبي ذر.
واستنجاؤُه واستجمارُه بها، واستقبال النَّيِّريْن(1)
__________
(1) * قوله: (واستقبال النيِّرين) قال في الإنصاف: قوله: ولا يستقبل الشمس ولا القمر، الصحيح من المذهب كراهة ذلك، قال في الفروع: وقيل: لا يكره التوجه إليهما كبيت المقدس انتهى. والصحيح عدم الكراهة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تستقبلوا القِبْلةَ بغائطٍ ولا بولٍ ولا تستدبروها ولكن شَرِّقوا أو غربوا)(1).
(فائدة) لو استجْمر بما لا يجوز الاستجْمارُ به ثم استنجى بعده بالماء أجزأه بلا نزاع، و إن استجمر بغير المُنقي جاز الاستجمار بعده بُمنقٍ. قاله في الإنصاف.
(1) أخرجه البخاري في الوضوء: باب لا تستقبل القبلة ببول ولا غائط إلا عند البناء برقم (144). ومسلم في الطهارة، باب الاستطابة برقم (264).
(1/15)
.
ويَحْرُم استقبالُ القبلة واستدبارُها في غير بنيان، ولُبْثُه فوق حاجته، وبولُهُ في طريق وظِلٍّ نافع وتحت شجرة عليها ثمرة.
ويستجمر (بحجر)ثم يستنجي بالماء، ويجزئه الاستجمار إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادة.
ويشترط لاستجمارٍ بأحجارٍ ونحوِها أن يكون طاهراً منقياً غير عظمٍ وروثٍ وطعامٍ ومحترمٍ ومتصلٍ بحيوان، ويشترط ثلاثُ مسحات منقية فأكثر، ولو بحجر ذي شُعَب، ويسنُّ قطعُه على وَتْرٍ ، ويجب الاستنجاءُ لكلِّ خارجٍ إلا الرِّيحَ، ولا يصحُّ قبلَه وضوءٌ ولا تيمُّم.
باب السواك وسنن الوضوء
التَّسَوُّك بعود لَيِّن، مُنْقٍ، غير مُضِر، لا يتفتَّت، لا بإصبع وخرقة(1) مسنونٌ كلَّ وقت، لغير صائم بعد الزوال(2)، متأكِّدٌ عند صلاة، وانتباه، وتغيُّر فمٍ.
__________
(1) * قولُه: (لا بإصبع أو خرقة). قال في المقنع: فإن استاك بإصبعه أو بخرقة فهل يصيب السُّنة؟ على وجهين. قال في مجمع البحرين أصح الوجهين إصابة السنة بالخرقة وعند الوضوء بالإصبع، وقال الموفق: يصيب بقدر إزالته وقيل: يصيب السُّنَّة عند عدم السواك، قال في الإنصاف: وما هو ببعيد.
(2) * قوله: (مسنونٌ كلَّ وقت لغير صائم بعد الزوال). أي فلا يستحب، هذا المشهور من المذهب، وعنه يباح لحديث عامر بن ربيعة "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم"(1). رواه أحمد وغيره، وعنه يستحب مطلقاً، واختاره الشيخ تقي الدين لحديث: (خير فعال الصائم السواك) [رواه ابن ماجه].
(1/16)
ويستاك عَرضاً مبتدئاً بجانب فمه الأيمن(1)، ويدَّهنُ غِبًّا، ويكتحل وتْراً، وتجبُ التسمية في الوضوء مع الذِّكْر، ويجب الخِتَانُ ما لم يَخَفْ على نَفْسِه، ويُكْرَه القَزَع.
ومِن سُنن الوضوء السواك، وغسل الكفين ثلاثاً، ويجب من نوم ليل ناقضٍ لوضوء، والبَداءة بمضمضة، ثم استنشاق، والمبالغة فيهما لغير صائم، وتخليل اللحية الكثيفة والأصابع، والتيامن، وأخذ ماء جديد للأذنين، والغسلة الثانية والثالثة.
باب فروض الوضوء وصفته
فروضه ستة: غسل الوجه - والفمُ والأنفُ منه- وغسلُ اليدين، ومَسْحُ الرأس و(منه الأذنان)، وغسلُ الرِّجْلين، والترتيب، والموالاة وهي: أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشفَ الذي قبله.
والنية شرط لطهارة الأحداث كلها(2)
__________
(1) * قوله: (ويستاك عرضاً مبتدئاً بجانب فمه الأيمن) لحديث: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وسواكه و في شأنه كله). رواه أبو داود وقال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث البداءة بشِقِّ الرأس الأيمن في التَّرجل والغسل والحَلْق ولا يقال: هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتزين، وقد ثبت الابتداءُ بالشِّق الأيمنِ في الحَلْق قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة: استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استُحِبَّ فيه التياسُر.
(1) أخرجه البخاري في الوضوء، باب التيمن في الوضوء برقم (168)، ومسلم في الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره برقم (268).
(2) * قال في الاختيارات: ولا يمسح العنق، وهو قول جمهور العلماء، ولا أخذه ماءً جديداً للأذنين، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
* قال في الإنصاف: مفهوم قوله: (والنيةُ شرطٌ لطهارة الحدث) أنها لا تشترط لطهارة الخبث، وهو صحيح وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، قال: في الاختيارات: ولا يجب نطق بها سراً باتفاق الأئمة الأربعة وقولين في مذهب أحمد، وغيره في استحباب النطق بها، والأقوى عدمه، واتفقت الأئمة على أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكرارها.
(1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) أخرجه البخاري 1/9، ومسلم (1907) فهو متفق عليه.
(1/17)
(1)، فينوي رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها، فإن نوى ما تسن له الطهارة كقراءة، أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع، وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب، وكذا عكسه، وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غسلاً فنوى بطهارته أحدَها ارتفع سائرُها، ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة، وهو التسمية، وتسن
عند أول مسنوناتها إن وُجِدَ قبل واجبٍ، واستصحابُ ذكرِها في جميعها، ويجب استصحابُ حكمها.
وصفة الوضوء أن ينوي، ثم يسمي، ويغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللَّحْيَيْن والذَّقَن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، وما فيه من شعر خفيف، والظَّاهرَ الكثيفَ مع ما استرسل منه، ثم يديه مع المرفقين، ثم يمسح كل رأسه مع الأذنين مرة واحدة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، ويغسلُ الأَقْطَعُ بقيَّةَ المفروض، فإن قُطع من المَفْصِل غَسَلَ رأسَ العَضُدِ منه، ثم يرفعُ بصرَهُ إلى السماء، ويقول ما ورد، وتباح معونتُه وتنشيفُ أعضائه.
باب مسح الخُفَّيِنْ
(1/18)
يجوز يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة بلياليها، مِنْ حَدَثٍ بعد لُبْسٍ، على طاهرٍ، مباحٍ، ساترٍ للمفروض(1)، يَثْبُتُ بنفسه(2)، من خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوهِما، وعلى عِمامةٍ لرجل، محنكةٍ أو ذاتِ ذُؤابةٍ، وعلى خُمر نساءٍ مدارةٍ تحت حلوقهن، في حدث أصغر، وعلى جَبيرةٍ لم تتجاوز قدر الحاجة(3) - ولو (في) أَكْبَرَ - إلى حَلِّها، إذا لَبِس ذلك بعد كمال الطهارة. ومَنْ مسحَ في سفر ثم أقام أو عَكَسَ، أو شكَّ في ابتدائه، فمَسْح مقيمٍ، وإن أحدث ثم سافر قبل مَسْحِه، فمسحَ مسافر. ولا يمسح قَلانِسَ ولا لُفَافةً، ولا ما يسقط من القدم أو يُرى منه بعضُه(4)، فإن لبس خفّاً على خُفٍّ قبل الحدث فالحُكْم للفَوْقَانيِّ، ويمسح أكثر العمامة، وظاهر قدم الخُفِّ من أصابعه إلى ساقه، دون أسفله وعَقِبِه، وعلى جميعِ الجبيرةٍ. ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث أو تَمَّتْ مُدَّتُه استأنف الطهارة.
باب نواقض الوضوء
__________
(1) * قوله: (ساتر للمفروض)، قال في الاختيارات: ويجوز المسح على الخُفِّ المُخَرَّق ما دام اسمه باقياً، والمشي فيه ممكن، قال في الإنصاف: واختاره أيضاً جَدُّه وغيرُه من العلماء، لكن من شَرْطِ الخَرْقِ أن لا يَمْنَعَ متابعةَ المشي.
(2) * قوله: (يثبت بنفسه)، اختار شيخ الإسلام عدم اشتراطه، وجواز المسح على الزربول الذي لا يثبت إلا بِسَيْرٍ يشدُّه به متَّصلاً أو منفصلاً عنه ،قال: وأما اشتراط الثبات بنفسه فلا أصل له في كلام أحمد.
(3) * قوله: (وجبيرة لم تتجاوز قدر الحاجة) قال في الإنصاف: إذا تجاوز قدر الحاجة نزعه إن لم يخف التَّلَف، فإن خاف التلف سقط عنه بلا نزاع، وكذا إن خاف الضرر على الصحيح من المذهب.
(4) * قوله: (ولا ما يسقط من القدم أو يُرَى منه بعضُهُ)، تقدم اختيار شيخ الإسلام، ومال المجد إلى العفو عن خرق لا يمنع متابعة المشي نظراً إلى ظاهر خفاف الصحابة.
(1/19)
ينقض ما خرج من سبيل، وخارجٌ من بقية البدن إن كان بولاً أو غائطاً أو كثيراً نجساً غيرَهما، وزوالُ العقل إلا يسيرَ نومٍ من قاعدٍ أو قائمٍ(1)، ومسُّ ذَكَرٍ مُتَّصلٍ أو قُبُلٍ بظَهْر كَفّه أو بطنِه، ولمسُهُما من خُنْثَى مُشْكلٍ، ولمسُ ذكر ذَكَرَهُ أو أنثى قُبُلهَا لشهوةٍ فيهما، ومسُّه امرأةً بشهوةٍ أو تمسُّه بها(2)، ومسُّ حلقةِ دُبُرٍ، لا مَسُّ شعر وظفرٍ وأَمْردَ، ولامع حائل، ولا ملموسٍ بدنُهُ ولو وجد منه شهوَةً. وينقضُ غسلُ ميتٍ، وأكلُ اللحم خاصةً من الجَزُور(3)، وكلُّ ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموتَ، ومن تيقن الطهارة وشَكَّ في الحدث أو بالعكس بنى على اليقين، فإن تيقنهما وجهل السابق فهو بضد حالهِ قَبْلَهُمَا. ويَحْرُم على المحدث مسُّ المصحف، والصلاةُ، والطوافُ.
باب الغسل
__________
(1) * قوله: (وزوال العقل إلا يسير نوم من قاعد وقائم) هذا المذهب، وعنه أن نوم الراكع والساجد لا ينقض يسيره، قال في الاختيارات: والنوم لا ينقض مطلقاً إن ظن بقاء طهارته، وهو أخص من رواية حكيت عن أحمد: أن النوم لا ينقض بحال.
(2) * قوله: (ومسه امرأة بشهوة أو تمسه بها) هذا المذهب، وعنه: لا ينقض، قال في الاختيارات: ومال أبو العباس أخيراً إلى استحباب الوضوء دون الوجوب من مسِّ النساء والأمرد إذا كان لشهوة، قال: إذا مسَّ المرأةَ لغير شهوة فهذا مما عُلم بالضرورة أن الشارع لم يوجبْ منه الوضوء، ولا يستحب الوضوءُ منه.
(3) * قوله: (وأكل اللحم خاصة من الجزور)، قال في المقنع: وإن أكل من كبدها أو طحالها فعلى وجهين، قال في الإنصاف: أحدهما: لا ينقض وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، والثاني: ينقض. انتهى، واختار شيخ الإسلام في الفتاوى جميع أجزاء الجزور حكمُها واحد، قال في الاختيارات: ويستحب الوضوء من أكل لحم الإبل.
(1/20)
موجبُه خروجُ المَني دَفْقاً بلذَّةٍ لا بدونها، من غير نائمٍ: وإن انتقل ولم يخرجْ اغتسل له(1)، فإن خَرج بعد لم يُعِدْه، وتغييبُ حَشَفةٍ أصليةٍ في فَرْجٍ أَصْليٍ قُبُلاً كان أو دُبُراً ولو من بهيمة أو ميت، وإسلامُ كافرٍ، وموتٌ، وحيضٌ، ونِفَاسٌ، لا ولادةٌ عاريةٌ عن دم(2).
ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءةُ القرآن، ويَعْبُر المسجدَ لحاجةٍ، ولا يَلْبَثُ فيه بغير وضوء.
ومن غَسل ميتاً، أو أفاق من جنونٍ أو إغماءٍ، بلا حُلم، سُنَّ له الغسلُ. والغسلُ الكاملُ: أن ينويَ، ثم يُسَمِّي، ويغسل كفَّيه ثلاثاً وما لوَّثَه، ويتوضأ، ويَحْثي على رأسه ثلاثاً تُرَوِّيه، ويَعُمُّ بدنَه غُسْلاً ثلاثاً، ويدلكه، ويتيامن، ويغسل قدميه مكاناً آخَرَ.
والمُجْزِئُ: أن ينويَ، ثم يُسَمِّي، ويَعُم بدنَه بالغُسْلِ مرةً، ويتوضأ بمُدٍّ، ويغتسل بصاع، فإن أسبغ بأقلَّ أو نوى بغسله الحدثين أجزأ.
ويسن لجنُبٍ غسلُ فرجِه، والوضوءُ: لأكلٍ ونوم ومعاودةِ وطءٍ.
باب التيمم
وهو بَدَلُ طهارة الماء. إذا دخل وقتُ فريضة، أو أُبيحتْ نافلةٌ، وعَدِمَ الماء، أو زاد على ثمنه كثيراً، أو بثمن يُعْجِزُه، أو خاف باستعماله أو طَلَبِه ضررَ بدنِه أو حُرْمَتِه أو مَالِه بعطشٍ أو مرضٍ أو هلاكٍ ونحوه شُرع التيمُّمُ، ومن وجد ماءً يكفي بعض طُهْرِه تيمم بعد استعماله، ومن جُرح تيمَّمَ له وغسل الباقي.
__________
(1) * قوله: (وإن انتقل ولم يخرج اغتسل له). هذا من مفردات المذهب، وعنه لا يجب الغسل حتى يخرج، وهو قول أكثر العلماء، قال في الشرح وهو الصحيح إن شاء الله.
(2) * قوله: (لا ولادة عَارِيَة عن دم) قال في المقنع: وفي الولادة العاَرِيَّةِ عن الدم وجهان، قال في الإنصاف: أحدهما: لا يجب، وهو المذهب إلى أن قال: والثاني: يجب، وهو رواية في الكافي، واختاره ابن أبي موسى، وجزم به القاضي في الجامع الصغير.
(1/21)
ويجب طلبُ الماء في رَحْلِه وقربه وبدلالة، فإن نَسي قُدْرَتَه عليه وتيمم أَعَادَ، وإن نوى بتيممه أحداثاً أو نجاسة على بدنه تضره إزالتها (1)، أو عَدِمَ ما يزيلها، أو خاف برداً، أو حبس في مصر فتيمم، أو عَدِمَ الماء والترابَ صلى ولم يُعِد. ويجب التيمم بتراب طهور له غبار (2)، لم يغيره طاهر غيره.
__________
(1) * قوله: (أو نجاسة على بدنه تضرُّه إزالتُها) قال في الإنصاف: ويجوز التيمم للنجاسة على جرح يضره إزالتها، ولعدم الماء على الصحيح من المذهب، وهي من المفردات، وعنه لا يجوز التيمم لها، قال في الاختيارات: ولا يتيمم للنجاسة على بدنه، وهو قول الثلاثة خلافاً لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى.
(2) * قوله: (ويجب التيمم بتراب طهور [غير مُحترِق](1) له غُبار)، قال في الإنصاف: قوله: ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليدين، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وعنه يجوز بالسبخة وبالرمل، قال في الاختيارات: ويجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض إذا لم يجد تراباً، وهو رواية، قال: ولا يستحب حملُ التراب معه للتيمم، قاله طائفة من العلماء، خلافاً لما نقل عن أحمد.
(1) ما بين المعقوفتين ليس في العبارة المشروحة من الكتاب ، و هو في المتن أعلاه .
(1/22)
وفروضه: مسح وجهه ويديه إلى كوعيه، و (كذا) الترتيب، والموالاة(1) في حدث أصغر.
وتشترط النية لما يتيمم له من حدث أو غيره، فإن نوى أحدهما لم يجزئه عن الآخر(2)، وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يُصَلِّ به فرضاً(3)، وإن نواه صلَّى كل وقته فروضاً ونوافل.
__________
(1) * قوله: (وكذا الترتيب والموالاة) أي من فروض التيمم على إحدى الروايتين، قال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أن حكم الترتيب والموالاة هنا حكمهما في الوضوء، وقيل: هما هنا سُنَّة، قال المجد: قياس المذهب عندي أن الترتيب لا يجب في التيمم وإن وجب في الوضوء، لأن بطون الأصابع لا يجب مسحُها بعد الوجه في التيمم بالضربة الواحدة؛ بل يعتمد بمسحها معه، واختاره في الفائق، قال ابن تميم: وهو أولى. قال في الاختيارات: والجريح إذا كان محدِثاً حدثاً أصغر فلا يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، فيصح أن يتيمم بعد كمال الوضوء؛ بل هذا هو السنة، والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة.
(2) * قال في الإنصاف: قوله: (فإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر ) اعلم أنه إذا كانت عليه أحداث فتارة تكون متنوعة عن أسباب أحد الحدثين، وتارة لا تتنوع، فإن تنوعت أسباب أحدهما ونوى بعضها بالتيمم، فإن قلنا في الوضوء لا يجزئه عما لم ينوه، فهنا بطريق أولى، وإن قلنا: يجزئ هناك أجزأ هنا على الصحيح.
(3) * قوله: (وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يُصَلِّ به فرضاً)، قال في الإنصاف: وهذا المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وقال ابن حامد: إن نوى استباحة الصلاة وأطلق، جاز له فعلُ الفرض والنفل، وخرَّجه المَجْدُ وغيره، قال في الاختيارات: والتيمم يرفع الحدث، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، واختارها أبوبكر محمد الجوزي، وفي الفتاوى المصرية: التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقتُ الصلاة الأخرى، كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وهو أعدلُ الأقوال.
(1/23)
ويبطل التيمم بخروج الوقت وبمبطلات الوضوء، وبوجود الماء ولو في الصلاة، لا بعدها، والتيمُّم آخر الوقت لراجي الماء أولى.
وصفته: أن ينوي، ثم يسمي، ويضرب التراب بيديه مُفَرَّجَتَي الأصابع، ويمسح وجهه بباطنهما وكفيه بِراحَتَيْه ويُخَلِّل أصابِعَه.
باب إزالة النجاسة
يُجزئ في غَسْل النجاسات كلِّها إذا كانت على الأرض غَسلةٌ واحدةٌ تذهب بعين النجاسة، وعلى غيرها سَبْعٌ(1) إحداها بالتراب في نجاسة كلبٍ وخِنْزِيرٍ، ويجزئُ عن التراب أشْنانٌ ونحوه، وفي نجاسة غيرهما سَبْعٌ بلا تراب، ولا يَطْهُر متنجسٌ بشمسٍ ولا ريحٍ ولا دَلْكٍ ولا استحالةٍ(2)
__________
(1) * قوله: (وعلى غيرها سَبْعٌ)، قال في المقنع: وفي سائر النجاسات ثلاثُ روايات إحداهن: يجب غَسْلُها سبعاً، والثانية: ثلاثاً، والثالثة: تُكَاثَرُ بالماء، يعني حتى تذهب عينُ النجاسة، اختارها في المغني، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دم الحيض : (فلتقرصه ثم لتنضحْه بالماء)، قلت: الأقرب الثلاث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتثليث عند توهم النجاسة للقائم من النوم، فعند تَيَقُّنِها أولى، وأما الحديث الذي يذكره بعضهم: (أُمرنا بغَسْل الأنجاسِ سَبْعاً)(1) فلا تقوم به الحجة.
(2) * قوله: (ولا يَطْهُر متنجسٌ بشمسٍ ولا ريحٍ ولا دَلْك ولا استحالةٍ)، قال في الإنصاف: قوله ولا تطهر الأرضُ النجسةُ بشمسٍ ولا ريحٍ ولا بجفافٍ أيضاً، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقيل: يطهر في الكل، اختاره المجد في شرحه، وصاحب الحاوي الكبير، والفائق والشيخ تقي الدين وغيرهم، قال في الاختيارات: وإذا تنجَّس ما يضره الغسل كثياب الحرير والوَرَق وغير ذلك أجزأ مسحُه في أظهر قولَي العلماء، و تطهُرُ الأجسام الصقيلة كالسيفِ و المرآةِ و نحوِهما إذا تنجَّست بالمسحِ ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ونقل عن أحمد مثلُه في السكين في دم الذبيحة، ويطهر النَّعْلُ بالدَلْكٍ بالأرض إذا أصابه نجاسة، وهو رواية عن =
(1) رواه أبو داود بإسناد ضعيف برقم (247) وانظر إرواء الغليل للألباني رقم(163).
=أحمد، وذيلُ المرأة يطهرُ بمروره على طاهرٍ يُزيل النجاسة، وتطهر النجاسة بالاستحالة -إلى أن قال- وعلى القول: بأن النجاسة، لا تطهر بالاستحالة، فيُعفَى من ذلك عما يَشُقُّ الاحترازُ عنه كالدُّخان والغبار المستحيل من النجاسة كما يعفى عما يشق الاحتراز عنه من طين الشوارع وغبارها، وإن قيل: إنه نجس، فإنه يُعفَى عنه على أصح القولين، ومن قال: إنه نجس ولم يعْف عما يشق الاحتراز عنه، فقوله أضعف الأقوال، وما تطاير من غبار السِّرْجِيُن ونحوه، ولم يمكن التحرز عنه عُفي عنه، وتطهر الأرض النجسة بالشمس والريح إذا لم يَبْقَ أثرُ النجاسة، وهو مذهب أبي حنيفة، لكن لا يجوز التيمم عليها بل تجوز الصلاة عليها بعد ذلك ولو لم تُغْسَلْ، ويطهر غيرها بالشمس والريح أيضاً، وهو قولٌ في مذهب أحمد، ونص عليه في حبل الغسال وتكفي غلبة الظن بإزالة نجاسة المذي أو غيره، وهو قول في مذهب أحمد، ورواية عنه في المذي ، انتهى ملخَّصاً.
(1/24)
غيرَ الخَمْرة، فإن خُلِّلتْ أو تنجَّس دُهْنٌ مائع لم يَطْهُر(*)، وإن خفي موضعُ نجاسةٍ من الثوب أو غيره غُسِلَ حتى يَجْزم بزواله(1).
__________
(1) * قوله: (أو تنجس دهن مائع لم يطهر)، قال في المقنع: ولا تطهر الأدهان المتنجسة، وقال أبو الخطاب: يطهر بالغسل منها ما يتأتى غسله.
قال في المقنع: ومَنِيُّ الآدمي طاهر، وعنه أنه نجس، ويجزئُ فَرْكُ يابسه، وفي رطوبة فرج المرأة روايتان. وسباع البهائم والطير والبغل والحمار الأهلي نجسة، وعنه
أنها طاهرة، وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر.
قال في الاختيارات: ونقل عن أحمد في جوارح الطير إذا أكلت الجِيَف، فلا يعجبني عَرَقُها، فدلَّ على أنه كرهه؛ لأكلها النجاسة فقط، وهو أولى، ولا فرق في الكراهة بين جوارح الطير وغيرها، وسواء كان يأكل الجيف أم لا، وإذا شك في=
=الرَّوْثَة هل هي من رَوْثِ ما يؤكل لحمه أو لا؟ فيه وجهان في مذهب أحمد مبنيان على أن الأصل في الأرواث الطهارة إلا ما استثني وهو الصواب، أو النجاسة إلا ما استثني. وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه؛ بل القول بنجاسته قول مُحْدَثٌ لا سلف له من الصحابة.
ولا يجب غسل الثوب والبدن من المذي والقيح والصديد، ولم يقم دليل على نجاسته، وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته، والأقوى في المذي أنه يجزئ فيه النضح، وهو أحد الروايتين عن أحمد، ويد الصبي إذا أدخلها في الإناء فإنه يكره استعمال الذي فيه، ويُعفى عن يسير النجاسة حتى بعر فأرة نحوها في الأطعمة وغيرها، وهو قول في مذهب أحمد، وإذا أكلت الهرة فأرة ونحوها؛ فإذا طال الفصل طهر فمها بريقها لأجل الحاجة، وهذا أقوى الأقوال، واختاره طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة، وكذلك أفواه الأطفال والبهائم والله أعلم.
(1/25)
ويطهر بول غلام لم يأكل الطعام بنضحه، ويعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر، وعن أثر استجمار (بمحله)، ولا ينجس الآدمي بالموت، ولا ما لا نفس له سائلة متولد من طاهر، وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيُّه طاهر، ومنيّ الآدمي ورطوبة فرج المرأة، وسؤر الهرة وما دونها طاهر، وسباع البهائم والطير والحمار الأهلي -والبَغل منه- نجسة.
باب الحيض
لا حيض قبل تسع سنين، ولا بعد خمسين(1)، ولا مع حَمْلٍ (2). وأقلُّه يومٌ وليلةٌ (3)، وأكثرُه خمسةَ عشرَ، وغالبُه ستٌ أو سبعٌ، وأقلُّ طُهرٍ بين حيضتين ثلاثةَ عشرَ، ولا حَدَّ لأكثره، وتقضي الحائض الصومَ لا الصلاةَ، ولا يَصِحَّان منها بل يَحْرُمان، ويحرمُ وطؤُها في الفرج،
__________
(1) * قوله: (ولا بعد خمسين)، هذا المذهب، وهو من المفردات، وعنه: أكثره ستون، وعنه: بعد الخمسين حيض إن تكرر، قال في الإنصاف: وهو الصواب.
(2) * قوله: (ولا مع حمل). قال في الإنصاف: وقوله: والحامل لا تحيض. هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وعنه: أنها تحيض، ذكرها ابن القاسم والبيهقي، واختارها الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، قال في الفروع: وهو أظهر، قال في الإنصاف: وهو الصواب، وقد وجد في زماننا وغيره أنها تحيض مقدار حيضها قبل ذلك، ويتكرر في كل شهر على صفة حيضها، وقد رُوي أن إسحاق ناظر أحمد في هذه المسألة، وأنه رجع إلى قول إسحاق. رواه الحاكم، انتهى.
