Translate

السبت، 10 يونيو 2023

ج2. كتاب الزهد والفقر وكتابي التوحيد والتوكل وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضى بالاضافة الي مقدمة الطبعة

قمت المدون بتأخير هذا الجزء لتعلق مادته بمقدمة الطباغة وخلافة من كتاب مختصر منهاج القاصدين وأخذت مع المقدمة  كتاب الزهد والفقر وكتابي التوحيد والتوكل وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضى 

فكتاب الزهد والفقر

اعلم: أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وبعضها أسباب كل طاعة، وقد سبق ذم الدنيا في ربع المهلكات، ونحن نذكر الآن فضل البغض لها والزهد فيها، فإنه رأس المنجيات. ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها، ويسمى ذلك زهداً، ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات، وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة. ونحن نذكر الفقر، والزهد، ودرجاتهما، وأقسامهما، وما يتعلق بهما في شطرين:

الشطر الأول من الكتاب في الفقر:

اعلم: أن الفقير إلى الشيء هو المحتاج إليه، وكل موجود سوى الله تعالى فهو فقير، لأنه محتاج إلى دوام الموجود، وذلك مستفاد من فضل الله تعالى.

وأما فقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته فلا يحصر، ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال، ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عند فقرة:

الأولى: أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به، وهرب من أخذه بغضها له واحترازاً من شره وشغله، وصاحب هذه الحالة يسمى زاهداً.

الحالة الثانية: أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح بحصوله، ولا يكرهه كراهه يتأذى بها، وصاحب هذه الحالة يسمى راضياً.

الثالثة: أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه، ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه، بل إن أتاه عفواً أو صفواً أخذه وفرح به، وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به. وصاحب هذه الحالة يسمى قانعاً.

الرابعة: أن يكون تركه للطلب لعجزه، وإلا فهو راغب فيه، لو وجد سبيلاً إلى طلبه بالتعب لطلبه، وصاحب هذه الحالة يسمى الحريص.

الخامسة: أن يكون مضطراً إلى ما قصده من المال، كالجائع، والعاري الفاقد للمأكول والملبوس. ويسمى صاحب هذه الحالة مضطراً، كيفما كانت رغبته في الطلب ضعيفة أو قوية.

(1/316)

وأعلى هذه الخامسة: الحالة الأولى، وهى: الزهد، ووراءها حالة أخرى أعلى منها، وهى أن يستوي عنده وجود المال وعدمه، فإن وجده لم يفرح به، ولم يتأذ إن فقده، كما روينا عن عائشة رضى الله عنها أنها جاءها مال في غرارتين (1)،ففرقته في يومها، فقالت لها جاريتها: أما استطعت أن تشترى لنا مما قسمت لحماً بدرهم نقطر عليه؟ فقالت: لو ذكريني لفعلت.

فمن هذه حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى، لا في يد نفسه.

وينبغى أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغنى، لأنه غنى عن عند فقد المال وجوده جميعاً، ومتى كان الزاهد في الدنيا لا يرغب في وجودها، ولاعدمها، فهو في غاية الكمال.

قال أحمد بن أبى الحواري لأبى سليمان الدارانى: قال مالك بن دينار للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الزكاة التي أهديتها لى، فإن الشيطان يوسوس لى أن اللص قد أخذها، فقال أبو سليمان: هذا من ضعف الزهد، هو قد زهد في الدنيا ما عليه من أخذها. فالهرب من المال والزهد فيه في حق الضعفاء كمال، فآما في حق الأنبياء والأقوياء، فسواء عليهم وجوده وعدمه. وقد يظهر القوى النفار من المال ليقتدي به الضعفاء في الترك، والله أعلم.

1 ـ فصل في فضيلة الفقر وتفضيل الفقر على الغنى

أما الآيات فقد قال الله تعالى في معرض المدح في حق الفقراء: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 273]. وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}. . . الآية [الحشر: 8].

وأما الأخبار فكثيرة، منها: قول صلى الله عليه وآله وسلم: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء، إلا أن أصحاب الجد محبوسون " وذكر تمام الحديث. وهو في "الصحيحين".

_________

(1) الغرارة: الجوالق وهو وعاء توضع به الدراهم. جمعها: غرائر.

(1/317)

وفيهما من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً".

وفيهما من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض.

وفي أفراد مسلم من حديث عمر رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يظل اليوم يتلوي ما يجد دقلا (1) يملأ بطنه.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" وقال الترمذي: حديث صحيح.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إياك ومجالسة الأغنياء" (2).

وقال: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله عز وجل إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا، فيقول: وعزتي وجلالى ما زويت الدنيا عنك لهوانك على، ولكن لما أعددت لك من الكرامة. اخرج يا عبدى إلى هذه الصفوف، فمن أطعمك أو كساك يريد بذلك وجهي، فخذ بيده فهو لك" (3).

وقيل لموسى عليه السلام: إذا رأيت الفقر مقبلاً، فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته.

وقال أبو الدرداء: حساب ذي الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.

وكان الفقراء يتقدمون في مجلس الثوري على الأغنياء.

وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها، وقال: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء!؟ لا أفعل.

__________

(1) الدقل: أردأ التمر.

(2) أخرجه الترمذي (1781) من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا أردت اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقيعه" وفي سنده صالح بن حسان النضري متروك اتفقوا على ضعفه.

(3) حديث لا يصح انظر "شرح الأحياء" 9/ 278، 279.

(1/318)

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً، وقنع بما آتاه عز وجل".

وقد ذكرنا في القناعة وذم الحرص والطمع في كتاب ذم المال ما يغنى عن الإعادة، ولا يقدر على ذلك إلا بعد القوة الصبر.

وأما التفضيل بين الغنى والفقير، فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لابد من تفصيل، فنقول: إنما يتصور الشك والخلاف في فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غنى شاكر ينفق ماله في الخيرات، أو فقير حريص مع غنى حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع الحريص، فإن كان متمتعاً بالمال في المباحات، فالفقير القنوع أفضل منه.

وكشف الغطاء في هذا أن ما يراد لغيره، ولا يرد لعينه، ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها، بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والفقر ليس مطلوباً لعينه، ولكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل عنه.

وكم من غنى لا يشغله عن الله تعالى، كسليمان عليه السلام، وكذلك عثمان [بن عفان] وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما.

وكم من فقير شغله فقره عن المقصود، وصرفه عن حب الله تعالى والأنس به، وإنما الشاغل له حب الدنيا، وإذا لا يجتمع معه حب الله تعالى، فإن المحب للشيء مشغول به، سواء كان في فراقه، أو في وصاله، بل قد يكون شغله في الفراق أكثر.

والدنيا معشوقة الغافلين، فالمحرم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها. وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر، فالفقير عن الخطر أبعد، لأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد، ولما كان ذلك طبع الآدميين إلا القليل منهم، جاء الشرع بذم الغنى وفضل الفقر. وقد تقدم ما يدل على فضله.

ومن ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غنى، ومؤمن فقير، كانا في الدنيا، فأدخل الفقير الجنة، وحبس الغنى ما شاء الله تعالى أن يحبس، ثم أدخل

(1/319)

الجنة، فلقيه الفقير، فقال: أي أخي: ماذا حبسك؟ والله لقد احتبست حتى خفت عليك، فقال:: أي أخي حبست بعدك محبسا قطيعاً كريهاً، وما وصلت إليك حتى سال منى العرق ما لو ورده ألف بعير كلها آكلة حمض، لصدرت عنه رواءً" (1).

واعلم: أن فراق المحبوب شديد، فإذا أحببت الدنيا، كرهت لقاء الله تعالى، فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه، وفراقك لما تحبه، وكل من فارق محبوباً كان أذاه في فراقه بقدر حبه له وأنسه به، فينبغي أن تحب من لا يفارقك، وهو الله تعالى، ولا تحب الدنيا التي تفارقك.

2 ـ فصل في آداب الفقير في فقره

ينبغي له أن لا يكون كارهاً لما ابتلاه الله به من الفقر.

وأرفع من هذا أن يكون راضياً فرحاً، ويكون متوكلاً على الله سبحانه، واثقاً به ومتى عكس الحال، وكان يشكو إلى الخلق، ولا يشكو إلى الله تعالى، كان الفقر عقوبة في حقه، فلا ينبغي له إظهار الشكوى، بل يظهر التعفف والتجمل. قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273].

وينبغى للفقير أن لا يتواضع لغنى لأجل غناه، ولا يرغب في مجالسته.

وينبغى له أيضاً أن لا يفتر عن العبادة بسبب فقره، ولا يمنع بذلك ما فضل عنه، فإن ذلك جهد المقل. روى أبو ذر رضى الله عنه قال: قلت: يارسول الله: أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد من مقل إلى فقير في السر" (2).

3 ـ بيان آدابه في قبول العطاء

إذا جاءه بغير سؤال ينبغي أن يلاحظ فيما جاءه ثلاثة أمور: نفس المال، وغرض المعطى، وغرضه في الأخذ.

الأول: أما في نفس المال، فينبغي أن يكون خالياً عن الشبهات كلها، فان كان

__________

(1) أخرجه أحمد 1/ 304، وفي سنده مجهول.

(2) أخرجه أحمد 5/ 178 و 179 و 265 وفي سنده علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.

(1/320)

فيه شبهة فليحترز عن أخذه.

وقد تقدم في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة، وما يجب اجتنابه، وما يستحب.

وأما غرض المعطى، فلا يخلو، إما أن يكون طلباً للمحبة، وهو الهدية، فلا بأس بقبولها إذا لم تكن رشوة ولم يكن فيها منة.

الثاني: أن يكون غرض المعطى الثواب، وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر في صفات نفسه، هل هو مستحق أم لا؟ فان اشتبه عليه فهو محل شبهة، وإن كان صدقة، فكان المعطى إنما يعطيه لدينه، فلينظر إلى باطنه، فإن كان مقارناً لمعصية في السر، يعلم أن المعطى لو علم بذلك، لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالصدقة عليه، لم يأخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم لم يكن.

الثالث: أن يكون غرض المعطى الشهرة والرياء والسمعة، فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد، ولا يأخذه، لأنه إذا قبله يكون معينا له على قصده الفاسد. وأما غرضه في الأخذ، فلينظر أهو محتاج إليه أو مستغن عنه؟ فان كان مستغنياً لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه، وقد سلم من الشبة والآفات التي ذكرناها، فالأفضل له الأخذ، لما روى عن عمر رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك" أخرجاه في "الصحيحين".

وفى حديث آخر: "من جاءه من أخيه معروف من غير إسراف ولا مسألة، فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه".

4 ـ فصل في بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر في السؤال

اعلم: أنه قد ورد في السؤال أحاديث في النهى عنه، وفى الترخيص فيه.

أما الترخيص: فكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "للسائل حق وإن جاء على

(1/321)

فرس" (1): وفى بعض الأحاديث: "ردوا السائل ولو بظلف محرق". ولو كان السؤال حراماً، لما جاز إعانة المعتدى على عدوانه، والإعطاء إعانة.

وأما أحاديث النهى عن السؤال: فروى ابن عمر رضى الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم" أخرجاه في "الصحيحين".

وفيهما أيضاً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر التعفف عن المسألة فقال: "اليد العليا خير من اليد السفلي". واليد العليا المعطية، والسفلي السائلة.

وفى حديث ابن مسعود رضى الله عنه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه" إلى آخره.

وهو حديث حسن، وفى المعنى أحاديث كثيرة.

وكشف الغطاء في هذا أن نقول: السؤال في الأصل حرام، لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور:

أحدها: الشكوى.

والثاني: إذلال نفسه، وما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه.

والثالث: إيذاء المسؤول غالباً.

وإنما يباح السؤال في حال الضرورة والحاجة المهمة القريبة من الضرورة، أما المضطر، فهو كسؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتاً أو مرضاً، وكسؤال العاري الذي ليس له ما يواريه.

وأما المحتاج حاجة مهمة فهو كمن له جبة ولا قميص تحتها في الشتاء، فهو يتأذى بالبرد تأذيا لا ينتهي إلى حد الضرورة، فكذلك من يقدر على المشي لكن بمشقة، يجوز له أن يسأل أجرة يكترى بها للركوب، وتركه أولى، ومن وجد الخبز وهو محتاج إلى الأدم، فله أن يسأل مع الكراهة، وكذلك إذا سأل المحمل من هو قادر على الراحلة.

وينبغى في مثل هذه المسألة أن يظهر الشكر لله تعالى، ولا يسأل سؤال محتاج،

__________

(1) أخرجه أحمد (1730) وأبو داود (1665) وفي سنده يعلى بن أبي يحيى لم يوثقه غير ابن حبان، ومع ذلك فقد جود إسناده الحافظان العراقي والسخاوي وغيرهما، وانظر "ذيل القول المسدد" 68، 70، فقد بسط القول في الكلام عليه.

(1/322)

بل يقول: أنا مستغن بما أملكه، وإنما النفس تطالبني، فيخرج بهذا عن حد الشكوى لله تعالى.

وينبغى أن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي لا ينقص بذلك في عينه، أو السخي الذي أعد ماله للمكارم، فيخرج بذلك من الذل.

وإن أخذ ممن يعلم أنه إنما أعطاه حياءً، لم يجز له الأخذ، ويجب رده إلى صاحبه.

ولا يجوز للفقير أن يسأل إلا مقدار ما يحتاج إليه، من بيت يكنه، وثوب يستره، وطعام يقيمه.

ويراعى في هذه الأشياء ما يدفع الزمان من غير تنوق (1) في شئ من ذلك، فإن كان يعلم أنه يجد من يسأله كل يوم، لم يجز أن يسأل أكثر من قوت يومه وليلته، وإن خاف أن لا يجد من يعطيه، أو خاف أن يعجز عن السؤال، أبيح له السؤال أكثر من ذلك.

ولا يجوز له في الجملة أن يسأل فوق ما يكفيه لسنته، وعلى هذا يتنزل الحديث المروى في تقدير الغنى بخمسين درهماً، فإنها تكفى المنفرد المقتصد لسنة، فأما ذو العائلة فلا.

5 ـ بيان أحوال السائلين

كان بشر الحافي يقول: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل، وإن أعطى لا يأخذ، فهذا من الروحانيين.

وفقير لا يسأل، إن أعطى أخذ، فذاك من أهل حظيرة القدس.

وفقير إذا احتاج سأل، فكفارة مسألته صدقه في السؤال.

قال الشيخ جمال الدين رحمه الله: قلت: وفصل الخطاب أنه متى قدر الفقير على دفع الزمان من غير سؤال، لم يجز له أن يسأل، فإن كان يندفع على مضض، نظرت، فإن كان مثله لا يحتمل، ولا يخاف منه التلف، فالسؤال مباح وتركه فضيلة، وإن كان

_________

(1) التنوق في الأمر: التأنق فيه.

(1/323)

مثله لا يحتمل، وجب عليه أن يسأل.

قال سفيان الثوري رحمه الله: من جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار.

...

الشطر الثاني من الكتاب:

6ـ وفيه بيان حقيقة الزهد وفضيلته وذكر درجاته وأقسامه ونحو ذلك

اعلم: أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين، والزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وشرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبا فيه بوجه من الوجوه، فمن رغب عن شئ ليس مرغوباً فيه ولا مطلوباً في نفسه، لم يسم زاهداً، كمن ترك التراب لا يسمى زاهداً.

وقد جرت العادة بتخصيص اسم الزاهد بمن ترك الدنيا، ومن زهد في كل شئ سوى الله تعالى، فهو الزاهد الكامل، ومن زهد في الدنيا مع رغبته في الجنة ونعيمها، فهو أيضاً زاهد، ولكنه دون الأول.

واعلم: أنه ليس من الزهد ترك المال، وبذله على سبيل السخاء والقوة، واستمالة القلوب، وإنما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة.

ومن عرف أن الدنيا كالثلج يذوب، والآخرة كالدر يبقى، قويت رغبته في بيع هذه بهذه. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 69]. ومن فضيلة الزهد قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح وهمه الدنيا، شتت الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له،

(1/324)

ومن أصبح وهمه الآخرة، جمع الله له همه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهو راغمة".

وقال الحسن: يحشر الناس عراة ما خلا أهل الزهد، وقال: إن أقواما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.

وقال الفضيل: جعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.

وكان بعض السلف يقول: الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن.

7 ـ فصل في درجات الزهد وأقسامه

من الناس من يزهد في الدنيا وهو لها مشتهٍ، لكنه يجاهد نفسه، وهذا يسمى: المتزهد، وهو مبدأ الزهد.

الدرجة الثانية: أن يزهد فيها طوعا لا يكلف نفسه ذلك، لكنه يرى زهده ويلتفت إليه، فيكاد يعجب بنفسه، ويرى أنه قد ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه، كما يترك درهما لأخذ درهمين، وهذا أيضاً نقصان.

الدرجة الثالثة: وهى العليا أن يزهد طوعاً، ويزهد في زهده، فلا يرى أنه ترك شيئاً، لأنه عرف أن الدنيا ليست بشئ، فيكون كمن ترك خرقة، وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة، فإن الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة، أحسن من خرقة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد.

واعلم: أن مثل من ترك الدنيا، مثل من منعه عن باب الملك كلب على بابه، فألقى إليه لقمة من خبز فشغله بذلك ودخل، فقرب من الملك، أفتراه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة ألقاها إلى كلبه في مقابلة ما قد ناله؟

فالشيطان كلب في باب الله عز وجل، ويمنع الناس من الدخول، مع أن الباب مفتوح، والحجاب مرفوع، والدنيا كلقمة، فمن تركها لينال عز الملك، فكيف يلتفت إليها؟ ثم إن نسبتها، أعنى ما سلم لكل شخص منها ولو عمر ألف سنة بالإضافة

(1/325)

إلى نعيم الآخرة، أقل من لقمة بالإضافة إلي ملك الدنيا، لأن الفاني لا نسبة له إلى الباقي، كيف ومدة العمر قصيرة ولذات الدنيا مكدرة؟

وأما أقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه، فعلى ثلاث درجات:

أحدها: الزهد للنجاة من العذاب، والحساب، والأهوال التي بين يدي الآدمي، وهذا زهد الخائفين.

الدرجة الثانية: الزهد للرغبة في الثواب، والنعيم الموعود به، وهذا زاهد الراجين فإن هؤلاء تركوا نعيماً لنعيم.

