======
تفسير سورة المائدة الآيات من 46-50.
وَقَفَّيْنَا
عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
(49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
=========
المائدة - تفسير ابن كثير
وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ
فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ
الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
}
يقول تعالى: "وَقَفَّيْنَا" أي: أتبعنا {
عَلَى آثَارِهِمْ } يعني: أنبياء بني إسرائيل [عليه السلام] (1) { بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي: مؤمنًا بها
حاكمًا بما فيها { وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } أي: هدى إلى
الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات. { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ التَّوْرَاةِ } أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين
لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال
لبني إسرائيل: { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [آل
عمران:50]؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام
التوراة.
وقوله:
{ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } أي: وجعلنا
الإنجيل { هُدًى } يهتدى به، { وَمَوْعِظَةً } أي: وزاجرًا (2) عن ارتكاب المحارم
والمآثم { لِلْمُتَّقِينَ } أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله:
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فِيهِ } قُرئ { وَلْيَحْكُمْ } بالنصب على أن اللام لام كي، أي: وآتيناه (3)
الإنجيل [فيه هدى ونور] (4) ليحكم أهل ملته به في زمانهم. وقرئ: { وَلْيَحْكُمْ }
بالجزم اللام (5) لام الأمر، أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه،
ومما فيه البشارة ببعثة محمد [صلى الله عليه وسلم] (6) والأمر باتباعه وتصديقه إذا
وجد، كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى
تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }
الآية [المائدة: 68] وقال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
[وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ
أُولَئِكَ هُمُ] (7) الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف: 157]؛
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د: "أي: زاجرًا".
(3) في د: "أي: آتيناه".
(4) زيادة من ر، أ.
(5) في أ: "وأن اللام".
(6) زيادة من د، أ.
(7) زيادة من ر، وفي هـ: "إلى قوله".
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي
مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ
أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
ولهذا قال هاهنا: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى
الباطل، التاركون للحق. وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر السياق.
{ وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) }
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه
[عليه السلام] (1) ومدحها وأثنى عليها، وأمر (2) باتباعها حيث كانت سائغة
الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه،
شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال: { وَأَنزلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، {
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة
ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه
وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر،
الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: {
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء:107، 108] أي: إن كان ما وعدنا الله على
ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، { لَمَفْعُولا } أي: لكائنًا
لا محالة ولا بد.
وقوله: { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } قال سفيان الثوري
وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي: مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس: المهيمن: الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "وأمرنا".
وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن
كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك.
وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما
وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.
وعن الوالبي، عن ابن عباس: { وَمُهَيْمِنًا } أي:
شهيدًا. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس: { وَمُهَيْمِنًا } أي:
حاكمًا على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم
"المهيمن" يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل
الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها
(1) حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله
شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال
[تعالى] (2) { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
[الحجر:9].
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير،
وعطاء الخراساني، وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله: { وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ } يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في
المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر.
وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا
التأويل بعيد من المفهوم في (3) كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن "المهيمن" عطف على
"المصدق"، فلا يكون إلا من صفة ما كان "المصدق" صفة له. قال:
ولو كان كما قال مجاهد لقال: "وأنزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من
الكتاب مهيمنا عليه". يعني من غير عطف.
وقوله: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ }
أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم { بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ } إليك في (4) هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من
الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن
سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما
في كتابنا.
وقوله: { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } أي: آراءهم التي
اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: { وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } أي: لا تنصرف عن الحق
الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.
__________
(1) في ر، د: "وأكملها".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر: "من".
(4) في ر، أ: "من".
وقوله:
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي
إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً } قال: سبيلا.
وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق،
عن التميمي، عن ابن عباس: { وَمِنْهَاجًا } قال: وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ، عن
ابن عباس: { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } سبيلا وسنة.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة،
والضحاك، والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي؛ أنهم قالوا في قوله: { شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا } أي: سبيلا وسنة.
وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه: {
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي: سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا، هي
ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال: "شرع في كذا" أي: ابتدأ فيه. وكذا
الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما "المنهاج": فهو الطريق الواضح
السهل، والسنن: الطرائق، فتفسير قوله: { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } بالسبيل
والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث
الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت
في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشر
الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" (1) يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل
رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } الآية [النحل: 36]، وأما
الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل
في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له
تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: قوله: { لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة: هي
في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء،
ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد
والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.
وقيل:
المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا }
القرآن { مِنْكُمْ } أيتها الأمة { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي: هو لكم كلكم،
تقتدون به. وحُذف الضمير المنصوب في قوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ } أي:
جعلناه، يعني القرآن، { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي: سبيلا إلى المقاصد الصحيحة،
وسنة أي: طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا.
__________
(1) صحيح البخاري" برقم (3443).
هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد، رحمه الله،
والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول:
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } وهم أمة واحدة، ولكن هذا
خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع (1) الناس كلهم
على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على
حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده (2) حتى نسخ الجميع بما بعث به
عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم
الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ } أي: أنه تعالى شرع الشرائع
مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما
فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.
وقال عبد الله بن كثير: { فِيمَا آتَاكُمْ } يعني: من
الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة
إليها، فقال: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي
جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله.
ثم قال تعالى: { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }
أي: معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي: فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين
بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل
ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة.
وقال الضحاك: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } يعني: أمة
محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر الأول.
وقوله:
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه.
ثم قال [تعالى] (3) { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي: احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما
يُنْهُونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة. { فَإِنْ
تَوَلَّوْا } أي: عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله { فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي: فاعلم أن ذلك
كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة
التي اقتضت إضلالهم ونكالهم. { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي:
أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناؤون عنه، كما قال تعالى: { وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]. وقال تعالى: {
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
[الآية] (4) [الأنعام: 116].
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن
ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا،
وعبد الله بن صوريا، وشاس
__________
(1) في أ: "لجعل".
(2) في أ: "بعدها".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه
عن دينه! فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم،
وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة (1) فنحاكمهم إليك،
فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك، (2) ونصدقك! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأنزل الله، عز وجل، فيهم: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ } إلى قوله: { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } رواه ابن جرير، وابن أبي
حاتم.
وقوله:
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله
المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء
والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل
الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها (3) بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار
من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق (4) وهو
عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية
والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه
شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن
فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله [صلى الله عليه
وسلم] (5) فلا يحكم سواه (6) في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: { أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. { وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن
الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه (7) من
الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل
شيء.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض،
حدثنا أبو عبيدة الناجي (8) قال:
سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية
[هو] (9)
وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن
عيينة، عن ابن أبي نَجِيح قال: كان طاوس إذا سأله رجل: أفضِّل بين ولدي في النحْل؟ قرأ: {
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] } (10)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد
الوهاب بن نَجْدة الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي
حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله، عز وجل ومبتغ في
الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه". وروى البخاري، عن
أبي اليمان بإسناده (11) نحوه. (12)
__________
(1) في ر: "حكومة".
(2) في أ: "بك".
(3) في أ: "بما صنعوا".
(4) في ر، أ: "الياسق".
(5) زيادة من ر.
(6) في أ: "بسواه".
(7) في د: "بعباده".
(8) في د، أ: "الباجي".
(9) زيادة من ر، أ.
(10) زيادة من ر، د، أ.
(11) في ر، أ: "بزيادة".
(12) المعجم الكبير (10/374) وصحيح البخاري برقم (6882).
===================
المائدة - تفسير القرطبي
46- {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ
الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
47- {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ}
قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ} أي جعلنا عيسى يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا.
{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني التوراة؛ فإنه رأى التوراة حقا، ورأى
وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ.
{وَمُصَدِّقاً} نصب على الحال من عيسى. {فِيهِ هُدىً} في
موضع رفع بالابتداء. {وَنُور} عطف عليه. {وَمُصَدِّقاً} فيه وجهان؛ يجوز أن يكون
لعيسى وتعطفه على مصدقا الأول، ويجوز أن يكون حالا من
الإنجيل، ويكون التقدير: وأتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا {وَهُدىً
وَمَوْعِظَةً} عطف على {وَمُصَدِّقاً} أي هاديا وواعظا {لِلْمُتَّقِينَ} وخصهم
لأنهم المنتفعون بهما. ويجوز رفعهما على العطف على قوله: {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} .
قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي. والباقون
بالجزم على الأمر؛ فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله: {وَآتَيْنَاهُ} فلا يجوز
الوقف؛ أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه. ومن قرأه على الأمر فهو
كقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} فهو إلزام مستأنف يبتدأ به، أي ليحكم أهل
الإنجيل أي في ذلك الوقت، فأما الآن فهو منسوخ. وقيل: هذا أمر للنصارى الآن
بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به، والنسخ إنما
يتصور في الفروع لا في الأصول. قال مكي: والاختيار الجزم؛ لأن الجماعة عليه؛ ولأن
ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل. قال
النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان؛ لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا
ليعمل بما فيه، وأمر بالعمل بما فيه؛ فصحتا جميعا.
48- {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} الخطاب
لمحمد صلى الله عليه وسلم {الْكِتَاب} القرآن {بِالْحَقِّ} أي هو بالأمر الحق
{مُصَدِّقاً} حال. {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي من
جنس الكتب. {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي عاليا عليه
ومرتفعا. وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي في كثرة الثواب، على ما تقدمت
إليه الإشارة في {الفاتحة} وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له. وقد ذكرنا
ما ذكره في كتابنا في شرج الأسماء الحسنى والحمد لله. وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد.
وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق؛ ومنه قول الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب
وقال ابن عباس: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي مؤتمنا
عليه. قال سعيد بن جبير: القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب، وعن ابن عباس والحسن أيضا:
المهيمن الأمين. قال المبرد: أصله مؤتمن أبدل من الهمزة هاء؛ كما قيل في أرقت
الماء هرقت، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي. وقد صرف فقيل: هيمن يهيمن هيمنة، وهو
مهيمن بمعنى كان أمينا. الجوهري: هو من آمن غيره من الخوف؛ وأصله أأمن فهو مؤامن
بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤتمن، ثم صيرت الأولى
هاء كما قالوا: هراق الماء وأراقه؛ يقال منه: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له
حافظا، فهو مهيمن؛ عن أبى عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} بفتح الميم.
قال مجاهد: أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن.
قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} يوجب الحكم؛ فقيل: هذا نسخ للتخيير في قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقيل: ليس هذا وجوبا، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت؛ إذ لا يجب
عليا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة. وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام
فيه. وقيل: أراد فاحكم بين الخلق؛ فهذا كان واجبا عليه.
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فيه مسألتان:
الأولى-
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني لا
تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما جاءك من الحق؛ يعني لا تترك الحكم بما بين الله
تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان
الأحكام. والأهواء جمع هوى؛ ولا يجمع أهوية؛ وقد تقدم في
{البقرة}. فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه؛ وهو يدل على بطلان قول من قال: تقوم
الخمر على من أتلفها عليهم؛ لأنها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها؛ لأن
إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود؛ وقد أمرنا بخلاف ذلك. ومعنى
{عَمَّا جَاءَكَ} على ما جاءك.
{كُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} يدل
على عدم التعلق بشرائع الأولين. والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها
إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع
الله لعباده من الدين؛ وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن. والشارع الطريق الأعظم. والشرعة
أيضا الوتر، والجمع شرع وشرع وشراع جمع الجمع؛ عن أبي عبيد؛ فهو مشترك. والمنهاج
الطريق المستمر، وهو النهج والمنهج، أي البين؛ قال الراجز:
من يك ذا شك فهذا فلج ... ماء رواء وطريق نهج
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: الشريعة ابتداء الطريق؛
المنهاج الطريق المستمر. وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}
سنة وسبيلا. ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها؛ والإنجيل لأهله؛ والقرآن لأهله؛
وهذا في الشرائع والعبادات؛ والأصل التوحيد لا اختلاف فيه؛ روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد:
الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام؛ وقد نسخ به كل ما سواه.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً} أي لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق؛ فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان
قوم وكفر قوم. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} في الكلام حذف تتعلق به
لام كي؛ أي ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم؛ والابتلاء الاختبار.
قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي سارعوا إلى
الطاعات؛ وهذا يدل على أن تقديمه الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في
العبادات كلها إلا في الصلاة في أول
الوقت؛ فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم
الآية دليل عليه؛ قال الكيا. وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر، وقد
تقدم جميع هذا في {البقرة} {إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي بما اختلفتم فيه، وتزول الشكوك.
49- {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
لَفَاسِقُونَ }
قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} تقدم الكلام فيها، وأنها ناسخة للتخيير. قال ابن العربي: وهذه دعوى
عريضة؛ فإن شروط النسخ أربعة: منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا
مجهول من هاتين الآيتين؛ فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر
على حاله.
قلت: قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة
في النزول؛ فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ} إن شئت؛ لأنه قد تقدم ذكر التخيير له، فآخر الكلام حذف التخيير
منه لدلالة الأول عليه؛ لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما
شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله؛ إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بد من أن يكون
قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معطوفا على ما قبله من
قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ومن قوله: {فَإِنْ
جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فمعنى {وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم؛ فهو كله
محكم غير منسوخ، لأن الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه، فالتخيير للنبي
صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ، قاله مكي رحمه اله. {وَأَنِ احْكُمْ}
في موضع نصب عطفا على الكتاب؛ أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل اله، أي
بحكم الله الذي أنزله
إليك في كتابه. {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} {أنْ}
بدل من الهاء والميم في {وَاحْذَرْهُمْ} وهو بدل اشتمال. أو مفعول من أجله؛ أي من
أجل أن يفتنوك. وعن ابن إسحاق قال ابن عباس: اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا
وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس بن عدي وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن
دينه فإنما هو بشر؛ فأتوه فقالوا: قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود، وإن اتبعناك
لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم إليك، فأقض لنا
عليهم حتى نؤمن بك؛ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. وأصل
الفتنة الاختبار حسبما تقدم، ثم يختلف معناها؛ فقوله تعالى هنا {يَفْتِنُوكَ}
معناه يصدوك ويردوك؛ وتكون الفتنة بمعنى الشرك؛ ومنه قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ} بمعنى العبرة؛ وقوله:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وتكون
الفتنة بمعنى العبرة؛ كقوله: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
و {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما
في هذه الآية. وتكرير {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله. وفي الآية
دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: {أَنْ
يَفْتِنُوكَ} وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. وسيأتي بيان
هذا في {الأنعام} إن شاء الله تعالى.
ومعنى {عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} عن
كل ما أنزل الله إليك. والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها
ويروى "أو يرتبط" أراد كل النفوس؛ وعليه حملوا قوله تعالى:
{وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قال ابن العربي:
والصحيح أن {بَعْضٍ} على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي
كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي فإن أبوا حكمك
وأعرضوا عنه {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ} أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل، وكذلك كان. وإنما قال: "
بِبَعْضٍ" لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم. {وَإِنَّ
كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}
يعني اليهود.