(3) * قوله: (وأقله يوم وليلة) قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعنه: يوم، اختاره أبو بكر، واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره؛ بل كلما استقر عادة للمرأة فهو حيض، وإن نقص عن يوم أو زاد عن الخمسة عشر أو السبعة عشر ما لم تَصِرْ مستحاضة، قال في الاختيارات: ولا حَدَّ لأقلِّ سِنٍّ تحيض فيه المرأة ولا لأكثره، ولا لأقل الطُّهر بين الحيضتين.
(1/26)
فإن فعل فعليه دينار أو نصفُه كفَّارة، ويستمتع منها بما دونه (1)، وإذا انقطع الدمُ ولم تغتسلْ لم يُبَحْ غيرُ الصيام والطلاق.
__________
(1) * قوله: (ويستمتع منها بما دونه)، قال في الإنصاف: قوله: ويجوز أن يستمتع من الحائض بما دون الفرج، هذا المذهب وهو من المفردات، وعنه: الاستمتاع بما بين السرة والركبة، وقطع الأزجي في نهايته بأنه إذا لم يأمن على نفسه حَرُمَ عليه؛ لئلا يكون طريقاً إلى مواقعة المحظور.
قال في الاختيارات: ويحرمُ وطء الحائض، فإن وطئ في الفرج فعليه دينار كفارة، ويعتبر أن يكون مضروباً، وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج ولم ينزجرْ فرق بينهما كما قلنا فيما إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر.
(1/27)
والمُبْتَدأَةُ تجلس أَقَلَّهُ ثم تغتسل وتصلِّي (1)، فإن انقطع لأكثره فما دون اغتسلتْ إذا انقطَعَ، فإن تكرر ثلاثاً فحيض، وتقضي ما وجب فيه، وإن عَبَرَ أكثرُه فمستحاضةٌ، فإن كان بعضُ دمها أحمر وبعضُه أسود ولم يَعْبُرْ أكثرَه ولم يَنْقُصْ عن أقلِّه فهو حيضُها: تجلسه في الشهر الثاني، والأحمرُ استحاضةٌ، وإن لم يكن دمُها متميزاً جلست غالب الحيض من كل شهر.
__________
(1) * قوله: (والمُبْتَدَأَةُ تجلس أقلَّه ثم تغتسل وتصلي)، قال في الإنصاف: أعلم أن المبتدأة إذا ابتدأت بدم أسود جلسته، وإن ابتدأت بدم أحمر فالصحيح من المذهب أنه كالأسود وقيل: لا تجلس للدم الأحمر إذا رأته وإن جلسناها الأسود، وقيل: حكمُه حكمُ الدمِ الأسودِ، وهو المذهب. انتهى ملخصاً، قال في المغني: روى صالح قال: قال أبي: أول ما يبدأ الدم بالمرأة تقعدُ ستةَ أيام أو سبعةَ أيام ، وهو أكثر ما تجلسُه النساءُ على حديث حَمْنَةَ، وعنه: أنها تجلس ما تراه من الدم ما لم يجاوز أكثر الحيض، وقال في الشرح الكبير: وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، اختاره شيخنا، قال في الاختيارات: والمُبْتَدَأَةُ تجلس ما تراه من الدم ما لم تَصِرْ مستحاضة، وكذلك المنتقِلَةُ إذا تغيَّرتْ عادتُها بزيادة أو نقص أو انتقال، فذلك حيضٌ حتى تعلمَ أنها استحاضةٌ باستمرار الدم.
(1/28)
والمُستحاضةُ المُعتادةُ ولو مُمَيزةً تجلس عادتها(1)، وإن نسيتْها عملت بالتمييز الصالح، فإن لم يكن لها تمييزٌ، فغالبُ الحيضِ كالعالمةِ بموضعِه، الناسيةِ لعَدَدِه، وإن علمتْ عَدَدَهُ ونسيتْ موضعَهُ من الشهر ولو في نصفه جلستْها من أوله(2)، كمن لا عادةَ لها ولا تمييز، ومن زادتْ عادتها أو تقدمت أو تأخرت فما تكرر ثلاثاً حيضٌ(3)
__________
(1) * قوله: (والمستحاضة المعتادة ولو مميزة تجلس عادتها)، قال في المقنع: وإن استحاضت المعتادة رجعت إلى عادتها، وإن كانت مميزة، وعنه يقدم التمييز وهو اختيار الخرقي، قال الحافظ ابن حجر على قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبيش: "إن ذلك دم عرق، فإذا أقبلت الحيضة، فاتركي الصلاة فيها، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". فيه دليل على أن المرأة إذا ميَّزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض، وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم دم الحدث، فتتوضأ لكل صلاة؛ لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة لظاهر قوله: "ثم توضئي لكل صلاة"(1) وبهذا قال الجمهور.
(2) * قوله: (وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر ولو في نصفه جلستها من أوله). قال في المقنع: وإن علمت عدد أيامها ونسيت موضعها جلستها من أول كل شهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلسها بالتحري.
(3) * قوله: (ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت، فما تكرر ثلاثاً فحيض). قال في المقنع: وإن تغيرت العادة بزيادة أو تقدم أو تأخر أو انتقال، فالمذهب أنها تلتفت إلى ما خرج عن العادة حتى يتكرر مرة أو مرتين، على خلاف الروايتين، وعندي أنها تصير من غير تكرار، واختاره الشيخ تقي الدين. قال في الإقناع: وعليه العملُ، ولا يسعُ النساء العمل بغيره، قال في الإنصاف: وهو الصواب.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (327) في الحيض: باب عرق الاستحاضة، ومسلم رقم (334) في الحيض: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها.
(1/29)
، وما نَقَصَ عن العادة طهرٌ، وما عاد فيها جلستْه، والصُّفْرَةُ والكُدْرَةُ في زمن العادة حيضٌ، ومن رأتْ يوماً دماً ويوماً نقاء، فالدمُ حيضٌ، والنقاءُ طُهْرٌ ما لم يَعْبُرْ أكثرُه(1).
والمستحاضةُ ونحوها تغسل فَرْجَها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي فروضاً ونوافلَ، ولا تُوطأُ إلا مع خوفِ العَنَتِ(2)
__________
(1) * قوله: (ومن رأت يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فالدم حيضٌ والنقاءُ طُهْرٌ ما لم يَعْبُرْ أكثرُه)، قال في المقنع: ومن كانت ترى يوماً دماً ويوماً طُهْراً فإنها تضمُّ الدمَ على الطهرِ فيكون حيضاً والباقي طُهْراً إلا أن يجاوز أكثر الحيض فتكون مستحاضة، قال في الفروع: ومن رأت دماً متفرِّقاً يبلغ مجموعه أقل الحيض ونقاءً، فالنقاءُ طهرٌ وعنه أيامُ الدمِ والنقاءِ حيضٌ، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، قال في الإنصاف: اختاره الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق.
(2) * قوله: (ولا توطأ إلا مع خوف العنت) قال في المقنع: وهل يباح وطءُ المستحاضةِ في الفَرْجِ من غير خوفِ العَنَتِ؟ على روايتين، قال في الإنصاف: (إحداهما) لا يباح وهو المذهب، وهو من المفردات (الثانية) يباح، قال في "الحاويين": ويباح الوطء للمستحاضة من غير خوف العنت على أصح الروايتين، وعنه يكره.
وقال البخاري: (باب إذا رأت المستحاضة الطهر) قال ابن عباس: تغتسل وتصلي ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا صلَّتْ، الصلاة أعظم، وساق حديث فاطمة بنت أبي حبيش "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" قال الحافظ: قوله: قال ابن عباس: تغتسل وتصلي ولو ساعة، قال الداودي: معناه إذا رأت الطهر ساعة ثم عاودها دم؛ فإنها تغتسل وتصلي، والتعليق المذكور وصله ابن أبي شيبة والدارمي من طريق أنس بن سيرين عن ابن عباس أنه سأله عن المستحاضة فقال: أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة= =فلتغتسل وتصلي قال الحافظ: والدم البَحْراني هو دمُ الحيض ، قوله: (ويأتيها زوجها). هذا أثر آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وصله عبد الرازق وغيره من طريق عكرمة عنه، قال: "المستحاضة لا بأس أن يأتيها زوجها" ولأبى داود من وجه آخر عن عكرمة قال: "كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها". قوله: (إذا صلَّتْ) شرط محذوف الجزاء أو جزاؤه مقدم ، وقوله: (الصلاة أعظم). أي من الجماع، والظاهر أن هذا بحث من البخاري أراد به بيان الملازمة، أي إذا جازت الصلاة فجواز الوطء أولى؛ لأن أجر الصلاة أعظم من أجر الجماع. اهـ.
(1/30)
، ويستحب غسلُها لكل صلاة.
وأكثر مدةِ النِّفاسِ أربعون يوماً(1)، ومتى طَهرتْ قبله تطهَّرتْ وصلَّتْ، ويكره وطؤُها قبل الأربعين بعد التطهُّر، فإن عاودها الدم فمشكوكٌ فيه؛ تصوم، وتصلي وتقضي الواجب(2).
وهو كالحيض فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ ويسْقُطُ، غير العدة والبلوغ(3)، وإن ولدت توأمين فأول النفاس وآخره من أولهما(4).
كتاب الصلاة
__________
(1) * قوله: (وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً). هذا قول أكثر أهل العلم، وقال الحسن: النفساء لا تكاد تجاوز الأربعين، فإن جاوزت الخمسين فهي مستحاضة، وقال مالك والشافعية: أكثره ستون، قال في الاختيارات: ولا حدَّ لأقل النفاس ولا لأكثره، ولو زاد على الأربعين أو الستين أو السبعين وانقطع فهو نفاس، ولكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب.
(2) * قوله: (فإن عاودها الدم فمشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الواجب). قال في المقنع: وإذا انقطع دمها في مدة الأربعين ثم عاد فيها فهو نفاس وعنه: أنه مشكوك فيه، قال في الفائق: إذا عاد في مدة الأربعين فهو نفاس في أصح الروايتين.
(3) * قوله: (وهو كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط غير العدة والبلوغ). قال في المقنع: والنفاس مثله إلا في الاعتداد، قال في الإنصاف: ويستثنى أيضاً كون النفاس لا يوجب البلوغ؛ فإنه يحصل قبل النفاس بمجرد الحمل.
(4) * قوله: (وإن ولدت توأمين فأول النفاس وآخره من أولهما). هذا المذهب، وعنه: أنه أوله الأول، وآخره من الثاني، والله أعلم.
(1/31)
تجب على كل مسلم مكلَّف، إلا حائضاً ونفساءَ، ويقضي من زال عقلُه بنوم أو إغماء أو سُكْرٍ ونحوه(1)، ولا تصحُّ من مجنون ولا كافر، فإن صلَّى فمسلمٌ حُكْماً(1)، ويؤمر بها صغير لسبعٍ، ويضرب عليها لعشرٍ، فإن بَلَغَ في أثنائها أو بعدَها في وقتها أعاد(2) .
ويَحْرُم تأخيُرها عن وقتها، إلا لناوي الجمع، ولمشتغلٍ بشرطها الذي يحصِّله قريباً(*)، ومن جحد وجوبها كفر، وكذا تاركها تهاوناً ودعاه إمامٌ أو نائبه فأصرَّ وضاق وقتُ الثانية عنها، ولا يُقتَلُ حتى يستتابَ ثلاثاً فيهما(3)
__________
(1) * قوله: (فإن صلى فمسلم حكماً) قال في المقنع: وإذا صلى الكافر حُكِمَ بإسلامه، قال في الإنصاف: هذا المذهب مطلقاً، وعليه الأصحاب، وهو من مفردات المذهب، وذكر أبو محمد التميمي: إن صلَّى جماعة حكم بإسلامه لا إن صلى منفرداً، قال الشيخ تقي الدين: شرط الصلاة تقدم الشهادة المسبوقة بالإسلام، فإذا تقرب بالصلاة يكون بها مسلماً.
(2) * قوله: (فإن بَلَغَ في أثنائها أو بعدَها في وقتها أعاد)، قال في الإنصاف: يعني إذا قلنا: إنها لا تجب عليه إلا بالبلوغ، وهذا المذهب وقيل: لا يلزمه الإعادة فيهما، وهو يُخَرَّج لأبي الخطاب، واختاره الشيخ تقي الدين صاحب الفائق اهـ.
(قلت) وهو الصواب لقوله تعالى: +$tBur جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ 8ltچym".
(3) * قوله: (ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً) قال في الاختيارات: وأما
قول بعض أصحابِنا لا يجوز تأخيرُها عن وقتها إلا لِنا وٍ جمعهما، أو مشتغلٍ بشرطها؛=
(1) لحديث: "من نام عن صلاة أو نسيها فلْيصلِّها إذا ذكرها". أخرجه البخاري في: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة برقم (597)، ومسلم في المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة برقم (684).
=فهذا لم يقله أحد قبله من الأصحاب، بل ولا من سائر طوائف المسلمين إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا لا شك ولا ريب أنه ليس على عمومه، وإنما أراد صوراً معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلاً يستقي به ولا يَفْرُغ إلا بعد الوقت، أو أمكن العُرْيان أن يخيط ثوباً ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصور، ومع هذا فالذي قاله في ذلك هو خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وجماهير العلماء، وما أظنه يوافقه إلا بعض أصحاب الشافعي، ويؤيد ما ذكرناه أيضاً أن العُرْيان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري منها ثوباً ولا يصلي إلا بعد الوقت، لا يجوز له التأخير بلا نزاع، وكذلك العاجز عن تعلُّم التكبير والتشهد الأخير إذا ضاق الوقت صلَّى على حسب حاله، وكذلك المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يَجُزْ لها التأخير بل تصلي في الوقت بحسب حالها. ا.هـ.
(1/32)
.
باب الأذان والإقامة
هما فرضا كفاية على الرجال المقيمين للصلوات المكتوبة(1)، يُقَاتَل أهلُ بلدٍ
تركوهُما، وتحرُم أجرتُهما(2)، لا رزق من بيت المال لعدم متطوع. ويكون المؤذن صَيِّتاً أميناً عالماً بالوقت، فإن تَشَاحَّ فيه اثنان قُدِّم أفضلُهما فيه، ثم أفضلُهما في دينه وعقله، ثم من يختاره الجيران، ثم قُرْعةٌ.
__________
(1) * قوله: (هما فرضا كفاية على الرجال المقيمين للصلوات الخمس المكتوبة). قال في الإنصاف: اعلم أنهما تارةً يُفعلان في الحضر، وتارة في السفر، فإن فُعِلا في الحضر؛ فالصحيح من المذهب أنهما فرضُ كفاية في القرى والأمصار وغيرهما، وهو من مفردات المذهب، وعنه هما فرض كفاية في الأمصار والقرى، سُنَّة في غيرهما، وعنه هما سُنَّة مطلقاً، قال في الاختيارات: والصحيح أنهما فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره، وقد أطلق طوائف من العلماء أن الأذان سُنَّة، ثم من هؤلاء من يقول: إنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قوتلوا، والنزاع مع هؤلاء= =قريب من النزاع اللفظي فإن كثيراً من العلماء يُطْلِق القولَ بالسُّنَّة على ما يلزم تاركه، ويعاقب تاركُه شرعاً وأما من زعم أنه سنَّة لا إثم على تاركه فقد أخطأ، وليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة، وإذا صلى وحده أداءً أو قضاءً، وأَذَّن وأقام، فقد أحسن، وإن اكتفى بالإقامة أجزأه.
(2) * قوله: (وتحرم أجرتُهما) قال في المقنع: ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما في أظهر الروايتين، قال في الإنصاف: وهو المذهب، وعليه الأصحاب. والرواية الأخرى
يجوز، وعنه يكره، وقيل: يجوز إن كان فقيراً، ولا يجوز مع غِنَاه(1)، واختاره الشيخ تقي الدين.
(1/33)
وهو خمسَ عشرةَ جملةً، يرتِّلُها على علو متطهراً مستقبلَ القبلة، جاعلاً إصبعيه في أذنيه، غير مستدير(1)، ملتفتاً في الحَيْعَلَة يميناً وشمالاً، قائلاً بعدهما في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم، مرتين.
__________
(1) * قوله: (غير مستدير)، هذا المذهب، وعنه يزيل قدميه في منارة ونحوها، قال في الإنصاف: وهو الصواب، وقال في المغني عن أحمد: لا يدور إلا إن كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين(2).
(1) قال ابن قدامة في المغني 2/70: ولا نعلم خلافاً في جواز أخذ الرَّزْق عليه، وهذا قول الأوزاعي، والشافعي، لأن بالمسلمين حاجةً إليه، وقد لا يوجد متطوِّع به، وإذا لم يدفعْ الرَّزق فيه تعطَّل ويرزقه الإمام في الفيء، لأنه لمُعَدُّ للمصالح، فهو كأرزاق القضاة والغُزاة. اهـ.
(2) قال في المغني 2/85: ولو أخلَّ باستقبال القبلة أو مشى في أذانه، لم يَبْطُلْ، فإنَّ الخُطبةَ آكدُ من الأذان، ولا تبطل بهذا. اهـ.
(1/34)
وهي إحدى عشرة - يَحْدُرُها. ويقيم مَنْ أَذَّن في مكانه إن سَهُل، ولا يصِحّ إلا مرتَّباً متوالياً من عدل ولو ملحَّناً أو ملحوناً، ويجزئ من مُمَيِّز. ويبطلهما فَصْلٌ كثير، ويسير مُحَرَّم، ولا يجزئ قبل الوقت، إلا الفَجْرَ بعد نصف الليل(1).
ويُسَنُّ جلوسُه بعد أذان المغرب يسيراً، ومن جمع أو قضى فوائتَ أَذَّن للأولى، ثم أقام لكل فريضة، ويُسَنُّ لسامعه متابعتُه(2)
__________
(1) * قوله (ولا يجزئ قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل) قال في الإنصاف: الصحيح من المذهب صِحَّةُ الأذان وإجزاؤه بعد نصف الليل لصلاة الفجر، وعليه جماهير الأصحاب، قال الزركشي: لا إشكال أنه لا يُسْتَحب تقدُّم الأذان. قبل الوقت كثيراً، قال في الفروع: وعنه لا يصح وفاقاً لأبي حنيفة كغيرها، قال في الشرح الكبير: ويستحب أن لا يؤذن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذنٌ آخرُ يؤذِّن إذا أصبح كبِلال وابنِ أم مَكْتوم، ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يَحْصُل الإعلام بالوقت المقصود بالأذان، وينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يجعل أذانه في وقت واحد في الليالي كلِّها؛ ليعرف الناسُ ذلك من عادته فلا يغترُّوا بأذانه، ولا يؤذن في الوقت تارة وقبله أخرى؛ فيلتبس على الناس ويغترُّون به، فربما صلَّى بعضُ من سمعه الصُّبْحَ قبل وقتها، ويمتنع من سحوره، والمتنفِّل من تَنَفُّلِه إذا لم يعلم حاله، ومن علم حاله لا يستفيد بأذانه لتردده بين الاحتمالين.
(2) * قوله: (ويسن لسامعه متابعته) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم المؤذِّنَ فقولوا مثل ما يقول"(1) قال الشوكاني في نيل الأوطار: والظاهر من قوله في الحديث (فقولوا) التعبدُ بالقول، وعدم كفاية إمرار المجاوبة على القلب، والظاهر من قوله: "مثل ما=
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في: باب ما يقول إذا سمع المنادي، من كتاب الأذان 1/159، ومسلم في: باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، من كتاب الصلاة 1/288.
= يقول" عدم اشتراط المساواة من جميع الوجوه، قال اليعمري: لاتفاقهم على أنه لا يلزم المجيب أن يرفع صوته، ولا غير ذلك، قال الحافظ: وفيه بحث؛ لأن المماثلة وقعتْ في القول، لا في صفته ولاحتياج المؤذن إلى الإعلام له برفع الصَّوتَ بخلاف السامع، فليس مقصوده إلا الذِّكْر، والسِّرُّ والجَهْرُ مستويان في ذلك انتهى.
(1/35)
سرّاً وحوقلتهُ في الحَيْعَلَةِ، وقوله بعد فراغه: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوةِ التَّامَّةِ والصلاةِ القائمةِ آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته.
باب شروط الصلاة
شروطها قبلها: منها الوقت، والطهارة من الحدث والنجس.
فوقتُ الظهر من الزوال إلى مساواة الشيء فَيْئَهُ بعد فَيْءِ الزَّوال، وتعجيلُها أفضلُ إلا في شدَّةِ حرٍ، ولو صلَّى وحده، أو مع غيمٍ لمن يصلِّي جماعةً(1)، ويليه وقتُ العصر إلى مصير الفيء مِثْلَيْه بعد فيء الزوال. والضَّرورةُ إلى غروبها، ويُسَنُّ تعجيلُها، ويليه وقتُ المغرب إلى مَغيب الحُمْرة، ويُسَنُّ تعجيلُها إلا ليلةَ جَمْعٍ لمن قصدها مُحرماً، ويليه وقتُ العشاء إلى الفجر الثاني(2)، وهو البياض المُعْتَرِض، وتأخيرُها إلى ثلث الليل أفضلُ إن سَهُلَ، ويليه وقتُ الفجر إلى طلوع الشمس وتعجيلها أفضل.
وتُدْرَكُ الصَّلاةُ بتكبيرة الإحرام في وقتها، ولا يصلي قبل غلبةِ ظنِّه بدخول وقتها إما باجتهاد، أو خبر مُتيقَّن، فإن أحرم باجتهاد فبان قبله
__________
(1) * قوله: (وتعجيلُها أفضلُ إلا في شدة حَرٍّ، ولو صلَّى وحدَه أو مع غَيْمٍ لمن يصلِّي جماعة). قال في المقنع: والأفضل تعجيلُها إلا في شدة الحر والغيم لمن يصلي جماعةً، قال في الإنصاف: جَزَمَ المصنِّف هنا أنها تؤخَّر لمن يصلي جماعةً فقط، وهو أحد الوجهين (والوجه الثاني) أنها تؤخَّر لشدَّة الحر مطلقاً. وهو المذهب.
(2) * قوله: (ويليه وقتُ العشاء إلى الفجر الثاني) قال في المقنع: ووقتها من مغيب الشَّفَق الأحمر إلى ثلث الليل الأول، وعنه: نصفه، ثم يذهب وقتُ الاختيار، ويبقى وقتُ الضرورة.
(1/36)
فنفلٌ وإلا ففرضٌ، وإن أدرك مكلَّفٌ من وقتها قدرَ التَّحْريمةِ(1)، ثم زال تكليفُه أو حاضتْ ثم كُلِّف وطَهُرتْ قَضَوْها، ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمَتْه وما يجمَع إليها قَبْلَها، ويجب فوراً قضاءُ الفوائت مرتِّباً، ويَسْقطُ الترتيبُ بنسيانه، وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة.
ومنها سَتْرُ العورة، فيجب بما لا يَصِفُ بَشَرَتَها.
وعورةُ رجلٍ وأمةٍ وأمِّ ولدٍ ومُعْتَقٍ بعضُها من السُّرة إلى الرُّكْبة، وكلُّ الحرة عورةٌ إلا وجْهَهَا، وتُستحَبُّ صلاتُه في ثوبين، ويُجزئُ سَتْرُ عورتهِ في النَّفْل، ومع أَحَدِ عاتقيه في الفرض(2)
__________
(1) * قوله: (وإن أدرك مُكَلَّفٌ من وقتها قَدْرَ التَّحْريمة) إلى آخره، قال في الإنصاف: واعلم أن الصلاة التي أدركها تارة تجمع إلى غيرها وتارة لا تجمع، فإن كانت لا تجمع إلى غيرها وجب قضاؤها بشرطه قولاً واحداً، وإن كانت تُجْمَعُ فالصحيح من المذهب أنه لا يجب إلا قضاءُ التي دخل وقتُها فقط، وعليه جمهور الأصحاب، وعنه يَلْزمُه قضاءُ المجموعةِ إليها، وهي من المفردات، وقال في الاختيارات: ومن دخل عليه الوقتُ ثم طرأ مانع من جنونٍ أو حيضٍ لا قضاءَ إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها، ثم يوجد المانعُ، وهو قول مالك وزُفَر، ومتى زال المانعُ من تكليفه في وقت الصلاة لزمتْه إن أدرك فيها قدر ركعة وإلا فلا، وهو قول اللَّيْثِ والشَّافعي، ومقالةٌ في مذاهب أحمد.
(2) * قوله: (ويجزئ(1) سَتْرُ عورته في النَّفْل ومع أحد عاتقيه في الفرض) قال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنَّ سَتْرَ المَنْكِبَيْنِ في الجملة شَرْطٌ في صحة صلاة الفرض، وعليه جماهيرُ الأصحاب، وهو من المفردات، وعنه سترهما واجبٌ لا=
(1) في الطبعة السابقة "ويكفي"، و التصحيح عن نُسخ "الزاد" المطبوعة .
=شَرْطٌ وهو من المفردات أيضاً، وعنه سُنَّةٌ، قال في الاختيارات: ولا يختلف المذهب في أن ما بين السُّرَّةِ والرُّكبةِ من الأَمَةِ عورةٌ، وقد حكى جماعة من أصحابنا أنَّ عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهذا غلطٌ قبيحٌ فاحشٌ على المذهب خصوصاً، على الشريعة عموماً، وكلامُ أحمدَ أبعدُ شيء عن هذا القول في المقنع، والحُرَّةُ كلُّها عورةٌ إلا الوجْهَ، وفي الكفين روايتان، وأمُّ الولد والمُعْتَقُ بعضُها كالأَمَةِ وعنه كالحُرَّة.
يُستحَبُّ للرجل أن يصلِّي في ثوبين، فإن اقتصر على سَتْر العورة أجْزأَهُ إذا كان على عاتِقِهِ شيءٌ من اللِّباس، وقال القاضي: يجزئه سَتْرُ عورتِه في النَّفْل دون الفرض.
وقال البخاري: باب إذا صلَّى في الثَّوبِ الواحدِ فَلْيَجْعَلْ على عاتقيه، وذكر حديث أبي هريرة بلفظ أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلَّى في ثوب واحد فَلْيُخالِفْ بين طَرَفَيْه"(1) قال الحافظ: وقد حَمَلَ الجمهورُ الأمرَ في قوله: "فَلْيُخَالِفْ بين طَرَفَيْه" على الاستحباب، والنَّهي على التنزيه، قال: والظاهرُ من تَصَرُّفِ المصنِّف التفصيلُ بين ما إذا كان الثوبُ واسعاً فيجبُ، وبين ما إذا كان ضَيِّقاً فلا يجب وضعُ شيءٍ منه على العاتِق، وهو اختيارُ ابن المُنْذِر.