الدرجة الثالثة: وهى العليا. وه أن لا يزهد في الدنيا للتخلص نم الآلام، ولا للرغبة في نيل اللذات، بل لطلب لقاء الله تعالى وهذا زهد المحسنين العارفين، فإن لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى لذات الجنة، كلذة ملك الدنيا، والاستيلاء عليها، بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به.

8 ـ فصل في بيان تفصيل فيما هو من ضروريات الحياة

والضروريات المهمات سبعة أشياء: المطعم، والملبس، والمسكن، وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه.

فأما الأول: -وهو المطعم- فاعلم أن همة الزاهد منه ما يدفع به الجوع مما يوافق بدنه من غير قصد الالتذاذ.

وفى الحديث: "إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".

وقالت عائشة رضى الله عنها لعروة: كان يمر بنا هلال، وهلال، ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار. قال: قلت: يا خالة: فعلى أي شئ كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين: الماء والتمر.

والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة. وقد كان كثير من الزهاد يخشنون المطعم، وكان فيهم من لا يطيق ذلك، فكان الثوري حسن المطعم، وربما حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج.

(1/326)

وفى الجملة فالزاهد يقصد ما يصلح به بدنه، ولا يزيد في التنعم، إلا أن الأبدان تختلف، فمنها ما لا يحمل التخشن.

وقد يدخر بعض الناس الزاد الحلال بتقوته، فلا يخرجه ذلك من الزهد، فقد كان السبتي يعمل من السبت إلى السبت ويتقوته.

وورث داود الطائى عشرين ديناراً، فأنفقها في عشرين سنة.

الثاني: الملبس، فالزاهد يقتصر فيه على ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ولا بأس أن يكون فيه نوع تجمل، لئلا يخرجه التقشف إلى الشهرة. وكان أكثر لباس السلف خشناً، فصار لبس الخشن شهرة.

وقد روى عن أبى بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضى الله عنها كساء ملبداً، وإزاراً غليظاً، وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين. أخرجاه في "الصحيحين".

وعن الحسن قال: خطب عمر رضى الله عنه وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.

الثالث: المسكن، فللزاهد فيه ثلاث درجات.

أعلاها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، بل يقنع بزوايا المساجد، كأصحاب الصفة.

وأوسطها: أن يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، مثل كوخ في سعف، أو خص وما أشبه ذلك.

وأدناها: أن يطلب حجرة مبنية. ومتى طلب السعة وعلو السقف، فقد جاوز حد الزهد في المسكن. وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يضع لبنة على لبنة.

قال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نلت السقف.

وفى الحديث: "إن المسلم ليؤجر في كل شئ ينفقه إلا في شئ يجعله في هذا التراب".

(1/327)

وقال إبراهيم النخعى رحمه الله: إذا كان البنيان كفافاً، فلا أجر ولا وزر.

وفى الجملة: إن كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الزهد.

الرابع: أثاث البيت، فينبغي للزاهد أن يقتصر فيه على الخزف، ويستعمل الإناء الواحد في مقاصده، فيأكل في القصعة، ويشرب فيها، ومن خرج إلى كثرة العدد في الآلة، أو في نفاسة الجنس، خرج عن الزهد.

ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففى "صحيح مسلم" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع على حصير، وإذا الحصير قد أثر على جنبه، فنظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع. وفى رواية البخاري: فوالله ما رأيت شيئاً يرد البصر. والحديث مشهور في "صحيح مسلم" (1).

وقال على رضى الله عنه: تزوجت فاطمة وما لى ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها (2) لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها.

ودخل رجل على أبى ذر رضى الله عنه، فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر‍‍‍‍? ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثا. فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.

الخامس: المنكح، لا معنى للزهد في أصل النكاح، ولا في كثرته.

قال سهل بن عبد الله: حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء.

وكان على رضى الله عنه من أزهد الصحابة، وكان له أربعة نسوة، وبضع عشرة سرية.

وكان أبو سليمان الدارانى يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل، ومال، وولد، فهو مشؤوم.

وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: من غلبت عليه شهوته وخاف على نفسه، تعين عليه النكاح، فأما من لا يخاف، فهل النكاح في حقه أفضل أو التعبد؟ فيه اختلاف بين

__________

(1) انظر "صحيح مسلم" رقم (1479) في الزهد: باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن.

(2) القصة، بالضم: شعر الناصية.

(1/328)

العلماء. والناس مختلفون فيه منهم من يقصد النكاح لطلب النسل ويمكنه الكسب الحلال للعائلة، فلا يقدح ذلك في دينه، ولا يتشتت قلبه، بل يجمع النكاح همه، ويكف بصره، ويرد فكره، فهذا غاية في الفضيلة، وعليه يحمل حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحال على رضى الله عنه، ومن جرى مجراهما، ولا التفات إلى قول من يرى الزهد بترك الالتذاذ بالنكاح، فإن ذلك يقع ضمناً وتبعاً للمقصود.

وقد كان بعض السلف يختار المرأة الدون على الجميلة، وذلك محمول على أن تلك تكون إلى الدين أميل، والنفقة عليها أقل، والاهتمام بأمرها يسير، بخلاف المستحسنة، فإنها تشتت القلب، وتشغله، وتريد زيادة في النفقة، وربما لم يكن.

وقد قال مالك بن دينار، يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي فتقول: أريد مرطاً (1) فتمرط دينه.

السادس: المال: وهو ضروري في المعيشة، فالزاهد يقتصر منه على ما يدفع به الوقت، وكان في الصالحين من يتشاغل بالتجارة ويقصد بها العفاف.

وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين، قام.

وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني.

السابع: الجاه، ولابد للإنسان من جاه حتى في قلب خادمه، واشتغال الزاهد بالزهد يمهد له الجاه في القلب، فينبغي أن يتحرز من شر ذلك.

وفى الجملة فإن الحوائج الضرورية ليست من الدنيا، وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا.

9 ـ فصل في بيان علامات الزهد

وقد تظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك، فإن ترك المال، وإظهار التخشن، سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من راهب قد لازم الدير، وقلل المطعم،

__________

(1) المرط بكسر الميم: واحد المروط، وهى أكسية من صوف أو خز كان يؤتزر بها، وقوله "تمرط دينه" أي: تذهب به، من قولهم: مرط الشعر: إذا نتفه.

(1/329)

وقواه على ذلك حسب المحمدة، كما سبق ذكره في كتاب الرياء.

ولابد من الزهد في فضول الأموال والجاه جميعاً، حتى يكمل الزهد في حظوظ النفس، فأول معرفة الزهد مشكل.

وقد قال ابن المبارك: أفضل الزهد إخفاء الزهد، وينبغى أن يعول في هذا على ثلاث علامات.

الأولى: أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن بمفقود، كما قال تعالى {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وهذا علامة الزهد في المال.

الثاني: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، وهذه علامة الزهد في الجاه.

الثالث: أن يكون أنسه بالله، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.

فأما محبة الدنيا ومحبة الله تعالى، فهما في القلب كالماء والهواء في القدح، إذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان.

قيل لبعضهم: إلام أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس بالله.

قال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس، ومن يطلبها ماشطتها (1)، والزاهد يسخم (2) وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها.

فهذا الإمام أردنا ذكره من حقيقة الزهد وحكامه.

وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى.

...

_________

(1) الماشطة: التي تحس المشط وحرفتها ومعناها هنا: تزينها.

(2) يقال: سخم الله وجهه: أي سوده من السخمة وهى السواد.

(1/330)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

مختصر منهاج القاصدين

كتاب التوحيد والتوكل

بيان فضيلة التوكل

قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]. وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

وفى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم قال: "هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". أخرجاه في "الصحيحين".

وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك" (1).

والتوكل يبتنى على التوحيد، والتوحيد طبقات:

منها أن يصدق القلب بالوحدانية المترجم عنها قولك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، فيصدق بهذا اللفظ، لكن من غير معرفة دليل، فهو اعتقاد العامة.

الثانية: أن يرى الأشياء المختلفة، فيراها صادرة عن الواحد، وهذا مقام المقربين.

الثالثة: أن يرى الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله، لم ينظر إلى غيره، بل يكون منه الخوف وله الرجاء وبه الثقة وعليه التوكل، لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، فسبحانه والكل مسخرون له، فلا يعتمد على المطر في خروج الزرع، ولا على الغيم في نزول المطر، ولا على الريح في سير السفينة، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور. ومن انكشفت له الحقائق، علم أن الريح لا تتحرك

_________

(1) ضعيف أخرجه أبو نعيم في "الحلية" عن الأوزاعي مرسلا، والحكيم الترمذي عن أبى هريرة.

(1/331)

بنفسها، ولا بد لها من محرك. فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهى التفات من أخذ لتضرب عنقه، فوقع له الملك بالعفو عنه، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي كتب به التوقيع، ويقول: لولا هذا القلم ما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهذا غاية الجهل. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، شكر الكاتب دون القلم، وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب، فسبحان مسبب الأسباب الفعال لما يريد.

1 ـ فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك

اعلم: أن التوكل مأخوذ من الوكالة، يقال: وكل فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد فيه عليه.

فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء: الشفقة، والقوة، والهداية. فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنك لا فاعل سواه واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين:

إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال.

وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة علية، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان في اليقين، فإنه من كان يتناول عسلاً، فشبه بين يديه بالعذرة، ربما نفر طبعه منه، وتعذر عليه تناوله.

ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت، نفر طبعه من ذلك، وإن كان متيقنا كونه ميتاً جماداً في الحال، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب، وهو نوع ضعف قلما يخلو الإنسان منه، وقد يقوى ذلك حتى يصير مرضاً، حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع غلق الباب وإحكامه.

فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوى اليقين جميعاً، فإذا انكشف لك معنى

(1/332)

التوكل، وعلمت الحالة التي تسمى توكلاً، فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات:

الأولى: ما ذكرناه، وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى الثقة بكفالته وعنايته، كحاله في الثقة بالوكيل.

الدرجة الثانية: وهى أقوى، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها، ولا يعتمد إلا إياها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه، وأول سابق إلى لسانه: يا أماه. فمن كان تألهه إلى الله، ونظره إليه، واعتماده عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلاً حقاً.

والفرق بين هذا وبين الأول، أن هذا متوكل قد فني في توكله عن توكله، إذا لا يلتفت إلى غير المتوكل عليه، ولا مجال في قلبه لغيره.

وأما الأول، فهو متوكل بالتكليف والكسب، وليس فانيا عن توكله، بل له التفات إليه، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده.

الدرجة الثالثة: وهى أعلى منهما، أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتاً، وهذا يفارق حال الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه، ويصيح ويتعلق بذيلها.

وهذه الأحوال توجد في الخلق، إلا أن الدوام يبعد، ولاسيما المقام الثالث.

2 ـ فصل في بيان أعمال المتوكلين

قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وكلحم على وضم (1)،وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع.

والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعى العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو حفظ موجود

_________

(1) الوضم: كل شئ يجعل عليه اللحم من خشب أو بارية يوفى به من الأرض قال رشيد بن رميض العنزي:

ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر الوضم

(1/333)

كالادخار، وإما لدفع ضرر لم ينزل، كدفع الصائل، أو لإزالة ضرر قد نزل، كالتداوى من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة.

الفن الأول: في جلب المنافع، فنقول: الأسباب التي بها تجلب المنافع على ثلاث درجات.

أحدها: سبب مقطوع به كالأسباب التي ارتبطت بها المسببات بتقدير الله تعالى ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، مثاله، أن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع، فلا تمد يدك إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إلى الطعام سعى، وكذلك مضغه وابتلاعه، فهذا جنون محض، وليس من التوكل في شئ، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعاً دون أكل الطعام، أو يخلق في الطعام حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله.

وكذلك لو لم تزرع، وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون، وليس التوكل في هذا المقام ترك العمل، بل التوكل فيه بالعلم والحال.

أما العلم: فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام، واليد، والأسباب، وقوة الحركة، وأنه الذي يطعمك ويسقيك.

وأما الحال، فهو أن يكون قلبك واعتمادك على فضل الله تعالى، لا على اليد والطعام، لأنه ربما جفت يدك، وبطلت حركتك، وربما سلط الله عليك من يغلبك على الطعام، فمد اليد إلى الطعام لا ينافى التوكل.

الدرجة الثانية: الأسباب التي ليست متيقنة، لكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها. مثاله من يفارق الأمصار، ويخرج مسافرا إلى البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً، ولا يستصحب معه شيئاً من الزاد، فهذا كالمجرب على الله تعالى، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سافر تزود واستأجر دليلاً إلى المدينة.

الدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، فمتى كان قصده صحيحاً وفعله لا يخرج عن الشرع، لم يخرج عن التوكل، لكنه ربما دخل

(1/334)

في أهل الحرص إذا طلب فضول العيش.

وترك التكسب ليس من التوكل في شئ، إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة، وتعللوا بالتوكل.

قال عمر رضى الله عنه: المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله.

الفن الثاني: في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه، فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل، خصوصاً إذا كان له عائلة.

وفى "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيع نخل بنى النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم.

فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يدخر، فالجواب: أن الفقراء كانوا عنده كالضيف، فما كان ينبغي أن يدخر فيجوعون، بل الجواب: أن حال بلال وأمثاله من أهل الصفة كان مقتضاها عدم الادخار، فإن خالفوا كان التوبيخ على الكذب في دعوى الحال لا على الادخار الحلال.

الفن الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر. ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في الأرض المسبعة (1)، أو مجرى السيل، أو تحت الجدار الخراب، فكل ذلك منهي عنه.

وكذلك لا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال. وقال الله تعالى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل".

ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضيا بكل ما يقضى الله عليه ومتى عرض له إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه، فقد بان بعده عن التوكل.

وليعلم أن القدر له كالطبيب، فإن قدم إليه الطعام فرح، وقال: لولا أنه علم أن

_________

(1) أرض مسبعة: أي ذات سباع.

(1/335)

الغذاء ينفعني ما قدمه، وإن منعه فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني.

واعلم: أن كل من لا يعتقد في لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله، فإن سرق متاعه رضى بالقضاء، وأحل الآخذ، شفقة على المسلمين. فقد شكا بعض الناس إلى بعض العلماء أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله،

فقال: إن لم يكن غمك كيف صار في المسلمين من يفعل هذا أكثر من غمك بمالك، فما نصحت المسلمين.

الفن الرابع: السعي في إزالة الضرر، كمداواة المريض ونحو ذلك.

اعلم: أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

إلى مقطوع به، كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا القسم ليس تركه من التوكل في شئ.

القسم الثاني: أن يكون مظنوناً، كالفصد، والحجامة، وشرب المسهل، ونحو ذلك. فهذا لا يناقض التوكل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوى.

وقد تداوى خلق كثير من المسلمين، وامتنع عنه أقوام توكلاً، كما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقال: رآني الطبيب. قيل: فما قال لك؟ قال: إنى فعال لما أريد.

قال المصنف رحمه الله: والذي ننصره أن التداوي أفضل، وتحمل حال أبى بكر رضى الله عنه أنه قد تداوى ثم أمسك بعد انتفاعه بالدواء، أو يكون قد علم قرب أجله بأمارات.

واعلم: أن الأدوية أسباب مسخرة بإذن الله تعالى.

القسم الثالث: أن يكون السبب موهوماً، كالكى، فيخرج عن التوكل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف المتوكلين بأنه لا يكتوون.

وقد حمل بعض العلماء الكي المذكور في قوله: "لا يكتوون" على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإنهم كانوا يكتوون ويسترقون في زمن العافية لئلا يمرضوا، فإن

(1/336)

النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقى الرقية بعد نزول المرض، وقد كوى أسعد بن زرارة رضى الله عنه.

وأما شكوى المريض، فهي مخرجة عن التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض، لأنه يترجم عن الشكوى، فكان الفضيل يقول: أشتهي مرضا بلا عواد.

وقال رجل للإمام أحمد: كيف أنت؟ قال: بخير. قال حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا بخير، فلا تخرجني إلى ما أكره.

فأما إذا وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره. وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، ويقول: إنما أصف قدرة الله في، ويتصور أن يصف ذلك لتلميذ يقويه على الضراء ويرى ذلك نعمة، فيصف ذلك كما يصف النعمة شكراً لها، ولا يكون ذلك شكوى.

وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم".

آخر التوكل.

(1/337)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

مختصر منهاج القاصدين

كتاب المحبة والشوق والأنس والرضى

اعلم: أن المحبة لله تعالى هي الغاية القصوى من المقامات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق، والأنس، والرضى، ولا قبل المحبة، مقام إلا وهو من مقدماتها، كالتوبة، والصبر، والزهد وغيرها.

واعلم: أن الأمة مجمعة على أن الحب لله ولرسوله فرض، ومن شواهد المحبة قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وهذا دليل على إثبات الحب لله، وإثبات التفاوت فيه.

وفى الحديث الصحيح: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة فقال: "ما أعددت لها؟ " قال: يا رسول الله: ما أعددت لها من كثرة صلاة ولا صيام، إلا أنى أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت"، فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بها.

وروى أن ملك الموت جاء إلى الخليل عليه السلام ليقبض روحه، فقال له: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت اقبض.

وقال الحسن البصري رحمه الله: من عرف ربه أحبه، ومن أحب غير الله تعالى، لا من حيث نسبته إلى الله، فذلك لجهله وقصوره عن معرفته، فأما حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك لا يكون إلا عن حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأن محبوب المحبوب محبوب، بل إن ما يفعل المحبوب محبوب، ورسول الله المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، ولا محبوب في الحقيقة عند ذوى البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة سواه.

وإيضاح ذلك يرجع إلى أسباب:

أحدها: أن الإنسان يحب نفسه، وبقاءه، وكماله، ودوام وجوده، ويكره ضد ذلك من الهلاك والعدم والنقصان، وهذا جبلة كل حي لا يتصور أن ينفك عنها. وهذا

(1/338)

يقتضي غاية المحبة لله عز وجل، فإن الإنسان إذا عرف ربه، عرف قطعاً أن وجوده ودوامه وكماله من الله، وأنه المخترع له، الموجد لذاته بعد أن كان عدماً محضاً لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل ولذلك قال الحسن البصري: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا، زهد فيها.

وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه، ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه.

السبب الثاني: أن الإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواسه، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه، وأعانه على جميع أغراضه، فإنه محبوب عنده لا محالة.

وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط. وأنواع إحسانه لا يحيط به حصر، كما قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18].

وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في كتاب الشكر، ولكنا نبين أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز، وأن، المحسن في الحقيقة هو الله تعالى.

بيان ذلك أنا نفرض أن شخصاً أنعم عليك بجميع خزائنه وما يملك، ومكنك فيها لتتصرف كيف شئت، فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهو غلط، فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال. فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق إرادته وداعيته؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك، ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم لا يستطيع مخالفته. فالمحسن هو الذي اضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن أمير أمره أن يسلم إلى الإنسان خلعة خلعها عليه الأمير، فإن الخازن لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير، لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك. وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه، لم يبذل حبه من ماله حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقى في نفسه أن حظه في بذل ذلك فيبذله. فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذا الإحسان من غيره محال.

السبب الثالث: أن المحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فإنه إذا بلغك عن ملك من الملوك أنه عالم عادل عابد رفيق بالناس، متلطف بهم وهو في

(1/339)

قطر بعيد، فإنك تحبه، وتجد في نفسك ميلاً كثيراً إليه. فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن، فضلا عن أن يكون محسناً إليك. وهذا ما يقتضي حب الله تعالى، بل يقتضي أن لا يحب غيره، إلا بحيث أن يتعلق منه بسبب، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الكل كافة، بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم وترفيههم، إلى غير ذلك من النعم التي لا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18]. فكيف يكون غيره محسناً؟ وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته، فمن عرف هذا لم يحب إلا الله تعالى.

وكذلك نقول: كل من كان متصفاً بالعلم، أو بالقدرة أو كان متنزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة. فصفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً، ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه، إلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم والى تنزيههم عن الرذائل والخبائث ولمثل هذه الصفات تحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله تعالى، وجدتها مضمحلة بالنسبة إلى صفاته سبحانه وتعالى.

أما العلم، فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل، حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وقد خاطب الخلق كلهم فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

ولو أجتمع أهل السموات والأرض، على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة، لم يطلعوا على عشر عشر ذلك، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والقدر اليسير الذي علمه الخلق كلهم، بتعليمه، علموه. ففضل علم الله سبحانه على علم الخلائق كلهم خارج عن النهاية، إذ معلوماته لا نهاية لها.

وأما صفة القدرة، فهي أيضاً صفة كمال، فإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى، وجدت أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره، غاية قدرته أن يقدر على بعض صفات نفسه، وعلى بعض امتحان الإنس في بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا آذانه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر

(1/340)

على ذرة من ذرات المخلوقات. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره، فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه.

قال الله تعالى في حق أعظم ملوك الأرض ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 84] فلم يكن جميع ملكه وسلطانه إلا بتمكين الله تعالى، فنواصي الخلق جميعهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقه، فلا قادر إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والاستيلاء. فإن تصور أن تحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه، فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التقديس والتنزيه إلا له سبحانه، فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغنى الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

وكمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، وهو المستحق لكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً.

1 ـ فصل في بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن يؤثر على ذلك لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة

اعلم: أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة غريزة لذة، ولم تخلق هذه الغرائز عبثاً، بل لأمر من الأمور، وهو مقتضاها بالطبع، فغريزة شهور الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام، ولذة البصر والسمع في الإبصار والإسماع.

وكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد تسمى العقل، وتسمى البصيرة الباطنة، وتسمى نور الإيمان واليقين، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها بطبعها، فمقتضى طبعها العلم والمعرفة، وذاك لذتها.

(1/341)

وليس يخفى أن العلم والمعرفة، ولو في شئ خسيس يفرح به، وأن من ينسب إلى الجهل ولو في شئ خسيس يغتم به. وكل ذلك لفرط لذة العلم، وما يستشعره من كمال ذاته. فان العلم من أحسن الصفات ومنتهى الكمال، ولذلك يرتاح الإنسان بطبعه إذا أثنى عليه بالذكاء، وغزارة العلم، ثم ليس لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالشعر والنحو، كلذة العلم بالله تعالى وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فبهذا استبان أن ألذ المعارف وأشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها.

وليت شعري، هل في الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها. ومزينها ومبديها ومعيدها ومدبرها ومرتبها؟ ‍‍‍‍‍‍ وهل يتصور أن يكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بجلالها وكمالها وعجائب أمورها وصف الواصفين؟! ‍

فينبغي أن تعرف أن لذة المعرفة أقوى من جميع اللذات المدركة بالحواس الخمس، فإن المعاني الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة. فلو خير الرجل بين لذة أكل الدجاج السمين واللوزينج، وبين لذى الرياسة، وقهر الأعداء، ونيل درجة الاستيلاء، فان كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد الشهوة البهيمية اختار اللحم والحلواء، وإن كان علي الهمة، كامل العقل، فإنه يختار الرياسة، ويهون عليه الجوع والصبر على ضرورة القوت أياماً.

فاختياره للرياسة دليل على أنه ألذ عنده من المطعومات الطيبة، وكما أن لذة الرياسة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الناقص الهمة، فلذة معرفة الله سبحانه وتعالى والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وهذا لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر، وينغمس في بحار المعرفة، ويترك الرياسة، ويحتقر الخلق، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكون ذلك مشوباً بالكدر، مقطوعاً بالموت. وتعظم عنده معرفة الله سبحانه وتعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته، فإنها خالية عن الزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق عنهم، فلا يزال

(1/342)

العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض، يرتع في رياضتها، ويقطف من ثمارها، ويكرع من حياضها، وهو آمن من انقطاعها، إذ هي أبدية سرمدية، لا يقطعها الموت، لأن الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، إذ محلها الروح، وإنما الموت يغير أحوالها، أما أن يعدمها فلا.

والعارفون درجات عند الله تعالى متفاوتون، لا يدخل تفاوت درجاتهم تحت الحصر، وهذه الأمور لا تدرك إلابالذوق، والحكاية فيها قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله تعالى ألذ الأشياء، وأنه لا لذة فوقها ولهذا قال أبو سليمان الدارانى رحمه الله: إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله عز وجل خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله تعالى؟! ‍

وقال بعض أصحاب معروف: قلت له: أي شئ أهاجك على العبادة؟ فسكت. فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شئ الموت؟ قلت: ذكر القبر. فقال وأي شئ القبر؟ قلت: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شئ هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده، إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع ذلك.

وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامى، فقلت له: ما فعل معروف الكرخى؟ فحرك رأسه ثم قال: هيهات، حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفا لم يعبد الله شوقاً إلى جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجب بينه وبينه.

فمتى حصلت محبة الله تعالى لشخص، صار قلبه مستغرقاً بها، ولا يلتفت إلى جنة، ولا يخاف من نار، فإنه قد بلغ النعيم الذي ليس فوقه نعيم. قال بعضهم:

وهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته

وإنما أراد بهذا لذة القلب في معرفة الله تعالى. وأنها مفضلة على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله تعالى فقط.

واعلم: أن لذة النظر في الآخرة تزيد على المعرفة في الدنيا، وقد اقتضت سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن، ومقتضى الشهوات وما يغلب عليها من الصفات البشرية، ولا تنتهي إلى المشاهدة، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة، كحجاب الأجفان عن رؤية الإبصار.

(1/343)

والقول في سبب كونه حجابا يطول، فإذا ارتفع الحجاب بالموت، بقيت النفس وفيها نوع تلوث بالدنيا، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وقد صفوا عن الأكدار، تجلى لهم الحق سبحانه وتعالى على قدر معرفتهم في الدنيا.

فكل من لا يعرف الله تعالى في الدنيا، لا يراه في الآخرة. وما يستأنف لأحد في الآخرة مالم يصحبه في الدنيا، ولا يحصد أحد ما زرع، ولا يموت المرء إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء، فتضاعف اللذة، والعيش عيش الآخرة. {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64].

وعيش الآخرة بقدر المعرفة، ولهذا جاء في الحديث: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله" وذلك لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والذكر، والمواظبة على المجاهدة، والانقطاع عن علائق الدنيا، والتجرد للطلب، فقد عرفت بما ذكرنا معنى المحبة، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية ولذتها، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند أهل الكمال.

2 ـ فصل في بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى وتفاوت الناس في الحب وبيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى

واعلم: أن أسعد الناس وأحسنهم حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناه القدوم على الله تعالى، ودرك سعادة لقائه. وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، إلا أن هذا النعيم على قدر المحبة، فكلما ازداد الحب ازدادت اللذة.

وأصل الحب لا ينفك عن مؤمن، لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه، فذلك ينفك عنه الأكثرون، وإنما يحصل ذلك بشيئين:

أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فأحد أسباب ضعف حبه، قوه حب الدنيا، وبقدر ما يأنس القلب بالدنيا ينقص أنسه بالله، والدنيا

(1/344)

والآخرة ضرتان، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد، وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرخاء، وما ذكرناه من المقامات كالتوبة والصبر والشكر والزهد والخوف وغير ذلك.

السبب الثاني لقوة المحبة: معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا الفكر الصافي، والذكر الدائم، والتشمير في الطلب، والاستدلال عليها بأفعاله سبحانه: وأقل أفعاله الأرض وما عليها، بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات.

والشمس على ما يرى من صغر حجمها مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه وهى في السماء الرابعة (1) والسماء الرابعة صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها من السموات، ثم السموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسي في العرش كذلك.

ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب هو جزء من الارض، وإلى سائر الحيوانات، وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض، واصغر ما تعرفه من الحيوانات البعوض، فانظر فيه بعقل حاضر، كيف خلقه الله عز وجل على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات، وزاده الجناحين، وانظر كيف شق سمعه وبصره، وخلق في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته، ودبره في سائر أحواله، من القوى الجاذبة والدافعة والهاضمة، وانظر كيف خلق له الطيران، يطير إذا طلب، وجعل له خرطوماً محددا يمص به الدم.

وانظر إلى النحل في تناولها الأزهار من الأنوار، واحترازها عن الأقذار، وطاعتها إلى كبيرها، حتى إنه يقتل كل ما ورد عليه وقد أكل مستقذراً، والى اختيارها الشكل المسدس، فلا تبنى بيتاً مربعاً، ولا مستديراً، ولا مخمساً، بل مسدساً لخاصيته في الشكل المسدس، فإن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه، فإن المربع تخرج منه الزوايا ضائعة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، فلا شكل في الأشكال ذوات الزوايا

__________

(1) لم يثبت في هذا خبر تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما ضرب من الاجتهاد الإنساني الذي يخضع للمقاييس العلمية الدقيقة، ويحكم عليها بموجبها من صواب أو خطأ.

(1/345)

يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلى المسدس، فانظر كيف الهمه الله تعالى ذلك على صغر حجمه وضعفه، فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات، فالنظر في هذا وأشباهه تزداد المعرفة به، فتزداد المحبة.

وأما السبب في تفاوت الناس في الحب.

فاعلم أن الناس مشتركون في أصل الحب، لكنهم يتفاوتون لتفاوت المعرفة، فكثير من الناس ليس لهم من معرفة الله إلا الصفات والأسماء التي قرعت أسماعهم، والعالم البصير يطالع تفصيل صنع الله تعالى حتى يرى ما يبهر عقله، فتزداد عظمة الله في قلبه، فيزداد حباً له، وتجر هذه المعرفة التي هي معرفة عجائب صنع الله تعالى إلى بحر لا ساحل له.

وأما السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى، فاعلم أن كل من صنع شيئاً دل المصنوع على وجود صانعه، وعلى علمه وحياته وقدرته دلالة جلية ظاهرة، وإن كانت هذه الصفات لا تدرك بشيء من الحواس الخمس. فوجود الله سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهد من حجر وشجر ومدر ونبات وحيوان وأرض وسماء وكوكب وبر وبحر، بل أول شاهد علينا أنفسنا وأجسامنا، وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا، وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا.

وجميع ما في العالم شواهد ناطقة، وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة على علمه وقدرته وحياته ولطفه وحكمته وعظمته وجلاله، إذ كل ذرة تنادى بلسان حالها: إنه ليس وجودها بنفسها، وإنها تحتاج إلى موجد لها، لكن عقولنا بالنسبة إلى إدراك الحضرة الإلهية، كالخفاش بالنسبة إلى النهار، فإنه لضعف بصره يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، وليس عدم إبصاره بالنهار لخفائه، بل لشدة ظهوره واستنارته وضعف أعين الخفاش، فكذلك عقولنا ضعيفة عن إدراك الحضرة الإلهية، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى به عن البصائر والأبصار، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله سبحانه وتعالى، وانضم إلى ذلك أيضاً أن المدركات الشاهدة لله تعالى، إنما يدركها الإنسان في حال الصبا قبل حضور العقل عنده، ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً، وهو مستغرق الهم، مشغول به، وقد أنس بمدركاته وألفها، فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس.

(1/346)

وكذلك إذا رأى فجأة حيواناً غريباً، أو نباتاً، أو فعلاً من أفعال الله تعالى عجيباً خارقا للعادة، انطلق لسانه بالتعجب، فقال: سبحان الله! سبحان الله! وهو يرى طول النهار نفسه، وجميع أعضائه، وجميع الحيوانات المألوفة، وكلها شواهد قاطعة، فلا يحس بشهادتها لطول الأنس بها.

ولو فرض أن أعمى بلغ عاقلاً، ثم انقشعت غشاوة عينه، فامتد بصره إلى السماء والأرض، والأشجار، والنبات، والحيوان دفعة واحدة، لخيف على عقله أن ينبهر، لعظم عجبه من مشاهدة هذه العجائب، وشهادتها لخالقها، فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات، وهو الذي سد على الخلق في سبيل الاستضاءة بنور المعرفة، والسباحة في بحارها الواسعة، والله أعلم وأحكم.

3 ـ فصل في بيان معنى الشوق إلى الله تعالى

قد تقدم الكلام في المحبة وإثباتها بالأدلة، وأن الشوق ثمرة من ثمارها، فإن أحب شيئاً اشتاق إليه.

واعلم: أن الشوق لا يتصور إلا لشيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه.

فأما ما لا يدرك أصلاً، فلا يشتاق إليه، وكمال الإدراك بالرؤية، وإنما يكون ذلك في الآخرة.

واعلم: أن الأمور الإلهية لا نهاية لها، وإنما يكشف لكل عبد من العباد بعضها، ويبقى أمور لا نهاية لها، والعارف يعلم وجودها، وكونها معلومة لله تعالى، ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال العبد متشوقاً إلى أن يحصل له اصل المعرفة، وينتهى الشوق الأول في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ومشاهدة، ولا يتصور أن يسكن قلب المشتاق في الدنيا.

وكان إبراهيم ابن أدهم من المشتاقين، فقال يوماً يارب! إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني، فقد أضر بى القلق. قال: فرأيته عز وجل في النوم، فقال: يا إبراهيم! أما استحييت منى؟! تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق قبل لقاء حبيبه؟ فقلت: يا رب: تهت في حبك فلم أدر ما أقول، فهذا الشوق يسكن في الآخرة. وأما غير ذلك مما هو

(1/347)

معلوم لله فلا نهاية له، فلا يتضح للعبد ولا يحط به، فهو مشغول بلذة ما ظهر له، ولا يزال النعيم واللذة متزايدين حتى يشغل عن الإحساس بالشوق إلى ما وراء ذلك، فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه.

ومن شواهد الأخبار، ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم رجلا دعاء، وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، فذكر فيه: "أسألك اللهم الرضى بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك".

وفى التوراة: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً.

وفى بعض ما أوحى الله عز وجل إلى بعض عباده: إن لى عباداً من عبادى، يحبونى وأحبهم، وأشتاق إليهم ويشتاقون إلى، ويذكروني وأذكرهم، فان حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك. قال: يا رب! وما علامتهم؟ قال: يرعون الظلال بالنهار، كما يراعى الراعي الشفيق غنمه؟ ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وفرش الفرش، وخلال كل حبيب بحبيبه، نصبو أقدامهم، وافترشوا وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملقونى بإنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلى، وبسمعي ما يشكون من حبي.

4 ـ فصل في بيان محبة الله تعالى للعبد ومعناها وبيان علامات محبة العبد لله تعالى

وأما محبة الله تعالى للعبد، فاعلم:

أن شواهد القرآن متظاهرة على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة 222]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}، الآية [الصف: 4] ونبه على أنه لا يعذب من يحبه، لأنه رد على من ادعى أنه حبيبه بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] وشرط للمحبة غفران الذنوب فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران، 31].

(1/348)

وفى الحديث الصحيح، من رواية أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى يقول: "ما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"، إلى أخره. وهو حديث مشهور.

ومن علامة حب الله تعالى للعبد، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه" (1).

ومن أقوى العلامات، حسن التدبير له، يربيه من الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينور له عقله، فيتبع كل ما يقربه، وينفر عن كل ما يبعد عنه، ثم يتولاه بتيسير أموره، من غير ذل للخلق، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هماً واحداً، فإذا زادت المحبة، شغله به عن كل شىء.

وأما محبة العبد لله تعالى، فاعلم:

أن المحبة يدعيها كل أحد، فما أسهل الدعوى وأعز المعنى، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان، وخداع النفس إذا ادعت محبة الله تعالى، مالم يمتحنها بالعلامات، ويطالبها بالبراهين، فمن العلامات حب لقاء الله تعالى في الجنة، فإنه لا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب لقاءه ومشاهدته، وهذا لا ينافى كراهة الموت، فإن المؤمن يكره الموت، ولقاء الله بعد الموت.

ومن السلف من أحب الموت، ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته، أو لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا، أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.

ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة، فسكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى، وهذا كمحب يصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فيحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره، ويعدل له أسبابه، فيلقاه كما يهواه، فارغ القلب عن الشواغل، خفيف الظهر عن العوائق، فالكراهة بهذا السبب لا تنافى كمال المحبة، وعلامة هذا: الدؤوب في العمل، واستغراق الهم في الاستعداد.

ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيجتنب

__________

(1) قطعة من حديث أخرجه الترمذي (2398) من حديث أنس بلفظ "إن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضى، فله الرضى، ومن سخط فله السخط" وفى الباب عن عبد الله بن مغفل عند الطبرانى والحاكم، وعن عمار بن ياسر عند الطبرانى، وعن أبى هريرة عند ابن عدى، فهو صحيح بها.

(1/349)

اتباع الهوى، ويعرض عن دعة الكسل، ولا يزال مواظباً على طاعة الله تعالى متقرباً إليه بالنوافل.

ومن أحب الله فلا يعصيه، إلا أن العصيان لا ينافى أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، فكم من إنسان يحب الصحة ويأكل ما يضره، وسببه أن المعرفة قد تضعف والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بحق المحبة، ويدل على ذلك حديث نعيمان أنه كان يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحده (1) إلى أن أتى به يوماً، فحده فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله" فلم تخرجه المعصية عن المحبة، وإنما تخرجه عن كمال المحبة.

ومن العلامات أن يكون مستهتراً بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره بالضرورة، ومن ذكر ما يتعلق به.

فعلامة حب الله تعالى حب ذكره، وحب القرآن الذي هو كلامه، وحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

وقال بعض السلف: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة، فكنت أدمن قراءة القرآن، ثم لحقني فترة فانقطعت، فرأيت في المنام قائلا يقول:

إن كنت تزعم حبي ... فلم هجرت كتابي

أما تدبرت ما فيـ ... ـه من لطيف عتابي

ومنها أن يكون أنسه بالخلوة، ومناجاة الله تعالى، وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجد، ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، فان أقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعم بمناجاته.

روى أن عابداً عبد الله غيضة دهراً، فنظر إلى طائر قد عشش في شجرة يأوى إليها، ويصفر عندها. فقال: لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة كنت آنس بصوت

__________

(1) أي يقيم عليه الحد وهو نعيمان بن عمرو بن رفاعة، وكان كثير المزح.

(1/350)

هذا الطائر، ففعل، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق، لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً.

فإذن علامة المحبة، كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعيم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كل ما ينقض عليه الخلوة.

ومتى غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحب والأنس قلبه، حتى لا يفهم أمور الدنيا، مالم تتكرر على سمعه مراراً، مثل العاشق الولهان.

ومنها أن يتأسف على ما يفوته من ذكر الله تعالى، ويتنعم بالطاعة، لا يستثقلها، ويسقط عنه تعبها.

قال ثابت البنانى رحمة الله: كابدت الصلاة عشرين سنه، وتنعمت بها عشرين سنه.

وقال الجنيد: علامة المحبة دوام النشاط، والدؤوب بشهوة يفتر بدنه ولا يفتر قلبه، وكل هذا موجود المثال في المشاهدات، فإن المحب لا يستثقل السعي في مراد محبوبه، ويستلذ خدمته بقلبه، إن كان شاقاً على بدنه، وكل حب قاهر لا محالة، فمن كان محبوب أحب إليه من الكسل، ترك الكسل في خدمته، وإن كان أحب إليه من المال، ترك المال في حبه.

ومنها أن يكون شفيقاً على جميع عباد الله، رحيما بهم، شديداً على أعدائه، كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصرفه عن الغضب له صارف، فهذه علامات المحبة، فمن اجتمعت فيه فقد تمت محبته، وصفا في الآخرة شرابه. ومن امتزج بحبه حب غير الله، تنعم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} إلى قوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 25 - 28] فقوبل الخالص بالصرف، والمشوب بالمشوب. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

(1/351)

ومنها أن يكون في حبه خائفاً بين الهيبة والتعظيم، فإن الخوف لا يضاد المحبة، ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ليست لغيرهم، وبعضها أشد من بعض، فأولها خوف الإعراض، وأشد منه خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد.

ومنها كتمان الحب، واجتناب الدعوى، والتوقى من إظهار الوجد والمحبة، تعظيماً للحبوب، وإجلالاًله، وهيبة وغيره على سره، فإن الحب سر من أسرار الحبيب. وقد يقع المحب في دهش وسكر، فيظهر عليه الحب من غير قصد، فهو في ذلك معذور، كما قال بعضهم.

ومن قلبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم

5 ـ فصل في بيان معنى الأنس بالله والرضى بقضاء الله عز وجل

اعلم: أن من غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، لآن الأنس بالله يلازمه التوحش من غيره، ويكون أثقل الأشياء على القلب كل ما يعوق عن الخلوة.

قال عبد الواحد بن زيد: قلت لراهب: لقد أعجبتك الخلوة، فقال: لو ذقت حلاوة الخلوة لا ستوحشت إليها من نفسك، قلت: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود، خلصت المعاملة. قلت: متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم، فصار هماً واحداً في الطاعة.

فإن قيل: ما علامة الأنس؟ قيل: علامته الخاصة ضيق الصدر عن معاشرة الخلق، والتبرم بهم، وإن خالط، فهو كمنفرد غائب مخالط بالبدن، منفرد بالقلب.

واعلم: أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم، قد يثمر نوعاً من الانبساط والإدلال، وقد يكون ذلك منكراً في الصورة، لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة، وإن كان محتملاً ممن أقيم مقام الأنس. وأما إذا صدر ممن لا يفهم ذلك المقام، أشرف به على صاحبه على الكفر، وذلك كما يروى عن أبى حفص أنه كان يمشى يوماً، فاستقبله رجل مدهوش (1) فقال: مالك؟ قال: ضل حماري، ولا أملك غيره، فوقف

__________

(1) أي: متحير، من دهش الرجل يدهش: إذا تحير.

(1/352)

أبو حفص وقال: وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره، فظهر الحمار.

وروى عن برخ العابد أنه خرج يستقى فقال: يارب: أنت بالبخل لا ترمى، أنفذ ما عندك، اسقنا الساعة.

ولا يستبعد أن يحتمل من شخص ما لم يحتمل من غيره. وأما الرضى بقضاء الله تعالى، فهو من أعلى مقامات المقربين، وهو من ثمار المحبة، وحقيقته غامضة، ولا ينكشف الأمر فيه إلا لمن يفهمه عن الله تعالى.

ومن فضائل الرضى ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً أرضاه بما قسم له".

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود: إنك لن تلقاني بعمل هو أرضى لى عنك، ولا أحط لوزرك من الرضى بقضائي.

ونظر علي بن أبى طالب رضى الله عنه إلى عدى بن حاتم كئيباً، فقال: ياعدى: مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني فقد قتل ابناي، وفقئت عيني فقال: يا عدى! من رضى بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله.

ودخل أبو الدرداء رضى الله عنه على رجل وهو يموت وهو يحمد الله تعالى، فقال أبو الدرداء: أصبت، إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.

وقال ابن مسعود رضى الله عنه: إن الله تعالى بقسطه وعمله جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.

وقال علقمة في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى.

وقال أبو معاوية الأسود في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: الرضى والقناعة.

وفى الأخبار السالفة (1): أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه عز وجل الجوع والفقر عشر سنين، فما أجيب إلى ما أراد، ثم أوحى الله إليه: كم تشكو؟ هكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السماوات والأرض، وهكذا سبق لك منى، وهكذا قضيت

__________

(1) في الأصول: وفى الحديث.

(1/353)

عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم تريد أن أبدل ما قدرت لك؟ فيكون ما تحب فوق ما أحب، ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزتي وجلالى، لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان النبوة.

وفي "زبور داود" عليه السلام: هل تدرى من أسرع الناس مراً على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكرى.

وقال داود عليه السلام: يارب! أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارتي في أمر، فخرجت له، فلم يرض.

وقال عمر بن العزيز: ما بقى لى سرور إلا في مواقع القدر.

وقيل له: ما تشتهى؟ فقال: ما يقضى الله عز وجل.

وقال الحسن: من رضى بما قسم له، وسعه، وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه.

وقال عبد الواحد بن زيد: الرضى باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.

وقال بعضهم: لن يرد الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى على كل حال، فمن وهب له الرضى، فقد بلغ أفضل الدرجات.

وأصبح أعرابي وقد مات له أباعر كثيرة، فقال:

لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوى إحن

ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن

6 ـ فصل [يتصور الرضى فيما يخالف الهوى]

ويتصور الرضى فيما يخالف الهوى. وبيان ذلك إذا جرى على الإنسان الألم، فتارة يحس به ويدرك ألمه، ولكنه يكون راضياً به، راغباً في زيادته بعقله، وإن كان كارها له بطبعه لما يوصله من الثواب. مثاله أن يلتمس من الحجام الحجامة والفصد، فإنه يدرك ألم ذلك، إلا أنه راض به، وراغب فيه ومتقلد منه الحجام.

(1/354)

وكذلك كل من يسافر في طلب الربح، فإنه يدرك مشقة السفر، لكن حبه لثمرة سفره طيب عنده تلك المشقة، وجعله راضياً بها، وكل من أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين، فانه يتوقع الأجر فوق ما فاته، فيرضى بما أصابه، ويشكر الله تعالى عليه، ويجوز أن يغلبه الحب، بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه، ويبطل الإحساس بالألم لفرط الحب، وليس ذلك بعجيب، فان الرجل المحارب في حال غضبة أو خوفه، تصيبه الجرحات ولا يحس بها، ولا يشعر بها في تلك الحال، وذلك لأن قلبه مستغرق، وإذا كان القلب مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه، وذلك موجود في المشاهدات.

قال الجنيد رحمة الله: سألت سرياً: هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا.

وقد روينا عن خلق كثير من أهل البلاء، أنهم كانوا يقولون: لو قطعنا إرباً إرباً، ما ازددنا له إلا حباً.

وقد تقدم أن فرط الحب يزيل إحساس الألم، وهو متصور في حب الخلق، كما حكى بعضهم. قال: كان في جيراننا رجل له جارية يحبها، فاعتلت، فجلس يصلح لها حساء (1)، فبينا هو يحرك القدر، قالت: أوه، فدهش وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك القدر بيده حتى تساقطت أصابعه وهو لا يعلم. ويؤيد هذا قصة النسوة حين شاهدن يوسف عليه السلام، فإنهن قطعن الأيدي، وما أحسن بألم، فقد بان بما ذكرنا أن الرضى بما يخالف الهوى ليس مستحيلاً، وإذا كان ذلك ممكناً في حق الخلق وحظوظهم، كان ممكنا في حق الله سبحانه، وحظوظ الآخرة بطريق الأولى.

وإمكان ذلك في ثلاثة أوجه:

أحدهما: علم المؤمن بأن تدبير الله تعالى خير من تدبيره.

وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما قضى الله لمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له".

وعن مكحول قال: سمعت ابن عمر رضى الله عنه يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسقط فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له.

__________

(1) بالفتح والمد: طعام يتخذ من دقيق وماء ودهن، وقد يحلى ويكون رقيقاً يحسى.

(1/355)

وعن مسروق قال: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظ للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل خباءهم، والكلب يحرسهم. فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار، فحزنوا، فقال، الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم، فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، وإنما أخذ أولئك بما كان عندهم من الصوت والجلبة، ولم يكن عند أولئك شىء يجلب، قد ذهب كلبهم وحمارهم وديكهم.

وعن سعيد بن المسيب قال: قال لقمان لابنه: يابنى: لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته، إلا جعلت في الضمير أن ذلك خير لك. قال: أما هذه فلا أقدر أن أعطيكها دون أن أعلم ما قلت أنه كما قلت. قال: يابنى: فإن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه، فعنده بيان ما قلت لك. قال: اذهب بنا إليه، فخرج على حمار وابنه على حمار، وتزودوا ما يصلحهما، ثم سارا أياماً وليالى، حتى تلقهما مفازة، فأخذا أهبتهما ودخلاها، فسارا ما شاء الله أن يسيرا، حتى تعالى النهار واشتد الحر ونفد الماء والزاد، فاستبطآ حماريهما، فنزلا يمشيان، فبينما هما كذلك، إذ نظر لقمان أمامه، فإذا هو بسواد ودخان، فقال في نفسه: السواد شجر، والدخان عمران وناس، فبينما هما كذلك يشهدان، إذ وطئ ابن لقمان على عظم على الطريق، فدخل في باطن قدمه حتى ظهر من أعلاها، فخر مغشياً عليه، فحانت من لقمان التفاتة، فإذا هو بابنه صريع، فوثب إليه فضمه إلى صدره، واستخرج العظم بأسنانه، وشق عمامة كانت عليه فعصب رجله، ثم نظر إلى وجه ابنه فذرفت عيناه فقطرت قطرة من دموعه على خد الغلام فانتبه لها، فنظر إلى أبيه يبكى، فقال يا أبت: أنت تبكى وأنت تقول هذا خير لي، فكيف ذلك وأنت تبكى؟! وقد نفذ الطعام والشراب وبقيت أنا وأنت في هذا المكان. قال: أما بكائي يابنى، فوددت أنى افتديتك بجميع حظي من الدنيا، ولكنى والد ومنى رقة الوالد. وأما قولك: كيف يكون هذا خيراً لى؟ فلعل ما صرف عنك أعظم مما ابتليت به، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك، فبينما هو يحاوره، إذ نظر لقمان أمامه، فلم ير الدخان والسواد، فقال في نفسه: لم أر شيئاً، ثم قال: قد رأيت، ولكن لعله أن يكون قد أحدث ربى بما رأيت شيئاً، فبينما هو يتفكر في ذلك، إذا نظر فإذا هو بشخص قد أقبل على فرس أبلق، عليه ثياب بيض، يمسح الهواء مسحاً. فلم يزل يرمقه بعينيه حتى كان منه قريباً، فتوارى عنه ثم صاح به

(1/356)

فقال: أنت لقمان؟ قال: نعم. قال: ما قال لك ابنك هذا السفيه؟ قال: يا عبد الله من أنت؟، ما لي أسمع كلامك ولا أرى لك وجهك؟ قال أنا جبريل، لا يراني إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، لولا ذلك لرأيتني، فما قال لك ابنك هذا السفيه؟ قال: أما علمت ذلك؟ فقال جبريل: مالي بشيء من أمركما علم، إلا أن حفظتكما أتوني، وقد أمرني ربى تعالى بخسف هذه المدينة وما فيها ومن يليها، فأخبروني أنكما تريدان هذه المدينة، فدعوت ربى أن يحسبكما عنى بما شاء، فحبسكما عنى بما ابتلى به ابنك، ولولا ذلك لخسف بكما مع من خسف به، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم الغلاف، فاستوى قائماً، ومسح يده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً، ومسح على الذي كان فيه ماء فامتلأ ماء، ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير، فإذا هما في الدار التي خرجا منها بعد أيام وليالى.

الوجه الثاني: الرضى بالألم، لما يتوقع من الثواب المدخر، كما تقدم من الرضى بالفصد والحجامة وشرب الأدوية انتظاراً للشفاء.

الوجه الثالث: الرضى به لا لحظ وراءه، بل لكونه مراد المحبوب، فيكون ألذ الأشياء عنده ما فيه رضى محبوبه، ولو كان في ذلك هلاك نفسه، كما قال بعضهم: فما لجرح إذا أرضاكم ألم.

وقد سبق أن الحب يستولي بحيث يدهش عن إدراك الألم، ولا ينبغي أن ينكر ذلك من فقده من نفسه، لأنه إنما فقده لفقد سبية، وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه، ولعمري إن من فقد السمع أنكر لذة الألحان والنغمات، فمن فقد القلب، فلابد أن ينكر هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب.

7 ـ فصل [في أن الدعاء لا يناقض الرضى]

واعلم: أن الدعاء لا يناقض الرضى، كذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها وأسبابها، والسعى في إزالتها.

أما الدعاء، فقد تعبدنا الله تعالى به، وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره

(1/357)

من الأنبياء والصالحين معلوم.

وأما إنكار المعاصي وعدم الرضى بها، فقد تعبدنا الله تعالى به، وذم الراضي به، وكذلك بغض الكفار والفجار، والإنكار عليهم، وشواهد ذلك في القرآن والأخبار كثيرة جداً.

فإن قيل: فقد وردت الأخبار بالرضى بقضاء الله تعالى، فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى، فهو محال، وإن كانت بقضائه، فكراهتها كراهة لقضائه، فكيف الجمع بين هذين الحالين.

فاعلم أن هذا مما يلتبس على القاصرين على الوقوف على أسرار العلم، حتى التبس على قوم، فرأوا السكوت عن الإنكار مقاما من مقامات الرضى، وسموه حسن الخلق، وهو جهل محض، بل نقول: الرضى والكراهه يتضادان، إذا تواردا على شىء واحد، من جهة واحدة، على وجه واحد. فأما إذا رضيت بشيء من وجه، وكرهته من وجه آخر، فليس ذلك بمتضاد، نحو أن يموت عدوك الذي هو أيضاً عدو لبعض أعدائك، وساع في إهلاكه، فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك، وترضاه من حيث إنه عدوك، وكذلك للمعصية وجهان:

وجه إلى الله تعالى، من حيث إنها اختياره وإرادته، فترضى بها من هذا الوجه تسليماً للملك إلى مالك الملك.

ووجه إلى العبد من حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم، ولا ينكشف هذا إلا بمثال، فلنفرض محبوباً من الخلق قال بين يدي محبة: إنى أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني، وأنصب لذلك معياراً صادقاً، وهو أنى أقصد إلى فلان فأضربه ضرباً شديداً يضطره ذلك إلى الشتم لى، حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدواً، فكل من أحبه علمت أنه أيضاً عدو لى، وكل من أبغضه علمت أنه محبي وصديقى، ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض، وحصل البغض الذي هو سبب العداوة، فحق على كل من هو صادق في محبته أن يقول: أما تدبيرك في ضرب هذا الشخص وأذاه، فأنا محب له، فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك، وأما شتمه إياك من حيث نسبته إلى هذا الشخص، فإنه عدوان منه وتهجم عليك، فأنا كاره له من حيث نسبته إليه إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم، فكذلك تسليط الله سبحانه وتعالى دواعي الشهوة والمعاصي على العبد، وبغضه على عصيانه.

(1/358)

فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله عز وجل، ويعادى من عاداه وأبعده عن حضرته، وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته، فإنه بعيد مطرود، والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون بغيضاً إلى جميع المحبين، موافقة لمحبوبهم، بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده.

وبهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله، والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم، والمبالغة في مقتهم، مع الرضى بقضاء الله تعالى، من حيث إنه قضاؤه، وهذا كله يستمد من سر القدر الذي لا رخصة في إفشائه، وهو أن الخير والشر كلاهما داخلان في المشيئة والإدارة، ولكن الشر مراد مكروه، والخير مراد مرضى به.

والأولى السكوت والتأدب بأدب الشرع، والوقوف مع ما تعبد به الخلق، من الجمع بين الرضى بقضاء الله تعالى ومقت المعاصي، والله تعالى أعلم.

ومما يتعلق بالمحبة.

قيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: لو يعلم المدبرون عنى كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقاً إلى، وتقطعت أوصالهم من محبتي.

يا داود: هذه إرادتي في المدبرين عنى، فكيف إرادتي في المقبلين على؟

يا داود أحوج ما يكون العبد إلى إذا استغنى عنى، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي.

وكانت امرأة متعبدة تقول: والله لقد سئمت الحياة، حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى، وحباً للقائه. فقيل لها: فعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا، ولكنى لحبى إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟

...

8 ـ باب في النية والإخلاص والصدق

اعلم: أنه قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة.

(1/359)

فالناس كلهم هلكى، إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم (1).

فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير تحقيق هباء. قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وليت شعرى، كيف تصلح نية من لا يعرف حقيقة النية؟ أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص؟ ‍ أو كيف يطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه؟

فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى، أن يعلم النية أولاً، لتحصل له المعرفة، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتان للعبد إلى النجاة. ونحن نذكر ذلك في ثلاثة فصول:

9 ـ الفصل الأول في النية وحقيقتها وفضلها وما يتعلق بذلك

قال الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] والمراد بالإرادة: النية.

وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

وعن أبى موسى الأشعرى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". أخرجاهما في "الصحيحين".

وعن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد خلفتم بالمدينة رجالاً، ما قطعتم وادياً، ولا سلكتم طريقاً، إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم المرض" أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري من حديث أنس.

__________

(1) انظر صفحة (250) حول هذا الكلام.

(1/360)

وفى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من هم بحسنة فعملها كتبت له حسنة".

وعن أبى كبشة الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه. ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، وهو يقول: لو كان لى مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط فيه، ينفقه في غير حقه. ورجل لم يؤته مالاً ولا علماً، فيقول: لو كان لى مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل. قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: فهما في الوزر سواء".

وعن أبى عمران الجوني قال: تصعد الملائكة بالأعمال، فينادى الملك: ألق تلك الصحيفة، قال: فتقول الملائكة: ربنا قال خيراً وحفظناه عليه. فيقول تبارك وتعالى: إنه لم يرد به وجهي. قال: وينادى الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، مرتين. فيقول: يارب:

إنه لم يعمله، فيقول عز وجل: إنه قد نواه.

وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والورع عما حرم الله تعالى، وصدق النية فيما عند الله تعالى.

وكان بعضهم يقول: دلوني على عمل لا أزال به عاملاً لله تعالى، فقيل له: انو الخير، فانك لا تزال عاملاً وإن لم تعمل، فالنية تعمل وإن عدم العمل، فانه من نوى أن يصلى بالليل فنام، كتب له ثواب ما نوى أن يفعله.

وقد جاء في الحديث: "ما من رجل يكون له ساعة من الليل يقومها، فينام عنها إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة تصدق بها عليه".

وقد جاء في الحديث " نية المؤمن خير من عمله" (1).

والنية، والإدارة، والقصد، عبارات متواردة على معنى واحد.

10 ـ واعلم أن الأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: المعاصى، فلا تتغير عن موضعها بالنية، مثل من يبنى مسجداً

__________

(1) قال الحافظ السخاوى في "المقاصد الحسنة": قال البيقهى: إسناده ضعيف. قال ابن دحية: لا يصح.

(1/361)

بمال حرام يقصد بذلك الخير، فان النية لا تؤثر فيه، فان قصد الخير بالشر شر آخر، فان الخيرات إنما تعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيراً، هيهات!.

واعلم: أن من تقرب من السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام، كان كتقرب علماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق، فان هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى، يتكالبون على الدنيا، ويتبعون الهوى، ووبال ذلك راجع إلى معلمهم، إذ علم فساد نياتهم ومقاصدهم.

ومن هذا القبيل تعلم القصاص القصص، فان مقاصد أكثرهم معروفة، وقصدهم اجتلاب الدنيا، وأخذ الأموال كيف اتفق، فتعليمهم إعانة على الفساد، فقد علمت أن الطاعة تنقلب معصية بالقصد.

وأما المعصية، فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً بل إذا انضاف إليها قصد خبيث تضاعف وزرها وعظم وبالها.

القسم الثاني: الطاعات، وهى مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفى تضاعف فضلها، وأما الأصل، فهو أن ينوى عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية. وأما تضاعف الفضل، فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوى بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها.

مثال ذلك القعود في المسجد، فإنه طاعة، ويمكن أن ينوى بها نيات كثيرة: منها أن ينوى بدخوله انتظار الصلاة، ومنها الاعتكاف وكف الجوارح، فإن الاعتكاف كف، ومنها دفع الشواغل الصارفة عن الله تعالى بالانقطاع إلى المسجد، وإلى ذكر الله تعالى فيه، ونحو ذلك، فهذا طريق تكثير النيات، فقس على ذلك سائر الطاعات، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة.

القسم الثالث: المباحات، فما من شىء من المباحات إلا ويتحمل نية أو نيات، وتصير بها قربات، وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطى البهائم المهملة.

ولا ينبغي أن يحتقر العبد الخطرات واللحظات، فكل ذلك يسأل عنه في القيامة،

(1/362)

لم فعله؟ وما الذي قصد به؟

مثال ما ينوى به القربة من المباحات إن يتطيب، وينوى بالطيب اتباع السنه، واحترام المسجد، ودفع الروائح الكريهة التي تؤذى مخالطيه.

وقال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه زاد عقله.

وكذلك معالجة رأسه تزايد فطنته وذكاءه، فيسهل عليه إدراك مهمات دنيه.

وقال بعض السلف: إنى لا ستحب أن يكون لى في كل شىء نية، وحتى في آكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات الدين، فمن قصد من الأكل التقوى على العبادة، ومن النكاح تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصل إلى ولد يعبد الله بعده، أثيب على ذلك كله، ولا تحتقر شيئاً من حركاتك وكلماتك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وصحح قبل أن تفعل ما تفعله، وانظر في نيتك فيما تتركه أيضاً.

واعلم: أن النية هي انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها، إما في الحال أو المآل، وربما سمع بعض الجهال ما أوصينا به من تحسين النية، فقال عند أكله: نويت أن آكل لله، أو عند قراءته: نويت أن أقرأ لله، وظن أن ذلك نية، وليس كذلك، إنما النية انبعاث القلب، وتجرى مجرى الفتوح من الله تعالى، وليست النية داخلة تحت الاختيار، فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر، وإنما تتيسر له في الغالب لمن قلبه يميل إلى الدين دون الدنيا.

والناس في النيات على أقسام:

منهم من يكون عمله للطاعة إجابة لباعث الخوف.

ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الرجاء. وثمة مقام أرفع من هذين، وهو أن يعمل الطاعة على نية جلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية، وهذه لا تتيسر لراغب في الدنيا، وهى أعز النيات وأعلاها، وقليل من يفهمها، فضلاً عن أن يتعاطاها، وصاحب هذا المقام لا يجاوز ذكر الله تعالى والفكر في جلاله حباً له.

وقد حكى أحمد بن خضرويه أنه رأى رب العزة في منامه، فقال له: كل الناس يطلبون منى، وأبو يزيد يطلبني.

وغرضنا أن هذه النيات متفاوتة في الدرجات ومن غلب على قلبه منها، فربما لم

(1/363)

يتيسر له العدول إلى غيرها، ومن حضرت له نية في المباح، ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى، وانتقلت الفضيلة إليه.

مثال ذلك أن تحضره نية الأكل والنوم ليتقوى بذلك على العبادة ويريح بدنه ولم تنبعث نيته في الحال إلى الصلاة والصوم، فالأكل والنوم أفضل، بل لو ملّ العبادة لكثرة مواظبته عليها، وعلم أنه لو رفه ساعة مباح عاد نشاطه، فذلك أفضل من التعبد حينئذ.

قال علي عليه السلام: روحوا القلوب، واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان.

وقال بعضهم: روحوا القلوب تعي الذكر.

وهذه دقائق لا تدركها إلا بممارسة العلماء، فإن الحاذق في الطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته، ويستبعد ذلك القاصر في الطب، وإنما يبتغى به أن تعود قوته ليتحمل المعالجة، وكذلك الخبير بالقتال، قد يفر من بين يدي قرنه حيلة منه، ليستجره إلى مضيق، فسلوك طريق الله تعالى كله حرب مع الشيطان، ومعالجة للقلب، والمبصر الموفق يقف في تلك الطريق على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء، فلا ينبغي لهم ما خفي عليهم، بل يسلمون لأصحاب الأحوال إلى أن ينكشف لهم أسرار ذلك، أو ينالوا ذلك المقام.

11 ـ الفصل الثاني في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته

قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 4]، وقال: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] وغير ذلك من الآيات.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل رضى الله عنه: "أخلص دينك يكفك القليل من العمل" (1).

_________

(1) ضعيف أخرجه ابن أبى الدنيا في "الإخلاص" والحاكم في "المستدرك" من حديث معاذ، وفيه ضعف وانقطاع.

(1/364)

وفى حديث أنس رضى الله عنه أنه قال: "إذا كان يوم القيامة جاءت الملائكة بصحف مختمة، فيقول الله عز وجل: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما كتبنا إلا ما كان، فيقول: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم إلا ما كان لى".

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الملائكة يرفعون عمل العبد فيكثرونه ويزكونه، فيوحي الله تعالى إليهم، أنتم حفظة على عمل عبدى، وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدى لم يخلص في عمله، فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه، فيوحي الله إليهم: إنكم حفظة على عمل عبدى، وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه واجعلوه في عليين".

ويروى عن الحسن قال: كانت شجرة تعبد من دون الله، فجاء إليها رجل فقال: لأقطعن هذه الشجرة، فجاء إليها ليقطعها غضباً لله، فلقيه الشيطان في صورة إنسان فقال: ما تريد؟ قال: أريد أن أقطع الشجرة التي تعبد من دون الله، قال: إذا أنت لم تعبدها، فما يضرك من عبدها؟ قال: لأقطعنها، فقال له الشيطان: هل لك بما هو خير لك من ذلك لا تقطعها ولك ديناران إذا أصبحت عند وسادتك، قال فمن لى بذلك؟ قال: أنا لك، فرجع فأصبح فوجد عند وسادته دينارين، ثم أصبح بعد فلم يجد شيئاً، فقام غضبان ليقطعها، فتمثل له الشبطان في صورته، فقال ما تريد؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله، قال كذبت، مالك إلى قطعها سبيل، فذهب ليقطعها، فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله، ثم قال له أتدرى من أنا؟ فأخبره أنه الشيطان، وقال: جئت أول مرة غضباً لله، فلم يكن لى عليك سبيل، فخدعتك بالدينارين فتركتها، فلما فقدتهما جئت غضباً للدينارين فسلطت عليك.

وكان معروف الكرخى يضرب نفسه ويقول: يا نفسي أخلصي وتخلصي.

وقال أبو سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.

وحكى أن رجلاً كان يخرج في زي النساء، فيحضر حيث يحضرون من عرس، أو مأتم، فاتفق أنه حضر يوماً موضعاً فيه مجمع النساء، فسرقت درة، فصاحوا، أغلقوا الباب حتى نفتش، ففتشوا واحدة واحدة حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه، فدعا الله بالإخلاص وقال: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا: أطلقوا الحرة، فقد وجدنا الدرة.

(1/365)

12 ـ بيان حقيقة الإخلاص

اعلم: أن كل شئ يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه، سمى إخلاصاً.

والإخلاص يضاده الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات.

فالإخلاص في التوحيد يضاده الشرك في الإلهية.

والشرك منه جلى، ومنه خفي، وكذلك الإخلاص، وقد ذكرنا درجات الرياء فيما تقدم في بابه، وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب، ولكن أمتزج بهذا الباعث باعث آخر، إما من الرياء، أو من غيره من حظوظ النفس.

ومثال ذلك، أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يعتق عبدً ليتخلص من مؤونته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو للتخلص من شر يعرض له، أو يغزو ليمارس الحرب ويتعلم أسبابها، أو يصلى بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه ليراقب رحله أو أهله، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال، أو يشتغل بالتدريس ليفرح بلذة الكلام، ونحو ذلك، فمتى كان باعثه التقرب إلى الله تعالى ولكن أنضاف إليه خاطر من هذه الخواطر حتى صار العمل أخف عليه بسبب من هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص.

والإنسان قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن شئ من هذه الأمور، فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله تعالى، نجا، وذلك لعزة الإخلاص، وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب، لأن الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب التقرب من الله تعالى.

قيل لسهل: أي شئ أشد على النفس؟ قال: الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب.

واعلم: أن الشوائب المكدرة للإخلاص متفاوتة، بعضها جلى، وبعضها خفي، وقد ذكرنا درجات الرياء في بابه.

ومن الرياء ما هو أخفى من دبيب النمل، فليطلب هناك، وحاصله أن مادام العامل

(1/366)

يفرق بين مشاهدة الإنسان والبهيمة في حالة من العمل، فهو خارج عن صفو الإخلاص، ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه.

وقد قيل: ركعتان من عالم أفضل من سبعين ركعة من جاهل، وأريد به العالم بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها، والجاهل ينظر إلى ظاهر العبادة، وقيراط من الذهب الذي يرتضيه الناقد خير من دينار يرتضيه الغر الغبي.

13 ـ فصل في حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به

أما العمل الذي لا يريد به إلا الرياء فهو على صاحبه لا له، وهو سبب للعقاب، كما أن العمل الخالص لوجه الله تعالى سبب للثواب. ولا إشكال في هذين القسمين، وإنما النظر في العمل المشوب الممتزج بشوب الرياء وحظوظ النفس.

وقد اختلف الناس في ذلك، هل يقتضي ثواباً أو عقاباً، أو لا يقتضي شيئاً أصلاً؟ وليس تخلو الأخبار عن تعارض في ذلك.

والذي يتضح لنا فيه -والعلم عند الله تعالى- أن ننظر إلى قدر قوة البواعث، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفساني تقاوما وتساقطاً، وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان باعث الرياء أقوى، ضر وأوجب العقاب، لكن عقابه دون عقاب من تجرد للرياء، وإن كان الباعث الديني أقوى من الآخر، فله ثواب بقدر ما فضل من قوته، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40].

ويشهد لما ذكرنا إجماع الأمة على أن من خرج حاجاً ومعه تجارة، صح حجه وأثيب عليه، وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس، إلا أنه متى كان الحج هو المحرك الأصلى، لم ينفك السفر عن ثواب، وكذلك الغازي إذا قصد الغزو والغنيمة ويكون قصد الغنيمة على سبيل التبع، حصل له الثواب، ولكنه لا يساوى ثواب من لا يلتفت إلى الغنيمة أصلاً، والله تعالى أعلم.

(1/367)

14 ـ الفصل الثالث في الصدق وحقيقته وفضله

عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً" رواه البخاري ومسلم.

وقال بشر الحافي: من عامل الله بالصدق، استوحش من الناس.

واعلم أن لفظ الصدق قد يستعمل في معان:

أحدهما: الصدق في القول: فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه، ولا يتكلم إلا بالصدق، والصدق باللسان هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها.

وينبغى أن يحترز عن المعاريض، فإنها تجانس الكذب إلا أن تمس الحاجة إليها، وتقتضيها المصلحة في بعض الأحوال، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوة ورَّى بغيها لئلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيتهيؤوا لقتاله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس بكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيراً، أو نمى خيراً".

وينبغى أن يراعى معنى الصدق في ألفاظه التي يناجى بها ربه، كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلبه منصرفاً عن الله مشغولاً بالدنيا فهو كاذب.

الثاني: الصدق في النية والإرادة، وذلك يرجع إلى الإخلاص، فإن مازج عمله شوب من حظوظ النفس، بطل صدق النية، وصاحبه يجوز أن يكون كاذباً كما في حديث الثلاثة: العالم، والقارئ، والمجاهد. لما قال القارئ: قرأت القرآن إلى آخره، إنما كذبه في إرادته ونيته، لا في نفس القراءة، وكذلك صاحباه.

الثالث: الصدق في العزم والوفاء به.

أما الأول: فنحو أن يقول: إن آتاني الله مالاً تصدقت بجميعه، فهذه العزيمة قد تكن صادقة، وقد يكون فيها تردد.

(1/368)

وأما الثاني: فنحو أن يصدق في العزم وتسخو النفس بالوعد، لأنه لا مشقة فيه إلا إذا تحققت الحقائق، وانجلت العزيمة، وغلبت الشهوة، ولذلك قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال في آية أخرى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].

الرابع: الصدق في الأعمال، وهو أن تستوي سريرته وعلانيته، حتى لا تدل أعماله الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، ويكون الباطن بخلاف ذلك. قال مطرف: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله عز وجل: هذا عبدى حقاً.

الخامس: الصدق في مقامات الدين، وهو أعلى الدرجات، كالصدق في الخوف والرجاء والزهد والرضى والحب والتوكل، فإن هذه الأمور لها مبادئ ينطلق عليها الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق، فالصادق المحقق من نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمى صاحبه صادقاً، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. } إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

ولنضرب للخوف مثلاً فنقول: ما من عبد يؤمن بالله إلا وهو خائف من الله خوفاً يطلق عليه الاسم وهو غير بالغ إلى درجة الحقيقة، ألا تراه إذا خاف سلطاناً كيف يصفر ويرتعد خوفاً من وقوع المحذور، ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شئ من ذلك عند فعل المصيبة، ولذلك قال عامر بن عبد قيس: عجبت للجنة نام طالبها، وعجبت للنار نام هاربها.