50- {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى-
قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}
{أَفَحُكْمَ} نصب بـ {يَبْغُونَ} والمعنى: أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف
حكم الوضيع؛ كما تقم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء،
ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء؛ فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل
الثانية- روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس
قال: كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية { أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فكان طاوس يقول: ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض،
فإن فعل لم ينفذ وفسخ؛ وبه قال أهل الظاهر. وروي عن أحمد بن حنبل مثله، وكرهه
الثوري وابن المبارك وإسحاق؛ فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد، وأجاز ذلك مالك والثوري
والليث والشافعي وأصحاب الرأي؛ واستدلوا بفعل الصديق في نحله عائشة دون سائر ولده،
وبقوله عليه السلام: "فارجعه" وقوله: "فأشهد على هذا غيري" واحتج
الأولون بقوله عليه السلام لبشير: "ألك ولد سوى هذا" قال نعم، فقال:
"أكلهم وهبت له مثل هذا" فقال لا،
قال: "فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور"
في رواية "وإني لا أشهد إلا على حق" . قالوا: وما كان جورا وغير حق
فهو باطل لا يجوز. وقول: "أشهد على هذا غيري" ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر
عنها؛ لأنه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه؛ فلا يمكن أن يشهد أحد
من المسلمين في ذلك بوجه. وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم،
ولعله قد كاه نحل أولاده نحلا يعادل ذلك.
فإن قيل: الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا، قيل له:
الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم
والخصوص. وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق
الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محمد، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع؛ ولذلك قال صلى
الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" . قال النعمان: فرجع
أبي فرد تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله: "فارجعه"
محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ؛ كما قال عليه السلام "من عمل
عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود مفسوخ. وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في
المنع.
الثالثة- قرأ ابن وثاب والنخعي {أَفَحُكْمَ} بالرفع على
معنى يبغونه؛ فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... على ذنبا كله لم أصنع
فيمن روى "كله" بالرفع. ويجوز أن يكون
التقدير: أفحكم الجاهلية حكم يبغونه، فحذف الموصوف. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج
والأعمش "أفحكم" بنصب الحاء والكاف وفتح الميم؛ وهي راجعة إلى معنى
قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم، وإنما المراد الحكم؛ فكأنه قال: أفحكم حكم
الجاهلية يبغون. وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون
الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية؛ فيكون المراد بالحكم
الشيوع والجنس، إذ لا يراد به حاكم بعينه؛ وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في
قولهم: منعت مصر إردبها، وشبهه.
وقرأ ابن عامر {تبْغُونَ} بالتاء، الباقون بالياء.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى: لا أحد أحسن؛ فهذا
ابتداء وخبر. و {حُكْماً} نصب على البيان. لقوله {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عند
قوم يوقنون.
=======================
المائدة - تفسير الطبري
وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ
فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وقفينا على
آثارهم"، (1) أتبعنا. يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين
أسلموا من قبلك، يا محمد، فبعثناه نبيًّا مصدّقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من
قبله أنّه حق، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرضٌ واجب="وآتيناه
الإنجيل"، يقول: وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه"الإنجيل""فيه
هدى ونور" يقول: في الإنجيل"هدًى"، وهو بيان ما جهله الناس من حكم
الله في زمانه="ونور"، يقول: وضياء من عَمَى الجهالة="ومصدقًا لما
بين يديه"، يقول: أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب
الله التي كان أنزلها على كل أمة أُنزل إلى نبيِّها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم
في ذلك الكتاب، من تحليل ما حلّل، وتحريم ما حرّم=
"وهدى وموعظة"، يقول: أنزلنا الإنحيل إلى عيسى
مصدِّقا للكتب التي قبله، وبيانًا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتَّقين في زمان
عيسى،="وموعظة"، لهم=
يقول: وزجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبُّه من
الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه.
__________
(1) انظر تفسير"قفى" فيما سلف 2: 318.
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (47)
و"المتقون"، هم الذين خافوا الله وحَذِروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم،
وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله. وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل، فأغنى ذلك عن
إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عزّ ذكره : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وليحكم
أهل الإنجيل".
فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (2)
"وَلْيَحْكُمْ" بتسكين"اللام"، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل: أن يحكموا بما أنزل الله
فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك، أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ
ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنزل الله فيه=
فيكون في الكلام محذوف، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الإنْجِيلِ ) بكسر"اللام"،
من"ليحكم"، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل
فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله.
* * *
والذي نقول به في ذلك، (3) أنهما قراءتان مشهورتان
متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ.
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "فقرأ قراء الحجاز..." ،
وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "والذي يتراءى في ذلك" ، وفي
المخطوطة: "وللذي يترك [محذوفة النقط] به في ذلك" ، وأرجح أن صواب
قراءتها ما أثبت.
وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه
إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد
أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمرًا بالعمل بما فيه أنزله. (1)
فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله
على عيسى، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنزله عليه. (2) فسواءٌ قرئ على وجه الأمر
بتسكين"اللام"، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها، لاتفاق معنييهما.
* * *
وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك( وأن ليحكم )
على وجه الأمر، فذلك مما لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا، لم يكن في ذلك ما
يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من
أئمة القرأة قد قرأوا بها.
* * *
وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا، فتأويل الكلام،
إذا قرئ بكسر"اللام" من"ليحكم": وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل
فيه هدًى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين، وكيْ يحكم
أهلُ الإنجيل بما أنزلنا فيه، فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم
يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه="فأولئك هم الفاسقون"، يعني: الخارجين
عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه.
* * *
فأما إذا قرئ بتسكين"اللام"، فتأويله: وآتينا
عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا
أهله أن يحكُموا بما أنزلنا
__________
(1) في المطبوعة: "وأمر بالعمل بما فيه أهله"
، فغير ما في المخطوطة تغييرًا مفسدًا للمعنى ، مزيلا لقصد أبي جعفر من هذه الجملة
التي احتج بها في تقارب معنى القراءتين. وهذا عجب من سوء التصرف. وكذلك سيفعل في
الجملة التالية ، كما سترى في التعليق.
(2) في المطبوعة ، أسقط قوله: "أنزله عليه"
وكتب"وأمر بالعمل به أهله" ، فأخل بمقصد أبي جعفر ، كما فعل بالجملة
السالفة. انظر التعليق السالف.
فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه،
ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه، هم الفاسقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول:"الفاسقون"، في هذا الموضع
وفي غيره، هم الكاذبون.
12103 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا
بذلك="فأولئك هم الفاسقون"، قال: الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد: كل
شيء في القرآن إلا قليلا"فاسق" فهو كاذب. وقرأ قول الله:( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) [سورة الحجرات: 6]
قال:"الفاسق"، ههنا، كاذب.
* * *
وقد بينا معنى"الفسق" بشواهده فيما مضى، بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: 189 تعليق:
4 ، والمراجع هناك.
وعند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي
نقلت عنه مخطوطتنا ، وفيها ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله:
{وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه}.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم كثيرًا".
ثمّ يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي
مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ
صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: أنزلنا إليك، يا محمد،"الكتاب"،
وهو القرآن الذى أنزله عليه= ويعني بقوله:"بالحق"، بالصدق ولا كذب فيه،
ولا شك أنه من عند الله (1)
="مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول:
أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التى أنزلها إلى أنبيائه=
"ومهيمنًا عليه"، يقول: أنزلنا الكتاب الذي
أنزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله،
أمينًا عليها، حافظا لها.
* * *
وأصل"الهيمنة"، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه
وشَهِده:"قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أنهم
اختلفت عباراتهم عنه.
فقال بعضهم: معناه: شهيدًا.
ذكر من قال ذلك:
12103م -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"،
يقول: شهيدًا.
12104 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومهيمنًا عليه"، قال: شهيدًا عليه.
__________
(1) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 7: 97/9: 227.
12105 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من
الكتاب"، يقول: الكتب التي خلت قبله="ومهيمنًا عليه"، أمينًا
وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله.
* * *
12106 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، مؤتمنًا على القرآن،
وشاهدًا ومصدِّقًا= وقال ابن جريج: وقال: آخرون (1) القرآن أمين على الكتب فيما
إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمرٍ، إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا.
* * *
وقال بعضهم: معناه: أمينٌ عليه.
ذكر من قال ذلك:
12107 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن=
وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= جميعًا، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.
12108 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو
الأحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"ومهيمنًا
عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.
12109 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان
وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
12110 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل،
عن أبي إسحاق، بإسناده، عن ابن عباس، مثله.
12111 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا
إسرائيل،
__________
(1) في المطبوعة: "وقال ابن جريج وآخرون"،
والصواب من المخطوطة.
عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
12112 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن
أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
12113 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن
مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (1)
12114 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال:
والمهيمن الأمين: قال: القرآن أمين على كلِّ كتاب قبله.
12115 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني
عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب"، وهو القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل،
مصدقًا لهما="ومهيمنًا عليه"، يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من
الكتب.
12116 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن،
عن قيس، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال:
مؤتمنًا عليه.
12117 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن
زهير، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"،
قال: مؤتمنًا عليه.
__________
(1) الآثار 12107-
12113-"التميمي" و"رجل من تميم" ،
هو"أربدة التميمي" ، يروي التفسير عن ابن عباس ، رواه عنه أبو إسحق
السبيعي ، مضى برقم: 1928 ، 1929 ، ولكن كتب أخي السيد أحمد على الأثر رقم: 2095 ،
ثم كتبت أنا على الآثار من رقم:
3986- 3989 ،
أنه رجل مجهول من تميم ، ولكن الصواب أنه معروف وهو"أربدة التميمي" ،
وهو تابعي ثقة. ثم انظر الآثار الآتية من رقم: 12116- 12118.
12118 - حدثني المثنى قال، حدثنا يحيى الحماني قال،
حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. (1)
12119 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع
قال، حدثنا أبي= عن سفيان وإسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن
جبير:"ومهيمنًا عليه" قال: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب.
12120 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء
قال: سألت الحسين عن قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه
من الكتاب ومهيمنًا عليه"، قال: مصدقًا لهذه الكتب، وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة
وأنا أسمع فقال: مؤتمنًا عليه.
* * *
وقال آخرون: معنى"المهيمن"، المصدق.
ذكر من قال ذلك:
12121 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنزله الله من
توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن،
فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق.
* * *
وقال آخرون: عنى بقوله:"مصدقًا لما بين يديه من
الكتاب ومهيمنًا عليه"، نبي الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
12122 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن
__________
(1) الآثار: 12116- 12118-"التميمي" ،
و"رجل من بني تميم" ، هو"أربدة التميمي" ، انظر التعليق
السالف.
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، محمد
صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن.
12123 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، قال: محمد صلى
الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوّله مجاهد: وأنزلنا الكتاب
مصدقًا الكتبَ قبله إليك، مهيمنا عليه= فيكون قوله:"مصدقًا" حالا
من"الكتاب" وبعضًا منه، ويكون"التصديق" من
صفة"الكتاب"، و"المهيمن"
حالا من"الكاف" التي في"إليك"، وهي
كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، و"الهاء" في
قوله:"عليه"، عائدة على الكتاب.
* * *
وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ.
وذلك أنّ"المهيمن" عطفٌ على"المصدق"، فلا يكون إلا من صفة ما
كان"المصدِّق" صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد،
لقيل:"وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا
عليه" (1) = لأنه لم يتقدم من صفة"الكاف" التي في"إليك" بعدَها شيءٌ
يكون"مهيمنًا عليه" عطفًا عليه، (2) وإنما عطف به
على"المصدق"، لأنه من صفة"الكتاب" الذي من صفته"المصدق".
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومهيمنًا" بالواو
، والصواب إسقاطها ، لأنه أراد إسقاط العطف ، إذ كان"مهيمنًا" حالا
من"الكاف" في"إليك" ، غير معطوف على شيء قبله ، كما ترى في
بقية كلامه.
(2) في المطبوعة: "لأنه متقدم من صفة الكاف التي في
إليك وليس بعدها شئ..." ، فزاد"وليس" ، وليست في المخطوطة ،
وجعل"يتقدم""متقدم" ، إذ كان في المخطوطة خطأ ، فأساء الفهم ،
وأساء التصرف!! كان في المخطوطة كما أثبت إلا أنه كتب"لأنه يتقدم من صفة
الكاف" سقط من الناسخ"لم" ، فأثبتها ، واستقام الكلام على وجهه.
فإن ظن ظان أن"المصدق"= على قول مجاهد
وتأويلهِ هذا= من صفة"الكاف" التي في"إليك"، فإن
قوله:"لما بين يديه من الكتاب"، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك، وأن
يكون"المصدق" من صفة"الكاف" التي في"إليك".
لأن"الهاء" في قوله:"بين يديه"، كناية اسم غير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في
قوله"إليك". (1) ولو كان"المصدق" من صفة"الكاف"، لكان
الكلام: وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديك من الكتاب، (2) ومهيمنا عليه=
فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك. (3)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ }
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهلِ الملل
بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصّه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم، يا محمد، بين
أهل الكتاب والمشركين بما أُنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتمكوا فيه إليك،
من الحدود والجُرُوح والقَوَد والنفوس، فارجم الزاني المحصَن، واقتل النفسَ
القاتلةَ بالنفس المقتولة ظلمًا، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني
أنزلت إليك القرآن مصدِّقًا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليه رقيبًا،
يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبلَه، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود= الذين
__________
(1) في المخطوطة: "والنبي صلى الله عليه..."
بإسقاط"هو" ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "لما بين يديه" ، والصواب ما
في المطبوعة.
(3) في المخطوطة: "فيكون معنى الكلام حينئذ يكون
كذلك" ، بزيادة"يكون"
، والصواب ما
في المخطوطة ، إلا أن يكون الناسخ أسقط من الكلام شيئًا. ومع ذلك ، فالذي في
المطبوعة مستقيم.
يقولون: إن أوتيتم الجلدَ في الزاني المحصن دون الرجم،
وقتلَ الوضيع بالشريف إذا قتله، وتركَ قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم
تؤتوه فاحذروا (1) = عن الذي جاءك من عند الله من الحق، وهو كتاب الله الذي أنزله
إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترتَ الحكم
عليهم، (2) ولا تتركنَّ العمل بذلك اتباعًا منك أهواءَهم، وإيثارًا لها على الحق
الذي أنزلته إليك في كتابي، كما:-
12124 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاحكم بينهم بما
أنزل الله"، يقول: بحدود الله="ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق".
12125 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن
جابر، عن عامر، عن مسروق: أنه كان يحلف اليهوديَّ والنصراني بالله، ثم قرأ:(
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) [سورة المائدة: 49]، (3) وأنزل
الله:( أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) [سورة الأنعام: 151].
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لكل قوم منكم جعلنا
شرعةً. (4)
* * *
__________
(1) السياق: "ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود... عن
الذي جاءك من عند الله...".