(1/37)
، وصلاتُها في دِرْعٍ وخِمَارٍ وملحفةٍ، ويجزئ سَتْرُ عورتها، ومن انكشف بعضُ عورته وفَحُشَ، أو صلَّى في ثوب مُحَرَّم عليه أو نَجسٍ أعاد(1)، لا مَنْ حُبِسَ في مَحَلٍّ نجس، ومَنْ وَجَدَ كفايةَ عورته سَتَرَها وإلاّ فالفَرْجَيْنِ، فإنْ لم يكفهما فالدُّبُر، وإن أُعِيْرَ سُتْرةً لزمه قبولُها، ويصلِّي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما، ويكون إمامُهم وسطَهم، ويصلي كلُّ نوع وحده، فإن شَقَّ صلَّى الرجالُ واستدبرَهم النساءُ، ثم عَكَسوا، فإن وجد سترة قريبة في أثناء الصلاة ستر وبنى، وإلا ابتدأ.
ويُكرَه في الصلاة السَّدْلُ، واشتمالُ الصَّمَّاء(2)، وتغطيةُ وجهه، واللِّثام على فمه وأنفه، وكَفُّ كُمِّه ولَفُّه، وشَدُّ وسطه كَزُنَّار.
__________
(1) * قوله: (أو صلَّى في ثوبٍ مُحَرَّمٍ عليه أو نَجسٍ أعاد) قال في المقنع: ومَنْ صلَّى في ثوبٍ حريرٍ أو غَصْبٍ لم تصحَّ صلاتُه، وعنه تصح مع التحريم، ومَنْ لم يجدْ إلا ثوباً نجساً صلَّى فيه وأعاد على المنصوص، ويتخرَّجُ أن لا يعيد قال في الإنصاف: قوله: ومن صلَّى في ثوب حريرٍ أو مغصوبٍ لم تصحَّ صلاتُه هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وهو من المفردات، وعنه تصح مع التحريم اختارها الخلاَّلُ وابنُ عقيل، قال ابن رزينٍ وهو أَظْهَر.
(1) أخرجه البخاري في: باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به، وباب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، من كتاب الصلاة 1/100، 101، ومسلم، في: باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، من كتاب الصلاة 1/368، 369.
(2) * قوله: (ويُكْرَه في الصلاة السَّدْلُ واشتمالُ الصماء). قال في المقنع: ويكره في الصلاة السَّدْلُ، وهو أن يَطْرَحَ على كتفيه ثوباً، ولا يرد أَحَدَ طرفيه على الكتف.
(1/38)
وتحرمُ الخُيَلاءُ في ثوب وغيره، والتصويرُ واستعمالُه، ويحرم استعمالُ منسوجٍ، أو مُمَوَّه بذهب قبل استحالته، وثياب حرير، وما هو أكثرُه ظهوراً على الذكور، لا إذا استويا أو لضرورة أو حِكَّة أو مرض أو جَرَبٍ أو حشو، أو كان عَلَماً أربع أصابعَ فما دونَ، أو رِقَاع، أو لَبَّة جَيْبٍ وسَجْف فِرَاء. ويكره المُعَصْفَرُ والمُزَعْفَرُ للرجال.
ومنها اجتناب النجاسات، فمن حَمَلَ نجاسةً لا يُعفى عنها، أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاتُه، وإنْ طَيَّنَ أرضاً نجسةً أو فَرَشَها (طاهراً) كُرِهَ وَصَحتَّ، وإن كانت بطرفِ مُصَلَّى مُتَّصل ٍ(به) صحَّتْ إن لم يَنْجَرَّ بمَشْيه، ومن رأى عليه نجاسةً بعد صلاته وجَهِلَ كَونَها فيها لم يُعِدْ، وإن علم أنها كانت فيها لكنْ نسيها أو جَهِلها أعاد (1)، ومن جبر عظمه بنجس لم يجب قلعُهُ مع الضرر، وما سَقَطَ منه من عضو أو سِنٍّ فطاهر.
__________
(1) * قوله: (وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد)، قال في المقنع: فعلى روايتين، قال في الإنصاف: إحداهما تصح، وهي الصحيحة عند أكثر المتأخرين، واختارها المصنِّفُ والمجدُ والشيخُ تقي الدين. قال في الاختيارات: ومن صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً فلا إعادة عليه، وقاله طائفة من العلماء؛ لأن مَنْ كان مقصودُه اجتنابَ المحظورِ إذا فعله مخطئاً أو ناسياً لا تبطل العبادة به.
(1/39)
ولا تصح الصلاة في مَقْبَرةٍ(1)، وحُشٍّ وحمَّامٍ، وأعطانِ إبلِ، ومغصوبٍ
وأسطحتِها(2)، وتصح إليها(3)
__________
(1) * قوله: (ولا تصح الصلاة في مقبرة) إلى آخره، قال في الاختيارات: ولا تصحُّ الصلاةُ في المَقْبَرَةِ ولا إليها، والنهيُ عن ذلك إنما هو سَدٌّ لذريعة الشِّرْك. وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يَمْنَعُ من الصلاة؛ لأنه لا يتناوله اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً. وليس في كلام أحمد وعامةِ أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منعَ الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، قال: والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهةُ دخول الكنيسة المصوَّرة، فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشدُّ كراهةً.
قال في الإنصاف قوله: (ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمَّام والحُشِّ وأعطان الإبل). هذا المذهبُ، وعليه الأصحاب، وهو من المفردات. وعنه إن عَلِمَ النَّهْيَ لم تصحَّ وإلا صحَّتْ.
(فائدة) قوله: (وأعطان الإبل التي تقيم فيها وتأوي إليها) هو الصحيحُ من المذهب. نص عليه.
(2) * قوله: (وأسطحتها). قال في الإنصاف: وعنه تصح على أسطحتها وإن لم نُصَحِّحْها في داخلها.
قال في الشرح الكبير: والصحيح إن شاء الله قصر النهي على ما تناوله النص، وإن الحكم لا يعدى إلى غيره، ذكره شيخنا، لأن الحكم إن كان تعبدا لم يقس عليه، وإن علل فإنما يعلل بمظنة النجاسة، ولا يتخيل هذا في أسطحتها.
(3) * قوله: (وتصح إليها). قال في المقنع: وتصح الصلاة إليها إلا المقبرةَ والحُشَّ في قول ابن حامد. قال في المغني: والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرةَ لورود النهي فيها. ا هـ.
وقال البخاري: (باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب)، ولم يَرَ الحسنُ بأساً أن يُصلي على الجَمَدِ والقناطرِ وإن جرى تحتها بول أو فوقها، أو أمامَها إذا كان بينهما سُتْرةٌ.
(1/40)
، ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقَها، وتصح النافلةُ والمنذورةُ باستقبال شاخص منها.
ومنها استقبالُ القِبْلة، فلا تصحُّ بدونه، إلا لعاجز ومُتَنفلٍ راكبٍ سائرٍ في سفر(1)، ويَلْزمه افتتاحُ الصلاة إليها، وماش، ويَلْزمه الافتتاحُ والركوعُ والسجودُ إليها، وفَرْضُ مَنْ قَرُبَ من القبلة إصابةُ عينها، ومَنْ بعُد جهتُها، فإن أخبره ثقةٌ بيقين أو وجد محاريبَ إسلاميةً عمل بها، ويستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما، وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدُهما الآخر، ويتبع المقلِّدُ أوثَقَهما عنده، ومن صلَّى بغير اجتهاد ولا تقليد قَضَى إن وجد من يقلِّده، ويجتهد العارفُ بأدلة القبلة لكل صلاة، ويصلي بالثاني، ولا يقضي ما صلَّى بالأول.
__________
(1) * قوله: (ومتنفلٍ راكبٍ سائرٍ في سفر). هذا المذهب، وعنه يسقط الاستقبالُ أيضاً إذا تنفل في الحضر كالراكب السائر في مِصْرِه، وقد فَعَلَه أنسٌ. قاله في الإنصاف.
(1/41)
ومنها النية(1)، فيجب أن ينوي عين صلاةٍ معينةٍ، ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن، وينوي مع التحريمة، وله تقديمها عليها بزمن يسير في الوقت(2)، فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردَّد بَطَلَتْ. (وإذا شَكَّ فيها استأنف)(3).
__________
(1) * قوله: (ومنها النية). قال في الاختيارات: والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله قصده ضرورة.
(2) * قوله: (وينوي مع التحريمة، وله تقديُمها عليها بزمن يسيرٍ في الوقت). قال في الاختيارات: ووجوب مقارنة النية للتكبير قد يفسَّر بوقوع التكبير عُقَيْبَ النِّيَّة، وهذا ممكن لا صعوبة فيه، بل عامة الناس إنما يُصَلُّون هكذا. وقد يُفَسَّر بانبساطِ آخرِ النيةِ على أجزاءِ التكبيرِ بحيث يكون أولُها مع أولِه، وآخرُها مع آخره. وهذا لا يصح؛ لأنه يقتضي عزوبَ كمال النيَّةِ عن أول الصلاة، وخُلُوَّ أولِ الصلاة عن النية الواجبة. وقد يفسَّر بحضور جميع النية الواجبة. وقد يفسَّر بجميع النية مع جميع أجزاء التكبير، وهذا قد نُوزِعَ في إمكانه فضلاً عن وجوبه. ولو قيل بإمكانه، فهو متعسِّر فيسقط بالحَرَجِ، وأيضاً فمما يُبْطِلُ هذا والذي قبله أن المكبِّر ينبغي له أن يتدبرَ التكبيرَ ويتصورَه فيكون قلبُه مشغولاً بمعنى التكبير لا بما يشغله عن ذلك من استحضار المَنْوِي، ولأن النية من الشروط، والشرطُ يتقدم العبادةَ ويستمرُّ حكمُهُ إلى آخرها.ا.هـ.
(3) * قوله: (وإذا شك فيها استأنف). قال في المقنع: وإن تردد في قطعها فعلى وجهين، قال في الإنصاف: (أحدهما) تبطل وهو المذهب (والثاني) لا تبطل وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره ابن حامد. قال والوجهان أيضاً إذا شك. قال في الاختيارات: ويحرمُ خروجُه لشكِّه في النية للعلم بأنه ما دَخَلَ إلا بالنية.
(1/42)
وإن قَلَبَ منفردٌ فَرْضَه نَفْلاً في وقته المتسع جاز، وإن انتقل بنية من فرض إلى فرض بطلا، وتجب نية الإمامة والائتمام(1)، وإن نوى المنفردُ الائتمامَ لم يصحَّ فرضاً كنيَّة إمامتِه فرضاً، وإن انفرد مؤتمٌ بلا عذر بَطَلَتْ. وتبطل صلاة مأمومٍ ببطلان صلاة إمامه، فلا استخلاف(2)، وإن أحرم إمامُ الحيِّ بمن أحرم بهم نائبُه وعاد النائبُ مؤتماً صح(3)
__________
(1) * قوله: (وتجب نية الإمامة والائتمام). قال في المقنع: ومن شَرْطِ الجماعة أن ينوي الإمامُ والمأمومُ حالَهُما( )، فإن أَحْرَمَ منفردٌ ثم نوى الائتمامَ لم يصحَّ في أصح الروايتين، وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصحَّ في الفرض. ويحتمل أن يصح، وهو أصح عندي اهـ.
قال في الاختيارات: ولو أحرم منفرداً ثم نوى الإمامةَ صحتْ صلاتُه فرضاً ونفلاً وهو روايةٌ عن أحمد، اختارها أبو محمد المقدسي وغيرُه.
(2) * قوله: (وتبطل صلاة مأمومٍ ببطلان صلاة إمامه فلا استخلاف). قال في المقنع: وإن نوى الإمامُ لاستخلافِ الإمامِ إذا سَبَقَ الحدثُ صحَّ في ظاهر المذهب. ا.هـ.
وعنه تبطل إذا سبقه الحدثُ من السبيلين، ويبني إذا سبقه الحدثُ من غيرهما.
(3) * قوله: (وإن أحرم إمامُ الحي بمن أحرم بهم نائبهُ فعاد النائبُ مؤتَمَّاً صح). قال في المقنع: وإن أحرم إماماً لغَيْبةِ إمام الحي ثم حضر في أثناء الصلاة فأحرم بهم وبَنَى على صلاة خليفته وصار الإمام مأموماً فهل تصح؟ على وجهين.
قال في الإنصاف: (أحدهما) يصح وهو المذهب (والثاني) لا يصح. قال المجد: وهو مذهب أكثر العلماء. وقال البخاري (باب من دخل ليؤمَّ الناسَ فجاء الإمامُ الأولُ فتأخَّر الأولُ أو لم يتأخرْ جازت صلاتُه) فيه عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر حديث سهل بن= =سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم. فذكر الحديث، وفيه: ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى(1). قال الحافظ: وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وأن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره، وأنه إذا حضر بعد أن دخل نائبهُ في الصلاة يتخيَّر بين أن يأتمَّ به أو يَؤُمَّ هو، ويصير النائبُ مأموماً من غير أن يقطع الصلاة، ولا يبطل شيء من ذلك صلاةَ أحدٍ من المأمومين. وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وادَّعى الإجماعَ على عدم جواز ذلك لغيره - صلى الله عليه وسلم -، ونوقض بأن الخلاف ثابت -إلى أن قال- وفيه جواز العمل القليل في الصلاة لتأخير أبي بكر عن مقامه إلى الصف الذي يليه، و أن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القهقَرَى ولا يستَدبر القبلة وينحرف عنها.
(1/43)
.
باب صفة الصلاة
يسن القيامُ عند (قد) من إقامتها(1)، وتسويةُ الصف، ويقول: الله أكبر، رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودةً حَذْوَ مَنْكِبَيْه كالسجود ويُسمع الإمامُ مَنْ خَلْفَه كقراءته في أُولَتَيْ غير الظُّهْرَين، وغَيْرُه نفسه، ثم يقبض كوع يسراه تحت سُرَّته وينظر مَسْجِدَه، ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك(2)، وتبارك اسْمُكَ، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غيرُك)(1).
__________
(1) * قوله: (ويسن القيام عند (قد) من إقامتها). قال في الإنصاف: وقيام المأموم عند قوله: ((قد قامت الصلاة)) من المفردات. وقال في الشرح الكبير: قال ابن عبدالبر: على هذا أهل الحرمين. وقال الشافعي: يقوم إذا فرغ المؤذن من الإقامة، وكان عمرُ بنُ عبد العزيز ومحمدُ بنُ كَعْبٍ وسالمٌ والزُّهْريُّ يقومون في أول بدئه من الإقامة. ا.هـ (قلت): والأمر في ذلك واسع.
(1) أخرجه البخاري في الأذان: باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأولُ أو لم يتأخر جازت الصلاة برقم (684) ومسلم في الصلاة: باب تقديم الجماعة من يصلي بهم، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، برقم (421).
(2) * قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك)- إلى آخره قال في الإنصاف: هذا الاستفتاح هو المستحب عند الإمام أحمد وجمهور أصحابه واختار الآجري الاستفتاح بخبر علي - رضي الله عنه - وهو (وجهت وجهي)(2) إلى آخره، واختار ابن هبيرة والشيخ تقي الدين جمعها.
واختار الشيخ تقي الدين أيضا أنه يقول هذا تارة، وهذا أخرى، وهو الصواب جمعاً بين الأدلة. ا.هـ. (قلت): وإن جمع بين قوله: "سبحانك اللهم"، وقوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي"(3) ، فهو حسن ليجمع بين الثناء والدعاء.
(1/44)
ثم يستعيذُ ثم يُبَسْمِلُ سراً، وليست من الفاتحة(1)
__________
(1) * قوله: (ثم يستعيذ ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة). قال في الاختيارات: ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحياناً، فإنه المنصوص عن أحمد تعليماً للسنة. ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف، كما استحب أحمدُ تركَ القنوت في الوتر تأليفاً للمأموم.
(1) رواه أبو داود في باب في رأي الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك 1/179، وابن ماجه في باب افتتاح الصلاة من كتاب إقامة الصلاة 1/265 (806)، والترمذي في باب ما يقول عند افتتاح الصلاة من أبواب الصلاة 2/9 (242) و (243). والإمام أحمد في المسند 6/231، 254.
(2) أخرجه مسلم في باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين 1/534-536. وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء 1/175. والإمام أحمد في المسند 1/94، 102، 103.
(3) أخرجه البخاري، باب ما يقول بعد التكبير، من كتاب الآذان 2/188، 191، ومسلم في باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة من كتاب المساجد (598)، (147).
(1/45)
، ثم يقرأ الفاتحة؛ فإن قطعها بذكرٍ أو سكوتٍ غير مشروعَيْن وطال، أو ترك منها تشديدةً أو حرفاً أو ترتيباً لزم غيرَ مأموم إعادتُها، ويجهر الكُلُّ بآمين في الجهرية، ثم يقرأ بعدها سورةً تكون في الصبح من طوال المفصَّل، وفي المغرب من قِصَارِه، وفي الباقي من أوساطه، ولا تصح الصلاةُ بقراءةٍ خارجةٍ عن مصحف عثمان(1).
__________
(1) * قوله: (ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان). قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب. وعنه تكره، وتصح إذا صحَّ سنده لصلاة الصحابة بعضهم خَلْفَ بعض. قال في الاختيارات: وما خالف المصحف وصحَّ سندُه صحَّتْ الصلاةُ به. وهذا نص الروايتين عن أحمد. ومصحف عثمانَ أحدُ الحروف السبعة، قاله عامَّةُ السَّلَفِ وجمهور العلماء. وقال في الشرح الكبير: فإن قرأ بقراءة تَخْرُجُ عن مصحف عثمان كقراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وغيرها كُرهَ له ذلك؛ لأن القرآن ثبت بطريق التواتر، ولا تَوَاتُرَ فيها، ولا يثبت كونُها قرآناً، وهل تصح صلاتُه إذا كان مما صحَّتْ به الرواية واتصل إسنادُه؟ على روايتين.
قال في المقنع: فإن كان مأموماً لم يزد على (ربنا ولك الحمد)،و قال في الإنصاف: وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب. وعنه يزيد (مِلْءَ السماء) الخ، اختاره أبو الخطاب ،والمجد، والشيخُ تقيُّ الدين. اهـ
ودليلُ مَنْ مَنَع قولُه - صلى الله عليه وسلم - (وإذا قال سَمِعَ اللهُ لَمِنْ حَمِدَه فقولوا ربَّنا ولك الحمد) وليس في ذلك منع المأموم من الزيادة، وإنما يُفهَمُ منه مَنْعُه من قول سمع الله لمن حمده.
(1/46)
ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ويضعها على ركبتيه مُفَرَّجَتَي الأصابع مستوياً ظهرُه ويقول: سبحان ربي العظيم، ثم يرفعُ رأسَه ويديه قائلاً: إماماً ومنفرداً: سمع الله لمن حمده وبعد قيامهما: ربَّنا ولك الحمدُ مِلْءَ السَّماءِ ومِلْءَ الأرضِ ومِلْءَ ما شِئْتَ مِنْ شيء بعدُ، ومأموم في رفعه: ربَّنا ولك الحمدُ فقط.
ثم يَخِرُّ مُكبِّراً ساجداً على سبعة أعضاء: رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته مع أنفه، ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده، ويُجافي عَضُدَيْه عن
(1/47)
جنبيه، وبَطْنَه عن فخذيه ويفرق ركبتيه ويقول: سبحان ربي الأعلى ثم يرفع رأسه مكبراً ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه ويقول: رب اغفر لي، ويسجد الثانية كالأولى. ثم يرفع مكبراً ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سهل، ويصلي الثانية كذلك ما عدا التحريمةَ والاستفتاحَ والتَّعُوذَ وتجديدَ النيَّة، ثم يجلس مفترشاً، ويداه على فخذيه يقبض خِنْصَرَ اليمنى وبِنْصَرَها، ويُحَلِّقُ إِبْهامَها مع الوسطى، ويشير بَسَبَّابتها (في تشهده). ويبسط اليسرى ويقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه، هذا التشهدُ الأولُ، ثم يقول: اللهم صَلِّ على مُحمدٍ وعلى آلِ مُحمدٍ كما صلَّيتَ على آل إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وباركْ على مُحمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركت على آلِ إبراهيمَ(1)
__________
(1) * قوله: (كما صليت على آل إبراهيم)، قال في المقنع: وإن شاء قال (كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم) قال الحافظ ابن حجر: والحقُّ أنَّ ذِكْرَ محمدٍ وإبراهيمَ، وذِكْرَ آلِ إبراهيمَ ثابتٌ في أصل الخَبَر، وإنما حَفِظَ بعضُ الرُّواة ما لم يحفظ الآخر. قال: وادعى ابنُ القَيِّم أنَّ أكثَرَ الأحاديثِ بل كلها مُصَرِّحة بذكر محمدٍ وآلِ محمدٍ وبذكرِ آلِ إبراهيمَ فقط، وبذكر =
(1) أخرجه البخاري في باب حدثنا موسى بن إسماعيل، من كتاب الأنبياء، وفي باب قوله تعالى: +¨bخ) اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ؤcسة<¨Z9$#.." من كتاب التفسير سورة الأحزاب، وفي باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الدعوات 4/178، 6/151، 8/95، ومسلم في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، من كتاب الصلاة 1/305.
=إبراهيم فقط، ولم يجئْ في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معاً، وغَفَلَ عما وقع في صحيح البخاري في أحاديث الأنبياء ، وفي ترجمة إبراهيم عليه السلام بلفظ (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)وكذا في قوله كما باركت. اهـ.
(1/48)
، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ(1)، ويستعيذ من عذاب جهنَّمَ وعذاب القبر، وفتنة المَحْيا والمَمَاتِ، وفتنة المسيحِ الدجَّالِ(1)، ويدعو بما ورد، ثم يسلِّم عن يمينه: السلامُ عليكم ورحمةُ الله، وعن يساره.
وإن كان في ثُلاثيَّة أو رُباعيَّة نهض مكبِّراً(1) بعد التشهد الأول، وصلَّى ما بقي كالثانية وبالحمد فقط(2)
__________
(1) * قوله: (نهض مكبِّراً). قال في الإنصاف: ظاهره أنه لا يرفع يديه، وهو المذهب، وعليه جماهيرُ الأصحاب، وعنه يرفعها، اختاره المجدُ والشيخُ تقيُّ الدين، وهو الصَّواب، فإنه قد صح عنه عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ أنه كان يرفع يديه إذا قام من التشهد الأول. رواه البخاري(2) وغيره.
(2) * قوله: (بالحمد فقط). قال في الإنصاف: وعليه الأصحاب، وعنه يُسَنُّ، فعلى المذهب لا تُكره القراءةُ بعد الفاتحة بل تباح على الصحيح من المذهب. ا.هـ. وفي =
(1) أخرجه مسلم في باب ما يستعاذ منه في الصلاة، من كتاب الصلاة 1/412، وأخرجه النسائي في باب نوع آخر من التعوذ في الصلاة، من كتاب السهو 3/58 برقم (1310)، والإمام أحمد في مسنده 2/477.
(2) في باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وباب رفع اليدين إذا كبَّر وإذا رفع وباب إلى أين يرفع يديه، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/187، 188، ومسلم في باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، من كتاب الصلاة 1/192.
=حديث أبي عيد الخدري عند مسلم: كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظُّهر والعصر، فحَزَرْنا قيامه في الركعتين الأُوليَيْن من الظُّهر قدر { الم * تنزيل.. } . [السجدة] وفي الأخريين قدر النصف من ذلك -الحديث(1).
قال شيخنا سعدُ بن عَتِيْق: الزيادة في الأُخريين سُنَّةٌ، تُفعل أحياناً وتُترك أحياناً.
وقال البخاري: (باب سُنَّة الجلوس في التشهد وكانت أمُّ الدَرْدَاء تجلس في صلاتها جِلْسَةَ الرجل وكانت فقيهة)، وذكر حديث ابن عمر: إنما سُنَّةُ الصلاة أن تَنْصِبَ رجلك اليمنى وتَثْني اليُسرى، وحديث أبي حميد وفيه: فإذا جلس في الركعتين جلس على رِجْلِه اليُسرى ونَصَبَ اليُمنى: وإذا جلس في الركعة الأخيرة قَدَّم رِجْلَه اليُسرى ونَصَبَ الأخرى وقعد على مَقْعَدته(2). قال الحافظ: وفي هذا الحديث حُجةٌ قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئةَ الجلوس في التشهدِ الأولِ مغايرةٌ لهيئة الجلوس في الأخير. وقد قيل في حكمة المُغايرَة بينهما أنه أقربُ إلى عدم اشتباه عدد الركعات، ولأن الأول تعقُبُه حركةٌ بخلاف الثاني، ولأن المسبوقَ إذا رآه علم قدرَ ما سُبِق به، واستدلَّ به الشافعيُّ أيضاً على أن تَشَهُّدَ الصبح كالتشهدِ الأخير مِنْ غيره لعموم قوله: (في الركعة الأخيرة) واختلف فيه قولُ أحمد، والمشهور عنه اختصاصُ التوركِ بالصلاة التي فيها تشهُّدان ا.هـ.
(1) رواه أبو داود في باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر، في كتاب الصلاة 1/185، 186، والترمذي في باب ما جاء في القراءة في الظهر والعصر، من أبواب الصلاة 2/110 برقم (307).
(2) أخرجه البخاري في باب سنة الجلوس في التشهد، من كتاب أبواب صفة الصلاة برقم (828) من حديث أبي حميد الساعدي، وأخرجه مسلم في باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين، من كتاب المساجد، 1/408، وأبوداود في باب الإشارة في التشهد، من كتاب الصلاة 1/227، وفي باب افتتاح الصلاة، وباب من ذكر التورك في الرابعة 1/168، 220.
(1/49)
، ثم يجلس في تشهده الأخير مُتورِّكاً، والمرأةُ مثله، لكن تَضُمُّ نَفْسَها، وتسْدلُ رِجْليها في جانب يمينها.
فصل
ويُكرَه في الصلاة التفاتهُ، ورفعُ بصره إلى السماء (وتغميض عينيه)(1)، وإقعاؤُه، وافتراشُ ذراعيه ساجداً، وعبثُه، وتَخَصُّرُه، وتَرَوُّحُه، وفرقعةُ أصابعِه، وتشبيكُها، وأن يكون حاقناً، أو بحضرة طعام يشتهيه وتكرارُ الفاتحة، لا جمعَ سُوَرٍ في فرض كنفلٍ، وله ردُّ المارِّ بين يديه وعدُّ الآي، والفَتْحُ على إمامه، ولبسُ الثوبِ والعمامةِ، وقتلُ حيةٍ وعقربٍ وقَمْلِ(2) ،
__________
(1) * قوله: (وتغميض عينيه)، قال في الفروع: نصَّ عليه واحتج بأنه فعلُ اليهود، ومظِنَّةُ النوم. قوله: (وإقعاؤه)، قال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أن صفة الإقعاء أن يفرشَ قدميه ويجلسَ على عقبيه، وقال في المستوعب: هو أن يقيم قدميه، ويجلس على عقبيه، أو بينهما ناصباً قدميه.