والتحقيق في هذه الأمور عزيز جداً، فلا غاية لهذه المقامات حتى نال تمامها، ولكن لكل حظ بحسب حاله، إما ضعيف وإما قوى، فإذا قوى سمى صادقاً، وإذا علم الله من عبد صدقاً صغى له، والصادق في جميع هذه المقامات عزيز، وقد يكون للعبد صدق في بعضها دون بعض. ومن علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعاً وكراهة اطلاع الخلق على ذلك.

(1/369)

15 ـ باب في المحاسبة والمراقبة

قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8] فاقتضت هذه الآيات وما أشبهها خطر الحساب في الآخرة.

وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقبله، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته، فلما علموا أنهم لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله تعالى بالصبر والمرابطة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة، ثم المراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات، وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة، ولابد من شرح ذلك المقام.

المقام الأول: المشارطة

اعلم: أن التاجر كما يستعين بشريكه في التجارة طلباً للربح، ويشارطه ويحاسبه، كذلك العقل يحتاج إلى مشاركة النفس، ويوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط، ويرشدها إلى طريق الفلاح، ثم لا يغفل عن مراقبتها، فإنه لا يأمن خيانتها وتضييعها رأس المال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه التجارة ربحها الفردوس الأعلى، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم من تدقيقه بكثير من أرباح الدنيا، فحتم على ذي عزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها، فإن كل

(1/370)

نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها.

فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه فيقول للنفس: ما لى بضاعة إلا العمر، فإذا فني منى رأس المال وقع اليأس من التجارة، وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخر أجلى، وأنعم على به، ولو توفانى لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل فيه صالحاً، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، وأعلمي أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد ينشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيحصل له من السرور، بشاهدة تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها، وهى الساعة التي عصا الله تعالى فيها، فيحصل له من الفزع والخزى ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهى الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح، ويتحسر على خلوها، ويناله ما نال القادر على الربح الكثير إذا أهمله حتى فاته، وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه، اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك.

قال بعضهم: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ فهذه وصيته في نفسه وفي أوقاته، ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة، وهى: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، وتسليمها إلى النفس، فإنها رعايا خادمة لها في هذه التجارة المخلدة، بها يتم أعمالها، ويعملها أن أبواب جهنم سبعة على عدد هذه الأعضاء، فتعيين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، فيوصيها بحفظها عن معاصيها.

أما العين فيحفظها عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، أو إلى مسلم بعين الاحتقار، وعن كل فضول مستغنى عنه، ويشغلها بما فيه تجارتها وربحها، وهو النظر إلى ما خلقت له من عجائب صنع الله تعالى بعين الاعتبار، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء والنظر إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومطالعة كتب الحكم للاتعاظ والاستفادة.

(1/371)

وهكذا ينبغي أن يتقدم إلى كل عضو بالوصية، بما يليق به، ولا سيما اللسان والبطن، وقد ذكرنا آفات اللسان فيما تقدم، فيشغله بما خلق له، من الذكر والتذكير، وتكرار العلم والتعليم، وإرشاد عباد الله تعالى إلى طريق الله، وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك من الخير.

وأما البطن، فيكلفه ترك الشرة، واجتناب الشبهات والشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة، ويشترط على نفسه إذا خالفت شيئاً من ذلك أن يعاقبها بالمنع من شهوات البطن، ليفوتها أكثر مما نالت بشهوتها، وهكذا في جميع الأعضاء، واسقصاء ذلك يطول، وكذلك ما تخفى طاعات الأعضاء ومعاصيها.

ثم يستأنف وصيتها في وظائف العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، في النوافل التي يقدر عليها، وعلى الاستكثار منها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم إلى أن تتعود النفس ذلك، فيستغني عن المشارطة، ولكن لا يخلو كل يوم من حادثة لها حكم جديد لله تعالى عليه في ذلك حق، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا، من ولاية أو تجارة أو نحو ذلك، إذ قل أن يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضى حق الله فيها، فعليه أن يشرط نفسه الاستقامة فيها، والانقياد للحق.

وعن شداد بن أوس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على [الأماني] " (1).

وقال عمر رضى الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]

المقام الثاني: المراقبة:

إذا أوصى الإنسان نفسه، وشرط عليها ما ذكرناه، لم يبق إلا المراقبة لها وملاحظتها، وفى الحديث الصحيح في تفسير الإحسان، لما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أرد بذلك استحضار عظمة الله ومراقبته في حال العبادة.

_________

(1) ضعيف وقد تقدم.

(1/372)

قيل: دخل الشبلى على ابن أبى الحسين النوري (1) وهو قاعد ساكن، لا يتحرك من ظاهر شئ، فقال له: ممن أخذت هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر حتى لا يتحرك لها شعرة.

وينبغى أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفى العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص.

قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.

فهذه مراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها، ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو من نعمة لابد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لابد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة.

وقال وهب من منبه في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يشغل عن أربع ساعات، ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه على نفسه، وساعة يخلو بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ولا يحرم، فإن هذه الساعة عون على الساعات وإجمام للقوة.

وهذه الساعة التي هو مشغول فيها بالمطعم والمشرب، لا ينبغي أن تخلو عن عمل هو أفضل الأعمال، وهو الذكر والفكر، فإن الطعام الذي يتناوله فيه من العجائب ما لو تفكر فيه كان أفضل من كثير من أعمال الجوارح.

المقام الثالث: المحاسبة بعد العمل:

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد العمل، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.

وقال الحسن: المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه، وقال: إن المؤمن يفجؤه

_________

(1) في النسخ المخطوطة "الثوري" وهو تصحيف.

(1/373)

الشيء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، ما لى ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً إن شاء.

إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.

واعلم: أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعة يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم.

ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفى الربح، وفى الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أولاً على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفى منها ما فرط.

قيل: كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتا! ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب! كيف وفى كل يوم عشرة آلاف ذنب!! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لها ركضة إلى الفردوس الأعلى!

فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمي بكل معصية يفعلها حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي وهى مثبتة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}.

المقام الرابع: معاقبة النفس على تقصيرها:

اعلم: أن المريد إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيراً، أو فعلت شيئاً من المعاصي فلا ينبغي أن يمهلها، فإنه يسهل عليه حينئذ مفارقة الذنوب ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده.

وكما روى عن عمر رضى الله عنه: أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى

(1/374)

الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين. قال الليث: إنما فاتته الجماعة، وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين.

وحكى أن تميم الداري رضى الله عنه نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع.

ومرَّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.

فأما العقوبات بغير ذلك مما لا يحل، فيحرم عليه فعله، مثال ذلك: ما حكى أن رجلاً من بنى إسرائيل، وضع يده على فخذ امرأة، فوضعها في النار حتى شلت، وأن آخر حوّل رجله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع؟ فلما أراد أن يعيد رجله قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معى، فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح، وأن آخر نظر إلى امرأة فقلع عينيه، فهذا كله محرم، وإنما كان جائزاً في شريعتهم، وقد سلك نحو ذلك خلق من أهل ملتنا، حملهم على ذلك الجهل بالعلم، كما حكى عن غزوان الزاهد: أنه نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى نفرت.

وروينا عن بعضهم: أنه أصابته جنابة وكان البرد شديداً، وأنه وجد في نفسه توقفاً عن الغسل، فآلي ألا يغتسل إلا في مرقعته، ألا ينزعها ولا يعصرها، فكانت شديدة الكثافة تزيد على عشرين رطلاً. وقد ذكرت كثيراً من هذا الفن الصادر عن المتعبدين على الجهل في كتابي المسمى بـ "تلبيس إبليس"

المقام الخامس: المجاهدة:

وهو أنه إذا حاسب نفسه، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصية أن يعاقبها كما سبق، فإن رآها تتوانى بحكم الكسل بى شئ من الفضائل، أو ورد من الأوراد، فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها، كما ورد عن ابن عمر رضى الله عنه أنه فاتته صلاة في جماعة، فأحيا الليل كله تلك الليلة، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد، فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع.

وقال ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن

(1/375)

أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً.

ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله.

قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده؟ فعملت على ذلك اسبوعاً. وقد كان عامر بن عبد قيس يصلى كل يوم ألف ركعة. وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجداً، وكان داود الطائى يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية، وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات، وكان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم، وصلى أربعون نفساً من القدماء الفجر بوضوء العتمة، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم ينم ولم يتكلم، ولم يستند إلى حائط، ولم يمد رجله، فقال له أبو بكر الكتاني: بم قدرت على هذا؟ قال: علم صدق باطني فأعانني على ظاهري.

ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شئ لم يدركه غداً والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له في أيام حياتي، ولأبكين ما حملت الماء عيناي.

ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج في بساتين مجاهداتهم، فلينظر في كتابي المسمى بـ "صفة الصفوة" فإنه يرى من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه.

المقام السادس: في معاتبة النفس وتوبيخها:

قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته.

وقال أنس رضى الله عنه: سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.

وقال البخترى بن حارثة: دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات.

وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون: فأف لى وتف.

(1/376)

واعلم: أن أعدى عدوٍ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل الدهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدرى إلى أيتهما يصير؟! وربما اختطف في يومه أو في غده! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتى بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربى ذلك بالقعود ساعة في الحمام، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات.

وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟ فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم النار في الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنه أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه. هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها وخوفاً من سرعة فنائها؟ أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبة الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر صبابة، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي في أيام قصار لأيام طول، وأعدى الجواب للسؤل. أخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تكون خروج اضطرار إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري في هذه

(1/377)

الموعظة، فإن عدمت تأثيرها، فابكي على ما أصبت به فمستقى الدمع من بحر الرحمة.

...

16 ـ باب التفكر

قد أمر الله سبحانه بالتفكر والتدبر في كتاب العزيز، وأثنى على المتفكرين بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].

وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" (1).

قال أبو الدرداء رضى الله عنه: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم إلا عمل.

وقال بشر الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.

وقال الفريابى في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 147]، قال: أمنع قلوبهم من التفكر في أمري.

وكان داود الطائى على سطح في ليلة قمراء، فتفكر في ملكوت السموات والأرض، فوقع في دار جار له، فوثب عرياناً وبيده السيف، فلما رآه قال: يا داود، ما الذي ألقاك؟ قال: ما شعرت بذلك.

وقال يوسف بن أسباط: إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها، بل لينظر بها إلى الآخرة. وكان سفيان من شدة تفكره يبول الدم.

وقال أبو بكر الكتاني. روعة عند انتباهة من غفلة، وانقطاع عن حظ نفساني، وارتعاد من خوف قطيعة، أفضل من عبادة الثقلين.

_________

(1) أخرجه الطبرانى في "الأوسط" والبيهقى في "الشعب" وابن أبى الدنيا في "التفكير"، وأبو الشيخ في "العظمة" وفى سنده الوزاع بن نافع، قال النسائي: متروك، وقد أورد الذهبى هذا الحديث من منكراته، وانظر شرح الإحياء: 10/ 162.

(1/378)

17 ـ بيان مجارى الفكر وثمراته

واعلم: أن الفكر قد يجرى في أمر يتعلق بالدين، وقد يجرى في أمر يتعلق بغيره، وإنما عرضنا ما يتعلق بالدين، وشرح ذلك يطول. فلينظر الإنسان في أربعة أنواع: الطاعات، والمعاصي، والصفات المهلكات، والصفات المنجيات. فلا تغفل عن نفسك، ولا عن صفاتك المباعدة عن الله، والمقربة إليه.

وينبغى لكل مريد أن تكون له جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات، وجملة الصفات المنجيات، وجملة المعاصي والطاعات، ويعرض ذلك على نفسه كل يوم.

ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة، فإنه إن سلم منها سلم من غيرها، وهى: البخل، والكبر، والعجب، والرياء، والحسد، وشدة الغضب، وشره الطعام، وشره الوقاع، وحب المال، وحب الجاه.

ومن المنجيات عشرة: الندم على الذنوب، والصبر على البلاء، والرضى بالقضاء والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرجاء، والزهد في الدنيا والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، وحب الله تعالى، والخشوع.

فهذه عشرون خصلة: عشرة مذمومة، وعشرة محمودة، فمتى كفى من المذمومات واحدة خط عليها في جريدته، وترك الفكر فيها، وشكر الله تعالى على كفايته إياها. وليعلم أن ذلك لم يتم ألا بتوفيق الله تعالى وعونه، ثم يقبل على التسعة الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع. وكذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالصفات المنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها، كالتوبة والندم مثلاً، خط عليها واشتغل بالباقي، وهذا يحتاج إليه المريد المشمر.

فأما أكثر الناس من المعدودين في الصالحين، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهات، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة، والمراد، والثناء على النفس، والإفراط في موالاة الأولياء، ومعاداة الأعداء، والمداهنة في ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فإن أكثر من يعد نفسه من جوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، ومالم تطهر الجوارح من الآثام، لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتظهيره.

(1/379)

وكل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من هذه الأمور، فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكيرهم فيها. مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر من إظهار نفسه بالعلم، وطلب الشهرة، وانتشار الصيت، إما بالتدريس، أو بالوعظ. ومن فعل ذلك، فقد تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون. وربما ينتهي العلم بأهل العلم إلى أن يتغايروا كما يتغاير النساء وكل ذلك من رسوخ الصفات المهلكات في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها، وهو مغرور فيها.

ومن أحس من نفسه هذه الصفات، فالواجب عليه الانفراد والعزلة، وطلب الخمول والمدافعة للفتاوى، فقد كان الصحابة يتدافعون الفتاوى، وكل منهم يود لو أن أخاه كفاه. وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس، فإنهم قد يقولون: هذا سبب لاندراس العلم، فليقل لهم: دين الإسلام مستغن عنى، ولو مت لم ينهدم الإسلام، وأنا غير مستغن عن إصلاح قلبى، فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه، نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا وأن يوفقنا لما يرضاه عنا.

18 ـ فصل [في أن التفكر في ذات الله ممنوع منه]

قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" فالتفكر في ذاته سبحانه ممنوع منه، وذلك أن العقول تتحير في ذلك، فإنه أعظم من أن تمثله العقول بالتفكير، أو تتوهمه القلوب بالتصوير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

فأما التفكر في مخلوقات الله تعالى، فقد ورد القرآن بالحث على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ... الآيات [آل عمران: 190]. وقوله {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].

ومن آيات الله تعالى الإنسان المخلوق من نطفة، فيتفكر الإنسان في نفسه، فإن في خلقة من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى بالتدبر في نفسه، فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. وقد تقدم في كتاب الشكر الكلام على

(1/380)

بعض خلق الإنسان فليطلب هناك.

ومن آياته الجواهر المودعة في الجبال، والمعادن من الذهب والفضة والفيروزج ونحوها، وكذلك النفط والكبريت والقار وغيرها. ومن آياته البحار العظيمة العميقة المكتنفة لأقطار الأرض، التي هي قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض. ولو جمع المكشوف من الأرض، من البراري، والجبال، لكان بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وفى البحر عجائب أضعاف ما نشاهده في البر.

وانظر كيف خلق اللؤلؤ، ودورة في صدفة تحت الماء، وانظر كيف أنبت المرجان في صم الصخور تحت الماء، وكذلك ما عداه من العنبر وأصناف ما يقذفه البحر، وانظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء، وسيرها في البحار تسوقها الرياح وأعجب من ذلك الماء، فإنه حياة كل ما على الأرض من حيوان ونبات، فلو احتاج العبد إلى شربة ماء، ومنع منها لبذل جميع خزائن الدنيا في تحصيلها لو ملك ذلك، ثم إذا شربها ومنع خروجها، لبذل جميع خزائن الأرض في إخراجها، فلا يغفل العبد عن هذه النعمة.

ومن آياته الهواء وهو جسم لطيف لا يرى بالعين، ثم انظر إلى شدته وقوته، وانظر إلى عجائب الجو، وما يظهر فيه من الغيوم والرعد والبرق والمطر والثلج والبرد والشهب والصواعق، وغير ذلك من العجائب. وانظر إلى الطير تسبح بأجنحتها بالهواء كما يسبح حيوان البحر في الماء، ثم انظر إلى السماء وعظمها وكواكبها وشمسها وقمرها، وما فيها كوكب إلا ولله فيه حكمة في لونه وشكله وموضعه، وانظر إلى إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وانظر مسير الشمس، كيف اختلف في الصيف والشتاء والربيع والخريف.

وقد قيل: إن الشمس مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، وإن أصغر كوكب في السماء مثل الأرض ثمان مرات، فإذا كان هذا قدر كوكب واحد، فانظر إلى كثرة الكواكب، والى السماء التي فيها الكواكب، والى إحاطة عينك بذلك مع صغرها، والعجب منك أنك تدخل بيت غنى مزخرف مموه بالذهب، فلا ينقطع تعجبك منه، ولا تزال تذكره وأنت تنظر إلى هذا البيت العظيم، وإلى أرضه وسقفه وعجائبه وأمتعته وبدائع نقوشه، ثم لا تلتفت إلى نحوه بقلبك، ولا تتفكر في بناء خالقك، فلقد نسيت نفسك وربك، واشتغلت ببطنك وفرجك، فما مثلك في غفلتك إلا كمثل نملة تخرج

(1/381)

من بيتها الذي حفرته في حائط قصر الملك، فتلقى أختها فتتحدث معها في حديث بيتها، وكيف بنته وما جمعت فيه، ولا تذكر قصر الملك ولا من فيه. فهكذا أنت في غفلتك، فما تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك.

فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكرين، والأعمار تقصر، والعلوم تقل عن الإحاطة ببعض المخلوقات، إلا أنك كلما استكثرت من معرفة عجائب المصنوعات، كانت معرفتك بجلال الصانع أتم. فتفكر فيما أشرنا إليه ها هنا مع ما قدمناه من الإشارة في كتاب الشكر. فمن نظر في هذه الأشياء من حيث إنها فعل الله وصنعه، استفاد المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته، ومن قصر النظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض، لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب، شقي. نعوذ بالله من تأثير بعضها في بعض الجهال، ومن الركون إلى أسباب الضلال، ولا وجه للتفكر فيما لا نراه من الملائكة والجن، فلذلك عدلنا عنه إلى ما نراه والله أعلم.

...

19 ـ باب في ذكر الموت وما بعده وما يتعلق به

اعلم: أن المنهمك في الدنيا المكب في غرورها، يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإن ذكره كرهه ونفر منه، ثم الناس إما منهمك، أو تائب مبتدىء، أو عارف منتبه.