(2) في المطبوعة: "فاختر الحكم" ، والصواب ما
في المخطوطة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخير في الحكم بينهم وفي ترك
الحكم ، كما سلف ص: 333.
(3) في المخطوطة: "ثم قرأ: فإن جاءوك فاحكم بينهم
بما أنزل الله" ، وصواب الاستدلال في هذه الآية من المائدة ، أما آية المائدة
الأخرى (42) ، فتلاوتها: "فإن جاءوك فاحكم بينهم
أو أعرض عنهم" ، وليس فيها الدليل الذي تطلبه في استحلافهم بالله عز وجل.
(4) انظر تفسير"كل" فيما سلف 3: 193/6: 209/8:
269.
و"الشرعة" هي"الشريعة" بعينها،
تجمع"الشرعة""شِرَعًا"، (1)
"والشريعة""شرائع". ولو
جمعت"الشرعة""شرائع"، كان صوابًا، لأن معناها
ومعنى"الشريعة" واحد، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت
فيه من شيء فهو"شريعة". ومن ذلك قيل: لشريعة الماء"شريعة"،
لأنه يُشْرع منها إلى الماء. ومنه سميت شرائع الإسلام"شرائع"، لشروع
أهله فيه. ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء:"هم شَرَعٌ"، سواءٌ.
* * *
وأما"المنهاج"، فإنّ أصله: الطريقُ البيِّن
الواضح، يقال منه:"هو طريق نَهْجٌ، وَمنهْجٌ"، بيِّنٌ، كما قال الراجز:
(2)
مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ... مَاءٌ رَوَاءٌ
وَطَرِيقٌ نَهْجُ (3)
ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا.
* * *
فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق
يؤمُّه، وسبيلا واضحًا يعمل به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "تجمع الشرعة
شراعًا" ، وهذا خطأ من الناسخ لاشك فيه ، فإن جمع"فعلة" (بكسر
فسكون) إنما يكسر على"فعل" (بكسر ففتح) ، في الصحيح وفي غيره
مثل"كسر" ، و"لحى". وقد جاء
في"فعلة""فعال" ، وهو قليل ، كجمع"لقحة"
و"لقاح" ، و"حقة" ، و"حقاق". فجائز أن
يكون"شراع" جمعًا عزيزًا للشرعة ، ولكن الأقرب في مثل ذلك أن يذكر الجمع
الذي أطبق عليه القياس.
(2) كأنه راجز من بني العنبر بن عمرو بن تميم.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 168 ، ومعجم ما استعجم:
1027 ، واللسان (روي) ، وروايتهم جميعًا:
"من يك ذا شك". ولكن هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة.
و"فلج"
(بفتح فسكون): ماءه لبني العنبر بن عمرو بن تميم ، يكثر
ذكره في شعر بني تميم ، ويمتدحون ماءه ، قال بعض الأعراب: أَلا شَرْبَةٌ مِنْ
مَاءٍ مُزْنٍ عَلَى الصَّفَا ... حَدِيثَهُ عَهْد بالسَّحَاب المُسَخَّرِ
إلَى رَصَفٍ مِنْ بَطْنِ فَلْجٍ، كأَنَّهَا ... إذَا
ذُقْتَهَا بَيُّوتَةً مَاءُ سُكَّرِ
و"ماء رواء" (بفتح الراء): الماء العذب الذي
فيه للواردين ري.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"لكل جعلنا
منكم".
فقال بعضهم: عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة، أي: أن الله
جعل لكل مِلّةٍ شريعة ومنهاجًا.
ذكر من قال ذلك:
12126 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يقول: سبيلا
وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله
فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين
الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل.
12127 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق
قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال:
الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة.
12128 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال:
الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم: شهادةُ أن لا إله إلا
الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج، فلا
يكون المقرُّ تاركًا، ولكنه مُطِيع. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه
وسلم. وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمدٍ
صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) الأثر: 12128-"عبد الله بن هاشم" ، لم
أعرف من يكون. وقد مضى في الإسنادين رقم: 7329 ، 7938 ، في مثل هذا الإسناد نفسه.
و"سيف بن عمر التميمي" ، مضى برقم: 7329 ،
7938 ، وهو ساقط الرواية. وكان في المطبوعة هنا أيضا ، كما في الإسنادين
المذكورين: "سيف بن عمرو" ، وهو خطأ محض.
أيها الناس، لكُلِّكم= أي لكل من دخل في الإسلام وأقرّ
بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيٌّ= شرعةً ومنهاجا.
ذكر من قال ذلك:
12129 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال:
سنة، ="ومنهاجًا"،
السبيل="لكلكم"، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله
له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ
من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لقوله:( وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ولو كان عنى بقوله:"لكل جعلنا
منكم"، أمة محمد، وهم أمّة واحدةٌ، لم يكن لقوله:"ولو شاء الله لجعلكم
أمة واحدة"، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة= معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك، على
ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر ما كتب على بني
إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن
مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما
فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ
مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه
دون ما في سائر الكتب غيره= وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع
الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم- في توحيد
الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه- واحدًا، فهم
مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في"الشرعة"
و"المنهاج" من التأويل، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12130- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي
قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم
شرعة ومنهاجًا" قال: سنةً وسبيلا.
12131 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل،
عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"،
قال: سنة وسبيلا.
12132 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان
وإسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
12133 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن أبي
سنان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثَّاب قال: سألت ابن عباس عن قوله:"لكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. (1)
12134 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"شرعة ومنهاجًا"، قال:
سنة وسبيلا.
12135 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن
مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، بمثله.
__________
(1) الأثر: 12133-"أبو يحيى الرازي
"أو"أبو يحيى العبدي" هو: "إسحق بن سلمان الرازي" ، ثقة.
مضى برقم: 6456.
و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان
البرجمي". روى عن أبي إسحق السبيعي ، وروى عنه إسحق بن سليمان أبو يحيى
الرازي. مضى برقم: 175 ، 11240. وكان في المطبوعة: "أبو شيبان" ، وهو خطأ صرف.
و"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن
عمر ، وابن عباس. وروى عنه أبو إسحق السبيعي. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل
الحديث صاحب قرآن". ومضى برقم: 11488.
12136 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن
أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
12137 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني
عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجًا" يعني: سبيلا وسنةً.
12138 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن
سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن يقول:"الشرعة"، السنة.
12139 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى،
عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد قال: سنة وسبيلا. (1)
12140 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شرعة ومنهاجًا"،
قال:"الشرعة"،
السنة="ومنهاجًا"، قال: السبيل.
12141 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
12142 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم
شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة.
12143 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحوضي قال، حدثنا شعبة
قال، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت رجلا من بني تميم، عن ابن عباس، بنحوه. (2)
12144 - حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل
قال،
__________
(1) الأثر: 12139-"أبو يحيى القتات الكناني" ،
مختلف في اسمه. وهو ضعيف متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 12143-"الحوضي" هو"حفص بن عمر
بن الحارث بن سخبرة النمري" أبو عمر الحوضي ، ثقة ثبت متقن. مضى برقم: 11449.
حدثنا أسباط، عن السدي:"شرعة ومنهاجًا"، يقول:
سبيلا وسنة.
12145 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السنَّة والسبيل.
12146 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة.
12147 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ
الفضل بن خالد قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سبيلا وسنةً.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ }"
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربُّكم لجعل
شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعةً ومنهاجًا غيرَ شرائع الأمم الأخر
ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدةً لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره
يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعاملَ بما
أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم من المخالف.
* * *
و"الابتلاء": هو الاختيار، وقد أبنتُ ذلك
بشواهده فيما مضى قبلُ. (1)
* * *
وقوله:"فيما آتاكم"، يعني: فيما أنزل عليكم من
الكتب، كما:-
__________
(1) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49/3:
7/7: 574 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "وقد ثبت
ذلك" ، وليس بشيء ، أخطأ الناسخ ، صوابها ما أثبت.
12148 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، ثني
حجاح، عن ابن جريج:(ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) قال عبد الله بن كثير: لا أعلمه إلا
قال، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قال:"ليبلوكم فيما آتاكم"،
ومن المخاطب بذلك؟ وقد ذكرت أنّ المعنيَّ بقوله:"لكل جعلنا منكم شرعةً
ومنهاجًا" نبيُّنا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممِهم، والذين قبل نبيّنا
صلى الله عليه وسلم على حِدَةٍ؟ (1)
قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم: فإنه
قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم. ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانًا
وضمَّت إليه غائبًا، فأرادت الخبر عنه، أن تغلِّب المخاطب، فيخرج الخبرُ عنهما على
وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره:"لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا".
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبادروا أيها الناس، إلى
الصالحات من الأعمال، والقُرَب إلى ربكم، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله
إلى
__________
(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "وقد ذكرت أن
المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا. لكل نبي من الأنبياء الذين مضوا قبله
وأممهم الذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، والمخاطب النبي وحده". غير ما في
المخطوطة ، وحذف منه وزاد فيه. و في المخطوطة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا نبيا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم ، والذين قبل
نبينا صلى الله عليه وسلم حده". وهو سياق لا يستقيم ، ورجحت أن الناسخ
أسقط"قوله" قبل الآيه ، وأسقط"على" من قوله: "على حدة". لأن مراد
أبي جعفر أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدخل في خطابه خطاب الأنبياء
الذين قبله هم وأممهم. وأما الذي في المطبوعة ، فهو تصرف جاوز حده.
نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانًا لكم وابتلاءً، ليتبين
المحسن منكم من المسيء، فيجازي جميعكم على عمله جزاءَه عند مصيركم إليه، فإن إليه
مصيركم جميعًا، فيخبر كلَّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرقَ الأخرى، فيفْصَل
بينهم بفصل القضاء، وتُبِينُ المحقَّ مجازاته إياه بجناته، (1) من المسيء بعقابه
إياه بالنار، فيتبين حينئذ كل حزب عيانًا، المحقَّ منهم من المبطل. (2)
* * *
فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا
إليه ما نحن فيه مختلفون؟
قيل: إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب
والعقاب عيانًا، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك
بالمجازاة التي لا يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال
اللبس معها على أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما
كنَّا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعًا، فتعرفون
المحقَّ حينئذ من المبطل منكم، كما:-
12149 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أبي
سنان قال: سمعت الضحاك يقول:"فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا"،
قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، البرُّ والفاجر. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ويبين المحق بمجازاته
إياه..." ، أساء قراءة المخطوطة ، فتصرف فيها.
(2) انظر تفسير"استبق" فيما سلف 3: 196=
وتفسير"الخيرات" فيما سلف 3: 196= وتفسير"المراجع" فيما سلف 6:
464= وتفسير"أنبأ" و"النبأ" فيما سلف 1: 488 ، 489/6: 259 ، 404/10: 201
(3) الأثر: 12149-"أبو سنان" هو: "سعيد
بن سنان" ، مضى قريبا برقم: 12133.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
(49)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأن احكم
بينهم بما أنزل الله"، وأنزلنا إليك، يا محمد، الكتابَ مصدقًا لما بين يديه
من الكتاب، وأنِ احكم بينهم= فـ"أن" في موضع نصب بـ"التنزيل".
* * *
ويعني بقوله:"بما أنزل الله"، بحكم الله الذي
أنزله إليك في كتابه.
* * *
وأما قوله:"ولا تتبع أهواءهم"، فإنه نهيٌ من
الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتّبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه
في قتيلهم وفاجِرَيْهم، (1) وأمرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه.
* * *
وقوله:"واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله
إليك"، يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واحذر، يا محمد،
هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك="أن يفتنوك"، فيصدُّوك عن بعض ما
أنزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتّباع أهوائهم. (2)
* * *
وقوله:"فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم
ببعض ذنوبهم"، يقول تعالى ذكره: فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك
عنك، فتركوا العمل بما حكمت به
__________
(1) قوله: "وفاجريهم" ، يعني اليهودي
واليهودية اللذان زنيا ، فرجمها صلى الله عليه وسلم.
(2) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف 10: 317 ،
تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
عليهم وقضيت فيهم (1) "فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم
ببعض ذنوبهم"، يقول: فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضى بحكمك وقد قضيت بالحقّ، إلا من
أجل أن الله يريد أن يتعجّل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم (2)
="وإن كثيرًا من الناس لفاسقون"، يقول: وإن كثيرًا من
اليهود="لفاسقون"، يقول:
لتاركُو العمل بكتاب الله، ولخارجون عن طاعته إلى
معصيته. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الروايةُ عن أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12150 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن
محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن
جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صوريا وشأس بن قيس، (4)
بعضُهم لبعضٍ: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا: يا
محمد، إنك قد عرفت أنَّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنَّا إن اتّبعناك
اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومِنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي
لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله
فيهم:"وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتِنُوك
عن بعض ما أنزل الله إليك"، إلى قوله:"لقوم يوقنون". (5)
12151 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد في قوله:"واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، قال: أن
يقولوا:"في
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 10: 336 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف 8: 514 ،
538 ، 540 ، 555.
(3) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 10: 393 ،
تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(4) في ابن هشام: "وابن صلوبا ، وعبد الله بن صوريا".
(5) الأثر: 12150- سيرة ابن هشام 2: 216 ، وهو تابع
الأثر السالف رقم: 11974.
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
التوراة كذا"، وقد بينَّا لك ما في التوراة. وقرأ(
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) [سورة المائدة: 45]، بعضُها ببعضٍ.
12152 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن
الشعبي، قال: دخل المجوسُ مع أهل الكتاب في هذه الآية:"وأن احكم بينهم بما
أنزل الله".
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا
إليك، فلم يرضوا بحكمك، (1) إذ حكمت فيهم بالقسط (2) ="حكم الجاهلية"،
يعني: أحكام عبَدة الأوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم
الذي حكمت به فيهم، وأنه الحق الذي لا يجوزُ خلافه.
ثم قال تعالى ذكره= موبِّخا لهؤلاء الذين أبوا قَبُول
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلا فعلَهم ذلك
منهم=: ومَنْ هذا الذي هو أحسن حكمًا، أيها اليهود، من الله تعالى ذكره عند من كان
يوقن بوحدانية الله، ويقرُّ بربوبيته؟ يقول تعالى ذكره: أيّ حكم أحسن من حكم الله،
إن كنتم موقنين أن لكم ربًّا، وكنتم أهل توحيدٍ وإقرار به؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير"بغى" و"ابتغى" فيما
سلف 10: 290 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "وقد حكمت" ، وفي المخطوطة:
"أو حكمت" ، وصوابها ما أثبت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد.
12153 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أفحكم الجاهلية
يبغون"، قال: يهود.
12154 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أفحكم الجاهلية يبغون"، يهود.
12155 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
شيخ، عن مجاهد:"أفحكم الجاهلية يبغون"، قال: يهود.==
تفسير سورة المائدة من الاية 51 الي 57.