قال في سبل السلام على قوله في حديث عائشة: "وكان ينهى عن عُقْبَة الشيطان"(1) وفسرت بتفسيرين (أحدهما): أن يفترش قدميه ويجلس بأَلْيتيه على عقبيه، ولكن هذه القِعْدة اختارها العبادلة فِي القعودِ في غير الأخير، وهذه تسمى إقعاءً، وجعلوا المنهي عنه هي الهيئةَ الثانيةَ، وتسمى أيضاً إقعاءً وهي: أن يُلصق الرجلُ أَلْيتيه في الأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يُقعي الكلب ا. هـ.
(2) * قوله: (وقَمْل). قال في الإنصاف: وله قتلُ القَمْلةِ من غير كراهةٍ على الصحيح من المذهب. وعنه يُكره. وعند القاضي التغافلُ عنها أولى. ا.هـ.
أقول: لا ينبغي ذلك إلا لمن شغلتْه عن صلاته.
(1) عقبة الشيطان: الإقعاء المنهي عنه. والحديث أخرجه مسلم في باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض في كتاب الصلاة 1/357، 358 وعون المعبود شرح سنن أبي داود من لم ير الجهر ببسم الله من كتاب الصلاة 2/487 برقم (768).
(1/50)
فإن أَطالَ الفِعْلَ عُرْفاً من غير ضرورةٍ ولا تفريقٍ بطلت ولو سهواً(1)
__________
(1) * قوله: (فإن أَطالَ الفِعْلَ عُرْفاً من غير ضرورةٍ ولا تفريقٍ بطلتْ ولو سهواً). قال في الإنصاف: هذا المذهبُ، وعليه جماهير الأصحاب. وعنه لا يُبطلها إلا إذا كان عمداً، اختاره المجدُ لقصَّةِ ذي اليدين(1). وقيل: لا تبطلُ بالعمل الكثير من جاهل بالتحريم. قال في الاختيارات: وقد أَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأسودين في الصلاة: الحيَّة والعقْربِ(2). وقد قال أحمدُ وغيرُه: يجوز له أن يذهب إلى النَّعل فيأخذَه ويَقتلَ به الحَّيةَ والعقربَ ثم يعيدَه إلى مكانه، وكذلك سائر ما يَحتاج إليه المصلِّي من الأفعال. وكان أبو بَرْزَةَ ومعه فرسُه وهو يصلِّي كلَّما خطا يخطو معه خشيةَ أن يَنْفلتَ، قال أحمدُ: إن فعل كما فعل أبو برزةَ فلا بأسَ، وظاهرُ مذهب أحمدَ وغيره أنَّ هذا لا يقدَّرُ بثلاث خطوات ولا ثلاث فَعَلاتٍ كما مضتْ به السنَّةُ. ومن قيَّدها بثلاثٍ كما يقول أصحابُ الشافعي وأحمد؛ فإنما ذلك إذا كانت متصلةً، وأما إذا كانت متفرقةً فيجوزُ، وإن زادت على ثلاث، والله أعلم. ا. هـ
(1) أخرجه البخاري في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، من كتاب الصلاة 1/129، وفي باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس، من كتاب الأذان 1/130، وفي باب إذا سلم في ركعتين أو ثلاث 1/183 وباب من لم يتشهد في سجدتي السهو 2/85-87، وباب من يكبِّر في سجدتي السهو، من كتاب السهو 8/19، وأخرجه مسلم باب السهو في الصلاة والسجود له من كتاب المساجد 1/403، 404.
(2) أخرجه أبوداود في باب العمل في الصلاة، من كتاب الصلاة 1/211، والنسائي في باب قتل الحيَّة والعقرب في الصلاة، من كتاب السهو 3/10 برقم (1202 و1203). وابن ماجه، في باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة، من كتاب الصلاة 1/394 برقم (1245).
(1/51)
، ويباح قراءةُ أواخرِ السورِ وأوساطُها، وإذا نابه شيءٌ سبَّح رجلٌ وصفَّقتْ امرأةٌ ببطن كفِّها على ظهْر الأخرى، ويَبْصُق في الصلاةِ عن يسارهِ وفي المسجد في ثوبه.
وتُسن صلاتُه إلى سترةٍ قائمةٍ كآخرة الرَّحْل فإن لم يجدَ شاخصاً فإلى
خَط(1)ٍ، وتبطُلُ بمرور كلبٍ أسود بَهِيم فقط.
وله التعوذُ عند آية وعيد، والسؤالُ عند آية رحمةٍ ولو في فرض.
فصل
أركانُها: القيامُ، والتَّحريمةُ، والفاتحةُ، والركوعُ، والاعتدالُ عنه، والسجودُ على الأعضاء السبعة، والاعتدالُ عنه، والجلسة بين السجدتين(2)، والطُّمأنينةُ في الكُلِّ، والتشهدُ الأخيرُ، وجلستهُ، والصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه والترتيبُ، والتسليمُ.
وواجباتُها: التكبيرُ غيرَ التَّحريمةِ والتسميعُ والتحميدُ وتسبيحتا الركوع والسجودِ، وسؤالُ المغفرة مرّةً مرّةً، ويسن ثلاثاً، والتشهدُ الأولُ، وجَلستُه. وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سُنَّة.
__________
(1) * قوله: (فإن لم يجد شاخصاً فإلى خط). قال في الإنصاف: فإن تعذَّر غرزُ العصا وَضَعها، قال في المقنع: فإن لم يكن سترةٌ فمرَّ بين يديه الكلبُ الأسودُ البهيمُ بطلتْ صلاتُه وفي المرأةِ والحمارِ روايتان.
(2) * قوله: (والاعتدال عنه والجلوس بين السجدتين). قال في شرح الإقناع: والسابع الاعتدال عنه يعني: الرفعُ منه. والثامن: الجلوس بين السجدتين لِمَا روتْ عائشةُ قالتْ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "إذا رَفَعَ رأسَه من السجودِ لم يسجدْ حتى يستويَ قاعداً" رواه مسلم(1).
ولو سقط ما قبل هذا لدخل فيه كما فعل في الاعتدال عن الركوع والرفع منه ا. هـ.
(1) أخرجه مسلم في باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض، من كتاب الصلاة 1/357، 358.
(1/52)
فمن ترك شرطاً لغير عذر غير النية فإنها لا تسقط بحال أو تعمَّد ترك ركن أو واجب بطلتْ صلاتُه، بخلاف الباقي، وما عدا ذلك سننُ أقوالٍ وأفعالٍ، لا يشرع السجود لتركِهِ، وإن سجد فلا بأس.
باب سجود السهو
يُشرع لزيادةٍ ونقصٍ وشكٍّ، لا في عَمْدٍ، في الفرض والنافلة، فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بَطَلَتْ، وسهواً يسْجدُ له، وإنْ زاد ركعةً فلم يَعْلمْ حتى فرغَ منها سجد، وإنْ عَلِمَ فيها جَلَس في الحال فَتَشَهَّد إنْ لم يكن تشهَّد وسجد وسلَّم، وإن سبَّح به ثقتان فأصرَّ ولم يَجْزِم بصواب نَفْسِه بَطَلَتْ صلاتُه وصلاةُ من تَبِعَهُ عالماً، لا جاهلاً أو ناسياً (ولا من فارقه). وعَمَلٌ مُسْتَكْثَرٌ عادةً من غير جِنْس الصلاةِ يُبْطِلها عَمْدُه وسَهْوُه(1)، ولا يُشْرَعُ ليسيرِه سجودٌ، ولا تَبْطُل بيسير أكلٍ أو شربٍ سهواً ولا نفلٌ بيسيرِ شُربٍ عمداً، وإنْ أتى بقولٍ مشروعٍ في غيرِ موضعِه كقراءةٍ في سجودٍ وقعود،ٍ وتَشَهُّدٍ في قيامٍ، وقراءةِ سورةٍ في الأخيرتين لم تَبْطُل، ولم يَجِبْ له سجودٌ بل يُشَرَعُ. وإنْ سَلَّم قبلَ إتمامها عمداً بَطَلَتْ، وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتَّمها وسَجَد، وإنْ طال الفصلُ أو تكلَّم لغيرِ مَصْلحتِها بَطَلَتْ(2)
__________
(1) * قوله: (مُستكثرٌ عادةً من غير جنس الصَّلاة يُبطلها عمدُه وسهوُه). قال في الإنصاف: مرادُه ببطلانِ الصلاةِ بالعملِ المُستكثَرِ إذا لم يكن حاجةٌ إلى ذلك على ما تقدم. قال في الاختيارات: ولا تَبْطُلُ الصلاةُ بكلامِ النَّاسي والجاهل، وهو روايةٌ عن أحمد. قولُه: (وقراءةُ سورةٍ في الأخيرتين)، قال في الإنصاف: لا تكره القراءةُ بعد الفاتحةِ بل تباحُ على الصحيح من المذهب، وعنه تُسَن.
(2) * قوله: (أو تَكَلَّم لغيرِ مَصْلَحتِها بَطَلَتْ). قال في الإنصاف: يعني إذا ظنَّ أنَّ صلاته قد تَمَّتْ وتكلَّم عمداً لغير مصلحةِ الصلاةِ كقوله: يا غلامُ اسقني ماءً ونَحْوه؛ فالصحيح من المذهب: بطلانُ الصلاةِ، وعنه لا تَبْطُلُ والحالةُ هذه.
(1/53)
ككلامِه في صُلْبِها(1)، ولمصلحتِها إن كان يسيراً لم تَبْطُلْ، وقَهْقَهَةٌ كَكَلامٍ، وإنْ نَفَخَ أو انْتَحَبَ من غيرِ خشيةِ الله تعالى، أو تَنَحْنَحَ من غير حاجة فَبَانَ حَرْفانِ بَطَلَتْ.
فصل
__________
(1) * قوله: (كَكَلامِه في صُلْبِها). قال الزَّرْكَشِيُّ: إذا تكلَّم سهواً فرواياتٌ: أَشْهرُها البُطْلانُ، وعنه لا تَبْطُل. قوله: (ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تَبْطُل). قال في الشرح الكبير: وفي روايةٍ ثانيةٍ الصلاةُ لا تَفْسُد بالكلامِ في تلك الحال بحالٍ، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ؛ لأنه نوعٌ من النِّسْيانِ. ولذلك تكلَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه وبَنَوا على صلاتهم. قوله: (وقَهْقَهَةٌ ككلامٍ) الخ، قال في الاختيارات: والنَّفْخُ إذا بانَ منه حَرْفانِ هل تَبْطُل الصلاةُ به أم لا؟ في المسألة عن مالكٍ وأحمدَ روايتان، وظاهرُ كلام أبي العبَّاس ترجيحُ عدم الإبطال، والسُّعالُ، والعُطَاُس، والتَّثَاؤُبُ، والبكاءُ والتَّأَوُهُ، والأَنينُ الذي يمكنُ دفعُه، فهذه الأشياء كالنَّفْخِ فالأَوْلَى أن لا تَبْطُلَ؛ فإن النفخَ أشبهُ بالكلامِ من هذه، والأظهرُ أنَّ الصلاةَ تبطل بالقهقهةِ إذا كان فيها أصواتٌ عاليةٌ تنافي الخشوعَ الواجبَ في الصلاة، وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقضُ مقصودَ الصلاةِ فأُبْطِلَتْ لذلك، لا لكونها كلاماً ا.هـ والله أعلم.
(1/54)
ومَنْ تَرَك رُكْناً فَذَكَرَهُ بعد شُروعِه في قراءةِ ركعةٍ أُخْرى بَطَلَتْ التي تَرَكَهُ منها، وقَبْلَهُ يعودُ وجوباً فيأتي به وبما بعده، وإنْ عَلِمَ بعد السلامِ فَكَتَرْكِ ركعةٍ كاملةٍ، وإنْ نَسِيَ التشهدَ الأولَ ونَهَضَ لزمَهُ الرُّجوعُ ما لم ينتصبْ قائماً، فإن استتمَّ قائماً كُرِهَ رجوعُه، وإن لم يَنْتصبْ قائماً لزمه الرجوعُ وإنْ شرعَ في القراءة حَرُمَ الرجوعُ وعليه السجودُ لِلكُلِّ(1).
ومن شَكَّ في عَددِ الرَّكعاتِ أخذَ بالأقلِّ(2)
__________
(1) * قوله: (وعليه السجودُ لِلْكُل). قال في الإنصاف أما في الحال الثاني والثالث فيَسْجُدُ للسهوِ فيهما بلا خلافٍ أعلمُه، وأما الحالُ الأولى، وهو ما إذا لم ينتصبْ قائماً ورجعَ، فقطع المُصنِّفُ بأنه يسجدُ له أيضاً، وهو الصحيحُ من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. وقيل: لا يجبُ السجودُ لذلك، وعنه إن كَثُرَ نهوضُه سجد له وإلا فلا، وهو وجهٌ لبعضِ الأصحابِ، وقدَّمه ابن تَمِيمٍ ا. هـ.
(قلتُ) وقد روى أبو داودَ وغيرُه عن المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبةَ مرفوعاً: "إذا شَكَّ أحدُكُمْ فقامَ في الركعتين فاسْتتمَّ قائماً فَلْيَمضِ ولْيَسْجُدْ سجدتين فإنْ لم يَسْتَتِمَّ قائماً فَلْيَجلسْ ولا سَهْوَ عليه"(1). وعن ابنِ عُمَرَ مرفوعاً: "لا سَهْوَ إلا في قيامٍ عن جلوسٍ أو جلوس عن قيامٍ" أخرجه البيهقيُّ وغيرُه.
(2) * قوله: (ومَنْ شَكَّ في عدد الركعات أخذَ بالأقلِّ). قال في المقنع: فمن شَكَّ في عدد الركعاتِ بنى على اليقينِ، وعنه يَبْني على غالبِ ظنِّه، وظاهرُ المذهبِ أنَّ المنفردَ يَبْني على اليقينِ، والإمامُ يَبْني على غالبِ ظَنِّه؛ فإن استويا عنده بَنَى على اليقين.
(1) أخرجه أبو داود في باب مَنْ نسي أن يتشهد وهو جالس، من كتاب الصلاة 1/238، وابن ماجه في باب ما جاء في من قام من اثنتين ساهياً من كتاب إقامة الصلاة 1/381 برقم (1208).
(1/55)
، وإنْ شَكَّ في تركِ رُكنٍ فَكَتَرْكِهِ ولا يسجدُ لشكِّه في تَرْكِ واجبٍ أو زيادةٍ ولا سُجُودَ على مأمومٍ إلا تبعاً لإمامهِ، وسجودُ السَّهْوِ لما يُبْطِلُ عَمْدُه واجبٌ، وتَبْطُلُ بتركِ سجودٍ أفضليتُه قبلَ السلامِ فقطْ(1)، وإنْ نسيه وسلَّمَ سجدَ إن قَرُبَ زمنُه، ومن سها مراراً كفاه سجدتان.
باب صلاة التطوع
__________
(1) * قوله: (وسجودُ السَّهوِ لما يُبْطِلُ عمدُه واجبٌ، وتَبْطُلُ بتركِ سجودٍ أفضليتُه قبلَ السلامِ فقط) قال في الإفصاح: واتفقوا على أنَّ سجودَ السَّهْوِ في الصلاةِ مشروعٌ، وأنَّه إذا سها في صلاتِه جَبَرَ ذلك بسجودِ السهوِ، ثم اختلفوا في وجوبه، فقال أحمدُ والكرخيُّ من أصحابِ أبي حنيفةَ: هو واجب، وقال مالكٌ: يجب في النُّقصانِ من الصلاةِ، ويُسَنُّ في الزيادة، وقال الشافعي: هو مسنونٌ وليس بواجب على الإطلاق، واتفقوا على أنه إذا تركه سهواً لم تَبْطُلْ صلاتُه إلا روايةً عن أحمدَ، والمشهورُ عنه أنها لا تَبْطُلُ كالجماعة، وقال مالكٌ: إن كان سجودُ النَّقْصِ لِتَرْكِ شيئينِ فصاعداً وتَرَكَهُ ناسياً ولم يَسْجُدْ حتى سَلَّم وتطاولَ الفَصْلُ وقامَ في مُصَلاَّه أو انتقضَتْ طهارتُه بَطَلَتْ صلاتُه ا هـ.
(1/56)
آكَدُها كسوفٌ ثم استسقاءٌ ثم تراويحٌ، ثم وترٌ يُفْعَلُ بين العشاءِ والفجرِ، وأقلُّه ركعةٌ، وأكثرُه إحدى عشرةَ مَثْنى مَثْنى، ويوتر بواحدةٍ، وإن أوترَ بخمسٍ أوسبعٍ لم يجلسْ إلا في آخرها، وبتسعٍ يجلسُ عَقِبَ الثامنةِ ويَتشهَّدُ ولا يُسَلِّم(1)
__________
(1) * قوله: (وبتسعٍ يجلسُ عَقِبَ الثامنةِ ويتشهدُ ولا يُسلم) قال في الإنصاف: هذا المذهبُ، وهو من المفردات، وقيل: كإحدى عشرة، فيسلِّمُ من كلِّ ركعتينِ، قال في الاختيارات: ويجبُ الوترُ على من يتهجَّدُ بالليلِ، وهو مذهبُ بعضِ مَنْ يوجبُه مطلقاً ويُخيَّر في الوترِ بين فَصْلِهِ ووَصْلِهِ، وفي دعائِه بين فِعْلِهِ وتَرْكِهِ، والوتر لا يُقْضَى إذا فات لفواتِ المقصودِ منه بَفَوات وقتِه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولا يَقْنُتُ في غيرِ الوترِ إلا أن تَنْزِلَ بالمسلمينَ نازلةٌ فيَقْنُتَ كلُّ مُصَلٍّ في جميعِ الصلواتِ لكنه في الفجرِ والمغربِ آكدُ بما يناسبُ تلك النَّازلةِ، وإذا صلَّى قيامَ رمضانَ فإنْ قَنَتَ في جميعِ الشهرِ أو نصفه الأخير أوْ لم يَقْنُتْ بحالٍ فقد أَحْسَن ا.هـ.
قال في الاختيارات: والتراويحُ إن صلاها كمذهبِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ عشرينَ ركعةً، أو كمذهب مالكٍ ستاً وثلاثينَ، أو ثلاثَ عشرة، أو إحدى عشرة، فقد أَحْسنَ كما نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ لعدم التوقيت، فيكون تكثيرُ الركعاتِ وتقليلُها بحسب طُول القيامِ وقَصَرِه، ومن صلاَّها قبلَ العشاء، فقد سَلكَ سبيلَ المبتدعةِ المخالفين للسُّنةِ، ويقرأُ أوَّلَ ليلةٍ من رمضانَ في العشاءِ الآخرةِ سورةَ القلم؛ لأنها أولُ ما نزل، ونَقَلَهُ إبراهيمُ بنُ محمد الحارث عن الإمامِ أحمدَ، وهو أحسنُ مما نَقَلَهُ غيرُه أنه يَبتدئُ بها التراويحَ ا.هـ.
(1/57)
ثم يُصلي التاسعةَ ويتشهَّدُ ويسلِّمُ، وأدنى الكمالِ ثلاث ركعاتٍ بسَلامَيْنِ يَقْرأُ في الأولى بِسَبِّح وفي الثانية بالكافرون وفي الثالثةِ بالإخلاصِ، ويَقْنُتُ فيها بعدَ الركوعِ، فيقول: اللهم اهدني فيمن هديتَ، وعافني فيمنْ عافيت، وتولَّني فيمنْ تَولَّيتَ، وباركْ لي فيما أعطيتَ، وقني شَرَّ ما قَضَيْتَ، إنك تَقْضِي ولا يُقْضَى عليك، إنه لا يَذلُّ مَنْ واليتَ ولا يَعِزُّ من عاديتَ، تباركتَ ربنا وتعاليتَ(1). اللهم إنِّي أعوذُ برِضاك من سَخَطِكَ، وبِمُعافاتِكَ من عُقوبتِكَ، وبِكَ مِنْكَ، لا أحْصِي ثناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك(2) ، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ ويَمْسحُ وجهَهُ بيديه، ويُكْرَه قنوتُه في غيرِ الوترِ، إلا أن تنزلَ بالمسلمينَ نازلةٌ غير الطاعونِ، فَيَقْنُتُ الإمامُ في الفرائض.
والتراويحُ عشرونَ ركعةً، تُفعلُ في جماعةٍ مع الوترِ بعد العشاءِ في رمضانَ، ويُوتِرُ المُتَهَجِّدُ بعدَه، فإنْ تَبِعَ إمامَهُ شَفَعهُ بركعةٍ، ويُكرهُ التنفُّلُ بينها لا التعقيب بعدها في جماعة.
ثم السننُ الراتبةُ: ركعتانِ قبلَ الظُّهرِ، وركعتانِ بعدَها، وركعتانِ بعدَ المغربِ، وركعتانِ بعدَ العشاءِ، وركعتانِ قبل الفجرِ، وهما آكدُها، ومن فاتَهُ شيءٌ منها سُنَّ له قضاؤُه.
وصلاةُ الليلِ أفضلُ من صلاة النَّهارِ وأفضلُها ثلثُ اللَّيلِ بعدَ نِصْفِه،
ڑڑٹڑ
ڑ(1) أخرجه أبو داود في باب القنوت في الوتر، من كتاب الوتر 1/329. والترمذي باب ما جاء في القنوت في الوتر، من أبواب الوتر 2/328 برقم (464)، وابن ماجه في باب ما جاء في القنوت في الوتر من كتاب إقامة الصلاة 1/372 برقم (1178).ٹڑ
ڑ(2) أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في القنوت في الوتر من كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها 1/373 برقم(1179)، وأخرجه في باب القنوت في الوتر من كتاب الوتر 1/329.
(1/58)
وصلاةُ ليلٍ ونهارٍ مَثْنَى مَثْنَى، وإن تطوعَ في النهار بأربعٍ كالظهرِ فلا بأسَ(1)، وأَجْرُ صلاةِ قاعدٍ على نِصْفِ أَجْرِ صلاةِ قائمٍ، وتسنُّ صلاةُ الضُّحى، وأقلُّها ركعتانِ، وأكثرُها ثَمَانٌ، ووقتُها من خروجِ وقتِ النَّهيِ إلى قُبيلَ الزوال.
وسجودُ التلاوةِ صلاةٌ(2)
__________
(1) * قوله: (وإن تطوعَ في النهار بأربعٍ كالظهرِ فلا بأسَ)، قال في الشرح الكبير: قال بعضُ أصحابِنا: لا تجوزُ الزيادةُ في النهارِ على أربعٍ، وهذا ظاهرُ كلامِ الخِرَقي، وقال القاضي: يجوزُ ويُكْرَهُ، ولنا أنَّ الأحكامَ إنما تُتلَقَّى من الشارعِ، ولم يَرِدْ شيءٌ من ذلك والله أعلم. ا. هـ.
(2) * قوله: (وسجودُ التلاوةِ صلاةٌ) قال في الاختيارات: قال أبو العباس: والذي تَبينَ لي أن سجودَ التلاوةِ واجبٌ مطلقاً في الصلاة وغيرها، وهو روايةٌ عن أحمدَ، ومذهبُ طائفةٍ من العلماءِ، ولا يُشرعُ فيه تحريمٌ ولا تحليلٌ، هذا هو السنةُ المعروفةُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها عامةُ السلفِ، وعلى هذا فليس هو صلاةً، فلا يُشتَرُط له شروطُ الصلاةِ بل يجوزُ على غيرِ طهارةٍ، واختارها البخاريُّ لكنَّ التجردَ بشروطِ الصلاةِ أفضلُ، ولا ينبغي أن يُخِلَّ بذلك إلا لعذرٍ، فالسجودُ بلا طهارةٍ خيرٌ من الإخلال به، ولكنْ يقالُ: إنه لا يجبُ -في هذا الحال كما لا يجبُ على السامعِ إذا لم يسجدْ قارئٌ- السجودُ، وإن كان ذلك السجودُ جائزاً عند جمهورِ العلماء ا.هـ.
وقال الشَّعبيُّ فيمنْ سمعَ السجدةَ على غيرِ وضوءٍ يَسْجدُ حيثُ كان وَجْهُه.
(1/59)
، يُسَنُّ للقارئِ والمستمعِ دون السامعِ، وإن لم يَسْجُد القارئ لم ْ يَسْجُدْ وهو أربَعَ عشرةَ سجدةً(1)، في الحجِّ منها اثنتانِ، ويُكّبِّرُ إذا سجدَ وإذا رَفَعَ، ويجلسُ ويُسلِّمُ ولا يتشهَّدُ، ويُكره للإمام قراءةُ سجدةٍ في صلاةِ سِرٍّ وسجودُه فيها(2)، ويَلْزَمُ المأمومُ متابعتُه في غيرها(3)، ويستحبُّ سجودُ الشكرِ عند تَجَدُّدِ النِّعمِ واندفاعِ النِّقمِ، وتَبْطُلُ به صلاةُ غيرِ جاهلٍ وناسٍ.
__________
(1) * قوله: (وهو أربَعَ عشرةَ سجدةً) هو المشهورُ من المذهبِ، وعنه أنَّ السجداتِ خمسَ عشرةَ منها سجدةُ (ص).
(2) * قوله: (ويُكره للإمام قِراءةُ سجدةٍ في صلاةِ سرٍ وسجودُه فيها)، قال في الشرح الكبير: قال بعضُ أصحابِنا يكره للإمامِ قراءةُ السجدةِ في صلاةِ السرِّ، فإنْ قرأَ لم يَسْجدوا.
قال أبو حنيفةَ لأنَّ فيها إيهاماً على المأموم، وقال الشافعيُّ لا يُكره لِمَا رُوي عن ابنِ عُمَرَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سجدَ في الظهرِ ثم قامَ فركعَ فرأى أصحابَه أَنَّه قرأَ سورةَ السجدةِ. رواه أبو داود(1)، وقال شيخُنا: واتِّباعُ سنةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى ا. هـ.
(3) * قوله: (ويلزمُ المأمومُ متابعتُه في غيِْرِها)، قال في الشرح الكبير: كذلك قال بعض أصحابنا؛ لأنه ليس بمسنونٍ للإمامِ، ولم يوجدْ الاستماعُ المُقْتَضِي للسُّجود، قال شيخُنا: والأَوْلَى السجودُ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به فإذا سَجَدَ فاسْجُدُوا)(2) ا. هـ.
(1) في باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر، من كتاب الصلاة 1/186.
(2) أخرجه البخاري في باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، من كتاب الصلاة، وفي باب:إنما جعل الإمام ليؤتم به 1/106، 176، ومسلم في باب ائتمام المأموم بالإمام 1/308 وباب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير، من كتاب الصلاة 1/311.
(1/60)
وأوقاتُ النهيِ خمسةٌ: من طلوعِ الفجرِ الثاني إلى طلوعِ الشمسِ، ومن طُلوعِها حتى ترتفعَ قِيْدَ رمح، وعندَ قيامِها حتى تَزُولَ، ومن صلاةِ العصرِ إلى غُروبِها، وإذا شرعتَ فيه حتى تتمَّ، ويجوزُ قضاءُ الفرائضِ فيها، وفي الأوقاتِ الثلاثةِ فعلُ ركعتي طوافٍ وإعادةُ جماعةٍ(1)
__________
(1) * قوله: (وفي الأوقاتِ الثلاثةِ فعلُ ركعتي طوافِ وإعادةُ جماعة)، قال في المقنع: وتجوزُ صلاةُ الجنازةِ وركعتا الطوافِ وإعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجدِ بعد الفجرِ والعصرِ، وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ على روايتين.