فأما المنهمك فلا يذكره، وإن ذكره فيذكره لتأسف على دنياه، ويشتغل بذمه، وهذا لا يزيده ذكر الموت من الله تعالى إلا بعداً.

وأما التائب، فإنه يكثر ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خيفة أن يختطفه قبل تمامها أو قبل إصلاح الزاد، وهو معذور في كراهة الموت. ولا يدخل بهذا تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه " فإنه إنما يخاف لقاء الله لقصور وتقصيره، فهو كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه، وإلا التحق بالمنهمك في الدنيا.

وأما العارف، فإنه يذكر الموت دائماً، لأنه موعد لقاء الحبيب، وهو لا ينسى

(1/382)

موعد لقاء حبيبه. هذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت، ويحبه ليتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين، كما قال بعضهم: حبيب جاء على فاقة.

فإذن: التائب معذور في كراهة الموت، وهذا معذور في حب الموت وتمنيه، وأعلى منهما من فوض أمره إلى الله تعالى، فصار لا يختار لنفسه موتاً ولا حياة، بل تكون الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضى، وهو الغاية والمنتهى.

وعلى كل حال، ففى ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك في الدنيا قد يستفيد بذكر الموت التجافى عن الدنيا، لأن ذكره ينغص عليه نعيمه ويكدره.

20 ـ باب ما جاء في فضل ذكر الموت

عن أبى هريرة رضى الله عنه رضى الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت".

وعن أنس رضى الله عنه: أن رجلاً ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأحسنوا عليه الثناء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كيف كان ذكر صاحبكم للموت؟ " قالوا: ما كنا نسمعه يذكر الموت. قال: "فإن صاحبكم ليس هناك" (1).

وعن ابن عمر رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: "أي المؤمنين أكيس، قال: أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس" (2).

وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عليه، وهان عليه جميع ما فيها.

وكان ابن عمر رضى الله إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وكان يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذكرون الموت والقيامة ثم يبكون، حتى كأن بين أيدهم جنازة.

_________

(1) نسبة العراقي في "تخريج الإحياء" إلى ابن أبى الدنيا في "الموت" بإسناد ضعيف.

(2) ضعيف أخرجه ابن ماجة (4295) من حديث ابن عمر، وفى سنده مجهولان.

(1/383)

وكان حامد القيصري يقول: كلنا قد أيقن الموت، وما نرى له مستعداً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، كلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً، فلا تفرحون؟ وما عسيتم تنتظرون؟! الموت، فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشر، فيا إخوتاه! سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.

وقال شميط بن عجلان: من جعل الموت نصب عينيه، لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها.

واعلم: أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له، ومن يذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل، فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت، والطريق في ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا في ذلك. وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قلبه، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى.

قال ابن مسعود رضى الله عنه: السعيد من وعظ بغيره. وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: إذا ذكر الموتى، فعد نفسك كأحدهم.

وينبغى أن يكثر دخول المقابر، ومتى سكنت نفسه إلى شىء في الدنيا، فليتفكر في الحال أنه لا بد من مفارقته، ويقصر أمله.

وقد روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.

وفى حديث آخر "إن أخوف ما أخاف على أمتي: الهوى وطول الأمل، فأما الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة" (1).

وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "أكلكم يحب أن يدخل الجنة؟ " قالوا: نعم يارسول الله؟ قال: "قصروا الأمل، وأثبتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله عز وجل حق حيائه (2) ".

_________

(1) أخرجه ابن عدى والحاكم عن جابر وسنده ضيف، وانظر شرح الإحياء 10/ 237.

(2) ضعيف رواه ابن أبى الدنيا في "قصر الأمل" عن الحسن مرسلا.

(1/384)

وعن أبى زكريا التيمى قال: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام، إذا أتى بحجر منفوش، فطلب من يقرأه، فإذا فيه: ابن آدم! لو رأيت قرب ما بقى من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وألمك أهلك وحشمك، فبان منك الوالد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة يوم الحسرة والندامة.

واعلم: أن السبب في طول الأمل شيئان:

أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل.

أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من ذكره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمنى نفسه أبدأ بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه. فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له، سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب. وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخاً، وإن صار شيخاً، قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السفرة. فلا يزال يسوف ويؤخر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخر يوماً بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته.

وأكثر صياح أهل النار من "سوف" يقولون: واحسرتاه! من "سوف". وأصل هذه الأماني كلها، حب الدنيا والأنس بها، والغفلة عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أحبب ما شئت فإنك مفارقه".

السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشر؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، والى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبى وشباب وقد يغتر بصحته، ولا يدرى أن الموت يأتى فجأة، وإن استبعد ذلك، فإن

(1/385)

المرض يأتى فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً، ولو تفكر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من صيف وشتاء وربيع وخريف وليل ونهار، ولا هو مقيد بسن مخصوص، من شاب وشيخ أو كهل أو غيره، لعظم ذلك عنده واستعد للموت.

21 ـ فصل [في تفاوت الناس في طول الأمل]

والناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتاً كثيراً، منهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم، ومنهم من لا ينقطع أمله بحال، ومنهم من هو قصير الأمل، فروى عن أبى عثمان النهدى أنه قال: بلغت ثلاثين ومائه سنه، وما من شىء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملى فإنه كما هو.

وحكى في قصر الأمل أن امرأة حبيب أبى محمد قالت: كان يقول لى- يعنى أبا محمد- إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا، واصنعي كذا وكذا، فقيل لها: أرى رؤيا؟ قالت: هكذا يقول كل يوم.

وعن إبراهيم بن سبط قال: قال لى أبو زرعة: لأقولن لك قولاً ما قلته لأحد سواك: ما خرجت من المسجد منذ عشرين سنه، فحدثتني نفسي أن أرجع إليه. وقيل لبعضهم: ألا تغسل قميصك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك.

وعن محمد بن أبى توبة قال: أقام معروف الصلاة ثم قال لى: تقدم، فقلت: إنى إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: أنت تحدث نفسك أنك تصلى صلاة أخرى؟ نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.

فهذه أحوال الزهاد في قصر الأمل، وكلما قصر الأمل، جاد العمل، لأنه يقدر أن يموت اليوم، فستعد استعداد ميت، فإذا أمسى شكر الله تعالى على السلامة، وقدر أنه يمون تلك الليلة فيبادر إلى العمل.

وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه ففى "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ".

وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم

(1/386)

خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".

وقال عمر رضى الله عنه: التؤدة في كل شىء خير، إلا ما كان من أمر الآخر.

وكان الحسن يقول: عجباً لقوم أمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، وهم قعود يلعبون.

وقال سحيم مولى بنى تميم: جلست إلى عبد الله بن عبد الله، فأوجز في صلاته، ثم أقبل على وقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر. فقلت: وما تبادر؟ قال: ملك الموت. وكان يصلى كل يوم ألف ركعة.

وكانوا يبادرون بالأعمال غاية ما يمكن، فكان ابن عمر يقوم في الليل فيتوضأ ويصلى، ثم يغفى إغفاء الطير، ثم يقوم يصلى، يفعل ذلك مراراً. وكان عمير بن هانئ يسبح كل يوم مائه ألف تسبيحه، وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.

22 ـ فصل في ذكر شدة الموت وما يستحب من الأحوال عنده

اعلم: أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب، ولا هول سوى الموت، لكان جديراً أن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، وتطول فيه فكرته. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، فانتظر أن يدخل عليه جندي يضربه خمس ضربات، لكدرت عليه عيشه ولذته، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع، وهو غافل عن ذكر ذلك، وليس لهذا سبب إلا الجهل والغرور.

اعلم: أن الموت أشد من ضرب السيف، وإنما يصيح المضروب، ويستغيث لبقاء قوته، وأما الميت عند موته، فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه، لأن الكرب قد بالغ فيه، وغلب على قلبه وعلى كل موضع منه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة. وتجذب الروح من جميع العروق، ويموت كل عضو من أعضائه تدريجاً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب

(1/387)

التوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يقبل التوبة من العبد مالم يغرغر".

وقد روى أن الملكين الموكلين بالعبد يتراءيان له عند الموت، فإن كان صالحاً أثنيا عليه، وقالا: جزاك الله خيراً، وإن كان صحبهما بشر، قالا: لا جزاك الله خيرا (1).

عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله عز وجل وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قالا: قد مات، أتأذن لنا أن تصعد إلى السماء؟ قال: فيقول الله تعالى: إن سمائي مملؤة من ملائكتي يسبحوني. فيقولون: فتأذن لنا فنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: إن أرضى مملوءة من خلقي، يسبحوني. فيقولان: فأين تقيم؟ فيقول: قوما على قبر عبدى، فسبحاني واحمداني وكبراني وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة".

وفى "الصحيحين" من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شىء أحب إليه مما أمامه، وأما صاحب النار الذي ختم له بسوء فهو يبشر بها وهو في تلك الأهوال".

وقد كان كثير من السلف يخافون سوء الخاتمة، وقد ذكر ذلك في كتاب الخوف، وهو لائق بهذا المكان، نسأل الله أن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شىء، وأن يلطف بنا، وأن يختم لنا بخير إنه جواد كريم.

وأما ما يستحب من الأحوال عند المحتضر، فأن يكون قلبه يحسن الظن بالله تعالى، ولسانه ينطق بالشهادة، والسكون من علامات اللطف، وهو أمارة على أنه قد رأى الخير، وقد روى أن روح المؤمن تخرج رشحاً. ويستحب تلقينه: لا إله إلا الله، كما جاء في الحديث الصحيح من رواية مسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله".

وينبغى للملقن أن يرفق به، ولا يلح عليه. وقد جاء في حديث آخر: "احضروا موتاكم، ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحليم العليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن إبليس عدو الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن" (2). وذكر الحديث إلى آخره.

_________

(1) أخرجه ابن أبى الدنيا عن وهيب بن الورد بلاغاً.

(2) ضعيف أخرجه أبو نعيم في "الحلية".

(1/388)

وفي الحديث الصحيح: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".

وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على رجل وهو يموت فقال: "كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال: "ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه من الذي يخاف".

والرجاء عند الموت أفضل، لأن الخوف سوط يساق به، وعند الموت يقف البصر، فينبغي أن يتلطف به، ولأن الشيطان يأتي حينئذ يسخط العبد على الله فيما يجرى عليه، ويخوفه فيما بين يديه، فحسن الظن أقوى سلاح يدفع به العدو.

وقال سليمان التيمى لابنه عند الموت: يا بني! حدثني بالرخص، لعلي ألقى الله تعالى وأنا أحسن الظن به.

23 ـ باب ذكر وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضى الله عنهم

اعلم: أن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في كل أحواله، ومعلوم أنه ليس في المخلوقين أحد أحب إلى الله تعالى منه، ولم يؤخره الله تعالى حين انقضى أجله.

وقد لقي صلى الله عليه وآله وسلم من الموت شدة، فروى البخاري في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركوة أو علبة فيه ماء، فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات".

وفى "صحيح البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه! فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم".

وروى ابن مسعود قال: اجتمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدمعت عيناه، فنعى إلينا نفسه وقال: مرحباً، حياكم الله بالسلام، حفظكم الله، ورعاكم الله، جمعكم الله، نصركم الله، وفقكم

(1/389)

الله، نفعكم الله، رفعكم الله، سلمكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم ". قلنا: يا رسول الله: متى أجلك؟ قال: " قد دنا الأجل، والمنقلب إلي الله، والى سدرة المنتهى وجنة المأوى، والفردوس الأعلى ". قلنا: يا رسول الله، ففيم نكفنك؟ قال: " في ثيابي هذه إن شئتم، أو يمنية، أو بياض " فقلنا: يا رسول الله! من يصلي عليك؟ وبكينا، فقال: " مهلاً، رحمكم الله، وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري هذا على شفير قبرى، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي عليّ خليلي وحبيبي جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت، ثم ملائكة كثيرة، ثم ادخلوا عليّ فوجاً فوجاً، فصلوا عليّ وسلموا تسليماً، ولا تؤذوني بتذكية، ولا برنة، ولا بصيحة، وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أصحابي، وعلى من تابعني على ديني إلى يوم القيامة، ألا واني أشهدكم أنى قد سلمت على كل من دخل في الإسلام" (1).

ولقد دخل عليه جبريل قبل موته بثلاثة أيام فقال: يا محمد؟ إن الله أرسلني إليك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال: "أجدنى يا جبريل مغموماً، وأجدنى مكروباً" ثم أتاه في اليوم الثاني، فأعاد الكلام، وأعاد عليه الجواب، ثم جاءه في اليوم الثالث وأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه الجواب، فإذا ملك الموت يستأذن، فقال جبريل: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: "ائذن له"، فدخل، فوقف بين يديه وقال: إن الله أرسلني إليك: وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وتفعل يا ملك الموت؟ " قال: كذلك أمرت أن أطيعك. فقال جبريل: يا أحمد! إن الله قد اشتاق إليك. فقال: "فامض لما أمرت به يا ملك الموت"، فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطني في الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا (2).

فتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستنداً إلى صدر عائشة رضى الله عنها في

_________

(1) حديث ضعيف جداً رواه ابن سعد في "الطبقات" والطبراني في "الدعاء" والواحدي في "التفسير" بسند واه جداً. انظر "شرح الإحياء" 10/ 290، 291.

(2) أخرجه الطبرانى من حديث الحسين بن على وفى سنده عبد الله بن ميمون القداح، قال أبو حاتم: متروك، وقال البخاري: ذاهب الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج بما انفرد به.

(1/390)

كساء ملبد، وإزار غليظ، وقامت فاطمة رضى الله عنها تندب وتقول: يا أبتاه! أجاب ربا دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه! من ربه ما أدناه، فلما دفن قالت: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!

وقال أبو بكر رضى الله عنه:

لما رأيت نبينا متجدلا ... ضاقت عليَّ بعرضهن الدور

وارتعت روعه مستهام والهٍ ... والعظم منى واهن مكسور

أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... وبقيت منفرداً وأنت حسير

يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيبت في جدث عليَّ صخور

24 ـ وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه

روى أبو المليح أن أبا بكر رضى الله عنه لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر رضى الله عنه فقال: إنى أوصيك بوصية، إن أنت قبلت عنى: إن لله عز وجل حقاً بالليل لا يقلبه بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقلت ذلك عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم في الدنيا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً.

ألم تر أن الله أنزل آيه الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء، ليكون العبد راغباً راهباً لا يلقى بيديه إلى التهلكه، ولا يتمنى على الله غير الحق. فإن أنت حفظت وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه ولست تعجزه.

وقيل: لما احتضر جاءت عائشة رضى الله عنها فتمثلت بهذا البيت:

(1/391)

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر (1)

فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. انظروا ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.

25 ـ وفاة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

وعن ابن عمر قال: كان رأس عمر في حجري بعد ما طعن، وكان مرضه الذي توفى فيه، فقال: ضع خدي على الأرض، فقلت: وما عليك إن كان في حجري أم على الأرض؟ وظننت أن ذلك تبرم به، فلم أفعل، فقال: ضع خدي على الأرض لا أم لك، ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربى.

وروى أنه لما طعن وحمل إلى بيته، وجاء الناس يثنون عليه، جاء رجل شباب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى من الله لك، صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وودت أن ذلك كان كفافاّ، لا لى ولا على، ثم قال: يا عبد الله بن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: عمر يقرأ عليك السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن عند صاحبيه. فمضى وسلم واستأذن عليها، ثم دخل فوجدها قاعدة تبكى، فقالت: عمر يقرأ عليك السلام، ويستأذن أن يدفن عند صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما وراءك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت. قال: الحمد لله، ما كان شىء أحب إلى من ذلك، فإذا أنا مت فاحملوني، ثم سلم، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فان أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني، فردوني إلى مقابر المسلمين.

وفى أفراد مسلم من حديث المسور بن مخرمة، أن عمر قال: والله لو أن لى طلاع (2)

_________

(1) الحشرجة: الغرغرة عند الموت وتردد النفس، والفاعل محذوف، أي: الروح: ولم يذكر لدلالة الكلام عليه، ومنه قولة تعالى و {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي. بلغت الروح الحلقوم.

(2) طلاع الشيء: ملؤه. قال أوس بن حجر يصف قوساً:

كتوم طلاع الكف لا دون ملثها ... ولا عجها عن موضع الكف أفضلا

(1/392)

الأرض ذهباً، لا فتديت به من عذاب الله قبل أن أراه.

وفى خبر آخر: والله لو أن لى ما طلعت عليه الشمس أو غربت، لا فتديت به من هول المطلع.

26 ـ وفاة عثمان بن عفان رضى الله عنه

عن نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان رضي الله عنه، قالت: لما كان اليوم الذي قتل فيه عثمان، ظل في اليوم الذي قبله صائماً، فلما كان عند إفطاره، سألهم الماء العذاب فلم يعطوه، فنام ولم يفطر، فلما كان وقت السحر أتيت جارات لى على أجاجير متصلة، فسألتهم الماء العذب، فأعطوني كوزاً من ماء، فأتيته فحركته فاستيقظ، فقلت: هذا ماء عذب، فرفع رأسه فنظر إلى الفجر، فقال: إنى قد أصبحت صائماً، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على من هذا السقف ومعه ماء عذب، فقال: "اشرب يا عثمان"! فشربت حتى رويت، ثم قال: "ازدد"، فشربت حتى نهلت، ثم قال: "إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا" قال: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.

وعن العلاء بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه فتشوا خزانته، فوجدوا فيها صندوقاً مقفلا ففتحوه، فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان، بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها نحيا، وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله تعالى.

27 ـ وفاة علي بن أبى طالب رضى الله عنه

عن الشعبي، قال: لما ضرب على رضى الله عنه تلك الضربة، قال: ما فعل بضاربي؟ قالوا: أخذناه، قال: أطعموه من طعامى، واستقوه من شرابي، فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها، ثم أوصى الحسن أن يغسله وقال: لا تغالي في الكفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

(1/393)

يقول: "لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً"، امشوا بى المشيتين لا تسرعوا بى، ولا تبطئوا، فإن كان خيراً عجلتمونى إليه، وإن كان شراً ألقيتمونى عن أكتافكم.