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا
خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
=============
المائدة - تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ
الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى،
الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر (1) أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من
يتعاطى ذلك فقال: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] } (2)
قال (3) ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب، حدثنا محمد
-يعني ابن سعيد بن سابق-حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حَرْب، عن عِياض: أن
عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له
كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر [رضي الله عنه] (4) وقال: إن هذا لحفيظ، هل
أنت قارئ لنا كتابًا في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع [أن يدخل
المسجد] (5) فقال عمر: أجُنُبٌ هو؟ قال: لا بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي،
ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] } (6)
ثم قال الحسن بن محمد بن الصباح: حدثنا عثمان بن عمر،
أنبأنا ابن عَوْن، عن محمد بن سِيرِين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن
يكون يهوديًا أو نصرانيًا، وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
[بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
] } (7) الآية . وحدثنا (8) أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن عكرمة،
عن ابن عباس: أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: كُلْ، قال الله تعالى: { وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
وروي عن أبي الزناد، نحو ذلك.
وقوله: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }
أي: شك، وريب، ونفاق { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في
الباطن والظاهر، { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } أي: يتأولون في
مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد
عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى: { فَعَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } قال السُّدِّي: يعني فتح مكة. وقال غيره: يعني القضاء
والفصلِ { أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } قال السُّدِّي: يعني ضرب الجزية على
__________
(1) في أ: "خبر".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر: "ثم قال".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ر، أ.
(8) في أ: "ثم قال: وحدثنا".
اليهود والنصارى { فَيُصْبِحُوا } يعني: الذين والوا
اليهود والنصارى من المنافقين { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ
} من الموالاة { نَادِمِينَ } أي: على ما كان منهم، مما لم يُجْد عنهم (1) شيئًا، ولا دفع
عنهم محذورًا، بل كان عين المفسدة، فإنهم فضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا
لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم. فلما انعقدت الأسباب
الفاضحة لهم، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم
من المؤمنين، ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم؛ ولهذا قال تعالى: {
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }
وقد اختلف القراء في هذا الحرف، فقرأه الجمهور بإثبات
الواو في قوله: { وَيَقُولُ الَّذِينَ } ثم منهم من رفع { وَيَقُولُ } على
الابتداء، ومنهم من نصب عطفًا على قوله: { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } تقديره "أن يأتي" "وأن
يقول"، وقرأ أهل المدينة:
{ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } بغير واو، وكذلك هو في
مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير، قال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } حينئذ { وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر
السُّدِّي أنها نزلت في رجلين، قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب
إلى ذلك اليهودي، فآوي إليه وأتهود معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث!
وقال الآخر: وأما أنا فأذهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصر معه،
فأنزل الله [عز وجل] (2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } الآيات.
وقال عكرمة: نزلت في أبي لُبَابة بن عبد المنذر، حين
بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَة، فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟
فأشار بيده إلى حلقه، أي: إنه الذبح. رواه ابن جرير.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سَلُول، كما قال ابن
جرير:
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبيّ، عن
عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت، من بني الخزرج، إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى
الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل
أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد
الله بن أبي: "يا أبا الحُباب، ما بَخِلْتَ به من ولاية يهود على عبادة بن
الصامت فهو لك دونه". قال: قد قبلت! فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] } (3) إلى قوله: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
} (4) .
__________
(1) في أ: "عندهم".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر، أ.
(4) تفسير الطبري (10/395).
ثم قال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَيْر،
حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون
لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر! فقال مالك بن
الصيف: أغركم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنا (1)
العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يَدٌ (2) بقتالنا (3) فقال عبادة: يا رسول
الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرًا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني
أبرأ إلى الله [تعالى] (4) وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله.
فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاء يهود (5) أنا رجل لا بد لي منهم. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء (6)
يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه؟" فقال: إذا أقبلُ! قال: فأنزل الله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] } (7) إلى قوله: { وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67]. (8)
وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما
بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال:
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن
أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مَوَالي. وكانوا حلفاء
الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في
موالي. قال: فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم. "أرسلني". وغضب رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى رُئِي لوجهه ظللا ثم قال: "ويحك أرسلني". قال: لا والله لا أرسلك
حتى تحسن في مَوَالي، أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر
والأسود، تحصدهم (9) في غداة واحدة؟! إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "هُم لك." (10)
قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يَسار، عن عبادة
بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال:
لما حاربت بنو قَيْنُقَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ، وقام دونهم، ومشى (11) عبادة بن الصامت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عَوْف بن الخزرج، له من حلفهم مثل الذي
لعبد الله بن أبي، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله
صلى الله عليهوسلم من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من
حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد
الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
} إلى قوله: (12) { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة: 56] (13) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يحيى بن
زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن
__________
(1) في ر: "أصررنا" وفي أ: "أمرونا".
(2) في ر: "يدان".
(3) في أ: "أن تقاتلونا".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "ولاية يهودي".
(6) في د، أ: "ولاية يهودي".
(7) زيادة من ر، أ.
(8) تفسير الطبري (10/396).
(9) في ر: "تحصدني"، وفي أ: "ويحصرني".
(10) سيرة ابن إسحاق برقم (498) ط، المغرب.
(11) في ر: "مشى".
(12) في أ: "الآيات".
(13) سيرة ابن إسحاق برقم (499) ط، المغرب. وانظر:
السيرة النبوية لابن هشام (2/49) وتفسير الطبري (10/396، 397).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
إسحاق، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن أسامة بن زيد قال:
دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم: "قد كنت أنهاك عن حُبّ يهود". فقال عبد الله: فقد
أبغضهم أسعد بن زرارة، فمات.
وكذا رواه أبو داود، من حديث محمد بن إسحاق. (1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْغَالِبُونَ (56) }
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة
دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه (2) وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال
تعالى: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ } [محمد: 38] وقال تعالى: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [النساء:133]، وقال تعالى: { إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }
[إبراهيم:19 ، 20] أي: بممتنع ولا صعب. وقال تعالى هاهنا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
} أي: يرجع عن الحق إلى الباطل.
قال محمد بن كعب: نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن
البصري: نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر.
{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ } قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه [رضي الله عنهم] (3) رواه
ابن أبي حاتم.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت أبا بكر بن عياش يقول في
قوله (4) { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هم
أهل القادسية. وقال لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد: هم قوم من سبأ.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله
بن الأجلح، عن محمد بن عمرو، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: {
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال: ناس من أهل
اليمن، ثم من كِنْدَة، ثم من السَّكُون.
وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا معاوية -يعني
ابن حفص-عن أبي زياد الحلفاني، عن محمد بن المُنْكَدر، عن جابر بن عبد الله قال:
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال:
"هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من
السكون، ثم من
__________
(1) المسند (5/201) وسنن أبي داود برقم (3094).
(2) في ر: "منهم".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "وقال ابن عباس".
تجيب". (1) وهذا حديث غريب جدا.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا عبد
الصمد -يعني ابن عبد الوارث-حدثنا شعبة، عن سِمَاك، سمعت عياضًا يحدث عن الأشعري
قال: لما نزلت: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم قوم هذا". ورواه ابن جرير من
حديث شعبة بنحوه. (2)
وقوله تعالى: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم
متواضعًا (3) لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }
[الفتح: 29]. وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "الضحوك القتال"
فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
وقوله [تعالى]
(4) { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ } أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة
الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه
صاد، ولا يحيك فيهم لوم (5) لائم ولا عذل عاذل.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا سلام أبو المنذر، عن
محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: أمرني (6) خليلي صلى الله
عليه وسلم بسبع، أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني،
ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا
شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم،
وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش. (7)
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان
عن أبي (8) المثنى؛ أن أبا ذر قال: بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا
وواثقني سبعًا، وأشهد الله على تسعًا، أني لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو ذر:
فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل لك إلى بيعة ولك الجنة؟"
قلت: نعم، قال: وبسطت يدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط: على ألا تسأل
الناس شيئا؟ قلت: نعم قال: "ولا سوطك وإن
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3312)
"مجمع البحرين" من طريق معاوية بن حفص، عن أبي زياد إسماعيل بن زكريا،
عن محمد بن قيس الأسدي، عن محمد بن المنكدر به، وقال: "لم يروه عن محمد بن
قيس الأسدي إلا أبو زياد، ولا عنه إلا معاوية. تفرد به أبو حميد، فزاد هنا محمد بن
قيس الأسدي".
وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/95) ولم يذكر محمد بن
قيس في سنده كما هو هنا في تفسيره، وقال: سمعت أبي يقول: "هذا حديث باطل".
تنبيه:
وقع هنا أبي زياد الحلفاني وفي العلل: الخلقاني، وهو
الصواب "الخلقاني" كما في "الاستغناء في المشهورين من حملة العلم
بالكنى" لابن عبد البر (2/1199).
(2) تفسير الطبري (10/414) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف
(12/123) وابن سعد في الطبقات (4/107) والطبراني في المعجم الكبير (17/371) وأبو نعيم في
تاريخ أصبهان (1/59) من طريق شعبة به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/16):
"رجاله رجال الصحيح".
(3) في ر: "لمتواضعا".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "لومة".
(6) في د: "أخبرني".
(7) المسند (5/159).
(8) في د: "ابن".
سقط منك يعني (1) تنزل إليه فتأخذه." (2)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا جعفر، عن
المعلى القُرْدوسي، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري (3) قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو
شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يُبَاعد من رزق (4) أن يقول بحق أو يذكر (5)
بعظيم". تفرد به أحمد. (6)
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن زُبَيْد
عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري (7) قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله فيه
مَقَال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت فيّ كذا وكذا؟
فيقول: مخافة الناس. فيقول: إياي أحق أن تخاف".
ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش، عن عَمْرو بن مرة به.
(8) وروى أحمد وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طُوَالة (9) عن
نهار بن عبد الله العبدي المدني، عن أبي سعيد الخدري (10) عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى إنه ليسأله يقول له: أيْ
عبدي، رأيت منكرًا فلم تنكره؟ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته، قال: أيْ رب، وثقت بك
وخفت الناس". (11)
وثبت في الصحيح: "ما ينبغي لمؤمن أن يذل
نفسه"، قالوا: وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله؟ قال: "يتحمل من البلاء ما
لا يطيق". (12)
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي:
من اتصف بهذه الصفات، فإنما هو من فضل الله عليه، وتوفيقه له، { وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ } أي: واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه.
وقوله:
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا } أي: ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين.
__________
(1) في أ: "حتى".
(2) المسند (5/172).
(3) في د: "عن أبي سعيد مرفوعا".
(4) في ر: "لا يباعد من أجل ولا يقرب من رزق".
(5) في أ : "وأن يذكره".
(6) المسند (3/50).
(7) في ر: "عن أبي سعيد مرفوعا".
(8) المسند (3/73) وسنن ابن ماجة برقم (4008)، وقال
البوصيري في الزوائد (3/242): "هذا إسناد صحيح".
(9) في أ: "عبد الرحمن بن أبي طوالة".
(10) في ر: "عن أبي سعيد مرفوعا".
(11) المسند (3/77) وسنن ابن ماجة برقم (4017) وقال
البوصيري في الزوائد (3/244): "هذا إسناد صحيح".
(12) لم أجده أثناء البحث في الصحيحين ولعلي أتداركه
فيما بعد. وقد رواه الترمذي في السنن برقم (2254) وابن ماجة في السنن برقم (4016)
من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن عن جندب، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه
به، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان
ضعيف.
وقوله:
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ [وَهُمْ رَاكِعُونَ] } (1) أي: المؤمنون المتصفون بهذه الصفات، من إقام
الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده (2) لا شريك له، وإيتاء الزكاة
التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين.
وأما قوله
{ وَهُمْ رَاكِعُونَ } فقد توهم بعضهم أن هذه الجملة في
موضع الحال من قوله: { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا
كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك
عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن
علي بن أبي طالب: أن هذه الآية نزلت فيه: [ذلك] (3) أنه مر به سائل في حال ركوعه،
فأعطاه خاتمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي،
حدثنا أيوب بن سُوَيْد، عن عتبة بن أبي حكيم في قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } قال: هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب. (4)
وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا الفضل بن دُكَيْن أبو نعيم
الأحول، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كُهَيْل قال: تصدق علي بخاتمه وهو
راكع، فنزلت: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } .
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا
غالب بن عبيد الله، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ } الآية: نزلت في علي بن أبي طالب، تَصَّدَق وهو راكع (5)
وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه،
عن ابن عباس في قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية: نزلت
في علي بن أبي طالب.
عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.
ورواه ابن مَرْدُويه، من طريق سفيان الثوري، عن أبي
سِنان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان علي بن أبي طالب قائمًا يصلي، فمر سائل
وهو راكع، فأعطاه خاتمه، فنزلت: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }
الآية.
الضحاك لم يلق ابن عباس.
وروى ابن مَرْدُويه أيضًا عن طريق محمد بن السائب الكلبي
-وهو متروك-عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المسجد، والناس يصلون، بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فدخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أعطاك أحد شيئًا؟" قال: نعم. قال:
"من؟" قال: ذلك (6) الرجل القائم. قال: "على أي حال
أعطاكه؟" قال: وهو راكع، قال:
"وذلك علي بن أبي طالب". قال: فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وهو يقول: { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
__________
(1) زيادة من د.
(2) في ر، أ: "وهي عبادة الله وحده".
(3) زيادة من أ.
(4) ورواه الطبري في تفسيره (10/426) من طريق إسماعيل
الرملي، عن أيوب بن سويد به.
(5) تفسير الطبري (10/426).
(6) في ر: "ذاك".
وهذا إسناد لا يفرح به.
ثم رواه ابن مردويه، من حديث علي بن أبي طالب، رضي الله
عنه، نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع. وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها
وجهالة رجالها. ثم روى بسنده، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس في قوله: {
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } نزلت في المؤمنين، وعلي بن أبي طالب
أولهم.
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا عبدة، عن عبد
الملك، عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه [الآية] (1) { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } قلنا: من الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا! قلنا: بلغنا أنها نزلت في
علي بن أبي طالب! قال: عَلِيٌّ من الذين آمنوا.
وقال أسباط، عن السُّدِّي: نزلت هذه الآية في جميع
المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه.
وقال علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس: من أسلم فقد
تولى الله ورسوله والذين آمنوا. رواه ابن جرير.
وقد تقدم في الأحاديث التي أوردنا (2) أن هذه الآيات
كلها نزلت في عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، حين تبرأ من حلْف يَهُود، ورضي
بولاية الله ورسوله والمؤمنين؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: { وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْغَالِبُونَ } كما قال تعالى: { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ . لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 21 ، 22].
فكل من رضي بولاية (3) الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح
في الدنيا والآخرة [ومنصور في الدنيا والآخرة] (4) ؛ ولهذا قال [الله] (5) تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَمَنْ
يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْغَالِبُونَ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر، أ: "أوردناها".
(3) في أ: "بمولات".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
============
المائدة - تفسير القرطبي
51- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ}
فيه مسألتان:
الأولى-
قوله تعالى: {الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}
مفعولان لتتخذوا؛ وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا، وقد مضى في {آل عمران} بيان
ذلك. ثم قيل: المراد به المنافقون؛ المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون
المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين. وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عكرمة. قال السدي: نزلت
في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى.
وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبي بن سلول؛ فتبرأ عبادة رضي الله عنه
من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر. {بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} مبتدأ وخبره؛ وهو بدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم
حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
الثانية- قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ}
أي يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} بين تعالى أن حكمه كحكمهم؛ وهو يمنع
إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى
يوم القيامة في قطع المولاة؛ وقد قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} وقال تعالى في {آل عمران}: {لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى:
{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} وقد مضى القول فيه. وقيل: إن معنى {بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي في النصر {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ} شرط وجوابه؛ أي أنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت
معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم.
52- {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى
مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}
53- {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}
قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
شك ونفاق، وقد تقدم في {البقرة} والمراد ابن أبي وأصحابه {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}
أي في موالاتهم ومعاونتهم. {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي
يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميزوننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود
بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أشبه بالمعنى؛
كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الأمر؛ ويدل عليه قوله عز وجل: {فَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} ؛ وقال الشاعر:
يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا
يعني دول الدهر دائرة من قوم إلى قوم، واختلف في معنى
الفتح؛ فقيل: الفتح الفصل والحكم؛ عن قتادة وغيره. قال ابن عباس: أتى الله بالفتح
فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير. وقال أبو علي: هو فتح بلاد
المشركين على المسلمين. وقال السدي: يعني بالفتح فتح مكة. {أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ} قال السدي: هو الجزية. الحسن: إظهار أمر المنافقين المنافقين والإخبار
بأسمائهم والأمر بقتلهم. وقيل: الخصب والسعة للمسلمين. {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذ رأوا نصر الله
للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} وقرأ أهل المدينة
وأهل الشام: {يَقُولُ} بغير واو. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: {وَيَقُولَ}
بالواو والنصب عطفا على {أَنْ يَأْتِيَ} عند أكثر النحويين، التقدير: فعسى الله أن
يأتي بالفتح وأن يقول. وقيل: هو عطف على المعنى؛ لأن معنى {عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} وعسى أن يأتي الله بالفتح؛ إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي
ويقوم عمرو؛ لأنه لا يصح المعنى إذا قلت وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى
أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا. فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن؛
لأنه يصير التقدير: عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
وفيه قول ثالث: وهو أن تعطفه على الفتح؛ كما قال الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني
ويجوز أن يجعل {أَنْ يَأْتِيَ} بدلا من اسم الله جل
ذكره؛ فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وقرأ الكوفيون
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالرفع على القطع من الأول. {أَهَؤُلاءِ} إشارة إلى
المنافقين. {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} حلفوا واجتهدوا في الإيمان. {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}
أي قالوا إنهم، ويجوز {إِنَّهُمْ} نصب بـ {أَقْسَمُوا}
أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهدا أيمانهم
أنه يعينونكم على محمد. ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض؛ أي هؤلاء الذين
كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}
بطلت بنفاقهم. {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} أي خاسرين الثواب. وقيل: خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل
لهم ثمرة بعد قتل اليهود وإجلائهم.
54- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
فيه أربع مسائل:
الأولى-
قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} شرط
وجوابه {فَسَوْفَ} . وقراءة أهل المدينة والشام {مَنْ يَرْتَدِدْ} بدالين. الباقون
{مَنْ
يَرْتَدَّ} . وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم: إذ أخبر عن
ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، وأهل
الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلى
الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى،
وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة
واعترف بوجوب غيرها؛ قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي؛ فقاتل الصديق جميعهم؛ وبعث خالد
بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم؛ على ما هو مشهور من أخبارهم.
الثانية- قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} في موضع النعت. قال الحسن وقتادة وغيرهما: نزلت في
أبي بكر الصديق وأصحابه. وقال السدي: نزلت في الأنصار. وقيل: هي إشارة إلى قوم لم
يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول
الآية؛ وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع. وقيل: إنها نزلت في
الأشعريين؛ ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل
اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله
عليهوسلم ، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن؛
هذا أصح ما قيل في نزولها. والله أعلم. وروى الحاكم أبو عبدالله في "المستدرك"
بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه
الآية فقال: "هم قوم هذا" قال القشيري: فأتباع أبي الحسن من قومه؛ لأن
كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع.
الثالثة-
قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
{أَذِلَّةٍ} نعت لقوم، وكذلك {أَعِزَّةٍ} أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون
لهم؛ من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شيء. ويغلظون على
الكافرين ويعادونهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم
في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته؛ قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . ويجوز " أَذِلَّةً " بالنصب على الحال؛
أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له.
الرابعة- قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} في موضع الصفة أيضا. {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} بخلاف المنافقين
يخافون الدوائر؛ فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله
عنهم؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا
المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي
لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى
قيام الساعة. والله أعلم. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} ابتداء
وخبر {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه.
55- {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ} قال جابر بن عبدالله قال عبدالله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة
أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين
أولياء. {وَالَّذِينَ} عام في جميع المؤمنين. وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} هل هو علي بن أبي طالب؟ فقال: علي من المؤمنين؛
يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين. قال النحاس: وهذا قول بين؛ لأن {الذين} لجماعة.
وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وقال في رواية أخرى: نزلت في علي بن
أبي طالب رضي الله عنه؛ وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى:
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} هي:
المسألة الثانية- وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه
خاتم، فأشار إلى السائل بيده حتى أخذه. قال الكيا الطبري: وهذا يدل على أن العمل
القليل لا يبطل الصلاة؛ فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم
تبطل به الصلاة. وقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} يدل على أن
صدقة التطوع تسمى زكاة.؛ فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع، وهو نظير قوله تعالى:
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُضْعِفُونَ} وقد
انتظم الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض
والنفل، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.
قلت: فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم، وحمل لفظ الزكاة على
التصدق بالخاتم فيه بعد؛ لأن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة
المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة {البقرة}. وأيضا فإن قبله {يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ} ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها، والمراد صلاة
الفرض. ثم قال: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي النفل. وقيل: أفرد الركوع بالذكر تشريفا. وقيل:
المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع. وقال ابن خويز منداد
قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} تضمنت جواز العمل اليسير
في الصلاة؛ وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا؛ وقد
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة، وقد يجوز أن
يكون هذه صلاة تطوع، وذلك أنه مكروه في الفرض. ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع
حالتين؛ كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة؛ فعبر عن الصلاة بالركوع، وعن
الاعتقاد للوجوب بالفعل؛ كما تقول: المسلمون هم المصلون، ولا تريد أنهم في تلك
الحال مصلون ولا وجه المدح حال الصلاة؛ فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده.
56- {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين،
فهو من حزب الله. وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين.
{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} قال الحسن: حزب الله جند الله. وقال
غيره: أنصار الله قال الشاعر:
وكيف أضوى وبلال حزبي
أي ناصري. والمؤمنون حزب الله؛ فلا جرم غلبوا اليهود
بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية. والحزب الصنف من الناس. وأصله من النائبة من
قولهم: حزبه كذا أي نابه؛ فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها. وحزب
الرجل أصحابه. والحزب الورد؛ ومنه الحديث "فمن فاته حزبه من الليل" .
وقد حزبت القرآن. والحزب الطائفة. وتحزبوا اجتمعوا. والأحزاب: الطوائف التي تجتمع
على محاربة الأنبياء. وحزبه أمر أي أصابه.
57- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود
والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً} إلى آخر الآيات. وتقدم معنى الهزء في {البقرة}. {مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} قرأه أبو عمرو
والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار. قال الكسائي: وفي حرف أبي رحمه الله {و مِنَ
الْكُفَّارَ} ، و{مِنْ} ههنا لبيان الجنس؛ والنصب أوضح وأبين. قاله النحاس. وقيل: هو معطوف
على أقرب العاملين منه وهو قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فنهاهم الله
أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا
ولعبا. ومن نصب عطف على {الَّذِينَ}
الأول في قوله: {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ
هُزُواً وَلَعِباً - وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} أي لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء
أولياء؛ فالموصوف بالهزؤ واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير. والمنهي عن اتخاذهم
أولياء اليهود والمشركون، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزؤ واللعب. قال مكي: ولولا
اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض، لقوته في الإعراب وفي المعنى والتفسير
والقرب من المعطوف
عليه. وقيل: المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين
أولياء؛ بدليل قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} والمشركون كل كفار، لكن
يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين؛ فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين.
الثانية- قال ابن خويز منداد: هذه الآية مثل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} و {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ} تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك. وروى جابر: أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا:
نسير معك؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نستعين على أمرنا
بالمشركين" وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. وأبو حنيفة جوّز الانتصار بهم
على المشركين للمسلمين؛ وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من
السنة ذلك. والله أعلم.
================
المائدة - تفسير الطبري
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (51)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بهذه
الآية، وإن كان مأمورًا بذلك جميع المؤمنين.
فقال بعضهم: عنى بذلك عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أبي
ابن سلول، في براءة عُبَادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول
بحلف اليهود، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم= وأخبره الله
أنه إذا تولاهم وتمسَّك بحلفهم: أنه منهم في براءته من الله ورسوله كَبرَاءتهم
منهما.
ذكر من قال ذلك:
12156 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت
أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج، إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثيرٌ
عدَدُهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من وَلاية يهود،
وأتولَّى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إنّي رجل أخاف الدَّوائر، لا أبرأ من
ولاية مواليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ: يا أبا
الحباب، ما بخلتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ (1) قال:
قد قبلتُ. فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
بعضُهم أولياء بعض" إلى قوله:"فترى الذين في قلوبهم مرض".
12157 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني
عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال: لما انهزم أهلُ بدر، قال المسلمون لأوليائهم
من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوٍم مثل يوم بدر! فقال مالك بن صيف: غرَّكم أن أصبتم
رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم،
(2) لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا!
فقال عبادة: يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت
شديدةً أنفسهم، كثيًرا سلاحهم، شديدةً شَوْكتُهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله
من وَلايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ
من ولاء يهود، إنّي رجل لا بدَّ لي منهم! فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"يا أبا حُباب، أرأيت الذي نَفِست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك
دونه؟ قال: إذًا أقبلُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
اليهود والنصارى أولياء بعض أولياء بعض" إلى أن بلغ إلى قوله:"والله
يعصمك من الناس". (3)
12158 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا ابن
إسحاق قال،
__________
(1) في المخطوطة: "فهو إلى دونه" ، والصواب ما
في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "أسررنا العزيمة" ، وهو خطأ ،
والصواب من المخطوطة."أمر الحبل يمره إمرارًا" : فتله فتلاً محكمًا
قويًا. يعني: أجمعنا عزيمتنا.
(3) الأثر: 12157-"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن
سعد بن أبي وقاص الزهري" ، ضعيف متروك الحديث. مضى برقم: 5754.
حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة
بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبَّث بأمرهم
عبد الله بن أبيّ وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج، له من حلفهم مثلُ الذي لهم من عبد الله بن
أبيّ= فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من
حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتبرَّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله
ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكُفّار وَولايتهم! ففيه وفي عبد الله بن أبيّ
نزلت الآيات في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا لا تتْخذوا اليهود
والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ"، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المؤمنين كانوا
هَمُّوا حين نالهم بأحُدٍ من أعدائهم من المشركين ما نالهم= أن يأخذوا من اليهود
عِصَمًا، (2) فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أنّ من فعل ذلك منهم فهو منهم.
ذكر من قال ذلك:
12159 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال: لما كانت وقعة
أحُدٍ، اشتدّ على طائفة من الناس، وتخوَّفوا أن يُدَال عليهم الكفَّار، (3) فقال
رجل لصاحبه: أمَّا أنا فألحق بدهلك اليهوديّ، فآخذ منه أمانًا وأتهَوّد معه، (4) فإني
أخاف أن تُدال علينا اليهود. وقال الآخر: أمَّا أنا فألحق بفلانٍ النصراني ببعض
أرض
__________
(1) الأثر: 12158- سيرة ابن هشام 3: 52 ، 53.
(2) "العصم" جمع"عصمة": وهي الحبال
والعهود ، تعصمهم وتمنعهم من الضياع.
(3) "أديل عليه" (بالبناء للمجهول): أي كانت
له الدولة والغلبة.
(4) "دهلك اليهودي" لم أجد له ذكرًا فيما بين
يدي من الكتب. وأخشى أن يكون اسمه تحريف.
الشأم، فآخذ منه أمانًا وأتنصَّر معه، فأنزل الله تعالى
ذكره ينهاهما:"يا آيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياءَ
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر، في
إعلامه بني قريظة إذ رَضُوا بحكم سعدٍ: أنه الذَّبح.
ذكر من قال ذلك:
12160 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال: بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة بن عبد المنذر، من الأوس= وهو من بني عمرو بن
عوف= فبعثه إلى قريظة حين نَقَضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول، (1) أشار إلى
حلقه: الذَّبْحَ الذَّبْحَ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال:
إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا
وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، (2) وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا
وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله
وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت
في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود= ويجوز أن
تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة= ويجوز أن تكون نزلت في شأن
الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر
بنصرانيّ بالشأم= ولم
__________
(1) في المخطوطة: "أطاعوا الله بالنزول" ،
والجيد ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة ، حذف قوله: "وغيرهم".
يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله
حجة، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل
بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا
بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا
على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله:(
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ) الآية.
وأما قوله:"بعضهم أولياء بعض"، فإنه عنى بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد
واحدة على جميعهم= وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم= معرِّفًا بذلك
عباده المؤمنين: أنّ من كان لهم أو لبعضهم وليًّا، فإنما هو وليهُّم على من خالف
ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره
للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم
لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم
البراءة، وأبان قطع وَلايتهم.
(1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ولي" و"أولياء" فيما
سلف 9: 319 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يتولهم
منكم فإنه منهم"، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول:
فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى
متولً أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى
ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه، (1) ولذلك حَكَم مَنْ حكم من أهل العلم
لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم، بأحكام نصَارَى بني
إسرائيل، لموالاتهم إياهم، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم
لأنسابهم مخالفة، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا.
* * *
وفي ذلك الدلالةُ الواضحة على صحة ما نقول، من أن كل من
كان يدين بدينٍ فله حكم أهل ذلك الدين، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده.
إلا أن يكون مسلمًا من أهل ديننا انتقل إلى ملّة غيرِها، فإنه لا يُقَرُّ على ما
دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردَّته عن الإسلام ومفارقته دين الحق، إلا أن يرجع
قبل القَتْل إلى الدين الحق= (2) وفسادِ ما خالفه من قول من زعم: أنه لا يحكم بحكم
أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليًّا أو منتقلا إلى دينهم من
غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفُرْقان، ممن لم يكن منهم،
ممن خالف نسبُه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالفٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف 9: 319 ،
تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(2) قوله: "وفساد ما خالفه" ، مجرور معطوف على
قوله آنفا: "وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول".