قال ابنُ المنذر: إجماعُ المسلمينَ في الصلاةِ على الجنازةِ بعد العصرِ والصبحِ، فأما الصلاةُ عليها في الأوقاتِ الثلاثةِ التي في حديث عُقْبَةَ(1) فلا يجوزُ، قال في الشرح الكبير: وتجوزُ ركعتا الطوافِ بعده في هذين الوقتين، وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ فيه روايتان إحداهما يجوز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف هذا البيتَ وصلَّى أيَّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهارٍ)، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأبي ثَوْرٍ، والثانيةُ: لا يجوزُ لحديثِ عُقْبَة.
(1/61)
، ويَحْرمُ تَطَوُّعٌ بغيرِها في شيءٍ من الأوقات الخمسة، حتى ما له سبب(1).
باب صلاة الجماعة
__________
(1) * قوله: (ويَحْرُمُ تطوعٌ بغيرها في شيءٍ من الأوقاتِ حتى ما له سببٌ) قال في المقنع: ولا يجوزُ التطوعُ بغيرها في شيءٍ من هذه الأوقاتِ الخمسةِ إلا ما له سببٌ، كتحيةِ المسجدِ، وسجودِ التلاوةِ، وصلاةِ الكسوفِ، وقضاءِ السُّنَّةِ الراتبة، فإنها على روايتين. قال في الشرح الكبير: المنصوصُ عن أحمدَ رحمهُ اللهُ في الوتر أنه يفعلُ بعد طلوعِ الفجرِ قبلَ الصلاةِ لحديثِ: (من نامَ عن الوترِ فَلْيصلِّه إذا أصبح)، فأما سجودُ التلاوة وصلاةُ الكسوفِ وتحيةُ المسجدِ فالمشهورُ في المذهبِ أنه لا يجوزُ فعلُها في شيءٍ من أَوقاتِ النَّهيِ، وكذلك قضاءُ السُّننِ الراتبةِ في الأوقاتِ الثلاثةِ المذكورةِ في حديثِ عُقْبَة، انتهى ملخصاً. قال في الاختيارات: ولا نَهْيَ بعدَ طلوعِ الشمسِ إلى زوالِها يوم الجمعةِ، وهو قولُ الشافعيِّ وتُقْضَى السننُ الراتبةُ، ويُفعلُ ما لهُ سببٌ، ويُفعلُ ما له سبب في أوقاتِ النَّهيِ، وهي إحدى الروايتين عن أحمدَ، واختيارُ جماعةٍ من أصحابِنا وغيرِهم.
(1) حديث عبقة "ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلّي فيهنَّ وأن نَقْبُرَ فيهن موتانا" الخ. الحديث أخرجه مسلم في باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من كتاب صلاة المسافرين 1/568، 569، وأبوداود في باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها، من كتاب الجنائز 2/185.
(1/62)
تلزم الرجال للصلواتِ الخمس، لا شرطٌ، وله فعلها في بيته(1)، وتُستحب صلاةُ أهلِ الثَّغْرِ في مسجدٍ واحدٍ، والأفضلُ لغيِرهم في المسجدِ الذي لا تقامُ فيه الجماعةُ إلا بحضورِه، ثم ما كان أكثر جماعةً، ثم المسجدُ
__________
(1) * قوله: (وله فعلُها في بيته) أي جماعةً في بعضِ الأحيانِ، وعنه أنَّ حضورَ المسجدِ واجبٌ على القريبِ منه؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وعن أبي هريرة قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى فقال يا رسول اللهِ ليس لي قائدٌ يقودُني إلى المسجدِ فسألَهُ أن يُرخِّصَ له أن يُصَلِّيَ في بيتهِ فرخَّصَ له. فلمّا ولَّى دعاه فقال: (أتسمعُ النِّداءَ بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فغيرُه فأَجِبْ) رواه مسلم(1). وإذا لم يُرَخِّصْ للأعمى الذي لا قائدَ له فغيرُه أَوْلَى. قال في الاختيارات: والجماعةُ شرطٌ للصلاةِ المكتوبَةِ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولو لم يمكنْ الذهابُ إلا بمَشْيِهِ في مِلْكِ غيرِه فَعَلَ. فإذا صلَّى وحدَه لغيرِ عذرٍ لم تصحَّ صلاتُه. وفي الفتاوى المِصْريةِ: وإذا قلنا هي واجبةٌ على الأعيانِ وهو المنصوصُ عن أحمدَ وغيرِه من أئمةِ السَّلَفِ وفقهاءِ الحديث، فهؤلاءِ تنازعُوا فيما إذا صلَّى منفردا لغير عذر هل تصحُّ صلاته ؟ على قولين : أحدهما لا تصحُّ، و هو قول طائفةٍ من قدماءِ أصحابِ أحمدَ (والثاني) تصحُّ مع إثمه بالتَّرْكِ، وهو المأثورُ عن أحمدَ وقول أكثرِ أصحابِه.
(1) في باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، من كتاب المساجد 1/452.
(1/63)
العتيقُ، وأبعدُ أولى من أَقْرب(1)، ويَحْرُمُ أنْ يَؤُمَّ في مسجدٍ قبل إِمَامِهِ الراتبِ إلا بإذنِه أو عذره، ومن صلَّى ثم أُقيمَ فرضٌ سُنَّ له أَنْ يُعيدَها، إلا المغربَ(2)
__________
(1) * قوله: (وأبعدُ أَوْلَى من أَقْرب). قال في المُقنع: وهل الأَوْلى قَصْدُ الأبعدِ أو الأقربِ؟ على روايتين. قال في الشرح الكبير: (إحداهما) قَصْدُ الأَبْعَدِ أَفْضَلُ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (أعظمُ الناس أجراً في الصلاةِ أَبْعَدَهُمْ فَأَبْعَدُهمْ مَمْشَى)(1) (والثانية) قَصْدُ الأَقْربِ، لأنَّ له جِواراً فكانَ أحقَّ بصلاتِه، ولقوله عليه السلام: (لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ)(2) ا.هـ. قلت: يختلف ذلك باختلافِ المقاصدِ والنياتِ والمصالحِ والمفاسدِ.
(2) * قوله: (ومن صلَّى ثم أُقيمَ فرضٌ سُنَّ أن يُعيدَها إلا المغربَ). قال في المقنع: وعنه يعيدُها ويشفعُها برابعة. قال في الشرح الكبير: فأما المغربُ ففي استحبابِ إعادتِها روايتان (إحداهما): قياساً على سائرِ الصلواتِ (والثاني): لا يُستحَبُّ، حكاها أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ التطوعَ لا يكونُ بوتر. فإن قلنا: تُستحبُ شَفْعَها برابعة،
نَصَّ عليه أحمدُ وبه قال الأسودُ بنُ يزيد والزهريُّ والشافعيُّ وإسحاقُ. وعن حُذَيْفَة أنه أعادَ الظهرَ والمغربَ وكان قد صلاهنَّ في جماعة. رواه الأَثْرم.
(1) رواه أبو داود في باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة من كتاب الصلاة 2/261 برقم (552)، ورواه ابن ماجه في باب الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً، من كتاب المساجد والجماعات 1/257 برقم (782).
(2) حديث ضعيف كما في المقاصد الحسنة ص 467، وكذا في إرواء الغليل للألباني 2/251، وقال ابن قدامة في المغني: لا نعرفه إلا من قول عليٍّ نفسه كذلك رواه سعيد في (سننه) وقيل أراد به الكمال والفضيلة فإنَّ الأخبار الصحيحية دالَّةٌ على أن الصلاة في غير المسجد صحيحة جائزة، المغني 3/9
(1/64)
، ولا تُكره إعادةُ الجماعةِ في غيرِ مَسْجِدَيْ مكةَ والمدينة(1): فَيَقْطَعها، ومَنْ كَبَّر قبلَ سلامِ إمامهِ لحقَ الجماعةَ.
__________
(1) * قوله: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجدي مكة والمدينة). قال في الشرح الكبير: فأما إعادتُها في المسجدِ الحرامِ ومسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمسجدِ الأقصى، فقد روي عن أحمدَ كراهتُه، وذكرَه أصحابُنا، لئلا يَتَوانَى الناسُ في حضورِ الجماعةِ مع الإمامِ الراتبِ فيها إذا أمكنتْهم الصلاةُ في الجماعةِ مع غيرِه، وظاهرُ خبرِ أبي سعيدٍ وأبي أُمَامةَ أنه لا يُكْرَهُ، لأنَّ الظاهرَ أنَّ ذلك كانَ في مسجدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن المعنى يقتضيه، لأن حصولَ فضيلةِ الجماعةِ فيها كحصولها في غيرِها، والله أعلم. انتهى.
قال في الاختيارات: ولا يعيدُ الصلاةَ مَنْ بالمسجدِ وغيره بلا سبب.
(1/65)
وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، فإنْ كان في نافلةٍ أتمَّها، إلا أنْ يَخْشَى فَواتَ الجماعةِ فَيَقْطَعَهَا، ومن كبَّرَ قَّبْلَ سَلاَمِ إِمامِةِ لَحِقَ الجماعةَ، وإن لحقه راكعاً دخلَ معه في الركعة وأجزأَتْه التحريمةُ، ولا قراءةَ على مأمومٍ، وتُستحبُّ في إسرارِ إمامِهِ وسكوتِه(*)، وإذا لم يَسْمَعْه لِبُعْدٍ لا لِطَرَشٍ، ويَسْتفتحُ ويتعوذُ فيما يَجْهرُ فيه إمامه(1).
__________
(1) * قوله: (ولا قراءةَ على مأمومٍ، ويستحب في إسْرار ِإمامهِ وسكوتهِ). قال أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ: للإمام سكتتانِ فاغتنمْ فيهما القراءةَ بفاتحةِ الكتابِ، إذا دخلَ في الصلاةِ وإذا قال ولا الضَّالِّين، وقال عروة: أما أنا فأغتنم من الإمامِ اثنتينِ: إذا قال غير المغضوبِ عليهم ولا الضَّالِّين فأقرأُ عندها، وحين يختم السورةَ فاقرأُ قبلَ أن يَرْكعَ. وعن عُبَادَةَ بن الصَّامتِ - رضي الله عنه - قال :صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبحَ فَثَقُلَتْ عليه القراءةُ فلما انصرفَ قال: إني أراكُم تقرأونَ وراءَ إمامِكم، قال: قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأمِّ القرآنِ فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بها(1). رواهُ أبو داود.=
(1) أخرجه أبو داود في باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب من كتاب الصلاة 3/44 برقم (808)، والترمذي، في باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، من أبواب الصلاة 2/116 برقم (311).
=والتِّرمذيُّ. قال في المغني: يستحبُّ أن يسكتَ الإمامُ عَقِبَ قراءةِ الفاتحةِ سَكْتةً يستريحُ فيها ويقرأُ فيها مَنْ خَلْفَه الفاتحةَ لئلا يُنازعوه فيها.
(1/66)
ومن ركعَ أو سجدَ قبلَ إمامِه(1) فعليه أن يَرْجعَ ليأتيَ به بعده، فإنْ لم يَفْعلْ عمداً بَطَلَتْ، وإن ركعَ ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عَمْداً بَطَلَتْ، وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعةُ فقط، وإن رَكعَ ورَفعَ قبل ركوعهِ ثم سجدَ قبلَ رَفْعِهِ بطلتْ إلا الجاهلَ والناسيَ، ويصلِّي تلك الركعةَ قضاءً.
ويسنُّ للإمام التخفيفُ مع الإتمامِ وتطويلِ الركعةِ الأولى أكثر من الثانيةِ، ويُسْتحبُّ انتظارُ داخلٍ إن لم يَشُقَّ على مأمومٍ، وإذا استأذنت المرأةُ إلى المسجدِ كُرِهَ مَنْعُها، وبيتُها خيرٌ لها.
فصل
__________
(1) * قوله: (ومنْ ركعَ أو سجدَ قبل إمامِه)، إلخ قال في الشرح الكبير: (مسألة) فإنْ ركعَ أو رفعَ قبلَ ركوع إمامِه عالماً عمداً فهل تبطل صلاته؟ على وجهين: (أحدهما): تَبْطُل للنَّهيِ والثاني: لا تبطلُ؛ لأنه سبقه بركنٍ واحدٍ فهي كالتي قبلَها.
قال ابنُ عَقيل: اختلفَ أصحابُنا فقال بعضهم: تبطل الصلاةُ بالسبقِ بأي رُكنٍ من الأركان، ركوعاً كان أو سجوداً أو قياماً. وقال بعضهم: السَّبقُ المُبطِلُ مختصٌّ بالركوع، لأنه الذي يحصُل به إدراكُ الركعةِ وتفوتُ بفواتِه، فجاز أن يَخْتصَّ بُطلانُ الصلاة بالسَّبْقِ به، وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطلْ صلاتُه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عُفي لأُمتي عن الخطأ والنسيان" وهل تبطل الركعة؟ فيه روايتان: (إحداهما): تبطُلُ، لأنه لا يَقْتَدِي بإمامهِ في الرُّكوعِ أشْبه ما لَو لم يُدركْه، (والأخرى): لا تبطل للخبر، فأما إن ركع قبل ركوعِ إمامهِ فلمَّا ركعَ الإمامُ سجدَ قبلَ رَفْعهِ بَطَلَتْ صلاتهُ إن كان عمداً، لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة، وإن فَعَلهُ جاهلاً أو ناسياً لم تَبطُلْْ للحديث، ولم يعتدَّ بتلك الركعةِ لعدم اقتدائِه بإمامِه فيها. انتهى.
(1/67)
الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته، ثم الأفقه، ثم الأسن، ثم الأشرف، (ثم الأقدم هجرة)، ثم الأتقى، ثم من قرع، وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان . وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختون ومن له ثياب أولى من ضدهم.
ولا تصح خلف فاسق ككافر(1)
__________
(1) * قوله: (ولا تصحُّ خلفَ فاسقٍ ككافرٍ). قال في المقنع: وهل تَصْلُح إمامةُ الفاسقِ والأقلفِ؟ على روايتين قال في الشَّرح الكبير: والفاسقُ ينقسمُ على قسمين: فاسقٌ من جهةِ الاعتقادِ، وفاسقٌ من جهةِ الأفعال. فأمَّا الفاسقُ من جهةِ الاعتقادِ فمتى كان يعلنُ بِدعتَه ويتكلمُ بها ويدعو إليها ويناظرُ لم تصحَّ إمامتُه، وعلى من صلَّى وراءَه الإعادةُ، قال أحمدُ: لا يُصَلَّى خلفَ أحدٍ من أهل الأهواءِ إذا كان داعيةً إلى هواه، وقال: لا يُصَلَّى خَلف المُرْجِئ إذا كان داعيةً. وقال الحسنُ والشافعيُّ: الصلاةُ خلفَ أهلِ البدعِ جائزةٌ بكلِّ حالٍ لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قال لا إله إلا الله)(1)، وقال نافع كان ابنُ عمرَ يُصلِّي خلفَ الخَشَبِيَّة(2) والخوارج زمنَ ابنِ الزبيرِ وهم يَقْتتلون، فقيل له: أتصلي مع هؤلاء وبعضُهم يقتلُ بعضاً؟ فقال: من قال: حيَّ على الصلاةِ أجبتُه، ومن قال: حيَّ على قتل أخيكَ المسلمِ وأَخْذِ مالِهِ قلتُ: لا. رواه سعيد. وكان ابنُ عمر يصلِّي مع الحَجَّاج.
وأما الجُمَعُ والأعيادُ فتُصلَّى خلفَ كلّ بَرٍ وفاجرٍ، وقد كان أحمدُ يشهدُها مع المعتزلة، وكذلك من كانَ من العلماءِ في عَصْرِه. ا هـ ملخصاً.
(1) رواه الدارقطني في باب صفة من تجوز الصلاة معه والصلاة عليه، من كتاب الصلاة 2/56. وأبونعيم في أخبار أصبهان (2/217) وهو عند الألباني في إرواء الغليل واهٍ جداً 2/305.
(2) الخَشَبِيَّة: هم أصحاب المختار بن أبي عُبيد قاله ابن الأثير . انظر: اللسان والتاج : مادة "خشب". والرواية عن ابن عمر فيهما.
(1/68)
ولا امرأةٍ وخُنْثَى للرِّجال،
ولا صَبيّ لبالغ(1)، ولا أخرسَ، ولا عاجزٍ عن ركوعٍ أو سجودٍ أو قعودٍ أو قيامٍ إلا إمامَ الحيِّ المَرْجُوَّ زوالُ علتِّه(2)، ويصلُّون وراءه جلوساً ندباً، وإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتلَّ فجلس أَتَمُّوا خَلْفَهُ قياماً وجوباً.
وتصحُّ خلفَ من به سَلَسُ البولِ بمثله، ولا تصحُّ خلفَ مُحدِثٍ ولا مُتنجسٍ يَعلمُ ذلك. فإن جَهِل هو المأْمُومُ حتى انقضتْ صحَّتْ لمأمومٍ وحدَه(3)
__________
(1) * قوله: (ولا صبيٍ لبالغ). هذا المذهبُ، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأجازهُ الحسنُ والشافعيُّ وإسحاقُ وابنُ المنذرِ لحديثِ عمرو بنِ سَلَمَةَ(1) ، قال في سُبُلِ السَّلام: وتقديمُه وهو ابنُ سبْعِ سنينَ دليلٌ لما قاله الحسنُ البصريُّ والشافعيُّ وإسحاقُ من أنَّه لا كراهةَ في إمامةِ المُمَيِّز، وكرهَها مالكٌ والثوريُّ، وعن أحمدَ وأبي حنيفةَ روايتان والمشهورُ عنهما الإجزاءُ في النوافلِ دون الفرائضِ، قال: ويحتاجُ من ادَّعى التفرقةَ بين الفرضِ والنَّفْلِ إلى دليل.
(2) * قوله: (إلا إمامَ الحيِّ المَرْجُوَّ زوالُ عِلَّتِه)، قال البخاري: (باب إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَّم به) وصلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مرضِه الذي تُوفِّي فيه بالنَّاسِ وهو جالسٌ- إلى أن قال- قال الحُميدي قولُه: (إذا صلَّى جالساً فصلُّوا جلوساً) هو في مرضِه القديم، ثم صلَّى بعد ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جالساً والناسُ خلفَه قيامٌ لم يأمرْهم بالقعودِ، وإنما يُؤخذُ بالآخِر فالآخِرِ من فِعْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
(3) * قولُه: (ولا تصحُّ خلفَ مُحدِثٍ ولا مُتنجِّسٍ يَعلمُ ذلك، فإنْ جِهِلَ هو والمأمومُ حتى انقضتْ صحَّتْ لمأمومٍ وحده)، وهو قولُ الشافعيِّ ومالكٍ، وقال =
(1) قال الخطابي: في معالم السنن 1/169 كان أحمد يضعِّف أمرَ عمرو بن سلمة، وقال مرة: دعه ليس بشيء بَيِّن. وقال أبو داود: قيل لأحمد: حديث عمرو بن سلمة؟ قال لا أدري أي شيء هذا. وانظر المغني لابن قدامة 3/70.
=أبوحنيفة: يُعيدونَ جميعاً. قال في الشرح الكبير: ولنا إجماعُ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم، فَرُوي أنَّ عمرَ صلَّى بالناس الصُّبْحَ ثم خَرجَ إلى الجُرْفِ فأهْراقَ الماءَ فوجَدَ في ثوبِهِ احتلاماً، فأعاد ولم يُعدِ الناسُ(1). وعن البراءِ بن عازبٍ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صَلَّى الجنبُ بقومٍ أعادَ صلاتَه وتمَّت للقومِ صلاتُهم) رواه أبو سليمانُ محمدُ بن الحسين الحرَّاني(2).
(1/69)
،
ولا تصحُّ إمامةُ الأُمِّي وهو مَنْ لا يُحْسِنُ الفاتحةَ أو يُدْغِمُ فيها ما لا يُدْغَمُ، أو يبدل حرفاً(1)، أو يَلْحنُ فيها لَحْناً يُحيلُ المعنى، إلا بِمثْلِه، وإنْ قَدَرَ على إصلاحهِ لم تصحَّ صلاتُه. وتُكرهُ إمامةُ اللحَّانِ والفَأْفَاءِ والتَّمْتَامِ ومَنْ لا يُفْصِحُ ببعضِ الحروف، وأَنْ يَؤُمَّ أجنبيةً فأكثرَ لا رجلَ معهن(2)
__________
(1) * قوله: (أو يبدلُ حرفاً)، قال في الفروع: وإن قرأ: (غير ِالمغضوبِ عليهم ولا الضالين) بظاء فالوجه الثالث يصح مع الجهل. قال في تصحيح الفروع: (أحدها) لا تَبْطُل الصلاةُ، اختاره القاضي والشيخُ تقيُّ الدين، وقَدَّمه في المغني(3) والشرح وهو الصواب ا.هـ.
(2) * قوله: (وأنْ يؤمَّ أجنبيةً فأكثرَ لا رجلَ معهن)، قال في الشرح: لنَهْيهِ عليه السَّلامُ أنْ يَخْلُوَ الرجلُ بالأجنبيةِ (قلت): والظاهرُ أن النَّهْيَ فيما إذا خلا بها وحدَها، ولفظ الحديث: (لا يَخْلو رجلٌ بامرأةٍ إلا والشيطانُ ثالثُهما)(1)، وأما إذا كُنَّ=
(1) أخرجه البيهقي في باب الرجل يجد في ثوبه منيّاً ولا يذكر احتلاماً، من كتاب الطهارة 1/170، والجُرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، كانت به أموال لعمر بن الخطاب ولأهل المدينة، معجم البلدان 2/62. وانظر: المغني لابن قدامة 1/269.
(2) انظر: المغني لابن قدامة المقدسي 2/505.
(3) انظر: المغني لابن قدامة المقدسي 3/32.
(4) أخرجه البخاري في: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، من كتاب النكاح 7/48، ومسلم في: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، من كتاب الحج 2/978.
=جمعاً فلا نَهْيَ في ذلك، لما رَوَى عبدُالله ابنُ أحمدَ من حديث أُبيِّ بنِ كعبٍ أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله عملتُ الليلةَ عملاً، قال: ما هو؟ قال: نِسْوةٌ معي في الدَّارِ قُلْن: إنَّكَ تقرأُ ولا نقرأُ، فصلِّ بنا فصلَّيْتُ ثمانياً والوترَ، فسكتَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فرأينا أن سكوتَه رِضاً.
(1/70)
، أو قوماً أكثرُهم يكرهه بِحقٍّ. وتَصحُّ إمامةُ ولدِ الزِّنا والجُنْديِّ إذا سَلِمَ دينُهما، ومن يُؤدِّي الصلاةَ بمنْ يَقْضيها، وعكسُه، لا مُفْترِضٌ بِمُتنفِّلٍ(1)، ولا مَنْ يصلِّي الظهرَ بمن يصلِّي العصرَ أو غيرَها.
فصل
__________
(1) * قوله "ومَنْ يؤدِّي الصلاةَ بمَنْ يَقْضيها وعكسُه لا مفترِضٌ بمتنفِّلٍ الخ، قال في المقنع: ويصحُّ ائتمامُ من يؤدِّي الصلاةَ بمن يَقْضيها، ويصحُّ ائتمامُ المفترِضِ بالمتنفِّلِ، ومن يصلِّي الظُّهرَ بمن يصلِّي العصر في إحدى الروايتين، والأُخرى لا تَصِحُّ فيهما، قال في الاختيارات: وأصحُّ الطَّريقتين لأَصْحابِ أحمدَ أنه يَصِحُّ ائتمامُ القاضي بالمؤدِّي والعكسُ، ولا يَخرجُ عن ذلك ائتمام المُفْتَرِضِ بالمُتنفِّلِ ولو اختلفا، أو كانتْ صلاةُ المأمومِ أقلَّ، وهو اختيارُ أبي البركات وغيرِه.
(1/71)
يقفُ المأمومُ خلفَ الإمامِ. ويصحُّ معه عن يمينهِ أو عن جانبيهِ لا قُدَّامَهُ ولا عن يَسارِه فقط، ولا الفَذُّ خلْفَه أو خلْفَ الصفِّ(1)، إلا أن تكونَ امرأةً، وإمامةُ النساءِ تقفُ في صفِّهنّ(2)، ويليهِ الرجالُ ثم الصِّبيانُ ثم النِّساءُ، كجَنائزِهمْ، ومن لم يقفْ معه إلا كافرٌ أو امرأةٌ أو مَنْ عَلِمَ حَدَثَهُ أحدُهما أو صبيٌّ في فرضٍ فَفَذٌّ، ومن وَجَدَ فُرْجَةً دخلَها، وإلا عن يمينِ الإمامِ، فإن لم يُمكنْهُ فله أن يُنبِّهَ من يقومُ معه، فإذا صلَّى فَذّاً ركعةً لم تصحَّ، وإن رَكَع فَذّاً ثم دخَلَ في الصفِّ أو وَقفَ معه آخرُ قبلَ سجودِ الإمامِ صحَّتْ.
فصل
__________
(1) * قوله: (ولا الفَذُّ خَلْفَه أو خَلْفَ الصفِّ). قال في الاختيارات: وتَصحُّ صلاةُ الفذِّ لعُذرٍ، وقاله الحنفيَّةُ. وإذا لم يجدْ إلا موقفاً خَلْفَ الصفِّ، فالأفضلُ أن يقفَ وحدَه ولا يَجْذِبَ مَنْ يُصَافُّهُ لِمَا في الجَذْبِ من التصرُّفِ في المَجْذوبِ. وإذا ركعَ دونَ الصفِّ دخل الصفَّ بعد اعتدالِ الإمامِ كان ذلك سائغاً.
(2) * قوله: (وإمامةُ النِّساءِ تقفُ في صَفِّهنَّ)، قال في الشرح الكبير: لا نعلمُ في ذلك خلافاً بينَ من رأى أن تَؤُمَّهُنَّ، قوله: (أو صبيٌّ في فرض فَفَذٌّ)، قال في الفروع: وانعقادُ الجماعةِ بالصَّبِّيِ ومُصافَّتُه كإمامتِه، لأنه ليس من أهلِ الشهادةِ وفَرْضُه نَفْلٌ، وقيل: يصحُّ وهو أَظْهرُ، ا.هـ. قال الحافظُ بنُ حجرٍ على حديثِ أنسٍ (وصَفَفْتُ أنا واليتيمُ وراءَهُ والعجوزُ مِنْ ورائِنا)(1) فيه قيامُ الصبيِّ مع الرَّجُلِ صَفّاً، وأنَّ المرأةَ لا تَصُفُّ مع الرِّجالِ فلو خالفتْ أجزأتْ صلاتُها عند الجُمهور.