وروى أنه لما كانت الليلة التي أصيب فيها على رضى الله عنه أتاه ابن التياح حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهو مضطجع متثاقل، فعاد الثانية وهو كذلك، ثم عاد الثالثة فقام يمشى وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لا قيك (1)

ولا تجزع من الموت ... وإن حل بناديك

فلما بلغ الباب الصغير شد عليه عبد الرحمن بن ملجم فضربه.

28 ـ ذكر كلمات نقلت عن جماعة عند موتهم من الصحابة وغيرهم وذكر زيارة القبور ونحو ذلك

لما نزل الموت بالحسن بن على رضى الله عنهما قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرج فقال: اللهم إنى أحتسب نفسي عندك، فإني لم أصب بمثلها.

وقد ذكرنا ما تقدم من كلام الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم.

وروى أن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قال: انظروا هل أصبحنا؟ فأتى فقيل: لم تصبح، حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: لقد أصبحنا، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، ثم قال: مرحباً بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إنى كنت أخافك وأن اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار (2) ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.

وقال أبو مسلم: جئت أبا الدرداء وهو يجود بنفسه ويقول: ألا رجل يعمل لمثل

_________

(1) قال المبرد في "الكامل" ص 923 بعد إنشاده: والشعر إنما يصح بأن تحذف "اشدد" فتقول:

خيازيمك للموت ... فإن الموت لا قيك

ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما يمليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن. والحيزوم: ما اشتمل عليه الصدر، وجمعه حيازيم، ويقال للرجل: أشدد حيازيمك لهذا الأمر، أي وطن نفسك عليه.

(2) كريت النهر: حفرته.

(1/394)

مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ ثم قبض رحمه الله.

وبكى سليمان الفارسي عند موته، فقيل له، ما يبكيك؟ فقال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، وحولي هذه الأزواد. وقيل: إنا كان حوله إجانة وجفن ومطهرة.

وروى المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدرى أروحى تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشد يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني بعفوك سلماً

تعاظمي ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربى كان عفوك أعظما

وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرماً

قيل: كان أبو الدرداء رضى الله عنه يقعد إلى القبور، فقيل له ذلك، فقال أجلس إلى قوم يذكروني معادى، وإن غبت لم يغتابوني.

وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل على فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بنى أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهوام مقيلاً في أبدانهم، ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله تعالى.

وتستحب زيارة القبور، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" ومن زار قبراً فليستقبل وجه الميت، وليقرأ شيئاً من القرآن ويهديه له، ولتكن الزيارة يوم الجمعة.

وقد روى أنه لما مات عاصم الجحدرى رآه رجل من أهله في المنام بعد موته بسنتين فقال له: ألست قد مت؟ قال: بلى. قال: وأين أنت: قال عاصم: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابى، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبى بكر بن عبد الله المزني نتلاقى أخباركم، قال: قلت له: أجسامكم أم

(1/395)

أرواحكم؟ قال: هيهات ‍ بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قلت: وكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لشرف يوم الجمعة وعظمه.

وحكى عثمان بن سواد الطفاوى وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها: راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء وقالت: يا ذخرى ويا ذخيرتي ومن عليه اعتمادي في حياتي وبعد مماتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبرى. قال: فماتت، فكنت آتيها كل جمعة وأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ليلة في منامي فقلت لها: يا أماه ‍‍‍? كيف أنت؟ قالت: يا بنى ‍‍‍? إن الموت لكرب شديد، وأنا بحمد الله في برزخ محمود، يفترش فيه الريحان، ويتوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور. فقلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم، لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا فإني لأسر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، فيقال لى: يا راهبة! هذا ابنك قد أقبل، فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات.

وعن أنس بن منصور قال: كان رجل يختلف إلى الجنائز فيشهد الصلاة عليها، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، وقبل حسناتكم، ولا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال ذلك الرجل: فأمسيت ذات ليلة، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، فبينا أنا نائم إذا أنا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، إنك كنت عودتنا منك هدية. فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعوا بها. قلت: فإني أعود لذلك، فما تركتها بعد.

وقال بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامى، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لى: يا بشار ? هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمرة بمانديل الحرير. قلت: وكيف ذلك؟ قالت: هكذا دعاء الأحياء إذا دعوا للموتى واستجيب لهم، جعل ذلك الدعاء على أطباق النور، وخمر بمناديل الحرير، ثم أتى به إلى الذي دعي له من الموتى، فقيل له، هذه هدية فلان إليك.

(1/396)

29 ـ فصل [في حقيقة الموت]

والذي تدل عليه الآيات والأخبار أن حقيقة الموت، هو مفارقة الروح للجسد، وأن الروح تكون بعد ذلك باقية، إما معذبة أو منعمة، فإن الروح قد تتألم بنفسها بأنواع الحزن والغم، وتتنعم بأنواع الفرح والسرور من غير تعلق لها بالأعضاء فكل ما هو وصف للروح بنفسها، يبقى معها بعد مفارقة الجسد، وكل ما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد. ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر، ولا يبعد أن تؤخر إلى يوم البعث، والله سبحانه أعلم بما حكم به على كل عبد من عباده.

فمعنى الموت انقطاع تصرف الروح عن البدن، وخروج البدن عن أن يكون آلة لها، وسلب الإنسان عن أمواله وأهله بإزعاجه إلى عالم آخر لا يناسب هذا العالم. فإن كان له بالدنيا شئ يفرح به، ويستريح اليه، عظمت حسرته عليه بعد الموت، وإن كان لا يفرح إلا بذكر الله تعالى والأنس به، عظم نعيمه وتمت سعادته إذا خلى بينه وبين محبوبه، وقطعت عنه العوائق والشواغل، لأن جميع شواغل الدنيا شاغلة عن ذكر الله تعالى.

وينكشف للميت بالموت ما لم يكن مكشوفاً في حال الحياة، كما ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفاً له عند النوم، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وأول ما ينكشف له ما يضره وما ينفعه من حسناته وسيئاته، وقد كان ذاك مسطوراً في كتاب مطوي في سر قلبه، وكان يشغله عن الاطلاع عليه شواغل الدنيا، فلما انقطعت انكشفت له جميع أعماله، فلا ينظر إلى سيئة إلا ويتحسر عليها تحسراً يؤثر أن يخوض غمرة النار للخلاص من تلك الحسرة، وكل ذلك ينكشف له عند الموت، وهذه آلام تهجم على العاصي قبل الدفن، نسأل الله العافية.

ومما يدل على أن الروح لاتنعدم بالموت، قول تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. قال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن هذه الآية فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، وذكر تمام الحديث. وجاء في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. أخبر أنهم

(1/397)

يعذبون بعد الموت.

وفى "الصحيحين" عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة".

وقد تقدم أن الإنسان إذا انكشفت له سيئاته تحسر لها وتألم تألماً عظيماً، فأما المؤمن، فقال عبد الله بن عمر: مثل المؤمن حيث تخرج نفسه مثل رجل كان في سجن فأخرج منه، فهو يتفسح في الأرض، ويتقلب فيها. وهو صحيح، فإن المؤمن ينكشف عليه عقيب الموت من فضل الله وكرامته ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن، فيكون محبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، فيه أنواع الأشجار، فلا يسره الرجوع إلى الدنيا كما لا يسره العود إلي بطن أمه.

وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعد لتقر بذلك عينه.

30 ـ فصل في ذكر القبر

روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار" (1).

وروى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يقول القبر للميت حين يوضع فيه: ويحك يا ابن آدم! ما غرك؟! ألم تعلم أنى بيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود؟ " (2).

وروى الترمذي عن أبى سعيد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصلاه، فرأى ناساً كأنهم يكثرون، فقال: "أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى، فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا يتكلم فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود. فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً، أما إن كنت لأحب من يمشى على ظهري إلي، فإذ وليتك اليوم وصرت إلي، فسترى صنيعي بك، فيتسع له مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا

_________

(1) أخرجه الطبرانى في "الأوسط" من حديث أبى هريرة وفى سنده محمد بن أيوب بن سويد الرملي وهو ضعيف.

(2) أخرجه أبو يعلى والطبراني في "الكبير"، وفى سنده أبو بكر بن أبى مريم، وهو ضعيف كان قد سرق بيته فاختلط.

(1/398)

مرحبا ولا أهلا، أما إن كن لأبعض من يمشى على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم، وصرت إلى، فسترى صنيعي بك، قال: فيلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه"، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصابعه، فأدخل بعضها في بعض قال: " ويقيض له سبعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه، حتى يفضي به إلى الحساب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار" (1)

وقال كعب: إذا وضع الرجل الصالح في قبره، احتوشته أعماله الصالحة، الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والصدقة. وقال وتجئ ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه، فقد أطال بى القيام لله عز وجل، قال: فيأتونه من قبل رأسه، فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه فقد أطال بى الصيام، قال: فيأتونه من قبل جسده، فيقول الحج والجهاد: إليكم عنه، فقد أنصب نفسه وأتعب بدنه، وحج وجاهد لله عز وجل، لا سبيل لكم عليه، فيأتونه من قبل يديه، فتقول الصدقة، كم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وضعت في يد الله ابتغاء وجهه، فلا سبيل لكم عليه، قال: فيقال له: هنيئاً طبت حياً، وطبت ميتاً، قال: وتأتيه ملائكة الرحمة، فتفرشه فراشاً في الجنة ودثاراً من الجنة، فيفسح له في قوة مد بصره، ويؤتى بقنديل من الجنة، يستضئ بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره.

وعن أنس بن مالك أن نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله عز وجل به مقعداً في الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فيراهما جميعاً وأما الفاجر أو المنافق فقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين" أخرجاه في "الصحيحين".

_________

(1) أخرج الترمذي (2462) وفى سند عبيد الله الوصافى وهو ضعيف وكذا شيخه فيه وهو عطية العوفى لكن قوله "اكثروا ذكر هادم اللذات الموت" صحيح بشواهده.

(1/399)

وفيهما من حديث أسماء بنت أبى بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أوحى إلىّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قال قريباً من- فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله ... " وذكر باقي الحديث.

وعن ابن عباس قال: لما أخرجت جنازة سعد بن معاذ وسوينا عليها، التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ما من أحد من الناس إلا وله ضغطة في قبره، ولو كان منفلتاً منها أحد لانفلت سعد بن معاذ" وذكر باقي الحديث.

وعن عبد الله الصنعانى قال: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته بأربع ليال، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: تقبل منى الحسنات، وتجاوز عن السيئات. قلت: وما كان بعد ذلك؟ قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم، غفر لى ذنوبي وأدخلني الجنة، قلت: بم نلت الذي نلت؟ قال: بمجالس الذكر، وقولي الحق، وصدقي في الحديث، وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الفقر، قلت: منكر ونكير حق؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وسألاني: من ربك؟ وما دينك، ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب، وقلت: مثلى يسأل؟! أنا يزيد بن هارون الواسطى، كنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس، فقال أحدهما: صدق هو يزيد بن هارون، نم نومة العروس، فلا روعة عليك بعد اليوم.

وقال المروزى: رأيت أحمد بن حنبل في النوم في روضة، وعليه حلتان خضروان، وعلى رأسه تاج من النور، وإذا هو يمشى مشية لم أكن أعرفها له، فقلت يا أحمد: ما هذه المشية التي لم أكن أعهدها لك؟ فقال: هذه مشية الخدام في دار السلام. فقلت: وما هذا التاج الذي أراه على رأسك؟ فقال: إن ربى عز وجل أوقفني وحاسبني حساباً يسيراً، وكساني وحباني وقربني، وأنا أنظر إليه، وتوجني بهذا التاج وقال لى: يا أحمد هذا تاج الوقار توجتك به، كما قلت: القرآن كلامي غير مخلوق.

31 ـ فصل في أحوال الميت من وقت نفخة الصور إلى حين الاستقرار في الجنة أو النار

قد أشرنا إلى أهوال القبر، وأشد من ذلك نفخ الصور والبعث والحساب ونصب

(1/400)

الميزان والصراط، وهذه أهوال يجب الإيمان بها، وينبغى تطويل الفكر فيها، وجمهور الناس لم يتمكن من قلوبهم الإيمان بالآخرة، ولو أن الإنسان لم يشاهد توالد الحيوانات، ثم قيل له: إن صانعاً يصنع من هذه النطفة القذرة مثل هذا الآدمي المتصور العاقل المتكلم، لاشتد نفور طبعه عن التصديق بذلك، فخلفه على ما قيل من العجائب، يزيد على بعثه وإعادته. وكيف ينكر ذلك من قدرة الله تعالى وحكمته من يشاهد البداية؟ فإن كان في إيمانك ضعف، فقوة الإيمان بالنظر إلى النشأة الأولى، فإن الثانية مثلها وأسهل منها، وإن كنت قوى الإيمان بها، فأشعر قلبك تلك المخاوف والأخطار، وأكثر فيها التفكير والاعتبار، وليحثك ذلك على الجد والتشمير، وأول ما يقرع أسماع الموتى صوت إسرافيل حين ينفخ ذلك في الصور، فصور نفسك وقد قمت ذاهلاً مبهوتاً شاخصاً نحو النداء. قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].

عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كيف أنعم وصاحب الصور قد حنى جبهته، وأصغى بسمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ في الصور فينفخ؟ " قال المسلمون: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا "حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكلنا على الله" ثم انظر كيف يحشر الناس يوم القيامة، فيساقون بعد البعث حفاة عراة إلى أرض المحشر، وهى قاع ليس فيها ربوة يختفي الإنسان بفنائها.

وفى "الصحيحين" قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النَّقي".

ثم تفكر في ازدحام الناس، وقرب الشمس من رؤوسهم، وشدة العرق، مع ما في القلوب من القلق.

وفى الحديث: "إن العرق يأخذ الناس على قدر أعمالهم".

وتفكر يا مسكين في سؤال ربك لك عن أعمالك بغير واسطة، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله".

وعن أبى برزة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا

(1/401)

تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيما أفناه، وعن عمله فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه".

وعن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضى الله عنه، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن الله عز وجل يدنى المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] أخرجاه في "الصحيحين".

وفى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يضرب جسر على جهنم فأكون أول من يجوز؟ ".

وفيهما أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قالوا: يا رسول الله ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليها خطاطيف وكلاليب وحسك، يمر المؤمنين عليه كالطرف، وكالبرق الخاطف، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً".

32 ـ ذكر جهنم أعاذنا الله منها (1)

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فسمعنا وجبة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً، فالآن انتهى إلى قعرها" رواه مسلم.

وفى "الصحيحين" عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم،

_________

(1) اقرأ كتاب "التخويف من النار وحال أهل البوار" للحافظ بن رجب الحنبلي منشورات مكتبة دار البيان بدمشق.

(1/402)

قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها".

وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها".

وعن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: يلقى على أهل النار الجوع، فيعدل عندهم ما فيه من العذاب، فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصة بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فيغاثون بالحميم، ينالونه بكلاليب من حديد، فإذا دنا منهم شوى وجوههم، وإذا دخل بطونهم قطع ما في بطونهم، فيطلبون إلى خزنة جهنم، أن {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} فيجيبونهم {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49] فيقولون سلوا مالكاً: فيقولون {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فيقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيقول عز وجل {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107 - 108] فعند ذلك ييأسون من كل خير، ويأخذون في الشهيق والويل والثبور.

وتفكر في حياتها وعقاربها، ففى الحديث: "إن حياتها أمثال أعناق البخت، وعقاربها كالبغال الموكفة".

وعن الحسن: أن النار تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرة ثم يعودون كما كانوا.

واعلم: أن صفة جهنم تطول، وأيسر اليسير من ذلك ينبغي أن يكفى في التخويف، فإن كنت مؤمناً بهذا فانتبه لنفسك، وخف ما بين يديك، فإن الله لا يجمع على عبد خوفين، ولسنا نعنى بالخوف رقة النساء فتبكى ساعة ثم تترك العمل، وإنما نريد خوفاً يمنع عن المعاصي، ويحث على الطاعة، فأما خوف الحمقى الذين اقتصروا على سماع الأهوال، وأن يقولوا: استعنا بالله، نعوذ بالله، يا رب سلم، وهم مع ذلك مصرون على القبائح، والشيطان يسخر بهم كما يسخر ممن قصده سبع ضار وهو إلى جانب حصن فيقول: أعوذ بالله من هذا، وهو لا يدخل الحصن ولا يبرح مكانه.

(1/403)

33 ـ[فصل في محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم]

وكن في الدنيا محباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حريصاً على تعظيم سنته، لعله يشفع فيك في الآخرة، فإن له شفاعة يتقدم فيها على الأنبياء كلهم، ويسأل الله في أهل الكبائر من أمته فينجيهم، واستكثر من الإخوان الصالحين، فلكل مؤمن شفاعة، ولا تحملنك العزة على التواني وتسمى ذلك رجاءً، فإن من رجا شيئاً طلبه، واحترز من المظالم، فإن من كانت عليه مظالم ومات قبل ردها، فإن غرماءه يحيطون به يوم القيامة فهذا يقول ظلمني: وهذا يقول: استهزأ بى، وهذا يقول: أساء جواري، وهذا يقول غشنى، فلا خلاص لك من أيديهم، فإذا توهمت الخلاص قيل: لا ظلم اليوم.

وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يخلص المؤمنون يوم القيامة من النار، فيسحبون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة".

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".

وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".

وهذه الأحاديث كلها في الصحاح، فانظر وفقك الله إلى بعد سلامة حسناتك لدخول ما يبطلها عن الرياء والغيبة، فأن سلمت أخذها الخصوم، فتيقظ لنفسك، ولا تفرط في أوقاتك، فإن المسكين من آثر لذة متقطعة، واشترى بها عذاباً شديداً دائماً نسأل الله السلامة والتوفيق.

(1/404)

34 ـ ذكر صفة الجنة نسأل الله العظيم من فضله

عن أبى هريرة رضى الله عنه قلنا: يا رسول! حدثنا عن الجنة، وما بناؤها؟ قال: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه".

وفى حديث أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوماً وذكر الجنة: "ألا مشمر لها؟ هي ورب الكعبة ريحانة تهتز، ونور يتلألأ، ونهر مطرد، وزوجة لا تموت، في حبور ونعيم،