(3) انظر ما سلف 9: 573- 587
ذكر من قال بما قلنا من التأويل.
12161 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن
الرُّؤَاسي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن
ذبائح نصارى العرب، فقرأ:"ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم". (1)
12162 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية:"يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم
منكم فإنه منهم"، أنها في الذبائح. من دخل في دين قوم فهو منهم.
12163 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد،
عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوّجوا
من نسائهم، فإن الله بقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ولو لم يكونوا
منهم إلا بالولاية لكانوا منهم.
12164 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن
زائدة، عن هشام قال: كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسًا،
وكان يتلو هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى
أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهَّم منكم فإنه منهم". (2)
12165 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن
__________
(1) الأثر: 12161-"حميد بن عبد الرحمن
الرؤاسي" ، ثقة. مضى برقم: 178 ، 886 ، 5347.
(2) الأثر: 12164-"حسين بن علي بن الوليد
الجعفي" ، مضى مرارًا ، منها: 29 ، 174
، 441 ، 4415
، 7287 ، 7499
، 11463 ، وكان في المطبوعة"حسن بن علي" ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط.
و"زائدة" ، هو: "زائدة بن قدامة الثقفي"
، مضى برقم: 29 ، 4897 ، 7287.
هارون بن إبراهيم قال: سئل ابن سيرين عن رجل يبيع دارَه
من نصارَى يتخذونها بِيعَةً، قال: فتلا هذه الآية:"لا تتَّخِذوا اليهود
والنصارى أولياء".
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لا يوفِّق
من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى= مع عداوتهم الله ورسوله
والمؤمنين= على المؤمنين، وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله
وللمؤمنين حَرْبٌ.
وقد بينا معنى"الظلم" في غير هذا الموضع، وأنه
وضع الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها عبد الله بن أبي ابن سلول.
ذكر من قال ذلك:
12166 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت
أبي، عن عطية بن سعد:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، عبد الله بن
أبي="يسارعون
فيهم"، في ولايتهم="يقولون نخشى أن تصيبنا
دائرة"، إلى آخر الآية:"فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين".
12167 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن
الصامت:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، يعني عبد الله بن أبي="يسارعون
فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، لقوله: إني أخشى دائرةً تُصِيبني! (1)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المنافقين كانوا
يُناصِحون اليهود ويغشون المؤمنين، ويقولون:"نخشى أن تكون الدائرة لليهود على
المؤمنين"! (2)
ذكر من قال ذلك:
12168 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"فترى الذين في
قلوبهم مرض يسارعون فيهم"، قال: المنافقون، في مصانعة يهود، ومناجاتهم،
واسترضاعهم أولادَهم إياهم= وقول الله تعالى ذكره:"نخشى أن تصيبنا
دائرة"، قال يقول: نخشى أن تكون الدَّائرة لليهود.
12169 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
12170 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فترى الذين في قلوبهم مرض" إلى
قوله:"نادمين"، أُناسٌ من المنافقين كانوا يوادُّون اليهود ويناصحونهم
دون المؤمنين.
12171 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال،
__________
(1) الأثر: 12167- سيرة ابن هشام 3: 53 ، مختصرًا وهو
تابع الأثر السالف رقم: 12158.
(2) في المطبوعة: "أن تكون دائرة" ، وأثبت ما
في المخطوطة.
حدثنا أسباط، عن السدي:"فترى الذين في قلوبهم
مرض"، قال: شك ="يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"،
و"الدائرة"، ظهور المشركين عليهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال:
إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهودَ والنصارى ويغشُّون
المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر= إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من
عبدة الأوثان، أو غيرهم= على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلةٌ، فيكون
بنا إليهم حاجة.
وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز
أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: فترى، يا محمد، الذين في قلوبهم
شكٌّ، (1) ومرضُ إيمانٍ بنبوّتك وتصديق ما جئتهم به من عند ربك (2) ="يسارعون
فيهم"، يعني في اليهود والنصارى= ويعني بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في
مُوالاتهم ومصانعتهم (3)
="يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، يقول هؤلاء
المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى، خوفًا من دائرة تدور
علينا من عدوّنا. (4)
* * *
ويعني بـ"الدائرة"، الدولة، كما قال الراجز:
(5)
تَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا... وَدَائِرَاتِ
الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا (6)
__________
(1) في المطبوعة: "في قلوبهم مرض وشك إيمان" ،
غير ما في المخطوطة وهو الصواب المحض. لأنه يريد: أن المرض قد دخل إيمانهم
وتصديقهم ، بعد ذكر"الشك".
(2) انظر تفسير"المرض" فيما سلف 1: 278- 281.
(3) انظر تفسير"المسارعة" فيما سلف 7: 130 ،
207 ، 418/10: 301 وما بعدها.
(4) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف ص: 1393 ،
تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(5) هو حميد الأرقط.
(6) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 169 ، ولم أجد سائر الرجز.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
يعني: أن تدول للدهر دولة، فنحتاج إلى نصرتهم إيانا،
فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو
أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين".
* * *
القول في تأويل قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فعسى الله أن
يأتي بالفتح أو أمر من عنده"، فلعل الله أن يأتي بالفتح. (1)
* * *
ثم اختلفوا في تأويل"الفتح" في هذا الموضع.
فقال بعضهم: عُنى به ههنا، القضاء.
ذكر من قال ذلك:
12172 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"فعسى الله أن يأتي بالفتح"، قال: بالقضاء.
* * *
وقال آخرون: عني به فتح مكة.
ذكر من قال ذلك:
12173 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فعسى الله أن يأتي بالفتح"، قال: فتح مكة.
* * *
و"الفتح" في، كلام العرب، هو القضاء، كما قال
قتادة، ومنه قول الله تعالى
__________
(1) انظر تفسير"عسى" فيما سلف 4: 298/8: 579.
ذكره:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ ) [سورة الأعراف: 89].
وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعدَ الله نبيه محمدًا
صلى الله عليه وسلم بقوله:"فعسى الله أن يأتي بالفتح" فتح، مكة، لأن ذلك
كان من عظيم قضاءِ الله، وفَصْل حُكمه بين أهل الإيمان والكفر، ومقرِّرًا عند أهل
الكفر والنفاق، (1) أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين. (2)
* * *
وأما قوله:"أو أمر من عنده"، فإن السدي كان يقول
في ذلك، ما:-
12174 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو أمر من عنده" قال:"الأمر"،
الجزية.
* * *
وقد يحتمل أن يكون"الأمر" الذي وعد الله نبيه
محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأتي به هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها. (3) غير
أنه أيّ ذلك كان، فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما
يسوء المنافقين ولا يسرُّهم. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنّ ذلك الأمر
إذا جاء، أصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين.
* * *
وأما قوله:"فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم
نادمين"، فإنه يعني هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى.
يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتي بأمرٍ من عنده يُديل به المؤمنين على الكافرين
من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرُّوا في
أنفسهم من مخالّة اليهود والنصارى ومودّتهم، وبغْضَة المؤمنين
ومُحَادّتهم،"نادمين"، كما:-
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويقرر" ، وكأن
الصواب ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الفتح" فيما سلف 2: 254 ،
332/9: 323 ، 324.
(3) في المخطوطة: "أن يكون إلى غيرها" ، وكأنه
خطأ من الناسخ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
12175 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين"، من موادّتهم اليهود،
ومن غِشِّهم للإسلام وأهله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ
لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ويقول
الذين آمنوا". فقرأتها قرأة أهل المدينة:( فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم
نادمين يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله ) بغير"واو".
* * *
وتأويل الكلام على هذه القراءة: فيصبح المنافقون، إذا
أتى الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، على ما أسروا في أنفسهم نادمين، يقول المؤمنون
تعجُّبًا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله:
أهؤلاء الذين أقسمُوا لنا بالله إنهم لمعنا، وهم كاذبون في أيمانهم لنا؟ وهذا
المعنى قصَد مجاهد في تأويله ذلك، الذي:-
12176 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من
عنده"، حينئذ،"يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم
إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين".
وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير"واو". (1)
وقرأ ذلك بعض البصريين:( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا )
بالواو، ونصب"يقول" عطفًا به على"فعسى الله أن يأتي بالفتح". وذكر قارئ
ذلك أنه كان يقول: إنما أريد بذلك: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى أن يقولَ الذين
آمنوا= ومحالٌ غير ذلك، لأنه لا يجوز أن يقال:"وعسى الله أن يقول الذين
آمنوا"، وكان يقول: ذلك نحو قولهم:"أكلت خبزًا ولبنًا"، كقول
الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى... مُتَقَلِّدًا
سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
* * *
فتأويل الكلام على هذه القراءة: فعسى الله أن يأتي
بالفتح المؤمنين، أو أمر من عنده يُديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم، فيصبح
المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين= وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذ:
أهؤلاء الذين أقسموا بالله كذبًا جهدَ أيمانهم إنهم لمعكم؟
* * *
وهي في مصاحف أهل العراق بالواو:( وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا )
* * *
وقرأ ذلك قرأة الكوفيين( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا )
بالواو، ورفع"يقول"، بالاستقبال والسلامة من الجوازم و النواصب.
* * *
وتأويل من قرأ ذلك كذلك: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم
يندمون، ويقول الذين آمنوا= فيبتدئ"يقول" فيرفعها.
* * *
قال أبو جعفر: وقراءتنا التي نحن
عليها"وَيَقُولُ" بإثبات"الواو" في
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 313.
(2) مضى تخريجه في 1: 140 ، 265/6: 423.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
"ويقول"، لأنها كذلك هي في مصاحِفِنا مصاحف
أهل المشرق، بالواو، وبرفع"يقول" على الابتداء.
* * *
فتأويل الكلام= إذْ كانت القراءة عندنا على ما وصفنا (1)
=: فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين، ويقولُ المؤمنون: أهؤلاء الذين
حَلَفوا لنا بالله جهد أيمانهم كَذِبًا إنهم لمعنا؟
* * *
يقول لله تعالى ذكره، مخبرًا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث
أعمالهم="حبطت أعمالهم"، يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا
باطلا لا ثواب لها ولا أجر، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرضٌ
واجب، ولا على صِحّة إيمان بالله ورسوله، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين
بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فأحبط الله أجرَها، إذ لم تكن له (2)
="فأصبحوا خاسرين"، يقول:
فأصبح هؤلاء المنافقون، عند مجيء أمر الله بإدالة
المؤمنين على أهل الكفر، قد وُكِسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم،
وهَلَكوا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله
وبرسوله:"يا أيها الذين آمنوا"، أي: صدّقوا لله ورسوله، وأقرُّوا بما
جاءهم به نبيُّهم محمد صلى الله عليه وسلم="من يرتد منكم عن دينه"،
يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ كان القراءة"
، والجيد ما أثبت.
(2) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 9: 592 ، تعليق:
1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"خسر" فيما سلف ص: 224 ، تعليق:
1 ، والمراجع هناك.
هو عليه اليوم، فيبدِّله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في
اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، (1) فلن يضر الله شيئا، وسيأتي
الله بقوم يحبهم ويحبونه، يقول: فسوف يجيء الله بدلا منهم، المؤمنين الذين لم
يبدِّلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا، بقومٍ خير من الذين ارتدُّوا وابدَّلوا دينهم،
يحبهم الله ويحبون الله. (2)
وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدُّ
بعد وفاةِ نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعدُه من وعدَ من المؤمنين ما
وعدَه في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه، ولا يرتدّ.
فلما قَبَض الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ارتدّ أقوام من أهل الوبَرِ، وبعضُ
أهل المَدَر، فأبدل الله المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين
بوعده، وأنفذ فيمن ارتدَّ منهم وعيدَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12177 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد
الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا،
وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ: وما
هي، أيها الأمير؟ قال: قول الله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن
دينه" حتى بلغ"ولا يخافون لومة لائم". فقال محمد: أيها الأمير،
إنما عنى الله بالذين آمنوا، الولاةَ من قريش، من يرتدَّ عن الحق. (3)
__________
(1) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف ص: 170 ،
تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(2) سياق هذه العبارة: "فسوف يجي الله...
المؤمنين... بقوم...".
(3) الأثر: 12177-"عبد الله بن عياش بن عباس
القتباني" ، ليس بالمتين ، وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو صخر" هو"حميد بن زياد الخراط"
، مضى مرارًا ، منها برقم: 4280 ، 4325 ، 5386 ، 8391 ، 11867 ، 11891.
ثم انظر الأثر التالي برقم: 12199.
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم
المؤمنين، وأبدل المؤمنين مكانَ من ارتدَّ منهم.
فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل
الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه.
ذكر من قال ذلك:
12178 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا حفص بن غياث، عن
الفضل بن دلهم، عن الحسن في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه. (1)
12179 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن
دلهم، عن الحسن، مثله.
12180 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن
جويبر، عن سهل، عن الحسن في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"،
قال: أبو بكر وأصحابه.
12181 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن أبي
موسى قال: قرأ الحسن:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هي
والله لأبي بكر وأصحابه. (2)
12182 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا أحمد
بن بشير، عن هشام،
__________
(1) الأثر: 12178-"الفضل بن دلهم الواسطي
القصاب". مختلف في أمره. مضى برقم: 4928.
(2) الأثر: 12181-"حسين بن علي بن الوليد
الجعفي" ، مضى قريبًا: 12164.
و"أبو موسى" ، هو: "إسرائيل بن موسى
البصري" ، نزيل الهند. روى عن الحسن البصري. ثقة لا بأس به. مترجم في التهذيب.
عن الحسن في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه"، قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه. (1)
12183 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا
عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا
يخافون لومة لائم"، قال: هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتدَّ من العرب عن
الإسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى الإسلام.
12184 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه"، إلى قوله:"والله واسع عليم"، أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون من الناس، فلما
قبض الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ارتدّ عامة العرب عن الإسلام= إلا
ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس= قالوا: نصلي ولا
نزكِّي، والله لا تُغصب أموالنا! (2) فكُلِّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد
فُقِّهوا لهذا أعطوها= أو: أدَّوها= (3) فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله
بينه، ولو منعوا عِقالا مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم عليه! (4)
__________
(1) الأثر: 12182-"نصر بن عبد الرحمن الأزدي"
، هكذا جاء هنا أيضًا في المخطوطة والمطبوعة: "الأودي" ، وقد سلف أن
تكلم عليه أخي السيد أحمد ، وصححه"الأزدي" كما أثبته هنا ، ولكني في شك
من تصحيح ذلك كذلك ، لكثرة إثباته في التفسير في كل مكان"الأودي" انظر
ما سلف: 423 ، 875 ، 2859 ، 8783.
و"أحمد بن بشير القرشي المخزومي" ، أبو بكر
الكوفي. مضى برقم: 7819.
و"هشام" هو: "هشام بن عروة بن الزبير بن
العوام" ، مضى برقم: 2889 ، 8461.
(2) القائلون: "نصلي ولا نزكي" ، هم الذين
ارتدور من عامة العرب.