(1/72)
يصحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإمامِ في المسجدِ وإنْ لم يَرَهُ(1) ولا مَنْ وراءَه إذا
سمعَ التكبيرَ، وكذا خارجَه إن رأى الإمامَ أو المأمومين إذا اتّصلتْ الصفوفُ، وتصحُّ خلفَ إمامٍ عالٍ عنهم، ويُكرَهُ إذا كانَ العلوُّ ذراعاً فأكْثرَ كإمامتِه في الطَّاقِ، وتطوُّعِه موضعَ المكتوبةِ إلا مِنْ حاجةٍ، وإطالةُ قُعودِه بعد السَّلامِ مستقبلَ القِبْلَةِ، فإنْ كان ثَمَّ نساءٌ لبِثَ قليلاً لِينْصرِفْنَ، ويُكرَهُ وقوفُهم بين السَّواري إذا قَطَعْنَ الصُّفوفَ.
فصل
__________
(1) * قال في الاختيارات: والمأمومُ إذا كان بينه وبين الإمامِ ما يمنعُ الرؤْيةَ والاستطراقَ صحَّتْ صلاتُه إذا كانتْ لعذرٍ(2)، وهو قولٌ في مذهبِ أحمدَ وغيرهِ، ويُنْشَأُ مسجدٌ إلى جَنبِ آخرَ إذا كان مُحتاجاً إليه ولم يُقْصَدِ الضَّرَرُ، فإن قُصِدَ الضررُ ولا حاجةَ فلا يُنشأ.
(1) أخرجه البخاري في باب الصلاة على الحصير، من كتاب الصلاة 1/106، 107، 218 ومسلم في باب جواز الجماعة في النافلة، من كتاب المساجد 1/457 ومالك في الموطأ في باب جامع المسبحة الضحى 1/157 برقم (406)، والإمام أحمد في المسند 3/131 و149 و164.
(2) قال ابن قدامة في المغني 3/44: وإن لم تتصل الصفوف، وهذا مذهب الشافعي، وذلك لأن المسجد بُني للجماعة، فكلُّ من حصل فيه، فقد حصل في محلِّ الجماعة، وإن كان بينهما طريق الخ.. ففيه وجهان، أحدهما: لا يصح، والثاني: يصح، وهو الصحيح عندي، ومذهب مالك والشافعي، وقد صلَّى أنسٌ في موت حُميد بن عبدالرحمن بصلاة الإمام، وبينهما طريق. ا هـ.
(1/73)
ويُعْذَرُ لتَرْكِ جُمُعةٍ أو جماعةٍ مريضٌ، ومُدافعٌ أَحَدَ الأَخْبثَينْ، ومَنْ بحضرةِ طعامٍ محتاج إليه، وخائفٌ من ضياعِ مالِهِ أو فَواتهِ أو ضَررٍ فيه، أو موتِ قريبهِ أو على نفْسهِ من ضَررٍ أو سُلطانٍ أو مُلازمةِ غريمٍ ولا شيءَ معه، أو من فواتِ رفقتِه، أو غلبةِ نُعاسٍ، أو أذىً بمطرٍ أو وَحلٍ، أو بريحٍ باردةٍ شديدةٍ في ليلةٍ مُظْلِمة باردةٍ.
باب صلاة أهل الأعذار
تَلزمُ المريضَ الصلاةُ قائماً، فإن لم يستطعْ فقاعداً، فإن عَجزَ فعلى جَنْبِه، فإن صلَّى مُستلقياً ورجْلاه إلى القِبْلةِ صَحَّ، ويُومِئُ راكعاً وساجداً ويخفِضُه عن الركوعِ، فإن عجز أَوْمَأَ بعينهِ، فإن قَدَرَ أو عجزَ في أثنائِها انتقلَ إلى الآخر، وإن قَدَرَ على قيامٍ وقُعودٍ دونَ ركوعٍ وسجودٍ أَوْمَأَ بركوعٍ قائماً وبسجودٍ قاعداً، ولمريضٍ الصلاةُ مستلقياً مع القُدْرةِ على القيامِ لمداواةٍ بقولِ طبيبٍ مسلمٍ. ولا تصحُّ صلاتُه في السفينةِ قاعداً وهو قادرٌ على القيامِ(1)
__________
(1) * قوله: (ولا تصحُّ صلاتُه في السفينةِ قاعداً وهو قادر على القيام). قال في الشرح الكبير: اختلف قوله في الصلاةِ في السفينةِ مع القُدرةِ على الخروجِ، على روايتين (إحداهما): لا يجوزُ لأنَّها ليستْ حالَ استقرارٍ أَشْبَهَ الصَّلاةَ على الراحلةِ، (والثانية): يصحُّ لأنه يَتمكنُ من القيامِ والركوع والسجودِ، أَشْبَهَ الصَّلاةَ على الأرض. وسواءٌ في ذلك الجاريةُ والواقفةُ والمسافرُ والحاضرُ، وهي أَصَحُّ ا.هـ. وعن ابنِ عُمَرَ قال: سُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيف أُصلِّي في السَّفينةِ؟ قال:"صلِّ فيها قائماً إلا أن تخافَ الغَرَق"َ. رواه الدَّارَقُطْنِي.
قال البخاريُّ: وصلَّى جابرٌ وأبو سعيدٍ في السفينةِ قائماً، وقال الحسنُ: قائماً ما لم تَشُقَّ على أصحابِك تدورُ معها وإلا فقاعداً ا. هـ.
(1/74)
، ويصحُّ الفرضُ على الراحلةِ خشيةَ التأذِّي بالوحلِ لا للمرض(1).
فصل
__________
(1) * قوله: (ويصحُّ الفرضُ على الراحلةِ خَشيةَ التأذِّي بالوحلِ لا للمرضِ). قال في المقنع: وهل يجوزُ ذلك للمريضِ؟ على روايتين. قال في الشرح الكبير: وجملةُ ذلك أن الصلاةَ على الراحلةِ لأَجلِ المرضِ لا تخلو من ثلاثة أحوال: (أحدُها): أن=
=يخافَ الانقطاعَ عن الرُّفْقةِ أو العجزَ عن الركوبِ أو زيادةَ المرضِ ونحوه فيجوزُ له ذلك. و(الثاني):أن لا يتضرَّر بالنزول ولا يَشُقَّ عليه فيلزمه النزولُ. و(الثالث): أن يَشُقَّ عليه النزولُ مشَّقةً يمكنُ تحملُها من غيرِ خوفٍ ولا زيادةِ مرضٍ ففيه الروايتان: (إحداهما): لا تجوزُ له الصلاةُ على الراحلةِ، لأن ابنَ عُمَرَ كان يُنزِلُ مَرْضاه (والثانية): يجوزُ، اختارها أبو بكر لأنَّ المشقةَ في النزولِ أكثر من المَشقَّةِ عليه في المَطَر فكانَ إباحتُها ههنا أَوْلَى ا.هـ.
قال في الاختيارات: وتصحُّ صلاةُ الفرضِ على الراحلةِ خشيةَ الانقطاعِ عن الرفقةِ أو حصولِ ضررٍ بالمَشْي، أو تبرز للخفر.
(1/75)
من سافر سفراً مباحاً أربعةَ بُرُدٍ(1) سُنَّ له قَصْرُ رُباعيَّةٍ ركعتينِ إذا فارقَ عَامِرَ قَرْيتهِ أو خِيامَ قَومهِ. وإنْ أَحرمَ حَضَراً ثم سافرَ أو سَفراً ثم أقامَ أو ذَكرَ صلاةَ حضرٍ في سفرٍ أو عَكْسَها، أو ائتمَّ بمُقيمٍ أو بمن يشكُّ فيه، أو أحرم بصلاةٍ يَلزمُه إتْمامُها ففسَدتْ وأعادَهُ أو لم يَنوْ القَصْرَ عند إحرامِها(2)، أو شكَّ في نِيَّته، أو نوى إقامةً أكثرَ من أربعةِ أيامٍ، أو ملاَّحاً معه أهلُه لا يَنْوي الإقامةَ ببلدٍ لزمَهُ أن يُتِمَّ، وإن كان له طريقانِ فَسلكَ أبعدَهما أو ذَكرَ صلاةَ سفرٍ في آخر قَصْرٍ، وإن حُبِسَ ولم يَنْوِ إقامةً أو أقامَ لقضاءِ حاجةٍ بلا نيَّةٍ إقامةً قَصَرَ أبداً(3)
__________
(1) * قوله: (من سافر سفراً مباحاً أربعةَ بُرُدٍ). قال في الاختيارات: أما خروجُه إلى بعضِ عملِ أرضِه، وخروجُه - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء فلا يُسمَّى سفراً ولو كان بريداً ولهذا لا يتزوَّدُ ولا يتأهَّبُ له أُهبَةَ السفر.
(2) * قوله: (أو لم يَنْوِ القَصْرَ عند إحرامِها). قال في الفروع: واختار جماعةٌ: يصحُّ القَصْرُ بلا نيةٍ وفاقاً لأبي حنيفة ومالك.
(3) * قوله: (وإن حبس ولم ينو إقامة أو أقام لقضاءِ بلا نيَّةٍ إقامة قَصْرٍ أبداً). قال في الفروع: قال ابن المُنذر: للمسافر القَصْرُ ما لم يجمعْ إقامةً وإنْ أَتَى عليه سِنونَ إجماعاً. وفي التلخيص: إقامةُ الجيشِ الطويلةُ للغَزْوِ ولا تمنع الترخُّص لقوله عليه السلام. قال الشَّوكاني: وإذا أقامَ ببلدٍ متِّردداً قَصَرَ إلى عشرينَ يوماً ثم يُتِمّ. وعن ابنِ عباسٍ قال: لما فتحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ أقامَ فيها تسعَ عشرةَ ليلةً يصلِّي ركعتين. فنحنُ إذا سافرنا فأقْمنا تسعَ عشرةَ قَصَرْنا وإن زِدْنا أتْممنا. رواه البخاري(1) وغيره.
قال في الاختيارات: والجمعُ بين الصلاتين في السفرِ يختصُّ بمحلِ الحاجةِ؛ لأنه من رُخَصِ السفرِ من تقديمٍ وتأخيرٍ، وهو ظاهرُ مذهبِ أحمد المنصوص عليه، ويَجمعُ لتحصيلِ الجماعةِ وللصَّلاةِ في الحمَّامِ مع جوازِها فيه خوفَ فواتِ الوقْتِ، ولخوفِ تَحَرُّجٍ في تَرْكِه. وفي الصحيحين من حديثِ ابنِ عباسٍ أنه سُئل: لمَ فعلَ ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحْرِجَ أحداً من أُمَّته(2). فلم يعلِّلْهَ بمرضٍ أو غيرِه، وأوسعُ المذاهب في الجَمْع مذهبُ أحمدَ فإنه يجوز الجمع إذا كان له شُغل كما رَوى النَّسائيُّ ذلك مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(3)، وأَوَّلَ القاضي وغيرُه نصَّ أحمدَ أن المرادَ بالشُّغْلِ الذي يُبيحُ تركَ الجُمُعةِ والجماعة ا.هـ.
(1) في باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، من كتاب التقصير 2/53 وفي باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، من كتاب المغازي 5/191، وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في كم تقصر الصلاة من كتاب أبواب الصلاة 2/432 برقم (548) و(549).
(2) أخرجه مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من كتاب المسافرين1/490 و491.
(3) أخرجه النسائي في الوقت الذي يجمع فيه المقيم من كتاب المواقيت 1/286 برقم (590) ولفظه بعد أن ساق سنده إلى ابن عباس أنه صلَّى بالبصرة الأُولى والعصر ليس بينهما شيءٌ والمغرب والعشاءَ ليس بينهما شيءٌ فَعَلَ ذلك من شُغْلٍ وزَعَم ابنُ عبَّاسٍ أنَّه صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ الأُولى والعصرَ ثمانٍ سَجَدَاتٍ ليس بينهما شيءٌ.
(1/76)
.
فصل
يجوز الجمع بين الظُّهرين وبين العشاءينِ في وقتِ إحداهما في سفرِ قصرٍ، ولمريضٍ يَلْحقهُ بتركِهِ مشقَّةٌ، وبين العشاءين لمطرٍ يبلُّ الثيابَ ولوحلٍ وريحٍ شديدةٍ باردةٍ، ولو صلَّى في بيتهِ أو في مسجدٍ طريقهُ تحت ساباطٍ(1). والأفضل فعل الأرفق به من تقديم وتأخير، فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها، ولا يفرِّق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف، ويبطل براتبة بينهما(2)، وأن يكون العذر موجودا عند افتتاحهما وسلام الأولى، وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجميع في وقت الأولى ، إن لم يضق عن فعلها ، واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.
فصل
__________
(1) * قوله: (وفي مسجدٍ طريقهُ تحَتَ ساباطٍ). قال في المقنع: وهل يجوزُ لأجلِ الوَحْلِ والريحِ الشديدةِ الباردةِ أو لمن يُصلِّي في بيتهِ أو في مسجدٍ طُرقهُ تحتَ ساباطٍ على وَجْهينِ قال في الشرح الكبير: (إحداهما): الجوازُ؛ لأن الرُّخصةَ العامةَ يستوي فيها حالُ وجودِ المشقةِ وعدمِها كالسَّفرِ والثاني: المَنْعُ؛ لأن الجمعَ لأجلِ المشقة. ا.هـ. ملخصاً.
(2) * قوله: (ويبطل براتبة بينهما)، قال في المقنع: فإن صلَّى السُّنُّةَ بينهما بَطَلَ الجمعُ في إحدى الروايتين، قال في الاختيارات: ولا موالاةَ في الجَمْعِ في وقتِ الأُولى، وهو مأخوذٌ من نصِّ الإمامِ أحمدَ في جَمْعِ المطرِ إذا صلَّى إحدى الصلاتينِ في بيته والأخرى في المسجدِ فلا بأسَ. ومن نصَّه في رواية أبي طالب: للمسافرِ أن يُصلِّيَ العشاءَ قبلَ أن يغيبَ الشَّفَقُ، وعلَّله أحمدُ بأنه يجوزُ له الجَمْعُ. وقال أيضاً: ولا يُشْتَرَطُ للقَصْرِ والجمعِ نيَّةٌ، واختاره أبو بكر عبدالعزيز بن جعفر وغيرُه.
(1/77)
وصلاةُ الخوفِ صحَّتْ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بصفاتٍ كلها جائزة(1). ويُستحَبُ أن يَحملَ معه في صلاتِها من السِّلاحِ ما يَدْفعُ به عن نفسِهِ ولا يُثقلهُ كسيفٍ ونحوه.
باب صلاة الجمعة
__________
(1) * قال الخطَّابي: صلاةُ الخوفِ أنواعٌ صلاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أيامٍ مُختلِفَةٍ بأشكالٍ متباينةٍ يتحرَّى في كُلِّها ما هو الأَحْوَطُ للصلاةِ والأبلغُ في الحراسةِ، فهي على اختلافِ صورِها مُتَّفقةُ المعنى.
قال الخرقي: وإنْ خافَ وهو مقيمٌ صلَّى بكل طائفةٍ ركعتين وأتمَّتْ الطائفةُ الأُولى بالحمد لله في كلِّ ركعةٍ، والطائفةُ الأُخرى تتم بالحمد لله وسورة: قال الحافظ ابن حجر: صلاة الخوفِ في الحَضَرِ قال بها الشافعيُّ والجُمهورُ.
(1/78)
تَلْزمُ كلَّ ذَكَرٍ حُرٍّ، مُكلَّفٍ، مسلمٍ، مستوطنٍ ببناء(1) اسُمه واحدٌ ولو تَفَرَّق، ليس بينه وبين المسجدِ أكثرُ من فَرْسَخٍ، ولا تجبُ على مسافرٍ سَفَرَ قَصْرٍ ولا عبدٍ ولا امرأةٍ، ومن حضرَها منهم أجزأتْه ولم تنعقدْ به، ولم يصحَّ أن يَؤُمَّ فيها(2)، ومَنْ سقطتْ عنه لعذرٍ وجبتْ عليه إذا حَضرَها وانعقدتْ به، ومن صلَّى الظُّهرَ ممَّنْ عليه حضورُ الجمعةِ قبل صلاة الإمامِ لم تصح، وتصحُّ ممن لا تجبُ عليه، والأفضلُ حتى يُصلِّيَ الإمامُ. ولا يجوزُ لمن تَلزمهُ السفرُ في يومِها بعدَ الزوال.
فصل
يشترطُ لصِحَّتِها شروطٌ ليس منها إِذنُ الإمامِ.
__________
(1) * قوله: (مستوطِن ببناء). قال في الاختيارات: وتجبُ الجُمعةُ على من أقدم في غير بناءٍ كالخيامِ، وبيوتِ الشعرِ ونحوِها، وهو أحدُ قولَي الشافعيِّ، وحَكَى الأزجيُّ روايةً عن أحمدَ: ليسَ على أهلِ الباديةِ جُمعةٌ؛ لأنهم يتنقلون فأسْقَطَها عنهم، وعلل بأنهم غيرُ مستوطِنين. وقال أبو العباس في موضع آخر: يُشتَرطُ مع إقامتِهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرعُ أهلُ القريةِ. ويَحْتَمِلُ أن تَلزمَ الجمعةُ مسافراً له القصرُ تَبَعاً للمقيمين.
(2) * قوله: (ومن حضرها منهم أجزأتْه ولم تنعقدْ به ولم تصحَّ أن يؤُمَّ فيها). قال في الشرح الكبير: وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: يجوز أن يكونَ العبدُ والمسافرُ إماماً فيها، ووافقهَمْ مالكٌ في المسافر.
(1/79)
أحدُها: الوقتُ: وأولُه أولُ وقتِ صلاةِ العيد(1)، وآخرُهُ آخرُ وقتِ صلاةِ
الظُّهرِ فإن خرجَ وقتُها قبلَ التَّحريمة صلُّوا ظهراً وإلا فجُمعة.
__________
(1) * قوله: (وأولُه أولُ وقت صلاة العيد)، قال في الشرح الكبير: وقال أكثرُ أهلِ العلمِ وقتُها وقتُ الظُّهرِ إلا أنه يُستحبُّ تعجيلُها في أولِ وقتِها لقولِ سلمةَ بن الأَكْوعِ:= ="كنَّا نجمِّعُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالتِ الشمسُ ثم نرجعُ نتتبَّعُ الفَيْءَ"(1). قال شيخُنا: وأما فِعُلُها في أول النَّهار؛ فالصحيحُ أنه لا يجوزُ؛ فالأَوْلى فِعْلُها بعد الزَّوالِ، لأنه فيه خروجاً من الْخِلاَفِ. وتعجيلُها في أولِ وقتِها في الشتاءِ والصيفِ. ا.هـ. ملخصاً.
(1/80)
الثاني: حضورُ أربعينَ(1) من أهل وجوبِها بقرية مستوطِنين. وتصحُّ فيما قاربه البُنْيانَ من الصَّحراءِ، فإنْ نَقَصُوا قبل إتْمامِها استأنفوا ظُهراً، ومن أدرك مع الإمامِ منها ركعةً أتمَّها جُمعةً، وإنْ أدْركَ أقلَّ من ذلك أتمَّها ظُهراً إذا كان نوى الظُّهرَ(2).
ويُشترطُ تقدُّمُ خُطبتين، من شَرْطِ صحَّتِهما: حَمْدُ اللهِ تعالى، والصلاةُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقراءةُ آيةٍ، والوصيةُ بتقوى الله عزَّ وجلّ، وحضورُ العددِ المُشترَطِ، ولا تُشترَطُ لهما الطهارةُ، ولا أن يتولاهُما من يتولَّى الصَّلاةَ.
__________
(1) * قوله: (حضور أربعين): قال في المقنع: وعنه تنعقد بثلاثة. قال في الاختيارات: وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحدٌ يخطُب واثنان يستمعان، وهو إحدى الرواياتِ عن أحمدَ، وقولُ طائفةٍ من العلماء. وقد يقالُ بوجوبِها على الأربعين لأنه لم يَثبتْ وجوبُها على مَنْ دونَهم، تصحُّ ممن دونهم، لأنَّه انتقالٌ إلى أعلى الفَرْضَين كالمريضِ بخلافِ المسافرِ، فإنَّ فرضَه ركعتان.
(2) * قوله: (وإن أدرك أقلَّ من ذلك أتمَّها ظُهراً إذا كان نوى الظُّهرَ). قال في المقنع: ومن أدرك مع الإمامِ منها ركعةً أتمَّها جُمعةً، ومن أدركَ أقلَّ من ذلك أتمَّها ظُهراً إذا كان قد نوى الظُّهرَ في قول الخرقي. وقال أبو إسحاقَ بنَ شاقِلاَّ: ينوي جمعةً ويُتِمُّها ظُهراً. قال في الشرح الكبير: وهذا ظاهرُ قولِ قَتَادةَ وأيوب ويُونُسَ والشافعيِّ؛ لأنه يصحُّ أن ينويَ الظُّهرَ خلفَ من يُصلِّي الجمعةَ في ابتدائِها، فكذلك في انتهائِها. ا.هـ ملخصاً.
(1) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في: باب غزوة الحديبية، من كتاب المغازي 5/159، ومسلم في: باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، من كتاب الجمعة 2/589.
(1/81)
ومن سُننِهما أنْ يخطُبَ على مِنبرٍ أو موضعٍ عالٍ، ويسلِّم على المأمومينَ إذا أَقبلَ عليهم ثم يجلِسُ إلى فراغِ الأذان، ويجلِسُ بين الخُطبتينِ، ويخطُب قائماً، ويعتمدُ على سيفٍ أو قوسٍ أو عصاً، ويقصِدُ تِلْقاءَ وجْههِ، ويقصُرُ الخُطبةَ، ويدعو للمسلمين.
فصل
والجمعةُ ركعتانِ يُسنُّ أن يَقْرأَ جهراً في الأُولى بالجُمعة وفي الثانيةِ بالمنافقين، وتَحرُمُ إقامتُها في أكثرِ من موضعٍ من البلدِ إلا لحاجةٍ(1)، فإن فَعَلُوا فالصحيحةُ ما باشَرَها الإمامُ أو أَذِنَ فيها، فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة، وإن وقعتا معاً أو جُهِلَت الأولى بَطَلَتَا. وأقلُّ السُّنَّةِ بعد الجمعة ركعتان، وأكثرُها ستٌ، ويسنُّ أن يغتسل لها [في يومها] (2) -وتقدم- ويتنظف ويتطيب، ويلبس أحسن ثيابه، ويبكر إليها ماشياً، ويدنو من الإمام، ويقرأ سورة الكهف في يومها ويكثر الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتخطَّى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فُرْجةٍ، وحَرُم أن يقيمَ غيره فيجلسَ مكانَه إلا من قَدَّم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له، وحَرُم رفعُ مُصَلًّى مفروش ما لم تَحْضر الصلاة(3)
__________
(1) * قوله: (تَحْرُمُ إقامتُها في أكثر من موضع في البلدِ إلا لحاجةٍ)، قال في المقنع: وتجوزُ إقامةُ الجمعةِ في موضعينِ للبلدِ للحاجةِ، ولا يجوزُ مع عدمِها. قال في الفروع: وتجوزُ في أكثر منْ موضعٍ للحاجةِ كخوفِ فتنةٍ أو بُعْدٍ أو ضيقٍ وفاقاً للشافعي، ورواية عن أبي حنيفةَ ومالكٍ لِئلاَّ تفوتَ حِكمةُ تجميعِ الخَلْقِ الكثيرِ دائماً.
(2) * قوله: (ويُسنُّ أن يغتسلَ وتَقَدَّم) -أي في كتاب الطهارة وهو قوله: وإن استعمل في طهارةٍ مستحبَّةٍ كتجديدِ وضوءٍ وغسل جُمعة.
(3) * قوله: (وحَرُم رفعُ مُصلَّى مفروش ما لم تَحضر الصلاة). قال في المقنع: وإن وجد مُصلًّى مفروشاً فهل له رَفْعُه؟ على وجهين، قال في الشرح الكبير: (أحدهما): ليس له ذلك لأن فيه افتياتاً على صاحبها وربما أفضى إلى الخصومة، ولأنَّه سَبَقَ إليه، أَشْبه السابقَ إلى رحبةِ المسجد ومقاعدِ الأسواق، (والثاني): يجوز رَفْعُه والجلوسُ موضِعَه لأنه لا حُرْمةَ له، ولأن السَّبْق بالأبدان هو الذي يحصل به الفضلُ لا بالأَوْطِئة، ولأن تَرْكَها يُفضي إلى أن يتأخرَ صاحبُها ثم يتخطَّى رقابَ الناس، ورَفْعُها ينفي ذلك. وأما ما يفعله بعضُ الناس يأتي فيضع عصاه ويخرج لأَشْغاله فهذا لا يجوز، والداخلُ بعده هو السابقُ ولو جلس في الصف الآخر.
قال الشيخ عبد الله أبا بُطَيْن: وأما من دخل المسجد ووجد فيها عصاً يضعها أهلُها ويخرجون لأغراضهم فلا بأس بتأخيرها والمجيءِ في موضعها، فإذا حاذرت من شيء يصير في نفس أخ لك إذا أخَّرْتَ عصا وجلست في مكانه فالذي أحبُّه تركَها والجلوسَ في مكان آخر. ا.هـ. من مجموع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم.
(1/82)
، ومن قام من مكانه لعارض لَحِقَهُ ثم عاد إليه قريباً فهو أحقُّ به، ومن دخل والإمامُ يخطب لم يجلس حتى يُصلِّيَ ركعتين يوجز فيهما، ولا يجوز الكلامُ والإمامُ يخطبُ إلا له أو لمن يكلمه، ويجوز قبل الخطبة وبعدها.
باب صلاة العيدين
وهي فرضُ كفايةٍ(1)، إذا تركها أهلُ بلد قاتلهم الإمامُ، وقتُها كصلاة الضُّحى، وآخرُه الزوالُ، فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلَّوا من الغد، وتُسنُّ في صحراء، وتَقْديمُ صلاة الأضحى وعكسُه الفطر، وأكلهُ قبلها، وعكسُه في الأضحى إن ضحَّى(2)، وتكره في الجامع بلا عذر. ويُسن تَبْكيرُ مأموم إليها ماشياً بعد الصبح، وتأخرُ إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة؛ إلا المعتكفَ ففي ثياب اعتكافه(3)
__________
(1) * قوله: (وهي فرض كفاية). قال في الاختيارات: وهي فرضٌ عينيٌّ، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد. وقد يقال بوجوبها على النساء، ومن شَرْطها الاستيطانُ وعددُ الجمعة، ويفعلها المسافرُ والعبدُ والمرأةُ تبعاً.
(2) * قوله: (وأكلُه قبلَها وعكسُه في الأضحى إن ضَحَّى). لحديث بريدة، رواه الدارقطني وفيه: وكان لا يأكلُ يومَ النَّحر حتى يرجعَ فيأكلَ من أضحيته، وإذا لم يكن له ذِبْحٌ لم يُبالِ أنْ يأكل(1).
والحكمة في تأخير الأكل يوم الأضحى: الابتداءُ بأكل النُّسك شكراً لله تعالى. وفي رواية البيهقي: وكان إذا رجع أكل من كبد ضَحِيَّتِه.
(3) * قوله: (إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه). قال في الفروع: ويُسنُّ لُبْسُ أحسن ثيابه إلا المعتكفَ في العشر الأواخرِ من رمضانَ أو عشرِ ذي الحجة من مُعْتَكَفِه إلى المُصَلَّي في ثياب اعتكافه وفاقاً للشافعي. نَصَّ على ذلك. وقال جماعة إلا الإمام.
وقال القاضي في موضع: مُعْتَكِفٌ كغيره في زِيْنَةٍ وطِيْبٍ ونحوهما. وعنه الثياب جيدة ورثَّة، الكلُّ سواء ا.هـ. والصواب أن المعتكف كغيره.
(1) أخرجه الدارقطني في أول كتاب العيدين في سننه 2/45، والبيهقي في: باب ترك الأكل يوم النحر حتى يرجع، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/283.
(1/83)
،
ومن شَرْطِها: استيطانٌ، وعددُ الجمعة، لا إذنُ إمامٍ(1)، ويُسَنُّ أن يَرْجعَ من طريقٍ أُخرى(2).
ويُصليها ركعتينِ قبل الخُطبة يكبِّر في الأولى -بعد الاستفتاح، وقَبْل التعوذِ والقراءةِ ستاً، وفي الثانية -قبل القراءة- خمساً. يرفع يديه مع كل تكبيرة ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد للهِ كثيراً، وسبحان اللهِ بكرةً وأصيلاً، وصلَّى اللهُ على محمدٍ النبيِّ وآله وسلم تسليماً (كثيراً)، وإن أحبَّ قال غيرَ ذلك. ثم يقرأ جَهْراً بعد الفاتحة بـ(سَبِّح) في الأولى، وبـ(الغاشية) في الثانية، فإذا سلَّم خطب خُطبتين كخُطبتي الجمعة، يستفتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع، يحثُّهم في الفطر على الصدقة، ويبين لهم ما يُخْرجون، ويرغبُهم في الأضحى في الأضحية ، و يُبين لهم حكمها. والتكبيراتُ الزوائدُ والذكرُ بينها والخُطبتان سُنَّة، ويُكره التنفلُ قبل الصلاة وبعدها في موضعها(3).
__________
(1) * قوله: (ومِنْ شَرْطها استيطانٌ وعددُ الجمعة لا إذنُ الإمام). قال في المقنع: وهل مِنْ شَرْطها الاستيطانُ وإذنُ الإمام والعددُ المشْتَرَطُ للجمعة؟ على روايتين.
(2) * قوله: (وينادى الصلاة جامعة). قال في الشرح الكبير: كذلك ذكره أصحابنا قياساً على صلاة الكسوف. وقال الموفق في المغني: وقال بعض أصحابنا: ينادي في العيدين الصلاة جامعة، وهو قول الشافعي، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أن تُتَّبَع، يعني: ما أخرجه مسلم(1) عن عطاء قال: أخبرني جابر أن لا أذان يوم الفطر حين يخرجُ الإمامُ ولا بعدما يخرج الإمام، ولا إقامة ولا نداء ولا شيء.
(1) أخرجه مسلم في: أول كتاب العيدين 2/604.
(3) * قوله: (ويُكره التنفل قبل الصلاة وبعده في موضعها). قال في الشرح الكبير: وقال مالك كقولنا في المُصَلَّى، وله في المسجد روايتان: (إحداهما) يتطوع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتى يصلِّي ركعتين)(1) أ. هـ.
(1/84)
ويسنُّ لمنْ فاتَتْه أو بعضَها قضاؤُها على صِفتها، ويسنُّ التكبيرُ المطلقُ في ليلتي العيدين، وفي فِطْرٍ آكد، وفي كل عشر ذي الحجة، والمُقَيَّدِ عَقِبَ كلِّ فريضة في جماعة، من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق، وإن نسيه قضاه ما لم يُحْدِثْ أو يَخرجْ من المسجد(1)، ولا يسنُّ عقب صلاة عيدٍ، وصفتُه شفعاً: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
باب صلاة الكسوف
__________
(1) * قوله: (وإن نَسِيَه قضاه ما لم يُحْدِثْ أو يخرجْ من المسجد). قال في الشرح الكبير: قال الشيخ: والأَوْلَى - إن شاء الله- أنه يكبِّر؛ لأن ذلك ذكرٌ منفردٌ بعد سلام الإمام فلا يُشترط له الطهارةُ كسائر الذِّكر.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين من كتاب الصلاة، وفي: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، من كتاب التهجد 1/120، 121، 2/70، ومسلم في: باب استحباب تحية المسجد بركعتين، من كتاب صلاة المسافرين 1/495.
(1/85)
تسنُّ جماعةً وفرادَى إذا كسف(1) أحدُ النيِّريْن، ركعتين يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورةً طويلةً، ثم يركعُ طويلاً، ثم يرفعُ ويُسَمِّع ويحمِّدُ، ثم يقرأُ الفاتحةَ وسورةً طويلةً دون الأولى، ثم يركعُ فيطيلُ وهو دون الأوَّلِ، ثم يرفعُ ثم يسجدُ سجدتين طويلتين، ثم يصلي الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعلُ، ثم يتشهدُ ويُسلِّم، فإن تجلَّى الكسوفُ فيها أتمَّها خفيفةً، وإن غابت الشمسُ كاسفةً أو طلعتْ والقمرُ خاسفٌ، أو كانت آيةً غيرَ الزَّلْزَلةِ لم يُصلِّ(1). وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعاتٍ أو أربعٍ أو خمس جاز.
باب صلاة الاستسقاء
إذا أجدبت الأرضُ وقَحَطَ المطرُ صلَّوها جماعةً وفُرادَى، وصفتُها في موضعها وأحكامها كعيد، وإذا أراد الإمامُ الخروجَ لها وعظَ الناسَ وأمرَهُم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم وتَرْكِ التَّشَاحنِ، والصيام والصدقة، ويَعِدُهم يوماً يَخْرجون فيه، ويَتنظَّف ولا يَتطيَّب، ويخرج متواضعاً متخشِّعاً متذلِّلاً متضرِّعاً، ومعه أهلُ الدِّين والصلاح والشيوخ والصبيان المميِّزون.
__________
(1) * قوله: (وإن غابت الشمس كاسفةً، أو طلعتْ والقمرُ خاسفٌ، أو كانت آيةً غيرَ الزَّلْزَلَةِ لم يُصَلِّ)، قال في الفروع: والأشهرُ يصلِّي إذا غاب القمرُ خاسفاً ليلاً، وفي مَنع الصلاة له بطلوع الفجر كطلوع الشمس وجهان: إن فُعِلتْ وقت نَهْي قال في التصحيح: قال الشارح: فيه احتمالان ذكرهما القاضي: (أحدهما) لا يُمنع من الصلاة إذا قلنا إنها تفعل في وقت نهي. اختاره المجد في شرحه، قال في مجمع البحرين: لم يُمنع في أظهر الوجهين، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب ا.هـ.
قال في الاختيارات: وتصلَّى صلاةُ الكسوف لكل آيةٍ كالزلزلة وغيرها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقول محققي أصحابنا وغيرهم.
(1) كسف: بفتح الكاف وضمِّها ومثلها خسف، القاموس.
(1/86)
وإن خرج أهلُ الذِّمَّةِ منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يُمنعوا، فيصلي بهم، ثم يخطبُ واحدةً يفتتحها بالتكبير كخُطبة العيد ويُكثر فيها الاستغفارَ وقراءةَ الآياتِ التي فيها الأمرُ به، ويرفع يديه فيدعو بدعاء النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً) إلى آخره، وإن سُقُوا قبل خروجهم شكروا الله وسألوه المزيدَ من فضله، وينادي لها: الصلاة جامعة، وليس من شرطها إذنُ الإمام، ويسن أن يقف في أول المطر وإخراجُ رَحْلِه وثيابهِ ليُصيبَها، وإن زادت المياه وخيف منها سُنَّ أن يقول: (اللهم حوالَيْنا ولا علينا، اللهم على الظِّرابِ والآكامِ وبطونِ الأودية ومنابتِ الشجر، { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.. } (1).
ڑڑٹڑ
ڑ(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء: باب الاستسقاء في المسجد الجامع برقم (1013)، ومسلم في: باب الدعاء في الاستسقاء برقم (897).
كتاب الجنائز
تُسَنُّ عيادةُ المريض، وتذكيُره التوبةَ والوصيةَ، وإذا نزل به سُنَّ تعاهدُ بَلِّ حَلْقِه بماءٍ أو شرابٍ، ويُنَدِّي شفتيه بقطنة، وتلقينه لا إله إلا الله مرةً، ولم يزدْ على ثلاث إلا أن يتكلم بعده فيُعيد تلقينه برفقٍ، ويقرأ عنده (يس)(1)، ويوجهه إلى القبلة، فإذا مات سُنَّ تغميضُه، وشدُّ لحييه وتليينُ مفاصله، وخلعُ ثيابه، وسترُه بثوب، ووضعُ حديدةٍ على بطنه، ووضعُه على سريرِ غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه، وإسراعُ تجهيزه إن مات غير فجأة، وإنفاذُ وصيته، ويجب في قضاء دينه.
فصل
(1/87)
غسلُ الميت وتكفينُه والصلاةُ عليه ودفنهُ فرضُ كفاية، وأَوْلى الناس بغسله وصيُّه ثم أبوه ثم جَدُّه ثم الأقربُ فالأقربُ من عَصَباتِه ثم ذوو أرحامِه، وبأنثى وَصِيَّتُها ثم القربى فالقربى من نسائها، ولكل واحد من الزوجين غسلُ صاحبه، وكذا سيد مع سُرِّيته، ولرجل وامرأة غسلُ من له دون سبعِ سنينَ فقط. وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يُمِّم كخُنْثَى مُشْكلٍ، ويحرم أن يغسل مسلمٌ كافراً أو يَدفِنَه، بل يُوارى لعدم من يُواريه، وإذا أخذ في غسله سَتَر عورتَه وجرَّده، وسَتَره عن العيون.
ويكره لغير مُعِينٍ في غسله حضورُه، ثم يرفع رأسه إلى قُرْبِ جلوسه ويعصر بطنه برفق، ويكثر صَبَّ الماء حينئذ، ثم يلفُّ على يده خِرْقةً فينجيه ولا يحلُّ مسُّ عورةِ مَنْ له سبعُ سنين، ويستحب أن لا يمسَّ سائره إلا بخرقة ثم يوضئه ندباً، ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه، ويدخل
ڑڑٹڑ
ڑ(1) حديث (اقرؤوا يس على موتاكم) رواه أبو داود برقم (3121) وابن أبي شيبة 4/74 طبعة الهند وابن ماجه برقم (1448) والحاكم 1/565 والبيهقي 3/383 وانظروا إرواء الغليل للألباني 3/150 ففيه مزيد بيان، والحديث ضعيف.
(1/88)
إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي مِنْخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء، ثم ينوى غسله ويسمي، ويغسل برغوة السِّدْر رأسه ولحيته فقط، ثم يغسل شقّه الأيمن ثم الأيسر، ثم كله ثلاثاً يُمِرُّ في كل مرة يَدَه على بطنه، فإن لم ينق بثلاث زِيْدَ حتى ينقى ولو جاوز السبع، ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً، والماء الحار والأشنان والخلال يُستعمل إذا احتيج إليه، ويقص شاربه، ويقلم أظفاره، ولا يسرح شعره(1)، ثم ينشف بثوب، ويُضْفَر شعرُها ثلاثةَ قُرون ويُسْدَل وراءها، وإن خرج منه شيء بعد سَبْع حُشي بقطن، فإن لم يَسْتمسكْ فَبِطينٍ حُر، ثم يغسل المحل ويُوَضَّأ وإن خرج بعد تكفينه لم يُعد الغسل.
__________
(1) * قوله: (ولا يسرح شعره). قال في الشرح: أي: يكره ذلك ما فيه تقطيع الشعر من غير حاجة إليه، وقال البخاري: باب نقض شعر المرأة، وقال ابن سيرين: لا بأس أن ينقض شعر الميت. وذكر حديث أم عطية إنهن جَعَلْنَ رأسَ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ قُرونٍ نَقَضْنَه ثم غَسَلْنَه ثم جَعَلْنَه ثلاثةَ قُرون(1).
قال الحافظ: قوله: باب نقض شعر المرأة أي: الميتة قبل الغسل، والتقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب أو الأكثر، وإلا فالرجل إذا كان له شعر يُنْقَض لأجل التنظيف، وليبلغ الماءُ البشرةَ. وذهب مَنْ مَنَعَهُ إلى أنه قد يُفضي إلى انتتاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يَنْضَمُّ إلى ما انتثر منه. قال وفائدة النقض تبليغُ الماءِ البشرةَ، وتنظيفُ الشعر من الأوساخ، ولمسلم(2): (مَشَطْناها ثلاثةَ قُرون)، أي سَرَّحْناها بالمُشْط. وفيه حجَّةٌ للشافعي ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، واعتل من كرهه بتقطيع الشعر، والرفق يُؤْمَن مع ذلك ا. هـ.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (167) في الوضوء: باب التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم برقم (939) في الجنائز: باب في غسل الميت.
(2) برقم 939 في الجنائز: باب في غسل الميت.
(1/89)
ومُحْرمٌ ميتٌ كحيٍ: يُغسل بماء وسِدْر، ولا يُقَرَّبُ طيباً، ولا يلبس ذَكَرٌ مَخِيْطاً ولا يغطى رأسه ولا وجه أنثى.
ولا يغسَّل شهيد ولا مقتول ظلماً(*)إلا أن يكون جُنباً، ويدفن بدمه في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه، وإن سلبهما كُفِّن في غيرهما(1)
__________
(1) * قوله: (ولا يغسل شهيد ولا مقتول ظلماً). قال في المقنع: ومن قُتل مظلوماً فهل يلحق بالشهيد؟ على روايتين. قال في الشرح الكبير: إحداهما: يغسَّل ويصلى عليه اختارها الخلاَّل، وهو قول الحسن ومذهب مالك والشافعي؛ لأن رتبته دون رتبة الشهيد في المعترك، والثانية: حُكمه حُكم الشهيد، وهو قول الشَّعْبي والأوزاعي. وقال البخاري(1): باب الصلاة على الشهيد، وذكر حديث جابر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟) فإذا أشير إلى أحدهما قَدَّمَه في اللَّحْد وقال: (أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة). وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وحديث عقبه بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما فصلَّى على أهلِ أُحُد صلاتَه على الميت - الحديث(2).
قال الحافظ: قوله: باب الصلاةِ على الشهداء، قال الزين ابن المنير: أراد باب حُكْم=
(1) أخرجه البخاري في: باب الصلاة على الشهيد، وباب من لم يَرَ غسل الشهداء، دون لفظ "ولم يصل عليهم" وباب من يقدم في اللحد، وباب اللحد والشق في القبر، من كتاب الجنائز 2/114، 115، 117.
(2) أخرجه البخاري في: باب غزوة أحد، من كتاب المغازي 5/120. بلفظ "صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنين" وفي: باب الصلاة على الشهيد، من كتاب الجنائز، وفي: باب علامات النبوية في الإسلام، من كتاب المناقب، وفي: باب في الحوض من كتاب الرقاق 2/114، 115، 4/240، 8/151 ومسلم في: باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، من كتاب الفضائل 4/1795، 1796.
=الصلاة على الشهيد. ولذلك أَوْرد حديثَ جابر الدالَّ على نفيها، وحديثَ عُقْبَه الدالَّ على إثباتِها. قال: ويحتمل أن يكون المراد باب مشروعية الصلاة على الشهيد في قبره؛ لأجل دفنه عملاً بظاهر الحديثين قال: والمراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار. قال الحافظ: وكذا المراد بقوله بعد من لم ير غسل الشهيد إلى أن قال: والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار مشهور. قال الترمذي، قال بعضهم: يُصَلَّى على الشهيد، وهو قول الكوفيين وإسحاق، وقال بعضهم لا يُصَلَّى عليه، وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد، قال الحافظ: ثم إن الخلاف في ذلك في منع الصلاة عليهم على الأصح عند الشافعية، وفي وجه أن الخلاف في الاستحباب، وهو المنقول عن الحنابلة، قال المَرُّوذي عن أحمد: الصلاة على الشهيد أجود، وإن لم يصلوا عليه أجزأ. ا.هـ.
وقال البخاري(1) أيضاً، باب من لم ير غسل الشهيد، ذكر حديث جابر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ادفنوهم في دمائهم)، يعني يوم أحد ولم يغسلهم. قال الحافظ: وقد وقع عند أحمد من وجه آخر عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في قتلى أحد: (لا تغسلوهم، فإن كان جرح يفوحُ مسكاً يوم القيامة)، ولم يُصَلِّ عليهم، فبيَّن الحكمة في ذلك. انتهى والله أعلم.
(1) انظر: التخريج السابق قريباً.
(1/90)
، ولا يُصلَّى عليه، وإن سَقَطَ عن دابته أو وُجد ميتاً ولا أَثَرَ به، أو حُمِلَ فَأَكلَ، أو طالَ بقاؤُه غُسِّلَ وصُلِّي عليه.
والسِّقْطُ إذا بَلَغَ أربعةَ أشهرٍ غُسِّلَ وصُلِّيَ عليه.
ومن تَعَذَّر غَسْلُه يُمِّم، وعلى الغاسل سَتْرُ ما رآه إن لم يكن حَسَناً.
فصل
يجب تكفينُه في مالِه مَقدَّماً على دَيْنٍ وغيرِه، فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقتُه، إلا الزوجَ لا يَلْزمه كفن امرأتِهِ(1)، ويُستحَبُّ تكفينُ رجلٍ في ثلاثِ لفائفَ بيضٍ تُجَمَّر، ثم تُبْسَط بعضُها فوق بعضِ، ويُجعل الحَنُوطُ فيما بينها، ثم يوضَع عليها مُسْتَلْقياً، ويُجعل منه في قُطن بين أَلْيتيه ويُشَدُّ فوقها خِرْقَةٌ مشقوقةُ الطَّرَفِ كالتُّبَّان(1)، تَجمع أَلْيَتَيْهِ ومثانَتَه ويُجعل الباقي على منافذِ وجهه ومواضع سجوده، وإن طُيِّب كلُّه فَحَسنٌ، ثم يُرَدُّ طرفُ اللِّفَافةِ العُليا على شِقِّه الأيمنِ ويُرَدُّ طرفُها الآخرُ فوقه، ثم الثانية والثالثة كذلك ويُجعل أكثرُ الفاضلِ على رأسِه، ثم يَعْقِدُها، وتُحَلُّ في القبر، وإن كُفِّن في قميصٍ ومئزرٍ ولِفَافةٍ جاز.
وتُكَفَّن المرأةُ في خمسة أثواب: إزار وخِمار وقميص ولِفَافتين، والواجبُ ثوبٌ يَسْتر جميعَه.
فصل
السُّنَّة أن يقوم الإمامُ عند صدره وعند وسطها، ويكبِّر أربعاً، يقرأ في الأولى بعد التَّعوُذِ الفاتحةَ، ويُصلِّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثانية كالتشهد، ويدعو في الثالثة فيقول:
__________
(1) * قوله: (إلا الزوج لا يَلْزمُه كفنُ امرأته). قال في الفروع: ولا يَلْزمُه كَفَنُ امرأته نصَّ عليه. ورواية عن مالك، وقيل: بلى. وحكى روايةً وفاقاً لأبي حنيفةَ والشافعي، ورواية عن مالك، وقيل: مع عدم تركه.
(1) التبان: السراويل بلا أكمام.
(1/91)
(اللهم اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وشاهدِنا وغائبِنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذَكَرِنا وأُنثانا)(1)، إنك تَعْلَم مُنقلَبنا ومَثْوانا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم مَنْ أحييته منا فأحيه على الإسلام والسُّنَّة، ومن توفيته فَتَوفَّه عليهما، اللهم اغفرْ له وارحْمه وعافِهِ، واعفُ عنه وأكرمْ نُزُلَه، ووسِّعْ مُدخَلَه واغسلْه بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، وأبدلْه داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخلْه الجنة، وأَعِذْه من عذاب القبر وعذاب النار(2)، وافْسَحْ له في قبره ونَوِّرْ له فيه، وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعلْه ذخراً لوالديه وفَرَطاً(3) وأَجْراً وشفيعاً مجاباً، اللهمَّ ثَقِّلْ به مَوازينهما، وأعْظِمْ به أجورهما وأَلْحِقْه بصالح سَلَفِ المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وَقِهِ برحمتك عذابَ الجحيم.
ويقف بعد الرابعة قليلاً، ويسلِّم واحدةً عن يمينه، ويرفع يديه مع كلِّ تكبيرةٍ، وواجبُها: قيامٌ وتكبيراتٌ، والفاتحةُ والصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعوةٌ للميت، والسلامُ، ومن فاته شيءٌ من التكبير قَضَاه على صِفَتهِ، ومن فاتتْه
ڑڑٹڑ
ڑ(1) أخرجه الترمذي إلى لفظ "وأُنثانا" في: باب ما يقول في الصلاة على الميت، من أبواب الجنائز، عارضة الأحوذي 4/240، 241. ٹڑ
ڑ(2) أخرجه مسلم في: باب الدعاء للميت في الصلاة، من كتاب الجنائز 2/662، 663 من رواية عوف ابن مالك. ٹڑ
ڑ(3) الفَرَطُ: بالتحريك ما تَقَدَّمك من أجرٍ أو عَمَل.
(1/92)
الصلاةُ عليه صلَّى على قبره وعلى غائبٍ بالنِّية إلى شهر(1)، ولا يُصلِّي الإمام على الغالِّ ولا على قاتلِ نفسهِ(2)، ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد(3).
فصل
__________
(1) * قوله: (وعلى غائب بالنية إلى شهر) هذا المذهب، وعنه لا يجوز وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. قال في الاختيارات: ولا يصلّي على الغائب عن البلد إن كان صُلِّي عليه، وهو وجهٌ في المذهب اهـ. وقال الخَطَّابي: لا يصلي على الغائب إلا إذا وقع موتُه بأرض ليس بها من يصلي عليه، لقصة النجاشي، وبه ترجم أبو داود في السنن: الصلاة على المسلم، يليه أهلُ الشِّرْك ببلد آخر.
(2) * قوله: (ولا يصلي الإمامُ على الغالِّ ولا قاتلِ نفسه). قال في الاختيارات: ومن مات وكان لا يزكِّي ولا يصلي إلا في رمضان، ينبغي لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاة عليه عقوبةً ونكالاً لأمثاله كتركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ على القاتل نَفْسَه وعلى الغالِّ والمَدِين الذي ليس له وفاء، ولا بد أن يصلِّي عليه بعضُ الناس وإن كان منافقاً كمن عُلِم نفاقُه لم يُصَلَّ عليه، ومن لم يُعْلَمْ نفاقُه صُلِّي عليه اهـ.
(3) * قوله: (ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد). قال في المقنع: ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إذا لم يُخَفْ تلويثُه.
(1/93)
يُسَنُّ التَّرْبيعُ في حَمْله، ويُباح بين العَمودين(*)، ويُسَنُّ الإسراعُ بها، وكونُ المشاةِ أمامَها والركبان خلفها، ويكره جلوسُ تابعها حتى توضع(1)، ويُسجَّى قبرُ امرأةٍ فقط، واللَّحْدُ أفضلُ من الشَّق، ويقول مُدخِلُه: بسم الله وعلى مِلَّة رسول الله، ويضعه في لَحْده على شِقِّه الأيمنِ مستقبلَ القِبلة، ويُرفعُ القبرُ عن الأرض قَدر شِبْر مُسَنَّماً ويُكره تجصيصُه والبناءُ والكتابةُ والوطءُ عليه، والاتكاءُ إليه، ويَحْرُم فيه دفنُ اثنين فأكثر إلا لضرورة، ويجعل بين كل اثنين حاجزٌ من تراب، ولا تُكره القراءةُ على القبر(2)
__________
(1) * قوله: (ويباح بين العمودين). قال في شرح الإقناع: وهما القائمتان، كل عمود على عاتق كان حسناً، ولم يكره، نص عليه في رواية ابن منصور. لأنه عليه الصلاة والسلام حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين. وروي عن سعد= =وابن عمر وأبي هريرة أنهم فعلوا ذلك. قال في الرعاية: إن حمل بين العمودين فمن عند رأسه ثم من عند رجليه، وفي المذهب من ناحية رجليه لا يصلح إلا التربيعُ ا هـ. لأن المؤخَّر إن تَوسَّط بين العمودين لم يَرَ ما بين قدميه، فلا يهتدي إلى المشي، فعلى هذا يَحمل السريرَ ثلاثةٌ، واحدٌ من مقدمة يضع العمودين المقدمين على عاتقيه، ورأسُه بينهما والخشبة المعترضةُ على كاهِلِه، واثنان من مؤخرة، أحدُهما من الجانب الأيمن، والآخر من الجانب الأيسر، يضع كلٌّ منهم عموداً على عاتقه اهـ.
(2) * قوله: (ولا تكره القراءة على القبر). قال في المقنع : أصح الروايتين، قال في الاختيارات: ولا يُشرع شيءٌ من العبادات عند القبر الصدقةُ وغيُرها، ونقل الجماعة عن أحمد كراهةَ القراءة على القبور، وهو قولُ جمهور السلف، وعليه قدماءُ أصحابه، ولم يَقل أحدٌ من العلماء المعتبَرين أن القراءةَ أفضلُ، ولا رخص في اتخاذه عيداً كأعياد القراءة عنده في وقت معلوم. أو الذكر أو الصيام، واتخاذُ المصاحف عند القبر بدعة ولو للقراءة، ولو نَفعَ الميتَ لفعله السَّلفُ إلى أن قال: وقال أبو العباس في موضع آخر: الصحيحُ أنه ينتفع الميتُ بجميع العبادات البدنيَّةِ، من الصلاة والصوم والقراءة، كما ينتفع بالعبادات المالية، وكما لو دعا له واستغفر له، ولا يستحبُّ القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعةٌ، هذا الصواب المقطوع به ا. هـ. ملخصاً.
(1/94)
، وأيُّ قُربةٍ فَعلها وجعلَ ثوابها لميتٍ مسلمٍ أو حيٍ نفعه ذلك، ويُسن أن يُصنَع لأهل الميت طعامٌ يبعثُ به إليهم ويُكره لهم فعلُه للناس.