(3) في المطبوعة: "أعطوها أو زادوها" ، وهو
تخليط فاحش ، وصوابه من المخطوطة وقوله: "أو: أدوها" ، كأنه قال: روى
بدل"أعطوها" ، "أدوها". و"الهاء" فيهما راجعة
إلى"الزكاة" التي منعوها.
(4) "العقال" (بكسر العين): زكاة عام من الإبل
والغنم. يقال: "أخذ منهم عقال هذا العام" ، أي زكاته وصدقته. وقد فسره
آخرون بأنه الحبل الذي كان تعقل به الفريضة التي كانت تؤخذ في الصدقة. وذلك أنه كان على
صاحب الإبل أن يؤدي مع كل فريضة عقالا تعقل به ، و"رواء" أي: حبلا. ويروي الخبر"لو
منعوني عناقًا". و"العناق": الأنثى من أولاد المعز ، إذا أتت عليها
سنة.
فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدّوا عن
الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون =وهي الزكاة= صَغرة أقمياء.
(1) فأتته وفود العرب، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب مُجْلية. فاختاروا الخطة
المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في
الجنة، (2) وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم
من مال فهو لهم حلال.
12185 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي
الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال ابن جريج: ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر.
12186 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن هشام
__________
(1) "صغرة" جمع"صاغر": وهو الراضي
بالذل والضيم. و"أقمياء"جمع"قمئ": وهو الذليل الضارع
المتضائل. والذي في كتب اللغة من جمع"قمئ""قماء" (بكسر القاف)
و"قماء" (بضمها). وقد مر في الأثر رقم: 4221"قمأة" في
المخطوطة ، وانظر التعليق عليه هناك. و"أقمياء" جمع عزيز هنا ،
فإن"فعيلا" الصفة ، يجمع قياسا على"أفعلاء" ، إذا كان مضاعفًا ،
مثل"شديد" و"أشداء" ، وكذلك إذا كان ناقصا واويًا أو يائيًا ،
نحو"غني" و"أغنياء" ، و"شقي" و"أشقياء". أما الصحيح
، فقليل جمعه على"أفعلاء" ، مثل"صديق" و"أصدقاء".
فإذا صحت رواية"أقمياء" في هذا الخبر ، فهو صحيح في العربية إن شاء الله
، لهذه العلة ولغيرها أيضا.
(2) في المطبوعة: "أن يستعدوا أن قتلاهم في النار" ، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة ، ولم
أجد لها تحريفًا أقرب مما أثبت ، استظهرته من الخبر الذي رواه الشعبي ، عن ابن
مسعود وهو: قوله: "فوالله ما رضى لهم إلا بالخطة المخزية ، أو الحرب المجلية.
فأما الخطة المخزية فأن أقروا بأن من قتل منهم في النار ، وأن ما أخذوا من أموالنا
مردود علينا. وأما الحرب المجلية ، فأن يخرجوا من ديارهم" (فتوح البلدان للبلاذري:
101).
قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن أبي
أيوب، عن علي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه"، قال:
عَلِم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحَشْو الذي فيهم من المنافقين ومن في
علمه أن يرتدُّوا، (1) قال:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف
يأتي الله"، المرتدَّة في دورهم (2) ="بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي
بكر وأصحابه. (3)
* * *
وقال آخرون: يعني بذلك قومًا من أهل اليمن. وقال بعض من
قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس. (4)
ذكر من قال ذلك:
12188 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر
قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري قال: لما نزلت هذه
الآية،"يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه"،
__________
(1) في المطبوعة: "وأوقع معنى السوء" ، وأثبت
ما في المخطوطة ، وأنا في شك من العبارة كلها ، وإن كان لها وجه ومعنى.
(2) في المطبوعة: "المرتدة عن دينهم" ، وفي
المخطوطة: "في دينهم" ، والصواب ما أثبته من الأثر التالي رقم: 12201.
(3) الأثر: 12186- في المطبوعة: "سيف بن عمرو"
، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت من المخطوطة. وقد مضى مثل هذا الأثر برقم: 12128
وفيه"عبد الله بن هشام". وقد ذكرت هنالك أني لم أعرفه. وسقط من الترقيم؛
رقم: 12187 سهوًا.
(4) عن هذا الموضع ، انتهى جزء من تقسيم قديم ، وفي
المخطوطة ما نصه:
"يتلوه: ذكر من قال ذلك.
وصلى الله على محمد".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّرْ برحمتك".
قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى
بشيء كان معه، فقال: هم قومُ هذا!
12189 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال،
حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عياضًا يحدّث عن أبي موسى: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"،
قال: يعني قوم أبي موسى.
12190 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن
إدريس، عن شعبة = قال أبو السائب: قال أصحابنا: هو:"عن سماك بن حرب"،
وأنا لا أحفظ"سماكًا" = عن عياض الأشعريّ، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: هم قوم هذا يعني أبا موسى.
12191 - حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن إدريس، عن
شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: هم قوم
هذا= في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه".
12192 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال،
أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت عياضًا الأشعري يقول: لما نزلت:"فسوف
يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك
يا أبا موسى!= أو قال: هم قوم هذا=
يعني أبا موسى. (1)
__________
(1) الآثار: 12188- 12192-"عياض الأشعري" ،
هو"عياض بن عمرو الأشعري" ، تابعي ، مختلف في صحبته ، روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم مرسلا. رأى أبا عبيدة بن الجراح ، وعمر بن الخطاب ، وأبا موسى
الأشعري ، وغيرهم. قال ابن سعد 6: 104: "كان قليل الحديث". روى عنه
الشعبي ، وسماك بن حرب. مترجم في التهذيب ، وأسد الغابة ، والإصابة ، والاستيعاب:
498 ، والكبير للبخاري 4/ 1/ 19.
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 4/ 1/ 79 ، من طريق
عبد الله بن إدريس ، وعفان بن مسلم ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عياض. والحاكم في
المستدرك 2: 313 ، من طريق وهب بن جرير ، وسعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن
عياض ، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه" ، ووافقه
الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 16 ، وقال: "رواه الطبراني ،
ورجاله رجال الصحيح". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 292 ، وزاد نسبته
لابن أبي شيبة في مسنده ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل. وذكره ابن كثير في
تفسيره 3: 179 ، 180
، عن ابن أبي حاتم ، عن عمر بن شبة ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن شعبة.
12193 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سفيان الحميري،
عن حصين، عن عياض= أو: ابن عياض="فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"،
قال: هم أهل اليمن. (1)
12194 - حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال،
حدثنا صفوان قال، حدثنا عبد الرحمن بن جبير، عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل
الله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" إلى آخر الآية، قال
عمر: أنا وقومي هم، يا رسول الله؟ قال:"لا بل هذا وقومه! يعني أبا موسى الأشعري. (2)
* * *
__________
(1) الأثر:
12193-"وأبو سفيان الحميري" ، هو"سعيد بن
يحيى بن مهدي الحميري" الحذاء ، الواسطي. صدوق ، وقال الدارقطني: "متوسط
الحال ليس بالقوي". مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/ 1/ 477 ، وابن أبي
حاتم 2/ 1/ 74.
و"حصين" هو"حصين بن عبد الرحمن
السلمي" ، ثقة ، من كبار الأئمة. مضى برقم: 579 ، 2986.
و"عياض"
هو الأشعري كما سلف في الآثار السابقة. وأما "ابن
عياض" ، فلم أجد من ذكر ذلك ، وكأنه شك من أبي سفيان الحميري ، أو سفيان بن
وكيع.
وانظر تخريج الآثار السالفة.
(2) الأثر: 12194-"محمد بن عوف بن سفيان
الطائي" ، شيخ الطبري ، ثقة حافظ ، مضى برقم: 5445.
و"أبو المغيرة" هو: "عبد القدوس بن
الحجاج الخولاني" ، "أبو المغيرة الحمصي" ثقة ، صدوق. مضى برقم:
10371.
و"صفوان"
، هو:
"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي" ، سمع عبد الرحمن بن جبير ، مضى برقم:
7009. وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/ 2/ 309 ، وابن أبي حاتم 2/ 1/
422 ، وفي ترجمته في التهذيب خطأ بين ، ذكر أنه مات سنة (100) والصواب سنة (155) ، كما في التاريخ
الكبير وغيره.
و"عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي" ،
تابعي ثقة. مضى برقم: 186 ، 187.
و"شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي" تابعي ثقة ،
مضى برقم: 5445. و"صفون بن عمرو"
يروي عن شريح مباشرة ، ولكنه روى هنا عنه
بواسطة"عبد الرحمن بن جبير".
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدّرّ المنثور 2: 292 ، ولم
ينسبه لغير ابن جرير.
وقال آخرون منهم: بل هم أهل اليمن جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
12195 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يحبهم ويحبونه"،
قال: أناسٌ من أهل اليمن.
12196 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
12197 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث،
عن مجاهد قال: هم قوم سَبَأ.
12198 - حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو داود
قال، أخبرنا شعبة قال، أخبرني من سمع شهر بن حوشب قال: هم أهل اليمن. (1)
12199 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد
الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه
يومًا، وهو أمير المدينة، يسأله عن ذلك: فقال محمد:"يأتي الله بقوم"،
وهم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم! قال: آمين! (2)
* * *
وقال آخرون: هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
12200 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال،
__________
(1) الأثر: 12198-"مطر بن محمد الضبي" ، شيخ
الطبري ، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا. وفيمن اسمه"مطر": "مطر بن
محمد بن نصر التميمي الهروي" ، مترجم في تاريخ بغداد 3: 275. و"مطر بن
محمد بن الضحاك السكري" ، يروي عن يزيد بن هرون. مترجم في لسان الميزان 6:
49. ولا أظنه أحدهما ، وأخشى أن يكون دخل اسمه بعض التحريف.
(2) الأثر: 12199- انظر الأثر السالف رقم: 12177 ،
والتعليق عليه.
حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا من
يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، يزعم أنهم الأنصار.
* * *
وتأويل الآية على قول من قال: عنى الله بقوله:"فسوف
يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الرِّدَّة بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم=: يا أيها الذين آمنوا، من يرتدَّ منكم عن دينه فلن
يضر الله شيئًا، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم
منهم على أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك:
12201 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن هشام قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في
قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم
يحبهم"، قال يقول: فسوف يأتي الله المرتدَّةَ في دورهم (1) ="بقوم يحبهم
ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه. (2)
* * *
وأما على قول من قال: عنى الله بذلك أهل اليمن، فإن
تأويله: يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله المؤمنين
الذين لم يرتدوا، بقوم يحبهم ويحبونه، أعوانًا لهم وأنصارًا. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان
يتأول ذلك كذلك.
12202 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين
__________
(1) قوله: في دورهم" ، هو الصواب ، وقد كان في
المخطوطة والمطبوعة ، في الأثر السالف رقم: 12186"في دينهم" و"عن
دينهم" ، والصواب هو الذي هنا. انظر التعليق السالف ص: 414 تعليق: 2.
(2) الأثر: 10201- هو بعض الأثر السالف رقم: 12186 ،
وكان في هذا الموضع أيضًا"سيف بن عمرو" ، وهو خطأ ، كما بينته هناك.
آمنوا من يرتد منكم عن دينه" الآية، وعيدٌ من الله
أنه من ارتدّ منكم، أنه سيستبدل خيًرا منهم.
* * *
وأما على قول من قال: عنى بذلك الأنصار، فإن تأويله في
ذلك نظير تأويل من تأوَّله أنه عُنِي به أبو بكر وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما
رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أهل اليمن، قوم أبي موسى
الأشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر
الذي روي عنه، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال:"هم أبو بكر
وأصحابه". وذلك أنه لم يقاتل قومًا كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا على أعقابهم كفارًا، غير أبي بكر ومن كان معه ممن
قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك
للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنْ كان صلى الله عليه وسلم
مَعْدِن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآيِ كتابه. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن كان القومُ الذين ذكر الله أنه
سيأتي بهم= عند ارتداد من ارتد عن دينه، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم = هم أهل اليمن، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله
عنه أهل الردة أعوانَ أبي بكر على قتالهم، فتستجيز أن توجِّه تأويل الآية إلى ما
وجِّهت إليه؟ (2)
__________
(1) "المعدن" (بفتح الميم ، وسكون العين ،
وكسر الدال): مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه. ومنه قيل: "معدن الذهب
والفضة" ، وهو الذي نسميه
اليوم"المنجم" ، حيث أنبت الله سبحانه وتعالى جوهرهما ، وأثبتهما فيه.
ومنه في المجاز ، ما جاء في الخبر: "فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا:
نعم" يعني: أصولها التي ينسبون إليها ، ويتفاخرون بها.
(2) في المطبوعة: "حتى تستجيز" ، وفي
المخطوطة: "تستجير" بغير"حتى" ، فآثرت قراءتها كما أثبتها.
أم لم يكونوا أعوانًا له عليهم، فكيف استجزت أن توجه
تأويل الآية إلى ذلك، وقد علمت أنه لا خُلْفَ لوعد الله؟
قيل له: إن الله تعالى ذكره لم يعدِ المؤمنين أن
يبدِّلهم بالمرتدِّين منهم يومئذ، خيرًا من المرتدين لقتال المرتدين، وإنما أخبر
أنه سيأتيهم بخيرٍ منهم بدلا منهم، فقد فعل ذلك بهم قريبًا غير بعيد، (1) فجاء بهم
على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الإسلام
وأنفعَ لهم ممن كان ارتدَّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طَغَام الأعراب
وجُفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كلا لا نفعًا؟ (2)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يا
أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه".
فقرأته قرأة أهل المدينة:( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد
منكم عن دينه )، بإظهار التضعيف، بدالين، مجزومة"الدال" الآخرة. وكذلك
ذلك في مصاحفهم.
وأما قرأة أهل العراق، فإنهم قرأوا ذلك:( مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) بالإدغام، بدالٍ واحدة، وتحريكها إلى الفتح، بناء على التثنية،
لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد، إذا ثنيّ أدغم. ويقال
للواحد:"اردُدْ يا فلان إلى فلان حقه"، فإذا ثنى قيل:"ردّا إليه
حقه"، ولا يقال:"ارددا"، وكذلك في
الجمع:"ردّوا"، ولا يقال:"ارددوا"، فتبني العرب أحيانًا
الواحد على الاثنين، وتظهر
__________
(1) في المطبوعة: "يعد فعل ذلك" ، وهو لا معنى
له ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) "الطغام" (بفتح الطاء): أوغاد الناس
وأراذلهم. و"الكل" (بفتح الكاف): العيال والثقل على صاحبه أو من يتولى
أمره.
أحيانًا في الواحد التضعيفَ لسكون لام الفعل. وكلتا
اللغتين فصيحةٌ مشهورة في العرب. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في
مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق، بدال واحدة مشدّدة، بترك إظهار التضعيف،
وبفتح"الدال"، للعلة التي وصفت.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أذلة على
المؤمنين"، أرقَّاء عليهم، رحماءَ بهم.