فصل
تسن زيارة القبور(1) إلا للنساء، ويقول إذا زارها أو مَرَّ بها: السلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون(1) ، يرحم اللهُ المُسْتقدِمِين منكم والمستأخِرين نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمْنا أجرَهم، ولا تَفْتِنَّا بعدهم، واغفرْ لنا ولهم(2) ، ويجوز البكاء على الميت وتُسَنُّ تعزيةُ المصابِ بالميت ويَحرمُ النَّدْبُ والنِّياحةُ وشَقُّ الثوب ولَطْمُ الخدِّ ونحوه.
كتاب الزكاة
__________
(1) * قوله: (تسنُّ زيارةُ القبور)، قال في الاختيارات: واتَّفق السلفُ والأئمةُ على أن من سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيرِه من الأنبياء والصالحين؛ فإنه لا يتمسَّح بالقبر ولا يُقبِّله، إلى أن قال: وإذا سلم على النبي استقْبَل القِبلة ودعا في المسجد، ولم يَدْعُ مُستقْبِلاً للقبر كما كان الصحابةُ يفعلونه، وهذا بلا نزاعٍ أَعْلَمُه، وإنما تنازعوا في وقت التسليم، وهل يستقبل القبر أو القبلة؟ والأكثرون على أنه يستقبل القبر ا.هـ. ملخصاً.
(1) أخرجه مسلم 1/150 ومالك 1/28 وأبو داود (3237). و انظر إرواء الغليل 3/235.
(2) ينظر في تتمة الحديث جامع الأصول 11/157.
(1/95)
تجبُ بشروطٍ خمسةٍ: حرية، وإسلام، وملك نصاب، واستقراره(*)، ومُضِيُّ الحولِ في غير المعشَّر، إلا نَتَاجَ السَّائمةِ، وربحَ التجارة ولو لم يبلغْ(1)
__________
(1) * قوله: (واستقراره). قال في الشرح: أي تمام الملك في الجُملة، فلا زكاة في دَيْن الكتابة لعدم استقراره؛ لأنه يملك تعجيزَ نفسه، وقال في المقنع: الرابع تَمامُ الملك، فلا زكاة في دَين الكتابة ولا في السائمةِ الموقوفةِ ولا في حصَّة المُضارب من الرِّبح قبل القسمة على أحد الوجهين فيهما، قال في الشرح الكبير: لا تجب الزكاة في السائمة الموقوفة، لأن الملك لا يثبت فيها في وجه، وفي وجهٍ يثبت ناقصاً لا يتمكن من التصرف فيها بأنواع التصرفات، وذكر شيخُنا وجهاً آخر، أن الزكاة تجب فيها، وذكره القاضي، ونقل منها عن أحمد ما يدل على ذلك لعموم قوله عليه السلام في أربعين شاةً(1)، ولعموم غيره من النصوص، ولأن الملك ينتقل إلى الموقوف عليه في الصحيح من المذهب أشبهتْ سائر أملاكه -إلى أن قال- فأما حصّة المضارِب من الربح قبل القِسمة فلا تجب فيها الزكاة، نص عليه في رواية صالح وابن منصور فقال: إذا احتسبا يزكي المضارب إذا حال الحولُ من حينِ احتسبا لأنه علم ما له في المال ا.هـ. قال في الاختيارات: ويصح أن يَشترط ربُّ المال زكاة رأسِ المالِ أو بعضه من الربح ا.هـ. وقد اختلف العلماءُ في الوقف هل فيه زكاة أم لا؟ فأوجب مالكٌ والشافعيُّ الزكاةَ في الثمار المُحَبَّسة الأصول، وكان مكحول وطاوس يقولان: لا زكاةَ فيها، وفَرَّق قومٌ بين أن تكون مُحَبَّسةً على المساكين، وبين أن تكون على قوم بأعيانهم، فأوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على قوم بأعيانهم، ولم يوجبوا فيها الصدقةَ إذا كانت على المساكين. =
(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (1448) في الزكاة: باب العَرْضِ في الزكاة، ورقم (1454): باب زكاة الغنم، من حديث أنس - رضي الله عنه -.
=قلت: وهذه الأثلاث عند البادية وغيرهم الصوابُ وجوبُ الزكاة فيها خروجاً من الخلاف، والله أعلم.
(1/96)
نِصاباً، فإنَّ حولَهما حولُ أصلِهما إن كان نِصاباً؛ وإلا فمِنْ كمالِه، ومن كان له دينٌ أو حقٌ من صداقٍ أو غيره على مَليءٍ أو غيره(1) أدَّى زكاتَه إذا قَبضَه لما مضى، ولا زكاةَ في مالِ مَنْ عليه دينٌ ينقص النِّصاب ولو كان المالُ ظاهراً(2). وكفارةٌ كَدَينٍ.
__________
(1) * قوله: (على مليءٍ أو غيره)، هذا المذهبُ، وعنه لا زكاةَ في الدَّين على غير المليء قال في الاختيارات: لا تجب في دَيْنٍ مؤجَّلٍ أو على مُعْسرٍ أو مُماطلٍ أو جاحدٍ ومغصوبٍ ومسروقٍ وضالٍّ، وما دفنه ونسيه أو جهل عند مَنْ هو ولو حَصَل في يده، وهو رواية عن أحمد اختارها وصححها طائفةٌ من أصحابه انتهى.
وقال مالك في الدين على غير المليء: يزكيه إذا قبضه لعام واحد، وهذا أقرب.
(2) * قوله: (ولا زكاة في مالِ مَنْ عليه دَينٌ ينقص النِّصاب ولو كان المال ظاهراً) قال في المقنع: ولا زكاةَ في مالِ مَنْ عليه دينٌ ينقص النِّصابَ إلا في المواشي والحبوب في إحدى الروايتين، قال في الشرح الكبير: وجملة ذلك أن الدَّين يَمنع وجوبَ الزكاةِ في الأموالِ الباطنةِ رواية واحدة، وهي الأثمانُ وعروضُ التجارة، فأما الأموالُ الظاهرةُ وهي المواشي والحبوبُ والثمارُ ففيها روايتان: إحداهما الدَّينُ يمنع وجوبَ الزكاةِ فيها والثانية لا يَمنعُ الزكاةَ فيها، وهو قولُ مالك والشافعي، والفرق بين الأموال الباطنة والظاهرة أنَّ تَعلُّقَ الزكاةِ بالظاهرة لظهورها، وتَعَلُّقِ قلوبِ الفقراء بها، ولهذا يُشرع إرسالُ السُّعاةِ لأخذها من أربابها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث السُّعاةِ وكذلك الخلفاءُ بعدَه، ولم يأت عنهم أنهم طالبوا أحداً بصدقة الصامت ولا استكرهوه عليها إلا أن يأتي بها طوعاً، ولأن السُّعاة يأخذون زكاة ما يجدون ولا يَسْألون عما على صاحبها من الدَّين، انتهى ملخصاً.
(1/97)
وإن مَلَك نِصاباً صغاراً انعقد حولُه حين مَلَكَهُ، وإن نَقَصَ النصابُ في بعض الحَولِ أو باعه أو أَبْدله بغير جنسه لا فِراراً من الزكاة انقطع الحولُ، وإن أَبْدله بجنسه بنى على حوله، وتجب الزكاة في عين المال، ولها تعلقٌ بالذمة، ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء ولا بقاءُ المال(1)، والزكاةُ كالدَّين في التَّرِكة.
باب زكاة بهيمة الأنعام
__________
(1) * قوله: (ولا يعتبر في وجوبها إمكانُ الأداء ولا بقاءُ المال)، قال في المقنع: ولا يعتبر في وجوبها إمكانُ الأداء، ولا تسقطُ بتلف المال، وعنه أنها تسقط إذا لم يفرط، قال في الشرح الكبير: والصحيح إن شاء الله أن الزكاة تسقط بتلف المال إذا لم يُفَرِّطْ في الأداء كالوديعة.
قوله في الاختيارات: ويجوز إخراجُ القِيْمة في الزكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل أن يبيع ثمرةَ بستانه أو زَرْعَه، فهنا إخراجُ عُشْرِ الدراهم يُجْزِئُه، ولا يُكَلَّف أن يشتريَ تمراً أو حِنْطةً، فإنه قد ساوى الفقير بنفسه، وقد نصَّ أحمدُ على جواز ذلك، ومثْل أن تجب عليه شاةٌ في الإبل وليس عنده شاةٌ فإخراجَ القيمة كافٍ، ولا يُكلَّفُ السَّفَر لشراء شاةٍ، أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونها أنفعَ لهم فهذا جائز. انتهى.
(1/98)
تجب في إبلٍ وبقرٍ وغنم إذا كان سائمةً(1) الحول أو أكثره، فيجب في خمسٍ وعشرينَ من الإبل: بنتُ مَخَاضٍ، وفيما دونها: في كل خمسٍ شاةٌ، وفي ستٍّ وثلاثينَ: بنتُ لبونٍ، وفي ستٍّ وأربعينَ: حقَّةٌ، وفي إحدى وستينَ: جَذَعةٌ، وفي ستةٍ وسبعين: بنتا لبونٍ، وفي إحدى وتسعينَ: حقَّتانِ، فإذا زادت على مائةٍ وعشرين واحدة: فثلاثُ بناتِ لبونٍ، ثم في كلِّ أربعينَ: بنتُ لبونٍ، وفي كل خمسينَ: حقَّةٌ.
فصل
ويجبُ في ثلاثينَ من البقر تبيعٌ أو تبيعةٌ، وفي أربعين مُسِنَّةٌ، ثم في كل ثلاثينَ تبيعٌ، وفي كل أربعينَ مُسِنَّةٌ، ويُجزئ الذَّكَرُ هنا وابنُ لبونٍ مكانَ بنتِ مَخَاضٍ، والذكر إذا كان النصاب كله ذكورًا.
فصل
ويجبُ في أربعينَ من الغنم شاةٌ، وفي مائةٍ وإحدى وعشرينَ شاتانِ، وفي مائتينِ وواحدةٍ ثلاثُ شياهٍ، ثم في كل مائةٍ، شاةٍ، والخُلْطةُ تُصيِّر المالَين كالواحد.
باب زكاة الحبوب والثمار
__________
(1) * قال في المقنع: ولا تُؤَثِّر الخُلْطةُ في غير السائمة وعنه أنها تُؤَثِّر، قال في الشرح الكبير: لا تُؤَثِّر الخلطةُ في غير السائمة كالذهب والفضة والزروع والثمار وعروض التجارة، ويكون حُكْمُهم حُكْمَ المنفردين، وهذا قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد أن شَرِكَةَ الأعيانِ تؤثِّر في غير الماشية، فإذا كان بينهم نصابٌ يشتركون فيه فعليهم الزكاة، وهذا قول إسحاق والأوزاعي في الحَبِّ والثمر قياساً على خلطة الماشية والمذهب الأول، قال أحمد: الأوزاعيُّ يقول في الزرع: إذا كانوا شركاءَ يُخرج لهم خمسة أَوْسُقٍ فيه الزكاةُ، قاسه على الغنم، ولا يعجبني قولُ الأوزاعي ا. هـ.
(1/99)
تجب في الحبوب كلِّها، ولو لم تكن قُوتاً، وفي كل ثمر يُكال ويُدَّخر كتمرٍ وزبيبٍ، ويعتبر بلوغُ نِصاب قدره ألفٌ وستُّمائةِ رطلٍ عراقيٍ، وتُضَمُّ ثمرةُ العامِ الواحدِ بعضُها إلى بعض في تكميل النِّصاب، لا جِنْسٌ إلى آخر(1)، ويُعتبر أن يكون النِّصاب مملوكاً له وقتَ وجوب الزكاة، فلا تجب فيما يَكْتسبه اللَّقاط أو يأخذه بحصاده، ولا فيما يجتنيه من المباح كالبُطْمِ، والزَّعْبَل، وبِزْرِ قُطُونا ولو نبت في أرضه.
فصل
__________
(1) * قوله: (وتُضَمُّ ثمرةُ العامِ الواحدِ بعضُها إلى بعض في تكميل النِّصاب لا جنسٌ إلى آخر)، قال في المقنع: وعنه أن الحبوبَ يُضَمُّ بعضُها إلى بعض وعنه تُضَمُّ الحنطةُ إلى الشَّعير والقطنيات بعضُها إلى بعض، قال القاضي: وهذا هو الصحيح.
(1/100)
يجب عُشْرُ ما سُقي بلا مُؤْنَةٍ، ونِصْفُه معها، وثلاثةُ أرباعِهِ بهما، فإنْ تفاوتا فبأكثرهما نفعاً، ومع الجهل العُشْرُ، وإذا اشتدَّ الحَبُّ وبدا صلاحُ الثمرِ وجبت الزكاة، ولا يستقرُ الوجوب إلا بجعلها في البَيْدرِ، فإن تَلِفتْ (قبله) بغير تَعَدٍّ منه سقطتْ(1)، ويجب العُشْرُ على مستأجر الأرض(2)، وإذا أَخَذَ من ملكه أو مَوات من العَسَل(3) مائةً وستينَ رطلاً عراقياً ففيه عُشْرُه.
والرِّكَاز: ما وُجد من دَفْنِ الجاهلية، وفيه الخُمسُ قليله وكثيره.
باب زكاة النقدين
يجب في الذهب إذا بَلَغَ عشرين مثقالاً، وفي الفضَّة إذا بلغتْ مائتي دِرْهمٍ رُبْعُ العُشْرِ منهما، ويُضَمُّ الذهبُ إلى الفضَّة في تكميلِ النِّصابِ وتُضَمُّ قيمةُ العروضِ إلى كلٍ منهما.
__________
(1) * قوله: (فإن تلفت قبله بغير تَعَدٍّ منه سَقَطَتْ)، مفهومُهُ أنها إذا تلفتْ بعده لم تَسْقُطْ، والراجح أنها تسقط عنه إذا لم يُفَرِّط، لأنها شُرعت للمواساة وقد تلف مالُه معها.
(2) * قوله: (ويجب العُشُر على مُستأجرِ الأرض) دون مالكها هذا المذهب، وبه قال مالك والشافعي، قال في الاختيارات: والمُزَارَعَةُ أَحَلُّ من الإجارة لاشتراكهما في المَغْنَم والمَغْرَم إلى أن قال: وإذا صَحَّت المزارعةُ فَيلْزمُ المقطع عشر نصيبه ومن قال العُشْرُ كلُّه على الفلاَّح فقولُه خلاف الإجماع، ويتبعه في الكُلَفِ السُّلْطانية ونحوها العُرْفُ ما لم يكن شرطاً. ا.هـ. ملخصاً.
(3) * قوله: (وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل) إلى آخره هذا المذهب، وقال مالك والشافعي: لا زكاة فيه، وقال أبو حنيفة: إن كان في أرضه العُشْرُ ففيه الزكاةُ وإلا فلا، قال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل حديثٌ يَثْبت ولا إجماعٌ فلا زكاةَ فيه.
(1/101)
ويباحُ للذَّكَرِ من الفضَّة الخاتمُ، وقَبِيْعَةُ السيف، وحِلْيَةُ المِنْطَقَةِ ونحوه، ومن الذهب قَبِيْعَةُ السيف، وما دعتْ إليه ضرورةٌ كأنْفٍ ونحوِه، ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرتْ عادتُهنِ بلُبْسه ولو كَثُر، ولا زكاة في حَلْيِهِما المُعَدِّ للاستعمال أو العارية، وإن أعد لِلْكِرَاء أو النفقة أو كان محرَّماً ففيه الزكاة.
باب زكاة العروض
إذا مَلَكها بفعله بنيَّة التجارة(1) وبلغت قيمتُها نِصاباً زَكَّى قيمتَها، فإن ملكها بإرْثٍ(2)
__________
(1) * قوله: (إذا ملكها بفعله بِنيَّة التجارة) إلى آخره، قال في الشرح الكبير: لا يصير العَرضُ للتجارة إلا بشرطين أحدهما: أن يَمْلِكَه بفعله كالبيع والنِّكاح الثاني: أن يَنْوي عند تَملُّكِه أنه للتجارة، فإن لم ينو لم يُعَدَّ للتجارة لقوله في الحديث: "مما نعده للبيع"، ولأنها مخلوقةٌ في الأصل للاستعمال فلا تصير للتجارة إلا بِنيَّتها. انتهى ملخصاً.
(2) * وقوله: (فإن ملكها بإرثٍ) إلى آخره، قال في الشرح الكبير: إذا ملك العَرْضَ بالإرث لم يَصِرْ للتجارة وإن نواها، لأنه ملكه بغير فعله فجرى مجرى الاستدامة فلم يَبْقَ إلا مُجَرَّدُ النية، ومجردُ النية لا يصير بها العَرْضُ للتجارة، وكذلك إن ملكها بفعله بغير نية التجارة ثم نواه بعد ذلك لم يصر للتجارة؛ لأن الأصلَ في العروض القُنْيَةُ، فإذا صارت للقُنْيَةِ لم تُنْقَلْ بمجرد النية، كما لو نوى الحاضرُ السفرَ، وعكسُه ما لو نوى المسافرُ الإقامةَ يكفي فيه مجرد النية اهـ. قال في الفروع: ولا يصير العَرْضُ للتجارة إلا أن يملكه بفعله، ويَنْوي أنه للتجارة عند تملكه؛ فإن ملكه بفعله ولم يَنْو التجارةَ، أو ملكه بإرثٍ أو كان عنده عَرْضٌ للقُنْيَةِ فنواه للتجارة لم يَصِرْ للتجارة، هذا ظاهرُ المذهب، ولأن مجردَ النيةِ لا يَنْقُل عن الأصل كنيَّةِ السائمة المعلوفة، ونيَّةِ الحاضر للسَّفر، ونَقَلَ صالحٌ وابنُ إبراهيم وابنُ منصور أن العَرْضَ يصير للتجارة بمجرد النية، اختاره أبو بكر وابنُ عقيل، وجزم به في التبصرة والروضة لخبر سَمُرَة ا. هـ.
(1/102)
أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تَصِرْ لها،
وتُقوَّم عند الحول بالأَحَظِّ للفقراء من عَيْنٍ أو ورِقٍ(1)، ولا يُعتبر ما اشتُريَتْ به، وإن اشترى عَرَضَاً بِنِصابٍ من أثمانٍ أو عروض بنَى على حَوْلِه، وإن اشتراه بسائمةٍ لم يَبْنِ.
باب زكاة الفطر
تجب على كل مسلم فَضَل له يومَ العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية، ولا يمنعها الدَّيْن إلا بطلبه، فيخرج عن نفسه ومسلم يمونه ولو شهرَ رمضان(2)
__________
(1) * قوله: (وتُقوَّم عند الحول بالأحظِّ للفقراء من عَيْنٍ أو وَرِقٍ)، قال في الفروع: ويؤخذ منها ربعُ العُشر؛ لأنه كالأثمان لتعلُّقها بالقيمة، لا من العَرْض عندنا إلى أن قال: وعند أبي حنيفة يُخَيَّر بين رُبعِ العُشرِ بالقيمة أو رُبعِ عُشْرِ العروض مطلقاً لأنهما أصلان وعند صاحبه والشافعي في القديم ربع العشر من العرض لأنه الأصل ويجزئ نقد بقدر قيمته وقت إخراج انتهى. قال في الاختيارات ويجوز إخراج زكاة العروض عرضاً، ويقوي قول من يقول تجب الزكاة في عين المال انتهى.
(2) * قوله: (ومسلمٌ يمونُه ولو شهر رمضان)، قال في المقنع: ومن تَكَفَّلَ بمؤنة شخصٍ في شهر رمضان لم تَلْزَمْه فطرتُه عند أبي الخطَّاب، والمنصوص أنها تَلْزمُه، قال في الشرح الكبير: وهذا قول أكثر الأصحاب، وقد نصَّ عليه أحمدُ لعموم قوله عليه السلام: (أَدُّوا صدقةَ الفطرِ عمَّنْ تَمُونون)(2) ، واختار أبو الخطاب أنها لا تَلْزمُه فطرتُه لأنه لا تَلَزمه مُؤْنَتُهَ، وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، وهو الصحيحُ إن شاء الله، وكلامُ أحمدَ محمولٌ على الاستحباب، والحديثُ محمولٌ على من تَلْزمه مُؤْنَتُه، انتهى ملخصاً.
(1) الناشز: المرأة التي خرجت عن طاعة زوجها.
(2) أخرجه الدارقطني في: باب زكاة الفطر، من كتاب الزكاة، سنن الدارقطني 2/141، والبيهقي في: باب إخراج زكاة الفطر عن نفسه وغيره، من كتاب الزكاة، السنن الكبرى 4/161. وانظر: إرواء الغليل للألباني رقم (835).
(1/103)
، فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه، فامرأته، فرقيقه فأمه، فأبيه، فولده، فأقرب في ميراث، والعبد بين شركاء عليهم صاع، ويستحب عن الجنين، ولا تجب لناشزٍ(1)، ومن لزمت غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت، وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر، فمن أسلم بعده، أو ملك عبداً أو تزوج زوجةَ أو وُلِدَ له ولدٌ لم تلزمه فطرتهُ، وقبله تلزم، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط، ويوم العيد قبل الصلاة أفضل، وتكره في باقيه، ويقضيها بعد يومه آثماً.
فصل
ويجب صاعٌ من بُرٍّ، أو شعيرٍ، أو دقيقهما، أو سويقهما، أو تمرٍ، أو زبيبٍ، أو أَقِطٍ(1)، فإن عَدِمَ الخمسةَ أجزأَ كلُّ حَبٍّ وثمٍر يُقتات(1)، لا معيبٌ(2) ، ولا خبزٌ(3). ويجوز أن يُعطيَ الجماعة ما يَلْزمُ الواحدَ، وعكسُه.
باب إخراج الزكاة
__________
(1) * قوله: (فإنْ عَدِمَ الخمسةُ أَجْزأ كلُّ حَبٍّ وثَمَرٍ يُقْتات)، قال في الاختيارات: ويجزئه في الفطرة من قُوتِ بلده مثلُ الأَرُزِّ وغيره ولو قَدَرَ على الأصناف المذكورة في الحديث، وهو روايةٌ عن أحمد، وقولُ أكثر أهل العلم، ولا يجوز دَفْعُ زكاة الفطرِ إلا لمن يستحق الكفَّارة، وهو مَنْ يأخذُ لحاجته لا في الرِّقاب والمُؤَلَّفةِ وغير ذلك.
(1) الأقط: طعام يعمل من اللبن المخيض.
(2) أي ولا يجزئ معيبٌ كمسَوِّس ومبلول وقديم تغيَّر طعمُه.
(3) وكذا الخبز لا يجزئ لخروجه عن الكيل والادخار، ولا الخل ولا الدِّبْس لأنهما ليسا قوتاً.
(1/104)
يجب على الفورِ مع إمكانهِ، إلا لضرورة، فإن مَنَعَها جَحْداً لوجوبها كَفَر عارفٌ بالحُكم، وأُخذتْ منه وقُتل، أو بُخلاً أُخذتْ منه وعُزِّر، وتجب في مالِ صبيٍ ومجنونٍ، فيخرجُها وليُّهما، ولا يجوز إخراجها إلا بنيَّةٍ، والأفضلُ أن يُفرِّقها بنفسه، ويقول عند دَفْعها هو وآخذُها ما وَرَد، والأفضلُ إخراجُ زكاةِ كلِّ مالٍ في فقراءِ بلدهِ، ولا يجوزُ نَقْلُها إلى ما تُقْصَر فيه الصلاةُ(1) فإن فعل أَجْزأتْ، إلا أن يكونَ في بلدٍ لا فقراءَ فيه فيفرِّقها في أقرب البلاد إليه، فإن كان في بلدٍ ومالُه في آخر، أخرج زكاة المال في بلده، وفطرتُه في بلدٍ هو فيه، ويجوز تعجيلُ الزكاة لحولَين فأقل، ولا يُستحب.
باب
__________
(1) * قوله: (ولا يجوز نقلُها إلى ما تُقْصَرُ فيه الصلاة)، قال في الاختيارات: وإنما قال العلماء جيرانُ المال أحقُّ بزكاته، وكرهوا نَقْلَ الزكاة إلى بلدِ السلطانِ وغيرِه ليكتفيَ كلُّ ناحيةٍ بما عندهم من الزكاة، ولهذا في كتاب مُعاذِ بنِ جبلٍ من انتقل من مِخْلافٍ إلى مِخْلافٍ فإن صدقَتَه وعُشْرَهُ في مِخْلافِ جيرانه إلى أن قال: ويجوز نقلُ الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية، قال: وتحديدُ المَنْعِ من نقلِ الزكاةِ بمسافةِ القَصْرِ ليس عليه دليلٌ شرعي.
(1/105)
أهلُ الزكاةِ ثمانيةٌ(1): الفقراء: وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعضَ الكفايةِ (دون نصفها)، والمساكينُ: يجدون أكثرَها أو نصفَها، والعاملون عليها: وهم جُبَاتُها وحُفَّاظُها. والرابع: المؤلَّفةُ قلوبُهم ممن يُرْجَى إسلامُه، أو كَفُّ شرِّه، أو يُرْجَى بعطيتهِ قوةُ إيمانه. والخامس: الرِّقاب، وهم المكاتبون، ويفكُّ منها الأسيرُ المسلمُ. السادس: الغارِمُ لإصلاحِ ذات البَيْنِ ولو مع غنيٍ، أو لنَفْسِه مع الفقر. السابع: في سبيل الله: وهم الغزاةُ المتطوعةُ الذين لا ديوان لهم. والثامن: ابنُ السبيلِ المسافرُ المنقَطَع به دون المُنْشِئ ِللسفرِ من بلده، فيُعْطَى قَدْرَ ما يوصلُه إلى بلده، ومن كان ذا عيال أَخَذَ ما يكفيهم، ويجوزُ صَرْفُها إلى صنفٍ واحد، ويُسنُّ إلى أقاربه الذين لا تَلْزَمه مَؤُنَتُهُمْ.
فصل
__________
(1) * قال في الاختيارات: ولا ينبغي أن يُعطي الزكاةَ لمن لا يستعينُ بها على طاعة الله، فإن الله تعالى فرضها معونةً على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين أو لمن يُعاوِنُ المؤمنين، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يُعْطَى شيئاً حتى يتوبَ، ويَلْتزمَ أداءَ الصلاةِ، ويجبُ صرفُ الزكاة إلى الثمانية إن كانوا موجودين وإلا صُرِفَتْ إلى الموجود منهم. انتهى.
(1/106)
ولا تُدفع إلى هاشمي ومُطَّلِبِيٍّ(1) ومَواليهما، ولا إلى فقيرة تحت غَنيٍّ مُنفقٍ، ولا إلى فرعهِ وأصلهِ، ولا إلى عبدٍ وزوجٍ، وإن أعطاها لمن ظَنَّه غيرَ أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يُجزئْه، إلا لغنيٍ ظنَّه فقيراً.