* * *
= من قول القائل:"ذلَّ فلان لفلان". إذا خضع
له واستكان. (2)
* * *
ويعني بقوله:"أعزة على الكافرين"، أشداء
عليهم، غُلَظاء بهم.
* * *
= من قول القائل:"قد عزّني فلان"، إذا أظهر
العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغِلْظة. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12203 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن هاشم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "في العرف" ،
وآثرت قراءتها كما أثبتها ، وهو الصواب.
(2) وانظر تفسير"الذل" فيما سلف 2: 212/7: 171.
(3) انظر تفسير"العزة" فيما سلف 9: 319 ،
تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن
علي في قوله:"أذلة على المؤمنين"، أهل رقة على أهل دينهم="أعزة على
الكافرين"، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. (1)
12204 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أذلة على المؤمنين
أعزة على الكافرين"، يعني بالأذلة: الرحماء. (2)
12205 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
قال، قال ابن جريج في قوله:"أذلة على المؤمنين"، قال: رحماء
بينهم="أعزة على الكافرين"، قال: أشداء عليهم.
12206 - حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز
قال، قال سفيان: سمعت الأعمش يقول في قوله:"أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين"، ضعفاء عن المؤمنين. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يجاهدون في
سبيل الله"، هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ
منهم مرتدّ، بدلا منهم،
__________
(1) الأثر: 12203- انظر أسانيد الآثار السالفة رقم:
12186 ، 12201 ، والتعليق عليها. وفي المخطوطة والمطبوعة: "سفيان بن
عمر" مكان"سيف بن عمر" ، وهو خطأ فاحش.
(2) في المخطوطة: "يعني بالأذلة: الرحمة" ،
وفي المطبوعة: "يعني بالذلة الرحمة" ، وآثرت ما كتبت ، وهو تصحيف قريب.
(3) في المطبوعة: "ضعفاء على المؤمنين" ،
وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب جيد.
يجاهدون في قتال أعداء الله على النحو الذي أمر الله
بقتالهم، والوجه الذي أذن لهم به، ويجاهدون عدوَّهم. فذلك مجاهدتهم في سبيل الله
(1) =" ولا يخافون لومة لائم"، يقول: ولا يخافون في ذات الله أحدًا، ولا
يصدُّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم، لومةُ لائم لهم في ذلك.
* * *
وأما قوله:"ذلك فضل الله"، فإنه يعني هذا النعتَ
الذي نعتهم به تعالى ذكره= من أنهم أذلة على المؤمني، أعزة على الكافرين، يجاهدون
في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم = فضلُ الله الذي تفضل به عليهم، (2)
والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه مِنّةً عليه وتطوّلا (3) ="والله
واسع"، يقول: والله جواد بفضله على من جادَ به عليه، (4) لا يخاف نَفاد
خزائنه فتَتْلف في عطائه (5) ="عليم"، بموضع جوده وعطائه، فلا يبذله إلا
لمن استحقه، ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر المصلحة، لعلمه بموضع صلاحه له من
موضع ضرّه. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"يجاهد" فيما سلف 4: 318/10:
292
= وتفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة
(سبل).
(2) سياق الجملة: "هذا النعت الذي نعتهم به... فضل
الله...".
(3) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس
اللغة (فضل).
(4) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 9: 294 ،
تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة: "فكيف من عطائه" ، غير ما في
المخطوطة ، لأنه لم يحسن قراءته إذ كان غير منقوط. وهذا صواب قراءته.
(6) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة
(علم).
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ (55)
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا"، ليس لكم، أيها المؤمنون، ناصر إلا الله ورسوله،
والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. (1) فأما اليهود والنصارى الذين أمركم
الله أن تبرأوا من وَلايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء لا
نُصرَاء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا.
* * *
وقيل إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت، في تبرُّئه
من ولاية يهود بني قينقاع وحِلفهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ذكر من قال ذلك:
12207 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير
قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن
عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مشى
عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج=
فخلعهم إلى رسول الله، (2) وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلفهم، وقال: أتولى الله
ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حِلف الكفار ووَلايتهم! ففيه نزلت:"إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"=
لقول عبادةَ:"أتولى الله ورسوله والذين آمنوا"، وتبرئه من بني قينقاع
ووَلايتهم= إلى
__________
(1) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص: 399 ، تعليق:
1 ، والمراجع هناك.
(2) في المخطوطة: "فجعلهم إلى رسول الله" ،
والصواب ما في المطبوعة ، مطابقًا لما سلف ، ولما في سيرة ابن هشام.
قوله:"فإن حزب الله هم الغالبون". (1)
12208 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت
أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر نحوه.
12209 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا"، يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله.
* * *
وأما قوله:"والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ به.
فقال بعضهم: عُنِي به علي بن أبي طالب.
* * *
وقال بعضهم: عني به جميع المؤمنين.
ذكر من قال ذلك:
12210 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم أخبرهم بمن يتولاهم فقال:"إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"،
هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد،
فأعطاه خاتَمَه.
12211 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبدة، عن عبد
الملك، عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية:"إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا
__________
(1) الأثر: 12207- سيرة ابن هشام 3: 52 ، 53 ، وهو مطول
الأثر السالف رقم: 12158 ، وتابع الأثر رقم: 12167.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حدثني والدي إسحق
بن يسار ، عن عبادة بن الصامت" ، أسقط ما أثبت من السيرة ، ومن إسناد الأثرين
المذكورين آنفًا.
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"،
قلت: (1) من الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا! (2) قلنا: بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب!
قال: عليٌّ من الذين آمنوا.
12212 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عبد
الملك قال: سألت أبا جعفر عن قول الله:"إنما وليكم الله ورسوله"، وذكر
نحو حديث هنّاد، عن عبدة.
12213 - حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي قال، حدثنا
أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية:"إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا"، قال: علي بن أبي طالب. (3)
12214 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله:"إنما وليكم الله ورسوله"،
الآية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدَّق وهو راكع. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "قلنا" ، والصواب
الجيد ما أثبت.
(2) هذا ليس تكرارًا ، بل هو تعجب من سؤاله عن شيء لا عن
مثله.
(3) الأثر: 12213-"إسمعيل بن إسرائيل الرملي"
، مضى برقم: 10236.
و"أيوب بن سويد الرملي" ، مضى برقم: 5494.
و"عتبة بن أبي حكيم الهمداني ، ثم الشعباني" ،
أبو العباس الأردني. ضعفه ابن معين ، وكان أحمد يوهنه قليلا ، وذكره ابن حبان في
الثقات. مترجم في التهذيب.
(4) الأثر: 12214-"غالب بن عبيد الله العقيلي
الجزري" ، منكر الحديث متروك.
مترجم في لسان الميزان ، والكبير للبخاري 4/1/101 ، وابن
أبي حاتم 3/2/48.
هذا ، وأرجح أن أبا جعفر الطبري قد أغفل الكلام في قوله
تعالى: "وهم راكعون" ، وفي بيان معناها
في هذا الموضع ، مع الشبهة الواردة فيه ، لأنه كان يحب أن يعود إليه فيزيد فيه بيانًا
، ولكنه غفل عنه بعد.
وقد قال ابن كثير في تفسيره 3: 182 : "وأما قوله:
"وهم راكعون" ، فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من
قوله: "ويؤتون الزكاة" ، أي: في حال ركوعهم. ولو كان هذا كذلك ، لكان
دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره ، لأنه ممدوح. وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ،
ممن نعلمه من أئمة الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب أن
هذه الآية نزلت فيه..." ثم ، ساق الآثار السالفة وما في معناها من طرق مختلفة.
وهذه الآثار جميعًا لا تقوم بها حجة في الدين. وقد تكلم
الأئمة في موقع هذه الجملة ، وفي معناها. والصواب من القول في ذلك أن قوله:
"وهم راكعون" ، يعني به: وهم خاضعون لربهم ، متذللون له بالطاعة ،
خاضعون له بالأنقياد لأمره في إقامة الصلاة بحدودها وفروضها من تمام الركوع
والسجود ، والصلاة والخشوع ، ومطيعين لما أمرهم به من إيتاء الزكاة وصرفها في
وجوهها التي أمرهم بصرفها فيها. فهي بمعنى"الركوع" الذي هو في أصل اللغة
، بمعنى الخضوع = انظر تفسير"ركع" فيما سلف 1: 574.
وإذن فليس قوله: "وهم راكعون" حالا
من"ويؤتون الزكاة". وهذا هو الصواب المحض إن شاء الله.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) }
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه
جميعًا= الذين تبرأوا من حلف اليهود وخلعوهم رضًى بولاية الله ورسوله والمؤمنين،
(1) والذين تمسكوا بحلفهم وخافوا دوائر السوء تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم=
أنّ مَن وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين، (2) ومن كان على مثل حاله من
أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادّهم،
لأنهم حزب الله، وحزبُ الله هم الغالبون، دون حزب الشيطان، كما:-
12215 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم= يعني الرب تعالى ذكره= مَنِ الغالب،
فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال:"ومن يتول الله ورسوله والذين
آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون"، و"الحزب"، هم الأنصار.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذين تبرأوا من اليهود وحلفهم
رضى بولاية الله..." ، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته ، والذي أثبت هو
صواب القراءة.
(2) في المطبوعة: "بأن من وثق بالله..." ، وفي
المخطوطة مكان ذلك كله: "ووثقوا بالله". والذي أثبت هو صواب المعنى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (57)
ويعني بقوله:"فإن حزب الله"، فإن أنصار الله،
(1) ومنه قول الراجز: (2)
وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي! (3)
يعني بقوله:"أضوى"، أستضْعَفُ وأضام= من
الشيء"الضاوي". (4) ويعني بقوله:"وبلال حزبي"، يعني: ناصري.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد
صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الذين آمنوا"، أي: صدقوا الله ورسوله="لا تتخذوا
الذين اتخذوا دينكم هُزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني
اليهود والنصارى الذين
__________
(1) انظر تفسير"الحزب" فيما سلف 1: 244. وهذا
التفسير الذي هنا لا تجده في كتب اللغة.
(2) هو رؤبة بن العجاج.
(3) ديوانه: 16 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 169 ، من
أرجوزة يمدح بها بلال ابن أبي بردة ، ذكر في أولها نفسه ، ثم قال يذكر من يعترضه
ويعبي له الهجاء والذم: ذَاكِ، وإن عَبَّى لِيَ المُعَبِّي ... وَطِحْطَحَ الجِدُّ
لِحَاءَ القَشْبِ
أَلَقَيتُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ الكُذْبِ ... فَكَيْفَ
أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي!
ورواية الديوان: "ولست أضوي". وفي المخطوطة:
"وكيف أضرى" ، وهو تصحيف"طحطح الشيء" : فرقه وبدده وعصف به فأهلكه.
و"اللحاء": المخاصمة. و"القشب" ، (بفتح فسكون): الكلام
المفترى: ولو قرئت"القشب" (بكسر فسكون) ، فهو الرجل الذي لا خير فيه.
(4) "الضاوي": الضعيف من الهزال
وغيره."ضوى يضوي ضوى": ضعف ورق. وكان في المخطوطة: "أضرى"
و"الضاري" ، وهو خطأ وتصحيف.
جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل
بَعْث نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن قبل نزول كتابنا="أولياء"، يقول:
لا تتخذوهم، أيها المؤمنون، أنصارًا أو إخوانًا أو حُلفاء، (1) فإنهم لا يألونكم
خَبَالا وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة.
* * *
وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين
أنهم اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، (2) أن
أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من
المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يُبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر
مستبطن تلعبًا بالدين واستهزاءً به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله:(
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [سورة البقرة:
14، 15].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس.
12216 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس
بن بكير قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد
بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فأنزل
الله فيهما:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
__________
(1) في المطبوعة: "أنصار وإخوانا وحلفاء" ،
وفي المخطوطة: "أنصارًا أو إخوانًا وحلفاء" ، وأجريتها جميعا بأو ، كما
ترى.
(2) في المطبوعة: "ولعبًا الدين على ما وصفهم"
، وهو غير مستقيم ، وفي المخطوطة: "ولعبا الذين على ما وصفهم" ، وهو أشد
التواء ، والصواب ما أثبت ، كما سيأتي بعد"تلعبًا بالدين واستهزاء به".
هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار
أولياء" إلى قوله:"والله أعلم بما كانوا يكتمون". (1)
* * *
= فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا، من أنّ اتخاذ من
اتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية، إنما
كان بالنفاق منهم، وإظهارهم للمؤمنين الإيمان، واستبطانهم الكفر، وقيلهم لشياطينهم
من اليهود إذا خلوا بهم:"إنا معكم"، فنهى الله عن موادَّتهم
ومُخَالّتهم، (2) والتمسك بحلفهم، والاعتداد بهم أولياء= وأعلمهم أنهم لا
يألونهم خبالا وفي دينهم طعنًا، وعليه إزراء.
* * *
وأمّا"الكفار" الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في
قوله:"من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء"، فإنهم المشركون من عبدة الأوثان. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من
أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر، أولياءَ دون المؤمنين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما:-
12217 - حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن
سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن ابن مسعود= يقرأ:( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ).
* * *
= ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأوَّلناه في ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر: 12216- سيرة ابن هشام 2: 217 ، 218.
(2) في المطبوعة: "ومحالفتهم" ، لم يحسن قراءة
المخطوطة إذ كانت غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة:( وَالْكُفَّارِ
أَوْلِيَاءَ ) بخفض"الكفار"، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفارِ،
أولياءَ.
* * *
وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعب فيما بلغنا:( من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء ).
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة:( وَالْكُفَّارَ
أَوْلِيَاءَ ) بالنصب، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
هزوًا ولعبًا والكفارَ= عطفًا بـ"الكفار" على"الذين اتخذوا".
* * *
قال أبو جعفر:
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متفقتا
المعنى، صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة، فبأي ذلك قرأ
القارئ فقد أصاب. لأن النهيَ عن اتخاذ ولي من الكفار، نهيٌ عن اتخاذ جميعهم أولياء. والنهي عن اتخاذ
جميعهم أولياء، نهيٌ عن اتخاذ بعضهم وليًّا. وذلك أنه غير مشكل على أحدٍ من أهل
الإسلام أنّ الله تعالى ذكره إذا حرّم اتخاذ وليّ من المشركين على المؤمنين، أنه
لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء= ولا إذا حرَّم اتخاذ جميعهم أولياء، أنه لم يخصص
إباحة اتخاذ بعضهم وليًّا، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم، طلبُ الدليل على أولى القراءتين
في ذلك بالصواب. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ بالخفض أو بالنصب، لما ذكرنا
من العلة.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه
يعني: وخافوا الله، أيها المؤمنون،
في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين
أوتوا الكتاب ومن الكفار، أن تتخذوهم أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن
فعلتموه بعد تقدُّمه إليكم بالنهي عنه، إن كنتم تؤمنون بالله وتصدِّقونه على وعيده
على معصيته. (1)
___
(1) انظر تفسير"كفار" و"أولياء"
و"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة ، (كفر) و(ولى) و(وقى).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق