Translate

الخميس، 15 يونيو 2023

ج1وج2.وج3.

ج1وج1.وج3.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ  

تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
( وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم ، والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماماً للمتقين ، وحجةً على الخلائق أجمعين )(1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
[ آل عمران : 102] . { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 70-71 ] .
أما بعد : فإني أحمد الله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً على إنهاء العمل بهذا الكتاب العظيم "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم " ، ذلك الكتاب المهم الذي يشرح أهم الأحاديث التي يحتاجها المسلم ؛ فهي أحاديث كلية في أصول الدين .
__________
(1) من مقدمة زاد المعاد للعلامة ابن القيم 1/34 .

والكتاب قد طبع طبعاتٍ عديدة (1) واعتنى به عدد من الأفاضل من المختصين
بهذا الشأن فأردت أنْ أُشرك نفسي معهم في طبعةٍ متميزةٍ راجياً من الله أنْ ينفعني بها يوم الدين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم .
وقد حققت الكتاب على نسخة خطية للكتاب تعود إلى عصر متأخر وقد تملكها الشيخ محمد أمين الشنقيطي . وقد اجتهدت في ضبط النص على النسخة الخطية مع الاستفادة من النسخ المطبوعة مع الرجوع إلى موارد المصنف من كتب السنة المشرفة. أما التخريج فقد أوليت عناية بالحكم على الأحاديث . وفيما يتعلق بالصحيحين فقد أحلت إلى صحيح البخاري بالجزء والصفحة على الطبعة الأميرية ثم أردفته برقم الحديث من فتح الباري ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، وأحلت إلى صحيح مسلم بالجزء والصفحة للطبعة الإستانبولية ثم أردفته برقم الحديث من طبعة محمد فؤاد عبد الباقي ؛ وذلك لانتشار هذه الطبعات وتداولها . وأما التعليق على الأحاديث فقد شرحت بعض الغريب الذي لم يذكره المصنف وعلّقت على بعض الأشياء مما يحتاجه المسلم في حياته وعبادته وكان جُلُّ ذلك بالاعتماد على كتب أهل العلم ، وحكمت على الأحاديث بما يليق بها من صحة أو ضعف ، وقدمت للكتاب بمقدمة يسيرة كمدخل للكتاب سميتها : ( الحافظ ابن رجب وشيءٌ من سيرته العطرة ) .
__________
(1) مما وقفت عليه من طبعات هذا الكتاب : طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس ، وهي أفضل الطبعات السابقة . وقد قابلت الكتاب عليها ورمزت لها بالرقم
( ج ) وقد اعتمدت على الطبعة السابعة 1422 ه‍ ومما وقفت عليه طبعة دار ابن رجب =
= ... في مصر عام 1423 ه‍ بإشراف مصطفى بن العدوي وطبعة المكتبة العصرية عام 1418 ه‍ بتحقيق الدكتور يوسف البقاعي ، وطبعة دار الحديث في القاهرة بتحقيق عصام الدين الصبابطي ، وطبعة دار الفرقان عام 1411 ه‍ بتحقيق الدكتور محمد عبد الرزاق الرعود .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .

الحافظ ابن رجب وشيءٌ من سيرته العطرة
توسع المحققون في دراسة حياة العالم الجليل ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، فتناولته الأيادي بالبحث والاستقصاء ، حتى أثْرَوا مقدمات كتبه بتعريفات جمة عن هذا العالم المبجل ، لذلك آثرت أن لا أطيل الكلام في ذلك ، واكتفي بهذا المختصر عن حياته وآثاره .
اسمه ونسبه وكنيته
هو الإمام الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الرحمان بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود السلامي البغدادي ، ثم الدمشقي الحنبلي أبو الفرج ، المعروف بابن رجب(1) وهو لقب جده عبد الرحمان ، وقد طغت هذه النسبة على اسمه حتى لا يكاد يعرف إلا بها .
مولده
اتفقت المصادر التي اطلعت عليها ، على أنَّ ولادة ابن رجب ، كانت في بغداد مدينة السلام في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وسبعمئة ، وقدم دمشق مع والده فسمع من كبار العلماء هناك ، وقد أرخ الحافظ ابن حجر رحمه الله ولادته في سنة ست وسبعمئة (2) ، ولعله سبق قلم من الناسخ ، والله أعلم .
أسرته ونشأته وطلبه للعلم
لم توفر المصادر التي بين أيدينا ، التفصيل الكامل عن أسرة هذا الإمام ، وبذلك أغفلت الكثير من الجوانب المهمة عن حياته ، بل قصارى ما عرفناه في هذه
المصادر ، هي أسطر قليلة قد ألقت الضوء على حياة جده أبي أحمد المعروف
برجب ، وحياة والده أبي العباس شهاب الدين أحمد ، ويبدو أنه ينحدر من أسرة علمية عريقة في العلم .
__________
(1) انظر ترجمته في : ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن الدمشقي : 180 ، والدرر الكامنة لابن حجر 2/321 ، ووجيز الكلام للسخاوي 1/308 ، وطبقات الحفاظ للسيوطي ( 1170 )، وشذرات الذهب لابن العماد 6/339 ، وكشف الظنون لحاجي خليفة 1/59 ، والأعلام للزركلي 3/294 .
(2) الدرر الكامنة 2/321 .

أما جده عبد الرحمان فكل ما ذكره عنه حفيده ابن رجب هو قوله : ( قرئ على جدي أبي أحمد - رجب بن الحسن – غير مرة ببغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة : أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزار ، سنة ست وثمانين وستمئة ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعي … عن سلمة بن الأكوع ، قال : سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار )(1). وهذا الخبر يدل على أن جده كان مهتماً بعلم الحديث ، ويقرأ عليه الناس .
وأما أبوه فهو الشيخ شهاب الدين أحمد ولد في بغداد وسمع من مشايخها ، ثم رحل مع أولاده إلى دمشق سنة أربع وأربعين وسبعمئة(2) .
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/213 –214 ، والحديث صحيح متواتر انظر تفصيل كثير من طرقه في تعليقي على شرح التبصرة والتذكرة 1/148 – 149 .
(2) شذرات الذهب 6/339 .

ولما كان ابن رجب رحمه الله ينحدر من هذه الأسرة التي اهتمت بالعلوم والمعارف ، فقد نشأ نشأة علمية أهلته أن يكون في مصاف العلماء الكبار الذين صنعوا للإسلام أزهى أمجاده ، فذاع صيته وكثر مريدوه من كل البلاد ، وتنوعت فنونه . فكانت بداية طلبه للعلم في سن الصغر إذ رحل به والده إلى بلاد أخرى وحصل على إجازات من بعض المشايخ ، فأجازه ابن النقيب وغيره ، وسمع أيضاً من علماء مكة ومصر وغيرها ، وقيل : ( إنه اشتغل بسماع الحديث باعتناء والده(1) ) فقد كان إماماً في صناعة الأسانيد وفن العلل ، بالإضافة إلى أنَّه كان عالماً
بالفقه ، حتى صار من أعلام المذهب الحنبلي ، ويشهد لذلك ما خلفه من تراث ضخم في هذه العلوم ، وهكذا يكون أحد الجهابذة الذين جمعوا بين الحديث
والفقه ، مما أدى إلى انفتاح قرائح العلماء في الثناء عليه كما سيأتي ، إلا أنَّ هذه المنزلة الكبيرة التي بلغها هذا العالم لم تزده إلا صفاءً وخلقاً وتواضعاً فمالت إليه القلوب بالمحبة ، واجتمعت عليه الفرق ، وفي ذلك يقول ابن العماد : ( وكانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة ، اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه (2) ) ، كيف لا وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها .
وفاته
__________
(1) شذرات الذهب 6/339 .
(2) شذرات الذهب 6/339 .

بعد رحلة طويلة وشاقة من الجهاد في خدمة هذا الدين العظيم ، استعد ابن رجب للقاء ربه الكريم ، بعد أن أفنى عمره في التأليف والتدريس ، والدفاع عن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من خلال بيان صحيح الحديث وسقيمه ، واتباع منهج السلف الكرام رحمهم الله تعالى ، فوافاه الأجل سنة ( 795 ه‍ ) في شهر رمضان(1) بدمشق بأرض الحميرية ببستان كان استأجره، وصلي عليه من الغد كما قال ابن العماد (2) وخالف ابن حجر (3) والسيوطي (4) رحمهما الله فقالا : إن وفاته كانت في شهر رجب وشك أبو المحاسن الدمشقي فقال : ( في رجب أو رمضان (5) ) من ذلك نجد أنه لا خلاف بين العلماء في تقييد وفاته بعام ( 795 ه‍ ) ، إلا أنهم اختلفوا في شهر وفاته
ودُفن رحمه الله بالباب الصغير جوار قبر الشيخ الفقيه أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي ثم المقدسي الدمشقي المتوفى في ذي الحجة سنة ( 486 ه‍ (6) ) .
قال ابن ناصر الدين الدمشقي : ( ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب أنَّ الشيخ زين الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام فقال لي: احفر لي ها هنا لحداً ، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها قال فحفرت له ، فلما فرغ نزل في القبر واضطجع فيه فأعجبه قال : هذا جيد ثم خرج ، وقال : فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به ميتاً محمولاً في نعشه فوضعته في ذلك اللحد(7) فرحمك الله يا أبا الفرج ورزقك الفردوس الأعلى .
شيوخه
__________
(1) انظر : وجيز الكلام للسخاوي 1/308 ، وشذرات الذهب لابن العماد 6/340 .
(2) شذرات الذهب 6/340 .
(3) الدرر الكامنة 2/322 .
(4) طبقات الحافظ ( 1170 ) .
(5) ذيل تذكرة الحفاظ : 181 .
(6) انظر : شذرات الذهب 6/340 .
(7) ذيل تذكرة الحافظ : 182 ، والدرر الكامنة 2/322 ، وشذرات الذهب 6/340.

حرص ابن رجب رحمه الله على تلقي العلم من أفواه الرجال ، فطاف البلاد ورحل في الآفاق ، فسمع من البعض وأجازه البعض الآخر ، وكانت بداية رحلته في سن الصغر ، عندما رحل به والده من موطن ولادته بغداد قبة الإسلام وحاضرة الدنيا إلى دمشق ، ومن هناك بدأت رحلته في طلب العلم والتلقي عن الشيوخ فرحل إلى مصر ونابلس والحجاز والقدس ومكة والمدينة ، فأصبح له عدد غفير من
الشيوخ ، ونذكر هنا أبرز الشيوخ الذين أخذ عنهم وهم مرتبون حسب حروف المعجم ، وهم كما يلي :
1- داود بن إبراهيم بن داود بن يوسف بن سليمان بن سالم بن مسلم بن سلامة جمال الدين ابن العطار ( ت 752 ه‍ (1) ) .
2- زين الدين أبو الفرج عبد الرحمان بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ، أخو شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي ، ذكره ابن رجب في مشيخته ، وقال : سمعت عليه كتاب "التوكل" لابن أبي الدنيا بسماعه على الشهاب العابر وتفرد بالرواية عنه (2) .
3- عماد الدين أبو العباس أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي ( ت 754 ه‍ ) (3) .
4- فتح الدين أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم بن أبي طالب القلانسي الحنبلي ( ت 765 ه‍ (4) ) .
5- محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي
( 748ه‍ (5) ) .
6- الميدومي محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم بن عنان ، صدر الدين أبو الفتح ( ت 754 ه‍ (6) ) .
7- ابن الخباز محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن بركات أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي العبادي الدمشقي من ولد سعد بن عبادة
( ت 756 ه‍ (7) ) .
__________
(1) الدرر الكامنة 2/216، و شذرات الذهب 6/339 .
(2) شذرات الذهب 6/216 .
(3) ذيل طبقات الحنابلة 2/439.
(4) الدرر الكامنة 4/235 .
(5) الذيل على طبقات الحنابلة 2/441 .
(6) الدرر الكامنة 4/ 157 ، وطرح التثريب للعراقي 1/108 .
(7) الدرر الكامنة 3/384 ، وطرح التشريب 1/99 .

8- ابن شيخ السلامية حمزة بن موسى بن أحمد الحنبلي عز الدين أبو يعلى
( ت 769 ه‍ (1) ) .
9- ابن قاضي الجبل أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي الحنبلي شرف الدين ( ت 771 ه‍ (2) ) .
10- ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي شمس الدين الحنبلي ( ت 751 ه‍ (3) ) .
11- ابن قيم الضيائية عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن نصر بن فهد الدمشقي ثم الصالحي الحنبلي المروزي العطار أبو محمد تقي الدين ( ت 761 ه‍ (4) ) .
12- أبو الربيع علي بن عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الحسن بن
عبد الله البغدادي الحنبلي ( ت 742 ه‍ (5) ) .
13- أبو سعيد العلائي خليل بن كيكلدي بن عبد الله الشافعي صلاح الدين
( ت 761 ه‍ (6) ) .

14- أبو العباس أحمد بن محمد بن سليمان الحنبلي البغدادي(7) .
15- زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية المعروفة ببنت الكمال ( ت 740 ه‍ (8) ).
تلامذته
__________
(1) الدرر الكامنة 2/77 ، و المقصد الأرشد لابن مفلح 1/362 .
(2) الدرر الكامنة 1/120
(3) الدرر الكامنة 3/400 .
(4) الدرر الكامنة 2/283 .
(5) الدرر الكامنة 3/62 .
(6) الدرر الكامنة 2/90 ، وشذرات الذهب 6/190 .
(7) الذيل على طبقات الحنابلة 1/301 .
(8) الدرر الكامنة 2/117 .

لما كان لهذا العالم منْزلة كبيرة بين علماء عصره ، وتفوقه عليهم وتنوع فنونه التي شملت معظم العلوم ، أدى إلى تدفق طلاب العلم عليه من كل حدب وصوب ، لينهلوا من عذبه الصافي ، ومن خلقه الرفيع ، ومن علمه الوافر ، فتفقه على يده الكثير من علماء المذهب الحنبلي ، الذين أصبحوا فيما بعد من العلماء العاملين الذين يشار إليهم بالبنان ، قال ابن حجي - فيما نقله عنه ابن العماد -
: ( وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق(1) ) ، ونذكر هنا طائفة منهم مرتبين حسب حروف المعجم ، وهم كما يلي :
1- داود بن سليمان بن عبد الله الزين الموصلي ثم الدمشقي الحنبلي سمع على ابن رجب شرحه للأربعين النووية ( ت 844 ه‍ (2) ) .
2- الزركشي عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله بن محمد الزين أبو ذر بن الشمس ابن الجمال بن الشمس المصري الحنبلي ، يعرف بالزركشي صنعة أبيه
( ت 846 ه‍ (3) ) .
3- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبادة السعدي الأنصاري الحنبلي ، قاضي قضاة دمشق ( ت 820 ه‍ (4) ) .
4- شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الأصل النابلسي ثم الدمشقي الحلبي المكي قاضيها الحنبلي ( ت 855 ه‍ (5) ) .
5- علاء الدين علي بن محمد بن علي الطرسوسي المزي ( ت بعد 850 ه‍ (6) ) .
6- عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل الدمشقي الشافعي ( ت 841 ه‍ (7) ) .
7- محب الدين أبو الفضل أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي ثم المصري الحنبلي ، شيخ الإسلام وعلم الأعلام ، المعروف بابن نصر الله شيخ المذهب ومفتي الديار المصرية ( ت 844 ه‍ (8) ) .
__________
(1) شذرات الذهب 6/339 – 340 .
(2) الضوء اللامع للسخاوي 3/212 .
(3) الضوء اللامع 4/136 .
(4) شذرات الذهب 7/148 .
(5) الضوء اللامع 6/309 .
(6) الضوء اللامع 5/328 .
(7) الضوء اللامع 6/120 .
(8) الضوء اللامع 2/233 ، وشذرات الذهب 7/250 .

8- ابن الرسام أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن علي بن إسماعيل ، الشهاب أبو العباس ابن سيف الدين الحموي الأصل الحلبي الحنبلي ( ت 844 ه‍ (1) ) .
9- ابن زهرة شمس الدين محمد بن خالد بن موسى الحمصي القاضي الحنبلي (2) .
10- ابن الشحام أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمود بن عبادة ، الشهاب الأنصاري الحلبي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي ( ت 864 ه‍ (3) ) .
11- ابن اللحام علي بن محمد بن علي بن عباس بن فتيان علاء الدين البعلي ثم الدمشقي الحنبلي ، يعرف بابن اللحام وهي حرفة أبيه ( ت 803 ه‍ (4) ) .
12- ابن المنصفي شمس الدين أبو عبيد الله محمد بن خليل بن محمد بن طوغان الدمشقي الحريري الحنبلي ( ت 803 ه‍ (5) ) .
13- ابن المُزَلِّق أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل الدمشقي الشافعي ( ت 841 ه‍ (6) ) .
14- ابن المغلي علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر السلمي ثمَّ الحموي الحنبلي
( ت 828 ه‍ (7) ) .
15- أبو شعر زين الدين عبد الرحمان بن سليمان بن أبي الكرم بن سليمان ، أبو الفرج الدمشقي الصالحي الحنبلي ( ت 844 ه‍ (8) ) .
ثناء العلماء عليه
حظي ابن رجب رحمه الله بثناء منقطع النظير ، يدل على مدى توسعه وتبحره في العلوم ، وعلى مكانته العالية في قلوب الناس ، فلم نجد من العلماء من ذكره بسوء أو قدح بشخصيته ، فالكل كان يحبه ويحترمه ، وما هذا إلا دليل على علو منزلته وعظم شأنه في ذلك الوقت ، ويتضح هذا جلياً من أقوالهم التي نورد طائفة منها ، وهي كما يلي :
__________
(1) الضوء اللامع 1/249 .
(2) شذرات الذهب 7/195 .
(3) الضوء اللامع 2/41 ، وشذرات الذهب 7/303 .
(4) الضوء اللامع 5/320 ، وشذرات الذهب 7/31 .
(5) ذيل تذكرة الحفاظ : 185 ، وشذرات الذهب 7/35 .
(6) الضوء اللامع 6/120 .
(7) الضوء اللامع 6/34 .
(8) الضوء اللامع 4/82 ، وشذرات الذهب 7/253 .

1- قال أبو المحاسن الدمشقي : ( الإمام الحافظ الحجة والفقيه العمدة أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد مفيد المحدثين واعظ المسلمين (1) ) .
2- قال الحافظ ابن حجر : ( الشيخ المحدث الحافظ ... أكثر من المسموع وأكثر الاشتغال حتى مهر (2) ) .
3- قال السيوطي : ( هو الإمام الحافظ المحدث الفقيه الواعظ (3) ) .
4- قال ابن العماد الحنبلي : ( الإمام العالم العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة الحنبلي (4) ) .
وقال أيضاً : ( وكانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة ، اجتمعت الفرق عليه ، ومالت القلوب بالمحبة إليه (5) ) .
وقال أيضاً : ( وكان لا يعرف شيئاً من أمور الناس ، ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات ، وكان يسكن بالمدرسة السكرية بالقصاعين (6) ) .
وقال ابن حجي - فيما نقله عنه ابن العماد - : ( أتقن الفن – أي : فن الحديث – وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق ، وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق (7) ) .
وغير ذلك من الأقوال التي حوتها كتب التراجم والأعلام .
آثاره العلمية
__________
(1) ذيل تذكرة الحفاظ : 180 .
(2) الدرر الكامنة 2/321-322 .
(3) طبقات الحفاظ ( 1170 ) .
(4) شذرات الذهب 6/339 .
(5) شذرات الذهب 6/339 .
(6) المصدر نفسه .
(7) شذرات الذهب 6/339-340 .

سخَّرَ ابن رجب رحمه الله حياته وعمره لخدمة هذا الدين العظيم ، يتضح ذلك من خلال مؤلفاته وتراثه الضخم الذي خلفه لنا ، قال السخاوي : ( جمع نفسه على التصنيف والإقراء (1) ) ، إضافة إلى تنوع فنونه فألَّف في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والوعظ وغيره فأجاد وأبدع ، قال أبو المحاسن الدمشقي : ( له المؤلفات السديدة والمصنفات المفيدة (2) ) ، وقال ابن العماد : ( له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة (3) ) ، ونذكر هنا البعض من هذه المصنفات على سبيل المذاكرة لا على سبيل الاستيعاب ، مرتبة حسب الموضوعات :
التفسير :
1- تفسير سورة الإخلاص ، وهو مطبوع .
2- تفسير سورة النصر ، وهو مطبوع .
الحديث :
3- اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى ، وهو مطبوع .
4- البشارة العظمى في أنَّ حظ المؤمن من النار الحمى ، وهو مخطوط .
5- تحفة الأكياس بشرح وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس ، وهو مطبوع .
6- تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال ، وهو مخطوط .
7- جامع العلوم والحكم وهو الذي بين يديك .
8- الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ) ، وهو مطبوع .
9- شرح جامع الترمذي الكبير ، وتوجد منه قطعة مخطوطة في المكتبة الظاهرية.
10- شرح علل الترمذي ، وهو مطبوع (4) .
__________
(1) وجيز الكلام 1/308 .
(2) ذيل تذكرة الحفاظ : 181 .
(3) شذرات الذهب 3/339 .
(4) قال أخي الدكتور علي الصياح - نفع الله به - : ( طبع عدة طبعات : طبعة بتحقيق نور الدين عتر ، الطبعة الأولى ، 1398 ، دار الملاح للطباعة ، طبعة بتحقيق همام سعيد ، الطبعة
الأولى ، 1407 ، مكتبة المنار ، الأردن ، وكلا التحقيقين جيد وطبعة بتحقيق صبحي السامرائي ، عالم الكتب ، وهي سيئة للغاية . وطبعة بتحقيق كمال علي الجمل ، دار الكلمة ، 1418 ) . جهود المحدّثين : 171 .

11- فتح الباري في شرح البخاري ، وصل به إلى كتاب الجنائز ، ينقل فيه كثيراً من كلام المتقدمين (1) ، وهو مطبوع .
الفقه :
12- الاستخراج في أحكام الخراج ، وهو مطبوع .
13- تعليق الطلاق بالولادة ، وهو مخطوط .
14- القواعد الفقهية ، وهو مطبوع .
15- مشكل الأحاديث الواردة في أنَّ الطلاق الثلاث واحدة ، وهو مفقود .
التاريخ :
16- الذيل على طبقات الحنابلة ، وهو مطبوع .
17- مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز ، وهو مطبوع .
18- مشيخة ابن رجب (2) .
الوعظ والفضائل والرقائق :
19- أهوال القبور ، وهو مطبوع .
20- التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار ، وهو مطبوع .
21- الفرق بين النصيحة والتعيير ، وهو مطبوع .
22- فضل علم السَّلف على علم الخلف ، وهو مطبوع .
23- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ، وهو مطبوع .
وغير ذلك مما حوته كتب التراجم والأعلام .
وصف النسخة الخطية ( الأصل )
اعتمدت على نسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل ، وتقع تحت الرقم
( 628 ) ، رمزت لها بالحرف ( ص ) وهي نسخة جيدة قليلة السقط ، نوع خطها نسخي عادي ، تحتوي على ( 288 ) صفحة ، في كل صفحة ( 29 ) سطراً ، وفي كل سطر ( 21 ) كلمة تقريباً ، على حواشيها بعض التعليقات والاستدراكات ، ويبدو أنها قرءَت على بعض العلماء ، ويوجد على طرة الكتاب بعض التملكات ، نذكرها كما كتبت وهي : ( بسم الله دخل هذا الكتاب ملكاً بالشراء الشرعي بملك أحقر العباد إلى ربه ، وأنا الفقير إلى الله عبد العزيز بن حمد بن سيف العتيقي(3) بغرة صفر سنة سبعة وأربعين ومئتين وألف من هجرته - صلى الله عليه وسلم - ) .
__________
(1) انظر : شذرات الذهب 6/339 .
(2) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 2/322 .
(3) لم أقف على ترجمة لا له ولا لابنه ، وقد وجدت في كتاب الأعلام 2/272 ترجمة لأحد العلماء وهو ( ابن عتيق ) يشترك معهما في هذه النسبة، ولعله من عائلتهما رحمهم الله جميعاً .

( وقفه مالكه حمد(1) بن الحاج عبد العزيز العتيقي عفى الله عنه وغفر له ولأبويه وجميع المسلمين ) .
( في حوزة الفقير إلى الله محمد بن أمين الشنقيطي(2) سنة ( 1333 ) ) .
__________
(1) وهو ولد عبد العزيز الآنف الذكر ، فيظهر أنَّه تملك الكتاب بعد وفاة والده ، ثم وقفه
رحم الله الجميع .
(2) هو العالم الكبير محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي رحمه الله تعالى، مفسر مدرس من علماء شنقيط ( موريتانيا ) ، ولد وتعلم بها ، ثم استقر مدرساً في المدينة المنورة ثم الرياض ، وأخيراً في الجامعة الإسلامية بالمدينة ، له كتب منها : أضواء البيان في تفسير القرآن ، ومنع جواز المجاز ، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب ، وغيرها ، توفي بمكة سنة
( 1973 م ) . الأعلام 6/45 .

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين (1)
الحمدُ للهِ الَّذي أكملَ لنا الدِّين ، وأتمَّ علينا النِّعمةَ ، وجعل أُمَّتنا -ولله الحمد- خيرَ أمَّة، وبعث فينا رسولاً منَّا يتلو علينا آياتِه ، ويزكِّينا ويعلِّمنا الكتابَ والحكمة .
أحمَدُه على نِعَمِهِ الجمَّة ، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له ، شهادةً تكونُ لمنِ اعتصمَ بها خيرَ عِصْمَة ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُهُ ، أرسله للعالمين رحمة ، وفوّض إليه بيانَ ما أُنزِلَ إلينا ، فأوضحَ لنا كلَّ الأمورِ المهمَّة ، وخصَّه بجوامعِ الكلِمِ، فربَّما جمعَ أشتاتَ(2) الحِكَمِ والعُلومِ(3) في كلمةٍ ، أوْ في شطرِ كلمة ، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه صلاةً تكونُ لنا نوراً مِنْ كلِّ ظُلْمةٍ ، وسلَّم تَسليماً كثيراً (4).
أمَّا بعدُ :
فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعثَ محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بجوامِعِ الكَلِمِ ، وخصَّهُ ببدائع الحِكَمِ . كما في
" الصحيحين " عن أبي هريرةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بُعِثْتُ بجوامِعِ الكَلِمِ ) (5)
__________
(1) وبه نستعين ) من ( ص ) فقط .
(2) في ( ص ) : ( أسباب ) .
(3) في ( ص ) : ( العلوم والحكم ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : البخاري 4/65 ( 2977 ) و9/43 ( 6998 ) و9/47 ( 7013 ) و9/113
( 7273 ) ، ومسلم 2/64 ( 523 ) ( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) و( 8 ) .

وأخرجه : أحمد 2/411 ، وابن ماجه ( 567 ) ، والترمذي ( 1553 ) م ، والنسائي
6/3-4 ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 1025 ) ، وابن حبان ( 2313 ) و( 6401 ) و( 6403 ) ، والبيهقي 2/433 و9/5 وفي " الدلائل " ، له 5/472 ، والبغوي ( 3617 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

. قال الزُّهري -رحمه الله-: جوامِعُ الكَلِمِ(1)-فيما بَلَغَنَا- أنَّ اللهَ تعالى يجمع له الأُمورَ الكثيرةَ التي كانت تُكْتَبُ في الكُتب قبلَه في الأمرِ الواحدِ والأمرينِ ، ونحو ذلك (2) .
وخرّج الإمام أحمدُ من حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - ، قال : خرجَ علينا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمَّدٌ النَّبيُّ الأُمِّيُّ ) . قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ . ( ولا نَبيَّ بعدي ، أوتيتُ فواتحَ الكَلِمِ وخَواتِمَهُ وجوَامِعَهُ ) … ، وذكر الحديثَ (3) .
وخرَّج أبو يعلى المَوصلي من حديثِ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنِّي أُوتيتُ جوامعَ الكَلِمِ وخواتمَهُ ، واختُصِرَ لي الكلام (4)اختصاراً ) (5)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : البخاري 9/47 عقب الحديث ( 7013 ) تعليقاً .
(3) في " مسنده " 2/172 و211 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(4) سقطت من ( ج ) .
(5) في " مسنده الكبير " كما في " المطالب العالية " 9/208 ( 4261 ) .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 2/21 ، وضعفه ، ونقل عن الإمام البخاري تضعيفه للحديث ، وانظر : التاريخ الكبير 2/191 .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 10163 ) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ( 5202 ) عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ : ( إنما بعثت فاتحاً ، وخاتماً ، وأعطيت جوامع الكلم ، وفواتحه ، واختصر لي الحديث اختصاراً ، فلا يهلكنكم المتهوكون ) . وفيه قصة .
وأخرجه: البيهقي في "شعب الإيمان" (1436) من طريق الأحنف بن قيس، والمقدسي في "المختارة" 1/215 (115) من طريق خالد بن عرفطة ؛ كلاهما عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - بنحوه .

وبنفس اللفظ الذي ذكره المصنف أورده العجلوني في " كشف الخفاء " 1/15 وقال : ( رواه العسكري في " الأمثال " عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، مرسلاً بهذا اللفظ ؛ لكن في سنده من لم يعرف ) .

.
وخرَّج الدَّارقطنيُّ – رحمه الله - من حديثِ ابنِ عبَّاس -رضي الله عنهما- ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أُعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ ، واختُصِرَ لي الحَديثُ
اختصاراً )(1) .
وروينا مِنْ حديث عبد الرَّحمان بن إسحاقَ القُرَشيّ ، عن أبي بُردَةَ ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أُعطيتُ فواتحَ الكَلِمِ وخواتِمَهُ
وجَوامِعَهُ ) ، فقلنا : يا رسول الله ، علِّمنا ممَّا علَّمك الله - عز وجل -، قال(2) : فعلَّمَنَا
التَّشَهُّدَ (3) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن سعيد بن أبي بُردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جدِّهِ : أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ البِتْعِ (5) والمِزْرِ (6)
__________
(1) في " سننه " 4/143 ، وإسناده ضعيف جداً فيه زكريا بن عطية منكر الحديث .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة ( 32268 ) طبعة الرشد - وهو في "المطالب العالية" 9/102
( 4202 ) - ، وأبو يعلى ( 7238 ) ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الرحمان بن إسحاق الواسطي . انظر : مجمع الزوائد 8/263 ، وتهذيب الكمال 4/369 ( 3742 ) .
(4) 6/100 ( 1733 ) ( 71 ) ، وانظر : تخريجه موسعاً عند الحديث السادس والأربعين .
(5) البِتْعُ : البِتْعُ والبِتَعُ : مثل القِمْعِ والقِمَع : نبيذ يتخذ من عسل كأنه الخمر صلابة ، وقال
أبو حنيفة : البِتْع الخمر المتخذ من العسل فأوقع الخمر على العسل ، والبِتْعُ أيضاً : الخمر ،
يمانية ، وبَتَعَها : خَمَّرها . انظر : لسان العرب 1/310 ، وتاج العروس 20/300
( بتع ) .
(6) المِزْر :- تَمزّر المِزْر وهو السُّكْرُكَةُ :- نبيذ الذُّرة تذوقه شيئاً بعد شيء .

انظر : أساس البلاغة 2/210 ، ومختار الصحاح : 623 ( مزر ) .

، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قد أُعطِي جوامع الكَلِمِ بخواتمه ، فقال : ( أنهى عَنْ كُلِّ مُسكرٍ أسكرَ عَنِ
الصَّلاةِ ) .
وروى هشامُ بنُ عمَّارٍ (1) في كتاب " المبعث " (2) بإسناده عن أبي سلاّم
الحبشيِّ ، قال : حُدِّثْتُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ( فُضِّلْتُ على مَنْ كانَ (3) قَبلِي بستٍّ ولا فخر ) ، فذكر منها : قال : ( وأُعطيتُ جَوامعَ الكَلِمِ ، وكانَ أهلُ الكِتابِ يجعلونها جزءاً باللَّيل إلى الصّباح ، فجمعها الله لي (4) في آيةٍ واحدةٍ
{ سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ) (5) .
فجوامعُ الكلم التي خُصَّ بها النَّبيُّ (6) - صلى الله عليه وسلم - نوعان :
أحدهما : ما هو في القُرآن ، كقوله - عز وجل - : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي } (7) قال الحسنُ : لم تترك هذه الآيةُ خيراً إلاَّ أَمرت به ، ولا شرّاً إلاَّ نَهَتْ عنه (8) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( عمارة ) .
(2) أي : ( مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهو غير مطبوع ، وهذا الحديث ضعيف الإسناد لجهالة من حدّث أبا سلام الحبشي .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) في ( ج ) : ( لي ربي ) .
(5) الحديد : 1 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) النحل : 90 .
(8) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 140 ) .

والثَّاني : ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، وهو موجودٌ منتشرٌ (1) في السُّنن المأثورةِ عنه - صلى الله عليه وسلم - . وقد جمع العُلماء جموعاً من كلماتِه - صلى الله عليه وسلم - الجامِعَةِ ، فصنَّف الحافظُ (2) أبو
بكر بن السُّنِّيِّ (3) كتاباً سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم مِنَ السُّنَن المأثورة " ، وجمع القاضي أبو عبدِ الله (4) القُضاعي مِنْ جوامع الكلم الوجيزة كتاباً سمَّاه : " الشهاب في الحِكَم والآداب " (5) ، وصنَّفَ على مِنوالِه (6) قومٌ آخرون ، فزادُوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً ، وأَشار الخطَّابيُّ في أوَّل كتابه " غريب الحديث " (7) إلى يسير من الأحاديث الجامعة .
وأملى الإمامُ الحافظُ أبو عمرو بنُ الصَّلاحِ – رحمه الله - مجلساً سمَّاه
" الأحاديث الكلّيَّة " جمع فيه الأحاديثَ الجوامعَ التي يُقال : إنَّ مدارَ الدِّين عليها ، وما كان في معناها مِنَ الكلمات الجامعةِ الوجيزةِ ، فاشتمل مجلسهُ هذا على ستَّةٍ وعشرين حديثاً .
ثمَّ إنَّ الفقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أبا زكريا يحيى النَّوويَّ -رحمةُ اللهِ عليهِ- أخذَ هذه الأحاديثَ التي أملاها ابنُ الصَّلاحِ ، وزادَ عليها تمامَ اثنينِ وأربعينَ حديثاً ، وسمى كتابه بـ " الأربعين "، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكَثُرَ حفظُها ، ونفع الله بها ببركة نيَّة جامِعِها ، وحُسْنِ قصدِه - رحمه الله - .
__________
(1) في ( ج ) : ( منتشر موجود ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( من السنن ) .
(4) عبارة : ( القاضي أبو عبد الله ) لم ترد في ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( الشهاب والآداب في الحكم ) ، وهو المعروف بـ " مسند الشهاب " المطبوع في مؤسسة الرسالة تحقيق : حمدي عبد المجيد السلفي .
(6) في ( ص ) : ( أقواله ) .
(7) 1/64-67 .

وقد تكرَّر سؤالُ جماعةٍ مِنْ طلبةِ العلمِ والدِّينِ لتعليق شرح لهذه الأحاديث المُشار إليها ، فاستخرتُ الله - سبحانه وتعالى - في جمع كتابٍ يتضمَّنُ شرح ما يُيسِّرُه الله تعالى مِنْ معانيها ، وتقييد ما يفتحُ الله (1) به سبحانه من تبيين قواعدِها ومبانيها ، وإيَّاه أسألُ العونَ على ما قَصَدْتُ ، والتَّوفيقَ في صلاح (2) النِّيَّةِ والقصد فيما أردتُ ، وأُعَوِّلُ في أمري كلّه عليه ، وأبرأ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ إلاَّ إليه .
وقد كان بعضُ مَنْ شرحَ هذه الأربعينَ قد تعقَّب على جامعها -رحمه الله- تركَه لحديثِ : ( أَلحِقُوا الفَرائِضَ بأهلها ، فما أبقتِ الفرائِضُ ، فلأَوْلَى رجُلٍ
ذكرٍ ) (3) ، قال : لأنَّه جامعٌ لقواعدِ الفرائض التي هي نصفُ العلمِ ، فكان ينبغي ذكرهُ في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكرَ حديثَ : ( البيِّنَةُ على المُدَّعي ، واليمينُ على من أنكر ) (4) لجمعه لأحكامِ القضاء .
فرأيتُ أنا أن أضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعين التي جمعها الشيخُ -رحمه الله- ، وأن أضُمَّ إلى ذلك كُلِّه أحاديثَ أُخُرَ مِنْ جَوامعِ الكَلِمِ الجامِعَةِ لأنواعِ العُلومِ والحِكَمِ ، حتَّى تكمُلَ عدَّةُ الأحاديث كلّها خمسينَ حديثاً ، وهذه تسميةُ الأحاديثِ المزيدة على ما ذكره الشيخُ -رحمه الله- في كتابه :
__________
(1) لفظ الجلالة لم يرد في ( ج ) .
(2) في ( ج ) : ( لصالح ) .
(3) سيأتي عند الحديث الثالث والأربعين .
(4) سيأتي عند الحديث الثالث والثلاثين .

حديث : ( ألحِقوا الفَرائِضَ بأهلها ) (1) ، وحديث : ( يحرُمُ مِنَ الرَّضَاع
ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ ) (2) ، وحديث : ( إنَّ اللهَ إذا حرَّمَ شيئاً ، حرَّمَ ثَمَنَهُ ) (3) ، وحديث : ( كلُّ مُسكِرٍ حرامٌ ) (4) ، وحديث : ( ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرّاً من
بطن ) (5) ، وحديث : ( أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنافِقاً ) (6) ،
وحديث : ( لو أنَّكم توكَّلون على الله حَقَّ توكُّلِهِ لرَزَقَكُم كما يرزُقُ
الطَّير ) (7) ، وحديث : ( لا يزالُ لسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكرِ اللهِ - عز وجل - ) (8) .
وسمَّيته :
" جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم " .
واعلم أنه ليس غرضي إلاَّ شرحُ الألفاظ النَّبويَّةِ التي تضمَّنَتْها هذه الأحاديثُ
الكلِّية ، فلذلك لا أتقيَّد بألفاظِ الشَّيخِ -رحمه الله- في تراجمِ رُواةِ هذه الأحاديث مِنَ الصَّحابةِ - رضي الله عنهم - ، ولا بألفاظه في (9) العَزْوِ إلى الكُتب التي يعزُو إليها ، وإنَّما آتي بالمعنى الذي يدلُّ على ذلك ؛ لأني قد أعلمتُك أنَّه ليس لي غرضٌ إلاّ في شرح (10) معاني كلمات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجوامع ، وما تضمَّنَته مِنَ الآداب والحِكَمِ والمعارف والأحكام والشرائع .
__________
(1) سبق الإشارة إلى تخريجه .
(2) سيأتي عند الحديث الرابع والأربعين .
(3) سيأتي تخريجه عند الحديث الخامس والأربعين .
(4) سيأتي عند الحديث السادس والأربعين .
(5) سيأتي عند الحديث السابع والأربعين .
(6) سيأتي عند الحديث الثامن والأربعين .
(7) سيأتي عند الحديث التاسع والأربعين .
(8) سيأتي عند الحديث الخمسين .
(9) في ( ص ) : ( إلى ) .
(10) في ( ص ) : ( في غير شرح ) .

وأشيرُ إشارةً لطيفةً قبلَ الكلامِ في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليُعْلَمَ بذلك صحَّتُهُ وقوَّتُه وضعفُه ، وأذكرُ بعضَ (1) ما رُوي في معناه مِنَ الأحاديث إنْ كان في ذلك الباب شيءٌ غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإنْ لم يكن في الباب غيرُه ، أو لم يكن (2) يصحُّ فيه غيره ، نبَّهت على ذلك كلِّه ، والله المستعان ، وعليه التُّكلانُ ، ولا حَولَ ولا قوَّة إلاَّ باللهِ (3).
__________
(1) في ( ص ) : ( في بعض ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) لم ترد في ( ص ) .


الحديث الأولعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - ، قال : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يقولُ : ( إنَّمَا الأعمَال بالنِّيَّاتِ وإِنَّما لِكُلِّ امريءٍ ما نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُوْلِهِ ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُها أو امرأةٍ يَنْكِحُهَا(1) فهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليهِ ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ (2) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يتزوجها ) .
(2) أخرجه: البخاري 1/2 ( 1 ) و1/21 ( 54 ) و3/190 ( 2529 ) و5/72 ( 3898 ) و7/4 ( 5070 ) و8/175 ( 6689 ) و9/29 ( 6953 )، ومسلم 6/48 ( 1907 ) ( 155 ).
وأخرجه أيضاً : ابن المبارك في " الزهد " ( 188 ) ، والطيالسي ( 37 ) ، والحميدي
( 28 ) ، وأحمد 1/25 و43 ، وأبو داود ( 2201 ) ، وابن ماجه ( 4227 ) ، والترمذي
( 1647 ) ، والبزار ( 257 ) ، والنسائي 1/58 و6/158 و7/13 وفي " الكبرى " ، له
( 78 ) و( 4736 ) و( 5630 ) ، وابن الجارود ( 64 ) ، وابن خزيمة ( 142 )
و( 143 ) و( 455 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/96 وفي " شرح المشكل " ، له
( 5107 ) – ( 5114 ) ، وابن حبان ( 388 ) و( 389 ) ، والدارقطني 1/49-50 وفي
" العلل " ، له 2/194 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/42 ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 1 ) و( 2 ) و( 1171 ) و( 1172 ) ، والبيهقي 1/41 و298 و2/14 و4/112 و235 و5/39 و6/331 و7/341 ، والخطيب في " تاريخه " 2/244 و6/153 ، والبغوي ( 1 ) و( 206 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 5/265 و44/119-120 و46/83 و57/290 من طرق عن يحيى بن سعيد ، به .

هذا الحديثُ تفرَّد بروايته يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ ، عن محمَّدِ
ابن إبراهيمَ التَّيميِّ ، عن علقمة بن وقَّاصٍ الَّليثيِّ ، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - ،
وليس له طريق يصحُّ غير هذا (1) الطريق ، كذا قال عليُّ بنُ المدينيِّ
وغيرُه(2). وقال الخطابيُّ : لا أعلمُ خلافاً بين أهلِ الحديثِ في ذلك، مع أنَّهُ قد
رُوِي من حديث أبي سعيدٍ وغيره(3)
__________
(1) في ( ج ) : ( تصح غير هذه ) .
(2) منهم الترمذي والبزار وحمزة بن محمد الكناني . انظر : الجامع الكبير عقيب حديث
( 1647 ) ، ومسند البزار عقب الحديث ( 257 )، وطرح التثريب 2/3، وفتح الباري 1/15.
(3) حديث أبي سعيد أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/342 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 65/179-180 من طريق نوح بن حبيب ، عن ابن أبي رواد ، عن مالك بن أنس ، عن زيد ابن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، به .
قال الحافظ العراقي في " التقييد والإيضاح " : 101 : ( … وعن الثاني أنه لم يصح من حديث أبي سعيد الخدري ولا غيره سوى عمر ، … ثم إن حديث أبي سعيد الذي ذكره هذا المعترض صرحوا بتغليط ابن أبي رواد الذي رواه عن مالك ) ، وقال في : 102 و103 ( ثم أني تتبعت الأحاديث التي ذكرها ابن منده ، فلم أجد فيها بلفظ حديث عمر أو قريباً من لفظه بمعناه ، إلا حديثاً لأبي سعيد الخدري وحديثاً لأبي هريرة وحديثاً لأنس بن مالك وحديثاً لعلي ابن أبي طالب ، وكلها ضعيفة ) .
وقال الحافظ العراقي أيضاً في " طرح التثريب " 2/4 ( حديث أبي سعيد الخدري رواه الخطابي في " معالم السنن " ، والدارقطني في " غرائب مالك " ، وابن عساكر في " غرائب مالك " من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، وهو غلط من ابن أبي رواد ) .

وقال ابن أبي حاتم في " العلل " 1/131 : ( سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب ، عن
عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد … فذكره وقال : قال أبي : هذا حديث باطل ، ليس له أصل ، إنما هو : مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وقال الدارقطني في " العلل " 2/193 : ( رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، ولم يتابع عليه ) .

، وقد قيل : إنَّهُ قد(1) رُوِي من طُرقٍ كثيرةٍ ، لكن لم(2) يصح من ذلك شيءٌ عندَ الحُفَّاظ .
ثمَّ رواهُ عنِ الأنصاريِّ الخلقُ الكثيرُ والجمُّ الغفيرُ ، فقيل : رواهُ عنهُ أكثرُ مِن مئتي راوٍ ، وقيل : رواه عنه سبعُ مئة راوٍ ، ومِنْ أعيانهم : مالكٌ ، والثوريُّ ، والأوزاعيُّ ، وابنُ المبارك ، واللَّيثُ بنُ سعدٍ ، وحمَّادُ بنُ زيدٍ ، وشعبةُ ، وابنُ عُيينةَ ، وغيرهم (3) .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) في ( ج ) : ( لا ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/15 : ( قد تواتر عن يحيى بن سعيد ، فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مئتان وخمسون نفساً ، وسرد أسماءهم
أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمئة ، وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة
عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي ، قال : كتبته من حديث سبعمئة من أصحاب
يحيى . قلت : وأنا أستبعد صحة هذا ، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة
والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المئة ) . وقال في
" التلخيص " 1/218 بعد أن ذكر كلام أبي إسماعيل الهروي : ( قلت : تبعته من الكتب والأجزاء ، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء ، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقاً ) .

واتَّفقَ العُلماءُ على صحَّته وَتَلَقِّيهِ بالقَبولِ ، وبه صدَّر البخاريُّ كتابَه
" الصَّحيح " ، وأقامه مقامَ الخُطبةِ له ، إشارةً منه إلى أنَّ كلَّ عملٍ لا يُرادُ به
وجهُ الله فهو باطلٌ ، لا ثمرةَ له في الدُّنيا ولا في الآخرةِ ، ولهذا قال عبدُ الرَّحمانِ بنُ مهدي : لو صنَّفتُ الأبوابَ ، لجعلتُ حديثَ عمرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلّ بابٍ ، وعنه أنَّه قال : مَنْ أَرادَ أنْ يصنِّفَ كتاباً ، فليبدأ بحديثِ (1) ( الأعمال
بالنيات )(2).
وهذا الحديثُ أحدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّين عليها (3) ، فرُويَ عنِ الشَّافعيِّ
أنَّهُ قال : هذا الحديثُ ثلثُ العلمِ ، ويدخُلُ في سبعينَ باباً مِنَ الفقه (4) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( عمر : إنما ) .
(2) قول عبد الرحمان بن مهدي هذا ذكره الترمذي في " الجامع الكبير " عقيب حديث
( 1647 ) ، والنووي في " شرح صحيح مسلم " 7/48 وفي " الأذكار " ، له : 6 ، وابن حجر في " الفتح " 1/14 .
(3) في ( ص ) : ( عليها الدين ) .
(4) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 2/14 . وذكره النووي في " المجموع " 1/169 وفي
" شرح صحيح مسلم " 7/48 ، والعراقي في " طرح التثريب " 2/5 ، وابن حجر في
" الفتح " 1/14 .

وعَنِ الإمام أحمدَ قال : أصولُ الإسلام على ثلاثة أحاديث (1) : حديث عمرَ
: ( الأعمالُ بالنيات ) ، وحديثُ عائشة : ( مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا (2) ما ليس منهُ ، فهو ردٌّ )(3) ، وحديثُ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ : ( الحلالُ بيِّنٌ ، والحَرامُ بَيِّنٌ ) (4) . وقال الحاكمُ : حدَّثُونا عَنْ عبدِ الله بنِ أحمدَ ، عن أبيه : أنّه ذكرَ قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام : ( الأعمال بالنيات ) ، وقوله : ( إنّ خَلْقَ أحَدِكُم يُجْمَعُ في بطنِ
أُمِّهِ أربَعينَ يوماً ) (5) ، وقوله : ( مَنْ أَحْدَث في أمرنا (6) هذا (7) ما ليس منه
فهو رَدٌّ ) فقال : ينبغي أنْ يُبدأ بهذه الأحاديثِ في كُلِّ تصنيفٍ ، فإنّها أصولُ الحديث .
وعن إسحاقَ بن راهَوَيْهِ : قال أربعةُ أحاديث هي مِنْ أُصولِ الدِّين : حديث عُمَر : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، وحديث : ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ ) ، وحديث ( إنَّ خَلْقَ أَحدِكُم يُجْمَعُ في بطنِ أمّه (8) ) ، وحديث : ( مَنْ صَنَعَ في أمرِنا شيئاً (9) ليس منه ، فهو ردٌّ ) .
وروى عثمان بنُ سعيدٍ ، عن أبي عُبيدٍ ، قال : جَمَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ أمر الآخرةِ في كلمةٍ : ( مَنْ أحدثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ ) ، وجمع أمرَ الدُّنيا كلَّه (10) في كلمةٍ : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيات ) يدخلان في كل باب .
__________
(1) انظر : طرح التثريب 2/5 ، والفتح 1/15 .
(2) سقطت من ( ج ) .
(3) سيأتي عند الحديث الخامس .
(4) سيأتي عند الحديث السادس .
(5) سيأتي عند الحديث الرابع .
(6) في ( ج ) : ( ديننا ) ، ولعله سبق قلم من الناسخ ، إذ كتب فوقها : ( أمرنا ) .
(7) سقطت من ( ج ) .
(8) زاد بعدها في ( ص ) : ( أربعين يوماً ) .
(9) في ( ج ) : ( هذا ما ) بدل ( شيئاً ) .
(10) سقطت من ( ص ) .

وعن أبي داودَ ، قال : نظرتُ في الحديثِ المُسنَدِ ، فإذا هو أربعةُ آلافِ حديثٍ ، ثمّ نظرتُ فإذا مدارُ الأربعة آلافِ حديث على أربعةِ أحاديث : حديث النُّعمان بنِ بشيرٍ : ( الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّنٌ ) ، وحديث عُمَر (1) : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، وحديث أبي هريرة : ( إنّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلاّ طيِّباً ، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المُرسلين ) الحديث (2) ، وحديث : ( مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يعنيه ) (3) . قال : فكلُّ حديثٍ (4) مِنْ هذه ربعُ العلمِ (5) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( ابن الخطاب ) .
(2) سيأتي عند الحديث العاشر .
(3) سيأتي عند الحديث الثاني عشر .
(4) في ( ص ) : ( واحد ) .
(5) ينظر قول أبي داود في " طرح التثريب " 2/5-6 ، وفي " شرح السيوطي لسنن النسائي " 7/241-242 .

وعن أبي داودَ أيضاً ، قال : كتبتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة ألف حديثٍ، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكتاب - يعني كتابَ " السنن " - جمعت فيه أربعةَ آلاف(1) وثمانمئة حديثٍ (2) ، ويكفي الإنسانَ لدينه(3) مِنْ ذلك أربعةُ أحاديث : أحدُها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما (4) الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، والثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مِنْ حُسن إسلامِ المرءِ تركُهُ ما لا يعنيه ) ، والثالث : قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يكونُ المُؤمِنُ مؤمناً حتّى لاَ يرضى لأخيه(5) إلاّ ما يرضى لنفسه ) (6) ، والرَّابع : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الحلال بيِّنٌ ، والحرامُ بيِّنٌ ) (7) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( حديث ) .
(2) الموجود من الأحاديث في كتاب " السنن " لأبي داود ( 5274 ) . انظر : سنن أبي داود ط. دار الكتب العلمية ، تحقيق : محمد عبد العزيز الخالدي .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) سقطت من ( ج ) .
(5) زاد بعدها في ( ص ) .
(6) ورد هذا الحديث بهذا اللفظ عند السيوطي في " شرحه لسنن النسائي " ، وورد الحديث بلفظ : ( لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ، أو لجاره ما يُحب لنفسه ) .
وأخرجه بهذا اللفظ : ابن المبارك في " الزهد " ( 677 ) ، والطيالسي ( 2004 ) ، وأحمد 3/176 و206 و251 و272 و278 و289 ، وعبد بن حميد ( 1175 ) ، والدارمي
( 2743 ) ، والبخاري 1/10 ( 13 ) ، ومسلم 1/49 ( 44 ) ( 70 ) و1/49 ( 45 )
( 72 ) ، وابن ماجه ( 66 ) ، والترمذي ( 2515 ) ، والنسائي 8/115 و125 وفي
" الكبرى " ، له ( 11747 ) و( 11770 ) ، وابن حبان ( 234 ) و( 235 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 294 ) و( 295 ) و( 296 ) و( 297 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 889 ) ، والبغوي ( 3474 ) من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(7) سيأتي عند الحديث السادس .

وفي رواية أخرى عنه أنه قال : الفقه يدورُ على خمسةِ أحاديث : ( الحلال بَيِّنٌ ، والحرامُ بيِّنٌ ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضَررَ ولا ضِرارَ ) (1) ، وقوله :
( إنّما (2) الأعمالُ بالنِّياتِ ) ، وقوله (3) : ( الدِّينُ النصيحةُ ) (4) ، وقوله : ( وما نهيتُكم عنه فاجتنبُوه ، وما أمرتُكم به فائتُوا مِنهُ ما استطعتم ) (5) .
وفي رواية عنه ، قال : أصولُ السُّنن في كلِّ فنٍّ أربعةُ أحاديث : حديث عمر
( إنّما (6) الأعمالُ بالنّياتِ ) ، وحديث : ( الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّن ) ، وحديث :
( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرء تَركُهُ ما لا يعنيه ) ، وحديث : ( ازْهَدْ في الدُّنيا يحبكَ الله، وازهد فيما في أيدي النَّاس يُحِبك الناسُ ) (7) .
وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوِّز المعافري الأندلسي (8) :
عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنا كلماتٌ
اتَّق الشُّبهَاتِ وازهَدْ ودَعْ ما

أربعٌ مِنْ كلامِ خيرِ البريَّه
لَيسَ يَعْنِيكَ واعمَلَنَّ بِنيَّه (9)
__________
(1) سيأتي عند الحديث الثاني والثلاثين .
(2) سقطت من ( ج ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
(4) سيأتي عند الحديث السابع .
(5) سيأتي عند الحديث التاسع .
(6) سقطت من ( ج ) .
(7) سيأتي عند الحديث الحادي والثلاثين .
(8) الأندلسي ) لم ترد في ( ص ) ، وهو الإمام الحافظ الناقد المجوّد ، أبو الحسن طاهر بن مُفوز ابن أحمد بن مُفوز المعافري الشاطبي ، تلميذ أبي عمر بن عبد البر ، وخصيصه ، وأكثر عنه وَجوَّد ، وكان فهماً ذكياً إماماً من أوعية العِلم وَفُرسان الحديث وأهل الإتقان والتحرير مع الفضل والورع والتقوى والوقار والسمت ، مولده في سنة تسع وعشرين وأربع مئة .
انظر : سير أعلام النبلاء 19/88 ، والعبر 3/305 ، وتذكرة الحفاظ 4/1222-1223 .
(9) انظر : الفتوحات الربانية لابن علان 1/64 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/242 .

فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، وفي رواية : ( الأعمالُ بالنِّيَّة (1) ) .
وكلاهما يقتضي الحصرَ على الصَّحيح ، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك (2)، ولا بسط القول فيه .
وقد اختلف في تقدير قوله : ( الأعمالُ بالنياتِ ) ، فكثيرٌ مِنَ المتأخِّرين يزعُمُ أنّ تقديرَه : الأعمالُ صحيحةٌ ، أو معتَبَرةٌ ، أو مقبولة بالنِّيَّاتِ ، وعلى هذا فالأعمالُ إنّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرعيَّةُ المفتَقِرةُ إلى النِّيَّة ، فأمّا مالا يفتقِرُ إلى النيّة كالعادات مِنَ الأكل والشرب ، واللبسِ وغيرِها ، أو مثل ردِّ الأماناتِ والمضمونات، كالودائعِ والغُصوبِ ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ من ذلك إلى نيةٍ ، فيُخَصُّ هذا كلُّه من عمومِ الأعمال المذكورة هاهُنا .
وقال آخرون : بل الأعمال هنا على عُمومها ، لا يُخَصُّ منها شيءٌ (3) .
وحكاه بعضُهم عن الجمهور ، وكأنَّه يريدُ به جمهورَ المتقدِّمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جريرٍ الطَّبَريِّ ، وأبي طالبٍ المكِّيِّ وغيرِهما من المتقدِّمين ، وهو ظاهرُ كلامِ الإمام أحمدَ .
قال في رواية حنبلٍ : أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عملاً مِنْ صلاةٍ ، أو صيامٍ ، أو صَدَقَةٍ ، أو نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ أنْ تكونَ النِّيَّةُ متقدِّمَةً في ذلك قبلَ الفعلِ ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ) ، فهذا يأتي على كلِّ أمرٍ من الأمور .
وقال الفضلُ بنُ زيادٍ: سألتُ أبا عبد الله - يعني : أحمدَ - عَنِ النِّيَّةِ في العملِ، قلت : كيف النيةُ ؟ قالَ : يُعالجُ نفسَه ، إذا أراد عملاً لا يريدُ به النّاس .
__________
(1) في ( ج ) : ( بالنيات ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) قال ابن دقيق العيد : ( الذين اشترطوا النية قدّروا صحة الأعمال بالنيات أو ما يقاربه ، والذين لم يشترطوها قدّروا كمال الأعمال بالنيات أو ما يقاربه ) .
انظر : طرح التثريب 2/7.

وقال أحمدُ بنُ داودَ الحربي : حدَّث يزيدُ بن هارونَ بحديثِ عمر : ( إنّما (1)
الأعمال بالنيات ) وأحمدُ جالسٌ ، فقال أحمد ليزيدَ : يا أبا خالدٍ ، هذا الخناقُ .
وعلى هذا القول، فقيل : تقديرُ الكلام : الأعمال واقعة ، أو حاصلةٌ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إخباراً عن الأعمالِ الاختيارية أنّها لا تقعُ إلاّ عَنْ قصدٍ مِنَ العاملِ وهو سببُ عملها ووجودِها ، ويكونُ قولُه بعدَ ذلك : ( وإنَّما لكل امرىءٍ(2) ما نوى ) إخباراً عن حكمِ الشَّرع ، وهو أنَّ حظَّ العاملِ مِنْ عمله نيَّتُه ، فإنْ كانت صالحةً فعملُهُ صالحٌ ، فله أجرُه ، وإن كانت فاسدةً فعمله فاسدٌ ، فعليه وِزْرُهُ .
ويحتمل أن يكون التَّقدير في قوله : ( الأعمال بالنيات ) : الأعمالُ صالحةٌ ، أو فاسدةٌ ، أو مقبولةٌ ، أو مردودةٌ، أو مثابٌ عليها ، أو غير مثاب عليها ، بالنيات ، فيكونُ خبراً عن حكمٍ شرعي ، وهو أنَّ صلاحَ الأعمال وفسادَها بحسب صلاحِ النِّياتِ وفسادِها ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (3) : ( إنّما الأعمالُ بالخواتيم ) (4) ، أي : إنَّ صلاحَها وفسادَها وقَبُولَها وعدمَه بحسب الخاتمة .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) في ( ج ) : ( لامرىءٍ ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( إنما لكل امرىء ما نوى . إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلاّ ما نواه به ، فإن نوى خيراً حصل له خير ، وإن نوى شراً حصل له شر ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهي زيادة مكررة .
(4) أخرجه : أحمد 5/335 ، والبخاري 7/128 ( 6493 ) و8/155 ( 6607 ) ، ومسلم 1/74 ( 112 ) ( 179 ) ، وأبو عوانة 1/55 ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 1167 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 58/304 من حديث سهل بن سعد ، به .

وقوله بعد ذلك : ( وإنّما لامرىءٍ (1) ما نوى ) إخبارٌ أنَّه لا يحصلُ له مِنْ عمله إلاّ ما نواه به ، فإنْ نَوى خيراً حصل له خير ، وإنْ نَوى به (2) شرّاً حصل
له(3) شرٌّ ، وليس هذا تكريراً محضاً للجُملة الأولى ، فإنَّ الجُملةَ الأولى دلَّت على أنّ صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النِّيَّة المقتضيةِ لإيجاده ، والجملة الثّانية دلَّت على أنّ ثوابَ العاملِ على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة ، وأنَّ عقابَه عليه بحسب نيَّته الفاسدة ، وقد تكون نيَّتُه مباحة ، فيكون العملُ مباحاً ، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا عقابٌ ، فالعملُ في نفسه صلاحُه وفسادُه وإباحَتُه بحسب النيّة الحاملةِ عليه، المقتضية لوجودِهِ، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامتُه بحسب نيته التي بها صار العملُ(4) صالحاً ، أو فاسداً ، أو مباحاً .
واعلم أنّ النيَّةَ في اللُّغة نوعٌ من القَصدِ والإرادة (5) ، وإن كان قد فُرق بينَ هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره .
والنيةُ في كلام العُلماء تقعُ بمعنيين :
أحدهما : بمعنى تمييز العباداتِ بعضها عن بعضٍ ، كتمييزِ صلاة الظُّهر مِنْ صلاةِ العصر مثلاً (6)، وتمييزِ صيام رمضان من صيام غيرِه ، أو تمييز العباداتِ مِنَ العادات (7)، كتمييز الغُسلِ من الجَنَابةِ مِنْ غسل التَّبرُّد والتَّنظُّف ، ونحو ذلك ، وهذه النيةُ هي التي تُوجَدُ كثيراً في كلامِ الفُقهاء في كتبهم .
__________
(1) في ( ص ) : ( لكل امرىءٍ ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( به ) .
(4) في ( ص ) : ( صار العمل بها ) .
(5) انظر : كتاب العين : 996 ، والصحاح 6/2516 ، ولسان العرب 14/343 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) في ( ص ) : ( العادات من العبادات ) .

والمعنى الثاني : بمعنى تمييزِ المقصودِ بالعمل ، وهل هو لله وحده لا شريكَ له ، أم غيره ، أم الله وغيرُه(1) ، وهذه النيّة هي التي يتكلَّمُ فيها العارفُونَ في كتبهم في
كلامهم على الإخلاص وتوابعه ، وهي التي تُوجَدُ كثيراً في كلام السَّلَفِ المتقدّمين .
وقد صنَّفَ أبو بكر بنُ أبي الدُّنيا مصنَّفاً سمَّاه : كتاب ( الإخلاص والنية ) ، وإنّما أراد هذه النية، وهي النيةُ التي يتكرَّر ذكرُها في كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تارةً بلفظ النيةِ، وتارةً بلفظ الإرادة ، وتارةً بلفظٍ مُقاربٍ لذلك ، وقد جاء ذكرُها كثيراً في كتابِ الله - عز وجل - بغيرِ لفظِ النِّيَّةِ أيضا مِنَ الألفاظ المُقاربةِ لها .
وإنَّما فرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بين النيةِ وبينَ الإرادة والقصدِ ونحوهما ؛ لظنِّهم اختصاصَ النية بالمعنى الأوَّلِ الذي يذكُرُهُ الفقهاءُ ، فمنهم من قال : النيةُ تختصُّ بفعلِ النَّاوي ، والإرادةُ لا تختصُّ بذلك ، كما يريدُ الإنسانُ مِنَ اللهِ أن يغفرَ له ، ولا ينوي ذلك .
__________
(1) في ( ص ) : ( أم هو لغير الله ) بدل : ( أم غيره أم الله وغيره ) .

وقد ذكرنا أنَّ النية في كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسلفِ الأمَّةِ إنَّما يُرادُ بها هذا المعنى الثاني غالباً ، فهي حينئذٍ بمعنى الإرادة ، ولذلك يُعبَّرُ عنها بلفظِ الإرادة في القرآن كثيراً ، كما في قوله تعالى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } (1)، وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَة } (2) ، وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } (3) ، وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } (4) ، وقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } (5) ، وقوله : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } (6) ، وقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (7) ، وقوله
: { ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
__________
(1) آل عمران : 152 .
(2) الأنفال : 67 .
(3) الشورى :20 .
(4) الإسراء : 18-19 .
(5) هود :15-16 .
(6) الأنعام : 52 .
(7) الكهف : 28 .

وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } (1) .
وقد يُعَبَّرُ عنها في القرآن بلفظ ( الابتغاء ) ، كما في قوله تعالى : { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } (2)، وقوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
الله } (3)، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله } (4) ، وقوله : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (5) .
فنفى الخيرَ عَنْ كثيرٍ ممّا يتناجى الناسُ به إلاَّ في الأمرِ بالمعروف ، وخصَّ من أفراده الصَّدقةَ ، والإصلاحَ بينَ النَّاس ؛ لعموم نفعهما ، فدلَّ ذلك على أنّ التَّناجي بذلك خيرٌ ، وأمّا الثوابُ عليهِ مِنَ اللهِ فخصّه بِمَنْ فعله ابتغاءَ مرضات الله .
__________
(1) الروم : 38-39 .
(2) الليل :20 .
(3) البقرة : 265 .
(4) البقرة : 272 .
(5) النساء : 114 .

وإنَّما جَعَل الأمرَ بالمعروفِ مِنَ الصَّدقة ، والإصلاح بينَ النَّاس وغيرهما خيراً ، وإنْ لم يُبْتَغَ به وجهُ اللهِ ، لما يترتَّبُ على ذلك مِنَ النَّفْعِ المُتعدِّي ، فَيَحْصُلُ به للنَّاسِ إحسانٌ وخيرٌ ، وأمّا بالنِّسبة إلى الأمر ، فإنْ قَصَدَ به وجهَ اللهِ وابتغاءَ مَرضاته كان خيراً له ، وأُثيبَ عليه ، وإنْ لم يقصدْ ذلك لم يكن خيراً له ، ولا ثوابَ له عليه ، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله ، يقصِدُ بذلك عَرَضَ الدُّنيا ، فإنّه لا خيرَ له فيه بالكُلِّيّة ؛ لأنَّه لا نفع في ذلك لصاحبه ، لما يترتّب عليه من الإثم فيه ، ولا لغيره ؛ لأنَّه لا يتعدَّى نفعُه إلى أحدٍ ، اللَّهُمَّ إلاّ أنْ يحصُلَ لأحدٍ به اقتداءٌ في ذلك .
وأمّا ما ورد في السُّنَّةِ وكلام السَّلفِ مِنْ تسمية هذا المعنى بالنِّيَّةِ ، فكثيرٌ جداً ، ونحن نذكر بعضَه ، كما خرَّج الإمام أحمدُ والنَّسائيّ مِنْ حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مَنْ غَزَا في سَبيلِ الله ولم يَنْوِ إلاَّ عِقالاً ، فله ما نوى ) (1) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديثِ ابنِ مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أكثرَ شُهداءِ أُمَّتي لأصْحَابُ الفُرُشِ ، ورُبَّ قتيلٍ بَيْنَ الصفَّين الله أعلم بنيَّته ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/315 و320 ، والنسائي 6/24 وفي " الكبرى " ، له ( 4346 )
و( 4347 ) .
وأخرجه أيضاً : الدارمي ( 2421 ) ، وعبد الله بن أحمد في " زياداته " 5/329 ، وابن حبان
( 4638 ) ، والحاكم 2/109 ، والبيهقي 6/331 ، وإسناده ضعيف ؛ فإنَّ يحيى بن الوليد بن عبادة مجهول لم يرو عنه غير جبلة بن عطية .
(2) في " مسنده " 1/397 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .

وخَرَّج ابنُ ماجه (1) من حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُحْشَرُ النَّاسُ على نيَّاتِهم ) ، ومن حديث أبي هريرة ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما يُبْعَثُ النَّاسُ على نِيَّاتِهم ) (2) .
وخَرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديثِ عمر ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما يُبعَثُ
المقتتلون على النِّيَّاتِ ) (3) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن أمِّ سلمةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يعوذُ عائذٌ بالبيتِ ، فيُبعَثُ إليه بعثٌ ، فإذا كانوا ببيداءَ مِنَ الأرضِ خُسِفَ بهم ) ، فقلت :
يا رسولَ اللهِ ، فكيف بمَنْ كان كارهاً ؟ قال : ( يُخْسَفُ به معهم ، ولكنَّه يُبعَثُ يومَ القيامة على نيَّته ) .
__________
(1) في " سننه " ( 4230 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله النخعي .
(2) أخرجه ابن ماجه ( 4229 ) .
وأخرجه أيضاً : أحمد 2/392 ، وأبو يعلى ( 6247 ) ، وتمام في " فوائده " ( 1744 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم وشريك النخعي .
(3) أخرجه : أبو يعلى في " المسند الكبير " كما في " المطالب العالية " ( 1877 ) ، وابن عدي في " الكامل " 6/227 ، وتمام في " فوائده " ( 1743 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 19/274 و20/220 ، وهو حديث منكر لتفرد عمرو بن شمر الكذاب به ، وقد ساقه ابن عدي في منكراته .
تنبيه : جاء في بعض الروايات لفظ ( المسلمون ) بدل ( المقتتلون ) .
(4) الصحيح 8/166 ( 2882 ) ( 4 ) و8/167 ( 2882 ) ( 5 ) .
وأخرجه أيضاً: أحمد 6/289 و290 و316 و317 و318 و323 ، وأبو داود ( 4289 ) ، وابن ماجه ( 4056 ) ، والترمذي ( 2171 ) ، وأبو يعلى ( 6926 ) ، وابن حبان
( 6756 ) ، والطبراني في " الكبير " 23/( 734 ) و( 735 ) و( 736 ) و( 984 )
و( 985 ) من طرق عن أم سلمة .

وفيه أيضاً عَنْ عائشة ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الحديث ، وقال
فيه : ( يهلِكون مَهْلِكاً واحداً ، ويَصدُرُونَ مصادرَ شتَّى ، يبعثُهم الله على
نيَّاتهم ) (1) .
وخرّج الإمام أحمد وابنُ ماجه مِنْ حديث زيدِ بن ثابتٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ كانتِ الدُّنيا همَّه فرّق الله عليه أمره ، وجَعَلَ فقرَه بين عينيه ، ولم يأتِهِ من الدُّنيا إلا ما كُتِبَ له، ومَنْ كَانَتِ الآخرةُ نيَّته جمَعَ الله له أمرَه ، وجعل غِناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ ) . لفظُ ابنِ ماجه ، ولفظُ أحمد : ( مَنْ كان همُّه الآخرة ، ومن كانت نيَّته الدُّنيا ) (2) ، وخرَّجه ابن أبي الدنيا (3) ، وعنده : ( من كانت نيته الدنيا ، ومن كانت نيته الآخرة ) .
وفي " الصَّحيحين " عن سعد بن أبي وقَّاصٍ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّكَ لن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بِها وجهَ اللهِ إلاَّ أُثِبْتَ عليها ، حتَّى اللُّقمَة تجعلُها في فيِّ
امرأتك ) (4)
__________
(1) أخرجه : مسلم 8/168 ( 2884 ) ( 8 ) .
... وأخرجه أيضاً : أحمد 6/105 و259 ، والبخاري 3/86 ( 2118 ) ، وابن حبان
( 6755 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/11 من طرق عن عائشة ، به .
(2) أخرجه : أحمد 5/183 ، وابن ماجه ( 4105 ) .
وأخرجه أيضاً : الدارمي ( 235 ) ، وأبو داود ( 3660 ) ، والترمذي ( 2656 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 94 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " (1600) ، وابن حبان (67) و(680) ، والطبراني في " الكبير " ( 4890 ) و( 4891 ) من طرق عن زيد بن ثابت ، به ، وهو حديث صحيح .
(3) في كتاب الإخلاص : 58 .
(4) أخرجه : البخاري 1/22 ( 56 ) و2/103 ( 1295 ) و4/3 ( 2742 ) و5/87
( 3936 ) و5/225 ( 4409 ) و7/155 ( 5668 ) و8/99 ( 6373 ) و8/187
( 6733 ) ، ومسلم 5/71 ( 168 ) ( 5 ) .
... وأخرجه أيضاً : مالك في " الموطأ " ( 2219 ) برواية يحيى الليثي ، والطيالسي ( 195 )
و( 196 ) و( 197 ) ، وعبد الرزاق ( 16357 ) و( 16358 ) ، والحميدي ( 66 ) ، وأحمد 1/172 و173 و176 و179 ، وعبد بن حميد ( 133 ) ، والدارمي ( 3198 )
و( 3199 ) ، وأبو داود ( 2864 ) ، والترمذي ( 2116 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 1090 ) ، وأبو يعلى ( 727 ) و( 747 ) و( 834 )، وابن الجارود ( 947 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2627 ) و( 2628 ) و( 5221 ) و( 5222 ) ، وابن حبان ( 4249 ) و(6026)، وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " ( 533 )، والبيهقي 6/268 ، والبغوي ( 1458 ) من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، به .

.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ منقطعٍ عن عُمَر ، قال : لا عَمَلَ لِمَنْ لا نيَّةَ له ، ولا أجْرَ لمَنْ لا حِسْبَةَ لهُ ، يعني : لا أجر لمن لم يحتسبْ ثوابَ عمله عندَ الله - عز وجل - .
وبإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ مسعودٍ ، قال : لا ينفعُ قولٌ إلاَّ بعملٍ ، ولا ينفعُ قولٌ وعملٌ إلاَّ بنيَّة ، ولا ينفعُ قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ إلاَّ بما وافق السُّنَّةَ .
وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : تعلَّموا النِّيَّة ، فإنَّها أبلغُ من العَمَلِ (1) .
وعن زُبَيدٍ اليامي ، قال : إنِّي لأحبُّ أن تكونَ لي نيَّةٌ في كلِّ شيءٍ ، حتى في الطَّعام والشَّراب ، وعنه أنَّه قال : انْوِ في كلِّ شيءٍ تريدُه الخيرَ ، حتى خروجك إلى الكُناسَةِ (2) .
وعن داود الطَّائيِّ (3) ، قال : رأيتُ الخيرَ كلَّه إنَّما يجمعُه حُسْنُ النِّيَّة ، وكفاك به خيراً وإنْ لم تَنْصَبْ . قال داود : والبِرُّ هِمَّةُ التَّقيِّ ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدُّنيا لردَّته يوماً نيَّتُهُ إلى أصلِهِ .
وعن سفيانَ الثَّوريِّ ، قال : ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتي ؛ لأنَّها تتقلَّبُ
عليَّ (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/70 .
(2) أخرج القول الثاني : الدينوري في " المجالسة " ( 3533 ) ، وابن عربي في " محاضرة الأبرار " 2/293 .
(3) هو أبو سليمان ، داود بن نصير الطائي ، اشتغل بالعلم مدة ودرس الفقه وغيره من العلوم ثم اختار بعد ذلك العزلة ، وآثر الانفراد والخلوة ولزم العبادة واجتهد فيها إلى آخر عمره ، مات بالكوفة سنة ستين ومئة ، وقيل سنة خمس وستين ومئة .
انظر : سير أعلام النبلاء 7/422 ، والأنساب 3/247-248 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/5 و62 ، وفيه كلمة ( نفسي ) بدل كلمة ( نيتي ) .

وعن يوسُفَ بن أسباط ، قال : تخليصُ النِّيةِ مِنْ فسادِها أشدُّ على العاملينَ مِنْ طُولِ الاجتهاد (1) .
وقيل لنافع بن جُبير : ألا تشهدُ الجنازةَ ؟ قال : كما أنتَ حتَّى أنوي ، قال : ففكَّر هُنَيَّة ، ثم قال : امضِ (2) .
وعن مطرِّف بن عبدِ الله قال : صلاحُ القلب بصلاحِ العملِ ، وصلاحُ العملِ بصلاحِ النيَّةِ (3) .
وعن بعض السَّلَف قال : مَنْ سرَّه أن يَكْمُلَ له عملُه ، فليُحسِن نيَّته ، فإنَّ الله
- عز وجل - يأجُرُ العَبْدَ إذا حَسُنَت نيَّته حتى باللُّقمة .
وعن ابن المبارك ، قال : رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ .
وقال ابن عجلان : لا يصلحُ العملُ إلاَّ بثلاثٍ : التَّقوى لله ، والنِّيَّةِ الحسنَةِ ، والإصابة .
وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ : إنَّما يريدُ الله - عز وجل - منكَ نيَّتَك وإرادتكَ .
وعن يوسف بن أسباط ، قال : إيثارُ الله - عز وجل - أفضلُ من القَتل في سبيله .
خرَّج ذلك كلَّه ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب " الإخلاص والنيَّة " .
وروى فيه بإسنادٍ منقطعٍ عن عُمَر - رضي الله عنه - ، قال : أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ الله - عز وجل - ، والورعُ عمّا حرَّم الله - عز وجل - ، وصِدْقُ النِيَّة فيما عندَ اللهِ - عز وجل - .
__________
(1) أخرجه: الدينوري في " المجالسة " ( 1946 ) و( 3424 )، وابن عربي في " محاضرة الأبرار " 2/323 .
(2) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 3532 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 4/306 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/199 .

وبهذا يعلم معنى ما رُوي عن الإمامِ أحمدَ : أنَّ أُصولَ الإسلام ثلاثةُ أحاديث : حديثُ : ( الأعمال بالنِّيَّات ) ، وحديثُ : ( مَنْ أحدثَ في أمرِنا ما ليس منه فهو رَدٌّ ) ، وحديثُ : ( الحلالُ بَيِّن والحرامُ بيِّن ) . فإنّ الدِّين كلَّه يَرجعُ إلى فعل المأموراتِ ، وترك المحظورات ، والتَّوقُّف عن الشُّبُهاتِ ، وهذا كلُّه تضمَّنه حديثُ النُّعمان بن بشيرٍ .
وإنَّما يتمُّ ذلك بأمرين :
أحدهما : أنْ يكونَ العملُ في ظاهره على موافقَةِ السُّنَّةِ ، وهذا هو الذي تضمَّنه حديثُ عائشة : ( مَنْ أحدَثَ في أمرنا ما ليس منه فهو رَدٌّ ) (1) .
والثاني : أنْ يكونَ العملُ في باطنه يُقْصَدُ به وجهُ الله - عز وجل - ، كما تضمَّنه حديث عمر : ( الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ) .
وقال الفضيلُ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (2) ، قال : أخلصُه وأصوبُه . وقال : إنَّ العملَ إذا كان خالصاً ، ولم يكن صواباً ، لم يقبل ، وإذا كان صواباً ، ولم يكن خالصاً ، لم يقبل حتّى يكونَ خالصاً صواباً ، قال : والخالصُ إذا كان لله - عز وجل - ، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة (3) .
وقد دلَّ على هذا الذي قاله الفضيلُ قولُ الله - عز وجل - : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (4) .
وقال بعضُ العارفينَ: إنَّما تفاضَلُوا بالإرادات ،ولم يتفاضَلُوا بالصَّوم والصَّلاة .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( فَمَنْ كانت هجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه ،فهجرتُهُ إلى الله ورسولِهِ ، وَمَنْ كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها ، فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه ) .
__________
(1) سيأتي عند الحديث الخامس .
(2) الملك : 2 .
(3) ذكره البغوي في " تفسيره " 5/124-125 .
(4) الكهف : 110 .

لما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأعمالَ بحسبِ النِّيَّاتِ ، وأنَّ حظَّ العاملِ من عمله نيَّتُه مِنْ خيرٍ أو شرٍّ ، وهاتانِ كلمتانِ جامِعتانِ ، وقاعِدَتانِ كلِّيَّتانِ ، لا يخرُجُ عنهما شيءٌ ، ذكر بعدَ ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صُورتُها واحدةٌ ، ويختلِفُ صلاحُها وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ ، وكأنَّه يقول : سائرُ الأعمالِ على حَذوِ هذا المثال .
وأصلُ الهجرةِ : هِجرانُ بلدِ الشِّرك ، والانتقالُ منه إلى دارِ الإسلام ، كما كانَ المهاجرونَ قَبلَ فتحِ مكَّة يُهاجرون منها إلى مدينة (1) النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد هاجرَ مَنْ هاجَرَ منهم قبلَ ذلك إلى أرض الحبشة إلى النَّجاشيِّ .
فأخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذه الهجرةَ تختلفُ باختلافِ النيات والمقاصدِ بها (2) ، فمن هاجَرَ إلى دار الإسلام حُبّاً لله ورسولِهِ ، ورغبةً في تعلُّم دينِ الإسلام ، وإظهارِ دينِه حيث كان يعجزُ عنه في دارِ الشِّركِ ، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقاً ، وكفاه شرفاً وفخراً أنَّه حصل له ما نواه من هجرتِهِ إلى الله ورسوله .
ولهذا المعنى اقتصرَ في جوابِ هذا الشرط على إعادتِهِ بلفظه ؛ لأنَّ حُصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدُّنيا والآخرة .
ومن كانت هجرتُهُ من دارِ الشِّرك إلى دارِ الإسلام لطَلَبِ دُنيا يُصيبها ، أو امرأةٍ ينكِحُها في دارِ الإسلام ، فهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليه مِنْ ذلكَ ، فالأوَّل تاجرٌ ، والثَّاني خاطب ، وليسَ واحدٌ منهما بمهاجرٍ .
وفي قوله : ( إلى ما هاجرَ إليه ) تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدُّنيا ،واستهانةٌ به ، حيث لم يذكره بلفظه . وأيضاً فالهجرةُ إلى اللهِ ورسولِهِ واحدةٌ فلا تعدُّد فيها ، فلذلك أعادَ الجوابَ فيها بلفظ الشَّرط .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .

والهجرةُ لأمور الدُّنيا لا تنحصِرُ ، فقد يُهاجِرُ الإنسانُ لطلبِ دُنيا مُباحةٍ تارةً ، ومحرَّمةٍ أخرى ، وأفرادُ (1) ما يُقصَدُ بالهجرةِ من أُمورِ الدُّنيا لا تنحصِرُ ، فلذلك قال : ( فهجرتُهُ (2) إلى ما هاجرَ إليه ) ، يعني : كائناً ما كان .
وقد رُويَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى : { إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الآية (3) . قال : كانت المرأةُ إذا أتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حلَّفها بالله : ما خرجت من بُغضِ زوجٍ ، وبالله : ما خرجت رغبةً بأرضٍ عنْ
أرضٍ(4)، وبالله : ما خرجت التماسَ دُنيا ، وبالله : ما خرجت إلاَّ حباً لله ورسوله . خرجهُ ابنُ أبي حاتم (5) ، وابنُ جريرٍ (6) ، والبزَّارُ في " مسنده " (7) ، وخرَّجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصراً .
وقد روى وكيعٌ في كتابه عن الأعمش ، عن شقيقٍ - هو أبو وائلٍ - قال : خطبَ أعرابيٌّ مِنَ الحيِّ امرأةً يقال لها : أم قيسٍ . فأبت أن تزوَّجَهُ حتى يُهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجته ، فكُنَّا نُسمِّيه مهاجرَ أُم قيسٍ . قال : فقال عبدُ الله - يعني : ابن مسعود - : مَنْ هاجَر يبتغي شيئاً ، فهو له .
__________
(1) كلمة : ( أفراد ) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) الممتحنة : 10 .
(4) في ( ص ) : ( من رغبة من أرض إلى أرض ) .
(5) في " تفسيره " 10/3350 ( 18867 ) .
(6) في " تفسيره " ( 26310 ) ، وطبعة التركي 22/575 .
(7) 2272 ) كشف الأستار ، وهو حديث ضعيف . انظر : مجمع الزوائد 7/123 .

وهذا السِّياقُ يقتضي أنَّ هذا لم يكن في عهدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إنَّما كان في
عهدِ ابنِ مسعودٍ ، ولكن رُوي مِنْ طريقِ سفيانَ الثَّوريِّ ، عَن الأَعمشِ ،
عن أبي وائلٍ ، عن ابن مسعود ، قال : كان فينا رجلٌ خطبَ امرأةً يقال
لها : أم قيسٍ ، فأبت أنْ تزوَّجَه حتَّى يهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجها ،
فكنَّا نسمِّيه مهاجرَ أمِّ قيسٍ . قال ابنُ مسعودٍ : مَنْ هاجرَ لشيءٍ (1)
فهو له (2) .
وقد اشتهرَ أنَّ قصَّةَ مُهاجرِ أمِّ قيسٍ هي(3) كانت سببَ قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها ) ، وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين
في كُتُبهم ، ولم نر لذلك أصلاً بإسنادٍ يصحُّ ، والله أعلم (4) .
وسائر الأعمال كالهجرةِ في هذا المعنى ، فصلاحُها وفسادُها بحسب النِّيَّة الباعثَةِ عليها ، كالجهادِ والحجِّ وغيرهما ، وقد سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اختلاف نيَّاتِ النَّاس في الجهاد وما يُقصَدُ به من الرِّياء ، وإظهار(5) الشَّجاعة والعصبيَّة ، وغير ذلك : أيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( مَنْ قاتَل لِتَكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا ، فهو في سبيل
الله ) فخرج بهذا كلُّ(6) ما سألوا عنه من المقاصد الدُّنيوية .
__________
(1) في ( ص ) : ( يبتغي شيئاً ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " المعجم الكبير " ( 8540 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/14 تعقيباً على هذه القصة : ( لكن ليس فيه أنَّ حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) سقطت من ( ص ) .

ففي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعريِّ : أنَّ أعرابياً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله : الرَّجُلُ يُقاتِلُ للمَغْنمِ ، والرَّجلُ يُقاتِل للذِّكر ، والرَّجُلُ يقاتِل ليُرى مكانُهُ ، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ قَاتَل لتكُونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا ، فهو في سبيل الله ) (1) .
وفي رواية لمسلم : سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الرَّجُلِ يُقَاتلُ شجاعةً ، ويقاتِلُ
حميَّةً (2) ، ويقاتل رياءً ، فأيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فذكرَ الحديث .
وفي رواية له أيضاً : الرَّجُلُ يقاتِلُ غضباً ، ويُقاتلُ حَمِيَّةً .
__________
(1) صحيح البخاري 1/42 ( 123 ) و4/24 ( 2810 ) و4/105 ( 3126 ) و9/166
( 7458 ) ، وصحيح مسلم 6/46 ( 1904 ) ( 149 ) و( 150 ) .
وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 487 ) و( 488 ) ، وعبد الرزاق ( 9567 ) ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 2543 ) ، وأحمد 4/392 و401 و405 و417 ، وعبد بن حميد
( 553 ) ، وأبو داود ( 2517 ) و( 2518 ) ، وابن ماجه ( 2783 ) ، والترمذي
( 1646 ) ، والنسائي 6/23 وفي " الكبرى " ، له ( 4344 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 5106 ) ، وابن حبان ( 4636 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/128 ، والبيهقي 9/167 و168 ، والبغوي ( 2626 ) من طرق عن أبي موسى الأشعري ، به .
(2) الحمية : هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن عشيرته . انظر : شرح صحيح مسلم 7/45 .

وخَرَّج النَّسائيُّ من حديث أبي أُمامة ، قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أرأيت رجلاً غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكْرَ ، ما لَهُ ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) : ( لا شيءَ له ) ، ثمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ (2) الله لا يقبلُ من العملِ إلاَّ ما كانَ
خالصاً ، وابتُغي به وجهُهُ ) (3) .
وخرَّج أبو داود (4) من حديث أبي هريرة : أنَّ رجلاً قال : يا رسول اللهِ ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ وهو يبتغي عَرَضاً مِنْ عَرَضِ(5) الدُّنيا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا أجر له ) فأعاد عليه ثلاثاً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا أجر له ) .
وخرَّج الإمام أحمدُ وأبو داود منْ حديثِ مُعاذِ بنِ جبلٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،
قال : ( الغزوُ غَزوانِ ، فأمَّا من ابتغى وجهَ الله ، وأطاعَ الإمام ، وأنفق الكريمةَ (6) ، وياسرَ الشَّريكَ ، واجتنبَ الفسادَ ، فإنَّ نومَهُ ونَبهَهُ أجرٌ كلُّه ، وأمَّا مَنْ غَزا
فخراً ورياءً وسُمعةً ، وعصى الإمام ، وأفسدَ في الأرض ، فإنَّه لم يرجع
بالكفاف ) (7)
__________
(1) عبارة : ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ص ) .
(2) إن ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المجتبى " 6/25 وفي " الكبرى " ، له ( 4348 ) .
وأخرجه أيضاً : الطبراني في " الكبير " ( 7628 ) من حديث أبي أمامة ، به، وهو حديث قويٌّ .
(4) في " سننه " ( 2516 ) ، وقد أخرجه من طريق ابن المبارك ، وهو عنده في " الجهاد "
( 227 ) ، وقد أخرج الحديث أحمد 2/293 ، وابن حبان ( 4637 ) ، والحاكم 2/85 ، والبيهقي 9/169 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن مكرز فقد جهله علي بن المديني وغيره .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أي : العزيزة على صاحبها . النهاية 3/167 .
(7) أخرجه : أحمد 5/234 ، وأبو داود ( 2515 ) .

وأخرجه : عبد بن حميد ( 109 ) ، والدارمي ( 2422 ) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد "
( 133 ) و( 134 ) ، والنسائي 6/49-50 و7/155 وفي " الكبرى " ، له ( 4379 )
و( 7818 ) و( 8730 ) ، والشاشي في " مسنده " ( 1394 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 176 ) وفي مسند " الشاميين " ، له ( 1159 ) ، والحاكم 2/85 ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/220 ، والبيهقي 9/168 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 4265 ) من طريق
معاذ بن جبل ، به ، وهو ضعيف بقية بن الوليد ليس بالقوي ، وهو يدلس تدليس التسوية ، ولا يقبل منه إلاّ أن يصرح بالسماع في جميع طبقات السند ، ولم يصرح ، وحديثه هذا معلول بالوقف .
أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1340 ) برواية يحيى الليثي ، عن معاذ بن جبل ، به موقوفاً .

.
وخرَّج أبو داود(1) من حديث عبدِ الله بنِ عمرٍو قال : قلتُ : يا رسول الله ، أخبرني عن الجهاد والغزو ، فقال(2) : ( إنْ قاتلت صابراً محتسباً ، بعثك الله صابراً محتسباً ، وإنْ قاتلتَ مُرائياً مُكاثراً ، بعثَك الله مُرائياً مُكاثراً ، على أيِّ حالٍ قَاتَلْتَ أو قُتِلْتَ بعثكَ الله على تِيك الحالِ ) .
وخرَّج مسلمٌ (3)
__________
(1) في " سننه " ( 2519 ) .
وأخرجه أيضاً : الحاكم 2/85 و112 ، والبيهقي 9/168 من حديث عبد الله بن عمرو ،
به ، وإسناده ضعيف ؛ فإنَّ العلاء بن عبد الله مقبول حيث يتابع ولم يتابع ، وشيخه
حنان بن خارجة مجهول تفرد بالرواية عنه العلاء ، وقد جهله أبو الحسن بن القطان
والذهبي .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
(3) في صحيحه 6/47 ( 1905 ) ( 152 ) .

وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 469 ) ، وأحمد 2/321 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد "( 42 ) ، والترمذي ( 2382 ) ، والنسائي 6/23 وفي " الكبرى " ، له ( 4345 ) و( 8083 ) و( 11559 ) وفي " تفسيره " ( 579 ) وفي " فضائل القرآن " ، له ( 108 ) ، وابن خزيمة ( 2482 ) ، وابن حبان ( 408 ) ، والحاكم 1/418-419 ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/169 ، والبيهقي 9/168 ، والبغوي ( 4143 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ
أَوَّلَ النَّاسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه(1) رجلٌ استُشهِدَ ، فأُتِي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه (2)، فعرفها ، قال : فما عَمِلتَ فيها ؟ قالَ : قاتلتُ فيكَ حتّى استُشْهِدتُ ، قالَ : كذبتَ ، ولكنَّكَ قاتلتَ ؛ لأنْ يُقَالَ : جَريءٌ ، فقد قيل ، ثمَّ أُمِرَ به ، فسُحِبَ على وجهه ، حتى أُلقي في النَّارِ ، ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه ، وقرأَ القُرآن ، فأُتِي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه (3) فعرَفها ، قال : فما عملتَ فيها ؟ قال : تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه ، وقرأتُ فيكَ(4) القرآنَ . قال : كذبتَ ، ولكنَّك تعلَّمتَ العلمَ ، ليُقال : عالمٌ ، وقرأتَ القرآنَ ليقال : قارىءٌ ، فقد قيلَ ، ثمَّ أُمِر به ، فسُحِب على وجهه حتّى أُلقي في النّار ، ورجلٌ وسَّع الله عليه ، وأعطاه من أصنافِ المال كلِّه ، فأُتي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه (5) ، فعرفها ، قال : فما عَمِلتَ فيها ؟ قال : ما تركتُ من سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفقَ فيها إلاَّ أنفقتُ فيها لكَ ، قال : كذبتَ ، ولكنَّك فعلتَ ، ليُقالَ : هو جوادٌ ، فقد قيلَ ، ثمَّ أُمِر به ، فسُحب على وجهه ، حتى أُلقي في النار ) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يقضى عليه يوم القيامة ) .
(2) عليه ) من ( ص ) فقط .
(3) عليه ) من ( ص ) فقط .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عليه ) من ( ص ) فقط .

وفي الحديث : إنَّ معاويةَ لمَّا بلغه هذا الحديثُ(1) ، بكى حتَّى غُشِي عليه ، فلمَّا أفاق ، قال : صدَقَ الله ورسولُه ، قال الله - عز وجل - : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار } (2) .
وقد وردَ الوعيدُ على تعلُّم العِلم لغيرِ وجه الله ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وابنُ ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ تعلَّم عِلماً مِمَّا يُبتَغى به وجهُ الله ، لا يتعلَّمُه إلاَّ ليُصيبَ بهِ عَرَضاً من الدُّنيا ، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامَةِ ) يعني : ريحها (3) .
وخرَّج الترمذيُّ (4)
__________
(1) في ( ص ) : ( سمعه ) مكان : ( بلغه هذا الحديث ) .
(2) هود : 15-16 .
(3) أخرجه : أحمد 2/338 ، وأبو داود ( 3664 ) ، وابن ماجه ( 252 ) .
وأخرجه أيضاً : أبو الحسن القطان في " زياداته على سنن ابن ماجه " بإثر الحديث ( 252 ) ، وأبو يعلى ( 6373 ) ، وابن حبان ( 78 ) ، والحاكم 1/85 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1770 ) ، والخطيب في " تاريخه " 5/347 و8/78 ، وإسناده ضعيف لضعف فليح بن سليمان ، وقد خولف في هذا الحديث فرواه من هو أقوى منه مرسلاً ، قال الإمام الدارقطني : ( المرسل أشبه بالصواب ) . العلل الواردة في الأحاديث النبوية 11/10 س ( 2087 ) .
(4) في " الجامع الكبير " ( 2654 ) .

وأخرجه أيضاً : العقيلي في " الضعفاء " 1/104 ، وابن حبان في " المجروحين " 1/133-134 ، والطبراني في " الكبير " 19/( 199 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/541 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " ( 86 ) ، وقال الترمذي : ( غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه ، وإسحاق بن يحيى بن طلحة ليس بذاك القوي عندهم ، تكلم فيه من قبل حفظه ) .

من حديثِ كعبِ بن مالك ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ طَلَب العلمَ ليُمارِي به السُّفهَاء ، أو يُجاري به العُلَماء ، أو يَصرِفَ به وجُوهَ النَّاسِ إليه ، أدخله الله النَّار ) .
وخرَّجه ابن ماجه (1) – بمعناه - مِنْ حديث(2) ابن عمر ، وحذيفةَ ، وجابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3)، ولفظُ حديث جابرٍ : ( لا تَعَلَّموا العِلمَ ، لتُباهُوا به العُلماءَ ، ولا لِتُماروا به السُّفَهاءَ ، ولا تَخَيَّروا به المجالس ، فَمَنْ فعل ذلك ، فالنَّارَ النَّارَ ) .
وقال ابنُ مسعودٍ : لا تعلَّموا العِلمَ لثلاثٍ : لِتُماروا به السُّفَهاء ، أو لِتُجادِلوا به الفُقهاء ، أو لتصرفوا بهِ وُجُوه النَّاس إليكم ، وابتغُوا بقولِكُم وفعلِكم ما
عندَ اللهِ (4)، فإنَّه يبقَى ويذهبُ ما سواهُ (5) .
وقد ورد الوعيدُ على العمل لغيرِ اللهِ عموماً ، كما خرَّج الإمامُ أحمدُ (6)
__________
(1) في " سننه " ( 253 ) من حديث ابن عمر ، و( 254 ) من حديث جابر بن عبد الله ،
و( 259 ) من حديث حذيفة .
وأخرجه : ابن حبان ( 77 ) ، والحاكم 1/86 من حديث جابر بن عبد الله ، به ، وكلها ضعيفةٌ ، وبعضهم قوى الحديث بالمجموع ، والله أعلم .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) بعد هذا في ( ص ) : ( جاء ) .
(4) في ( ص ) : ( وجه الله ) .
(5) ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/176 .
(6) في مسنده 5/134 .

وأخرجه : عبد الله بن أحمد في " زياداته " 5/134 ، وابن حبان ( 405 ) ، والحاكم 4/311 و318 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6833 ) و( 6834 ) و( 10335 ) وفي " دلائل النبوة " ، له 6/317-318 ، والبغوي ( 4144 ) و( 4145 ) .وهو حديث قويٌّ .

من حديثِ أبيّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( بَشِّرْ هذه الأمَّةَ بالسَّناء والرِّفْعَة والدِّين والتمكينِ (1) في الأرض ، فمن عَمِلَ منهُم عملَ الآخرةِ للدُّنيا ، لم يكنْ له في
الآخرةِ (2) نصيبٌ ) .
واعلم أنَّ العمل لغيرِ الله أقسامٌ : فتارةً يكونُ رياءً محضاً ، بحيثُ لا يُرادُ به سوى مراآت المخلوقين لغرضٍ دُنيويٍّ ، كحالِ المنافِقين في صلاتهم ، كما قال الله - عز وجل - : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً } (3) .
وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } الآية (4) .
وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرِّياء في قوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله } (5) .
وهذا الرِّياءُ المحضُ لا يكاد يصدُرُ من مُؤمنٍ في فرض الصَّلاةِ والصِّيامِ ، وقد يصدُرُ في الصَّدقةِ الواجبةِ أو الحجِّ ، وغيرهما من الأعمال الظاهرةِ ، أو التي يتعدَّى نفعُها ، فإنَّ الإخلاص فيها عزيزٌ ، وهذا العملُ لا يشكُّ مسلمٌ أنَّه حابِطٌ ، وأنَّ صاحبه يستحقُّ المقتَ مِنَ اللهِ والعُقوبة (6) .
__________
(1) في ( ص ) : ( والتمكين والدين ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( من ) .
(3) النساء : 142 .
(4) الماعون : 4-6 .
(5) الأنفال : 47 .
(6) روي أنَّ لقمان قال لابنه : الرياء أنْ تطلب ثواب عملك في دار الدنيا ، وإنَّما عمل القوم للآخرة ، قيل له : فما دواء الرياء ؟ قال : كتمان العمل ، قيل له : فكيف يكتم العمل ؟ قال : ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص ، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا تطلع عليه إلا الله . انظر : تفسير القرطبي 5/182 .

وتارةً يكونُ العملُ للهِ ، ويُشارِكُه الرِّياءُ ، فإنْ شارَكَهُ مِنْ أصله ، فالنُّصوص الصَّحيحة تدلُّ على بُطلانِهِ وحبوطه أيضاً (1).
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يقولُ الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشُّركاءِ (3) عن الشِّرك ، مَنْ عَمِل عملاً أشركَ فيه معي غيري ، تركته وشريكَه ) ، وخرَّجه ابنُ ماجه (4) ، ولفظه : ( فأنا منه بريءٌ ، وهوَ للَّذي أشركَ ) .
وخرَّج الإمام أحمد (5) عن شدّاد بن أوسٍ ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ صَلَّى يُرائِي ، فقد أشرَكَ ، ومنْ صَامَ يُرائِي فقد أشرَكَ ، ومن تَصدَّقَ يُرائِي فقد أشرك ، وإنَّ الله - عز وجل - يقولُ : أنا خيرُ قسيمٍ لِمَنْ أشرَكَ بي شيئاً ، فإنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قليله وكثيره لشريكِهِ الذي أشركَ به ، أنا عنه غنيٌّ ) .
وخرَّج الإمام أحمدُ (6) والترمذيُّ (7) وابنُ ماجه (8)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) 8/223 ( 2985 ) ( 46 ) .
(3) في ( ج ) و( ص ) : ( الأغنياء ) ، والمثبت من " صحيح مسلم " .
(4) في " سننه " ( 4202 ) .
... وأخرجه : الطيالسي ( 2559 ) ، وأحمد 2/301 و435 ، وأبو يعلى ( 6552 ) ، وابن خزيمة ( 938 ) ، وابن حبان ( 395 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6815 ) ، والبغوي ( 4136 ) و( 4137 ) وهو صحيح .
(5) في " مسنده " 4/126 .
وأخرجه : الطيالسي ( 1120 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7139 ) ، والحاكم 4/329 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/268-269 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6844 ) وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
(6) في "مسنده" 3/466 و4/215، وهو حديث قويٌّ ، وقال علي بن المديني : ( سنده صالح ).
(7) في " الجامع الكبير " ( 3154 ) .
(8) في " سننه " ( 4203 ) .

وأخرجه أيضاً : الدولابي في " الكنى والأسماء " 1/35 ، وابن حبان ( 404 ) و( 7345 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 778 ) .

مِنْ حديث أبي سعيد بن
أبي فضالةَ - وكان مِنَ الصَّحابة - قال : قالَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا جمع الله الأوَّلين والآخِرين ليومٍ لا ريبَ فيه ، نادَى مُنادٍ : مَنْ كانَ أشركَ في عملٍ عمِلَهُ لله - عز وجل - فليَطلُبْ ثوابَهُ من عند غير الله - عز وجل - ، فإنّ الله أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك ) .
وخرَّج البزّار في " مسنده " (1) من حديثِ الضَّحَّاكِ بن قيسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله - عز وجل - يقول : أنا خيرُ شريكٍ ، فمن أشركَ معي شريكاً ، فهو لشريكي . يا أيُّها النَّاسُ أخلِصوا أعمالَكُم لله - عز وجل - ؛ فإنَّ الله لا يقبلُ مِنَ الأعمالِ إلاَّ ما أُخْلِصَ لَهُ ، ولا تقولوا : هذا للهِ وللرَّحِمِ ، فإنّها للرَّحِم ، وليس لله منها شيءٌ ، ولا تقولوا : هذا لله ولوجُوهِكُم ، فإنَّها لوجوهكم ، وليس لله فيها شيءٌ (2) ) .
وخرَّج النَّسائيُّ (3) بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ : أنَّ رجُلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : يا رسولَ اللهِ ، أرأيتَ رجلاً غزا يلتَمِسُ الأجْرَ والذِّكر(4) ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا شيءَ لهُ ) فأعادها ثلاث مرات ، يقول له رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - (5) : ( لا شيء له ) ، ثمَّ قال : ( إنَّ الله لا يقبلُ منَ العَمَل إلاَّ ما كانَ له خالصاً ، وابتُغِي به وجهُه ) .
__________
(1) 3567 ) ، وفي إسناده ضعف من أجل إبراهيم بن مجشر .
(2) من قوله : ( ولا تقولوا : هذا لله ولوجوهكم ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(3) في " المجتبى " 6/25 وفي " الكبرى " ، له ( 4348 ) ، وقد حسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 6/2410-2411 ( 3839 ) .
(4) في ( ص ) : ( الأجر من الله والذكر من الناس ) .
(5) في ( ص ) : ( فأعادها ثلاثاً ورسول الله يقول ) .

وَخَرَّج الحاكمُ (1) مِنْ حديث ابن عباس قال (2) : قال رجل : يا رسول الله ، إني أقف الموقف أُريد به وجْه الله ، وأريدُ أنْ يُرى موطِني ، فلم يردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا حتّى نزلت : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (3) .
وممَّن رُوي عنه هذا المعنى ، وأنَّ العملَ إذا خالطه شيءٌ مِنَ الرِّياءِ كان
باطلاً (4) : طائفةٌ مِنَ السَّلفِ، منهم : عبادةُ بنُ الصَّامتِ ، وأبو الدَّرداءِ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ المسيَّبِ ، وغيرهم .
وفي مراسيلِ القاسم بنِ مُخَيمرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَقبَلُ الله عملاً فيه مثقالُ حبَّةِ خردلٍ مِنْ رياءٍ ) (5) .
ولا نعرفُ عنِ السَّلفِ في هذا خلافاً ، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عن بعضِ المتأخِّرينَ .
__________
(1) في " المستدرك " 2/111 من حديث نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري، عن طاووس ، عن ابن عباس مرفوعاً ، وهو معلول بالإرسال ، ونعيم ضعيف .
وأخرجه : ابن المبارك في " الجهاد " ( 12 ) ، وعبد الرزاق في " تفسيره " ( 1728 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 17654 ) وطبعة التركي 15/440 ، والحاكم 4/329 من طريق طاووس ، مرسلاً ، وهو الصواب فكذا رواه ابن المبارك في كتابه " الجهاد " وقد تابعه على ذلك عبد الرزاق .
(2) قال ) من ( ص ) .
(3) الكهف : 110 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( قاله ) .
(5) ذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " ( 51 ) عن القاسم بن مخيمرة ، وهو ضعيف لإرساله .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/240 من كلام يوسف بن أسباط .

فإنْ خالطَ نيَّةَ الجهادِ مثلاً نيّة غير الرِّياءِ ، مثلُ أخذِ أجرة للخِدمَةِ ، أو أخذ شيءٍ مِنَ الغنيمةِ ، أو التِّجارة ، نقصَ بذلك أجرُ جهادهم ، ولم يَبطُل بالكُلِّيَّة ، وفي " صحيح مسلم " (1) عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الغُزَاةَ إذا غَنِموا غنيمةً ، تعجَّلوا ثُلُثي أجرِهِم ، فإنْ لم يغنَمُوا شيئاً ، تمَّ لهُم أجرُهم ) .
وقد ذكرنا فيما مضى أحاديثَ تدلُّ على أنَّ مَنْ أراد بجهاده عَرَضاً مِنَ الدُّنيا أنَّه لا أجرَ له ، وهي محمولةٌ على أنَّه لم يكن له غرَضٌ في الجهاد إلاَّ الدُّنيا .
وقال الإمامُ أحمدُ : التَّاجِرُ والمستأجر والمُكاري أجرهم على قدر ما يخلُصُ من نيَّتهم في غزاتِهم ، ولا يكونُ مثل مَنْ جاهَدَ بنفسه ومالِه لا يَخلِطُ به غيرَهُ .
وقال أيضاً فيمن يأخذُ جُعْلاً على الجهاد : إذا لم يخرج لأجلِ الدَّراهم فلا بأس أنْ يأخذَ ، كأنّه خرجَ لدينِهِ ، فإنْ أُعطي شيئاً أخذه .
وكذا رُوي عن عبد الله بن عمرٍو ، قال : إذا أجمعَ أحدُكم على الغزوِ ، فعوَّضَه الله رزقاً ، فلا بأسَ بذلك ، وأمَّا إنْ أحَدُكُم إنْ أُعطي درهماً غزا ، وإنْ مُنع درهماً مكث ، فلا خيرَ في ذلك .
وكذا قال الأوزاعي : إذا كانت نيَّةُ الغازي على الغزو ، فلا أرى بأساً .
__________
(1) 6/47 ( 1906 ) ( 153 ) و( 154 ) .
وأخرجه أيضاً : أحمد 2/169 ، وأبو داود ( 2497 ) ، وابن ماجه ( 2785 ) ، والنسائي 6/17-18 وفي " الكبرى " ، له ( 4333 ) ، والحاكم 2/78 ، والبيهقي 9/169 وفي
" شعب الإيمان " ، له ( 4245 ) .

وهكذا يُقالُ فيمن أخذَ شيئاً في الحَجِّ ليحُجَّ به : إمَّا(1) عَنْ نفسه ، أو عَنْ غيرِه ، وقد رُوي عَنْ مُجاهد أنّه قال في حجِّ الجمَّال وحجِّ الأجيرِ وحجِّ التَّاجِر : هو تمامٌ لا يَنقُصُ من أُجُورهم شيءٌ ، وهذا محمولٌ على أنَّ قصدهم الأصليَّ كان هو الحجَّ دُونَ التَّكسُّب .
وأمَّا إنْ كان أصلُ العمل للهِ ، ثم طرأت عليه نيَّةُ الرِّياءِ ، فإنْ كان خاطراً ودفَعهُ ، فلا يضرُّه بغيرِ خلافٍ ، وإن استرسلَ معه ، فهل يُحبَطُ(2) عملُه أم لا يضرُّه ذلك ويجازى على أصل نيَّته ؟ في ذلك اختلافٌ بين العُلماءِ مِنَ السَّلَف قد حكاه الإمامُ أحمدُ وابنُ جريرٍ الطَّبريُّ ، ورجَّحا أنَّ عمله لا يبطلُ بذلك ، وأنّه يُجازى بنيَّتِه الأُولى ، وهو مرويٌّ عنِ الحسنِ البصريِّ وغيره .
ويُستدلُّ لهذا القولِ بما خَرَّجه أبو داود في " مراسيله " (3) عن عطاءٍ الخُراسانيِّ : أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله، إنّ بنِي سلمِةَ كُلهم يقاتلُ ، فمنهم من يُقاتِلُ للدُّنيا، ومنهم من يُقاتِلُ نَجدةً ، ومنهم مَنْ يُقاتِلُ ابتغاءَ وجهِ الله ، فأيُّهُم الشهيد ؟ قال
: ( كلُّهم إذا كان أصلُ أمره أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا ) .
وذكر ابنُ جريرٍ أنَّ هذا الاختلافَ إنَّما هو في عملٍ يرتَبطُ آخرُه
بأوَّلِه ، كالصَّلاةِ والصِّيام والحجِّ ، فأمَّا ما لا ارتباطَ فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاقِ المالِ ونشرِ العلم، فإنَّه ينقطعُ بنيَّةِ الرِّياءِ الطَّارئة عليه، ويحتاجُ إلى تجديدِ نيةٍ .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( به ) .
(3) برقم ( 321 ) ، وهو مع إرساله ضعيف من جهة إسناده ، ففيه هشام بن سعد ، وهو صاحب أوهام ، وعطاء يهم كثيراً ويرسل ويدلس . التقريب ( 4600 ) .

وكذلك رُوي عن سُليمانَ بنِ داود الهاشميّ(1) أنَّه قال : ربَّما أُحدِّثُ بحديثٍ
ولي(2) نيةٌ ، فإذا أتيتُ على بعضِه ، تغيَّرت نيَّتي ، فإذا الحديثُ الواحدُ يحتاجُ إلى
نيَّاتٍ (3) .
ولا يَرِدُ على هذا الجهادُ ، كما في مُرسل عطاءٍ الخراساني (4) ، فإنَّ الجهادَ يلزَم بحُضورِ الصَّفِّ ، ولا يجوزُ تركُه حينئذٍ ، فيصيرُ كالحجِّ .
فأمَّا إذا عَمِلَ العملَ لله(5) خالصاً ، ثم ألقى الله لهُ الثَّناء الحسنَ في
قُلوبِ المؤمنين بذلك ، ففرح بفضل الله ورحمته ، واستبشرَ بذلك ، لم يضرَّه
ذلك .
وفي هذا المعنى جاء حديثُ أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُل يعملُ العَمَل لله مِنَ الخير ويحمَدُه النَّاسُ عليه ، فقال : ( تلك عاجلُ بُشرى المؤمن ) خرَّجه مسلم(6)
__________
(1) هو أبو سليمان بن داود بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي ، سكن بغداد ، قال محمد بن سعد : كتب عنه البغداديون ورووا عنه ، وتوفي ببغداد سنة تسع وعشرين ومئتين ، وقال أبو حسان الزيادي : مات سنة عشرين ومئتين .
انظر : تاريخ بغداد 9/30-31 ، وتهذيب الكمال 3/275 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( فيه ) .
(3) أخرجه : الخطيب في " تاريخه " 9/31 ، وذكره المزي في " تهذيب الكمال " 3/275 ، والذهبي في " السير " 10/625 .
(4) الذي سبق قبل قليل .
(5) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(6) في " صحيحه " 8/44 ( 2642 ) ( 166 ) .

وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 455 ) ، وأحمد 5/156 و157 و168 ، والبزار في
" مسنده " ( 3955 ) و( 3956 ) ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 14/155
( 17552 ) ، وابن حبان ( 366 ) و( 367 ) و( 5768 ) ، والبغوي ( 4139 )
و( 4140 ) .

، وخرَّجه ابن ماجه(1)، وعنده : الرَّجُلُ يعمَلُ العملَ للهِ فيحبُّه النَّاسُ
عليه . وبهذا المعنى فسَّره الإمامُ أحمدُ ، وإسحاقُ بن راهويه ، وابنُ جريرٍ
الطَّبريّ (2)، وغيرهم(3) .
وكذلك الحديثُ الذي خرَّجه الترمذيُّ وابنُ ماجه مِنْ حديثِ أبي هريرةَ : أنَّ رجُلاً قال : يا رسول الله ، الرَّجُلُ يعملُ العملَ فيُسِرُّهُ ، فإذا اطُّلع عليه أعجَبهُ ، فقال : ( له أجران : أجرُ السِّرِّ ، وأجرُ العلانيةِ ) (4) .
ولنقتَصِر على هذا المقدار مِنَ الكلامِ على الإخلاصِ والرِّياء ، فإنَّ فيه كفايةً .
وبالجملةِ ، فما أحسن قولَ سهلِ بن عبد الله التُّستري : ليس على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِنَ الإخلاصِ ؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ .
وقال يوسفُ بنُ الحسينِ الرازيُّ : أعزّ شيءٍ في الدُّنيا الإخلاصُ ، وكم اجتهد في إسقاطِ الرِّياءِ عَنْ قلبي ، وكأنَّه ينبُتُ فيه على لون آخر .
__________
(1) في " سننه " ( 4225 ) .
(2) قال النووي في " شرح صحيح مسلم " 8/359 : ( قال العلماء : معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير ، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث، ثم يوضع له القبول في الأرض . هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 4226 ) ، والترمذي ( 2384 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2430 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 2/210 ، وابن حبان
( 375 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/250 ، والبغوي ( 4141 ) ، وهو معلول بالإرسال كذا أعله الترمذي والدارقطني وأبو نعيم ، وانظر : علل الدارقطني 8/183 س ( 1499 ) .

وقال ابنُ عيينةَ : كان من دُعاء مطرِّف بن عبد الله : اللهمَّ إنِّي أستغفرُكَ ممَّا تُبتُ إليكَ منه ، ثمّ عُدتُ فيه ، وأستغفرُكَ ممَّا جعلتُهُ لكَ على نفسي ، ثمَّ لم أفِ لك به ، وأستغفركَ ممَّا زعمتُ أنِّي أردتُ به وجهَك ، فخالطَ قلبي منه ما قد(1) علمتَ(2) .
فصل
وأمَّا النِّيَّةُ بالمعنى الذي يذكره الفُقهاءُ ، وهو أنَّ تمييزَ العباداتِ من العاداتِ ، وتمييز العباداتِ بعضها مِنْ بعضٍ ، فإنَّ الإمساكَ عنِ الأكلِ والشُّربِ يقعُ تارةً حميةً ، وتارةً لعدمِ القُدرةِ على الأكل(3) ، وتارةً تركاً للشَّهواتِ للهِ - عز وجل - ، فيحتاجُ في الصِّيامِ إلى نيَّةٍ ليتميَّزَ بذلك عَنْ تركِ الطَّعامِ على غير هذا الوجه .
وكذلك العباداتُ ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ ، منها فرضٌ ، ومنها نفلٌ .
والفرضُ يتنوَّعُ أنواعاً ، فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسُ صلواتِ كلَّ يومٍ وليلةٍ ، والصَّومُ الواجبُ تارةً يكونُ صيامَ رمضان ، وتارةً (4) صيامَ كفارةٍ ، أو عن نذرٍ ، ولا يتميَّزُ هذا كلُّه إلاَّ بالنِّيَّةِ ، وكذلك الصدقةُ ، تكونُ نفلاً ، وتكونُ فرضاً ، والفرضُ منه زكاةٌ ، ومنه كفَّارةٌ ، ولا يتميَّزُ ذلكَ إلاَّ بالنِّيَّةِ ، فيدخلُ ذلك في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنَّما لكل امرىءٍ (5) ما نَوى ) .
__________
(1) في ( ص ) : ( مما ) بإسقاط : ( قد ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/207 .
(3) عبارة : ( وتارة لعدم القدرة على الأكل ) لم ترد في ( ص ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( يكون ) .
(5) في ( ج ) : ( لامريءٍ ) .

وفي بعضِ ذلك اختلافٌ مشهورٌ بينَ العُلماءِ ، فإنَّ منهم مَنْ لا يُوجِبُ تعيينَ
النِّيَّةِ للصَّلاةِ المفروضةِ ، بل يكفي عندَه أنْ ينويَ فرضَ الوقتِ ، وإنْ لم يستحضِرْ
تسميتَه في الحال ، وهي روايةٌ عن الإمامِ(1) أحمدَ (2) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) قال ابن قدامة الحنبلي في " المغني " 1/544-545 : ( لا نعلم خلافاً بين الأئمة في وجوب النية للصلاة ، فإن كانت الصلاة مكتوبة لزمته نية الصلاة بعينها ظهراً أو عصراً أو غيرهما فيحتاج إلى نية شيئين : الفعل والتعيين . =
= ... واختلف أصحابنا في نية الفريضة ، فقال بعضهم : لا يحتاج إليها ؛ لأنَّ التعيين يغني عنها لكون الظهر مثلاً لا يكون إلا فرضاً من المكلف ، وقال ابن حامد : لا بُدَّ من نية الفريضة ؛ لأنَّ المعينة قد تكون نفلاً كظهر الصبي والمعادة فيفتقر إلى ثلاثة أشياء الفعل والتعيين والفريضة ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله : ينوي بها المكتوبة . وقال القاضي : ظاهر كلام الخرقي أنَّه لا يفتقر إلى التعيين ؛ لأنَّه إذا نوى المفروضة انصرفت النية إلى الحاضرة ، والصحيح أنَّه لا بد من التعيين ، بدليل : أنَّه لم يغن عن نية المكتوبة وقد يكره عليه صلوات فلا تعيين إحداهن بدون التعيين ) .
انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 1/211-212 ، والمبدع 1/358 .

ويُبنى على هذا القولِ : أنَّ منْ فاتَته صلاةٌ مِنْ يومٍ وليلةٍ ، ونسيَ عينَها ، أنّ عليه أنْ يقضي ثلاثَ صلواتٍ : الفجرَ والمغربَ ورُباعيَّةً واحدة (1) .
__________
(1) قال ابن قدامة الحنبلي : ( أما الفائتة فإنْ عينها بقلبه أنَّها ظهر اليوم لم يحتج إلى نية القضاء ولا الأداء بل لو نواها أداء فبان أنَّ وقتها قد خرج وقعت قضاء من غير نية ، ولو ظن أنَّ الوقت قد خرج فنواها قضاءً فبان أنَّها في وقتها أداء من غير نية كالأسير إذا تحرى وصام شهراً يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه ، وإنْ ظن أنَّ عليه ظهراً فائتة فقضاها في وقت ظهر اليوم ثم تبين أنَّه لا قضاء عليه فهل يجزئه عن ظهر اليوم ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : يجزئه ؛ لأنَّ الصلاة معينة ، وإنَّما أخطأ في نية الوقت فلم يؤثر كما إذا اعتقد أنَّ الوقت قد خرج فبان أنَّه لم يخرج ، أو كما لو نوى ظهر أمس وعليه ظهر يوم قبله .
والثاني : لا يجزئه ؛ لأنَّه لو لم ينو عين الصلاة فأشبه ما لو نوى قضاء عصر لم يجزه عن الظهر ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة لم يجزه عنها ويتخرج فيها كالتي قبلها . فأما إنْ كانت عليه فوائت فنوى صلاة غير معينة لم يجزه عن واحدة منها لعدم التعيين ولو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه خمس صلوات ليعلم أنه أدى الفائتة ، ولو نسي صلاة لا يدري أظهر هي أم عصر لزمه صلاتان ، فإن صلى واحدة ينوي أنها الفائتة لم يجزه لعدم التعيين ) .
انظر : المغني 1/545 .

وكذلك ذهبَ طائفةٌ مِنَ العُلماءِ إلى أنَّ صيامَ رمضانَ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ تعينية
أيضاً، بل تُجزىءُ بنيَّة الصيامِ مُطلقاً؛ لأنَّ وقتَه غيرُ قابلٍ لصيامٍ آخر، وهو أيضاً روايةٌ عنِ الإمام(1) أحمدَ (2) . وربَّما حُكِي عن بعضِهم أنَّ صيامَ رمضانَ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ بالكُلِّيَّةِ (3) ؛ لتعيينه بنفسه ، فهو كردِّ الودائعِ ، وحُكِي عن الأوزاعيِّ أنَّ الزَّكاةَ كذلك(4). وتأوَّلَ بعضُهم قولَه على أنَّه أرادَ أنَّها تُجزىءُ بنيَّةِ الصَّدقةِ المُطلَقَةِ كالحجِّ. وكذلك قال أبو حنيفة : لو تصدَّق بالنِّصاب كلِّه مِنْ غيرِ نيَّةٍ أجزأه عن زكاته(5).
وقد رُوي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه سَمع رجُلاً يُلبِّي بالحّجِّ عَنْ رجُلٍ، فقال له :
( أحَجَجْت عن نَفسك ؟ ) قالَ: لا، قالَ: ( هذه عَنْ نفسِك، ثمَّ حُجَّ عن الرَّجُلِ ).
وقد تُكُلِّم في صحَّةِ هذا الحديث ، ولكنَّه صحيحٌ عن ابنِ عباسٍ وغيره(6)
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/253 ، والمغني 3/23 .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/254 ، والمغني 3/27 ، والشرح الكبير 3/29-30 .
(4) انظر : فقه الإمام الأوزاعي 1/355 ، والمغني 2/502 ، وفقه الزكاة 2/280 .
(5) انظر : فقه الزكاة 2/284 .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 13368 ) ، وأبو داود ( 1811 ) ، وابن ماجه ( 2903 ) ، وأبو يعلى ( 2440 ) ، وابن الجارود ( 499 ) ، وابن خزيمة ( 3039 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2547 ) و( 2549 ) ، وابن حبان ( 3988 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 12419 ) وفي " الصغير " ، له ( 630 ) ، والدارقطني 2/267-270 ، والبيهقي 4/336-337 من طرق عن ابن عباس ، به مرفوعاً .

وأخرجه: الشافعي في " مسنده " ( 925 ) و( 926 ) بتحقيقي، وابن أبي شيبة ( 13370 )، والدارقطني 2/271 ، والبيهقي 4/337 و5/179-180 ، والبغوي ( 1856 ) من طرق عن ابن عباس ، به موقوفاً .
وللحافظ ابن حجر كلام موسع في صحة هذا الحديث أورده في "التلخيص الحبير" 2/488-489.

.

وأخذ بذلك الشَّافعيُّ(1) وأحمدُ(2) في المشهور عنه وغيرُهما ، في أنَّ حَجَّة الإسلامِ تسقُطُ بنيَّةِ الحجِّ مطلقاً، سواءً نوى التَّطوُّعَ أو غيرَه ، ولا يُشتَرطُ للحجِّ تعيينُ النِّيَّةِ ، فمنْ حجَّ عن غيرِه ، ولم يحجَّ عن نفسِهِ ، وقع عنْ نفسه ، وكذا لو حجَّ عنْ نذرهِ ، أو نفلاً ، ولم يكن حجَّ حجَّةَ الإسلام ، فإنه ينقلِبُ عنها ، وقد ثبتَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمرَ أصحابَهُ في حجَّةِ الوداعِ بعدَ ما دخلُوا معه ، وطافوا ، وسعَوا أنْ يَفسَخُوا حجَّهم ، ويجعلوها عمرةً ، وكانَ منهم القارنُ والمفرِدُ(3)
__________
(1) انظر : الأم 3/306 ، والمجموع 7/67 .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/273 ، والمغني 3/185 .
(3) روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - ، قال : أهَلَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بالحج ، وليس مع أحد منهم هديٌ غير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وطلحة ، وقدم عليٌ من اليمن ومعه هديٌ ، فقال : أهللت بما أهل به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أنْ يجعلوها عمرة ويطوفوا ، ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أنَّ معي الهدي لأحللت … ) .

أخرجه : الحميدي ( 1293 ) ، وأحمد 3/302 و305 و317 و362 و366 ، والبخاري 2/176 ( 1568 ) و2/195 ( 1651 ) و3/4 ( 1785 ) و3/185 ( 2505 )
و( 2506 ) و9/103 ( 7230 ) و9/137 ( 7367 ) ، ومسلم 4/36 ( 1216 )
( 141 ) و4/37 ( 1216 ) ( 142 ) و( 143 ) و4/38 ( 1216 ) ( 144 ) ، وأبو داود ( 1787 ) و( 1788 ) و( 1789 ) ، والنسائي 5/178 و202 و248 وفي
" الكبرى "، له ( 3787 ) و( 3855 ) و( 3985 ) و( 4171 ) ، وابن خزيمة ( 957 ) و( 2785 ) و( 2786 ) من طرق عن جابر ، به .
وروي أيضاً عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : كانوا يرون أنَّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفراً ، ويقولون : إذا برا الدبر وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر ، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحِل ؟ قال : ( حلٌ كله ) . =
= ... أخرجه : أحمد 1/252 و370 ، والبخاري 2/54 ( 1085 ) و2/175 ( 1564 ) و3/185 ( 2505 ) و( 2506 ) و5/51 ( 3832 )، ومسلم 4/56 ( 1240 ) ( 198 ) و( 199 ) و4/57 ( 1240 ) ( 201 ) ، والنسائي 5/180 و201 وفي " الكبرى " ، له
( 3795 ) و( 3853 ) و( 3854 ) من طرق عن ابن عباس ، به .

، وإنَّما كانَ طوافُهم عندَ قُدومهم طوافَ القُدومِ وليسَ بفرضٍ ، وقد أمرهم أنْ يجعلُوه طوافَ عمرةٍ(1) وهو فرضٌ ، وقد أخذَ بذلكَ الإمامُ أحمدُ في فسخِ الحجِّ (2) ، وعملَ به ، وهو مشكلٌ على أصلهِ ، فإنَّه يُوجِبُ تعيينَ الطَّوافِ الواجب للحجِّ والعمرة بالنيَّةِ ، وخالفَهُ في ذلك أكثرُ الفُقهاءِ ، كمالكٍ والشَّافعيِّ وأبي حنيفةَ(3) .
وقد يفرِّقُ الإمامُ أحمدُ بينَ أنْ يكونَ طوافُهُ في إحرامٍ انقلبَ ، كالإحرامِ
الذي يفسخُه ، ويجعلهُ عمرةً ، فينقلبُ الطَّوافُ فيه تبعاً لانقلابِ الإحرامِ ، كما
ينقلبُ الطَّوافُ في الإحرامِ الذي نوى به التَّطوُّعَ إذا كان عليه حَجَّةُ الإسلام ، تبعاً لانقلابِ إحرامِهِ مِنْ أصلهِ ، ووقوعِه عن فَرضِه ، بخلاف ما إذا طافَ للزيارةِ بنيَّةِ
الوَداعِ ، أو التَّطوُّعِ (4)، فإنّ هذا لا يُجزئه لأنّه (5) لم ينوِ به الفَرضَ ، ولم ينقلبْ فرضاً تبعاً لانقلابِ إحرامهِ ، والله أعلمُ(6) .
وممَّا يدخُلُ في هذا الباب : أنَّ رجلاً في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ قد وضعَ صدقتَه عندَ رجُلٍ ، فجاءَ ابنُ صاحبِ الصدقةِ ، فأخذها ممَّن هي عنده ، فعلم بذلكَ أبوهُ ، فخاصمه إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ما إيَّاكَ أردتُ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمتصدِّقِ : ( لكَ ما نويتَ ) ، وقال للآخِذِ : ( لَك ما أخذْتَ ) خرَّجه(7) البخاري(8)
__________
(1) من قوله : ( وكان منهم القارن والمفرد ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) عبارة : ( في فسخ الحج ) لم يرد في ( ص ) .
(3) انظر : المدونة الكبرى 2/467، والمغني 3/202، والمجموع 7/92-93 ، والمبسوط 4/25 ، وإرشاد الساري : 284 .
(4) أو التطوع ) لم ترد في ( ص ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : المغنى 3/202-203 .
(7) في ( ص ) : ( رواه ) .
(8) في صحيحه 2/138 ( 1422 ) .

وأخرجه : أحمد 3/470 و4/259 ، وحميد بن زنجويه في " الأموال " ( 2296 ) ، والدارمي
( 1645 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 4533 ) ، والطبراني في " الكبير "
19/( 1070 ) ، والبيهقي 7/34 من حديث معن بن يزيد السلمي ، به .

.
وقد أخذَ الإمامُ (1) أحمدُ بهذا الحديثِ ، وعملَ به في المنصوصِ عنه ، وإنْ كان أكثرُ أصحابِهِ على خلافِه ، فإنَّ الرَّجُلَ إنَّما يُمنعُ من دفعِ الصَّدقةِ إلى ولده خشيةَ أن يكونَ محاباةً ، فإذا وصلتْ إلى ولده من حيثُ لا يشعر ، فالمحاباةُ منتفيَةٌ ، وهو مِنْ(2) أهلِ استحقاقِ الصَّدقةِ في نفسِ الأمرِ(3) ، ولهذا لو دفعَ صدقَته إلى مَنْ يظنُّه فقيراً ، وكان غنيّاً في نفسِ الأمرِ ، أجزأتهُ على الصَّحيحِ ؛ لأنَّه إنَّما دفَعَ إلى مَنْ يعتقدُ استحقاقَه ، والفقرُ أمرٌ خفيٌّ ، لا يكادُ يُطَّلعُ على حقيقته (4) .
وأمَّا الطَّهارةُ ، فالخلافُ في اشتراط النِّيَّة لها مشهورٌ ، وهو يرجعُ إلى أنَّ
الطَّهارةَ للصَّلاةِ هل هي عبادةٌ مستقلةٌ ، أم هي شرطٌ من شروطِ الصَّلاةِ ، كإزالةِ
النَّجاسةِ ، وسَترِ العورةِ ؟ فمن لم يشترط لها النِّيَّةَ ، جعلها كسائرِ شُروطِ الصَّلاةِ ،
ومَنِ اشترطَ لها النِّيَّةَ ، جعلها عبادةً مُستقلَّةً ، فإذا كانت عبادةً في نفسها ، لم تصحَّ
بدونِ نيّةٍ ، وهذا قولُ جمهور العلماءِ(5)
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : مسائل الإمام أحمد بن حنبل برواية ابنه عبد الله ( 551 ) ، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/246 ، ونيل المأرب 2/408 .
(4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل 1/312 .
(5) الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين :
المذهب الأول : النية سنة في الوضوء ، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه .
المذهب الثاني : النية فرض ، وبذلك قال جمهور العلماء ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية والزيدية والإمامية ، وهو الصواب .

انظر : الحاوي الكبير 1/87 ، واللباب في شرح الكتاب 1/10 ، والمغني 1/122-123 ، والمجموع 1/170 ، وإعلام الموقعين 2/216 ، ومنتهى الإرادات 1/18 ، والسيل الجرار 1/75 و80 ، ومفتاح الكرامة 1/203 ، ومسائل من الفقه المقارن 1/66 .

، ويدلُّ على صحَّةِ ذلك تكاثرُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : بأنَّ الوُضوءَ يكفِّر الذُّنوبَ والخطايا ، وأنَّ(1) مَنْ توضَّأ كما أُمِرَ ، كان كفَّارةً لذُنوبه(2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من ذلك ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن عثمان بن عفان دعا بإناءٍ فأفرغ على كفيه ثلاث مِرارٍ ، فغسلهما ، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاث مرارٍ ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجليه ثلاث مرارٍ إلى الكعبين ، ثم قال : قال رسول الله : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يُحدّثُ فيهما نفسه غُفِرَ له ما تقدم من
ذنبه ) .
أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 65 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الرزاق ( 141 ) ، والحميدي ( 35 ) ، وأحمد 1/57 و59 و60 و61 و64 و67 و68 و71 ، والدارمي ( 699 ) ، والبخاري 1/51 ( 159 ) و1/52 ( 164 ) و3/40 ( 1934 ) ، و8/114 ( 6433 ) ، ومسلم 1/141 ( 226 ) ( 3 ) و1/142 ( 228 ) ( 7 ) و1/143 ( 231 ) ( 10 ) و1/149 ( 245 ) ( 33 ) ، وأبو داود ( 106 ) ( 107 ) و( 109 ) ، وابن ماجه
( 285 ) و( 459 ) ، وعبد الله بن أحمد في " زياداته " 1/74 ، والنسائي 1/64 و65 و80 و91 و111 وفي " الكبرى " ، له ( 91 ) و(103) و( 171 ) و( 172 ) و( 840 ) ، وابن خزيمة ( 2 ) و( 3 ) و( 158 ) ، وابن حبان (1041) ، والبيهقي 1/225 ، والبغوي
( 152 ) و( 153 ) من حديث عثمان بن عفان ، به .

وهذا يدلُّ على أنَّ الوُضوءَ المأمورَ به في القرآنِ عبادةٌ مستقلَّةٌ(1) بنفسها ، حيث رتَّب عليه تكفيرَ الذنوبِ ، والوضوءُ الخالي عن النِّيَّةِ لا يُكفِّرُ شيئاً من الذُّنوبِ
بالاتِّفاقِ(2) ، فلا يكونُ مأموراً به ، ولا تصحُّ به الصَّلاةُ ، ولهذا لم يَرِد في شيءٍ من
بقيَّةِ شرائطِ الصلاةِ ، كإزالةِ النَّجاسةِ ، وسترِ العورةِ ما ورد في الوُضوءِ مِنَ الثَّوابِ(3) ، ولو شَرَكَ بينَ نيَّةِ الوُضوءِ ، وبينَ قصدِ التَّبرُّد ، أو إزالةِ النَّجاسةِ ، أو الوسخِ ، أجزأه في المنصوصِ عن الشَّافعيِّ(4) ، وهذا(5) قولُ أكثرِ أصحابِ أحمدَ(6) ؛ لأنَّ هذا القصدَ(7) ليسَ بمحرَّمٍ ، ولا مَكروهٍ ، ولهذا لو قصدَ مع رفعِ الحدثِ تعليمَ الوضوءِ ، لم يضرَّهُ ذلك . وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقصِدُ أحياناً(8) بالصلاةِ تعليمَها للنَّاس، وكذلك الحجُّ ، كما قال : ( خذوا عنِّي مناسِكَكُم(9) ) .
وممَّا تدخُلُ النيةُ فيه مِنْ أبوابِ العلمِ : مسائلُ الأيمان .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الأم 2/62-63 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 1/39 .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 1/39 ، ونيل المآرب 1/50 .
(4) انظر : الحاوي الكبير 1/96 ، والوسيط 1/78 ، والمجموع 1/177 .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : المغني 1/123 .
(7) في ( ص ) : ( الفعل ) .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) أخرجه : أحمد 3/301 و318 و332 و337 و367 و378 ، والدارمي ( 1899 ) ، ومسلم 4/79 ( 1297 ) ( 310 ) ، وأبو داود ( 1970 ) ، والنسائي 5/270 وفي
" الكبرى " ، له ( 4068 ) ، وابن خزيمة ( 2877 ) ، والبيهقي 5/116 و130 ، والبغوي ( 1946 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .

فلغوُ اليمينِ لا كفَّارةَ فيه، وهو ماجرى على اللِّسان من غيرِ قصدٍ بالقلبِ إليه، كقوله : لا والله ، وبلى والله في أثناءِ الكلامِ(1) ، قال تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } (2) .
وكذلك يُرجَعُ في الأيمان إلى نيَّةِ الحالِف وما قصدَ بيمينه، فإنْ حَلَفَ بطلاقٍ ، أو عَتاقٍ ، ثم ادَّعى أنَّه نوى ما يُخالِفُ ظاهرَ لفظه ، فإنَّه يُدَيَّنُ فيما بينه وبينَ الله - عز وجل - (3) .
__________
(1) انظر : الأم 8/54-55 ، واللباب في شرح الكتاب 4/4 ، وبداية المجتهد 1/500-501 .
وقد وردت أحاديث في اللغو في اليمين ، روي عن إبراهيم الصائغ قال : سألت عطاء عن اللغو في اليمين ، فقال : قالت عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( هو كلام الرجل في بيته ، كلا والله وبلى والله ) .
أخرجه : عبد الرزاق ( 15951 ) ، وأبو داود ( 3254 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 3501 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 2155 ) ، وابن حبان ( 4333 ) ، والبيهقي 10/49 .
وروى موقوفاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسانِ : لا والله وبلى والله .
أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1366 ) برواية الليثي ، والشافعي في " مسنده " ( 1723 ) و( 1724 ) بتحقيقي ، وعبد الرزاق ( 15952 ) وفي " التفسير " ، له ( 268 ) ، والبخاري 8/168 ( 6663 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11149 ) ، وابن الجارود
( 925 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 3500 ) و( 3507 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 2152 ) و( 6701 ) و( 6702 ) ، والبيهقي 10/48 و49 .
(2) البقرة : 225 .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/143-147 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 5/150 ، والهداية 2/130 بتحقيقي .

وهل يُقبل منه في ظاهرِ الحُكم ؟ فيهِ قولانِ للعُلماءِ (1) مشهوران ، وهما روايتانِ عَنْ أحمَدَ(2)، وقد رُوي عَنْ عمرَ أنّه رُفعَ إليه رجلٌ قالتْ لهُ امرأته : شبِّهني ، قالَ : كأنَّكِ ظبيةٌ ، كأنَّك حمامةٌ ، فقالت (3): لا أرضى حتّى تقولَ : أنت خلِيَّةٌ (4) طالِقٌ ، فقالَ ذَلِكَ ، فقالَ عمر : خذ بيدها فهي امرأتُك . خرَّجه أبو عبيد(5)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) قال القاضي أبو يعلى : ( إذا أتى بصريح الطلاق ونوى به شيئاً يخالف الظاهر هل يصدق في الحكم أم لا ؟ على روايتين :
إحداهما : يصدق لأنه لا خلاف أنَّه لو قال لمدخول بها : أنت طالق طالق ، وقال أردت بالثانية إفهامها إنْ قد وقع بها طلقة قبل منه ذلك ، كذلك هاهنا ؛ ولأنَّها يمين يصدق فيها في الباطن فصدق فيها في الظاهر .
والرواية الثانية : لا يصدق في الحكم لأنَّ ما قاله خِلاف الظاهر فلم يصدق في حقها كما لو أقر بألف درهم ، ثم رجع وقال : كذبت في إقراري وليس له قبلي شيء فإنَّه يحتمل ما قال ، ولكن لا يصدق في الحكم لأنه خِلاف الظاهر ، كذلك هاهنا ، وقد نص على هذه الرواية في مواضع ) . انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/147-148 .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( له ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( أنت ) .
(5) في غريب الحديث 3/379-380 .

وأخرجه : سعيد بن منصور في " سننه " ( 1192 ) و( 1193 ) .

، وقال : أراد النَّاقَةَ تكون معقولةً ، ثُمَّ تُطْلَقُ من عِقالها ويُخلَّى عنها ، فهي خَليَّةٌ مِنَ العِقالِ ، وهي طالقٌ ؛ لأنَّها قد طَلَقَت منه ، فأراد الرَّجُلُ ذلك ، فأسقطَ عنه عمرُ الطَّلاق لنيَّته. قال: وهذا أصلٌ لكلِّ(1) مَنْ تكلَّم بشيءٍ يُشبه لفظَ الطَّلاق(2) والعَتاق،
وهو ينوي غيرَه أنَّ القولَ فيه قولُه فيما بينَه وبينَ الله ، في الحُكمِ على تأويلِ مذهب(3) عمر - رضي الله عنه - .
ويُروى عن سُمَيطٍ السَّدوسيِّ ، قال : خطبتُ امرأةً ، فقالوا : لا نزوِّجُكَ حتى تُطلِّق امرأتَك ، فقلت : إنِّي قد طلَّقتُها ثلاثاً ، فزوَّجوني ، ثم نظروا ، فإذا امرأتي عندي ، فقالوا : أليسَ قد طلَّقتها ثلاثاً ؟ فقلتُ : كانَ عندي فلانةٌ فطلَّقتُها ، وفلانةٌ فطلَّقتُها ، وفلانة فطلقتها (4) ، فأما هذه ، فلم أطلِّقْها ، فأتيتُ شقيقَ بن ثورٍ وهو يريدُ الخروجَ إلى عثمانَ وافداً ، فقلتُ لهُ : سل أميرَ المؤمنين عَنْ هذه ، فخرج فسأله ، فقالَ : نيَّتُه . خرَّجه أبو عبيد في " كتاب الطلاق " ، وحكى إجماعَ العُلماءِ على مِثلِ(5) ذلكَ .
وقال إسحاقُ بنُ منصورٍ : قلتُ لأحمدَ : حديثُ السُّمَيطِ تَعرفُهُ (6)؟ قال : نعم، السَّدوسيّ، إنّما جعلَ نيَّته بذلك ، فذكر ذلك شقيق لعثمان ، فجعلها نيته(7).
فإن كانَ الحالِفُ ظالماً ، ونوى خِلافَ ما حلَّفه عليه غريمُه ، لم تنفَعْه
نيَّتُه ، وفي " صحيح مسلم "(8)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( من تكلم بشبهة الطلاق ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) عبارة : ( وفلانة فطلقها ) سقطت من ( ج ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) عبارة : (فذكر ذلك شقيق لعثمان ، فجعلها نيته ) سقطت من ( ص ) .
(8) 5/87 ( 1653 ) ( 20 ) .

وأخرجه : أحمد 2/228 و331 ، والدارمي ( 2354 ) ، وأبو داود ( 3255 ) ، وابن ماجه
( 2121 ) ، والترمذي ( 1354 ) ، والعقيلي في " الضعفاء " 2/251 ، والدارقطني 4/157 و158 ، والحاكم 4/303، وأبو نعيم في " الحلية " 9/225 و10/127، والبيهقي 10/65، والبغوي ( 2514 ) .

عن أبي هُريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يمينُكَ على ما يُصدِّقُك عليه صاحبُك ) . وفي رواية له(1) : ( اليمينُ على نيةِ
المُستحْلِفِ(2) ) ، وهذا محمولٌ على الظَّالم ، فأمَّا المظلومُ ، فينفعهُ ذلك . وقد خرَّج الإمام أحمدُ ، وابنُ ماجه مِنْ حديثِ سُويدِ بنِ حنظلةَ، قال: خرجنا نُريدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنا وائلُ بنُ حُجْرٍ ، فأخذه عدوٌّ له ، فتحرَّجَ الناسُ أنْ يحلِفوا ،
فحلفتُ أنا إنّه أخي ، فخلى سبيلَه ، فأتينا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرتُهُ أنَّ القومَ
تحرَّجُوا أنْ يحلفوا ، وحلفتُ أنا (3) إنَّه أخي ، فقال : ( صدقتَ ، المسلمُ أخو
المسلم(4) ) .
وكذلك تدخلُ النيَّةُ في الطَّلاق والعتاقِ ، فإذا أتى بلفظٍ مِنْ ألفاظ الكناياتِ المحتملَةِ للطَّلاقِ أو العتاقِ ، فلا بُدَّ له من النيَّةِ(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) 5/87 ( 1653 ) ( 21 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2120 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 259 ) والبيهقي 10/65 ، والبغوي ( 2515 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 4/79 ، وأبو داود ( 3256 ) ، وابن ماجه ( 2119 ) ، والطحاوي في
" شرح المشكل " ( 1874 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6464 ) و( 6465 ) ، والحاكم 4/299 ، والبيهقي 10/65 وإسناده ضعيف لجهالة جد إبراهيم بن عبد الأعلى .
(5) قال ابن قدامة في " المغني " 8/285 : ( فأما غير الصريح فلا يقع الطلاق به إلا بنية أو دلالة
حال ) .
ونقل الأثرم إذا قال : ( الحقي بأهلك وقال : لم أنو به طلاقاً ليس بشيء ظاهر هذا اعتبار
النية ) المسائل الفقهية 2/143 .
وانظر : رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل 2/804، والمجموع 18/172، ومنتهى الإرادات 2/260 ، ونيل المآرب 4/439 .

وهل يقومُ مقامَ النِّيَّةِ دَلالةُ الحالِ مِنْ غضبٍ أو سُؤالِ الطَّلاقِ ونحوِه أم لا ؟
فيه خلافٌ مشهورٌ بينَ العلماءِ(1)
__________
(1) قال أبو جعفر الهاشمي الحنبلي في " رؤوس المسائل في الخلاف " 2/804 : ( إذا انضم إلى الكنايات دلالة حال لم يحتج إلى نية ، وقال الشافعي : يحتاج إلى نية وإلا لم يقع ، وعن أحمد نحوه دليلنا : أنَّ دلالة الحال تؤثر في الكلام والأفعال ، أما الكلام فإنَّ اللفظة الواحدة تستعمل في المدح والذم ، وليس ذلك إلا لدلالة الحال ) .
وقال أيضاً في 2/805 : ( ولا فرق بين أنْ يكون دلالة الحال سؤالاً أو غضباً ، وقال أبو حنيفة كمذهبنا في السؤال وفي الغضب يحتاج إلى نية إلا في ثلاث ألفاظ : اختاري ، واعتدي ، وأمرك بيدك ، دليلنا : أنَّ هذه كناية فوقع بها الطلاق في حال الغضب بغير نية كالألفاظ الثلاث ) .

انظر : المسائل الفقهية 2/143-144 ، والمغني 8/269-270 ، ومنتهى الإرادات 2/260 ، ونيل المآرب 4/439 .

، وهل يقعُ بذلك الطَّلاق في الباطن كما لو نواهُ ، أم يلزمُ به في ظاهر الحُكم فقط ؟ فيه خلافٌ مشهورٌ أيضاً(1) ، ولو أوقعَ الطَّلاقَ بكنايةٍ ظاهرةٍ، كالبَتَّةِ ونحوها ، فهل يقعُ به الثلاثُ أو واحدةٌ ؟ فيه قولان مشهوران، وظاهرُ مذهبِ أحمدَ أنَّه يقعُ به الثَّلاثُ مع إطلاقِ النِّيَّةِ، فإن نوى به ما دُونَ الثَّلاثِ، وقعَ به ما نواه ، وحُكِي عنه رواية أنَّه يلزمه الثَّلاثُ أيضاً(2) .
__________
(1) قال أبو جعفر الهاشمي الحنبلي في " رؤوس المسائل في الخلاف " 2/806 : ( إذا نوى بالكنايات الخفية عدداً من الطلاق ثبت قل أو كثر ، وبه قال أكثرهم ، وقال أبو حنيفة : لاثبت بها إلاّ واحدة بائن ، أو ثلاث ، فأما طلقتان فَلا ، دليلنا : إنّ من ملك إيقاع طلقة بكناية ملك إيقاع طلقتين بكناية كالعبد ) .
(2) قال أبو جعفر الهاشمي الحنبلي في " رؤوس المسائل في الخلاف " 2/804 -805
: ( الكنايات الظاهرة لا يقع بها الطلاق إذا لم ينضم إليها دلالة حال أو نية، وبه قال أكثرهم، وقال مالك : يقع الطلاق ، ومن أصحابه من يسمي ذلك صريحاً . دليلنا : أنه لفظ لم يرد به القُرآن للفرقة بين الزوجين ، فلم يكن صريحاً كالكنايات الخفية . =
= ... والكنايات الظاهرة إذا نوى بها الطلاق كانت ثلاثاً ، فأمّا الخفية فيرجع في العدد إلى ما نواه ، وقال أبو حنيفة : جميع الكنايات يقع بها واحدة بائن إلا قوله : اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة فإنها رجعية ، وقال مالك : الكنايات الظاهرة يقع بها ثلاثاً في حق المدخول بها ، وواحدة في حق غير المدخول بها ، وقال الشافعي : جميع ذلك يقع به واحدة رجعية إلاّ أن ينوي الثلاث فيكون ثلاثاً ) .
وانظر : المغني 8/272-273 ، ونيل المآرب 4/439 .

ولو رأى امرأةً ، فظنَّها امرأتهُ ، فطلَّقها ، ثم بانت(1) أجنبيَّة ، طلقت امرأتُهُ ؛ لأنَّه إنّما قصدَ طلاقَ امرأتِهِ . نصَّ على ذلك أحمدُ(2) ، وحُكِي عنه رواية أخرى : أنَّها لا تطلق(3) ، وهو قول الشَّافعيّ(4) ، ولو كان العكس ، بأنْ رأى امرأةً ظنَّها أجنبيّةً ، فطلَّقها ، فبانت امرأتُه ، فهل تطلُق ؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد(5) ، والمشهور مِنْ مذهب الشَّافعيِّ وغيره أنَّها تطلق(6) .
ولو كان له امرأتان ، فنهى إحداهما عَنِ الخُروج ، ثم رأى امرأةً قد
خرجَتْ ، فظنَّها المنهيَّةَ(7) ، فقال لها : فلانةُ خرجْتِ (8)، أنت طالقٌ ، فقد اختلفَ العُلماء فيها ، فقالَ الحسن : تطلُقُ المنهيَّةُ ؛ لأنَّها هي التي نواها(9) .
وقال إبراهيمُ : تطلقان(10) ، وقال عطاءٌ : لا تطلُق واحدةٌ منهما ، ومذهبُ أحمد : أنَّه تطلُقُ المنهيَّةُ روايةً(11) واحدةً ؛ لأنَّه نوى طلاقَها . وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه ، واختلف الأصحاب على القولِ بأنّها(12) تطلُق : هل تطلق في الحُكم فقط ، أم في الباطن أيضاً ؟ على طريقتين لهم .
__________
(1) في ( ص ) : ( فبانت ) .
(2) انظر : المغني 8/284 .
(3) انظر : المغني 8/284-285 .
(4) انظر : الحاوي الكبير 10/295 .
(5) انظر المغني 8/284-285 .
(6) ينظر في هذه المسألة : الحاوي الكبير 10/295 .
(7) عبارة : ( فظنها المنهية ) سقطت من ( ص ) .
(8) عبارة : ( فلانة خرجت ) سقطت من ( ص ) .
(9) أخرجه : عبد الرزاق ( 11303 ) ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 1176 ) .
(10) أخرجه : عبد الرزاق ( 11303 ) ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 1177 ) .
(11) سقطت من ( ص )
(12) زاد بعدها في ( ص ) : ( لا ) .

وقد استدلَّ بقولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( الأعمال بالنيَّاتِ ، وإنَّما لامرىءٍ ما نوى ) على
أنَّ العُقودَ التي يُقصَدُ بها في الباطنِ التَّوصُّلُ إلى ما هو محرَّمٌ غيرُ صحيحةٍ ،
كعقودِ البُيوعِ التي يُقصدُ بها معنى الرِّبا ونحوها ، كما هو مذهبُ مالكٍ وأحمدَ وغيرهما ، فإنَّ هذا العقدَ إنَّما نوي به الرِّبا ، لا البيعَ(1) ، ( وإنَّما لامرىءٍ ما
نوى ) .
ومسائلُ النِّيَّةِ المتعلِّقَةُ بالفقه كثيرةٌ جداً ، وفيما ذكرناه كفايةٌ .
وقد تقدَّم عنِ الشَّافعيِّ أنَّه قال في هذا الحديث : إنَّه يدخلُ في سبعينَ باباً من
الفقهِ ، والله أعلمُ(2) .
والنِّيَّةُ : هي قصدُ القلبِ(3) ، ولا يجبُ التَّلفُّظ بما في القَلب في شيءٍ مِنَ العِباداتِ ، وخرَّج بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ له قولاً باشتراطِ التَّلفُّظ بالنِّيَّة للصَّلاة ، وغلَّطه المحقِّقونَ منهم ، واختلفَ المتأخِّرون من الفُقهاء في التَّلفُّظ بالنِّيَّة في الصَّلاة
وغيرها ، فمنهم مَنِ استحبَّه ، ومنهم مَنْ كرهه(4)
__________
(1) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخِلاف 2/527 .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/534 ، والمجموع 1/169 ، وفتح الباري 1/14 .
(3) انظر : كتاب العين : 996 ، والصحاح 6/2516 ، ولسان العرب 14/343 .
(4) قال أبو الحسن الماوردي الشافعي : ( محل النية وهو القلب ، ولذلك سميت به لانَّها تفعل بأنأى عضو في الجسد ، وهو القلب ، وإذا كان ذلك كذلك فله ثلاثة أحوال :
أحدها : أنْ ينوي بقلبه ، ويلفظ بلسانه فهذا يجزئه ، وهو أكمل أحواله .
والحال الثانية : أنْ يلفظ بلسانه ولا ينوي بقلبه فهذا لا يجزئه .

والحال الثالثة : أنْ ينوي بقلبه ولا يتلفظ بلسانه فمذهب الشافعي يجزئه ، وقال أبو عبد الله الزبيدي - من أصحابنا - لا يجزئه حتى يتلفظ بلسانه تعلقاً بأنَّ الشافعيَّ قال في كتاب
" المناسك " ولا يلزمه إذا أحرم بقلبه أنْ يذكره بلسانه وليس كالصلاة التي لا تصح إلاّ بالنطق فتأول ذلك على وجوب النطق في النية ، وهذا فاسد ، وإنَّما إراد وجوب النطق بالتكبير ثم مما يوضح فساد هذا القول حجاجاً : أنَّ النية من أعمال القلب فلم تفتقر إلى غيره من الجوارح كما أنَّ القراءة لما كانت من أعمال اللسان لم تفتقر إلى غيره من الجوارح ) .
الحاوي الكبير 2/91 - 92 .

.
ولا يُعلمُ في هذه المسائل نقلٌ خاصٌّ عنِ السَّلفِ ، ولا عن الأئمَّةِ إلاَّ في
الحَجِّ وحدَهُ ، فإنَّ مُجاهداً قال : إذا أراد الحجَّ ، يُسمِّي ما يُهلُّ به ، ورُوي عنه أنَّه
قال : يسمِّيه في التَّلبيةِ ، وهذا ليس مِمَّا نحنُ فيه ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يذكرُ
نُسُكَه في تلبيته ، فيقول : ( لَبَّيكَ عُمْرةً وحَجّاً )(1) ، وإنَّما كلامُنا أنّه يقولُ عندَ إرادةِ عقدِ الإحرامِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُريدُ الحجَّ أو العمرةَ ، كما استَحَبَّ ذلك كثيرٌ من الفُقهاءِ(2)
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1215 ) ، وأحمد 3/111 و182 و282 ، والدارمي ( 193 ) ، ومسلم 4/52 ( 1232 ) ( 185 ) و( 186 ) و4/59 ( 1251 ) ( 214 ) و( 215 ) ، وأبو داود ( 1795 ) ، وابن ماجه ( 2969 ) ، والنسائي 5/150 وفي " الكبرى " ، له
( 3709 ) و( 3711 ) ، وأبو يعلى ( 4154 ) و( 4155 ) ، وابن الجارود ( 430 ) ، وابن خزيمة ( 2618 ) و( 2619 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 2/152 و153 وفي
" شرح المشكل " ، له ( 2441 ) و( 2442 ) ، والدارقطني 2/288 ، والحاكم 1/472 ، والبيهقي 5/9 و40 ، والبغوي ( 1881 ) و( 1882 ) من حديث أنس بن مالك .
(2) انظر : الأم 3/312 ، واللُّباب في شرح الكتاب 1/181 ، وبداية المجتهد 1/412 ، وإرشاد الساري : 113 ، والمغني 3/246 ، ومنتهى الإرادات 1/243 ، والهداية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1/217 بتحقيقنا .
واختلف الفقهاء : هل تجزيء النية فيه من غير التلبية ؟ فقال مالك والشافعي : تجزيء النية من غير التلبية ، وقال أبو حنيفة : التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة .

انظر : بداية المجتهد 1/412 - 413 .

، وكلامُ مجاهدٍ ليس صريحاً في ذلك . وقال أكثر السَّلفِ ، منهم عطاءٌ وطاووسٌ والقاسمُ بنُ محمدٍ والنَّخعيُّ : تجزئه النِّيَّةُ عندَ الإهلالِ ، وصحَّ عَنِ ابنِ عمرَ أنَّه سمعَ رجُلاً عندَ إحرامِهِ يقولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أريدُ الحجَّ أو العمرةَ ، فقال له : أتعلمُ النَّاس ؟ أو ليسَ الله يعلمُ ما في نَفسكَ ؟(1)
ونصَّ مالكٌ على مِثلِ هذا، وأنَّه لا يستحبُّ لهُ أنْ يُسمِّيَ ما أحرمَ به . حكاه
صاحب كتاب " تهذيب المدونة " مِنْ أصحابه(2) ، وقال أبو داود : قلتُ لأحمدَ : أتقولُ قبلَ التَّكبير –يعني : في الصَّلاة- شيئاً ؟ قال : لا ، وهذا قد يدخُلُ فيه أنّه لا يتلَّفظُ بالنِّيَّةِ ، والله أعلم(3) .
__________
(1) أخرجه : البيهقي 5/40 .
(2) التهذيب في اختصار المدونة 1/493 لأبي سعيد البراذعي خلف بن أبي القاسم القيرواني ، وقال القَرافي المالِكي في " الذخيرة " 3/148 : ( قال ابن القاسم : قال لي مالك : النية تكفي في الإحرام ولا يُسمي . قال سند : الإحرام ينعقد بتجرد النية ، وكره مالك التسمية ، واستحبها ابن حنبل ) .
انظر : المدونة الكبرى 2/467 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/471 .
(3) في " مسائل الإمام أحمد لأبي داود " : 30 .
وانظر : المغني 1/544 - 445 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 1/211 - 213 ، ورؤوس المسائل في الخِلاف 1/121 ، ونيل المآرب 1/140 .


الحديث الثانيعَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، قال : بَينَمَا نَحْنُ جلوس(1) عندَ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ ، إذْ طَلَعَ علينَا رَجُلٌ شَدِيدُ بياضِ الثِّيابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ ، لا يُرى عليهِ أثَرُ السَّفَر ، ولا يَعرِفُهُ مِنّا أحدٌ ، حتَّى جَلَسَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأسنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ ، ووضع كَفَّيه على فَخِذيه ، وقالَ : يا مُحَمَّدُ ، أخبِرني عَنِ الإسلامِ .
فقال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلامُ : أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله ، وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ ، وتُقيمَ الصَّلاةَ ، وتُؤتِي الزَّكاةَ ، وتصومَ رمضَانَ ، وتَحُجَّ البَيتَ إن استَطَعتَ إليه سبيلاً ) . قال : صَدَقتَ (2)، قال : فَعَجِبنا لَهُ يسأَلُهُ ويصدِّقُهُ .
قال: فأخْبِرني عَنِ الإيمان . قال : ( أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَته وكُتُبِه، ورُسُله، واليَومِ الآخِرِ ، وتُؤْمِنَ بالقَدرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ ) . قالَ : صَدَقتَ .
قالَ : فأخْبِرنِي عنِ الإحْسَانِ ، قال : ( أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّهُ يراكَ ) .
قال : فأخبِرني عَنِ السَّاعةِ ؟
قال : ( مَا المَسؤُولُ عَنْهَا بأعلَمَ مِنَ السَّائِل ) .
قال : فأخبِرني عنْ أَمارَتِها ؟
قال : ( أنْ تَلِد الأمَةُ رَبَّتَها(3)
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( يا رسول الله ) .
(3) اختلف العلماء في معنى ذلك على أربعة أقوال : =

= ... القول الأول : قال الخطابي : معناه : اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم ، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها ، لأنّه ولد سيدها ، قال النووي وغيره : إنه قول الأكثرين ، واعترض الحافظ ابن حجر على ذلك فقال : لكن في كونه المراد نظر ؛ لأن استيلاء الإماء كان موجوداً حين المقالة ، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام ، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع مالم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة .
القول الثاني : إن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ، ولا يشعر بذلك .
القول الثالث : قال النووي : لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد ، بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حراً من غير سيدها بوطء شبهةٍ ، أو رقيقاً بنكاح ، أو زنا ، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعاً صحيحاً ، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها .
القول الرابع : أن يكثر العقوق في الأولاد فيُعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة
بالسب والضرب والاستخدام ، فأطلق عليه ربها مجازاً لذلك ، أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة .
والراجح - والله أعلم - القول الرابع ، وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 1/162-163 عقب الحديث ( 50 ) ، وقال بعد أن ذكر الترجيح : ( ولأن المقام يدل على المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة ، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور . بحيث يصير المربى مربياً ، والسافل عالياً ، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى : ( أن تصير الحفاة ملوك الأرض ) ) .

، وأنْ تَرى الحُفاة العُراة العَالةَ رعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلونَ في البُنيانِ ) .
ثُمَّ انْطَلَقَ ، فلبثْتُ مَليّاً ، ثمَّ قال لي : ( يا عُمَرُ ، أتَدرِي مَنِ السَّائل ؟ )
قلتُ : الله ورسولُهُ أعلَمُ .
قال : ( فإنَّهُ جِبريلُ أتاكُم يُعَلِّمُكُم(1) دِينَكُم ) . رواه مسلم(2)
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( أمر ) .
(2) في " صحيحه " 1/28 ( 8 ) ( 1 ) و1/29 ( 8 ) ( 2 ) و( 3 ) و1/30 ( 8 ) ( 4 ).=
= ... وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 2 ) ، وأحمد 1/27 و28 و51 و52 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 26 ) ، وأبو داود ( 4695 ) و( 4696 ) و( 4697 ) ، وابن ماجه
( 63 ) ، والترمذي ( 2610 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 901 ) و( 908 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 363 ) و( 367 ) ، والنسائي 8/97 وفي " الكبرى " ، له ( 11721 ) ، وابن خزيمة ( 1 ) و( 2504 ) و( 3065 ) ، وابن حبان ( 168 )
و( 173 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 1 ) و( 2 ) و( 3 ) و( 4 ) و( 5 ) و( 6 ) و( 8 ) و( 9 ) و( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) و( 13 ) و( 185 ) و( 186 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 7/69 - 70 وفي "شعب الإيمان" ، له ( 3973 ) ، والبغوي ( 2 ) من حديث
عمر بن الخطاب ، به .
الروايات مطولة ومختصرة .

هذا الحديثُ تفرَّد مسلم عن البُخاريِّ بإخراجِه ، فخرَّجه مِنْ طريقِ كهمسٍ ، عَنْ عبد الله بنِ بُريدةَ ، عن يَحيى بن يَعْمَرَ ، قال : كانَ(1) أوَّلَ مَنْ قالَ في القَدرِ بالبصرةِ معبدٌ الجهنيُّ ، فانطلقتُ أنا وحميدُ بنُ عبد الرَّحمانِ الحِميريُّ حاجين أو مُعتَمِرين ، فقلنا : لو لَقِينا أحداً مِنْ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القدرِ ، فوُفِّقَ لنا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخطَّابِ داخلاً المسجدَ ، فاكتَنَفتُهُ أنا وصاحبي ، أحدُنا عن يمينه ، والآخرُ عن شِمالِه ، فظننتُ أنَّ صاحبي سيَكِلُ الكلامَ إليَّ ، فقلتُ : أبا عبدِ الرَّحمانِ ، إنّه (2) قد ظهر قِبلَنا ناسٌ يقرءون القُرآن ، ويتقفَّرُون(3) العلمَ ، وذكر مِنْ شأنهم ، وأنَّهم يزعُمون أنْ لا قدرَ ، وأنّ الأمرَ أُنُفٌ(4) ، فقال : إذا لقيتَ أولئك ، فأخبرهم أنّي بريءٌ منهم ، وأنّهم بُرآءُ مِنّي، والّذي يحلفُ به عبدُ الله بنُ عمرَ، لو أنّ لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهباً، فأنفقه ، ما قَبِلَ الله منه حتى يُؤمِنَ بالقدرِ ، ثم قال : حدَّثني أبي عمرُ بنُ الخطّابِ ، قال : بينما نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الحديث بطولِهِ .
__________
(1) سقطت في ( ص ) .
(2) سقطت في ( ص ) .
(3) يتقفرون العِلم : يطلبونه ويتتبعونه ، هذا هو المشهور ، وقيل معناه : يجمعونه .
انظر : النهاية 4/90 ، ولسان العرب 11/254 ( قفر ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( أي : مستأنف ) . وأُنُف : بضم الهمزة والنون : أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى ، وإنما يعلمه بعد وقوعه .
انظر : النهاية 1/75 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 1/145 .

ثم خرَّجه من طُرقٍ أُخرى ، بعضُها يرجِعُ إلى عبد الله بن بريدةَ(1) ، وبعضُها يرجع إلى يحيى بن يعمر(2) ، وذكر أنّ في بعض ألفاظها زيادةً ونقصاً .
وقد خرّجه ابنُ حبَّان في " صحيحه " (3) من طريق سليمانَ التَّيميِّ ، عن يحيى ابن يعمر ، وقد خرَّجه مسلمٌ مِن هذه الطَّريق ، إلاَّ أنَّه لم يذكر لفظَه ، وفيه زياداتٌ منها : في الإسلام، قال : ( وتحجَّ وتعتمر، وتغتسلَ مِنَ الجَنابةِ ، وأنْ تُتمَّ الوُضوء، وتصوم رمضان ) قال : فإذا أنا فعلتُ ذلك ، فأنا مسلمٌ ؟ قال : ( نعم ) .
وقال في الإيمان : ( وتُؤمِن بالجَنَّةِ والنَّارِ والمِيزانِ ) ، وقال فيه : فإذا فعلتُ ذلك ، فأنا مؤمنٌ ؟ قال : ( نعم ) .
وقال في آخره : ( هذا جبريلُ أتاكُم ليعلِّمكُم أمرَ دينكم ، خذوا عنه ، والذي نفسي بيده ما شُبِّه عليَّ منذُ أتاني قبل مرَّتي هذه ، وما عرفتُه حتى ولّى ) .
وخرّجاه في " الصحيحين " (4)
__________
(1) تصحف في ( ص ) إلى : ( يزيد ) .
(2) في ( ص ) : ( وبعضها إلى رواية ابن يعمر ) .
(3) ابن حبان ( 173 ) ، وقال عقب الحديث : ( تفرد سليمان التيمي بقوله : ( خذوا عنه ) وبقوله : ( تعتمر وتغتسل وتتم الوضوء ) ) .
(4) صحيح البخاري 1/19 ( 50 ) و6/144 ( 4777 ) ، وصحيح مسلم 1/30 ( 9 ) ( 5 ) و( 6 ) .
وأخرجه : أحمد 2/426 ، وأبو داود ( 4698 ) ، وابن ماجه ( 64 ) و( 4044 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 379 ) ، وابن خزيمة ( 2244 ) ، وابن حبان
( 159 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 15 ) و( 16 ) و( 158 ) و( 159 ) ، والبيهقي في
" شُعب الإيمان " ( 385 ) .

وأخرجه : النسائي 8/101 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 378 ) ، وابن منده في
" الإيمان " ( 160 ) من حديث أبي هريرة وأبي ذر ، به .

من حديث أبي هُريرة ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزاً للناسِ ، فأتاهُ رجلٌ ، فقال : ما الإيمان(1) ؟ قال : ( الإيمانُ : أنْ تُؤمِنَ بالله وملائكتِه وكتابه ، وبلقائه ، ورُسله ، وتؤمن بالبعثِ الآخرِ ) .
قال : يا رسولَ اللهِ ، ما الإسلام ؟ قالَ : ( الإسلامُ (2): أن تعبدَ الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيمَ الصلاةَ المكتوبةَ ، وتُؤَدِّي الزّكاةَ المفروضةَ ، وتصومَ رمضان (3) ) .
قال : يا رسولَ اللهِ ، ما الإحسّانُ ؟ قال : ( أنْ تعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ ، فإنَّكَ إنْ لا تراه(4) ، فإنّه يراك ) .
قال : يا رسول اللهِ ، متى الساعةُ ؟ قال : ( ما المسؤولُ عنها بأعلمَ مِنَ السَّائِلِ ، ولكن سأحدِّثكَ عَنْ أَشراطِها : إذا وَلَدتِ الأَمَةُ ربَّتها ، فذاك من
أشراطها ، وإذا رأيتَ العُراة الحُفاة رُؤوسَ الناس ، فذاك من أشراطِها ، وإذا تطاوَل رعاءُ البَهْم في البُنيان ، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمُهُنَّ إلاّ الله ) ، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (5) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( بالله ) .
(2) سقطت في ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) .
(4) في ( ص ) : ( فإن لم تكن تراه ) .
(5) لقمان : 34 .

قال : ثمّ أدبَرَ الرجُلُ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عليَّ بالرَّجُلِ(1) ) ، فأخذوا ليردُّوه ، فلم يَروا شيئاً ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا جبريلُ جاءكم ليعلِّمَكم أمر دينكم (2) ).
وخرَّجه مسلم بسياقٍ أتمَّ مِنْ هذا ، وفيه في خصال الإيمان : ( وتؤمِن بالقدر
كلّه ) ، وقال في الإحسان : ( أنْ تخشى الله كأنَّكَ تراهُ )(3) .
وخَرَّجهُ الإمامُ أحمد في " مسنده " (4) من حديث شهر بن حوشب ، عن ابنِ عباس . ومن حديث شهر بن حوشب أيضاً ، عن ابن عامرٍ ، أو أبي عامرٍ ، أو أبي مالكٍ (5) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حديثه قال : ونسمع رَجْعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى الذي يكلِّمُهُ ، ولا نسمعُ كلامه(6) ، وهذا يردُّه حديثُ عمرَ الذي خرَّجه مسلمٌ ،
وهو أصحُّ(7) .
__________
(1) في ( ص ) : ( أتروون عليّ الرجل ) .
(2) في ( ج ) : ( جاء ليعلم الناس دينهم ) .
(3) في " صحيحه " 1/30 ( 10 ) ( 7 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) 1/319 ، وليس فيه: ( ونسمع رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى الذي يكلمه ولا نسمع كلامه ) .
وأخرجه أيضاً : البزار كما في " كشف الأستار " ( 24 ) من حديث ابن عباس ، به ، من غير طريق شهر وليس فيه اللفظ الذي ذكره المصنف .
(5) في ( ص ) : ( عن ابن عامر أيضاً ، أو ابن عامر وأبي مالك ) .
(6) أخرجه : أحمد 4/129 و164 ، وهذه اللفظة منكرة ، وشهر بن حوشب ضعيف ، وكما أنَّه أخطأ في المتن فكذا أخطأ في السند ، وتفصيل بيان أخطائه في كتابنا " الجامع في العلل " يسر الله اتمامه .
(7) سبق تخريجه .

وقد رُوي الحديث(1) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ(2) ، وجرير بن عبد الله البجليِّ ، وغيرهما(3) .
وهو حديثٌ عظيمٌ جداً ، يشتملُ على شرحِ الدِّين كُلِّه(4) ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في آخره : ( هذا جبريل أتاكُم يعلِّمكم(5) دينَكُم ) بعد أنْ شرحَ درجةَ الإسلامِ ، ودرجةَ الإيمانِ ، ودرجة الإحسّانِ ، فجعل ذلك كُلَّه ديناً .
واختلفتِ الرِّواية في تقديمِ الإسلامِ على الإيمان وعكسه ، ففي حديث عمرَ الذي خرَّجه مسلمٌ أنّه(6) بدأ بالسُّؤال عن الإسلام ، وفي الترمذي وغيره : أنَّه بدأ بالسؤال عن الإيمان ، كما في حديث أبي هريرة ، وجاء في بعض روايات حديثِ(7) عمرَ أنَّه سألَ عن الإحسّان بين الإسلام والإيمان .
__________
(1) في ( ص ) : ( حديث عمر ) .
(2) أخرجه : البخاري في " خلق أفعال العباد " ( 191 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار "
( 22 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 381 ) و( 382 ) .
(3) أخرجه : الآجري في " الشريعة ": 189 – 190 .
(4) قال القاضي عياض : اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداءً وحالاً ومن أعمال الجوارح ، ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال ، حتى إنَّ علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه .
وقال القرطبي : هذا الحديث يصلح أن يقال له أُم السنة ؛ لما تضمنه من جُمل علم السنة .
انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/146 - 147 ، وفتح الباري 1/166 .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( أمر ) .
(6) سقطت في ( ص ) .
(7) لم ترد في ( ص ) .

فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأعمالِ الجوارح الظَّاهرة مِنَ القولِ والعملِ، وأوّلُ ذلك : شهادةُ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله ، وهو عملُ اللسانِ ، ثمّ إقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً .
وهي منقسمةٌ إلى عمل بدني : كالصَّلاة والصومِ ، وإلى عمل ماليٍّ : وهو إيتاءُ الزَّكاةِ ، وإلى ما هو مركَّبٌ منهما : كالحجِّ بالنسبة إلى البعيد عن مَكَّة .
وفي رواية ابنِ حبَّان أضاف إلى ذلك الاعتمارَ ، والغُسْلَ مِنَ الجَنابةِ ،
وإتمامَ الوُضوءِ ، وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ جميعَ الواجباتِ الظاهرةِ داخلةٌ في مسمّى الإسلامِ .
وإنَّما ذكرنا هاهنا أصولَ أعمالِ الإسلامِ التي ينبني عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابنِ عمرَ : ( بُنِيَ الإسلامُ على خَمسٍ ) في مَوضِعه إنْ شاءَ الله تعالى .
وقوله في بعض الرِّوايات : فإذا فعلتُ ذلك ، فأنا مسلمٌ ؟ قالَ : ( نعم )
يدلُّ على أنَّ مَنْ كَمَّلَ الإتيانَ بمباني الإسلام الخمسِ ، صار مسلماً حقَّاً ، مع أنَّ
مَنْ أقرَّ بالشهادتين ، صار مسلماً حُكماً ، فإذا دخل في الإسلام (1) بذلك ،
أُلزم بالقِيام ببقيَّة خصالِ الإسلام ، ومَنْ تركَ الشَّهادتين ، خرج مِنَ الإسلام ،
وفي خُروجِه مِنَ الإسلام بتركِ الصَّلاةِ خلافٌ مشهورٌ بينَ العُلماء ، وكذلك في
ترك بقيَّة مباني الإسلام الخمس، كما سنذكُره في موضعه إن شاء الله تعالى(2) .
__________
(1) عبارة : ( فإذا دخل في الإسلام ) لم ترد في ( ص ) .
(2) سيأتي عند الحديث الثالث .

وممَّا يدل على أنَّ جميعَ الأعمالِ الظَّاهرةِ تدخُلُ في مسمَّى الإسلام قولُ النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - : ( المُسلم مَنْ سَلِمَ المُسلمُون من لِسانِه ويده )(1) .
وفي " الصحيحين "(2)
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 595 ) ، وأحمد 2/192 و205 و212 ، والبخاري 1/9 ( 10 ) و8/127 ( 6484 ) وفي " الأدب المفرد "، له ( 1144 ) ، ومسلم 1/47 ( 40 ) ( 64 )، وأبو داود ( 2481 ) ، والنسائي 8/105 ، وابن حبان ( 196 ) و( 230 ) و( 399 )
و( 400 )، وابن منده في " الإيمان " ( 309 ) و( 310 ) و( 311 ) و( 312 ) و( 313 )، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 181 ) ، والبيهقي 10/187 ، والبغوي ( 12 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
وأخرجه : أحمد 2/379 ، والترمذي ( 2627 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "
( 637 ) ، والنسائي 8/104 وفي " الكبرى " ، له ( 11726 ) ، وابن حبان ( 180 ) ، والحاكم 1/10 من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه : أحمد 3/372 ، ومسلم 1/48 ( 41 ) ( 65 ) ، وابن حبان ( 197 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 314 ) ، والحاكم 1/10 ، والبيهقي 10/187 من حديث جابر بن
عبد الله ، به .
وأخرجه : أحمد 6/21-22، وابن حبان ( 4862 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 796 )، وابن منده في " الإيمان " ( 315 ) ، والحاكم 1/10-11 ، والبغوي ( 14 ) من حديث فضالة بن عبيد ، به .
وأخرجه : البخاري 1/10 ( 11 ) ، ومسلم 1/48 ( 42 ) ( 66 ) ، والبغوي ( 13 ) من حديث أبي موسى ، به .
وأخرجه : الحاكم 1/11 من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) صحيح البخاري 1/10 ( 12 ) و1/14 ( 28 ) و8/65 ( 6236 ) ، وصحيح مسلم 1/47 ( 39 ) ( 63 ) . =

= ... وأخرجه : أحمد 2/169 ، والبخاري في " الأدب " ( 1013 ) و( 1050 ) ، وأبو داود
( 5194 ) ، وابن ماجه ( 3253 ) ، والنسائي 8/107 وفي " الكبرى " ، له ( 11731 ) ، وابن حبان ( 505 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 317 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 8751 ) ، والبغوي ( 3302 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .

عن عبدِ الله بنِ عمرٍو : أنَّ رجلاً سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الإسلامِ خيرٌ ؟ قال : ( أنْ تُطْعِمَ الطّعامَ ، وتقرأ السَّلام على مَنْ عرفت ومَنْ لم تعرف ) .
وفي " صحيح الحاكم " (1) عن أبي هريرةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2) قال : ( إنَّ للإسلام صُوىً(3) ومناراً كمنار الطَّريق ، من ذلك : أنْ تعبدَ الله(4) ولا تشركَ به شيئاً ، وتقيمَ الصَّلاةَ ، وتُؤْتِي الزَّكاةَ ، وتصومَ رمضانَ ، والأمرُ بالمعروفِ ، والنَّهيُ عن المُنكرِ ، وتسليمُك على بَني آدم إذا لَقِيتَهم وتسليمُك على أهلِ بيتِكَ إذا دخلتَ عليهم ، فمن انتقصَ منهنَّ شيئاً ، فهو سَهمٌ من الإسلامِ تركه ، ومن يتركهُنَّ فقد نبذَ الإسلامَ وراءَ ظهره ) .
__________
(1) أي : " المستدرك " 1/21 . وفيه لفظ ( صنوأ ) بدل ( صوى ) . أما إطلاق المصنف تسمية صحيح الحاكم على " المستدرك " فهذا تساهل كبير منه - رحمه الله - .
وأخرجه أيضاً : أبو عبيد في " الإيمان " ( 3 )، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 405 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 429 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 161 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/217 - 218 من طرق عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
(2) عبارة : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ص ) .
(3) الصُّوى : الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطريق ، واحدتها صُوةٌ كقوة : أراد أنَّ للإسلام طرائق وأعلاماً يهتدى بها . النهاية 3/62 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .

وخَرَّج ابنُ مردويه مِنْ حديث(1) أبي الدَّرداءِ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( للإسلام ضياءٌ وعلاماتٌ كمنارِ الطَّريقِ ، فرأسُها وجِماعُها شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وتَمَامُ الوُضوءِ،
والحُكمُ بكتاب الله وسُنّةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، وطاعةُ وُلاة الأمر، وتسليمُكم على أنفُسِكُم، وتسليمُكم على أهليكم(2) إذا دخلتُم بيوتَكم ، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتُموهُم(3) ) وفي إسناده ضعفٌ ، ولعله موقوف (4).
وصحَّ من حديث أبي إسحاق ، عنْ صِلةَ بنِ زُفَرَ ، عن حذيفةَ ، قال : الإسلامُ ثمانيةُ أسهُمٍ : الإسلامُ سهمٌ ، والصَّلاةُ سهمٌ، والزَّكاةُ سهمٌ، والجهادُ سهمٌ ، وحجُّ البيتِ سهمٌ(5) ، وصومُ رمضانَ سهمٌ ، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ ، والنهيُ عنِ المنكرِ سهمٌ ، وخابَ مَنْ لا سَهمَ له. وخرَّجه البزّارُ مرفوعاً(6)، والموقوفُ أصحُّ(7) .
ورواهُ بعضهم عن أبي إسحاقَ، عنِ الحارثِ، عن عليٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، خرَّجه أبو يعلى الموصلي(8)
__________
(1) في ( ص ) : ( طريق ) .
(2) عبارة : ( على أهليكم ) لم ترد في ( ص ) .
(3) أخرجه: الطبراني في "مسند الشاميين" ( 1954 ) من حديث بكر بن سهل ، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، به. وعبد الله بن صالح فيه مقال.
(4) حديث أبي الدرداء قواه العلامة الألباني في " السلسة الصحيحة " ( 333 ) .
(5) عبارة : ( وحج البيت سهم ) لم ترد في ( ص ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) كما في " كشف الأستار " ( 336 ) مرفوعاً .
وأخرجه موقوفاً : الطيالسي ( 413 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 337 ) .
قال البزار عقب الحديث ( 337 ) : ( ولم يسنده ولا نعلم أسنده إلا يزيد بن عطاء ) .
(8) في " مسنده " ( 523 ) .

وأخرجه ابن عدي في " الكامل " 3/330 من حديث علي بن أبي طالب ، به .

وغيره (1)، والموقوف على حذيفة أصحُّ . قاله الدَّارقطنيُّ (2) وغيره .
وقوله : ( الإسلام سهمٌ ) يعني : الشَّهادتين ؛ لأنّهما عَلمُ الإسلام ، وبهما يصيرُ الإنسانُ مسلماً .
وكذلك تركُ المحرَّمات داخلٌ في مُسمَّى الإسلام أيضاً ، كما رُوي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرءِ تركُهُ ما لا يعنيه ) ، وسيأتي في موضعه إنْ شاء الله تعالى(3) .
ويدلُّ على هذا أيضاً ما خرَّجه الإمامُ أحمدُ ، والتِّرمذيُّ ، والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ(4) ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ضربَ الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جَنَبتَي الصِّراط سُورانِ ، فيهما أبوابٌ مفتَّحَةٌ ، وعلى الأبوابِ ستورٌ مُرخاةٌ ، وعلى بابِ الصِّراط داعٍ يقول : يا أيُّها النّاس ، ادخُلوا الصِّراط جميعاً ، ولا تعوجُّوا ، وداعٍ يدعو من جَوفِ الصِّراطِ ، فإذا أرادَ أنْ يفتحَ شيئاً من تلكَ الأبوابِ ، قال : ويحكَ لا تَفتَحْهُ ، فإنَّك إنْ تفتحه تَلِجْهُ . والصِّراطُ : الإسلامُ . والسُّورانِ : حدودُ اللهِ . والأبوابُ المُفتَّحةُ : محارمُ اللهِ ، وذلك الدّاعي على رأس الصِّراط : كتابُ الله . والدّاعي من فوق : واعظُ اللهِ في قلب كلِّ مسلمٍ ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في " علله " 3/171 .
(3) عند الحديث الثاني عشر .
(4) هذا من حديث النواس بن سمعان ، وليس العرباض بن سارية ، وهو وهم من المصنف - رحمه الله - .
أخرجه : أحمد 4/182 و183، والترمذي ( 2859 )، والنسائي في " الكبرى " ( 11233 ) وفي " تفسيره " ( 253 ) ، والطبري في " تفسيره " 1/75 ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2041 ) و( 2143 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1147 ) و( 2024 ) ، والآجري في " الشريعة " : 12 - 13 ، والحاكم 1/73 من طرق عن النواس بن سمعان ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .

زاد التِّرمذيُّ : { وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } (1) .
ففي هذا المثلِ الذي ضربه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ الإسلامَ هو الصِّراطُ المستقيم الذي أمرَ الله تعالى (2) بالاستقامةِ عليه ، ونهى عن تجاوُزِ حدوده ، وأنَّ مَنِ ارتكبَ شيئاً مِنَ المحرّماتِ ، فقد تعدّى حدودَه .
وأما الإيمانُ ، فقد فسَّره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالاعتقادات الباطِنَة ، فقال : ( أنْ تُؤْمِن باللهِ ، وملائكتِه ، وكُتبِه ، ورُسلِهِ ، والبعثِ بعدَ الموتِ ، وتُؤْمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّه ) .
وقد ذكرَ الله في كتابه الإيمانَ بهذه الأصولِ الخمسةِ في مواضع ، كقوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } (3) . وقال تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (4) ، وقال تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (5) .
__________
(1) يونس : 25 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( رسوله ) .
(3) البقرة : 285 .
(4) البقرة : 277 .
(5) البقرة : 3 - 4 .

والإيمان بالرُّسُل يلزمُ منهُ الإيمانُ بجميع ما أخبرُوا به من المَلائكةِ ، والأنبياء ، والكتابِ(1) ، والبعثِ ، والقدرِ ، وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به مِنْ صفات الله
تعالى وصفات اليوم الآخر ، كالميزانِ والصراطِ ، والجنَّةِ ، والنَّار .
وقد أُدخِلَ في هذه الآيات الإيمانُ بالقدرِ خيرِه وشرِّه ، ولأجلِ هذه الكلمةِ روى ابنُ عمر هذا الحديث محتجّاً به على مَنْ أنكَرَ القدرَ ، وزعمَ أنَّ الأمرَ
أنفٌ : يعني أنّه(2) مستأَنَفٌ لم يسبق به سابقُ قدرٍ مِنَ اللهِ عز وجل ، وقد غلَّظ
ابنُ عمرَ عليهم ، وتبرّأ منهم ، وأخبرَ أنّه لا تُقبلُ منهم أعمالُهم بدونِ الإيمانِ بالقدر(3) .
والإيمانُ بالقدرِ على درجتين(4) :
إحداهما : الإيمان بأنَّ الله تعالى سبقَ(5) في علمه ما يَعمَلُهُ العبادُ من خَيرٍ
وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ قبلَ خلقهِم وإيجادهم، ومَنْ هُو منهم مِنْ أهلِ الجنَّةِ، ومِنْ أهلِ النَّارِ، وأعدَّ لهُم الثَّوابَ والعقابَ جزاءً لأعمالهم قبل خلقِهم وتكوينهم ، وأنَّه
كتبَ ذلك عندَه وأحصاهُ(6) ، وأنَّ أعمالَ العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه(7) .
__________
(1) في ( ص ) : ( ما أخبروا به غير ذلك من الملائكة والكتب والأنبياء ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : مجموعة الفتاوى لابن تيمية 13/23 .
(4) انظر : شرح العقيدة الواسطية : 442 .
(5) في ( ص ) : ( الإيمان بالله أنه سبق ) .
(6) زاد بعدها في (ص ) : ( وأعد لهم ) .
(7) انظر : شرح العقيدة الواسطية : 442 - 443 .

والدرجةُ الثانية : أنَّ الله تعالى خلقَ أفعالَ عبادِهِ كلَّها(1) مِنَ الكُفر والإيمانِ والطاعةِ والعصيانِ وشاءها منهم ، فهذه الدَّرجةُ(2) يُثبِتُها أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ ، ويُنكرها القدريةُ ، والدرجةُ الأولى أثبتها كثيرٌ مِنَ القدريَّةِ ، ونفاها غُلاتُهم ، كمعبدٍ الجُهنيِّ ، الذي سُئِل ابنُ عمرَ عنْ مقالتِهِ ، وكعمرو بن عُبيدٍ وغيره(3) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( الثانية ) .
(3) انقسم الناس في باب القدر إلى ثلاثة أقسام :
قسم آمنوا بقدر الله - عز وجل - وغلوا في إثباته ، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره ، وقالوا : إنَّ الله فاعل كل شيء ، وليس للعبد اختيار وَلا قدرة ، وإنما يفعل الفعل مجبراً عليه ، بل إنَّ بعضهم ادعى أنَّ فعل العبد هو فِعل الله ، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول ، وهؤلاء هم الجبرية .
والقسم الثاني قالوا : إنّ العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم ، فقال : إنَّ الله لا يعلم فعل العبد إلاّ إذا فعله ، أما قبل فلا يعلم عنه شيئاً ، وهؤلاء هم القدرية ، مجوس هذه الأمُة .
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا : إنَّ الله - عز وجل - يجبر الإنسان على فِعله ، وليس للإنسان اختيار .
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد ، وقالوا : إنَّ القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا عِلاقة لها في فِعل العَبد ، فهو الفاعِل المطلق الاختيار .
القسم الثالث : أهل السنة والجماعة ، قالوا : نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين ، فنقول : إنّ فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله ، ولا يمكن أنْ يكون في ملك الله مالا يشاؤه أبداً ، والإنسان له اختيار وإرادة ، ويفرق بين الفِعل الذي يضطر إليه ، والفعل الذي يختاره ، فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم ، ومع ذلك فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه . شرح العقيدة الواسطية : 364 .

وقد قال كثيرٌ من أئمة السّلفِ : ناظرُوا القدريَّةَ بالعلمِ ، فإنْ أقرُّوا به
خُصِمُوا ، وإنْ جحدوه ، فقد كفروا ، يريدونَ أنَّ مَنْ(1) أنكَرَ العلمَ القديمَ السَّابِقَ بأفعالِ العبادِ ، وأنَّ الله قَسمهم قبلَ خلقِهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ ، وكتبَ ذلك عندَه في كتابٍ حفيظٍ ، فقد كذَّب بالقُرآن ، فيكفُرُ بذلك ، وإنْ أقرُّوا بذلك ، وأنكروا أنَّ الله خلق أفعالَ عباده ، وشاءها ، وأرادها منهم إرادةً كونيةً قدريةً ، فقد خصمُوا ؛ لأنَّ ما أقرُّوا به حُجَّةٌ عليهم فيما أنكروه . وفي تكفير هؤلاءِ نزاعٌ مشهورٌ بينَ العُلماءِ(2) .
وأمّا من أنكرَ العلمَ القديمَ ، فنصَّ الشّافعيُّ وأحمدُ على تكفيرِهِ ، وكذلك غيرُهما مِنْ أئمةِ الإسلام(3) .
فإنْ قيل : فقدْ فرَّق النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بينَ الإسلام والإيمانِ ، وجعلَ الأعمالَ كلَّها من الإسلامِ ، لا مِنَ الإيمانِ ، والمشهورُ عنِ السَّلفِ وأهلِ الحديثِ أنَّ الإيمانَ : قولٌ وعملٌ ونيةٌ ، وأنَّ الأعمالَ كلَّها داخلةٌ في مُسمَّى الإيمانِ(4) . وحكى الشافعيُّ على ذلك إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابعين ومن بعدَهم ممَّن أدركهم(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز : 271 – 272 .
(3) انظر : مجموعة الفتاوي لابن تيمية 7/241 .
(4) انظر : الإيمان لابن تيمية : 231 ، ومختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
(5) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .

وأنكرَ السَّلفُ على مَنْ أخرجَ الأعمالَ عنِ الإيمانِ إنكاراً شديداً ، وممَّن أنكرَ ذلك على قائله، وجعلَه قولاً مُحدَثاً : سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وميمونُ بنُ مِهرانَ ، وقتادةُ، وأيُّوبُ السَّختيانيُّ ، وإبراهيمُ النَّخعي(1) ، والزُّهريُّ ، ويحيى بنُ أبي كثيرٍ ، وغيرُهم . وقال الثَّوريُّ : هو رأيٌ محدَثٌ ، أدركنا الناس على غيره . وقال الأوزاعيُّ : كان مَنْ مضى ممَّن سلف لا يُفَرِّقون بين الإيمان(2) والعمل(3) .
وكتب عمرُ بنُ عبد العزيز إلى أهل الأمصارِ : أمَّا بعدُ ، فإنَّ للإيمانِ فرائضَ وشرائعَ وحدوداً وسنناً(4) ، فمن استكملَها ، استكملَ الإيمانَ ، ومن لم يَستكْمِلها ، لم يستكملِ الإيمانَ ، ذكره البخاري في " صحيحه "(5) .
قيل : الأمر على ما ذكره ، وقد دلّ على دُخول الأعمالِ في الإيمان قولُه تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } (6) .
__________
(1) في ( ص ) : ( والنخعي ) فقط .
(2) في ( ص ) : ( لا يعرفون الإيمان ) .
(3) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد :
177-178 .
(4) عبارة : ( وحدوداً وسنناً ) لم ترد في ( ص ) .
(5) 1/8 قبيل ( 8 ) تعليقاً ، وقد وصله ابن أبي شيبة في المصنف ( 30962 ) طبعة الرشد .
(6) الأنفال : 2-4 .

وفي " الصحيحين "(1) عنِ ابنِ عبّاسٍ : أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لوفدِ عبدِ القيسِ :
( آمركُم بأربعٍ : الإيمانِ بالله وحده (2)، وهل تدرونَ ما الإيمانُ بالله ؟ شهادةُ أنْ لا إله إلاّ الله ، وإقامِ الصّلاةِ ، وإيتاءِ الزكاةِ ، وصومِ رمضانَ ، وأنْ تُعطُوا من المَغنَمِ الخُمْسَ ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الإيمانُ
بِضعٌ وسَبعونَ ، أو بضعٌ وستُّون شُعبة ، فأفضلُها : قولُ لا إله إلا الله ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان ) ولفظه لمسلم .
__________
(1) صحيح البخاري 1/20 ( 53 ) و1/32 ( 87 ) و1/139 ( 523 ) و2/131 ( 1398 ) و4/98 ( 3095 ) و4/220 ( 3510 ) و5/213 ( 4368 ) و( 4369 ) و8/50
( 6176 ) و9/111 ( 7266 ) و9/197 ( 7556 ) ، وصحيح مسلم 1/35 ( 17 )
( 23 ) و( 24 ) و1/36 ( 17 ) ( 25 ) .
(2) وحده ) لم ترد في ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 1/9 ( 9 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 35 ) ( 57 ) و( 58 ) .
وأخرجه : معمر في"جامعه" ( 20105 ) ، والطيالسي ( 2402 ) ، وأبو عبيد في " الإيمان " ( 4 ) ، وأحمد 2/379 و414 و442 و445 ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 598 ) ، =
= ... وأبو داود ( 4676 ) ، وابن ماجه ( 57 ) ، والترمذي ( 2614 ) ، والنسائي 8/110 وفي " الكبرى " ، له ( 11735 ) و( 11736 ) و( 11737 ) من حديث أبي هريرة ، به .

وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هُريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يزني الزّاني حينَ يزني وهو مُؤمنٌ ، ولا يَسرقُ السّارق حين يسرق وهو مؤمنٌ ، ولا يشرب الخمر حينَ يشربها وهو مؤمنٌ ) فلولا أنَّ تركَ هذه الكَبَائِرَ مِنْ مُسمَّى الإيمان لما انتفى اسمُ الإيمانِ عن مرتكبِ شيءٍ منها ؛ لأنَّ الاسمَ لا ينتفى إلاَّ بانتفاءِ بعض أركانِ المسمّى ، أو واجباتِه(2) .
وأما وجهُ الجمعِ بينَ هذه النُّصوص وبينَ حديثِ سُؤال(3) جبريلَ - عليه السلام - عَنِ الإسلامِ والإيمانِ ، وتفريق النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وإدخاله الأعمالَ في مُسمَّى الإسلامِ دونَ مُسمَّى الإيمانِ ، فإنَّه يتضح بتقريرِ أصلٍ ، وهو أنّ مِنَ الأسماءِ ما يكونُ شاملاً لمسمّياتٍ مُتعدِّدةٍ عندَ إفرادِه وإطلاقه ، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاًّ على بعضِ تلك المسمَّياتِ ، والاسمُ المقرونُ به دالٌّ على باقيها ، وهذا كاسم الفقيرِ والمسكينِ ، فإذا أُفردَ أحدُهما دخل فيه كلُّ مَنْ هو محتاجٌ ، فإذا قُرن أحدُهما بالآخر دلَّ أحدُ الاسمين على بعضِ أنواعِ ذوي الحاجاتِ(4) ، والآخر على باقيها ، فهكذا اسمُ الإسلامِ والإيمانِ : إذا أُفرد أحدُهما ، دخل فيه الآخر ، ودلّ بانفرادِه على ما يدلُّ عليه الآخرُ(5) بانفراده ، فإذا قُرِنَ بينَهُما دلّ أحدُهما على بعض ما يدلُّ عليه بانفرادهِ ، ودلَّ الآخر على الباقي(6) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/178 ( 2475 ) و7/135 ( 5578 ) و8/195 ( 6772 ) و8/204
( 6810 ) ، وصحيح مسلم 1/54 ( 57 ) ( 100 ) و( 101 ) و1/55 ( 57 ) ( 102 ) و( 103 ) و( 104 ) و( 105 ) .
(2) انظر : الإيمان لابن تيمية : 240 و249 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( بعض ذي الحاجة ) .
(5) في ( ص ) : ( الاسم ) .
(6) انظر : الإيمان لابن تيمية : 261 .

وقد صرَّح بهذا المعنى جماعةٌ مِنَ الأئمّةِ . قال أبو بكر الإسماعيليُّ في رسالته إلى أهل الجبل : قال كثيرٌ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة : إنّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ(1) ، والإسلام فعل ما فُرِضَ على الإنسانِ أنْ يفعَله إذا ذكر كلُّ اسمٍ على حِدَتِه مضموماً إلى
الآخر ، فقيل : المؤمنونَ والمسلمونَ جميعاً مفردين ، أُريدَ بأحدهما معنى لم يُرَدْ بالآخر ، وإذا ذُكِرَ أحدُ الاسمين ، شَمِلَ(2) الكُلَّ وعمَّهم(3) .
وقد ذكر هذا المعنى أيضاً الخطابيُّ في كتابه " معالم السنن "(4) ، وتَبِعَهُ عليه جماعةٌ من العُلَماء من بعده .
ويدلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ الإيمانَ عند ذكرِه مفرداً في حديث وفد عبدِ القيسِ بما فسّر به الإسلامَ المقرونَ بالإيمانِ في حديثِ جبريلَ(5) ، وفسَّر في حديثٍ آخرَ الإسلامَ بما فسّر به الإيمانَ ، كما في " مسند الإمام أحمد " (6)
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 259 ، ومختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 173 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( الآخر ) .
(3) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 176-177 .
(4) 4/292 . وانظر : مجموعة الفتاوى 7/225 .
(5) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
(6) 4/114 .

وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20107 ) ، وعبد بن حميد ( 301 ) من حديث عمرو بن عبسة ، به ، وهو حديث صحيح .

عن عمرو بن عَبسة ، قال : جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما الإسلامُ ؟ قال(1) : ( أنْ تُسْلِمَ قلبَكَ للهِ ، وأنْ يسلمَ المسلمونَ مِنْ لِسَانِكَ ويَدكَ ) ، قال : فأي الإسلام أفضلُ ؟ قال: ( الإيمان ) . قال: وما الإيمان ؟ قال : ( أنْ تُؤْمِنَ باللهِ ، وملائكته ، وكُتبهِ ، ورُسلِه ، والبعثِ بعدَ الموتِ ) . قال : فأيُّ الإيمانِ أفضلُ ؟ قال : ( الهِجْرَةُ ) . قال : فما الهجرةُ ؟ قال : ( أن تَهجُر السُّوءَ ) ، قال : فأيُّ الهِجْرةِ أفضلُ ؟ قال : ( الجهاد ) . فجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ أفضلَ الإسلامِ ، وأدخلَ فيه الأعمالَ .
وبهذا التَّفصيل يظهرُ تحقيقُ القولِ في مسألةِ الإسلامِ والإيمانِ : هل هما واحدٌ ، أو هما مختلفان ؟
فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ والحديثِ مختلفون في ذلك، وصنَّفُوا في ذلك تصانيف متعددةً ، فمنهم من يدَّعِي أنَّ جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ على أنَّهما شيءٌ واحدٌ(2) : منهم محمدُ بن نصرٍ المروزيُّ(3) ، وابنُ عبد البرِّ ، وقد رُويَ هذا القولُ عنْ سفيانَ الثَّوريِّ مِنْ رواية أيُّوبَ بن سُويدٍ الرَّمليِّ عنه ، وأيُّوب فيه ضعف .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
(2) انظر : الإيمان لابن تيمية 261 - 262 .
(3) انظر : كلام المروزي في هذه المسألة في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عقب الحديث (568) . وانظر : الإيمان لابن تيمية : 282 و286 ، ومجموعة الفتاوى 7/225 .

ومنهم من يحكي عن أهل السُّنَّةِ التَّفريقَ بينهما(1) ، كأبي بكر بن السَّمعانيِّ وغيره ، وقد نُقِلَ التفريقُ بينهما عَنْ كثيرٍ من السَّلَفِ ، منهم : قتادةُ ، وداودُ بنُ أبي هند ، وأبو جعفر الباقر ، والزُّهريُّ ، وحمادُ بن زيد ، وابن مهديٍّ ، وشريكٌ ، وابنُ أبي ذئب ، وأحمد بن حَنْبل ، وأبو خيثمة ، ويحيى بنُ معينٍ ، وغيرهم ،
على اختلافٍ بينَهم في صفة التَّفريق بينَهُما ، وكان الحسنُ وابنُ سيرين يقولان
: ( مسلمٌ ) ويهابان ( مُؤمنٌ )(2) .
وبهذا التَّفصيل الذي ذكرناهُ يزولُ الاختلافُ ، فيُقالُ : إذا أُفردَ كلٌّ مِنَ الإسلامِ والإيمانِ بالذِّكرِ فلا فرقَ بينهما حينئذٍ ، وإنْ قُرِنَ بين الاسمينِ ، كان بينَهما فَرقٌ(3) .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 282 ، ومجموعة الفتاوى 7/225 و233 ، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 1/108 .
(2) أخرجه : عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 658 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "
( 567 ) .
(3) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 176 .

والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمانَ هو تصديقُ القلبِ ، وإقرارُهُ ، ومعرفته ، والإسلامُ : هو استسلامُ العبدِ للهِ ، وخُضُوعُه ، وانقيادهُ له ، وذلك يكونُ بالعملِ ، وهو الدِّينُ ، كما سمَّى الله تعالى في كتابِه الإسلامَ ديناً(1) ، وفي حديث جبريل سمَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإسلامَ والإيمانَ والإحسان ديناً ، وهذا أيضاً ممّا يدلُّ على أنَّ أحدَ الاسمين إذا أُفردَ دَخلَ فيه الآخرُ ، وإنّما يفرَّقُ بينهما حيثُ قُرِنَ أحدُ الاسمين بالآخر ، فيكونُ حينئذٍ المرادُ بالإيمانِ : جنسَ تصديقِ القلبِ ، وبالإسلامِ جنسَ العمل(2) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3)
__________
(1) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
(2) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 176 .
(3) 3/134 .

وأخرجه : أبو عبيد في " الإيمان " : 6 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 20 ) ، وأبو يعلى ( 2923 ) ، والعقيلي في " الضعفاء " 3/250 ، وابن حبان في " المجروحين " 2/108 ، وابن عدي في " الكامل " 6/353، والخطيب في " الموضح " 2/249 من حديث أنس بن مالك ، به ، وإسناده ضعيف تفرد به عليُّ بن مَسْعَدة ، وهو ضعيف عند التفرد .

عَنْ أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الإسلامُ علانِيَةٌ ، والإيمانُ في القلبِ ) . وهذا لأنّ الأعمالَ تظهرُ علانيةً ، والتَّصديقُ في القلب لا يظهرُ . وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائه إذا صلّى على الميِّت : ( اللّهُمَّ مَنْ أحييتَهُ منّا فأحيهِ على الإسلامِ ، ومَن تَوفَّيتَهُ منّا فتوفَّه على الإيمان(1) ) ؛ لأنَّ الأعمال بالجوارحِ إنَّما يُتَمكَّنُ منه (2) في الحياةِ ، فأمّا عندَ الموتِ فلا يبقى غيرُ التَّصديق بالقلبِ(3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/368 ، وأبو داود ( 3201 ) ، وابن ماجه ( 1498 ) ، والترمذي
( 1024 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 1080 ) و( 1081 ) ، وأبو يعلى
( 6009 ) و( 6010 ) ، وابن حبان ( 3070 ) ، والحاكم 1/358 ، والبيهقي 4/41 من حديث أبي هريرة ، به ، وهذا الحديث معلول بالإرسال ، وقد رجح الرواية المرسلة أبو حاتم وأبو زرعة كما في " العلل " لابن أبي حاتم ( 1047 ) و(1058 ) على أن الترمذي قال عن الحديث : ( حسن صحيح ) .
وللحديث طرق أخرى .
(2) في ( ص ) : ( وقته ) .
(3) انظر : الإيمان لابن تيمية : 207 .

ومن هُنا قال المحقِّقون مِنَ العُلماءِ : كلُّ مُؤمِنٍ مُسلمٌ ، فإنَّ من حقَّق
الإيمان ، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام(1) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا وإنَّ في
الجَسَدِ مُضغةً ، إذا صَلحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فَسَدتْ فسدَ الجَسَدُ كلُّه ، ألا وهي القَلبُ (2) ) ، فلا يتحقَّقُ القلبُ بالإيمان إلاَّ وتنبعِثُ الجوارحُ في
أعمالِ الإسلامِ ، وليس كلُّ مسلمٍ مؤمناً ، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفاً ، فلا يتحقَّقُ القلبُ به تحقُّقاً تامّاً مع عمل جوارِحِه بأعمال الإسلام ، فيكون مسلماً ، وليس بمؤمنٍ الإيمانَ التَّامَّ ، كما قال تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (3) ، ولم يكونوا مُنافقينَ
بالكُلِّيةِ على أصحِّ التَّفسيرينِ، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ وغيره(4)، بل كان إيمانُهم ضعيفاً ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئاً } (5) ، يعني : لا ينقصُكم من أجورِها ، فدلَّ على أنَّ معهم من الإيمانِ ما تُقبَلُ به أعمالُهم(6) .
__________
(1) انظر : مجموعة الفتاوى 7/229 .
(2) سيأتي عند الحديث السادس .
(3) الحجرات : 14 .
(4) قول ابن عباس أخرجه الطبري في " تفسيره " ( 24611 ) . وانظر : زاد المسير 7/476 - 477 ، وتفسير ابن كثير : 1753 ، ط دار ابن حزم .
(5) الحجرات : 14 .
(6) انظر : تفسير الطبري ( 24615 ) ، وتفسير البغوي 4/269 ، وزاد المسير 7/477 .

وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما قال له : لم(1) تعطِ فلاناً وهو
مؤمن ؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أو مسلمٌ(2)
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( لا ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 198 ) ، والحميدي ( 68 ) و( 69 ) ، وأحمد 1/176 و182 ،
وعبد بن حميد ( 140 ) ، والدورقي في " مسند سعد بن أبي وقاص " ( 11 ) ، والبخاري 1/13 ( 27 ) و2/153 ( 1478 ) ، ومسلم 1/91 (150 ) ( 236 ) و( 237 ) =

= و3/104 (150) ( 236 ) و( 237 ) و3/104 ( 150 ) ( 131 )، وأبو داود ( 4683 ) و( 4685 ) ، والبزار ( 1087 ) و( 1088 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "
( 560 ) و( 561 ) و( 562 )، والنسائي 8/103 و104 وفي " الكبرى "، له ( 11517 ) و( 11723 ) و( 11724 ) وفي " تفسيره " ( 537 ) ،وأبو يعلى ( 733 ) و( 778 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 24608 ) ، والشاشي في " مسنده " ( 89 ) و( 91 ) ، وابن حبان ( 163 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 161 ) و( 162 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1494 ) و( 1495 )، وأبو نعيم في " الحلية " 6/191 ، والخطيب في " تاريخه " 3/119 من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً ، فقال سعد : يا نبي الله ، أعطيت فلاناً وفلاناً ، ولم تعط فلاناً شيئاً ، وهو مؤمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أو مسلم ) حتى أعادها سعدٌ ثلاثاً ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أو مسلم ) ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأعطي رجالاً ، وأدع من هو أحب إلي منهم ، فلا أعطيه شيئاً ، مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم ) . اللفظ لأحمد 1/176 .

) يُشيرُ إلى أنَّه لم يُحقِّق مقامَ الإيمانِ ، وإنَّما هو في مقامِ الإسلامِ الظاهرِ ، ولا ريبَ أنَّه متى ضَعُفَ الإيمانُ الباطنُ ، لزمَ منه ضعفُ أعمالِ الجوارحِ الظاهرةِ أيضاً ، لكن اسم الإيمان يُنفى عمّن تركَ شيئاً مِنْ واجباتِه ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : ( لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ(2) ) .
وقد اختلف أهلُ السُّنَّة : هل يُسمَّى مؤمناً ناقصَ الإيمانِ ، أو يقال : ليس بمؤمنٍ ، لكنَّهُ مسلمٌ ، على قولين ، وهما روايتانِ عنْ أحمدَ(3) .
وأمَّا اسمُ الإسلامِ، فلا ينتفي بانتفاءِ بعض واجباتِهِ ، أو انتهاكِ بعضِ محرَّماته ، وإنَّما يُنفى بالإتيانِ بما يُنافيه بالكُلِّيَّةِ ، ولا يُعرَفُ في شيءٍ من السُّنَّةِ الصَّحيحةِ نفيُ الإسلامِ عمَّن تركَ شيئاً من واجباتِهِ ، كما يُنفى الإيمانُ عمَّن تركَ شيئاً من واجباتِهِ ، وإنْ كان قد وردَ إطلاقُ الكُفرِ على(4) فعلِ بعض المحرَّماتِ ، وإطلاقُ النِّفاقِ أيضاً .
__________
(1) - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ج ) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) في رواية حنبل بن إسحاق قال : قلت لأبي عبد الله : إذا أصاب الرجل ذنباً من زنا أو سرقة يزايله إيمانه ؟ قال : هو ناقص الإيمان فخلع منه كما يخلع الرجل من قميصه ، فإذا تاب وراجع عاد إليه إيمانه .
وفي رواية له أيضاً قال : سمعت أبا عبد الله وسئل عن قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) قال: هكذا يروى الحديث ويروى عن أبي جعفر ( أي: محمد بن علي بن =
= ... الحسين ) قال : ( لا يزني الزاني … ) قال يخرج : من الإيمان إلى الإسلام ، فالإيمان مقصور في الإسلام فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام . انظر : المسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل 1/110 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( من ) .

واختلفَ العلماءُ : هل يُسمى مرتكبُ الكبائر كافراً كفراً أصغر أو منافقاً النِّفاق الأصغرَ ، ولا أعلمُ أنَّ أحداً منهم أجاز إطلاق نفي اسمِ الإسلام عنه ، إلاَّ أنَّه رُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال : ما تاركُ الزَّكاةِ بمسلمٍ(1) ، ويُحتملُ أنَّه كان يراه كافراً بذلك ، خارجاً من الإسلام .
وكذلك رُوي عن عمر فيمن تمكَّن مِنَ الحجِّ ولم يحجَّ أنَّهم ليسوا بمسلمين ، والظَّاهرُ أنّه كان يعتقد كفرَهم ، ولهذا أراد أنْ يضربَ عليهمُ الجزيةَ يقول : لم
يدخُلوا في الإسلامِ بعدُ ، فهم مستمرُّون على كتابيتهم(2) .
وإذا تبيَّن أنَّ اسمَ الإسلامِ لا ينتفي إلاّ بوجودِ ما ينافيه ، ويُخرجُ عن المِلَّةِ بالكلِّيَّةِ ، فاسمُ الإسلامِ إذا أُطلِقَ أو اقترنَ به المدحُ ، دخل فيه الإيمانُ كلُّه مِنَ التَّصديقِ وغيره ، كما سبق في حديثِ عمرو بن عبسَة(3) .
وخرَّج النَّسائيُّ(4)
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 9828 ) .
(2) قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " : 385 ط دار ابن حزم ، روى سعيد بن منصور في
" سننه " عن الحسن البصري ، قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لقد هممت أنْ أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كل من له جدة ولم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين . وعزاه السيوطي في " الدر المنثور " 2/100 لسعيد بن منصور .
وروى أبو بكر الإسماعيلي كما في " تفسير ابن كثير " : 385 ، ط دار ابن حزم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة كما في " الدر المنثور " 2/101 عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال : من أطاق الحج ولم يحج ، فسواءٌ عليه مات يهودياً ، أو نصرانياً .
(3) تقدم تخريجه .
(4) في " الكبرى " ( 8593 ) .

وأخرجه أيضاً : أحمد 4/110 و5/288 ، وأبو يعلى ( 6829 ) ، وابن حبان ( 5972 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 980 ) و( 981 ) ، والحاكم 1/19 ، والبيهقي 9/116 من حديث عقبة بن مالك ، به . وهو حديث صحيح .

مِنْ حديثِ عقبة بن مالك : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ سريّةً ، فغارت على قومٍ (1)، فقال رجلٌ منهم : إني مُسلمٌ ، فقتلهُ رجلٌ منَ السَّريَّةِ ، فنُمي(2) الحديثُ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال فيه قولاً شديداً ، فقال الرجلُ : إنَّما قالها تعوُّذاً مِنَ القتل ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله أبى عليَّ أنْ أقتل مؤمناً ) ثلاث مرات .
فلولا أنَّ الإسلام المطلق يدخُلُ فيه الإيمانُ والتَّصديقُ بالأصولِ الخمسةِ ، لم يَصِرْ مَنْ قالَ : أنا مسلمٌ مؤمناً بمجرَّدِ هذا القول ، وقد أخبرَ الله عن مَلِكَةِ سبأ أنَّها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (3) ، وأخبر عن يوسف - عليه السلام - أنَّه دعا بالموت على الإسلام . وهذا كلُّه يدل على أنَّ الإسلام المطلقَ يدخُلُ فيه ما يدخُلُ في الإيمان مِنَ التَّصديق .
وفي " سنن ابن ماجه " (4) عن عديِّ بن حاتمٍ ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عديُّ، أسلم تسلم ) ، قلت : وما الإسلام ؟ قال : ( تشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وتشهدُ أنِّي رسولُ الله ، وتؤمن بالأقدارِ كلِّها ، خيرها وشرِّها ، حلوِها ومرِّها ) فهذا نصٌّ في أنَّ الإيمان بالقدر مِنَ الإسلامِ .
__________
(1) عبارة : ( على قوم ) لم ترد في ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( فانتهى ) .
(3) النمل : 44 .
(4) 87 ) . وأخرجه أيضاً : الطبراني في " الكبير " 17/( 138) مطولاً ، والحديث إسناده ضعيف جداً من أجل عبد الأعلى بن أبي المساور فهو متروك .

ثم إنَّ الشهادتين مِنْ خصالِ الإسلامِ بغير نزاعٍ ، وليسَ المرادُ الإتيان بلفظهما دونَ التَّصديق بهما ، فعُلِمَ أنَّ التّصديقَ بهما داخلٌ في الإسلامِ ، قد فسّرَ الإسلامَ المذكورَ في قوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ } (1) بالتَّوحيد والتَّصديق طائفةٌ مِنَ السَّلف ، منهم محمدُ بنُ جعفر بنِ الزُّبير(2) .
__________
(1) آل عمران : 19 .
(2) أخرج : الطبري في " تفسيره " ( 5319 ) عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ } ، أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب والتصديق للرسل .

وأما إذا نُفي الإيمانُ عَنْ أحدٍ ، وأُثبتَ له الإسلامُ ، كالأعراب الذينَ أخبرَ الله عنهم ، فإنّه ينتفي رسُوخُ الإيمانِ في القلبِ ، وتثبُت لهم المشاركةُ في أعمالِ الإسلامِ الظَّاهرةِ مع نوعِ إيمانٍ يُصحِّحُ لهمُ العملَ ، إذ لولا هذا القدر مِنَ الإيمانِ(1) لم يكونُوا مسلمين ، وإنَّما نفي عنهُم الإيمانِ ؛ لانتفاء ذوقِ حقائقِه ، ونقصِ بعضِ واجباته ، وهذا مبنيٌّ على أنَّ التّصديقَ القائم بالقلوبِ متفاضلٌ ، وهذا هو الصَّحيحُ ، وهو أصحُّ الرِّوايتين عَنْ أحمد(2) ، فإنَّ إيمانَ الصِّدِّيقين الذين يتجلَّى الغيبُ لقلوبهم حتى يصيرَ كأنَّه شهادةٌ ، بحيث لا يقبلُ التَّشكيكَ ولا الارتيابَ ، ليس كإيمانِ غيرِهم ممَّن لم يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شُكِّكَ لدخلهُ الشكُّ ، ولهذا جعلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرتبةَ الإحسّانِ أنْ يعبُد العبدُ ربَّه كأنَّه يراهُ ، وهذا لا يحصلُ لِعمومِ المؤمنينَ ، ومن هنا قال بعضهم : ما سبقكم أبو بكرٍ بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيءٍ وقرَ في
صدره(3) .
__________
(1) عبارة : ( من الإيمان ) لم ترد في ( ص ) .
(2) انظر : مجموعة الفتاوى 7/258 ، والإيمان لابن تيمية : 190 ، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل 1/111 .
(3) قال العراقي : ( لا أصل لهذا مرفوعاً ، وإنما يعرف من قول بكر بن عبد الله المزني ، رواه الحكيم الترمذي في " نوادره " ) .
وورد أيضاً بلفظ : ( ما فضلكم أبو بكر بفضل صومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيءٍ وقرَ في قلبه ) . انظر : تخريج أحاديث الإحياء ( 85 ) و( 141 ) ، والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة
( 801 ) و( 1307 ) .

وسُئِل ابنُ عمرَ : هل كانتِ الصحابةُ يضحكون ؟ فقال : نعم والإيمانُ في قلوبهم أمثالُ الجبالِ(1) . فأينَ هذا ممّن الإيمان في قلبه يَزنُ ذرَّةً أو شعيرةً ؟! كالّذينَ يخرجونَ من أهلِ التّوحيد مِنَ النارِ ، فهؤلاء يصِحُّ أنْ يُقالَ : لم يدخُلِ الإيمانُ في قُلوبهم لضعفِه عندهم .
وهذه المسائلُ - أعني : مسائل الإسلامِ والإيمانِ والكُفرِ والنِّفاقِ - مسائلُ عظيمةٌ جداً، فإنَّ الله علَّق بهذه الأسماءِ السَّعادةَ، والشقاوةَ ، واستحقاقَ الجَنَّةِ والنَّار ، والاختلافُ في مسمّياتِها أوّلُ(2) اختلافٍ وقعَ في هذه الأُمَّةِ ، وهو خلافُ الخوارجِ
للصَّحابة ، حيثُ أخرجُوا عُصاةَ المُوحِّدينَ مِنَ الإسلام بالكُلِّيَّةِ ، وأدخلوهُم في دائرةِ الكُفر ، وعاملوهم معاملةَ الكُفَّارِ ، واستحلُّوا بذلكَ دماءَ المسلمين وأموالهم ، ثمَّ حدَث بعدَهم خلافُ المعتزلة وقولُهم بالمنْزلة بينَ المنْزلتين، ثمَّ حدثَ خلافُ المرجئةِ ، وقولُهم : إنَّ الفاسقَ مؤمنٌ كاملُ الإيمانِ(3) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/311 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : الإيمان لابن تيمية : 191 و202 ، ومجموعة الفتاوى 7/206 - 207 .

وقد صنَّفَ العلماءُ قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيفَ متعدِّدةً ، وممّن صنَّف في الإيمانِ مِنْ أئمَّةِ السَّلفِ : الإمامُ أحمدُ ، وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ(1) ، وأبو بكر بنُ أبي شيبةَ(2) ، ومحمدُ بنُ أسلمَ الطُّوسيُّ . وكثُرت فيه التصانيفُ بعدهم مِنْ جميعِ الطوائفِ(3) ، وقد ذكرنا هاهنا نكتاً جامعةً لأصولٍ كثيرةٍ مِنْ هذه المسائلِ والاختلاف فيها ، وفيه - إن شاء الله - كفايةٌ .

فصل
قد تقدَّم أنّ الأعمالَ تدخُلُ في مُسمَّى الإسلامِ ومسمَّى الإيمانِ أيضاً ، وذكرنا ما يدخلُ في ذلك مِنْ أعمالِ الجوارحِ الظَّاهِرَةِ ، ويدخُلُ في مسمَّاها أيضاً أعمالُ الجوارحِ الباطنةِ .
فيدخل في أعمالِ الإسلامِ إخلاصُ الدِّين للهِ ، والنُّصحُ له ولعبادهِ ، وسلامةُ القلبِ لهم مِنَ الغِشِّ والحسدِ والحِقْدِ ، وتوابعُ ذلك مِنْ أنواع الأذى .
__________
(1) وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني نشر المكتب الإسلامي 1983 م ، وهو مطبوع أيضاً ضمن كنوز السنة بتحقيق الشيخ الألباني دار الأرقم الكويت .
(2) وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني سنة 1385 ه‍ الطبعة العمومية دمشق .
(3) من هذه التصانيف : الإيمان للعدني ، والإيمان لابن منده ، والإيمان لابن تيمية ، والإيمان لأبي يعلى بن الفراء ، مخطوط له نسخة مصورة في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن الظاهرية مجموع ( 987 ) .

ويدخُلُ في مسمَّى الإيمانِ وجَلُ القُلوبِ مِنْ ذكرِ اللهِ ، وخشوعُها عندَ سماع ذكرِه وكتابه ، وزيادةُ الإيمانِ بذلك ، وتحقيقُ التوكُّل على اللهِ ، وخوفُ اللهِ سرَّاً وعلانيةً ، والرِّضا بالله ربّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً ، واختيارُ تَلَفِ النُّفوسِ بأعظمِ أنواعِ الآلامِ على الكُفرِ ، واستشعارُ قُربِ الله مِنَ العَبدِ ، ودوامُ استحضارِهِ ، وإيثارُ محبَّةِ اللهِ ورسوله على محبّةِ (1) ما سواهما ، والمحبةُ(2) في الله والبُغضُ في الله ، والعطاءُ له ، والمنعُ له ، وأنْ يكونَ جميعُ الحركاتِ والسَّكناتِ له ، وسماحةُ النُّفوسِ بالطَّاعةِ الماليَّةِ والبدنيَّةِ ، والاستبشارُ بعملِ الحسّنات ، والفرحُ بها ، والمَساءةُ بعملِ السَّيئاتِ والحزنُ عليها ، وإيثارُ المؤمنينَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم وأموالهم ، وكثرةُ الحياءِ ، وحسنُ الخلقِ ، ومحبَّةُ ما يحبُّه لنفسه لإخوانه المؤمنين ، ومواساةُ المؤمنينَ ، خصوصاً الجيران ، ومعاضدةُ المؤمنين ، ومناصرتهم ، والحزنُ بما يُحزنُهم .
ولنذكُرْ بعض النُّصوص الواردة بذلك(3) :
فأمَّا ما ورد في دُخوله في اسم الإسلام ، ففي " مسند الإمام أحمد " (4) ،
و" النسائي "(5)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( والحب ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) 5/3 و4 و5 .
(5) في " المجتبى " 5/4-5 و82 - 83 وفي " الكبرى " ، له ( 2216 ) و( 2347 )
و( 2349 ) .

وأخرجه أيضاً : معمر في " جامعه " ( 20115 ) ، وابن المبارك في " الزهد " ( 987 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 403 ) ( 404 ) ، وابن حبان ( 160 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 969 ) و( 970 ) و( 971 ) و( 972 ) و( 1033 ) و( 1036 )
و( 1037 ) من حديث معاوية بن حيدة ، به ، وهو حديث قويٌّ .

عن معاويةَ بنِ حَيْدَةَ ، قال : قلت : يا رسول الله ، أسألك(1) بالذي بعثكَ بالحقِّ ، ما الذي بعثك به ؟ قال : ( الإسلام ) ، قلت : وما الإسلام ؟ قال : ( أنْ تُسلِمَ قلبَكَ لله ، وأنْ توجه وجهَك إلى الله ، وتُصلِّي الصلاةَ المكتوبة ، وتُؤدِّيَ الزكاة المفروضة ) ، وفي رواية له : قلت : وما آيةُ الإسلام ؟ قال : ( أنْ تقولَ : أسلمتُ وجهيَ للهِ ، وتخليتُ ، وتقيمَ الصلاةَ ، وتُؤتِي الزكاةَ ، وكلُّ مسلمٍ على مسلمٍ حرام ) .
وفي السُّنن(2) عن جُبير بن مُطعم ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خُطبته
بالخَيْفِ(3) مِنْ مِنى : ( ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومُناصحةُ وُلاةِ الأمورِ، ولزومُ جماعةِ المسلمينَ، فإنّ دعوتَهُم تُحيطُ مِنْ ورائهم )، فأخبرَ أنَّ هذه الثلاثَ الخصالَ تنفي الغِلَّ عَنْ قلبِ المسلم .
وفي " الصَّحيحين " (4)
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) أخرجه : أحمد 4/80 و82 ، والدارمي ( 233 ) و( 234 ) ، وابن ماجه ( 3056 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1541 ) و( 1542 ) و( 1543 ) و( 1544 ) ، والحاكم 1/86-88 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 1/41 من حديث جبير بن
مطعم ، به ، وهو حديث قويٌّ بطرقه .
وأخرجه : الدّارمي ( 236 ) من حديث أبي الدرداء ، به .
وأخرجه : الحميدي ( 88 ) ، والترمذي ( 2658 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .
وأخرجه : ابن ماجه ( 230 ) من حديث زيد بن ثابت ، به . والحديث قويٌّ بطرقه .
(3) الخيف : بفتح أوله وسكون ثانيه وآخره فاءٌ ، والخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء ومنه سمي مسجد الخيف من مِنى .
انظر : معجم البلدان 3/265 ، ومراصد الاطلاع 1/495 .
(4) صحيح البخاري 1/10 ( 11 ) ، وصحيح مسلم 1/48 ( 42 ) ( 66 ) .

وأخرجه : الترمذي ( 2504 ) و( 2628 ) ، والنسائي 8/106-107 وفي " الكبرى " ، له ( 11730 ) من حديث أبي موسى ، به .

عن أبي موسى ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : أيُّ المسلمين أفضلُ ؟ فقال : ( مَنْ سلمَ المسلمونَ مِنْ لسانِهِ ويده ) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المسلم أخو المسلم ، فلا يظلمُهُ ، ولا يخذُلُهُ ، ولا يحقرُه (2). بحسب امرىءٍ مِنَ الشَّرِّ
أنْ يحْقِرَ أخاهُ المُسلمَ ، كلُّ المسلمِ على المُسلمِ حرامٌ : دمُه ، ومالهُ ،
وعِرضهُ ) .
وأمّا ما وردَ في دُخوله في اسم الإيمانِ ، فمثل قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقّاً } (3) ، وقوله : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } (4) . وقوله : { وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (5) ، وقوله : { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (6) ، وقوله : { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (7) .
__________
(1) صحيح مسلم 8/10-11 ( 2564 ) ( 32 ) و( 33 ) .
وأخرجه : أحمد 2/277 و311 و360، وعبد بن حميد ( 1442 )، وأبو داود ( 4882 ) ، وابن ماجه ( 3933 ) و( 4213 ) ، والترمذي ( 1927 ) من حديث أبي هريرة به .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( ولا يحسده ) .
(3) الأنفال : 2-4 .
(4) الحديد : 16 .
(5) إبراهيم : 11 ، والمجادلة : 10 ، والتغابن : 13 .
(6) المائدة : 23 .
(7) آل عمران : 175 .

وفي " صحيح مسلم " (1) عن العباس بن عبد المطَّلب ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( ذاقَ طعم الإيمان مَنْ رضيَ بالله ربَّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبمحمدٍ رسولاً ) .
والرِّضا بربوبيَّة اللهِ يتضمَّنُ الرِّضا بعبادته وحدَه لا شريكَ له ، وبالرِّضا بتدبيره للعبد واختياره له .
والرِّضا بالإسلام ديناً يقتضي اختياره على سائر الأديان .
والرِّضا بمحمدٍ رسولاً يقتضي الرِّضا بجميع ما جاء به من عند الله ، وقبولِ ذلك بالتَّسليم والانشراحِ ، كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (2) .
وفي " الصحيحين " (3)
__________
(1) صحيح مسلم 1/46 ( 34 ) ( 56 ) .
وأخرجه : أحمد 1/208 ، والترمذي (2623) ، وأبو يعلى ( 6692 ) ، وابن حبان
( 1694 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 114 ) و(115 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/156، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 198 ) و( 199 ) ، والبغوي ( 24 ) عن العباس بن
عبد المطلب به .
(2) النساء : 65 .
(3) صحيح البخاري 1/10 ( 16 ) و1/12 ( 21 ) و8/17 ( 6041 ) و9/25 ( 6941 ) ، وصحيح مسلم 1/48 ( 43 ) ( 67 ) .

وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20320 ) ، وابن المبارك في " الزهد " ( 827 ) ، وأحمد 3/103 و174 و230 و248 و288 ، وابن ماجه ( 4033 ) ، والنسائي 8/96 ، وابن حبان ( 237 ) و( 238 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1171 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 281 ) و( 282 ) و( 283 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/27 و2/288 ، والبيهقي في
" شُعب الإيمان " ( 405 ) و ( 1376 ) والبغوي في " شرح السنة " ( 21 ) من حديث أنس بن مالك به .

عن أنسٍ(1) ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان : مَنْ كَانَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سِواهما ، وأنْ يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للهِ ، وأنْ يكره أنْ يرجعَ (2) إلى الكُفرِ بعدَ إذْ أنقذهُ الله منه كما يكرهُ أنْ يُلقى(3) في النار ) . وفي رواية : ( وجد بهنّ طعمَ الإيمانِ(4) ) ، وفي بعض الرِّوايات : ( طعمَ الإيمانِ وحلاوتَه(5) ) .
وفي " الصحيحين "(6) عن أنسٍ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يؤمن أحدُكم
حتّى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ ، ووالدهِ ، والنَّاس أجمعينَ ) ، وفي رواية : ( مِنْ
أهلهِ ، ومالهِ ، والنَّاس أجمعينَ(7) ) .
__________
(1) عبارة : ( عن أنس ) لم ترد في ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( يعود في ) .
(3) في ( ص ) : ( يقذف ) .
(4) أخرجه : أحمد 3/172 و275 ، ومسلم 1/48 ( 43 ) ( 68) ، وابن ماجه ( 4033 ) ، والترمذي ( 2624 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 724 ) وفي " الصغير " ، له ( 715 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 9512 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) أخرجه : النسائي 8/94-95 من حديث أنس بن مالك ، به .
وورد أيضاً بلفظ : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حَلاوة الإسلام ) أخرجه : النسائي 8/97 .
(6) صحيح البخاري 1/10 ( 15 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 44 ) ( 70 ) . =
= ... وأخرجه : أحمد 3/177 و207 و275 و278 ، وابن ماجه ( 67 ) ، والنسائي 8/114-115 وفي " الكبرى " ، له ( 11744 ) ، وأبو عوانة 1/41 ، وابن حبان ( 179 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 284 ) و( 285 ) و( 286 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان "
( 1374 ) ، والبغوي ( 22 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(7) أخرجه : مسلم 1/49 ( 44 ) ( 69 ) ، والنسائي 8/115 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 1375 ) من حديث أنس بن مالك ، به .

وفي " مسند الإمام أحمد "(1) عن أبي رزين العُقيليّ قال : قلتُ : يا رسول الله، ما الإيمانُ ؟ قال : ( أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ، وأنْ يكونَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليكَ ممّا سواهُما ، وأنْ تحترِقَ في النار أحبُّ إليكَ مِنْ أنْ تُشركَ باللهِ شيئاً (2)، وأنْ تحبَّ غيرَ ذي نسبٍ لا تُحبُّهُ إلا لله ، فإذا كُنتَ كذلك ، فقد دخَلَ حبُّ الإيمانِ في قلبكَ كما دخلَ حبُّ الماءِ للظمآنِ(3)
في اليومِ القائظِ ) . قلت : يا رسول الله ، كيف لي بأنْ أعلمَ
أنِّي مؤمنٌ ؟ قال : ما مِنْ أمَّتي – أو هذه الأُمَّة – عبدٌ يعملُ حسنةً ، فيعلم أنَّها
حسنةٌ ، وأنَّ الله - عز وجل - جازيه بها خيراً (4)، ولا يعملُ سيِّئةً ، فيعلم أنَّها
سيِّئةٌ ، ويستغفرُ الله منها ، ويعلمُ أنَّه لا يغفر الذنوب إلا الله (5)، إلا وهو
مؤمنٌ ) .
وفي " المسند " (6)
__________
(1) المسند 4/11-12 .
(2) شيئاً ) لم ترد في ( ج ) .
(3) في ( ص ) : ( في جوف الظمآن ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في ( ج ) : ( لا يغفر إلاّ هو ) .
(6) في ( ص ) : ( الصحيح ) ، وهو خطأ إذ الحديث غير موجود في أحد الصحيحين . وهو في مسند الإمام أحمد 1/18 و26 .
وأخرجه : الحميدي ( 32 ) ، والترمذي ( 2165 ) وفي " العلل " ، له ( 353 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9224 ) و( 9225 ) و( 9226 ) ، وابن حبان ( 4576 ) و( 5586 ) و( 6728 ) و( 7254 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 1086 ) و( 1087 ) ،
والحاكم 1/114 ، والبيهقي 7/91 من حديث عمر بن الخطاب ، به ، وهو جزء من حديث طويل ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) على أن أبا حاتم وأبا زرعة والبخاري والدارقطني قد خطئوا الرواية الموصولة ، ورجحنا أن الحديث منقطع .

انظر : التاريخ الكبير للبخاري 1/102 ، وعلل ابن أبي حاتم ( 1933 ) و(2629 ) ، وعلل الدارقطني 2/65 س ( 111 ) .

وغيره عن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1)، قال : ( مَنْ سرَّته حسنتُه ، وساءتْهُ سيِّئَتُه فهو مؤمنٌ ) .
وفي " مُسندِ بقي بنِ مخلدٍ "(2) عنْ رجلٍ سمعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صريحُ الإيمان إذا أسأتَ ، أو ظَلَمْتَ أحداً : عبدَكَ ، أو أَمَتَكَ ، أو أحداً مِنَ النّاسِ ، صُمتَ أو تَصَدَّقتَ ، وإذا أحسنتَ استبشرتَ ) .
وفي " مُسند الإمام أحمد " (3) عن أبي سعيدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( المؤمنونَ في الدُّنيا على ثلاثةِ أجزاء : الذين آمنوا باللهِ ورسولهِ ، ثم لم يَرتابُوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله (4)، والذي يأمنُهُ الناسُ على أموالهم وأنفسهم ، ثمّ الذي إذا أشرف على طمعٍ تركه لله - عز وجل - ) .
وفيه أيضاً (5) عن عمرو بن عبَسَة ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قالَ : ( طيبُ الكلامِ ، وإطعامُ الطعام ) . قلت : ما الإيمانُ ؟ قال : ( الصبرُ والسَّماحةُ ) . قلت : أيُّ الإسلامِ أفضلُ ؟ قال : ( مَنْ سلمَ المُسلمونَ مِنْ لسانهِ ويدهِ ) . قلت : أيُّ الإيمانِ أفضلُ ؟ قال : ( خُلُقٌ حسنٌ ) .
__________
(1) عبارة : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ص ) .
(2) إنّ هذا المسند على منزلته الكبرى بين كتب العلم قد فقد مع ما فُقد من تراثنا
الإسلامي العظيم الذي تركه لنا علماؤنا رحمهم الله . وهذا الحديث لم أجده في كتب الحديث التي بين أيدينا اليوم .
(3) المسند 3/8 .
(4) زاد في ( ص ) : ( أولئك هم الصادقون ) ، والمثبت موافق لما في مسند الإمام أحمد .
(5) مسند الإمام أحمد 4/385 وإسناده ضعيف لضعف محمد بن ذكوان ولضعف شهر بن حوشب ، ثم إن الحديث منقطع فإن شهر بن حوشب لم يسمع من عمرو بن عبسة .

وقد فسر الحسن البصريُّ الصبر والسماحةَ (1) ، فقال : هو الصَّبرُ عن محارمِ اللهِ - عز وجل -، والسَّماحةُ بأداءِ فرائضِ الله - عز وجل - (2) .
وفي " الترمذي "(3) وغيره (4)عن عائشةَ – رضي الله عنها - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خُلُقاً ) ، وخرَّجه أبو داود(5) وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وخرّج البزار في " مسنده "(6) من حديث عبد اللهِ بنِ معاويةَ الغاضِري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثٌ مَنْ فعلهُنّ ، فقد طَعِمَ طعْمَ الإيمانِ : مَنْ عَبَدَ اللهَ وحدَهُ بأنّه لا إله إلا الله ، وأعطى زكاةَ ماله طيِّبَةً بها نفسُه في كلِّ عام ) وذكر الحديثَ ، وفي آخره : فقال رجلٌ : وما تزكيةُ المرءِ نفسَه يا رسولَ الله ؟ قال : أنْ يعلمَ أنَّ الله معه حيث كان ) . وخرَّج أبو داود(7)
__________
(1) في ( ص ) : ( السماحة والصبر بالصبر ... ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/156 .
(3) في " جامعه " ( 2612 ) .
وأخرجه : أحمد 6/47 و99 ، والنسائي في " الكبرى " ( 9154 ) ، والحاكم 1/53 من حديث عائشة ، به ، وإسناده منقطع ، وقال الترمذي : ( حسن ) ولعله لشواهده .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " سننه " ( 4682 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة 8/515 و11/27، وأحمد 2/250 و472 ، والترمذي ( 1162 ) ، وأبو يعلى ( 5926 ) ، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" ( 4431 ) ، وابن حبان
( 479 ) و( 4176 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1291 ) ، والحاكم 1/3 ، =
= ... وأبو نعيم في " الحلية " 9/248 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 27 ) و( 7981 ) ، والبغوي ( 2341 ) و( 3495 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) في " سننه "( 1582 ) .
وأخرجه: ابن سعد في "الطبقات" 7/294، والبخاري في "التاريخ الكبير" 4/345 ، والطبراني في "الصغير" ( 546 ) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري ، به ، وهو حديث صحيح .

أوَّل الحديث دون آخره .
وخرّج الطَّبرانيُّ(1) من حديث عُبَادة بنِ الصَّامِتِ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( إنَّ (2) أفضلَ الإيمانِ أنْ تعلمَ أنَّ الله معكَ حيثُ كنتَ ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن عبد الله بنِ عمر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الحياءُ مِنَ الإيمانِ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ(4) ، وابن ماجه(5)
__________
(1) في " الأوسط " ( 8796 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/124 من حديث عبادة بن الصامت ، به ، وإسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد ، وعثمان بن كثير قال عنه الهيثمي في المجمع 1/63 : ( لم أر من ذكره بثقة ولا جرح ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 1/12 ( 24 ) و8/35 ( 6118 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 36 )
( 59 ) . =
= ... وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20146 )، ومالك في "الموطأ" ( 2635 ) برواية يحيى الليثي ، والحميدي ( 625 )، وابن أبي شيبة في "الإيمان" ( 68 )، وأحمد 2/9 و56 و147، وعبد بن حميد ( 725 ) ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 602 ) ، وأبو داود ( 4795 ) ، وابن ماجه ( 58 ) ، والترمذي ( 2615 ) ، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" ( 73 ) ، والنسائي 8/121 ، وأبو يعلى ( 5424 ) و( 5487 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل" ( 1526 ) و( 1527 ) و( 1528 ) و( 1529 ) ، وابن حبان ( 610 ) ، والطبراني في " الأوسط "
( 4932 ) وفي " الصغير " ، له ( 731 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 174 ) و( 175 )
و( 176 ) ، والقضاعي في "مسند الشهاب" ( 155 ) ، والبيهقي في " الآداب " ( 175 ) ، والبغوي في " شرح السنة " ( 3594 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(4) في " مسنده " 4/126 .
(5) في " سننه " ( 43 ) .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 33 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 619 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 2017 ) ، والحاكم 1/96 من حديث العرباض بن سارية ، به ، وهو جزء من حديث طويل .

مِنْ حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما المُؤمِن كالجملِ الأَنِفِ ، حيثما قِيدَ انقادَ ) .
وقال الله - عز وجل - : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عَنِ النُّعمانِ بن بشيرٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم(3) وتعاطفهم وتراحمهم مَثَل الجسدِ ، إذا اشتكى منهُ عضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهر ) . وفي روايةٍ لمسلم(4)
: ( المؤمنونَ كرجُلٍ واحدٍ ) . وفي روايةٍ له(5) أيضاً(6) : ( المسلمونَ كرجلٍ واحد(7) إذا اشتكى عينُه ، اشتكى كلُّهُ ، وإنْ اشتَكى رأسُه ، اشتكى كلُّه ) .
وفي " الصحيحين " (8)
__________
(1) الحجرات : 10 .
(2) صحيح البخاري 8/11 ( 6011 ) ، وصحيح مسلم 8/20 ( 2586 ) ( 66 ) .
وأخرجه : أحمد 4/270 ، وابن حبان ( 233 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 322 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1366 ) و( 1367 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ، والبغوي ( 3459 ) من حديث النعمان بن بشير ، به ، وهو حديث قويٌّ .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) في " صحيحه " 8/20 ( 2586 ) ( 67 ) .
... وأخرجه : أحمد 4/271 و276 ، وابن منده في " الإيمان " ( 318 ) و( 319 ) و( 320 ) و( 321 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/126 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 7607 ) وفي " الآداب " ، له ( 102 ) ، والبغوي ( 3460 ) من حديث النعمان بن بشير ، به .
(5) في " صحيحه " 8/20 ( 2586 ) ( 67 ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) صحيح البخاري 1/129 ( 481 ) و8/14 ( 6026 )، وصحيح مسلم 8/20 ( 2585 ) ( 65 ) .

وأخرجه : الحميدي ( 772 ) ، وأحمد 4/404 ، والنسائي 5/79 ، وأبو عوانة كما في
" إتحاف المهرة " 10/100 ، وابن حبان ( 232 ) ، والبغوي ( 3461 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .

عن أبي موسى ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضاً ) ، وشبَّك بين أَصابعِه .
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن سهلِ بن سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( المؤمن من أهلِ الإيمانِ بمنْزلةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ ، يأْلَمُ المؤمنُ لأهلِ الإيمانِ كما يأْلَمُ الجَسَد لِما في الرَّأْسِ ) .
وفي " سنن أبي داود " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمنُ مرآةُ المؤمنِ ، المؤمنُ أخو المؤمن ، يكُفُّ عنه ضَيعَته ، ويحوطُه من ورائه ) .
وفي " الصحيحين "(3)
__________
(1) المسند 5/340 .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 693 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 5743 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 136 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي ، به . وهو حديث قويٌّ .
(2) برقم ( 4918 ) .
... وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 239 )، والقضاعي في "مسند الشهاب" ( 125 ) من حديث أبي هريرة ، به . قال العراقي في " تخريج الإحياء " 3/1130 ( 1652 ) : ( رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد حسن ) .
(3) صحيح البخاري 1/10 ( 13 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 ) و( 72 ) .

وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 677 ) ، والطيالسي ( 2004 ) ، وأحمد 3/176 ، و206 و251 و272 و278 و289 ، وعبد بن حميد ( 1175 ) ، والدارمي ( 2743 ) ، وابن ماجه ( 66 ) ، والترمذي ( 2515 ) ، والنسائي 8/115 و125 وفي " الكبرى " ، له ( 11747 ) و( 11770 ) ، وأبو عوانة 1/41 ، وابن حبان ( 234 ) ، والطبراني في
" الأوسط " ( 8292 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2592 ) ، وابن منده في " الإيمان "
( 296 ) و( 297 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 889 ) ، والبغوي ( 3474 ) من حديث أنس بن مالك ، به .

عن أنسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) .
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي شريحٍ الكعبيِّ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( والله لا يؤمنُ(2)، والله لا يُؤمنُ ، والله لا يُؤمِنُ ) قالوا : مَنْ ذاك يا رسولَ اللهِ ؟! قال : ( مَنْ لا يأمَنُ جارُهُ بوائِقَهُ ) .
وخرّج الحاكم (3) من حديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ليسَ بمؤمنٍ مَنْ(4) يَشبَعُ وجارُه جائعٌ ) .
وخرَّج الإمام أحمد(5) والترمذيُّ(6)
__________
(1) الصحيح 8/12 ( 6016 ) .
وأخرجه : أحمد 4/31 و6/385 ، والطبراني في " الكبير " 22/487 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3495 ) وفي " الآداب " ، له ( 77 ) من حديث أبي شُريح الكعبي ، به .
(2) زاد في ( ص ) : ( أحدكم ) ، والمثبت موافق لما في الصحيح .
(3) في " المستدرك " 4/167 .
(4) في ( ج ) : ( المؤمن الذي ) .
(5) في " مسنده " 3/438 و440 .
(6) سقطت من ( ص ) ، والحديث في " جامعه " برقم ( 2521 ) .

وأخرجه : أبو يعلى ( 1485 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 412 ) ، والحاكم 2/164 ، والبيهقي في "شُعب الإيمان" ( 15 ) من حديث معاذ الجهني ، به . والحديث له شواهد تقويه .

من حديثِ سهلِ بنِ مُعاذٍ الجُهنيِّ ، عن
أبيه(1) ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ أعطى للهِ ، ومنع للهِ ، وأحبَّ لله ، وأبغضَ
لله ) زاد الإمام أحمد : ( وأنكحَ للهِ ، فقد استكمل إيمانَه ) . وفي روايةٍ للإمام أحمد(2) : أنَّه سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أفضلِ الإيمانِ ، فقال: ( أنْ تُحبَّ لله ، وتُبغضَ لله ، وتُعمِلَ لِسانَكَ في ذكر الله ) ، فقال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : ( أن تُحبَّ للنَّاس ما تحبُّ لنفسكَ ، وتكره لهمْ (3) ما تكرهُ لنفسك ) ، وفي رواية له : ( وأنْ تقولَ خيراً أو تصمت ) .
وفي هذا الحديث أنَّ كثرةَ ذكرِ اللهِ من (4) أفضلِ الإيمانِ .
وخرَّج أيضاً(5) من حديث عمرو بن الجَموحِ - رضي الله عنه - : أنّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : ( لا يستحقُّ العبدُ(6) صريحَ الإيمانِ حتّى يحبَّ لله ، ويُبغضَ لله، فإذا أحبَّ للهِ،
وأبغضَ لله ، فقد استحقَّ الولايةَ مِنَ الله تعالى ) .
وخرَّج أيضاً(7) من حديث البراءِ بن عازبٍ - رضي الله عنه -، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ(8) أوثقَ عُرى الإيمانِ أنْ تُحبَّ في اللهِ ، وتبغضَ في اللهِ ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في " مسنده " 5/247 .
(3) في ( ص ) : ( وتكره للناس ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " مسنده " 3/430 .
(6) في ( ص ) : ( لا يحق لعبد ) .
(7) في " مسنده " 4/286 ، وإسناده ضعيف ، وقواه بعضهم بما له من شواهد .
(8) سقطت من ( ص ) .

وقال ابن عبَّاس : أحِب في الله، وأبغِض في اللهِ ، ووالِ في اللهِ ، وعادِ في اللهِ ، فإنّما تُنالُ ولايةُ اللهِ بذلك ، ولن يَجِدَ (1) عبدٌ طعمَ الإيمانِ - وإن كثُرَتْ صلاتُه وصومُه - حتّى يكونَ كذلك ، وقد صارَت عامَّةُ مُؤاخاة الناسِ على أمرِ الدُّنيا ، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً . خرَّجه محمد (2) بنُ جريرٍ الطَّبريُّ(3) ، ومحمّدُ بنُ نصرٍ المروزي(4) .

فصل
وأمَّا الإحسّانُ ، فقد جاءَ ذكرُه(5) في القُرآنِ في مواضعَ : تارةً مقروناً
بالإيمانِ ، وتارةً مقروناً بالإسلامِ ، وتارةً مقروناً بالتَّقوى ، أو بالعمل (6).
فالمقرونُ بالإيمانِ : كقولِه تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (7) ، وكقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } (8) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يذق ) .
(2) لم ترد في ( ج ) .
(3) في " تفسيره " ( 23951 ) .
(4) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 396 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11537 ) ، والبغوي ( 3468 ) من حديث عبد الله بن عباس ، مرفوعاً .
وأخرجه : أحمد 5/146 ، وأبو داود ( 4599 ) من حديث أبي ذر ، مرفوعاً .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( مقروناً ) .
(6) في ( ص ) : ( وتارة بالإسلام وتارة بالتقوى ) .
(7) المائدة : 93 .
(8) الكهف : 30 .

والمقرونُ بالإسلام : كقوله تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } (1) ، وكقوله تعالى : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (2) .
والمقرون بالتقوى : كقوله تعالى : { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (3) ، وقد يذكر مفرداً كقوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ } (4) ، وقد ثبت في " صحيح مسلم " (5) عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تفسيرُ الزِّيادةِ بالنّظرِ إلى وجهِ الله - عز وجل - في الجنة ، وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً (6) لأهلِ الإحسّانِ ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمنُ ربّه في الدُّنيا(7) على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ ، كأنّه يراهُ بقلبِهِ وينظرُ إليه في حال عبادتِهِ(8) ، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى(9) الله عياناً في الآخرة(10) .
وعكس هذا ما أخبرَ الله تعالى به عَنْ جَزاءِ الكُفَّار في الآخرةِ : { إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } (11) ، وجعلَ ذلك جزاءً لحالهم في الدُّنيا ، وهو تراكُم الرَّانِ على قُلوبِهم ، حتّى حُجِبَتْ عن معرفتِهِ ومُراقبته في الدُّنيا ، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبوا عن رُؤيته في الآخرة(12) .
__________
(1) البقرة : 112 ، والآية لم ترد في ( ص ) .
(2) لقمان : 22 .
(3) النحل : 128 .
(4) يونس : 26 .
(5) الصحيح 1/112 ( 181 ) ( 297 ) و( 298 ) .
(6) في ( ص ) : ( جعله الله - عز وجل - ) .
(7) في الدنيا ) سقطت من ( ص ) .
(8) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/146 .
(9) زاد بعدها في ( ص ) : ( وجه ) .
(10) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/15 .
(11) المطففين : 15 .
(12) انظر : تفسير البغوي 5/225 ، وزاد المسير 9/57 .

فقوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الإحسّان : ( أنْ تعبدَ الله كأنّكَ تراهُ … ) إلخ يشير إلى أنَّ العبدَ يعبُدُ الله تعالى على هذه الصِّفة ، وهو استحضارُ قُربِهِ ، وأنَّه بينَ يديه كأنَّه يراهُ ، وذلك يُوجبُ الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتَّعظيمَ(1) ، كما جاء في رواية أبي هريرة : ( أنْ تخشى الله كأنَّكَ تراهُ ) .
ويُوجِبُ أيضاً النُّصحَ في العبادة ، وبذل الجُهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها .
وقد وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابِهِ بهذه الوصيَّةِ ، كما روى إبراهيمُ الهجريُّ ، عن أبي الأحوصِ ، عن أبي ذرٍّ ، قال : أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أنْ أخشى الله كأنِّي أراهُ ، فإنْ لم أكن أراه ، فإنَّهُ يراني .
ورُوي عن ابنِ عمرَ ، قال : أخذَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي ، فقال :
( اعبُدِ الله كأنَّكَ تراهُ ) ، خرَّجه النَّسائيُّ(2) ، ويُروى من حديث زيد بن أرقم مرفوعاً وموقوفاً : ( كُنْ كأنَّكَ ترى الله ، فإنْ لم تكن تراه ، فإنَّهُ يراكَ )(3) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/146 .
(2) في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 5/278 .
وأخرجه : أحمد 2/132 ، والآجري في " الغرباء " ( 21 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/115 من حديث عبد الله بن عمر ، به . وهو حديث صحيح .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/202 موقوفاً ومرفوعاً ، والمرفوع ضعيف لضعف محمد بن حنيفة أبي حنيفة الواسطي . انظر : لسان الميزان 7/109 .
(4) في " الأوسط " ( 4427 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .

وهنا قد وهم الحافظ ابن رجب رحمه الله فنسب الحديث إلى أنس ، وبعد تتبع طرق الحديث وجدناه من طريق عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وفي إسناد الحديث ضعف لجهالة بعض رواته ، قال الهيثمي في " المجمع " 10/232 : ( وفيه من لم أعرفهم ) .

من حديث أنس : أنّ رجلاً قال : يا رسول الله ، حدثني بحديثٍ(1)، واجعله موجزاً ، فقال : ( صلِّ صلاةَ مودِّعٍ ؛ فإنَّكَ إنْ كنتَ لا تراهُ ، فإنَّه يراكَ ) .
وفي حديث حارثة المشهور - وقد رُويَ من وجوهٍ مرسلةٍ(2)، ورُوي متصلاً ، والمرسل أصحُّ - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) قال : أصبحتُ مؤمناً حقاً ، قال : ( انظر ما تقولُ ، فإنَّ لكلِّ قولٍ حقيقةً ) ، قال :
يا رسول الله ، عزفَتْ نفسي عن الدُّنيا ، فأسهرتُ ليلي ، وأظمأتُ نهاري ، وكأنِّي أنظرُ إلى عرشِ ربِّي بارزاً (3) ، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجَنَّةِ كيف يتزاورونَ(4) فيها ، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ النَّارِ كيفَ (5) يتعاوَوْنَ فيها . قال : ( أبصرتَ فالزمْ ، عبدٌ نوَّرَ الله الإيمانَ في قلبه )(6) .
ويُروى من حديث أبي أمامة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى رجلاً ، فقال له : ( استحي مِنَ اللهِ استحياءك مِنْ رجلين من صالحي عشيرتِك لا يفارقانك ) (7). ويُروى من وجهٍ آخرَ مرسلاً(8) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 314 ) مرسلاً .
(3) في ( ص ) : ( وكأني بعرش الرحمان بارزاً ) .
(4) في ( ص ) : ( وكأني بأهل الجنة يتزاورون ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 3367 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10591 ) ، من حديث الحارث بن مالك ، به مرفوعاً ، وهو ضعيف .
وأخرجه : البزار ( 32 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10590 ) من حديث أنس بن مالك ، به مرفوعاً . وهو ضعيف .
(7) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7897 ) من حديث أبي أمامة به ، وهو جزء من حديث طويل ، وإسناده ضعيف ؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان .
(8) أخرجه : أحمد في " الزهد " (248 ) من طريق سعيد بن يزيد ، مُرسلاً .

ويُروى عن معاذٍ أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّاه لمَّا بعثه إلى اليمن ، فقال : ( استحي مِنَ اللهِ كما تستحي رجلاً ذا هيبةٍ من أهلك )(1) .
وسئلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن كشف العورة خالياً ، فقال : ( الله أحقُّ أن يُستحيا
منه )(2).
ووصَّى أبو الدَّرداء رجلاً ، فقال له : اعبُدِ الله كأنَّكَ تَراه(3) .
وخطب عروة بنُ الزُّبير إلى ابنِ عمرَ ابنته وهما في الطَّواف ، فلم يُجبه ، ثم لقيَهُ بعد ذلك ، فاعتذر إليه ، وقال : كنَّا في الطَّوافِ نتخايلُ الله بين أعيننا . أخرجه أبو نعيم(4) وغيره .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك ) .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 2642 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 825 ) من حديث معاذ ابن جبل ، به ، وإسناده ضعيف ؛ لضعف ابن لهيعة ، ولعنعنة أبي الزبير . =
= ... وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2626 ) برواية يحيى الليثي بلفظ : أنَّ معاذ بن جبل قال آخر ما أوصاني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وضعت رجلي في الغرز أنْ قال : ( أحسن خلقك للناس مُعاذ بن جَبل ) ، وهو منقطع .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 1106 ) ، وأحمد 5/3 و4 ، وأبو داود ( 4017 ) ، وابن ماجه
( 1920 ) ، والترمذي ( 2769 ) و( 2794 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8972 ) ، والحاكم 4/179-180 ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/121-122 ، والبيهقي 1/199 و2/225 و7/94 وفي " شُعب الإيمان " ، له ( 7753 ) وفي " الآداب " ، له ( 716 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/261-262 من حديث معاوية بن حيدة ، به ، وهو جزء من حديث طويل ، وهو حديث حسن .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/211-212 .
(4) في " الحلية " 1/309 .

قيل (1): إنّه تعليلٌ للأوَّل ، فإنَّ العبدَ إذا أُمر بمراقبة الله في العبادة ، واستحضارِ قُربِهِ مِنْ عبده ، حتى(2) كأنَّ العبدَ يراه ، فإنَّه قد يشقُّ ذلك عليه ، فيستعين على ذلك بإيمانه بأنّ الله يراه ، ويطَّلعُ على سرِّه وعلانيته وباطنه وظاهره ، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمره ، فإذا حقَّق هذا المقامَ ، سهُل عليه الانتقالُ إلى المقام الثاني ، وهو دوامُ التَّحديق بالبصيرة إلى قُربِ الله من عبدِه ومعيَّته (3) ، حَتّى كأنَّه يراه .
وقيل : بل هو إشارةٌ (4) إلى أنّ مَنْ شقَّ عليه أنْ يعبُد الله كأنَّه يراه(5) ، فليعْبُدِ الله على أنَّ الله يراه ويطّلع عليه ، فليستحي مِنْ نظره إليه ، كما قال بعضُ العارفين: اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ النَّاظرين إليك .
وقال بعضُهم : خَفِ الله على قدر قُدرته عليك ، واستحي من الله على قدر قُربه منك .
قالت بعضُ العارفات من السَّلف : مَنْ عملَ للهِ على المُشاهدة ، فهو عارفٌ ، ومن عمل على مشاهدة الله إيَّاهُ ، فهو مخلص . فأشارت إلى المقامين اللَّذين تقدَّم ذكرُهما :
أحدهما : مقام الإخلاص ، وهو أنْ يعملَ العبدُ على استحضارِ(6) مُشاهدةِ الله إياه ، واطِّلاعه عليه ، وقُربه منه ، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عمله ، وعَمِلَ عليه ، فهو مخلصٌ لله ؛ لأنَّ استحضارَهُ ذلك في عمله يمنعُهُ من الالتفاتِ إلى غيرِ الله وإرادته بالعمل .
والثاني : مقام المشاهدة ، وهو أنْ يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته لله تعالى
بقلبه ، وهو أنْ يتنوَّرَ القلبُ بالإيمانِ ، وتنفُذ البصيرةُ في العِرفان ، حتّى يصيرَ الغيبُ كالعيانِ .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( يعني ) .
(3) في ( ص ) : ( وهيبته ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عبارة : ( أن يعبد الله كأنه يراه ) لم ترد في ( ص ) .
(6) زاد في ( ص ) : ( الله لأن الاستحضار ذلك ) .

وهذا هو حقيقةُ مقامِ الإحسّان المشار إليه في حديث جبريلَ - عليه السلام - ، ويتفاوت أهلُ هذا المقام فيه بحسب قوَّة نفوذ البصائرِ .
وقد فسَّر طائفةٌ من العُلماءِ المثل الأعلى المذكورَ في قوله - عز وجل - : { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض } (1) بهذا المعنى ، ومثلُهُ قولُه تعالى :
{ اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } (2) ، والمراد : مثل نورِه في قلبِ المؤمن ، كذا قال أبيُّ بنُ كعبٍ(3) وغيرُه مِنَ السَّلَف .
وقد سبق حديث : ( أفضلُ الإيمانِ أنْ تعلمَ أنَّ الله معك حيثُ كنت ) ، وحديث : ما تزكيةُ المرءِ نفسه ؟ ، قال : ( أنْ يعلمَ أنَّ الله معه حيثُ
كانَ ) .
وخرَّج الطبراني(4) من حديث أبي أُمامةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثةٌ في ظلِّ الله يومَ القيامةِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه : رجلٌ حيثُ توجه عَلِمَ أنَّ الله معه … ) ، وذكر الحديث .
__________
(1) الروم : 27 .
(2) النور : 35 .
(3) اخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 19757 ) ، وطبعة التركي 17/298 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 2593 ) و( 2594 ) ، وممن قال بهذا المعنى سعيد بن جبير والضحاك .
(4) في " الكبير " ( 7935 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، فيه بشير بن نمير متروك . انظر : مجمع الزوائد 10/279 .

وقد دلّ القرآنُ على هذا المعنى في مواضِعَ متعدِّدةٍ ، كقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1) ، وقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (2) ، وقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (3) ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيه } (4) ، وقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } (5) ، وقوله : { وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ } (6) .
__________
(1) البقرة : 186 .
(2) الحديد : 4 .
(3) المجادلة : 7 .
(4) يونس : 61 .
(5) ق : 16 .
(6) النساء : 108 .

وقد وردت الأحاديثُ الصَّحيحةُ بالنَّدب إلى استحضار هذا القُربِ في
حال العباداتِ ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ أحدَكم إذا قامَ يُصلِّي ، فإنَّما يُناجِي
ربَّه ، أو ربَّه بينه وبينَ القبلةِ ) (1) ، وقوله : ( إنّ الله قِبَلَ وجهه إذا
صلّى ) (2)، وقوله : ( إنّ الله ينصب وجهه لوجهِ عبدِه في صلاتِهِ ما لم
يلتفِت ) (3).
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1219 ) ، وأحمد 3/176 و273 و278 و291 ، والبخاري 1/112 ( 413 ) و1/140 ( 531 ) و2/82 ( 1214 ) ، ومسلم 2/76 ( 551 ) ( 54 ) ، وأبو عوانة 1/338 ، وابن حبان ( 2267 ) ، والبيهقي 1/255 و2/292 ، والبغوي ( 491 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 522 ) برواية يحيى الليثي ، وأحمد 2/66 ، والبخاري 1/112 ( 406 )، ومسلم 2/75 ( 547 ) ( 50 )، وأبو داود ( 479 ) والنسائي 2/51 ، وأبو عوانة 1/336 و337 ، والبيهقي 2/293 ، والبغوي ( 494 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " (20709 ) ، وأحمد 4/130 و202 و344 ، والترمذي
( 2863 ) و( 2864 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8866 ) و( 11349 ) ، وأبو يعلى
( 1571 ) ، وابن خزيمة ( 483 ) و( 930 ) و(1895 ) وفي التوحيد ، له : 15 ، وابن حبان ( 6233 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3427 ) و( 3428 ) و( 3430 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2870 ) ، والآجري في "الشريعة" : 8 ، وابن منده في "الإيمان" ( 212 ) ، والحاكم 1/117-118 و236 و421-422 من حديث الحارث الأشعري ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) .

وقوله للذين رفعوا أصواتهم بالذِّكرِ : ( إنَّكم لا تَدعُونَ أصمَّ(1) ولا غائباً ، إنَّكُم تدعُون سميعاً(2) قريباً )(3) ، وفي رواية (4) : ( وهو أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلتِهِ ) (5) ، وفي رواية : ( هو أقربُ إلى أحدكم من حبل الوريد ) .
وقوله : ( يقولُ الله - عز وجل - : أنا مع عبدي إذا ذكرني ، وتحرَّكت بي
شفتاه ) (6) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( ولا أبكم ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( بصيراً ) .
(3) أخرجه : البخاري 4/69 ( 2992 ) و5/169 ( 4202 ) و8/101 ( 6384 ) ، ومسلم 8/73 ( 2704 ) ( 44 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
(4) في ( ص ) : ( حديث ) .
(5) أخرجه : مسلم 8/74 ( 2704 ) ( 46 ) ، وأبو داود ( 1526 ) و( 1527 )
و( 1528 ) ، والترمذي ( 3374 ) و( 3461 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
(6) أخرجه : أحمد 2/540 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 57 ) ، وابن ماجه
( 3792 ) ، وابن حبان ( 815 ) ، والبيهقي ( 509 ) و( 510 ) ، والبغوي في ( 1242 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه : الحاكم 1/496 من حديث أبي الدرداء ، به .

وقوله : ( يقولُ الله - عز وجل - : أنا مع ظنِّ عبدي بي ، وأنا معه حيث ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرتُهُ في نفسي ، وإنْ ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خيرٍ منه ، وإنْ تقرّبَ منِّي شبراً ، تقرَّبتُ منه ذراعاً ، وإن تقرَّبَ منِّي ذراعاً ، تقرَّبتُ منه
باعاً ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولةً )(1) .
ومن فهم من شيءٍ من هذه النصوص تشبيهاً أو حُلولاً أو اتِّحاداً ، فإنّما أُتِيَ من جهله(2)، وسُوء فهمه عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والله ورسولُه بريئانِ من ذلك كلِّه ، فسبحانَ مَنْ ليسَ كمثله شيءٌ ، وهو السَّميعُ البصيرُ .
قال بكرٌ المزنيُّ : مَن مثلُك يا ابنَ آدم : خُلِّي بينَك وبينَ المحراب والماء ، كلّما شئتَ دخلتَ على اللهِ - عز وجل - (3)، ليس بينَكَ وبينَه ترجُمان(4) .
ومن وصل إلى استحضارِ هذا في حال ذكره الله وعبادته استأنسَ بالله ، واستوحش مِنْ خلقه ضرورةً .
قال ثور بن يزيد : قرأتُ في بعضِ الكُتب : أنَّ عيسى - عليه السلام - قال : يا معشر الحواريِّين ، كلِّموا الله كثيراً ، وكلِّموا الناسَ قليلاً ، قالوا : كيف نكلِّمُ الله كثيراً ؟ قال : اخلُوا بمناجاته ، اخلوا بدُعائه . خرَّجه أبو نعيم(5) .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 2387 ) ، وأحمد 2/251 و316 و354 و405 و413 و435 ، والبخاري 9/147 ( 7405 ) و9/192 ( 7537 ) وفي "خلق أفعال العباد" ، له ( 55 ) ، ومسلم 8/62-63 ( 2675 ) ( 2 ) و( 3 ) و8/66-67 ( 2675 ) ( 19 ) و( 20 ) و( 21 ) و8/91 ( 2675 ) ( 1 ) ، وابن ماجه ( 3822 ) ، والترمذي ( 3603 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7730 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) في ( ص ) : ( فإنه من جهله ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( فإنه ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/229 .
(5) في " الحلية " 6/195 .

وخرَّج أيضاً(1) بإسناده عن رياح ، قال : كان عندنا رجلٌ يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ ألفَ ركعة ، حتى أُقعِدَ من رجليه ، فكان يصلِّي جالساً ألف ركعة ، فإذا صلى العصر ، احتبى ، فاستقبل القبلةَ ، ويقول : عجبتُ للخليقةِ كيف أَنِسَتْ بسواك ، بل عجبتُ للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواكَ .
وقال أبو أسامة : دخلت على محمد بن النَّضر الحارثيِّ ، فرأيتُه كأنَّه منقبضٌ ، فقلت : كأنَّك تكره أنْ تُؤتى ؟ قال : أجل (2) ، فقلت : أوَما تستوحشُ ؟ فقال : كيف أستوحشُ وهو يقولُ : أنا جليسُ مَنْ ذكرني(3) .
وقيل لمالك بنِ مِغْول وهو جالسٌ في بيته وحده : ألا تستوحشُ ؟ فقال : ويستوحشُ مع الله أحدٌ ؟
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ، ويقولُ : من لم تَقَرَّ عينُه بكَ ، فلا قرَّت
عينُه ، ومن لم يأنس بكَ ، فلا أنِسَ (4) .
وقال غزوان : إنِّي أصبتُ راحةَ قلبي في مُجالسةِ مَنْ لديه حاجتي .
وقال مسلم بنُ يسار : ما تلذَّذ المتلذِّذونَ بمثلِ الخَلْوةِ بمناجاةِ اللهِ - عز وجل - (5) .
وقال مسلم العابد : لولا الجماعة ، ما خرجتُ من بابي أبداً حتّى أموت ، وقال : ما يجدُ المطيعونَ لله لذَّةً في الدُّنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيِّدهم(6) ، ولا أحسب لهم في الآخرة مِنْ عظيم الثَّواب أكبرَ في صدورهم وألذَّ في قلوبهم مِن النَّظر إليه ، ثم غُشي عليه .
__________
(1) أبو نعيم في " الحلية " 6/195 .
(2) في ( ص ) : ( نعم ) .
(3) أخرجه : البيهقي في " شُعب الإيمان " ( 709 ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( الله به ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/294 .
(6) في ( ص ) : ( الله - عز وجل - ) .

وعن إبراهيم بن أدهم ، قال : أعلى الدَّرجات أنْ تنقطعَ إلى ربِّك ، وتستأنِسَ إليه بقلبِك ، وعقلك (1)، وجميع جوارحك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك ، ولا تخاف إلاَّ ذنبكَ ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئاً ، فإذا كنت كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنت ، أو في بحرٍ ، أو في سَهْلٍ ، أو في جبلٍ ، وكان شوقُك إلى لقاء الحبيب شوقَ الظمآن إلى الماء البارد ، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعام الطيب ، ويكونُ ذكر الله عندكَ(2) أحلى مِنَ العسل ، وأحلى من المَاء (3) العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف .
وقال الفضيل : طُوبى لمن استوحش مِنَ النَّاسِ ، وكان الله جليسَه(4) .
وقال أبو سليمان : لا آنسني الله إلاَّ به أبداً .
وقال معروف لرجلٍ : توكَّل على الله حتّى يكونَ جليسَك وأنيسَك وموضعَ شكواكَ(5) .
وقال ذو النون : مِنْ علامات المحبِّين لله أنْ لا يأنَسُوا بسواه ، ولا يستوحشُوا معه ، ثم قال : إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللهِ تعالى ، أنِسَ بالله ؛ لأنَّ الله أجلُّ في صُدورِ العارفين أنْ يُحبُّوا سواه .
وكلامُ القوم في هذا الباب يطولُ ذكرُه جداً، وفيما ذكرنا كفايةٌ إنْ شاء الله تعالى .
__________
(1) في ( ص ) : ( وعينك ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/108 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/360 .

فمن تأمَّل ما أشرنا إليه ممَّا دلَّ عليه هذا الحديثُ العظيم ، علم أنَّ جميعَ العُلوم والمعارف ترجعُ إلى هذا الحديث وتدخل تحته ، وأنَّ جميع العلماء من فِرَقِ هذه الأمَّة لا تخرجُ علومهم التي يتكلَّمون فيها عن هذا الحديث، وما دلَّ عليه مجمَلاً ومفصَّلاً ، فإنَّ الفُقهاءَ إنَّما يتكلَّمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام ، ويضيفون إلى ذلك الكلامَ في أحكامِ الأموالِ والأبضاعِ والدِّماءِ ، وكلُّ ذلك من علمِ الإسلامِ كما سبق التنبيه عليه ، ويبقى كثيرٌ من علم الإسلامِ مِنَ الآدابِ والأخلاقِ وغير ذلك لا يَتَكلَّمُ عليه إلاَّ القليلُ منهم ، ولا يتكلَّمون على معنى الشهادتين ، وهما أصلُ الإسلام كلِّه .
والذين يتكلمون في أصول الدِّيانات ، يتكلَّمون على الشَّهادتين ، وعلى الإيمان باللهِ ، وملائكته ، وكتبه ، ورسُله ، واليومِ الآخرِ ، والإيمان بالقدر(1) .
والذين يتكلَّمون على علم المعارف والمعاملات يتكلَّمون على مقام الإحسان ، وعلى الأعمال الباطنة التي تدخلُ في الإيمان أيضاً(2) ، كالخشية ، والمحبَّة ، والتوكُّلِ ، والرِّضا ، والصَّبر ، ونحو ذلك ، فانحصرتِ العلومُ الشَّرعية التي يتكلَّمُ عليها فِرَقُ المسلمين في هذا الحديث ، ورجعت كلُّها إليه ، ففي هذا الحديث وحدَه كفايةٌ ، وللهِ الحمدُ والمنَّةُ (3).
وبقي الكلام على ذكر السَّاعةِ مِنَ الحَديث .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 244-245 .
(2) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 180 .
(3) في ( ص ) : ( الحمد ) فقط .

فقول جبريل عليه السَّلام أخبرني عن السَّاعة ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ما المسئول عنها بأعلمَ من السَّائل )(1) يعني : أنَّ علم الخلق كلِّهم في وقتِ السَّاعة سواءٌ ، وهذه إشارةٌ إلى أنَّ الله تعالى استأثر بعلمها(2) ، ولهذا في حديث أبي هريرة(3) : قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خمسٍ لا يعلمهُنَّ إلاَّ الله تعالى (4)، ثم تلا : { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (5) ، وقال الله - عز وجل - : { يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } (6) .
وفي " صحيح البخاري " (7) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يعلمها إلاَّ الله ) ثم قرأ هذه الآية : { إنَّ الله عِندَهُ عِلمُ السَّاعةِ } الآية .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) انظر : مختصر معارج بشرح سلم الوصول إلى علم الوصول في علم التوحيد : 197 .
(3) أخرجه : البخاري 1/19 ( 50 ) ، ومسلم 1/30-31 ( 9 ) ( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) من حديث أبي هريرة ، به . وهو جزء من حديث طويل .
(4) من قوله : ( استأثر بعلمها ولهذا ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) لقمان : 34 .
(6) الأعراف : 187 .
(7) الصحيح2/41 ( 1039 ) و6/71 ( 4627 ) و6/99 ( 4697 ) و6/144 ( 4778 ) و9/142 ( 7379 ) .

وخرَّجه الإمام أحمد(1) ، ولفظه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أوتيتُ مفاتيحَ كلِّ شيءٍ إلاَّ الخمسِ : { إنَّ الله عِنده عِلمُ السَّاعةِ } الآية .
وخرَّج أيضاً(2) بإسناده عن ابن مسعود ، قال : أوتي نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - مفاتيح كلِّ شيءٍ غير خمسٍ : { إنَّ الله عِندهُ عِلمُ السَّاعةِ } الآية .
قوله : فأخبرني عن أماراتها . يعني : عن علاماتها(3) التي تدلُّ على اقترابها ، وفي حديث أبي هريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سأحدِّثُك عن أشراطها ) (4) ، وهي علاماتها(5) أيضاً .
وقد ذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للسَّاعة علامتين :
الأولى : ( أنْ تلد الأمة ربَّتها(6) ) ، والمراد بربَّتها سيِّدتُها ومالكتها ،
وفي حديث أبي هريرة ( ربها ) ، وهذه إشارةٌ إلى فتح البلاد ، وكثرة جلبِ
الرَّقيق حتى تكثر السَّراري ، ويكثر أولادهن ، فتكون الأُم رقيقةً لسيِّدها ،
وأولاده منه بمنْزلته ، فإنَّ ولدَ السيد بمنْزلة السيد ، فيصير ولد الأمة بمنْزلة ربها وسيدها(7) .
__________
(1) في " مسنده " 2/85 .
(2) " في مسنده " 2/85-86 .
وأخرجه البخاري 6/144 ( 4778 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13344 ) و( 13346 ) من حديث ابن عمر مرفوعاً .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/147 .
(4) تقدم تخريجه .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( التي تدل على اقترابها ) .
(6) زاد بعدها في ( ص ) : ( فكأن ولدها هو الذي أعتقها ) .
(7) انظر : شرح السنة للبغوي 1/11 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 1/147 ، وقد تقدم التعليق على ذلك أول الحديث .

وذكر الخطابي(1) أنَّه استدلَّ بذلك من يقول : إنَّ أمَّ الولدِ إنَّما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده ، وإنَّها تنتقل إلى أولادها بالميراث ، فتعتق عليهم ، وإنَّها قبل موت سيدها تُباع ، قال : وفي هذا الاستدلال نظر .
قلت : قد استدل به بعضُهم على عكس ذلك ، وعلى أنَّ أمَّ الولد لا تُباع ، وأنَّها تعتق بموتِ سيِّدها بكل حال ؛ لأنَّه جعل ولد الأمَة ربها ، فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوباً إليه ؛ لأنَّه سببُ عتقها(2) ، فصار كأنَّه
مولاها(3) . وهذا كما روي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في أمِّ ولده ماريَّةَ لمَّا ولدت إبراهيمَ - عليه السلام - : ( أعتقها ولدُها )(4) .
وقد استدلّ بهذا الإمام أحمد ، فإنَّه قال في رواية محمد بن الحكم عنه : تلد الأمةُ ربتها : تكثُر أمَّهاتُ الأولاد ، يقول : إذا ولدت ، فقد عتقت لولدها ، وقال : فيه حجة أنَّ أمهات الأولاد لا يُبَعْنَ(5) .
وقد فسر قوله : ( تلدُ الأمةُ ربَّتها ) بأنَّه يكثرُ جلبُ الرَّقيق ، حتّى تجلب البنت ، فتعتق ، ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنَّها أمها ، وقد وقع هذا في الإسلام(6) .
__________
(1) في " معالم السنن " 4/68 .
(2) من قوله : ( ربها فكأن ولدها ... ) ، إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/147 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي5/397-398 .
(4) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 1/108، وابن ماجه ( 2516 ) ، والدارقطني 4/131 ، والحاكم 2/19 ، والبيهقي 10/346 من حديث عبد الله بن عباس ، به . وإسناده ضعيف لضعف الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس .
(5) انظر : المغني 12/492 .
(6) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/147 .

وقيل : معناه أنَّ الإماء يَلِدنَ الملوكَ ، وقال وكيع(1): معناه تلدُ العجمُ العربَ، والعرب ملوك العجم وأربابٌ لهم(2) .
والعلامة الثانية : ( أنْ ترى الحُفاة العُراة العالة )(3) .
والمراد بالعالة : الفُقراء(4) ، كقوله تعالى : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } (5) .
وقوله : ( رعاء الشاء يتطاولون في البُنيان ) . هكذا في حديث عمر(6) ، والمراد أنَّ أسافلَ الناس يصيرون رؤساءهم ، وتكثر أموالهم حتّى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه(7) .
وفي حديث أبي هريرة ذكر ثلاثَ علامات : منها : أنْ تكون الحُفاة العراة رؤوسَ الناس ، ومنها : أنْ يتطاول رِعاءُ البَهم في البنيان(8) .
وروى هذا الحديث عبدُ الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بُريدة ، فقال فيه :
( وأنْ تَرى الصمَّ البُكمَ العُمي(9) الحفاةَ رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان ملوك
الناس ) ، قال : فقام الرَّجُلُ ، فانطلق ، فقلنا : يا رسولَ الله ، مَنْ هؤلاء الذين
نعتَّ ؟ قال : ( هم العُريب )(10) . وكذا روى هذه اللفظة الأخيرة عليُّ بنُ زيد ، عن يحيى بن يعمر ، عن ابن عمر(11) .
وأمَّا الألفاظ الأُوَلُ ، فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها(12) .
وقوله : ( الصمّ البكم العمي ) إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن ماجه عقب ( 63 ) .
(3) تقدم تخريجه .
(4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/148 .
(5) الضحى : 8 .
(6) تقدم تخريجه .
(7) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/148 .
(8) تقدم تخريجه .
(9) سقطت من ( ص ) .
(10) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 367 ) وعنده كلمة ( العَرب ) بدل
( العُريب ) .
(11) رواية علي بن زيد بن جدعان عند الإمام أحمد في " المسند " 2/107 ، وعند المروزي في
" تعظيم قدر الصلاة " ( 371 ) ، وليس فيها هذه اللفظة .
(12) تقدم تخريجه .

وفي هذا المعنى أحاديث متعددة ، فخرَّج الإمام أحمد(1) والترمذي(2) من حديث حذيفة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ السَّاعة حَتّى يكونَ أسعدُ النَّاسِ بالدُّنيا لكع بن لكع ) .
وفي " صحيح ابن حبان " (3) عن أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تنقضي الدنيا حتّى تكونَ عندَ لكع بنِ لكعٍ ) .
وخرّج الطبراني(4) من حديث أبي ذرٍّ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ الساعةُ حتى يغلبَ على الدُّنيا لكعُ بنُ لكع ) .
وخرّج الإمام أحمد(5) والطبراني(6) من حديث أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( بينَ يدي الساعةِ سنُونَ خدَّاعةٌ ، يُتَّهمُ فيها الأمينُ ، ويُؤْتَمنُ فيها المتَّهمُ ، وينطق فيها الرُّويبضةُ ) . قالوا : وما الرويبضَةُ ؟ قال : ( السَّفيه ينطق في أمرِ العامَّة ) . وفي رواية : ( الفاسقُ يتكلَّمُ في أمر العامة )(7) . وفي رواية الإمام أحمد(8) : ( إنَّ بين يدي الدجال سنينَ خداعةٌ ، يُصدّقُ فيها الكاذبُ ، ويكذّبُ فيها الصادقُ ، ويخوَّن فيها الأمينُ ويؤتمنُ فيها الخائنُ ) ، وذكر باقيه .
__________
(1) في " مسنده " 5/389 .
وأخرجه : البيهقي في " دلائل النبوة " 6/392 ، والبغوي ( 4154 ) من حديث حذيفة بن اليمان ، به .
(2) في " الجامع الكبير " ( 2209 ) ، وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) .
(3) برقم ( 6721 ) ، وهو حديث صحيح .
(4) في "الأوسط" ( 3098 ) ، والطبعة العلمية ( 3076 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) في " مسنده " 3/220 .
وأخرجه : أبو يعلى ( 3715 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 465 ) و( 466 ) من حديث أنس بن مالك به ، وهو حديث حسن من أجل محمد بن إسحاق .
(6) في " الأوسط " ( 3270 ) .
(7) أخرجه : أحمد 3/220 .
(8) في مسنده 3/220 .

ومضمونُ ما ذكر من أشراطِ الساعة في هذا الحديث يَرجِعُ إلى أنَّ الأمور تُوَسَّدُ إلى غير أهلها ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة : ( إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (1) )(2) ، فإنَّه إذا صار الحفاةُ العراةُ رعاءُ الشاءِ - وهم أهلُ الجهل والجفاء - رؤوسَ الناس ، وأصحابَ الثروة والأموال ، حتّى يتطاولوا في البنيان ، فإنَّه يفسد بذلك نظامُ الدين والدنيا ، فإنَّه إذا رَأَسَ الناسَ مَنْ كانَ فقيراً عائلاً ، فصار ملكاً على الناس ، سواء كان مُلكُه عاماً أو خاصاً في بعض الأشياء ، فإنَّه لا يكادُ يعطي الناسَ حقوقَهم ، بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال ، فقد قال بعض السَّلف : لأنْ تمدَّ يدكَ إلى فم التِّنين ، فيقْضمها ، خيرٌ لك من أنْ تمدَّها إلى يد غنيٍّ قد عالج الفقرَ(3) . وإذا كان مع هذا جاهلاً جافياً، فسد بذلك الدين ؛ لأنَّه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل هِمته في جباية المال واكتنازه ، ولا يُبالي بما فسد من دينِ(4) الناسِ ، ولا بمن ضاعَ من أهل
حاجاتهم .
وفي حديثٍ آخر: ( لا تقوم الساعةُ حتى يسودَ كُلَّ(5) قبيلة منافقوها )(6).
__________
(1) في ( ص ) : ( فانتظروها ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/361 ، والبخاري 1/23 ( 59 ) و8/129 ( 6496 ) ، وابن حبان
( 104 ) ، والبيهقي 10/118 ، والبغوي ( 4232 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/22-23 من قول سفيان الثوري .
(4) في ( ص ) : ( بذلك الدين ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : البزار ( 3416 ) ( كشف الأستار ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9771 )
و( 10556 ) ، وابن عدي في " الكامل " 3/221 من حديث عبد الله بن مسعود ، به . الروايات مطولة ومختصرة ، وهو حديث ضعيف .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 7715 ) من حديث أبي بكرة ، به .

وإذا صار ملوكُ الناس ورؤوسُهم على هذه الحال ، انعكست سائرُ الأحوال ، فصُدِّقَ الكاذبُ ، وكُذِّبَ الصادقُ ، وائتُمِنَ الخائنُ، وخوِّنَ الأمينُ، وتكلَّمَ الجاهلُ ، وسكتَ العالم ، أو عُدِمَ بالكلية ، كما صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إنّ من أشراط الساعة أن يُرفَعَ العلمُ ، ويظهر الجهلُ )(1) وأخبر : ( أنَّه يقبضُ العلمُ بقبض
العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا )(2) . وقال الشَّعبي : لا تقومُ السَّاعة حتى يصيرَ العلمُ جهلاً ، والجهلُ علماً .
وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر(3) الزمان وانعكاس الأمور .
وفي " صحيح الحاكم "(4) عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( إن من أشراط الساعة أن يُوضع الأخيارُ ، ويُرفع الأشرارُ ) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20801 ) ، والطيالسي ( 1984 ) ، وأحمد 3/98 و151 و176 و202 و213 و273 و289 ، وعبد بن حميد ( 1192 )، والبخاري 1/30 ( 80 ) و( 81 ) و8/203 ( 6808 ) وفي " خلق أفعال العباد " ، له ( 43 ) ، ومسلم 8/58
( 2671 ) ( 8 ) و( 9 ) ، وابن ماجه ( 4045 ) والترمذي ( 2205 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 5905 ) و( 5906 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : أحمد 2/162 و190 و203 ، والدارمي ( 245 ) ، والبخاري 1/36 ( 100 ) و9/123 ( 7307 ) وفي " خلق أفعال العباد " ، له ( 47 ) ، ومسلم 8/60 ( 2673 )
( 13 ) ، وابن ماجه ( 52 ) ، والترمذي ( 2652 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 5907 ) و( 5908 ) ، وابن حبان ( 4571 ) و( 6719 ) و( 6723 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
(3) في ( ص ) : ( ذلك ) .
(4) أي : المستدرك 4/554 ، وصححه .

وفي قوله : ( يتطاولون في البنيان ) دليلٌ على ذمِّ التباهي والتفاخر ، خصوصاً بالتطاول في البنيان ، ولم يكن إطالة (1) البناء معروفاً (2) في زمن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، بل كان بنيانهم قصيراً بقدر الحاجة(3) ، وروى أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقومُ الساعةُ ، حتَّى يتطاول الناسُ في البنيان ) . خرَّجه البخاري(4) .
وخرَّج أبو داود(5) من حديث أنسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج فرأى(6) قُبَّةً مشرفة ، فقال : ( ما هذه ؟ ) قالوا : هذه لفلان ، رجل من الأنصار ، فجاء صاحِبُها ، فسلّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأعرضَ عنه ، فعلَ ذلك مراراً ، فهدمها الرَّجُلُ . وخرَّجه الطبراني(7) من وجه آخر عن أنس أيضاً ، وعنده ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ بناءٍ – وأشار بيده هكذا على رأسه – أكثر مِنْ هذا ، فهو وبالٌ على
صاحبه (8) ) .
وقال حريثُ بن السائب ، عن الحسن : كنتُ أدخلُ بيوتَ أزواج النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فأتناولُ سقفَها بيدي(9) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( مرفوعاً ) .
(3) انظر : فتح الباري 13/110 .
(4) في " صحيحه " 9/74 ( 7121 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 449 ) .
(5) في " سننه " ( 5237 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 4347 ) والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10705 ) من حديث أنس ابن مالك ، به . وإسناده لا بأس به .
(6) في ( ص ) : ( أنَّه رأى ) .
(7) في " الأوسط " ( 3103 ) ، وأخرجه ابن ماجه ( 4161 ) بلفظ أطول ، وإسناده ضعيف .
(8) عبارة : ( على صاحبه ) سقطت من ( ج ) .
(9) أخرجه : البخاري في "الأدب المفرد" ( 450 ) ، وابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" ( 245 ) .

ورُويَ عن عمرَ أنَّه كتب : لا تُطيلوا بناءكم ، فإنَّه شرُّ أيامكم(1) .
وقال يزيدُ بن أبي زياد : قال حذيفة لسلمان : ألا نبني لك مسكناً يا أبا
عبد الله ؟ قالَ : لِمَ ، لتجعلني ملكاً ؟ قال : لا ، ولكن نبني لك بيتاً من قصب ونَسقفه بالبواري، إذا قمت كاد أنْ يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أنْ يمس طرفيك ، قال : كأنَّك كنت في نفسي(2) .
وعن عمّار بن أبي عمّار ، قال : إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع ، نودي
يا أفسقَ الفاسقين ، إلى أين (3) ؟
خرّجه كلّه(4) ابنُ أبي الدنيا .
وقال يعقوب بنُ شيبة في " مسنده " : بلغني عن ابن عائشة ، حدثنا ابن أبي شُميلة ، قال : نزل المسلمون حولَ المسجد ، يعني : بالبصرةِ في أخبية الشَّعرِ ، ففشا فيهم السَّرَقُ ، فكتبوا إلى عمرَ ، فأذن لهم في اليراع ، فبنوا بالقصب ، ففشا فيهمُ الحريقُ ، فكتبوا إلى عمر ، فأذن لهم في المدَرِ ، ونهى أنْ يرفعَ الرجل سمكه أكثر من سبعة أذرع ، وقال : إذا بنيتُم منه بيوتكم ، فابنوا منه المسجدَ . قال ابن عائشة : وكان عتبةُ بن غزوان بنى مسجدَ البصرة بالقصب ، قال : من صلى فيه وهو من قصب أفضلُ ممن صلى فيه وهو مِنْ لبن ، ومن صلى فيه وهو من لبن خير(5) ممن صلَّى فيه وهو من آجُر .
وخرّج ابن ماجه(6)
__________
(1) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 452 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " قصر الأمل " ( 306 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/202 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " قصر الأمل " ( 250 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/75 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( أفضل ) .
(6) في " سننه " ( 739 ) .

وأخرجه : أحمد 3/143 و145 و152 و230 و283 ، والدارمي ( 1415 ) ، وأبو داود
( 449 ) ، والنسائي 2/32 وفي " الكبرى " ، له ( 768 ) ، وأبو يعلى ( 2798 )
و( 2799 ) ، وابن خزيمة ( 1322 ) و( 1323 ) ، وابن حبان ( 1614 ) من حديث أنس ابن مالك ، به . وهو حديث صحيح .

من حديث أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ الساعةُ حتّى يتباهى الناسُ في المساجد ) .
ومن حديث ابن عباس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أراكم ستُشرِّفون مساجدَكم بَعْدي كما شرَّفتِ اليهودُ كنائسها ، وكما شرَّفتِ النَّصارى
بِيَعَها(1) )(2) .
وروى ابن أبي الدُّنيا(3) بإسناده عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن - رضي الله عنه - ،
قال : لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد ، قال : ( ابنوه عريشاً كعريشِ موسى ) .
قيل للحسن : وما عريشُ موسى ؟ قال : إذا رفع يَده بلغ العريش ، يعني :
السقف .
__________
(1) حديث ابن عباس متقدم على حديث أنس في ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن ماجه ( 740 ) ، وابن حبان ( 1615 ) ، والبيهقي 2/438-439 ، والبغوي ( 463 ) ، وإسناده ضعيف .
(3) في " قصر الأمل " ( 286 ) ، ومن طريقه البيهقي في " دلائل النبوة " 2/541-542 ، وهو مع إرساله ضعيف ، فراويه عن الحسن البصري إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف الحديث ، وانظر : البداية والنهاية لابن كثير 4/532 .


الحديث الثالثعن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنهُما ، قال : سَمِعْتُ
رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يقولُ : ( بُنِي الإسلامُ عَلى خَمْسٍ : شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله ، وأنَّ مُحمَّداً عَبْدُه وَرَسولُهُ ، وإقامِ الصلاةِ ، وإيتاءِ الزَّكاةِ ، وحَجِّ البيتِ ، وصَومِ رَمضانَ ) . رَواهُ البُخارِي ومُسلمٌ .
هذا الحديثُ خرَّجاه في " الصحيحين " (1) من رواية عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر ، وخرّجه مسلم(2) من طريقين آخرين عن ابنِ عمرَ (3)، وله طرقٌ أخرى(4) عنه .
وقد روي هذا الحديث من رواية جريرِ بنِ عبدِ الله البجلي ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّج حديثَه(5) الإمام أحمدُ(6)
__________
(1) " صحيح البخاري " 1/9 ( 8 ) ، و" صحيح مسلم " 1/34 ( 16 ) ( 22 ) .
وأخرجه : أحمد 2/143 ، والترمذي ( 2609 ) م ، والنسائي 8/107 وفي " الكبرى " ، له
( 11732 ) ، وابن خزيمة ( 308 ) و( 1880 ) ، وابن حبان ( 158 ) و( 1446 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 40 ) من طرق عن عكرمة ، بهذا الإسناد .
(2) في " صحيحه " 1/34 ( 16 ) ( 19 ) و( 20 ) من طريق سعد بن عبيد ، عن ابن عمر ، وفي 1/34 ( 16 ) ( 21 ) من طريق محمد بن زيد بن عبد الله ، عن ابن عمر ، به .
(3) عبارة : ( عن ابن عمر ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : الحميدي ( 703 ) ، وأحمد 2/26 و92 و120 ، وعبد بن حميد ( 823 ) ، والترمذي ( 2609 ) ، وأبو يعلى ( 5788 ) ، وابن خزيمة ( 309 ) و( 1881 )
و( 2505 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 41 ) و( 42 ) و( 43 ) و( 149 ) و( 150 ) ، والبيهقي 4/81 و199 من طرق عن ابن عمر ، به .
(5) في ( ص ) : ( وخرجه ) بإسقاط كلمة ( حديثه ) .
(6) في " مسنده " 4/363 و364 . =

= ... وأخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 419 ) و( 420 ) و( 421 ) و( 422 ) ، وأبو يعلى ( 7502 ) و( 7507 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2363 ) و( 2364 ) وفي
" الصغير "، له ( 782 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/251 من طريق الشعبي ، عن جرير، به.

.
وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكرُ الإسلام .
والمرادُ من هذا الحديث أنَّ الإسلام مبنيٌّ على هذه الخمس ، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، وقد خرَّجه محمدُ بنُ نصر المروزي في " كتاب الصلاة "(1) ، ولفظه : ( بُني الإسلام على خمسِ دعائم ) فذكره .
والمقصودُ تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس ، فلا يثبت البنيانُ بدونها ، وبقيةُ خصالِ الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء ، نقص البنيانُ وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك ، بخلاف نقضِ هذه الدعائم الخمس ؛ فإنَّ الإسلام يزولُ بفقدها جميعِها بغير إشكالٍ ، وكذلك يزولُ بفقدِ الشهادتين ، والمراد بالشهادتين (2) الإيمان بالله ورسوله . وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقاً :
( بني الإسلام على خمس : إيمان بالله ورسوله ) ، وذكر بقية الحديث(3) . وفي رواية لمسلم(4) : ( على خمس : على أن يُوحَّدَ الله ) وفي رواية لهُ(5) : ( على أنْ يُعبَد الله ويُكفَرَ بما دونه ) .
وبهذا يُعلم أنَّ الإيمان باللهِ ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي .
وأما إقام الصَّلاة ، فقد وردت أحاديثُ متعددةٌ تدلُّ على أنَّ من تركها ، فقد خرج من الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " (6)
__________
(1) حديث ( 413 ) .
(2) عبارة : ( والمراد بالشهادتين ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " صحيحه " 6/32 ( 4514 ) .
(4) في " صحيحه " 1/34 ( 16 ) ( 19 ) .
(5) في " صحيحه " 1/34 ( 16 ) ( 20 ) .
(6) 1/61 ( 82 ) ( 134 ) .

وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 30394 ) ، وعبد بن حميد ( 1022 ) و( 1043 ) ، والدارمي
( 1236 ) ، وأبو داود ( 4678 ) ، وابن ماجه ( 1078 ) ، والترمذي ( 2618 )
و( 2619 ) و( 2620 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 886 ) و( 887 )
و( 888 ) و( 889 ) و( 890 ) و( 891 ) و( 892 ) ، والنسائي 1/232 ، وأبو يعلى
( 1783 ) و( 1953 ) و( 2102 ) و( 2191 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
( 3175 ) و( 3176 ) و( 3177 ) و( 3178 ) من طرق عن جابر ، به .

عن جابر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( بَيْنَ الرجل وبَينَ الشِّركِ والكفرِ تركُ الصلاة ) ، ورُوي مثلُه من حديث بُريدة(1) وثوبان(2) وأنس(3) وغيرهم .
وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ(4) من حديث عُبادة بنِ الصامت، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال : ( لا تتركِ الصَّلاةَ متعمداً ، فمن تركها متعمداً ، فقد خرج من الملة ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/346 و355 ، وابن ماجه ( 1079 ) ، والترمذي ( 2621 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 894 ) و( 895 ) و( 896 ) ، والنسائي 1/231 وفي
" الكبرى " ، له ( 329 ) ، وابن حبان ( 1454 ) ، والدارقطني 2/52 ، والحاكم 1/6و7 ، والبيهقي 3/366 .
(2) أخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1521 ) .
(3) أخرجه : ابن ماجه ( 1080 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 897 ) و( 898 )
و( 899 ) و( 900 ) ، وأبو يعلى ( 4100 ) .
(4) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 920 ) .
وأخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1522 ) من طريق سلمة بن شريح ، عن عبادة ابن الصامت ، به ، وإسناده ضعيف .

وفي حديث معاذ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( رأسُ الأمر الإسلام ، وعمودُه
الصَّلاةُ(1) ) فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاطُ ولا يثبتُ إلا
به ، ولو سقط العمودُ ، لسقط الفسطاط ، ولم يثبت بدونه .
وقال عمر : لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة(2) ، وقال سعد وعليُّ بنُ أبي طالبٍ(3) : من تركها فقد كفر .
وقال عبد الله بنُ شقيق : كانَ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَرَونَ من الأعمال شيئاً تركه كفر غير الصلاة(4) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20303 ) ، وأحمد 5/231 و237 ، وعبد بن حميد
( 112 ) ، والترمذي ( 2616 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 195 ) و( 196 ) و( 197 ) و( 198 )، والنسائي في " الكبرى " ( 11394 ) وفي " التفسير "، له ( 414 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 21515 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 266 ) ، والحاكم 2/412-413 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3350 ) ، والبغوي ( 11 ) وفي
" التفسير " ، له ( 1661 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) وسند الترمذي منقطع ، ولعله قال ذلك لما للحديث من طرق وشواهد .
(2) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 3/188 ، وابن أبي شيبة ( 37074 ) ، وأحمد في
" مسائله " برواية ابنه عبد الله ( 55 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 923 ) -
( 929 ) ، والآجري في " الشريعة " : 134 ، والدارقطني 2/52 ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1528 ) و( 1529 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 7640 ) وفي " الإيمان " ، له ( 126 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 933 ) ، والآجري في " الشريعة " : 135 من طرق عن علي ، به .
(4) أخرجه : الترمذي ( 2622 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 948 ) .
وأخرجه الحاكم 1/7 من طريق الجريري ، عن عبد الله ، عن أبي هريرة ، به .

وقال أيوب السَّختياني : تركُ الصَّلاةِ كفرٌ ، لا يُختَلَفُ فيه .
وذهب إلى هذا القول جماعةٌ من السَّلف والخلف ، وهو قولُ ابنِ المبارك وأحمد وإسحاق ، وحكى إسحاق عليه إجماعَ أهل العلم ، وقال محمد بن نصر المروزي : هو قولُ جمهور أهل الحديث (1) .
وذهبَ طائفةٌ منهم إلى أنَّ منْ تركَ شيئاً من أركان الإِسلام الخمسة عمداً أنَّه كافر بذلك ، ورُوي ذلك(2) عن سعيد بن جبير ونافع والحكم ، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفةٌ من أصحابه وهو قول ابنِ حبيبٍ من المالكية .
وخرَّج الدَّارقطني(3) وغيرُه من حديثِ أبي هريرة قال : قيل : يا رسولَ الله الحج في كلِّ عام ؟ قال : ( لو قلتُ : نعم ، لوجب عليكم ، ولو وجب عليكم ، ما أطقتُموه ، ولو تركتموه لكفرتُم ) .
وخرَّج اللالكائي(4)
__________
(1) في ( ص ) : ( جمهور العلماء وأهل الحديث ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " سننه " 2/281 ، والطبري في " تفسيره " ( 9979 ) ، وطبعة التركي 9/18 ، وإسناده ضعيف فإنَّ مداره على إبراهيم بن مسلم الهجري ، وهو ضعيف . انظر : الجرح والتعديل 2/77 ( 417 ) .
وأخرجه : إسحاق بن راهويه ( 60 ) ، وأحمد 2/508 ، ومسلم 4/102 ( 1337 )
( 412 ) ، والنسائي 5/110 وفي " الكبرى " ، له ( 3598 ) ، وابن خزيمة ( 2508 ) ، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 1472 ) و( 1473 )، وابن حبان ( 3704 ) و( 3705 )، والبيهقي 4/326 من طرق عن أبي هريرة ، به لكن بدون لفظ : ( ولو تركتموه لكفرتم ) .
(4) في " أصول الاعتقاد " ( 1576 ) .

وأخرجه : أبو يعلى ( 2349 ) من طريق أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، به ، والحديث ضعيف لضعف مؤمل بن إسماعيل فقد دفن كتبه ثم حدّث بعد فدخل الوهم في حديثه .

من طريق مؤمَّل ، قال : حدثنا حمادُ بنُ زيد ، عن عمرو ابن مالك النُّكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، ولا أحسبه إلا رفعه قال :
( عُرى الإسلامِ وقواعدُ الدِّين ثلاثةٌ ، عليهن أُسِّسَ الإسلامُ : شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ (1)، والصَّلاةُ ، وصومُ رمضانَ . من ترك منهنَّ واحدةً ، فهو بها كافرٌ ، حلالُ الدَّمِ ، وتجدُه كثير المال لم يحجَّ ، فلا يزالُ بذلك كافراً ولا يحلُّ دمه ، وتجده كثيرَ المال فلا يزكِّي ، فلا يزالُ بذلك كافراً ولا يحلُّ دَمُهُ ) ورواه قتيبة بنُ سعيدٍ ، عن حماد بنِ زيد موقوفاً مختصراً ، ورواه سعيدُ بنُ زيد أخو حماد ، عن عمرو بنِ مالك ، بهذا الإسناد مرفوعاً، وقال : ( من ترك منهنَّ واحدةً، فهو باللهِ كافرٌ ، ولا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ ، وقد حلَّ دمُه ومالُه ) ولم يذكر
ما بعده .
وقد رُويَ عن عمر ضربُ الجزية على من لم يحجَّ، وقال : ليسوا بمسلمين(2) . وعن ابن مسعود : أنَّ تارك الزَّكاة (3) ليس بمسلم(4) ، وعن أحمد رواية : أنَّ ترك الصلاة والزكاة خاصَّةً كفرٌ دونَ الصيام والحج .
وقال ابن عيينة : المرجئة سَموا تركَ الفرائض ذنباً بمنزلة ركوبِ المحارم ، وليس سواء ؛ لأنَّ ركوب المحارم متعمداً من غير استحلالٍ معصيةٌ ، وتركَ الفرائض من غير جهلٍ ولا عذرٍ هو كفر . وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهودِ الذين أقرُّوا ببعث(5) النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بلسانهم ، ولم يعملوا بشرائعه(6) .
__________
(1) عبارة : ( وأن محمداً رسول الله ) لم ترد في ( ج ) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) في ( ص ) : ( الصلاة ) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) في ( ج ) : ( بنعت ) .
(6) أخرجه : عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 745 ) .

وقد استدلَّ أحمد وإسحاق على كفرِ تاركِ الصَّلاةِ بكفر إبليسَ بترك السجودِ
لآدمَ ، وتركُ السُّجود لله أعظم(1) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا قرأ ابنُ آدم السَّجدةَ فسجدَ ، اعتزل الشيطان (3) يبكي ويقول : يا ويلي أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسُّجود ، فسجد ، فله الجنة ، وأُمرت بالسجود فأبيت ، فلي النار ) .
واعلم أنَّ هذه الدعائم الخمسَ بعضُها مرتبطٌ ببعض ، وقد روي أنَّه لا يُقبل بعضُها بدون بعض كما في "مسند الإمام أحمد"(4)
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/144-145 .
(2) الصحيح 1/61 ( 81 ) ( 133 ) .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 981 ) ، وأحمد 2/443 ، وابن ماجه
( 1052 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 316 ) ، وأبو عوانة 2/224 و225 ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1527 ) ، وأبو نعيم في " المستخرج " ( 244 ) وفي
" الحلية " ، له 5/60 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) في ( ص ) : ( قام إبليس ) بدل : ( فسجد اعتزل الشيطان ) .
(4) المسند 4/200 ، وهو مع إرساله فيه ابن لهيعة ضعيف .

وأورده المنذر في "الترغيب والترهيب" ( 810 ) وعزاه لأحمد، وقال عقبه : ( وهو مرسل ) .

عن زياد بن نُعيم الحضرمي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أربعٌ فرضهنّ الله في الإسلام ، فمن أتى بثلاثٍ لم يُغنين عنه شيئاً حَتّى يأتي بهنّ جميعاً: الصَّلاةُ، والزكاةُ، وصومُ رمضان، وحَجُّ البيتِ ) وهذا مرسل ، وقد روي عن زياد، عن عُمارةَ بن حزم، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ورُوي عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الدِّين خمسٌ لا يقبلُ الله(2) منهن شيئاً دون شيء : شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله ، وإيمانٌ بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه ، وبالجنَّةِ والنارِ ، والحياةِ بعدَ الموتِ هذه واحدة ، والصلواتُ الخمسُ عمود الدين لا يقبلُ الله الإيمان إلاَّ بالصلاة ، والزكاةُ طهور من الذنوب ، ولا يقبلُ الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة، فمن فعل هؤلاء(3)، ثم جاء رمضان فتركَ صيامَه متعمداً ، لم يقبل الله منه الإيمانَ ، ولا الصلاةَ ، ولا الزكاة(4) ، فمن فعل هؤلاء الأربع ، ثُمَّ تيسَّر له الحجّ ، فلم يحجّ ، ولم يُوص بحجة ، ولم يحجَّ عنه بعض أهله ، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ) ذكره ابن أبي حاتم(5)
__________
(1) أخرجه أحمد كما في " جامع المسانيد " 9/316 ( 6833 ) . وأورده الحافظ ابن حجر في
" أطراف المسند " 2/365 ( 2398 ) في مسند زياد بن نعيم ثم قال : ( هكذا وقع في بعض النسخ ، وعليه مشى ابن عساكر ، ووقع في بعضها : عن زياد بن نعيم ، عن عمارة بن حزم ، به ) ، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " 6/47 وعزاه لأحمد والطبراني في " الكبير " ، وقال الهيثمي : ( وفي إسناده ابن لهيعة ) .
(2) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( الأربع ) .
(4) عبارة : ( ولا الزكاة ) لم ترد في ( ص ) .
(5) في " العلل " 1/293-294 ( 879 ) و2/156 ( 1962 ) .

وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/201-202 من طريق عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، به . وقال عقبه : ( غريب من حديث ابن عمر ، بهذا اللفظ ) .

، وقال : سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يُحتمل أنَّ هذا من كلام عطاء الخراساني .
قلت : الظاهر أنَّه من تفسيرِهِ لحديث ابنِ عمرَ ، وعطاء من جلَّةِ علماءِ
الشَّام .
وقال ابنُ مسعود : من لم يزكِّ ، فلا صلاةَ له . ونفيُ القبولِ هنا لا يُراد به نفيُ الصِّحَّةِ ، ولا وجوب الإعادة بتركه ، وإنما يُراد بذلك انتفاء الرِّضا به ، ومدح عامله ، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى ، والمباهاة به للملائكة .
فمن قام بهذه الأركان على وجهها ، حصل له القبول بهذا المعنى ، ومن
قام (1) ببعضها دُونَ بعضٍ ، لم يحصل له ذلك ، وإنْ كان لا يُعاقَبُ على ما أتى به منها عقوبةَ تاركه ، بل تَبرَأُ به ذمته ، وقد يُثابُ عليه أيضاً .
ومن هنا يُعلَمُ أنَّ ارتكابَ بعضِ المحرماتِ التي ينقص بها الإيمانُ تكونُ مانعةً من قبول بعض الطاعات ، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ شرِبَ الخمرَ لم يقبل الله له صلاة أربعين
يوماً )(2)
__________
(1) في ( ص ) : ( أتى ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1901 ) ، وعبد الرزاق ( 17058 ) و( 17059 )، وأحمد 2/35 ، والترمذي ( 1862 ) ، وأبو يعلى ( 5686 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13441 ) و(13445 ) و( 13448 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5580 ) ، والبغوي
( 3016 ) من طرق عن ابن عمر ، به ، قال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) .
وأخرجه : أحمد 2/176 ، والبزار ( 2493 ) ، والنسائي 8/316 وفي " الكبرى " ، له
( 579 ) ، والحاكم 1/30 عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .

وأخرجه : أحمد 5/171 ، والبزار ( 4074 ) من طرق عن أبي ذر ، به .

، وقال : ( مَنْ أتى عرَّافاً فصدَّقه بما يقولُ ، لم تُقبل له صلاة أربعين
يوماً )(1) ، وقال : ( أيما عبد أبقَ من مواليه ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ )(2) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/68 ، ومسلم 7/37 ( 2230 ) ( 125 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/406-407، والبيهقي 8/138 من طريق نافع ، عن صفية ، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به .
(2) أخرجه : مسلم 1/59 ( 70 ) ( 124 ) ، والنسائي 7/102 وفي " الكبرى " ، له
( 3498 ) ، وابن خزيمة ( 941 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2357 ) ، وابن حزم في
" المحلى " 4/46 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8595 ) ، والبغوي ( 2409 ) من طريق الشعبي ، عن جرير ، به .

وحديثُ ابنِ عمر يستدلُّ به على أنَّ الاسمَ إذا شمل أشياءَ متعدِّدةً ، لم يَلزم زوال الاسم بزوال بعضها، فيبطل بذلك قولُ من قال: إنَّ الإيمانَ لو دخلت فيه الأعمال، للزم أنْ يزولَ بزوالِ عمل مما دخل في مسمَّاه، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جعل هذه الخمسَ دعائمَ الإسلامِ ومبانيه، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل(1)، وفي حديث طلحة ابن عُبيد الله الذي فيه أنَّ أعرابياً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الإسلام ، ففسره له بهذه الخمس(2) .
__________
(1) وحديث جبريل تقدم تخريجه ، وهو الحديث الثاني من هذا الكتاب .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 485 ) برواية الليثي ، والشافعي في " الرسالة " ( 344 ) وفي " مسنده " ، له ( 116 ) و( 117 ) بتحقيقي ، وأحمد 1/162 ، والدارمي ( 1586 ) ، والبخاري 1/18 ( 46 ) و3/30 ( 1891 ) و3/235 ( 2678 ) و9/29 ( 6956 ) ، ومسلم 1/31 ( 11 ) ( 8 ) و1/32 ( 11 ) ( 9 ) ، وأبو داود ( 391 ) و( 392 )
و( 3252 ) ، والبزار ( 933 ) ، والنسائي 1/226-228 و4/120 و8/118-119 وفي
" الكبرى " ، له ( 319 ) ( 2400 ) و( 11759 ) ، وابن الجارود ( 144 ) ، وابن خزيمة ( 306 ) ، وابن حبان ( 1724 ) و( 3262 ) ، والبيهقي 1/361 و2/8 و466 و467 ، والبغوي ( 7 ) .

ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون : لو زال من الإسلام خَصلةٌ واحدةٌ ، أو أربع خصالٍ سوى الشهادتين ، لم يخرج بذلك من الإسلام . وقد روى بعضهم : أنَّ جبريلَ - عليه السلام - سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن شرائع الإسلام ، لا عن الإسلام ، وهذه اللفظة لم تصحَّ عندَ أئمَّة الحديث ونُقَّاده ، منهم : أبو زُرعة الرازي ، ومسلم بن الحجاج(1) ، وأبو جعفر العُقيلي وغيرُهم .
وقد ضرب العلماءُ مثل الإيمان بمثلِ(2) شجرة لها أصلٌ وفروعٌ وشُعَبٌ ، فاسمُ الشَّجرةِ يَشمَلُ ذلك كله ، ولو زال شيءٌ من شُعَبها وفروعها ، لم يزُل عنها اسمُ الشجرة ، وإنَّما يُقال : هي شجرة ناقصةٌ ، أو غيرُها أتمُّ منها .
وقد ضربَ الله مثلَ الإيمان بذلك في قوله تعالى : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } (3). والمراد بالكلمة كلمةُ التَّوحيد ، وبأصلها التَّوحيد الثَّابت في القلوب ، وأُكُلها : هو(4) الأعمال الصالحة الناشئة منه (5).
__________
(1) قال مسلم في " التمييز " : 75 : ( فأما رواية أبي سنان ، عن علقمة في متن هذا الحديث إذ قال فيه : إن جبريل - عليه السلام - قال : جئت أسألك عن شرائع الإسلام فهذه زيادة مختلقة ، ليست من الحروف بسبيل وإنما أدخل هذا الحرف –في رواية هذا الحديث- شرذمة زيادة في الحرف=
= مثل ضرب النعمان بن ثابت وسعيد بن سنان ومن نحا في الإرجاء نحوهما ، وإنما أرادوا بذلك تصويباً في قوله في الإيمان وتعضيد الإرجاء ذلك ما لم يزد قولهم إلاّ وهناً وعن الحق إلاّ بعداً إذ زادوا في رواية الأخبار ما كفى بأهل العلم ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) إبراهيم : 24-25 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : تفسير الطبري 13/635 .

وضرب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثل المؤمن والمسلمِ بالنَّخلة(1) ، ولو زال شيءٌ من فروع النخلة ، أو من ثمرها، لم يزل بذلكَ عنها اسمُ النخلة بالكلية ، وإن كانت ناقصةَ الفروع أو الثَّمر .
ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا ، مع أنَّ الجهادَ أفضلُ الأعمال ،
وفي رواية : أنَّ ابنَ عمر قيل له : فالجهاد ؟ قالَ : الجهاد حسن ، ولكن هكذا حدَّثنا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . خرَّجه الإمام أحمد(2) .
وفي حديث معاذ بنِ جبل : ( إنَّ رأسَ الأَمرِ الإسلامُ ، وعمودهُ الصَّلاةُ ، وذروةُ سنامه الجهاد )(3) وذروةُ سنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنَّه ليس من دعائمه وأركانه التي بُني عليها ، وذلك لوجهين :
__________
(1) هو حديث ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وأنَّها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ ) فوقع الناس في شجر البوادي ، قال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - : ووقع في نفسي أنَّها النخلة فاستحيت ، ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ فقال : هي النخلة ، قال : فذكرت ذلك لعمر ، فقال : لأنْ تكون قلت هي النخلة أحب إليّ من كذا وكذا .
... أخرجه : الحميدي (676 ) و( 677 ) ، وأحمد 2/12 و31 و61 و115 و157 ، والبخاري 1/23 ( 61 ) و1/24 ( 62 ) و1/28 ( 72 ) و1/44 ( 131 ) و3/103 =
= ... ( 2209 ) و6/99 ( 4698 ) و7/104 ( 5448 ) و8/36 ( 6122 ) و8/42
( 6144 ) ، ومسلم 8/137 ( 2811 ) ( 63 ) و( 64 ) واللفظ له ، والنسائي في
" الكبرى " ( 11261 ) من طرق عن ابن عمر ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) في " مسنده " 2/26 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ولجهالة حال يزيد بن بشر السكسكي .
(3) تقدم تخريجه قبل صفحات .

أحدهما : أنَّ الجهادَ فرضُ كفاية عند جمهورِ العلماء ، ليس بفرضِ عينٍ ، بخلاف هذه الأركان(1) .
والثاني : أنَّ الجهاد لا يَستمِرُّ فعلُه إلى آخر الدَّهر ، بل إذا نزل عيسى - عليه السلام - ، ولم يبقَ حينئذٍ ملة إلاّ ملة(2) الإسلام ، فحينئذٍ تضعُ الحربُ أوزارَها ، ويُستغنى عن الجهاد ، بخلاف هذه الأركان ، فإنَّها واجبةٌ على المؤمنين إلى أن يأتيَ أمرُ الله وهم على ذلك ، والله أعلم .
__________
(1) قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار : ( إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة ، إلا أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه ) . وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول : ( ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزي فيه بعضهم على بعض ) . أحكام القرآن للجصاص 3/146 .
(2) في ( ص ) : ( سوى ملة ) .


الحديث الرابععَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ : حَدَّثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ الصَّادِقُ المَصدوقُ : ( إنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خلقُهُ في بَطنِ أُمِّهِ أَربعينَ يَوماً نطفة (1) ، ثمَّ يكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ ، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلكَ ، ثمَّ يُرسلُ الله إليه المَلَك ، فيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ ، ويُؤْمَرُ بأربَعِ كلماتٍ : بِكَتْب رِزقه وعمله وأجَلِه ، وشقيٌّ أو سَعيدٌ ، فوالذي لا إله غيره إنَّ أحدكُم ليَعْمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتَّى ما يكونَ بينَهُ وبَينها إلاَّ ذِراعٌ ، فيَسبِقُ عليهِ الكتابُ فَيعمَلُ بعمَلِ أهل النَّار فيدخُلها ، وإنَّ أحدكم ليَعمَلُ بعملِ أهل النَّارِ حتّى ما يكون بينَهُ وبينها إلاَّ ذِراعٌ ، فيسبِقُ عليه الكِتابُ ، فيعمَلُ بعملِ أهل الجنَّةِ فيدخُلُها ) رَواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ .
هذا الحديث متفق على صحته، وتلقته الأمة بالقبول، رواه الأعمش، عن زيد ابنِ وهب، عن ابن مسعود، ومن طريقه خرَّجه الشيخان في " صحيحيهما(2) " (3)
__________
(1) هذه اللفظة لم ترد في شيء من مصادر التخريج إلاّ في " تفسير ابن أبي حاتم " ( 13780 ) ، و"مسند الشاشي" ( 682 ) ، وتحمل على أنَّها رواية للنووي من طريق الشيخين أو أحدهما ، فهكذا جاءت في الأربعين وعدم تغييرها من المحدّثين إنَّما هو لأمانتهم العلمية .
(2) في ( ص ) : ( من طريق الشيخان في صحيحيهما ) .
(3) صحيح البخاري 4/135 ( 3208 ) و4/161 ( 3332 ) و8/152 ( 6594 ) و9/165
( 7454 ) ، وصحيح مسلم 8/44 ( 2643 ) ( 1 ) .

وأخرجه : معمر في " جامعة " ( 20093 ) ، والطيالسي ( 298 ) ، والحميدي ( 126 ) ، وأحمد 1/382 و414 و430 ، وأبو داود ( 4708 ) ، وابن ماجه ( 76 ) ، والترمذي
( 2137 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11246 ) وفي " التفسير " ، له ( 266 ) ، وأبو يعلى ( 5157 ) ، وأبو بكر الخلال في " السنة " ( 890 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 3861 ) – ( 3870 )، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ( 13780 ) ، والشاشي ( 680 )=
= ... - ( 686 ) ، وابن حبان ( 6174 ) ، والطبراني في " الصغير " ( 192 ) ، وأبو الشيخ في
" العظمة " ( 1089 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1040 ) و( 1041 )
و( 1042 ) من طرق عن ابن مسعود ، به .

.
وقد رُوي عن محمد بن يزيد الأسفاطي ، قال : رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم ، فقلتُ : يا رسول الله ، حديث ابن مسعود الذي حدَّث عنك ، فقال : حدثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصادق المصدوق . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي لا إله إلاّ هو(1) حدَّثته به أنا ) يقوله ثلاثاً ، ثم قال : غفر الله للأعمش كما حدَّث به ، وغفر الله لمن حدَّث به قبلَ الأعمش ، ولمن حدَّث به بعده(2) .
وقد روي عن ابن مسعودٍ من وجوهٍ أخر .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ أحدكم يُجمع خلقه في بطنِ أُمِّه أربعين يوماً نُطفةً ) قد روي تفسيره عن ابن مسعود ؛ روى الأعمش ، عن خيثمَة ، عن ابنِ مسعودٍ ، قال : إنَّ النطفةَ إذا وقعت في الرحمِ ، طارت في كلِّ شعرٍ وظُفر، فتمكثُ أربعين يوماً، ثم تنحدِرُ في الرَّحم ، فتكونُ علقةً . قال : فذلك جمعُها . خرَّجه ابن أبي حاتم(3) وغيره .
وروي تفسير الجمع مرفوعاً بمعنى آخر ، فخرَّج الطبراني وابنُ منده في
كتاب " التوحيد " من حديث مالك بن الحويرث : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله تعالى إذا أرادَ خلقَ عبدٍ ، فجامعَ الرَّجُلُ المرأةَ ، طار ماؤهُ في كلِّ عرقٍ وعضوٍ منها ، فإذا كانَ يومُ السابع جمعه الله ، ثم أحضره كلّ عرق له دونَ آدم(4) : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (5) ، وقال ابن منده : إسناده متصل مشهور على رسم أبي
عيسى والنَّسائي وغيرهما .
__________
(1) في ( ص ) : ( لا إله غيره ) .
(2) أخرجه : أبو بكر الخلال في " السنة " ( 889 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد "
( 1043 ) .
(3) في " تفسيره " ( 13781 ) .
(4) أخرجه الطبراني في" الكبير " 19/( 644 ) وفي " الصغير " ، له ( 100 ) .
(5) الانفطار : 8 .

وخرَّج ابنُ جريرٍ ، وابنُ أبي حاتم ، والطبراني من رواية مُطَهَّرِ بن الهيثم ،
عن موسى بن عُلي(1) بن رباح ، عن أبيه ، عن جدّه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لجدّه : ( يا فلان ، ما وُلِدَ لك ؟ ) قالَ : يا رسول الله ، وما عسى أن يُولَدَ لي ؟ إمّا غلامٌ وإمّا جاريةٌ ، قالَ : ( فمن يشبهُ ؟ ) قال : مَنْ عسى أنْ يُشبه ؟ يشبه أمه أو أباه ، قال : فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقولن كذا ، إنَّ النطفة إذا استقرتْ في الرحم ، أحضرها الله كلّ نسب بينها وبينَ آدم ، أَمَا قرأت هذه الآية : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ
رَكَّبَكَ } ، قال : سلككَ ) (2) وهذا إسناد ضعيف ، ومطهر بن
الهيثم ضعيف جداً(3) ، وقال البخاري : هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن
موسى بن عُلي ، عن أبيه : أنَّ أباه لم يُسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق ، يعني : أنَّه لا صحبة له .
__________
(1) بضم العين مصغراً ، وانظر بلا بدّ شرح التبصرة والتذكرة 2/275 وتعليقي عليه .
(2) أخرجه الطبري في " تفسيره " ( 28342 ) ، وطبعة التركي 24/180 ، وابن أبي حاتم في
" تفسيره " 10/3408 ( 19176 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 4624 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 18/30 .
(3) قال عنه أبو سعيد بن يونس : متروك الحديث . انظر : تهذيب الكمال 7/133 ( 6602 ) ، وميزان الاعتدال 4/129 ( 8596 ) ، والتقريب ( 6713 ) .

ويشهد لهذا المعنى قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له : وَلَدتِ امرأتي غُلاماً أسودَ
: ( لعله نزعه عرق )(1) .
وقوله: ( ثم يكون علقةً مثل ذلك ) يعني : أربعين يوماً ، والعلقة : قطعةٌ من دم .
( ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك ) يعني : أربعين يوماً . والمضغة : قطعة من
لحم .
( ثمَّ يُرسلُ الله إليه المَلَك ، فينفخ فيه الرُّوحَ ، ويؤمر بأربع كلماتٍ : بكتبِ رزقِه وعملهِ وأجلهِ وشقيٌّ أو سعيد ) .
فهذا الحديث يدلُّ على أنَّه يتقلب في مئة وعشرين يوماً ، في ثلاثة أطوار ، في كلّ أربعين منها يكون في طَوْرٍ ، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً ، ثم في الأربعين الثانية علقةً ، ثم في الأربعين الثالثة مضغةً ، ثم بعد المئة وعشرين يوماً ينفخ المَلَكُ فيهِ الرُّوحَ ، ويكتب له هذه الأربع كلمات .
وقد ذكر الله في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّبَ الجنين في هذه الأطوار ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ونُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } (2) .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1084 ) ، وأحمد 2/233 و234 و239 و279 و409 ، والبخاري 7/68 ( 5305 ) و8/215 ( 6847 ) و9/125 ( 7314 )، ومسلم 4/211 ( 1500 ) ( 18 ) و( 19 ) و( 20 ) و4/212 ( 1500 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 2260 )
و( 2261 ) و( 2262 ) ، وابن ماجه ( 2002 ) ، والترمذي ( 2128 ) ، والنسائي 6/178 و179 وفي " الكبرى " ، له ( 5672 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) الحج : 5 .

وذكر هذه الأطوار الثلاثة : النُّطفة والعلقةَ والمضغة في مواضع متعددةٍ من القرآن ، وفي موضع آخر ذكر زيادةً عليها ، فقال في سورة المؤمنين : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1) .
فهذه سبعُ تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابنِ آدمَ قبل نفخ الروح فيه . وكان ابنُ عباس يقول : خُلِقَ ابنُ آدمَ مِنْ سبعٍ ، ثم يتلو هذه الآية ، وسئل عن العزل ، فقرأ هذه الآية ، ثم قال : فهل يخلق أحد حتّى تجري فيه هذه الصفة ؟ وفي رواية عنه قال : وهل تموت نفس حتّى تمر على هذا الخلق(2) ؟(3)
ورُوي عن رفاعة بن رافع قال : جلس إليَّ عمر وعليٌّ والزبير وسعد في نفر(4) مِنْ أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتذاكَروا العزلَ ، فقالوا : لا بأس به ، فقال رجلٌ : إنَّهم يزعمون أنَّها الموؤدةُ الصُّغرى ، فقال علي : لا تكون موؤدةً حتَّى تمرَّ على التَّارات السَّبع : تكون سُلالةً من طين ، ثمَّ تكونُ نطفةً ، ثم تكونُ علقةً ، ثم تكون مضغةً ، ثم تكونُ عظاماً ، ثم تكون لحماً ، ثم تكون خلقاً آخرَ ، فقال عمرُ : صدقتَ ، أطالَ الله بقاءك . رواه الدارقطني في " المؤتلف والمختلف "(5) .
__________
(1) المؤمنون : 13-14 .
(2) في ( ص ) : ( على التارات السبع ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 12570 ) ، والبيهقي 7/230 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عبارة : ( رواه الدارقطني في المؤتلف والمختلف ) سقطت من ( ص ) ، والحديث في
" المؤتلف والمختلف " 2/877 .

وقد رخص طائفةٌ مِنَ الفقهاء للمرأةِ (1) في إسقاط ما في بطنها مالم يُنفخ فيه الرُّوحُ ، وجعلوه كالعزلِ(2) ، وهو قولٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ الجنين ولدٌ انعقدَ ، وربما تصوَّر ، وفي العزل لم يُوجَدْ ولدٌ بالكُلِّيَّةِ ، وإنَّما تسبَّب إلى منع انعقاده ، وقد لا يمتنع انعقادُه بالعزل إذا أراد الله خلقه ، كما قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئِلَ عن العزل : ( لا عليكم أنْ لا تَعزِلُوا ، إنَّه ليسَ مِن نفسٍ منفوسةٍ إلا الله خالقُها )(3) . وقد صرَّح أصحابنا بأنَّه إذا صار الولدُ علقةً(4) ، لم يجز للمرأة إسقاطُه ؛ لأنَّه ولدٌ انعقدَ ، بخلاف النُّطفة ، فإنَّها لم تنعقد بعدُ ، وقد لا تنعقدُ ولداً .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) قال الحنفية : إذا أسقطت جنينها قبل مضي أربعة أشهر ، أي : قبل نفخ الروح فيه فإذا أسقطته في هذه الفترة من عمر الجنين فلا مسؤولية عليها ، ولكن هذه الحالة مقيدة بالعذر عند المحققين منهم .
وقالوا : يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج . انظر : المفصل في أحكام المرأة 5/406-407 ، وقد أشار ابن رجب إلى أنَّه قولٌ ضعيف ؛ لذا فلا يجوز الأخذ به ، ولا يجوز اسقاط الجنين حتى ولو كان عمره أسبوعاً .
(3) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1740 ) برواية يحيى الليثي ، والطيالسي ( 2175 )
و( 2177 ) ، والحميدي ( 746 ) ، وأحمد 3/22 و47 و49 و68 و72 و93 ، والدارمي ( 2229 ) و( 2230 ) ، والبخاري 3/109 ( 2229 ) و5/147 ( 4138 ) و8/153
( 6603 ) و9/148 ( 7409 ) ، ومسلم 4/158 ( 1438 ) ( 125 ) و( 128 )
و( 129 ) و4/159 ( 1438 ) ( 131 ) ، وأبو داود ( 2172 ) ، وابن ماجه ( 1926 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
(4) في ( ص ) : ( إذا كان علقة ) .

وقد ورد في بعض روايات حديث ابن مسعودٍ ذكرُ العظامِ ، وأنَّه يكونُ عظماً أربعين يوماً ، فخرَّج الإمام أحمد(1) من رواية عليِّ بن زيدٍ سمعت أبا عبيدةَ يحدِّثُ قال: قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( إنَّ النُّطفةَ تكونُ في الرَّحم أربعينَ يوماً على حالها لا تغيَّر ، فإذا مضتِ الأربعونَ ، صارت علقةً ، ثمَّ مضغةً كذلك، ثم عظاماً كذلك، فإذا أراد الله أنْ يسوِّي خلقَه، بعث الله إليها ملكاً ) ، وذكر بقية الحديث .
ويُروى من حديث عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعودٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ النطفةَ إذا استقرَّت في الرَّحمِ ، تكونُ أربعينَ ليلةً ، ثم تكونُ علقةً أربعينَ
ليلةً ، ثمَّ تكون مضغة أربعين ليلة (2)، ثم تكونُ عظاماً أربعين ليلةً ، ثم يكسو الله
العظامَ لحماً )(3) .
__________
(1) في " مسنده " 1/374 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ، ثمَّ إنَّ سند الحديث منقطع ؛ فأبو عبيدة لم يسمع من أبيه .
(2) عبارة : ( ثم تكون مضغة أربعين ليلة ) سقطت من ( ج ) .
(3) أخرجه : أبو بكر الخلال في " السنة " ( 892 ) ، وتمام في " فوائده " ( 31 ) ، وإسناده ضعيف لضعف مسلم بن ميمون ويحيى بن عيسى .

ورواية الإمام أحمد تدلُّ على أنَّ الجنين لا يُكسى اللَّحمَ إلاَّ بعد مئةٍ وستِّين
يوماً ، وهذه غلطٌ بلا ريبَ ، فإنَّه بعد مئة وعشرينَ يوماً يُنفخُ فيه الرُّوحُ بلا ريب
كما سيأتي ذكره ، وعلي بنُ زيدٍ : هو ابنُ جُدْعان ، لا يحتجُّ به(1) . وقد ورد في
حديث حذيفة بن أسيدٍ ما يدلُّ على خلقِ اللَّحمِ والعِظام في أوَّلِ الأربعين الثانية ،
ففي "صحيح مسلم" (2) عن حُذيفة بن أسيدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا مرّ بالنُّطفة ثنتان وأربعونَ ليلةً ، بعثَ الله إليها مَلَكاً ، فصوَّرها وخلق سمعها وبصرَها وجِلدَها ولحمَها وعِظامَها، ثُمَّ قال : يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى ؟ فيَقضي ربُّك ما شاءَ ، ويكتبُ الملَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا ربِّ ، أجله ؟ فيقول : ربك ما شاء، ويكتب الملك ، ثُمَّ يقول : يا ربِّ ، رزقُه ؟ فيقضي ربُّك ما شاء ، ويكتُبُ الملَكُ ، ثم يخرُجُ الملكُ بالصَّحيفة في يده فلا يزيد على ما أُمِرَ ولا ينقُصُ ) .
وظاهر هذا الحديث يدلُّ على أنَّ تصويرَ الجنين وخلقَ سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أوَّل الأربعين الثانية ، فيلزمُ من ذلك أنَّ يكون في الأربعين الثانية لحماً وعظاماً .
وقد تأوَّل بعضهم ذلك على أنَّ المَلَك يقسِمُ النُّطفةَ إذا صارت علقةً إلى
أجزاء ، فيجعلُ بعضَها للجلد ، وبعضها للحم ، وبعضها للعظام ، فيقدِّر ذلك كلَّه قبل وجوده . وهذا خلافُ ظاهر الحديث ، بل ظاهرُه أنَّه يصوِّرها ويخلُق هذه الأجزاء كلها ، وقد يكونُ خلقُ ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وُجودِ اللحم والعظام ، وقد يكون هذا في بعض الأجِنَّةِ دُونَ بعض .
__________
(1) انظر : التاريخ الكبير 6/106-107 ( 8460 ) ، والجرح والتعديل 6/240 (1021 ) ، والمجروحين 2/103 ، وميزان الاعتدال 3/127 ( 5844 ) .
(2) 8/45 ( 2644 ) ( 2 ) و8/46 ( 2645 ) ( 4 ) .

وحديث مالكِ بنِ الحويرث المتقدِّم يدلُّ على أنَّ التصويرَ يكونُ للنُّطفة أيضاً في اليوم السابع ، وقد قال الله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } (1) وفسَّرَ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ أمشاجَ النُّطفةِ بالعُروقِ التي فيها(2) . قال ابن مسعود : أمشاجها : عروقها(3) .
وقد ذكر علماء أهل الطبِّ ما يُوافق ذلك ، وقالوا : إنَّ المنيَّ إذا وقعَ في
الرحم ، حصل له زَبَديَّةٌ ورغوةٌ ستَّةَ أيَّامٍ أو سبعة ، وفي هذه الأيام تصوَّرُ النطفةُ مِنْ
غير استمداد من الرحم ، ثم بعدَ ذلك تستمد منه ، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا
بثلاثة أيام ، وقد يتقدَّم يوماً ويتأخَّر يوماً (4)، ثم بعدَ ستة أيام - وهو الخامس عشر من وقت العلوق - ينفُذُ الدم إلى الجميع فيصير علقة، ثم تتميَّز الأعضاءُ تميزاً ظاهراً ، ويتنحَّى بعضُها عن مُماسَّةِ بعضٍ ، وتمتدُّ رطوبةُ النُّخاع ، ثم بعد تسعةِ أيام ينفصلُ
الرأسُ عن المنكبين ، والأطراف عن الأصابع تميزاً يتبين في بعضٍ ، ويخفى في بعضٍ .
قالوا : وأقلّ مدَّة يتصوَّر الذكر فيها ثلاثون يوماً ، والزمان المعتدل في تصوُّرِ الجنين خمسة وثلاثون يوماً(5) ، وقد يتصوَّر في خمسة وأربعين يوماً .
قالوا : ولم يوجد في الأسقاط ذَكَرٌ تَمَّ قبل ثلاثين يوماً ، ولا أنثى قبل أربعين يوماً (6)، فهذا يوافق ما دلَّ عليه حديثُ حذيفةَ بن أسيدٍ في التخليق في الأربعين الثانية ، ومصيره لحماً فيها أيضاً .
__________
(1) الإنسان : 2 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( قال : من أمشاج ) ، وقال زيد بن أسلم : الأمشاج العروق التي في النطفة . انظر : تفسير الطبري ( 27709 ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 27708 ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) من قوله : ( والزمان المعتدل ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(6) في ( ص ) : ( والأنثى قبل الثلاثين يوماً ) .

وقد حَمل بعضُهم حديث ابن مسعود على أنَّ الجنين يغلِبُ عليه في الأربعين الأولى وصفُ المنيّ ، وفي الأربعين الثانية وصفُ العلقة ، وفي الأربعين الثالثة وصفُ المضغة ، وإن كانت خلقته قد تمَّت وتمَّ تصويرُهُ، وليس في حديث ابن مسعود ذكرُ وقتِ تصوير الجنين.
وقد روي عن ابن مسعود نفسِه ما يدلُّ على أنَّ تصويره قد يقعُ قبل الأربعين
الثالثة أيضاً ، فروى الشَّعبيُّ ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : النُّطفة إذا استقرَّتْ
في الرَّحم جاءها مَلَكٌ فأخذها بكفه ، فقال : أي ربِّ ، مخلَّقة أم غير مخلَّقة ؟ فإن
قيل : غير مخلَّقة ، لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام ، وإنْ قيل : مخلَّقة ، قالَ : أي
ربِّ ، أذكرٌ أم أنثى ؟ شقيٌّ أم سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما الأثرُ ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ ؟
قال : فيُقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله ، فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله ،
فيقال : اذهب إلى الكتاب ، فإنك تجد فيه قصة(1) هذه النطفة ، قال : فتُخْلَق ، فتعيش في أجلها وتأكل رزقها ، وتطأ في أثرها ، حتَّى إذا جاء أجلُها ، ماتت ، فدفنت في ذلك ، ثم تلا الشَّعبي هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ } (2) . فإذا بلغت مضغة ، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة ، قذفتها الأرحام دماً ، وإنْ كانت مخلقة نكست نسمة . خرَّجه ابن أبي حاتم وغيره(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( فستجد قصة ) .
(2) الحج : 5 .
(3) في " تفسيره " 8/2474 ( 13781 ) .
وأخرجه الطبري في " تفسيره " ( 18845 ) ، وطبعة التركي 16/461 .

وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أنْ لا تصويرَ قبل ثمانين يوماً ، فروى السُّدِّيُّ ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرَّةَ الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناسٍ من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله - عز وجل - : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } (1) ، قال : إذا وقعتِ النطفة في الأرحامِ ، طارت في الجسد أربعين يوماً ، ثم تكونُ علقةً أربعين يوماً ، ثم تكونُ مضغةً أربعين يوماً ، فإذا بلغ أن تُخلَّق ، بعث الله ملكاً يصوّرها ، فيأتي الملَكُ بترابٍ بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصوِّرها(2) كما يؤمر فيقول : أذكرٌ أو أنثى ؟
أشقيٌّ أو سعيد ؟ وما رزقه ؟ وما عمره ، وما أثره ؟ وما مصائبه ؟ فيقول الله تبارك وتعالى ، ويكتب المَلَك ، فإذا مات ذلك الجسدُ ، دُفِنَ حيثُ أخذ ذلك التراب ، خرَّجه ابن جرير الطبري في " تفسيره "(3) ، ولكن السدي مختلف في أمره(4)
__________
(1) آل عمران : 6 .
(2) من قوله : ( فيأتي الملك بتراب ... ) إلى هنا لم ترد في ( ص ) .
(3) التفسير ( 5159 ) ، وطبعة التركي 5/186-187، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ( 3156 ) ، ومن تخليط محققه أنَّه عزاه لمسلم !!
(4) هو إسماعيل بن عبد الرحمان بن أبي كريمة ، وهو مختلف فيه وهو إلى القوة أقرب ، وهناك شخص آخر يقال له : السُّدّي : هو محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحمان مولى عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب المعروف بالسدّي الصغير ، قال عنه الإمام أحمد : أدركته وقد كبر فتركته ، وقال البخاري : سكتوا عنه ولا يكتب حديثه البتة ، وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : هو ذاهب الحديث ، متروك الحديث ، لا يكتب حديثه البتة ، وقال النسائي : يروي عن الكلبي ، متروك الحديث ، وقال أبو جعفر الطبري : لا يحتج بحديثه ، وقال ابن عدي : الضعف على رواياته بين .

انظر : التاريخ الكبير 1/233 ( 729 ) ، والضعفاء والمتروكين للبخاري ( 340 ) ، وللنسائي ( 538 ) ، والضعفاء الكبير 4/136 ( 1696 ) ، والجرح والتعديل 8/100
( 364 )، والكامل 7/512 ، والأنساب 3/28 ، وميزان الاعتدال 4/32-33 ( 8154 )، والكشف الحثيث ( 728 ) ، وتهذيب التهذيب 9/377-378 ( 6573 ) ، وقد ترجمت للثاني ؛ لأنَّ كثيراً من طلبة العلم يخلطون بينهما .

، وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعهُ الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد(1) ، كما كان هو وغيرُه يُنكرون على الواقدي جمعه الأسانيدَ المتعددة للحديثِ الواحد .
وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية ، وتأوَّلوا حديثَ ابنِ مسعود المرفوع عليها ، وقالوا : أقلُّ ما يتبيَّن فيه(2) خلق الولد أحد وثمانون يوماً ؛ لأنَّه لا يكون مُضغةً إلاّ في الأربعين الثالثة ، ولا يتخلق قبل أنْ يكون مضغةً(3) .
وقال أصحابُنا وأصحابُ الشافعي بناءً على هذا الأصل: إنَّه لا تنقضي العدَّةُ ، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلَّقة(4)
__________
(1) هذه من العلل الخفية التي لا يدركها إلاّ الأئمة النقاد، قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" 2/816 : ( إنَّ الرجل إذا جمع بين حديث جماعة ، وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر =
= ... أنَّ لفظهم لم يتفق فلا يقبل هذا الجمع إلاّ من حافظ متقن لحديثه ، يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك ، وغيره .
وكان الجمع بين الشيوخ ينكر على الواقدي وغيره ممن لا يضبط هذا ، كما أُنكر على ابن إسحاق وغيره . وقد أنكر شعبة أيضاً على عوف الأعرابي ) .
(2) سقطت من ( ج ) .
(3) انظر : فتح الباري 12/595 .
(4) قال عمر بن الخطاب : إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطاً . انظر : المغني لابن قدامة 12/504 .
وقال الحسن : إذا أسقطت أم الولد شيئاً يعلم أنّه حمل عتقت به وصارت أم ولد . انظر : السنن الكبرى للبيهقي 10/348 .

والمخلقة : هي المنتقلة عن اسم النطفة وحدها وصفتها إلى أن خلقها الله - عز وجل - علقة كما في القرآن فهي حينئذٍ ولد مخلق فهي بسقوطه أو ببقاءه أم ولد . انظر : المحلى 10/118، وعند مالك والأوزاعي وغيرهما : المضغة إذا كانت مخلقة أو غير مخلقة تكون الأمة أم ولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن كان قدْ تبين شيء من خلق بني آدم أصبع ، أو عين ، أو غير ذلك فهي أم ولد . انظر : تفسير القرطبي 12/9 .

==========

ج2. كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

، وأقلُّ ما يمكن أنْ يتخلق ويتصوَّر في أحد وثمانين يوماً .
وقال أحمد في العلقة : هي دم لا يستبين فيها الخلقُ ، فإن كانت المضغةُ غيرَ مخلقة ، فهل تنقضي بها العدِّة ، وتصيرُ أمُّ الولد بها مستولدةً ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد(1) ، وإنْ لم يظهر فيها التخطيط ، ولكن كان خفياً لا يعرفه إلا أهل الخبرة مِنَ النِّساء ، فشهِدْن بذلك ، قُبِلَت شهادتُهنَّ ، ولا فرق بين أنْ يكونَ بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ، ونصَّ على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل في الأربعة يتبين خلقه (2).
__________
(1) تنقضي به العدة وتصير به أم ولد على ما نقله حنبل ، ولا تنقضي به العدة ولا تصير به أم ولد ولا يتعلق به شيء من الأحكام على ما نقل أبو طالب والأثرم . وقال الأثرم لأبي عبد الله : أم الولد إذا أسقطت لا تعتق ؟ فقال : إذا تبين فيه يد أو رجل أو شيء من خلقه فقد عتقت ، وهذا قول الحسن والشافعي ، وروى يوسف بن موسى : أن أبا عبد الله قيل له : ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة ؟ قال : تعتق .
انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/213 مسألة ( 157 ) ، والمغني لابن قدامة 12/504 .
(2) في ( ص ) : ( يتبين خلقه في أربعة أشهر ) .

قال الشعبي : إذا نُكِسَ في الخلق الرابع كان مخلقاً ، انقضت به العدة ،
وعتقَتْ به الأمةُ إذا كان لأربعة أشهر(1) ، وكذا نقل عنه حنبل : إذا اسقطت أمُّ الولدِ ، فإنْ كان خِلقة تامة ، عتقَت ، وانقضت به العدةُ إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح ، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه ، وقد قال أحمد في رواية عنه : إذا تبين خلقُه ، ليس فيه اختلاف أنَّها تعتق بذلك إذا كانت
أمةً ، ونقل عنه جماعة أيضاً في العلقة إذا تبيَّن أنَّها ولدٌ أنَّ الأمةَ تُعتق بها ، وهو قولُ النَّخعي ، وحكي قولاً للشافعي ، ومِنْ أصحابِنا من طرَّدَ هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدَّة به أيضاً . وهذا كلُّه مبنيٌّ على أنَّه يمكن التَّخليق في العلقة كما قد يستدلُّ على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدِّم إلاَّ أنْ يقال : حديث حذيفة إنَّما يدلُّ على أنَّه يتخلَّق إذا صار لحماً وعظماً ، وإنَّ ذلك قد يقع في الأربعين الثانية ، لا في حالِ كونِهِ علقةً ، وفي ذلك نظر (2) ، والله أعلم .
وما ذكره الأطباء يدلُّ على أنَّ العلقة تتخلق وتتخطَّط ، وكذلك القوابِل مِنَ النِّسوة يشهدن بذلك ، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال(3) كون الجنين نطفة أيضاً ، والله تعالى أعلم .
وبقي في حديث ابنِ مسعود أنَّ بعدَ مصيره مضغةً أنَّه يُبعث إليه الملَكُ ، فيكتب الكلمات الأربعَ ، ويَنفُخُ فيه الروحَ ، وذلك كلُّه بعد مئة وعشرين يوماً .
__________
(1) انظر : المغني لابن قدامة 12/405 .
(2) عبارة : ( وفي ذلك نظر ) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .

واختلفت ألفاظُ روايات هذا الحديثِ في ترتيب الكتابة والنفخ ، ففي رواية البخاري في " صحيحه " (1) : ( ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلماتٍ ، ثم ينفخ فيه الروح ) ففي هذه الرواية تصريحٌ بتأخُّر نفخ الرُّوح عن الكتابة ، وفي رواية خرّجها البيهقي في كتاب " القدر " (2) : ( ثم يُبعث الملكُ ، فينفخ فيه الروحَ ، ثُمَّ يُؤْمرُ بأربع كلمات ) ، وهذه الرواية تصرِّحُ بتقدم النفخ على الكتابة ، فإما أنْ يكون هذا مِنْ تصرُّف الرُّواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه ، وإمَّا أنْ يكون المرادُ ترتيب الإخبار فقط ، لا ترتيبَ ما أخبر به .
وبكل حالٍ ، فحديثُ ابن مسعود يدلُّ على تأخُّرِ نفخِ الرُّوح في الجنين وكتابة الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتّى تتمَّ الأربعون الثالثة . فأمَّا نفخُ الرُّوح ، فقد روي صريحاً عن الصَّحابة أنَّه إنَّما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهرٍ ، كما دلَّ عليه ظاهرُ حديث ابن مسعود . فروى زيدُ بنُ عليٍّ ، عن أبيه ، عن عليٍّ ، قال : إذا تمَّتِ النُّطفة أربعة أشهر بُعِثَ إليها مَلَكٌ ، فنَفَخَ فيها الروح في الظلمات ، فذلك قولُه تعالى : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } (3) ، خرَّجه ابن أبي حاتم(4) ، وهو إسناد منقطع(5) .
__________
(1) الصحيح 4/135 ( 3208 ) و4/161 ( 3332 ) و9/165 ( 7454 ) .
(2) وفي " السنن الكبرى " 7/441 و10/266 .
(3) المؤمنون : 14 .
(4) كما في " تفسير ابن كثير " 1292 ، و" الدر المنثور " 5/12 ، والمطبوع من " تفسير ابن أبي حاتم " فيه سقط في هذا الموضع .
(5) انظر : فتح الباري 11/591 ، وعلي بن الحسين لم يسمع من جده على بن أبي طالب - رضي الله عنه - .

وخرَّج اللالكائي بإسنادِه عن ابنِ عباس ، قال : إذا وقعت النطفةُ في الرَّحم ، مكثت أربعة أشهر وعشراً ، ثم نفخ فيها الروح ، ثم مكثَت أربعينَ ليلةً ، ثم بُعِثَ إليها ملكٌ ، فنقفها في نُقرة القفا ، وكتب شقياً أو سعيداً(1) ، وفي إسناده نظر(2) ، وفيه أنَّ نفخ الروح يتأخر عن الأربعة أشهر بعشرة أيام .
وبنى الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود ، وأنَّ الطفل يُنفخ فيه الرُّوح بعد الأربعة أشهر ، وأنَّه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر ، صُلِّيَ عليه(3) ؛ حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات . وحكي ذلك أيضاً عن سعيد ابن المسيب(4) وهو أحد أقوال الشافعي وإسحاق(5) ، ونقل غيرُ واحدٍ عن أحمد أنَّه قال : إذا بلغ أربعة أشهر وعشراً(6) ، ففي تلك العشر يُنفخ فيه الروح ، ويُصلَّى عليه . وقال في رواية أبي الحارث عنه : تكون النَّسمةُ نطفةً أربعين ليلةً ، وعلقةً أربعين ليلةً ، ومُضغةً أربعين ليلةً ، ثم تكونُ عظماً ولحماً ، فإذا تمَّ أربعة أشهر وعشراً(7) ، نفخ فيه الروح .
__________
(1) في " أصول الاعتقاد " ( 1060 ) .
(2) فيه محمد بن حميد الرازي ضعيف .
انظر : التاريخ الكبير 1/71 ( 167 ) ، والضعفاء الكبير 4/61 ( 1612 ) ، والمجروحين 2/296 ، وتهذيب الكمال 6/285 ( 5756 ) ، وميزان الاعتدال 3/530 ( 7453 ) ، والتقريب ( 5834 ) .
(3) انظر : المغني لابن قدامة 2/392 .
(4) انظر : فتح الباري 11/591 .
(5) انظر : المغني لابن قدامة 2/392 ، ورؤوس المسائل الخلافية 2/247 مسألة ( 379 ) .
(6) انظر : فتح الباري 11/591 .
(7) سقطت من ( ص ) .

فظاهر هذه الرواية أنَّه لا ينفخ فيه الرُّوح إلاَّ بعد تمام أربعةِ أشهر وعشر ،
كما رُوي عن ابنِ عباس ، والروايات التي قبل هذه عن أحمد إنَّما تدلُّ على أنَّه يُنفخ
فيه الرُّوح في مدَّة العشر بعد تمام الأربعة ، وهذا هو المعروف عنه ، وكذا قال ابن المسيب لمَّا سُئِلَ عن عِدَّةِ الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشراً : ما بال العشر ؟ قالَ : ينفخ فيها الروح .
وأما أهل الطب ، فذكروا أنَّ الجنين إنْ تصوَّر في خمسة وثلاثين يوماً ، تحرَّك في سبعين يوماً، وولد في مئتين وعشرة أيام، وذلك سبعةُ أشهر ، وربَّما تقدَّم أياماً ، وتأخر في التصوير والولادة ، وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يوماً(1) ، تحرَّك في تسعين يوماً ، ووُلد في مئتين وسبعين يوماً ، وذلك تسعةُ أشهرٍ ، والله أعلم .
__________
(1) من قوله : ( تحرك في سبعين يوماً ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .

وأما كتابة الملك ، فحديث ابن مسعود يدلُّ على أنَّها تكونُ(1) بعد الأربعة أشهر أيضاً على ما سبق ، وفي " الصحيحين "(2) عن أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( وكَّلَ الله بالرَّحِم مَلَكاً يقول : أي ربِّ نطفة ، أي ربِّ علقة ، أي ربِّ مضغة ، فإذا أراد الله أنْ يقضي خلقاً ، قالَ : يا ربِّ أذكرٌ أم أنثى ؟ أشقيٌّ أم سعيد ؟ فما الرزقُ ؟ فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه ) وظاهر هذا يُوافق حديث ابن مسعود ؛ لكن ليس فيه تقدير مدة ، وحديث حذيفة بن أسيد الذي تقدم يدلُّ على أنَّ الكتابة تكون في أوَّل الأربعين الثانية ، وخرجه مسلم(3) أيضاً بلفظٍ آخر من حديث حُذيفة بن أسيد يَبلُغُ به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يدخلُ المَلَكُ على النطفة بعد ما تستقرُّ في الرَّحمِ بأربعين أو خمسة وأربعين ليلةً(4)، فيقول : يا ربِّ أشقيٌّ أو سعيد ؟ فيكتبان ، فيقول : أي ربِّ أذكر أو أنثى ؟ فيكتبانِ ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثُمَّ تُطوى الصحفُ ، فلا يزادُ فيها ولا ينقصُ ) .
وفي رواية أخرى لمسلم(5) أيضاً : ( إنَّ النطفة تَقَعُ في الرَّحِم أربعينَ ليلةً ثُمَّ يتسوَّر عليها الملكُ فيقول : يا ربِّ أذكر أم أنثى ؟ ) وذكر الحديثَ . وفي رواية أخرى لمسلم(6) أيضاً : ( لبضع وأربعينَ ليلةً ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 1/87 ( 318 ) و4/162 ( 3333 ) و8/152 ( 6595 ) ، وصحيح مسلم 8/46 ( 2646 ) ( 5 ) .
(3) في " صحيحه " 8/45 ( 2644 ) ( 2 ) .
(4) في ( ص ) : ( يوماً ) .
(5) في " صحيحه " 8/46 ( 2645 ) ( 4 ) .
(6) نفس المصدر السابق .

وفي " مسند الإمام أحمد "(1) من حديث جابر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا استقرَّتِ النطفةُ في الرَّحم أربعين يوماً ، أو أربعين ليلةً بُعِثَ إليها ملكٌ ، فيقول :
يا ربِّ ، شقيٌّ أو سعيد ؟ فيعلم ) .
وقد سبق ما رواه الشَّعبيُّ ، عن علقمة ، عن ابن مسعودٍ من قوله ، وظاهره يدلُّ على أنَّ المَلَكَ يُبعثُ إليه وهو نطفة ، وقد رُوي عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنَّه قالَ : ( إنَّ الله - عز وجل - تُعرَضُ عليهِ كلَّ يومٍ(2) أعمالُ بني آدم ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ ، ثمَّ يُؤتى بالأرحام ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ ، وهو قوله
: { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } (3)، وقوله : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً } (4)، ويُؤْتى بالأرزاق ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ ، وتسبحه الملائكةُ ثلاث ساعاتٍ ، قالَ : فهذا مِنْ شأنِكم وشأنِ ربِّكم(5) ) ولكن ليس(6) في هذا توقيتُ ما يُنظر فيه مِنَ الأرحام بمدَّة .
__________
(1) " المسند " 3/397 ، وإسناده ضعيف لضعف خصيف بن عبد الرحمان الجزري .
(2) عبارة : ( كل يوم ) سقطت من ( ص ) .
(3) آل عمران : 6 .
(4) الشورى : 49 .
(5) أخرجه الطبراني في " الكبير " ( 8886 ) ، وأبو الشيخ في " العظمة " 2/478 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/137 ، وإسناده ضعيف .
(6) في ( ص ) : ( وليس ) بإسقاط ( لكن ) .

وقد رُوي عن جماعة من الصحابة أنَّ الكتابة تكون في الأربعين الثانية ، فخرج اللالكائي(1) بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قالَ : إذا مكثتِ النطفة في رحِم المرأة أربعين ليلةً ، جاءها مَلَكٌ ، فاختلَجَها ، ثُمَّ عرجَ بها إلى الرَّحمان - عز وجل - ، فيقول : اخلُق يا أحسنَ الخالقين ، فيقضي الله فيها ما يشاءُ مِنْ أمره ، ثُمَّ تدفع إلى الملك عندَ ذَلِكَ ، فيقول : يا ربّ أسَقْطٌ أم تام ؟ فيبين له ، ثم يقول : يا ربِّ(2) أناقصُ الأجل أم تام الأجل ؟ فيبين له ، ويقول : يا ربِّ أواحد أم توأم ؟ فيبين له ، فيقول : يا ربّ أذكر أم أنثى(3) ؟ فيبين له ، ثم يقول : يا ربِّ ، أشقيٌّ أم سعيد ؟ فيبين له ، ثم يقول : يا ربِّ اقطع له رزقه ، فيقطع له رزقه مع أجله ، فيهبط بهما جميعاً . فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له .
وخرَّج ابن أبي حاتم(4) بإسناده(5) عن أبي ذر ، قال : إنَّ المني يمكثُ في الرَّحم أربعينَ ليلةً ، فيأتيه مَلَكُ النُّفوس ، فيعرج به إلى الجبَّار - عز وجل - ، فيقول : يا ربّ أذكرٌ أم أنثى ؟ فيقضي الله - عز وجل - ما هو قاضٍ ، ثم يقول : يا ربّ ، أشقيٌّ أم سعيد ؟ فيكتب ما هو لاقٍ بين يديه ، ثم تلا أبو ذر من فاتحة سورة التغابن إلى قوله :
{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (6) .
__________
(1) في " أصول الاعتقاد " ( 1236 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(2) يا رب ) لم ترد في ( ص ) .
(3) من قوله : ( فيبين له ، ويقول : يارب أواحد ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) في " تفسيره " ( 18902 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26489 ) ، وطبعة التركي 23/6 ، والفريابي في "القدر" ( 123 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) لم ترد في ( ص ) .
(6) التغابن : 3 .

وهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أسيدٍ . وقد تقدم عن ابن عباس أنَّ كتابة الملَكِ تكونُ بعدَ نفخِ الروح بأربعين ليلة وأنَّ إسناده فيه نظر .
وقد جمع بعضُهم بين هذه الأحاديث والآثار ، وبينَ حديث ابن مسعود ، فأثبت الكتابة مرَّتين ، وقد يقال مع ذلك : إنَّ إحداهما في السماء والأخرى في بطن الأم، والأظهر - والله أعلم - أنَّها مرَّة واحدة ، ولعلَّ ذلك يختلف باختلاف الأجنَّة، فبعضهم يُكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى ، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة(1) .(2)
وقد يقال : إنَّ لفظة ( ثُمَّ ) في حديث ابن مسعود إنَّما أريد به ترتيب الإخبار ، لا ترتيب المخبر عنه في نفسه(3) ، والله أعلم .
__________
(1) في ( ص ) : ( الثانية ) .
(2) انظر : فتح الباري 11/592 .
(3) انظر : فتح الباري 11/591 .

ومن المتأخرين من رجَّح أنَّ الكتابة تكونُ في أوَّل الأربعين الثانية ، كما دلَّ عليه حديث حذيفة بن أسيد ، وقال : إنَّما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذكر المضغة ، وإنْ ذكرت بلفظ ( ثم ) لئلا ينقطع ذكرُ الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين وهي كونه : نطفة وعلقة ومضغة ، فإنَّ ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجبُ وأحسنُ ، ولذلك أخَّر المعطوف عليها ، وإنْ كان المعطوف(1) متقدماً على بعضها في الترتيب(2) ، واستشهد لذلك بقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } (3) ، والمراد بالإنسان : آدم - عليه السلام -(4)، ومعلومٌ أنَّ تسويته ، ونفخ الرُّوح فيه، كان قبل(5) جعلِ نسلِهِ من سُلالة من ماء مهين ، لكن لما كان المقصود ذكر قدرة الله - عز وجل - في مبدأ خلق آدم وخلق نسله ، عطف أحدهما على الآخر ، وأخَّر ذكرَ تسوية آدم ونفخ الرُّوح فيه ، وإنْ(6) كان ذلك متوسطاً بين خلق آدم من طين وبين خلق نسله ، والله أعلم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في الترتيب ) سقطت من ( ص ) .
(3) السجدة : 7-9 .
(4) انظر : تفسير الطبري ( 21492 ) و( 21493 ) ، وتفسير البغوي 3/595 .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) من قوله : ( لما كان المقصود ذكر ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وقد ورد أنَّ هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين ، ففي " مسند البزار "(1) عن
ابن عمر رضي الله عنهما ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا خلَقَ الله النسمةَ ، قال مَلَكُ
الأرحام : أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى ؟ قالَ : فيقْضِي الله إليه أمره ، ثُمَّ يقول : أي ربِّ
أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فيقضي الله إليه أمره ، ثُمَّ يكتب بَيْنَ عينيه ما هوَ لاقٍ حتَّى النَّكبة يُنكَبُها ) .
وقد رُوي موقوفاً على ابن عمر(2) غير مرفوع ، وحديثُ حذيفةَ بن أسيد المتقدم صريحٌ في أنَّ الملك يكتبُ ذلك في صحيفةٍ ، ولعلَّه يكتب في صحيفة ، ويكتب بين عيني الولد .
وقد روي أنَّه يقترِنُ بهذه الكتابة أنَّه يُخلق مع الجنين ما تضمنته من صفاته القائمة به ، فرُوي عن عائشة، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله إذا أراد أنْ يَخلُق الخلق ، بعث مَلَكاً ، فدخلَ الرَّحِمَ ، فيقول : أي ربِّ ، ماذا ؟ فيقول : غلامٌ أو جاريةٌ أو ما شاء الله أنْ يخلُق في الرحم ، فيقول : أي ربِّ ، أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فيقول : ما شاء الله ، فيقول : يا رب ما أجلُه ؟ فيقول : كذا وكذا ، فيقول : ما خلقه ؟ ما خلائِقُه ؟ فيقول : كذا وكذا ، فما مِنْ شيءٍ إلا وهو يُخْلَقُ معه في الرحم ) . خرَّجه أبو داود في كتاب " القدر " والبزار في " مسنده " (3) .
__________
(1) في " كشف الأستار " ( 2149 ) ، وسنده قويٌّ ، وأخرجه أبو يعلى ( 5775 ) ، وابن حبان ( 6178 ) .
(2) في ( ص ) : ( وقد روي عن ابن عمر ) .
(3) كشف الأستار ( 2151 ) ، وفي إسناده مقال .

وبكل حال ، فهذه الكتابةُ التي تُكتب للجنين في بطن أمِّه غيرُ كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائقِ المذكورة في قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } (1) ، كما في " صحيح
مسلم "(2) عن عبد الله بن عمرو ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله قدَّر مقاديرَ الخلائقِ قبل أن يَخْلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) . وفي حديث عُبادة ابنِ الصَّامت ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أوَّل ما خَلَق الله القلم فقال له : اكتب ، فجرى بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ )(3) .
وقد سبق ذكرُ ما رُوي عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - : أنَّ المَلَكَ إذا سأل عن حالِ النُّطفة ، أُمِر أنْ يذهبَ إلى الكتاب السابق ، ويقال له : إنَّكَ تجِدُ فيه قصَّةَ هذه النُّطفة ، وقد تكاثرت النُّصوص بذكرِ الكتابِ السابقِ ، بالسَّعادة والشقاوة ،
ففي " الصحيحين "(4)
__________
(1) الحديد : 22 .
(2) " الصحيح " 8/51 ( 2653 ) ( 16 ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/317 ، وأبو داود ( 4700 ) ، والترمذي ( 2155 ) و( 3319 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 102 ) و( 103 ) و( 104 ) و(105 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 58 ) و( 59 ) و( 1949 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/248 ، والبيهقي 10/204 ، وهو حديث قويٌّ .
(4) صحيح البخاري 6/211 ( 4945 ) و( 4946 ) و( 4947 ) و6/212 ( 4948 )
و( 4949 ) و8/59 ( 6217 ) و8/154 ( 6607 ) و9/195 ( 7552 ) ، وصحيح مسلم 8/46 ( 2647 ) ( 6 ) و8/47 ( 2647 ) ( 7 ) .

وأخرجه : أحمد 1/82 و129 و132 و140 و157 ، وعبد بن حميد ( 84 ) ، وأبو داود
( 2694 ) ، وابن ماجه ( 78 ) ، والترمذي ( 2136 ) و( 3344 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 11687 ) و( 11679 ) وفي " تفسيره " ( 698 ) ( 699 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 29019 ) ، وابن حبان ( 334 ) و( 335 ) والبغوي ( 72 ) . من طرق عن علي بن أبي طالب ، به .

عن عليِّ بن أبي طالب ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( ما مِنْ نفسٍ منفوسةٍ إلاَّ وقد كتب الله(1) مكانَها من الجنَّة أو النار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة ) ، فقال رجل : يا رسولَ الله ، أفلا نمكُثُ على كتابنا ، وندعُ العمل ؟ فقالَ : ( اعملوا ، فكلٌّ ميسَّر لما خُلِقَ لهُ ، أمَّا أهلُ السَّعادة ، فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهلُ الشقاوة ، فييسرون لعمل أهل الشَّقاوة ) ، ثم قرأ
: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } (2) .
ففي هذا الحديث أنَّ السعادة والشقاوة قد سبقَ الكتابُ بهما ، وأنَّ ذلك مُقدَّرٌ بحسب الأعمال ، وأنَّ كلاًّ ميسر لما خُلق له من الأعمال التي هي سببٌ للسعادة أو الشقاوة .
وفي " الصحيحين " (3) عن عمرانَ بن حُصينٍ ، قال : قال رجل :
يا رسول الله ، أيُعرَفُ أهلُ الجَنَّةِ مِنْ أهلِ النَّارِ ؟ قالَ : ( نَعَمْ ) ، قالَ : فَلِمَ يعملُ العاملونَ ؟ قال : ( كلٌّ يعملُ لما خُلِقَ له ، أو لما ييسر له ) .
وقد روي هذا المعنى عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرةٍ ، وحديث ابن مسعود فيه أنَّ السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال .
__________
(1) زاد بعد لفظ الجلالة في ( ص ) : ( لها ) .
(2) الليل : 5 .
(3) صحيح البخاري 8/152 ( 6596 ) ، وصحيح مسلم 8/48 ( 2649 ) ( 9 ) .
وأخرجه : أحمد 4/431 ، وأبو داود ( 4709 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 412 ) ، وابن حبان ( 333 ) من حديث عمران بن حصين ، به .

وقد قيل : إنَّ قوله في آخر الحديث ( فوالله(1) الَّذي لا إله غيره ، إنَّ أحدَكم ليَعمَلُ بعملِ أهل الجنَّة ) إلى آخر الحديث مُدرَجٌ من كلام ابن مسعود ، كذلك رواه سلمة بنُ كهيلٍ ، عن زيد بنِ وهب ، عن ابن مسعودٍ من قوله(2) ، وقد رُوي هذا المعنى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة أيضاً .
وفي " صحيح البخاري "(3) عن سهلِ بنِ سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّما الأعمالُ بالخواتيم ) .
وفي " صحيح ابن حبان " (4) عن عائشة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما الأعمالُ بالخواتيم ) .
وفيه أيضاً عن معاوية قال : سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّما الأعمال
بخواتيمها ، كالوعاء ، إذا طابَ أعلاه ، طاب أسفَلُه وإذا خَبُثَ أعلاه ، خَبُثَ
أسفلُه )(5) .
وفي " صحيح مسلم " (6)
__________
(1) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/414 ، وانظر : فتح الباري 11/592 .
(3) الصحيح 8/128 ( 6493 ) و8/155 ( 6607 ) .
(4) الإحسان ( 340 ) ، وإسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد .
(5) الإحسان ( 339 ) و( 392 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 596 ) ، وأحمد 4/94 ، وابن ماجه ( 4199 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 866 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 608 ) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/162 ، من حديث معاوية ، به ، وسنده جيد .
(6) الصحيح 8/49 ( 2651 ) ( 11 ) .

وأخرجه : أحمد 2/484 ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 218 ) ، وابن حبان ( 6176 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2469 ) من حديث أبي هريرة ، به .

عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرَّجُل ليعمل الزمانَ الطويلَ بعملِ أهلِ الجنَّةِ ، ثم يُختم له عملُه بعمل أهل النار ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ الزمانَ الطويلَ بعمل أهل النارِ ، ثم يُختم له عمله بعملِ أهل
الجنةِ ) .
وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث أنسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا عَلَيكُم أنْ لا تَعْجَبوا بأحدٍ حتّى تنظروا بم يُختم له ، فإنَّ العاملَ يعملُ زماناً من عمره ، أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ ، لو مات عليه دخل الجنةَ ، ثم يتحوَّلُ ، فيعملُ عملاً سيِّئاً ، وإنَّ العبدَ ليعمل البُرهة من دهره بعملٍ سيِّءٍ ، لو مات عليه دخلَ النارَ، ثم يتحوَّل فيعملُ عملاً صالحاً (2) ) .
وخرَّج أيضاً من حديث عائشة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة ، وهو مكتوبٌ في الكتابِ من أهل النار ، فإذا كانَ قبل موتِهِ تحوَّل ، فعملَ بعمل أهل النارِ ، فماتَ ، فدخل النارَ ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ ، وإنَّه لمكتوبٌ في الكتاب من أهلِ الجنَّة ، فإذا كان قَبْلَ موته تحوَّل ، فعمل بعمل أهلِ الجنَّة ، فماتَ فدخلها )(3) .
__________
(1) في " مسنده " 3/120 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 4393 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 393 ) و( 394 )
و( 395 ) و( 396 ) ، وأبو يعلى ( 3840 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " ( 1979 )
و( 1980 ) و( 1981 ) وهو حديث صحيح .
(2) زاد بعدها في ( ص ) .
(3) في " مسنده " 6/107 و108 .
... وأخرجه : عبد بن حميد ( 1500 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 252 ) ، وأبو
يعلى ( 4668 ) ، وابن حبان ( 346 ) ، والخطيب في "تاريخه " 11/356 ، وهو حديث صحيح .

وخرَّج أحمد ، والنسائيُّ ، والترمذيُّ(1) من حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو قال : خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابانِ، فقال : ( أتدرون ما هذان الكتابان ؟ ) ، فقلنا : لا يا رسول الله ، إلاّ أنْ تُخْبِرنا ، فقالَ للذي في يده اليمنى : ( هذا كتابٌ مِنْ ربِّ العالمين ، فيهِ أسماءُ أهلِ الجنَّةِ ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثُمَّ أُجْمِل على آخرهم ، فلا يُزاد فيهم ، ولا يُنقصُ منهم أبداً ) ، ثُمَّ قالَ للذي في شماله : ( هذا كتابٌ من ربِّ العالمين فيهِ أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثُمَّ أُجْمل على آخرهم ، فلا يُزاد فيهم ولا يُنقصُ منهم أبداً ) ، فقالَ أصحابُه : ففيم العملُ
يا رسولَ الله إنْ كانَ أمراً قد فُرِغَ منه ؟ فقال : ( سَدِّدُوا وقاربوا ، فإنَّ
صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة ، وإنَّ عمل أيّ عملٍ ، وإنَّ صاحب النّار يُختم له بعمل أهل النار ، وإنْ عمل أيَّ عملٍ(2) ) ، ثُمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما ، ثم قال : ( فَرَغَ ربُّكم مِنَ العباد : فريقٌ في الجنة ، وفريقٌ في
السَّعير )(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( وخرج الإمام أحمد والترمذي ) .
(2) في ( ص ) : ( ولو عمل كل عمل ) .
(3) أخرجه :أحمد 2/167 ، والترمذي ( 2141 ) و( 2141 ) م ، والنسائي في " الكبرى "
( 11473 ) وفي " التفسير " ، له ( 493 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 23645 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 348 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/168 ، وهذا الحديث صححه الترمذي على أن فيه مقالاً من أجل أبي قبيل حيي بن هانىء قال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة 1/853 : ( إنَّه كان يكثر النقل عن الكتب القديمة ) ، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 2/684 عن هذا الحديث : ( هو حديث منكر جداً ) .

وقد روي هذا الحديثُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة ، وخرَّجه الطبراني(1) من حديث علي بن أبي طالب ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد فيه : ( صاحبُ الجنَّةِ مختومٌ له بعمل أهل الجنة ، وصاحبُ النارِ مختومٌ له بعملِ أهلِ النارِ وإنْ عمل أيَّ عمل ، وقد يُسلك بأهلِ السعادةِ طريق أهلِ الشقاء حتّى يقالَ: ما أشبههم بهم، بل هم(2) منهم ، وتُدركهم السعادةُ فتستنقذُهم ، وقد يسلكُ بأهلِ الشقاءِ طريق أهلِ السعادةِ حتّى يقالَ : ما أشبههم بهم بل هم منهم ويُدركهم الشقاء ، مَنْ كتبه الله سعيداً في أمِّ الكتابِ لم يُخرجه منَ الدنيا حتى يستعمِلَه بعملٍ يُسعِدُه قبلَ موتِهِ ولو بفَواقِ
ناقة(3) ) ، ثُمَّ قالَ : ( الأعمالُ بخواتيمها ، الأعمالُ بخواتيمها ) . وخرَّجه البزار في "مسنده " (4) بهذا المعنى أيضاً من حديث ابن عمر عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) في " الأوسط " ( 5219 ) ، وإسناده ضعيف لضعف حماد بن واقد الصفار ، انظر : مجمع الزوائد 7/216 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) هو ما بين الحلبتين من الراحة . " النهاية " 3/479 .
(4) " المسند " ( 2156 ) .
وأخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1088 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ لشدة ضعف عبد الله بن ميمون القداح ، انظر : مجمع الزوائد 7/212 .

وفي " الصحيحين " (1) عن سهل بن سعد : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون وفي أصحابه رجلٌ لا يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتبعها يَضرِبُها بسيفه ، فقالوا : ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلانٌ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو من أهل النار ) ، فقال رجلٌ من القوم : أنا صاحبُه ، فأتَّبعه ، فجُرِحَ الرجل جرحاً شديداً ، فاستعجلَ الموتَ ، فوضعَ نصلَ سيفه على الأرض وذُبَابَه بينَ ثدييه ، ثُمَّ تحامل على سيفه فقتل نفسه ، فخرج الرجلُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أشهد أنَّك رسولُ الله ،
وقصَّ عليه القصةَ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهلِ الجنَّةِ
فيما يبدو للنَّاس وهو منْ أهلِ النار ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهلِ النارِ فيما يبدو للناس ، وهو منْ أهلِ الجنةِ ) زاد البخاري(2) في رواية له : ( إنَّما الأعمالُ
بالخواتيم ) .
وقوله : ( فيما يبدو للناس ) إشارةٌ إلى أنَّ باطنَ الأمر يكونُ بخلافِ ذلك ، وإنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس ، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت ، وكذلك قد يعمل الرجلُ عملَ أهل النَّارِ وفي باطنه خصلةٌ خفيةٌ من خصال الخير ، فتغلب عليه تلكَ الخصلةُ في آخر عمره ، فتوجب له حسنَ الخاتمة .
قال عبد العزيز بن أبي روَّاد : حضرت رجلاً عند الموت يُلَقَّنُ لا إله
إلا الله ، فقال في آخر ما قال : هو كافرٌ بما تقول ، ومات على ذلك ، قال : فسألتُ عنه ، فإذا هو مدمنُ خمرٍ . فكان عبد العزيز يقول : اتقوا الذنوب ، فإنَّها هي التي أوقعته .
__________
(1) صحيح البخاري 4/44 ( 2898 ) و5/168 ( 4203 ) و5/170 ( 4207 ) ، وصحيح مسلم 1/74 ( 112 ) ( 179 ) و8/49 ( 112 ) ( 12 ) .
(2) في " صحيحه " 8/128 ( 6493 ) و8/155 ( 6607 ) .

وفي الجملة : فالخواتيم ميراثُ السوابق ، وكلُّ ذلك سبق في الكتاب السابق ، ومن هنا كان يشتدُّ خوف السَّلف من سُوءِ الخواتيم ، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق .
وقد قيل : إنَّ قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم ، يقولون : بماذا يختم لنا ؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق ، يقولون : ماذا سبق لنا .
وبكى بعضُ الصحابة عند موته ، فسئل عن ذلك ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الله تعالى قبضَ خلقَهُ قبضتين ، فقال : هؤلاء في الجنَّةِ ، وهؤلاء في النار ) ، ولا أدري في أيِّ القبضتين كنت .(1)
قال بعض السَّلف : ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق .
وقال سفيانُ لبعض الصالحين : هل أبكاك قطُّ علمُ الله فيك ؟ فقال له ذلك الرجل : تركتني لا أفرحُ أبداً . وكان سفيان يشتدُّ قلقُهُ من السوابق والخواتم ، فكان يبكي ويقول : أخاف أنْ أكون في أمِّ الكتاب شقياً(2) ، ويبكي ويقول : أخافُ أنْ أسلبَ الإيمانَ عند الموت .
وكان مالك بنُ دينار يقومُ طُولَ ليلهِ قابضاً على لحيته ، ويقول : يا ربِّ ، قد علمتَ ساكنَ الجنة من ساكن النار ، ففي أيِّ الدارين منْزلُ مالك ؟(3)
__________
(1) حديث صحيح أخرجه: أحمد 4/176 و5/68 من طريق سعيد الجريري، عن أبي نضرة، به.
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2142 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
وأخرجه : أبو يعلى ( 3422 ) بنحوه من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/51 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/383 .

قال حاتمٌ الأصمُّ : مَنْ خلا قلبُه من ذكر أربعة أخطار(1) ، فهو مغترٌّ ، فلا يأمن الشقاء : الأوَّل : خطرُ يوم(2) الميثاق حين قال : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ، فلا يعلم في أيِّ الفريقين كان ، والثاني : حين خلق في ظلمات ثلاث ، فنودي الملك بالسعادة والشَّقاوة ، ولا يدري : أمن الأشقياء هو أم منَ السعداء ؟ والثالث : ذكر هول المطلع ، فلا يدري أيبشر برضا الله أو بسخطه ؟ والرابع : يوم يَصدُرُ الناس أشتاتاً ، ولا يدري ، أيّ الطريقين يُسلك به .
وقال سهل التُّستريُّ : المريدُ يخافُ أنْ يُبتلى بالمعاصي ، والعارف يخافُ أنْ يُبتلى بالكُفر .
ومن هنا كان الصحابة ومَنْ بعدهم منَ السَّلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزَعُهم منه ، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغرَ ، ويخاف أنْ يغلب ذلك عليه عندَ الخاتمة ، فيخرجه إلى النفاق الأكبر ، كما تقدم أنَّ دسائس السوء الخفية تُوجِبُ سُوءَ الخاتمة ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أنْ يقول في دعائه : ( يا مقلِّب القلوب ثبتْ قلبي على دينكَ ) فقيل له : يا نبيَّ الله آمنا بك وبما جئتَ به ، فهل تخافُ علينا ؟ فقال : ( نعم ، إنَّ القُلوبَ بينَ أصبعين منْ أصابع الله - عز وجل - يُقلِّبها كيف يشاء ) خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس(3)
__________
(1) في ( ص ) : ( من ذكر الله تعالى فهو متعرض لأربعة أخطار ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/112 و257 ، والترمذي ( 2140 ) .

وأخرجه : البخاري في " الادب المفرد " ( 683 ) ، وابن ماجه ( 3834 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 225 ) ، وأبو يعلى ( 3687 ) و( 3688 ) ، والطبري في " تفسيره " (5229 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 759 ) ، والآجري في " الشريعة " : 317 ، والحاكم 1/526 ، وأبو نعيم في "الحلية " 8/122 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 757 ) ، والبغوي ( 88 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " ( 2222 ) و( 2223 ) و( 2224 )
و( 2225 ) . من حديث أنس بن مالك ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وقال الترمذي : ( حسن ) .

.
وخرج الإمام أحمد(1) والترمذي (2) من حديث أمِّ سلمة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثِرُ في دعائه أنْ يقول : ( اللهُمَّ يا (3) مقلِّبَ القلوب ، ثبت قلبي على دينك ) ، فقلت : يا رسول الله ، أو(4) إنَّ القلوب لتتقلَّبُ ؟ قال : ( نعم ، ما من خلق الله تعالى من بني آدم من بشر إلاّ أنَّ قلبه بين أصبعين مِنْ(5) أصابع الله ، فإنْ شاءَ الله - عز وجل - أقامه ، وإنْ شاء أزاغه ، فنسألُ الله ربَّنا أنْ لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسألهُ أنْ يهب لنا من لدُنه رحمةً إنَّه هو الوهَّاب ) ، قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تُعَلِّمني دعوةً أدعو بها لنفسي ؟ قال : ( بلى ، قولي : اللهمّ ربَّ النبيِّ محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجِرْني من مضلاَّتِ الفتن ما أحييتني ) ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
وخرَّج مسلم(6)
__________
(1) في " مسنده " 6/294 و302 و315 .
وأخرجه : الطيالسي ( 1608 ) ، وعبد بن حميد ( 1534 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 223 ) و( 232 ) ، وأبو يعلى ( 6919 ) ( 6920 ) و( 6986 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 5227 ) و( 5233 ) ، والطبراني في " الكبير " 23/( 772 ) و( 785 )
و( 865 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1257 ) و( 1258 ) ، والآجري في " الشريعة " : 316 . من حديث أم سلمة ، به .
(2) والترمذي ) لم يرد في ( ج ) ، والحديث في جامعه برقم ( 3522 ) ، وقال : ( حديث حسن ) على أن في سند الحديث شهر بن حوشب ضعيف .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) في ( ص ) : ( أرى ) .
(5) عبارة ( أصبعين من ) سقطت من ( ص ) .
(6) في " صحيحه " 8/51 ( 2654 ) ( 17 ) .

وأخرجه : أحمد 2/168 و173 ، وعبد بن حميد ( 348 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 222 ) و( 231 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7739 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 5232 ) ، وابن حبان ( 902 ) ، الآجري في " الشريعة " : 316 من حديث عبد الله بن عمرو ، به .

من حديث عبد الله بن عمرو : سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
( إنَّ قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمان - عز وجل - كقلبٍ واحدٍ يصَرِّفُه حيث يشاء ) ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهُمَّ يا (1) مُصرِّفَ القلوبِ ، صرِّف قلوبنا على طاعتك ) .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .


الحديث الخامسعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ : قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذا ما لَيس مِنهُ فَهو رَدٌّ ) رَواهُ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ (1)، وفي رِوايةٍ لِمُسلِمٍ
: ( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنا فَهو رَدٌّ ) .
هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين "(2) من حديث (3) القاسم بن محمد ، عن عمته عائشة - رضي الله عنها - ، وألفاظ الحديث مختلفة ، ومعناها متقارب ، وفي بعض ألفاظه : ( مَنْ أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ ) .
وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أُصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال(4) في ظاهرها كما أنّ حديث : ( الأعمال بالنيَّات ) ميزان للأعمال في باطِنها ، فكما أنَّ(5) كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى ، فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردودٌ على عامله(6) ، وكلُّ مَنْ أحدثَ في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله ، فليس مِنَ الدين في شيء .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 3/241 ( 2697 ) ، وصحيح مسلم 5/132 ( 1718 ) ( 17 )
و( 18 ) .
وأخرجه : أحمد 6/73 و146 و240 و256 و270 ، وأبو داود ( 4606 ) ، وابن ماجه
( 14 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 52 ) و( 53 ) ، وأبو يعلى ( 4594 ) ، وابن حبان ( 26 ) و( 27 ) ، والدارقطني 4/224 و225 و227 ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/173 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 359 ) و( 360 ) و( 361 ) ، والبيهقي 1/119، والبغوي في " شرح السنة " ( 103 ) من طريق القاسم بن محمد ، عن عائشة ، به .
(3) في ( ص ) : ( رواية ) .
(4) في ( ص ) : ( للإسلام وللأعمال ) .
(5) من قوله : ( كما أن حديث ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) عبارة : ( على عامله ) سقطت من ( ص ) .

وسيأتي حديثُ العِرباض بن ساريةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مَنْ يعش منكم بعدي(1) ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتِي وسنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشدين المهديِّين من بعدي(2) ، عَضُّوا عليها بالنواجِذ ، وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كُلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ (3) ضلالةٌ )(4) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : ( أصدقُ الحديثِ كتابُ اللهِ ، وخيرُ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها )(5) وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها.
فهذا الحديث يدلُّ بمنطوقه على أنَّ كلَّ عملٍ ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ، ويدلُّ بمفهومه على أنَّ كلَّ عمل عليه أمره ، فهو غير مردود ، والمراد بأمره هاهنا : دينُه وشرعُه ، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ (6) ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من بعدي ) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( بدعة وكل بدعة ) سقطت من ( ص ) .
(4) سيأتي عند الحديث الثامن .
(5) أخرجه : أحمد 3/310 و319 و371 و، والدارمي ( 212 ) ، ومسلم 3/11 ( 867 )
( 43 ) و( 44 ) و( 45 ) ، وأبو داود ( 2954 ) ، وابن ماجه ( 45 ) ، والنسائي 3/58 و188 وفي " الكبرى " ، له ( 1786 ) و( 5892 ) ، وأبو يعلى ( 2111 ) ، وابن الجارود
( 297 ) و( 298 ) ، وابن خزيمة ( 1785 ) ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 3/328
( 3131 ) و3/329 ( 3132 ) ، وابن حبان ( 10 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/189 ، والبيهقي 3/206-207 و3/213 و214 من طريق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، به .
(6) فهو رد ) سقطت من ( ج ) .

فالمعنى إذاً (1) : أنَّ مَنْ كان عملُه خارجاً عن الشرع ليس(2) متقيداً بالشرع ، فهو مردود .
وقوله : ( ليس عليه أمرنا ) إشارةٌ إلى أنَّ أعمال العاملين كلهم ينبغي أنْ تكون تحتَ أحكام الشريعة، وتكون أحكام(3) الشريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها ، فمن كان عملُه جارياً تحت أحكام الشرع ، موافقاً لها ، فهو مقبولٌ ، ومن كان خارجاً عن ذلك ، فهو مردودٌ .
والأعمال قسمان : عبادات ، ومعاملات .
فأما العبادات ، فما كان منها خارجاً عن حكم(4) الله ورسوله بالكلية ، فهو مردود على عامله ، وعامله يدخل تحت قوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله } (5) ، فمن تقرَّب إلى الله بعمل ، لم يجعله الله ورسولُه قربة إلى الله ، فعمله باطلٌ مردودٌ عليه ، وهو شبيهٌ بحالِ الذين كانت صلاتُهم عندَ البيت مُكاء وتصدية ، وهذا كمن تقرَّب إلى الله تعالى بسماع الملاهي ، أو بالرَّقص ، أو بكشف الرَّأس في غير الإحرام ، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسولُه التقرُّب بها بالكلية .
وليس ما كان قربة في عبادة يكونُ قربةً في غيرها مطلقاً ، فقد رأى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قائماً في الشمس ، فسأل عنه ، فقيل : إنَّه نذر أنْ يقوم ولا يقعدَ ولا يستظلَّ وأنْ يصومَ ، فأمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقعُدَ ويستظلَّ ، وأنْ يُتمَّ صومه(6) فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربةً يُوفى بنذرهما .
__________
(1) في ( ص ) : ( فالمراد ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) وتكون أحكام ) سقطت من ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( أمر ) .
(5) الشورى : 21 .
(6) أخرجه : البخاري 8/178 ( 6704 ) ، وأبو داود ( 3300 ) ، وابن ماجه ( 2136 ) ، وابن الجارود ( 938 ) ، وابن حبان ( 4385 ) ، والدارقطني 4/161 ، والبيهقي 10/75 ، والبغوي ( 2443 ) من حديث ابن عباس .

وقد روي أنَّ ذلك كان في يوم جمعة عندَ سماع خطبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر، فنذر أنْ يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ما دامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ(1) ، إعظاماً لسماع خطبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2)، ولم يجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك قربةً تُوفى بنذره ، مع أنَّ القيام عبادةٌ في مواضعَ أُخَر ، كالصلاةِ والأذان والدعاء(3) بعرفة ، والبروز للشمس قربةٌ للمحرِم ، فدلَّ على أنَّه ليس كلُّ ما كان قربة في موطنٍ يكون قربةً في كُلِّ المواطن(4) ، وإنَّما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعةُ في مواضعها .
وكذلك من تقرَّب بعبادة نُهِيَ عنها بخصوصها ، كمن صامَ يومَ العيد ، أو صلَّى في وقت النهي .
__________
(1) أخرجه : الطحاوي في "شرح المشكل" ( 3971 ) ( تحفة الأخيار ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11871 ) ، والخطيب في " الأسماء المبهمة " : 274 من حديث ابن عباس ، وسنده قويٌّ .
(2) في ( ص ) : ( إعظاماً لخطبته - صلى الله عليه وسلم - ) .
(3) في ( ص ) : ( والقيام ) .
(4) في ( ص ) : ( في غيره من المواطن ) .

وأمَّا من عمل عملاً أصلُه مشروعٌ وقربةٌ ، ثم أدخلَ فيه ما ليس بمشروع ، أو أخلَّ فيه بمشروع ، فهذا مخالفٌ أيضاً للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به ، أو إدخاله ما أدخلَ فيه ، وهل يكونُ عملُه من أصله مردوداً عليه أم لا ؟ فهذا لا يُطلق القولُ فيه بردٍّ ولا قَبولٍ ، بل يُنظر فيه : فإنَّ كان ما أخلَّ به من أجزاء العمل أو شروطه موجباً لبطلانه في الشريعة ، كمن أخلَّ بالطهارة للصلاة مع القُدرة عليها(1) ، أو كمن أخلَّ بالرُّكوع ، أو بالسجود ، أو بالطُّمأنينة فيهما ، فهذا عملُه مردودٌ عليه ، وعليه إعادتُه إنْ كان فرضاً(2) ، وإنْ كان ما أخلَّ به لا يُوجِبُ بُطلانَ العمل ، كمن أخلَّ بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يُوجِبُها ولا يجعلُها شرطاً ، فهذا لا يُقالُ : إنَّ عمله مردودٌ من أصله ، بل هو ناقصٌ .
__________
(1) انظر : المحلى 2/45 .
(2) انظر : المحلى 4/16 .

وإنْ كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع ، فزيادته مردودةٌ عليه ، بمعنى أنَّها لا تكونُ قربةً ولا يُثابُ عليها ، ولكن تارة يبطُلُ بها العمل من أصله ، فيكون مردوداً ، كمن زاد في صلاته ركعةً عمداً مثلاً(1) ، وتارةً لا يُبطله ، ولا يردُّه من أصله ، كمن توضأ أربعاً أربعاً ، أو صام الليل مع النهار ، وواصل في صيامه ، وقد يبدَّلُ بعض ما يُؤمر به في العبادة بما هو منهيٌّ عنه ، كمن ستر عورتَه في الصَّلاة بثوب مُحرَّم ، أو تؤضَّأ للصلاة بماءٍ مغصُوبٍ ، أو صلَّى في بُقعةٍ غَصْبٍ ، فهذا قد اختلفَ العُلماءُ فيه : هل عملُه مردودٌ من أصله ، أو أنَّه غير مردود ، وتبرأ به الذِّمَّةُ من عُهدة الواجب ؟ وأكثرُ الفُقهاء على أنَّه ليس بمردود من أصله ، وقد حكى
عبدُ الرحمان بنُ مهدي ، عن قومٍ من أصحاب الكلامِ يقال لهم : الشِّمريَّة أصحاب أبي شمر أنَّهم يقولون : إنَّ من صلَّى في ثوبٍ كان في ثمنه درهمٌ حرامٌ أنَّ عليه إعادة صلاته ، وقال : ما سمعتُ قولاً أخبثَ مِن قولهم ، نسأل الله العافية(2) ،
وعبد الرحمان بنُ مهدي من أكابر فُقهاء أهل الحديث المطَّلعين على مقالات
السَّلف ، وقد استنكر هذا القول وجعله بدعةً ، فدلَّ على أنَّه لم يُعلم عن أحدٍ من السَّلف القولُ بإعادة الصَّلاة في مثل هذا .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/9 .

ويشبه هذا الحجُّ بمالٍ حرامٍ ، وقد ورد في حديثٍ أنَّه مردودٌ على صاحبه(1) ، ولكنَّه حديث لا يثبت ، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا ؟
وقريب من ذلك الذَّبحُ بآلة محرَّمة ، أو ذبحُ مَنْ لا يجوزُ له الذبحُ، كالسارق ، فأكثرُ العلماء قالوا : إنَّه تُباح الذبيحة بذلك ، ومنهم من قال : هي محرَّمةٌ ، وكذا الخلاف في ذبح المُحْرِم لِلصَّيدِ ، لكن القول بالتَّحريم فيه أشهرُ وأظهرُ ؛ لأنَّه منهيٌّ عنه بعينه .
ولهذا فرَّق مَنْ فرَّق مِنَ العُلماء بين أنْ يكون النَّهيُ لمعنى يختصّ بالعبادة فيبطلها ، وبين أنْ لا يكون مختصاً بها فلا يبطلها ، فالصلاة بالنجاسة ، أو بغير طهارة ، أو بغير ستارة ، أو إلى غير القبلة يُبطلها ، لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب ، ويشهدُ لهذا أنَّ الصيام لا يبطله إلاَّ ارتكابُ ما نهي عنه فيه بخصوصه ، وهو جنسُ الأكل والشرب والجماع ، بخلاف ما نهي عنه الصائم ، لا بخصوص الصيام ، كالكذب والغيبة عند الجمهور .
__________
(1) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1079 )، والطبراني في " الأوسط " ( 5228 ) من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من أمَّ هذا البيت من الكسب الحرام شَخَصَ في غير طاعة الله ، فإذا أهل ووضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته وقال : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام ، وزادك حرام ، وراحلتك حرام ، فارجع مأزوراً غير مأجور ، وأبشر بما يسوؤك ، ….. ) . بلفظ البزار . وهذا الحديث في إسناده سليمان بن داود اليماني ، قال البزار عقيب الحديث : ( الضعف بينِّ على أحاديث سليمان ، ولا يتابعه عليها أحد وهو ليس بالقوي ) . وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/209-210 وقال : ( فيه سليمان بن داود اليماني وهو ضعيف ) .

وكذلك الحجُّ لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام ، وهو الجماعُ ، ولا يبطله ما لا يختصُّ بالإحرام من المحرَّمات(1) ، كالقتل والسرقة وشرب الخمر .
وكذلك الاعتكافُ : إنَّما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه ، وهو
الجماعُ ، وإنَّما يبطل بالسُّكر عندنا وعند الأكثرين ، لنهي السَّكران عن قربان المسجد ودخوله على أحدِ التأويلين في قوله تعالى : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } (2) أنَّ المرادَ مواضع الصلاة ، فصار كالحائض ، ولا يبطلُ الاعتكافُ بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا وعندَ كثيرٍ من العلماء ، وقد(3) خالف في ذلك
طائفةٌ من السَّلف ، منهم : عطاء والزُّهري والثوري ومالك ، وحُكي عن غيرهم أيضاً .
__________
(1) عبارة : ( من المحرمات ) سقطت من ( ص ) .
(2) النساء : 43 .
(3) في ( ج ) : ( وإن ) .

وأمَّا المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما ، فما كان منها تغييراً للأوضاع الشرعية ، كجعل حدِّ الزِّنى عقوبةً مالية ، وما أشبه ذلك ، فإنَّه مردودٌ من أصله ، لا ينتقل به الملكُ ؛ لأنَّ هذا غيرُ معهود في أحكام(1) الإسلام ، ويدلُّ على ذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله : إنَّ ابني كان عسيفاً على فلان ، فزنى بامرأته ، فافتديتُ
منه بمئة شاةٍ وخادم ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( المئة شاة والخادم ردٌّ عليكَ ، وعلى ابنك
جَلدُ مئة ، وتغريبُ عام )(2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2379 ) برواية يحيى الليثي ، والشافعي في " مسنده "
( 1574 ) بتحقيقي ، والبخاري 8/161 ( 6633 ) و( 6634 ) و8/214 ( 6842 )
و( 6843 ) ، وأبو داود ( 4445 ) ، والترمذي ( 1433 ) ، والنسائي 8/240-241 وفي " الكبرى " ، له ( 5971 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3/135 ، والطبراني في
" الكبير " ( 5190 ) و( 5191 ) و( 5195 ) ، والبيهقي 8/212 و213 ، وابن عبد البر في "التمهيد" 9/72073 ، والبغوي ( 2579 ) من طرق عن أبي هريرة وزيد بن خالد ، به .

وما كان منها عقداً منهياً عنه في الشرع ، إما لكون المعقود عليه ليس محلاً للعقد ، أو لفوات شرطٍ فيه ، أو لظلم يحصُلُ به للمعقود معه أو عليه ، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايُق وقته ، أو غير ذلك ، فهذا العقدُ : هل هو مردودٌ بالكلية ، لا ينتقل به الملك ، أم لا ؟ هذا الموضع قد اضطربَ الناس فيه اضطراباً كثيراً ، وذلك أنَّه ورد في بعض الصور(1) أنَّه مردودٌ لا يفيد الملك ، وفي بعضها أنَّه يُفيده ، فحصل الاضطرابُ فيه بسبب ذلك ، والأقرب – إنْ شاء الله تعالى – أنَّه إنْ كان النهيُ عنه لحقٍّ لله - عز وجل - ، فإنَّه لا يفيدُ الملكَ بالكلية ، ونعني بكون الحق لله : أنَّه لا يسقطُ برضا المتعاقدين عليه ، وإنْ كان النهيُ عنه لحقِّ آدميٍّ معيّن ، بحيث يسقط برضاه به ، فإنَّه يقفُ على رضاه به ، فإنْ رضي لزم العقدُ ، واستمر الملكُ ، وإنْ لم يرض به فله الفسخُ ، فإنْ كان الذي يلحقه الضررُ لا يعتبر رضاه بالكلية ، كالزوجة والعبد في الطلاق والعَتاق ، فلا عِبرة برضاه ولا بسخطه ، وإنْ كان النهيُ رفقاً بالمنهيّ خاصةً لما يلحقه من المشقة ، فخالف وارتكب المشقة ، لم يبطل بذلك عملُه .
فأما الأوَّل ، فله صورٌ كثيرةٌ :
__________
(1) سقطت من ( ص ) .

منها نكاحُ من يحرُمُ نكاحُه ، إمَّا لعينه(1) ، كالمحرَّمات على التَّأبيد بسببٍ أو نسبٍ ، أو للجمع ، أو لفواتِ شرط لا يَسقُطُ بالتراضِي بإسقاطه : كنكاح المعتدةِ والمحرمة ، والنكاح بغير وليٍّ ونحو ذلك ، وقد روي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرَّق بَيْنَ رجلٍ وامرأةٍ تزوَّجها وهي حُبْلى ، فردَّ النِّكاح لوقوعه في العدّة(2) .
ومنها عقودُ الربا ، فلا تُفيد الملك ، ويؤمر بردِّها ، وقد أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من باع صاعَ تمرٍ بصاعين أنْ يردَّه(3) .
ومنها بيعُ الخمرِ والميتةِ والخنزير والأصنام والكلب ، وسائر ما نهي عن بيعه ممَّا لا يجوز التراضي(4) ببيعه .
وأما الثاني ، فله صُورٌ عديدة :
__________
(1) في ( ص ) : ( أجنبية ) .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 10704 ) و( 10705 ) ، وأبو داود ( 2131 ) ، والدارقطني 3/250 ، والبيهقي 7/157 من طريق سعيد بن المسيب ، عن رجل من الأنصار يقال له : بصرة ، قال : تزوجت امرأة بكراً ، فدخلت عليها فإذا هي حبلى ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لها الصداق بما استحل من فرجها ، والولد عبد لك ، فإذا ولدت فاجلدها ) ، وهو حديث ضعيف معلول ، بيانه في كتابنا " الجامع في العلل " يسر الله اتمامه .
(3) أخرجه : مسلم 5/48 ( 1594 ) ( 97 ) و( 99 ) و5/49 ( 1594 )
( 100 ) ، والنسائي 7/272 و273 ، وأبو يعلى ( 1226 ) ، والطحاوي في "شرح
المعاني" 4/68 ، والبيهقي 5/291 من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : أُتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر ، فقال : ( ما هذا التمر من تمرنا ) فقال الرجل : يا رسول الله بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( هذا الربا ، فردوه ، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ) بلفظ مسلم .
(4) سقطت من ( ص ) .

منها : إنكاحُ الوليِّ من لا يجوزُ له إنكاحُها إلاّ بإذنها بغير إذنها ، وقد ردَّ النَّبيُّ

- صلى الله عليه وسلم - نكاحَ امرأة ثيِّبٍ زوَّجها أبوها وهي كارهةٌ(1) ، وروي عنه أنَّه خيَّرَ امرأة زُوِّجَت بغير إذنها(2) ، وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد(3)
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1530 ) برواية الليثي ، والشافعي في " مسنده " ( 1150 ) بتحقيقي ، وعبد الرزاق ( 10307 ) و( 10309 ) ، وسعيد بن منصور في "سننه" ( 567 ) و( 576 ) ، وابن أبي شيبة ( 15948 ) ، وأحمد 6/328 و329 ، والدارمي ( 2197 )
و( 2198 ) ، والبخاري 7/23 ( 5138 ) و( 5139 ) و9/26 ( 6945 ) و9/32
( 6969 ) ، وأبو داود ( 2101 ) ، وابن ماجه ( 1873 ) ، والنسائي 6/86 وفي
" الكبرى " ، له ( 5380 ) و( 5382 ) و( 5383 ) ، وابن الجارود ( 710 ) ، والبيهقي 7/119 وفي " المعرفة " ، له ( 4087 ) ، والخطيب في " تاريخه " 2/269 ، والبغوي
( 2256 ) من حديث خنساء بنت حذام : أنَّ أباها زوجها ، وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرد نكاحها . بلفظ الشافعي .
(2) أخرجه : أحمد 1/273 ، وأبو داود ( 2096 ) ، وابن ماجه ( 1875 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 5387 ) و( 5389 ) ، وأبو يعلى ( 2526 ) ، والطحاوي في "شرح المعاني" 4/365، والدارقطني 3/234-235و235، والبيهقي 7/117 من حديث ابن عباس : أنَّ جارية بكراً أتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكرت أنَّ أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، بلفظ
أحمد .
وأخرجه : أبو داود ( 2097 ) ، والبيهقي 7/117 من طريق أيوب السختياني ، عن عكرمة ، مرسلاً .
(3) نقل الأثرم والميموني عنه أنَّه يملك تزويجها ، وهو اختيار الخرقي . ونقل عبد الله : إذا بلغت تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنها .

وجه الأولى : وهي الصحيحه : أنَّ من لم يفتقر نكاحها إلى نطقها مع قدرتها على النطق لم يفتقر إلى رضاها قياساً على البكر الصغيرة .
... ووجه الثانية : أنَّها تملك التصرف في مالها بنفسها فلم يملك الأب إجبارها . انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/81 .

.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنَّ من تصرَّف لغيره في ماله بغير إذنه ، لم يكن تصرُّفه باطلاً من أصله ، بل يقفُ على إجازته ، فإنْ أجازه جازَ ، وإنْ ردَّه بَطل ، واستدلُّوا بحديث عُروة بن الجعد في شرائه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شاتين ، وإنَّما كان أمرَه بشراء شاةٍ واحدةٍ ، ثم باع إحداهما ، وقبل ذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -(1) . وخصَّ ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرَّفُ لغيره في ماله بإذنٍ إذا خالف الإذن .
__________
(1) أخرجه : الشافعي في "مسنده" ( 1459 ) و( 1460 ) بتحقيقي وفي " السنن المأثورة " ، له ( 590 ) ، وعبد الرزاق ( 14831 ) ، والحميدي ( 843 ) ، وابن أبي شيبة ( 36282 ) ، وأحمد 4/375 و376 ، والبخاري 4/252 ( 3642 ) ، وأبو داود ( 3384 )
و( 3385 ) ، وابن ماجه ( 2402 ) ، والترمذي ( 1258 ) ، وعبد الله بن أحمد في
" زياداته " 4/376 ، والطبراني في " الكبير " 17/( 412 ) و( 413 ) و( 421 ) ، والدارقطني 3/10 ، والبيهقي 6/112 وفي " المعرفة " ( 3704 ) وفي " الدلائل " ، له 6/220 ، والبغوي ( 2158 ) من حديث عروة بن الجعد : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً ليشتري له به شاة أو أضحية ، فاشترى له شاتين ، فباع إحداهما بدينار وأتاه بشاة ودينار ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيعه بالبركة ، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه . بلفظ الشافعي .

ومنها تصرُّف المريضِ في ماله كلِّه : هل يقعُ باطلاً من أصله أم يقف تصرفه في الثلثين على إجازة الورثة ؟ فيهِ اختلاف مشهورٌ للفقهاء ، والخلاف في مذهب أحمد وغيره(1) ، وقد صحَّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رُفع إليه(2) : أنَّ رجلاً أعتق ستةَ مملوكين لهُ عندَ موته ، لا مال لهُ غيرهم ، فدعا بهم ، فجزَّأهم ثلاثةَ أجزاءٍ ، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعةً ، وقال لهُ قولاً شديداً(3) ، ولعلَّ الورثة لم يُجيزوا عتق الجميع ، والله أعلم .
ومنها بيعُ المدلس ونحوه كالمُصَرَّاةِ، وبَيعِ النَّجْشِ ، وتلقي الركبان ونحو ذلك ، وفي صحَّته كُلِّه اختلافٌ مشهورٌ في مذهب الإمام أحمد ، وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه(4) .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/25-26 بتحقيقي .
(2) عبارة : ( رفع إليه ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 1073 ) بتحقيقي، والطيالسي ( 845 ) ، وعبد الرزاق
( 16763 ) ، وسعيد بن منصور ( 408 )، وابن أبي شيبة ( 23371 ) ، وأحمد 4/426=
= ... و428 و430 و439 و440 و445 و446، ومسلم 5/97 ( 1668 ) ( 56 ) و( 57 ) ، وأبو داود ( 3958 ) و( 3959 ) و( 3961 ) ، وابن ماجه ( 2345 ) ، والترمذي
( 1364 ) ، والبزار ( 3528 ) و( 3529 ) و( 3530 ) ، والنسائي 4/64 وفي
" الكبرى " ، له ( 2085 ) ( 4973 ) و( 4974 ) و( 4975 ) و( 4977 ) ، وابن الجارود ( 948 ) ، وابو عوانة كما في " الإتحاف " 12/64 ( 15094 ) ، وابن حبان
( 4320 ) ، والدارقطني 4/234، والبيهقي 10/285 و286 من حديث عمران بن حصين، به .
(4) انظر : المغني 4/300-301، والمسائل الفقهية من كتاب الرواتين والوجهين 1/355-356.

والصحيح أنَّه يصحُّ ويقفُ على إجازة من حصل (1) له ظلمٌ بذلك ، فقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه جعل مشتري المصرَّاة بالخيار(2) ، وأنَّه جعل للركبان الخيار إذا هبطوا السوق(3) ، وهذا كله يدل على أنَّه غير مردود من أصله ، وقد أورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصرَّاة ، فلم يذكر عنه جواباً(4) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : همام بن منبه في " صحيفته " ( 98 ) ، والطيالسي ( 2492 ) ، وعبد الرزاق
( 14859 ) و( 14862 ) ، والحميدي ( 1028 ) و( 1029 ) ، وأحمد 2/242 و248 و259 و273 و317 و386 و406 و417 و430 ، والدارمي ( 2556 ) ، والبخاري 3/92 ( 2148 ) و( 2150 ) و3/93 ( 2151 ) ، ومسلم 5/6 ( 1524 ) ( 23 )
و( 24 ) و( 25 ) و( 26 ) و( 27 ) و5/7 ( 1524 ) ( 28 ) ، وأبو داود ( 3444 ) و( 3445 ) ، وابن ماجه ( 2239 ) ، والترمذي ( 1251 ) و( 1252 ) ، والنسائي 7/253 و254 وفي " الكبرى " ، له ( 6080 ) ، وأبو يعلى ( 6049 ) و( 6267 ) ، وأبو عوانة 4/276 و277 و278 ، والدارقطني 3/74 و75 من حديث أبي هريرة قال : قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها ، فليحلبها ، فإنْ رضي حلابها أمسكها ، وإلا ردها ومعها صاع من تمر ) بلفظ مسلم .
(3) أخرجه : أحمد 2/284 و403 و487 ، والدارمي ( 2569 ) ، ومسلم 5/5 ( 1519 )
( 16 ) و( 17 ) ، وأبو داود ( 3437 ) ، وابن ماجه ( 2178 ) ، والترمذي (1221 ) ، والنسائي 7/257 ، وفي " الكبرى " ، له ( 6092 ) ، وأبو يعلى ( 6073 ) و( 6078 ) ، وابن الجارود ( 571 ) ، وأبو عوانة 4/263 و264 ، والبيهقي 5/348 من حديث أبي هريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتلقى الجلب ، فإنْ تلقاه إنسان فابتاعه ، فصاحب السلعة فيها بالخيار ، إذا ورد السوق . بلفظ الترمذي .
(4) انظر : فتح الباري 4/460-462 .

وأما بيعُ الحاضر للبادي ، فمن صحَّحه ، جعله من هذا القبيل ، ومن أبطله ، جعل الحقَّ فيه لأهل البلد كلِّهم، وهم غيرُ منحصرين، فلا يتصوَّرُ إسقاطُ حقوقهم ، فصار كحقِّ الله - عز وجل - .
ومنها : لو باع رقيقاً يَحْرُمُ التَّفريقُ بينهم ، وفرَّق بينهم كالأُمِّ وولدها ، فهل يقع باطلاً مردوداً ، أم يقفُ على رضاهم بذلك ؟
وقد روي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بردِّ هذا البيع(1) ونصَّ أحمدُ على أنَّه لا يجوزُ

التفريقُ بينهم ، ولو رضوا بذلك(2)، وذهب طائفةٌ إلى جواز التفريق بينهم برضاهم ، منهم : النخعيُّ ، وعُبيد الله بنُ الحسن العنبري ، فعلى هذا يتوجه أنْ يصحَّ ، ويقف على الرضا(3).
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 185 ) ، وأحمد 1/102 ، وابن ماجه ( 2249 ) ، والترمذي
( 1284 ) ، والدارقطني 3/66 وفي " علله " 3/575 ، والحاكم 2/155 و125 ، والبيهقي 9/127 من حديث علي بن أبي طالب ، قال : وهب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامين أخوين ، فبعت أحدهما ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا علي ما فعل غلامك ) فأخبرته، فقال : ( رده ، رده ) بلفظ الترمذي ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده مقالاً ، وروي كذلك بنحو هذا الحديث عن أبي أيوب الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود .
(2) انظر : المغني 10/459 ، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/367 .
(3) انظر : المغني 10/460 .

ومنها لو خصَّ بعضَ أولاده بالعطيَّة دونَ بعض ، فقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمرَ بشيرَ بنَ سعدٍ لما خصَّ ولدهُ النُّعمان بالعطيَّةِ أنْ يردَّه(1) ، ولم يدلَّ ذلك على أنَّه لم ينتقل الملكُ بذلك إلى الولد ، فإنَّ هذه العطية تصحُّ وتقع مراعاةً ، فإنْ سوَّى بينَ الأولادِ في العطية ، أو استردَّ ما أعطي الولدَ ، جاز ، وإنْ ماتَ ولم يفعل شيئاً من ذلك ، فقال مجاهد : هي ميراث(2) ، وحكي عن أحمد نحوه(3) ، وأنَّ العطية تبطلُ ، والجمهور على أنَّها لا تبطلُ ، وهل للورثة الرجوعُ فيها أم لا ؟ فيهِ قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد(4)
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2188 ) ، والشافعي في " مسنده " ( 1057 ) بتحقيقي ، وأحمد 4/268 و269 و270 و273 و276 ، والبخاري 3/206 ( 2587 ) و3/224
( 2650 ) ، ومسلم 5/65 ( 1623 ) ( 9 ) و( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) و( 13 ) و5/66 ( 1623 ) ( 14 ) و( 15 ) و( 16 ) و( 17 ) و5/67 ( 1623 ) ( 18 ) ،وأبو داود ( 3542 ) و( 3543 )، وابن ماجه ( 2375 ) و( 2376 ) ، والترمذي ( 1376 ) ، والنسائي 6/258 و259 و260 و261 و262 وفي " الكبرى " ، له ( 6508 )
و( 6509 ) ، وابن الجارود ( 991 ) و( 992 ) ، وابن حبان ( 5097 ) - ( 5107 ) ، والدارقطني 3/42 من طرق عن النعمان بن بشير ، به .
(2) انظر : المغني 6/298 ، والشرح الكبير 6/294 .
(3) انظر : الشرح الكبير 6/296 .
(4) نقل أبو طالب عنه : يرد في حياته وبعد موته وهو اختيار ابن بطة وأبي حفص .
ووجهها : أنَّ الرجوع فيها إنَّما كان لأجل أنْ لا يحصل بينهم التباغض والعداوة ، وهذا المعنى موجود بعد الموت فيجب الرجوع فيها لوجود المعنى في ذلك . =
= ... ونقل الميموني وبكر بن محمد : أنَّه لا يرجع فيه موته وهو اختيار أبي بكر الخلال وأبي بكر
عبد العزيز والخرقي .

ووجهها : أنَّ هذا رجوع يتعلق بالهبة فسقط بالموت ، دليله : رجوع الأب على ابنه في الهبة ، أنَّه بموت الأب يسقط حق الرجوع لبقية الورثة كذلك هاهنا .
انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/439 .

.
ومنها الطلاقُ المنهي عنه ، كالطلاق في زمن الحيض ، فإنَّه قد قِيل : إنَّه قد نُهِيَ عنه لحقِّ الزوج ، حيث كانَ يخشى عليهِ أن يَعْقُبه فيهِ النَّدمُ ، ومن نُهِيَ عن شيء رفقاً به ، فلم ينته عنه ، بل فعله وتجشَّم مشقَّته ، فإنَّه لا يحكم ببطلان ما أتى به ، كمن صام في المرض أو السفر ، أو واصل في الصيام ، أو أخرج ماله كله وجلس يتكفَّفُ النَّاسَ ، أو صلَّى قائماً مع تضرُّره بالقيام للمرض ، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضَّرر ، أو التَّلفَ ولم يتيمَّم ، أو صامَ الدَّهرَ ، ولم يفطر ، أو قام اللَّيل ولم ينم ، وكذلك إذا جمعَ الطَّلاق الثلاثَ على القول بتحريمه .

وقيل : إنَّما نهي عن طلاق الحائض ، لحقِّ المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل
العدَّة ، ولو رضيت بذلك بأنْ سألته الطَّلاق بِعِوَضٍ في الحيض ، فهل يزولُ بذلك تحريمُهُ ؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء ، والمشهورُ من مذهبنا ومذهب الشَّافعيِّ أنَّه يزولُ التَّحريمُ بذلك ، فإنْ قيل : إنَّ التحريم فيهِ لحقِّ الزوج خاصة ، فإذا أقدم عليهِ ، فقد أسقط حقَّه فسقط ، وإنْ علل بأنَّه لحقِّ المرأة ، لم يمنع نفوذُه ووقوعُه أيضاً ، فإنَّ رضا المرأة بالطلاق غيرُ معتبر لوقوعه عندَ جميع المسلمين ، لم يُخالف فيهِ سوى شرذِمَةٍ يسيرةٍ من الروافض ونحوهم ، كما أنَّ رضا الرقيق بالعتق غير معتبرٍ ، ولو تضرَّر به ، ولكن إذا تضرَّرت المرأةُ بذلك ، وكان قد بقي شيءٌ من طلاقها ، أمر الزوج بارتجاعها ، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر بارتجاع زوجته تلافياً منه لضررها ، وتلافياً منه لما وقع منه من الطلاق المحرَّم حتَّى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرَّمٍ ، وليتمكَّن من طلاقها على وجه مباح ، فتحصل إبانتُها على هذا الوجه . وقد روي عن أبي الزبير ، عن ابن عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ردَّها عليهِ ولم يرها شيئاً(1) ، وهذا ممَّا تفرَّد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلِّهم مثل : ابنه سالم ، ومولاه نافع ، وأنس ، وابن سيرين ، وطاووس ، ويونس بن جبير ، وعبد الله بن دينار ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مِهران وغيرهم .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 10960 ) ، وأبو داود ( 2185 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 15/65 . وانظر تخريجه موسعاً بدون هذه اللفظة في " مسند الشافعي " ( 1238 ) -
( 1244 ) بتحقيقي وانظر : فتح الباري 9/436-441 ، والكلام على هذه اللفظة في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله اتمامه .

وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء ، وقالوا : إنَّه تفرَّد بما خالف الثِّقات ، فلا يُقبل تفرّده ، فإنَّ في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدلُّ على أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة ، وكان ابنُ عمر يقول لمن سأله عن الطلاق في الحيض : إنْ كنتَ طلَّقتَ واحدةً أو اثنتين(1) ، فإنَّ
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بذلك ، يعني(2) : بارتجاع المرأة ، وإنْ كنت طلقت ثلاثاً ، فقد عصيت ربَّك ، وبانت منك امرأتك .
وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يُتابع عليها وهي قوله : ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } (3) ولم يذكر ذلك أحدٌ من الرواة عن ابن عمر ، وإنَّما روى عبدُ اللهِ بنُ دينار ، عن ابن عمر أنَّه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث ، وهذا هو الصحيح .
__________
(1) قال مسلم في " صحيحه " ( 1471 ) ( 1 ) : ( جود الليث في قوله : تطليقة واحدة ) .
(2) عبارة : ( بذلك يعني ) سقطت من ( ص ) .
(3) الطلاق : 1 .

وقد كان طوائفُ من الناس يعتقدونَ أنَّ طلاقَ ابنِ عمر كان ثلاثاً ، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما ردَّها عليه ؛ لأنَّه لم يوقع الطَّلاق في الحيض ، وقد رُوي ذلك عن أبي الزبير أيضاً من رواية معاوية بن عمار الدُّهني عنه(1) ، فلعلَّ أبا الزبير اعتقد هذا حقاً ، فروى تلك اللفظةَ بالمعنى الذي فهمه ، وروى ابنُ لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير ، فقال : عن جابر : أنَّ ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (2)
: ( لِيُراجِعها فإنَّها امرأتُه )(3) وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد ، وتفرَّد بقوله : ( فإنَّها امرأته ) وهي لا تدل على عدم وقوع الطلاق إلاّ على تقدير أنْ يكون ثلاثاً، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير وأصحابُ ابن عمر الثقاتُ الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه ، وروى أيوب ، عن ابن سيرين قال : مكثتُ عشرين سنة يُحدِّثني من لا أتَّهِمُ أنَّ ابنَ عمر طلَّق امرأته ثلاثاً وهي حائض ، فأمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُراجِعَها ، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتّى لقيتُ أبا غلاَّب(4) يونس بن جُبير وكان ذا ثَبَتٍ ، فحدَّثني أنَّه سأل ابنَ عمر فحدَّثه أنَّه طلقها واحدة . خرَّجه مسلم(5) .
وفي رواية : قال ابنُ سيرين : فجعلتُ لا أعرِفُ للحديث وجهاً ولا
أفهمه .
__________
(1) أخرجه : الدارقطني 4/7 ، ومن طريقه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/638 ، بهذا الإسناد .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( مره ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/386 ، وعبد الله بن لهيعة ضعيف .
(4) تحرف في ( ص ) إلى : ( عتاب ) .
(5) في " صحيحه " 4/181 ( 1471 ) ( 7 ) .

وهذا يدلُّ على أنَّه كان قد(1) شاع بين الثِّقاتِ من غير أهلِ الفقه والعلم أنَّ طلاقَ ابنِ عمر كان ثلاثاً ، ولعلَّ أبا الزبير من هذا القبيل ، ولذلك كان نافع يُسأل كثيراً عن طلاق ابن عمر ، هل كان ثلاثاً أو واحدة ؟ ولما قدم نافع مكة ، أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبهة ، واستنكارُ ابنِ سيرين لِرواية الثلاث يَدُل على أنَّه لم يعرف قائلاً معتبراً يقول : إنَّ الطلاق المحرَّم(2) غير واقع ، وإنَّ هذا القول لا وَجْهَ له .
قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث ، وسئل عمن قال : لا يقعُ الطلاقُ
المحرم ؛ لأنَّه يُخالِفُ ما أمر به ، فقال : هذا قولُ سوءٍ رديء ، ثم ذكر قصة ابنِ عمر وأنَّه احتسب بطلاقه في الحيض .
وقال أبو عبيد : الوقوعُ هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار : حجازهم وتهامهم ، ويمنهم وشامهم ، وعراقهم ومصرهم ، وحكى ابنُ المنذر ذلك عن كلِّ من يُحْفَظُ قولُه من أهل العلم إلاَّ ناساً من أهل البدع لا يُعتَدُّ بهم .
وأمَّا ما حكاه ابنُ حزم(3) عن ابن عمر أنَّه لا يقع الطلاقُ في الحيضِ مستنداً إلى ما رواه(4) من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي : حدَّثنا محمَّد بن بشار ، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفي ، عن عُبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابنِ عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض ، قال : لا يُعتَدُّ بها ، وبإسناده عن خِلاس نحوه(5)
__________
(1) كان قد ) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المحلى " 11/216 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( محمد ) .
(5) في " المحلى " 11/216 .

وأخرجه : ابن أبي شيبة 4/58 و59 .

، فإنَّ هذا الأثرَ قد سقط من آخره لفظة وهي قال : لا يعتد بتلك الحيضة ، كذلك رواه أبو بكر بنُ أبي شيبة في كتابه(1) عن عبد الوهَّاب الثقفي ، وكذا رواه يحيى بنُ معين ، عن عبد الوهَّاب أيضاً ، وقال : هو غريب لم يحدث به إلا
عبدُ الوهَّاب ، ومرادُ ابنِ عمر أنَّ الحيضة التي طلق فيها المرأة لا تعتدُّ بها المرأة قرءاً ، وهذا هو مرادُ خِلاس وغيره .
وقد روي ذلك أيضاً عن جماعةٍ منَ السَّلف ، منهم : زيدُ بنُ ثابت(2) ، وسعيد بنُ المسيب(3) ، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابنُ حزم فحَكَوا عن بعضِ من سمينا أنَّ الطلاق في الحيض لا يقع ، وهذا سببُ وهمهم ، والله أعلم .
وهذا الحديث إنَّما رواه القاسم بن محمد لما سُئِلَ عن رجُلٍ له ثلاثة(4)
مساكن ، فأوصى بِثُلثِ ثلاث مساكن هل تجمع له في مسكن واحد ؟ فقالَ : يجمع ذَلِكَ كلهُ في مسكن واحد ، حدثتني عائشة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( مَنْ عمل عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فَهُو ردٌّ ) خرّجه مسلم(5) . ومرادُه أنَّ تغيير وصية الموصي إلى ما هوَ أحبُّ إلى الله وأنفعُ جائزٌ ، وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج ، وربما يستدلُّ بعضُ من ذهب إلى هذا بقولِهِ تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْه } (6) ولعله أخذ هذا من جمع العتق ، فإنَّه صح ( أنَّ رجلاً(7) أعتق ستة مملوكين عندَ موته ، فدعاهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة ) خرّجه مسلم(8)
__________
(1) المصنف 4/57 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 10966 ) ، وابن أبي شيبة 4/57 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/59 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " صحيحه " 5/132 ( 1718 ) ( 18 ) .
(6) البقرة : 182 .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) في " صحيحه " 5/97 ( 1668 ) ( 56 ) و( 57 ) .

وأخرجه : الحميدي ( 830 ) ، وأحمد 4/426 و428 و439 و440 و446 ، وأبو داود
( 3958 ) و( 3959 ) و( 3961 ) ، وابن ماجه ( 2345 ) ، والترمذي ( 1364 ) ، والنسائي 4/64 وفي " الكبرى " ، له ( 4974 ) ، والبيهقي 10/286 من طرق عن عمران ابن حصين ، به .

. وذهب فقهاءُ الحديث إلى هذا الحديث ؛ لأنَّ تكميلَ عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه ، ولهذا شُرِعَتِ السِّرايةُ والسِّعايةُ إذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من عبد . وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن أعتق بعض عبدٍ له : ( هو عتيقٌ كلُّه ليس لله شريك )(1) .
وأكثرُ العلماء على خلاف قول القاسم هذا ، وإنَّ وصية الموصي لا تجمع ، ويُتبع لفظه إلاَّ في العتق خاصة ؛ لأنَّ المعنى الذي جمع له في العتق غيرُ موجود في بقية الأموال ، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي .
وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنَّه يعتق مِنْ كل عبدٍ ثلثه ، ويستسعون في الباقي(2) ، واتباع قضاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ وأولى ، والقاسم نظر إلى أنَّ في مشاركة الموصى له للورثة في المساكن كُلِّها ضرراً عليهم ، فيدفع عنهم هذا الضرر ويجمع الوصية في مسكنٍ واحدٍ ، فإنَّ الله قد شرط في الوصية(3) عَدَمَ المضارة بقوله تعالى : { غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ الله } (4) فمن ضارَّ في وصيته ، كان عملهُ مردوداً عليه
لمخالفته ما شرط الله في الوصية(5) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/74 و75 ، وأبو داود ( 3933 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 4970 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/107 وفي شرح " المشكل " ، له ( 5381 ) و( 5382 ) ، والبيهقي 10/273، وقد أعله النسائي بالإرسال كما في "تحفة الأشراف" 1/188 ( 134 ).
(2) انظر : معالم السنن 4/71 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) النساء : 12 .
(5) انظر : تفسير الطبري ( 6980 ) و( 6981 ) وطبعة التركي 6/486 – 487 ، وتفسير ابن أبي حاتم ( 4939 ) .

وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنَّه لو وصَّى لهُ بثلث مساكنه كُلِّها(1) ، ثم تلف ثلثا المساكن ، وبقي منها ثلث أنَّه يُعطى كله للموصى له ، وهذا قولُ طائفةٍ من أصحاب أبي حنيفة ، وحكي عن أبي يوسف ومحمد ، ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه ، وبَنَوا ذلك على أنَّ المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار ، كما هو قولُ مالك ، وظاهرُ كلام ابن أبي موسى من أصحابنا ، والمشهورُ عند أصحابنا أنَّ المساكن المتعدِّدة لا تُقسم قسمة إجبار(2) ، وهو قولُ أبي حنيفة والشَّافعي ، وقد تأوَّلَ بعضُ المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أنَّ أحد الفريقين من الورثة أو الموصى لهم طلب قسمة المساكن وكانت متقاربة بحيث يضمُّ بعضها إلى بعض في القسمة ، فإنَّه يُجاب إلى قسمتها على قولهم ، وهذا التأويل بعيد مخالف لِلظاهر ، والله أعلم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( إجباراً ) بإسقاط كلمة : ( قسمة ) .


الحديث السادسعَنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ - رَضي الله عنهُما - قال : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ ، وبَينَهُما أُمُورٌ مُشتَبهاتٌ ، لا يَعْلَمُهنّ كثيرٌ مِن النَّاسِ ، فَمَن اتَّقى الشُّبهاتِ استبرأ لِدينِهِ وعِرضِه ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ ، كالرَّاعي يَرعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرتَعَ فيهِ ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محارِمُهُ ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذا صلَحَتْ صلَحَ الجَسَدُ كلُّه ، وإذَا فَسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كلُّه ، ألا وهِيَ القَلبُ ) رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ(1) .
هذا الحديث صحيح(2) متفق على صحته من رواية الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعضُ الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/20 ( 52 ) و3/69 ( 2051 ) ، ومسلم 5/50 ( 1599 )
( 107 ) و5/51 ( 1599 ) ( 107 ) و( 108 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 918 ) ، وأحمد 4/269 و270 و271 ، والدارمي ( 2534 ) ، وأبو داود ( 3329 ) و(3330 )، وابن ماجه ( 3984 ) ، والترمذي ( 1205 ) ، والنسائي 7/241 و8/327 وفي " الكبرى " ، له ( 5219 ) و( 6040 ) ، وابن الجارود
( 555 ) والطحاوي في " شرح المشكل " ( 749 ) و( 750 ) و( 751 ) ، وابن حبان
( 751 ) ، والبيهقي 5/264 و334 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5740 ) و( 5741 )
و( 5742 ) ، والبغوي ( 2031 ) من طريق الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، به .
(2) عبارة : ( هذا الحديث صحيح ) لم ترد في ( ص ) .

وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر(1) ، وعمار بن ياسر(2)،
وجابر(3)، وابن مسعود ، وابن عباس(4) ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس ) معناه : أنَّ الحلال المحض بَيِّنٌ لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرامُ المحضُ ، ولكن بين الأمرين أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من الناس ، هل هي من الحلال أم من
الحرام ؟ وأما الرَّاسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أيِّ القسمين هي .
فأما الحلالُ المحضُ : فمثل أكلِ الطيبات من الزروع ، والثمار ، وبهيمة
الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباسِ ما يحتاج إليه من القطن والكتَّان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسرِّي وغير ذلك إذا كان اكتسابُه بعقدٍ صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة .
والحرام المحض : مثلُ أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرَّمة كالرِّبا ، والميسر ، وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس(5) أو نحو ذلك .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 2889 ) .
(2) أخرجه: إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 1522 ) ، وأبو يعلى ( 1653 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1756 ) .
(3) أخرجه : الخطيب في " تاريخه " 9/70 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 15/114 .
(4) اخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 10824 ) .
(5) سقطت من ( ص ) .

وأما المشتبه : فمثلُ أكل بعضِ ما اختلفَ في حلِّه أو تحريمهِ ، إمَّا(1) من الأعيان كالخيلِ والبغالِ والحميرِ ، والضبِّ ، وشربِ(2) ما اختلف من الأنبذة التي يُسكِرُ كثيرُها ، ولبسِ ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العِينة(3) والتورّق(4) ونحو ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسَّرَ المشتبهات أحمدُ وإسحاق وغيرهما من الأئمة(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في ( ص ) : ( كالعينة ) .
(4) العينة تقع من رجل مضطر إلى نقد ؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها ؛ فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة ، وإنْ باعها من غيره فهي التورق . انظر : حاشية ابن القيم 9/250 .
(5) انظر : المغني لابن قدامة 4/334-335 .

وحاصلُ الأمر أنَّ الله تعالى أنزل على نبيه(1) الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاجُ إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ
شَيْءٍ } (2) قال مجاهد وغيرُه : لكلِّ شيءٍ أُمِرُوا به أو نُهوا عنه(3) ، وقال تعالى في آخر سورة النساء التي بَيَّنَ الله فيها كثيراً من أحكام الأموال(4) والأبضاع : { يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (5) وقال تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه } (6) ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا
يَتَّقُون } (7) ووكل بيان ما أشكل من التنْزيل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى
: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (8) وما قُبض - صلى الله عليه وسلم - حتّى أكمل له ولأُمته الدينَ ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قَبْلَ موته بمدة يسيرة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً } (9) .
__________
(1) في ( ص ) : ( عبده ) .
(2) النحل : 89 .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 16495 ) .
(4) في ( ص ) : ( بين فيها أحكام الأموال ) .
(5) النساء : 176 .
(6) الأنعام : 119 .
(7) التوبة : 115 .
(8) النحل : 44 .
(9) المائدة : 3 .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( تَركتُكُم على بَيضاءَ نقية لَيلُها كنهارِها لا يَزِيغُ عنها إلاَّ
هالِكٌ )(1) .
وقال أبو ذرٍّ : توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائِرٌ يُحرِّكُ جناحَيهِ في السَّماءِ إلاَّ وقد ذَكَرَ لنا منه عِلماً(2) .
ولمَّا شكَّ النَّاسُ في موته - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمُّه العباس - رضي الله عنه - : والله ما ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى تركَ السبيلَ(3) نهجاً واضحاً ، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ ، ونكَحَ وطلَّق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يَخْبِطُ عليها العِضاةَ بمِخْبَطهِ ، ويَمْدُرُ حوضَها بيده بأنصَب ولا أدأب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ فيكُم(4) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/126 ، وابن ماجه ( 43 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 48 )
و( 49 ) ، والطبراني في" الكبير " 18/( 619 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2017 ) ، والحاكم 1/96 من حديث العرباض بن سارية ، وهو حديث قويٌّ .
(2) أخرجه : وكيع في " الزهد " ( 522 ) ، والطيالسي ( 479 ) ، وأحمد 5/153 و162 ، والبزار في " مسنده " ( 3897 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 10299 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 1647 ) ، والصيداوي في " معجمه " : 142 ، والأثر قويٌّ بطرقه .
(3) في ( ص ) : ( الطريق ) .
(4) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 2/204-205 ، والدارمي ( 83 ) ، من حديث عكرمة مرسلاً .

وفي الجملة فما ترك الله ورسولُه حلالاً إلا مُبيَّناً ولا حراماً إلاَّ مبيَّناً ، لكن بعضَه كان أظهر بياناً(1) من بعض ، فما ظهر بيانُه ، واشتهرَ وعُلِمَ من
الدِّين بالضَّرورة من ذلك(2) لم يبق فيه شكٌّ ، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلدٍ يظهر
فيه الإسلام ، وما كان بيانُه دونَ ذلك ، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة
خاصة ، فأجمع العلماء على حله أو حرمته ، وقد يخفى على بعض من ليس
منهم ، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً ، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب :
منها : أنَّه قد يكون النصُّ عليه خفياً لم ينقله إلا قليلٌ من الناس ، فلم يبلغ جميع(3) حملة العلم .
ومنها : أنَّه قد ينقل فيه نصان ، أحدهما بالتحليل ، والآخر بالتحريم ، فيبلغ طائفةً أحدُ النصين دون الآخرين ، فيتمسكون بما بلغهم ، أو يبلغ النصان معاً من لم يبلغه التاريخ ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ .
ومنها: ما ليس فيه نصٌّ صريحٌ، وإنَّما يُؤخذ من عموم أو مفهوم(4) أو قياس ، فتختلف أفهامُ العلماء في هذا كثيراً .
ومنها : ما يكون فيه أمر ، أو نهي ، فيختلفُ العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب ، وفي حمل النهي على التحريم أو التنْزيه ، وأسبابُ الاختلاف أكثرُ مما ذكرنا .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( أو منسوخ ) .

ومع هذا فلابد في الأمة من عالم(1) يُوافق قولُه الحقَّ ، فيكون هو العالِم بهذا الحكم ، وغيرُه يكون الأمر مشتبهاً عليه ولا يكون عالماً بهذا ، فإنَّ هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يظهرُ أهلُ باطلها على أهلِ حقِّها ، فلا يكونُ الحقُّ مهجوراً غير معمولٍ به في جميع الأمصار والأعصار ، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المشتبهات : ( لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من النَّاس ) فدل على أنَّ من الناس من يعلمها ، وإنَّما هي مشتبهة على من لم يعلمها ، وليست مشتبهة في نفس الأمر ، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء .
وقد يقع(2) الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر ، وهو أنَّ مِن الأشياء ما يعلم سببُ حِلِّه وهو الملك المتيقن . ومنها ما يُعلم سببُ تحريمه وهو ثبوتُ ملك الغير عليه ، فالأوَّل لا تزولُ إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه ، اللهمَّ إلا في الأبضاع عندَ من يُوقعُ الطلاقَ بالشك فيه كمالكٍ ، أو إذا غلب على الظن وقوعُه كإسحاق بن راهويه . والثاني : لا يزول تحريمُه إلا بيقينِ العلم بانتقال الملك فيه .
وأمَّا ما لا يعلم له أصلُ ملكٍ كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري : هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه ، ولا يحرم عليه تناوُله ؛ لأنَّ الظاهر أنَّ ما في بيته ملكُه لثبوت يده عليه ، والورعُ اجتنابه ، فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنِّي لأنقلب إلى أهلي فأجدُ التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أنْ تكون صدقةً
فألقيها ) خرَّجاه في " الصحيحين " (3)
__________
(1) في ( ص ) : ( فلا بد من أن يكون في الأمة من عالم ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( كثير ) .
(3) صحيح البخاري 3/164 ( 2432 ) ، وصحيح مسلم 3/117 ( 1070 ) ( 162 )
و( 163 ) .

وأخرجه : عبد الرزاق ( 6944 ) ، وأحمد 2/317 ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 15/674 ( 20131 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 2/10 ، وابن حبان ( 3292 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/187 ، والبيهقي 7/29-30 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5743 ) من حديث أبي هريرة ، به .

. فإنْ كان هناك من جنس المحظور ، وشكَّ
هل هو منه أم لا ؟ قويت الشبهةُ . وفي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أصابه أرقٌ من الليل ، فقال له بعضُ نسائه : يا رسول الله أرقت الليلة . فقال : ( إني كنتُ أصبتُ تمرةً تحت جنبي ، فأكلتُها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة ، فخشيتُ أنْ تكون منه ) (1) .
ومن هذا أيضاً ما أصلهُ الإباحة كطهارة الماء ، والثوب ، والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله ، فيجوز استعمالُه ، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان ، فلا يحلُّ إلا بيقين حله من التذكية والعقد ، فإنْ تردَّد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه ، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم ولهذا نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصيدِ الذي يجدُ فيه الصائد أثر سهمٍ غير سهمه ، أو كلبٍ غير كلبهِ ، أو يجده قد وقع في ماء(2) . وعلل بأنَّه لا يُدرى : هل مات من السبب المبيح له أو من غيره ، فيرجع فيما أصله الحلُّ إلى الحِلِّ ، فلا ينجسُ الماءُ والأرض والثوبُ بمجرّد ظنِّ النجاسة ، وكذلك البدنُ إذا تحقق طهارته ، وشكَّ : هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافاً لمالك(3) - رحمه الله - إذا لم يكن قد دخل في الصلاة . وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّه شُكي إليه الرجلُ يخيل إليه أنَّه يجد الشيءَ في الصلاة ، فقال : ( لا
__________
(1) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 1/298 ، وأحمد 2/183 و193 .
(2) أخرجه : البخاري 3/70 ( 2054 ) و7/110 ( 5475 ) و7/111 ( 5476 )
و( 5477 ) و7/113 ( 5483 ) و( 5484 ) و( 5486 ) و7/114 ( 5487 ) و9/146 ( 7397 )، ومسلم 6/56 ( 1929 ) ( 1 ) و( 2 ) و( 3 ) و6/57 ( 1929 ) ( 4 ) و6/58 ( 1929 ) ( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) ، وأبو داود ( 2847 ) و( 2849 )
و( 2850 ) و( 2854 ) .
(3) في ( ص ) : ( كمالك ) بإسقاط كلمة : ( خلافاً ) .

ينصرف حتّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً(1) ) وفي بعض الروايات : ( في المسجد ) بدل : ( الصلاة ) .
وهذا يعمُّ حالَ الصلاةِ وغيرها ، فإنْ وُجِدَ سبب قويٌّ يغلب معه على الظنِّ نجاسة ما أصلُه الطهارة مثل أنْ يكونَ الثوبُ(2) يلبسه كافر لا يتحرَّزُ من
النجاسات ، فهذا محلّ اشتباه ، فمن العلماء من رخص فيه أخذاً بالأصل ، ومنهم من كرهه تنزيهاً ، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أنْ يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحتُه أو يكون ملاقياً لعورته كالسراويل والقميص ، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدةِ تعارض الأصل والظاهر ، فإنَّ الأصل الطهارة والظاهر النجاسة . وقد تعارضت الأدلَّةُ في ذلك .
__________
(1) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 65 ) بتحقيقي ، والحميدي ( 413 ) ، وأحمد 4/39 و40 ، والبخاري 1/46 ( 137 ) و1/55 ( 177 ) و3/71 ( 2056 ) ، ومسلم 1/189
( 361 ) ( 98 ) ، وأبو داود ( 176 ) ، وابن ماجه ( 513 ) ، والنسائي 1/98-99
وفي " الكبرى " ، له ( 152 ) ، وابن خزيمة ( 25 ) و( 1018 ) ، وأبو عوانة
1/224 ، والبيهقي 1/114 وفي " المعرفة " ، له ( 147 ) من حديث عبد الله بن زيد ،
به .
(2) سقطت من ( ص ) .

فالقائلون بالطهارة يستدلون بأنَّ الله أحلَّ طعام أهل الكتاب ، وطعامهم إنَّما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم ، وقد أجاب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دعوة يهودي(1) ، وكان هو
وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما نَسَجَه الكفارُ بأيديهم(2) من الثياب والأواني ، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب ، ويستعملونها ، وصحَّ عنهم أنَّهم استعملوا الماء مِنْ مزادة مشركة(3) .
والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل عن آنية أهلِ الكتابِ الذين يأكلون الخنزيرَ ، ويشربون الخمر ، فقال : إن لم تجدوا غيرها ، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها(4) .
وقد فسَّر الإمام أحمد الشبهة بأنَّها منْزلةٌ بينَ الحلال والحرام(5) ، يعني : الحلالَ المحض والحرام المحض ، وقال : من اتَّقاها ، فقد استبرأ لدينه ، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال والحرام .
__________
(1) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 1/312 ، وأحمد 3/210 و270 ، والضياء المقدسي في
" المختارة " 7/86 ( 2493 ) من حديث أنس بن مالك : أن يهودياً دعا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه ، وهو حديث صحيح .
(2) بأيديهم ) سقطت من ( ج ) .
(3) أخرجه : البخاري 1/93 ( 344 ) و4/232 ( 3571 ) ، ومسلم 2/140 ( 882 )
( 312 ) و2/141 ( 682 ) ( 312 ) ، وابن خزيمة ( 113 ) و( 271 ) ، وابن حبان
( 1301 ) و( 1302 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
(4) أخرجه : أحمد 4/193 و195 ، والبخاري 7/111 ( 5478 ) و7/114 ( 5488 ) و7/117 ( 5496 ) ، ومسلم 6/58 ( 1930 ) ( 8 ) و6/59 ( 1930 ) ( 8 ) ، وابن ماجه ( 2831 ) و( 3207 ) ، والترمذي ( 1464 ) و( 1560 م ) و( 1797 ) ، وابن الجارود ( 916 ) ، وابن حبان ( 5879 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني ، به .
(5) انظر : كتاب الورع لأحمد بن حنبل : 68 .

ويتفرَّعُ على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط ، فإنْ كان أكثرُ ماله الحرامَ ، فقال أحمد : ينبغي أنْ يجتنبه إلا أنْ يكونَ شيئاً يسيراً ، أو شيئاً لا يعرف ، واختلف أصحابنا : هل هو مكروه أو محرَّم ؟ على وجهين .
وإنْ كان أكثرُ ماله الحلال ، جازت معاملته والأكلُ من ماله . وقد روى الحارث عن عليِّ أنَّه قال في جوائز السلطان : لا بأس بها ، ما يُعطيكم من الحلال أكثر مما يُعطيكم من الحرام(1) . وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يُعاملون المشركين وأهلَ الكتاب مع علمهم بأنَّهم لا يجتنبون الحرامَ كلَّه(2) .
وإنْ اشتبه الأمر فهو شبهة ، والورع تركُه . قال سفيان : لا يعجبني ذلك ، وتركه أعجب إليَّ(3) .
وقال الزُّهريُّ ومكحول : لا بأس أنْ يؤكل منه ما لم يعرف أنَّه حرامٌ بعينه ، فإنْ لم يُعلم في ماله حرام بعينه ، ولكنه علم أنَّ فيه شبهةً ، فلا بأس بالأكل منه ، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل .
وذهب إسحاق بنُ راهويه إلى ما رُوي عن ابن مسعود وسلمانَ وغيرِهما منَ الرُّخصة ، وإلى ما رُوي عَنِ الحسنِ وابنِ سيرين في إباحةِ الأخذ مما يقضي من الرِّبا
والقمار ، نقله عنه ابنُ منصور .
__________
(1) انظر : المغني 4/334 .
(2) من ذلك ما أخرجه : البخاري 3/73 ( 2068 ) و3/80 ( 2096 ) و3/101 ( 2200 ) و3/113 ( 2251 ) و( 2252 ) و3/151 ( 2386 ) و3/186 ( 2509 ) و3/187
( 2513 ) ، ومسلم 5/55 ( 1603 ) ( 124 ) و( 125 ) و( 126 ) من حديث عائشة - رضي الله عنها - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد .
(3) قال أحمد بن حنبل : سمعت سفيان بن عيينة يقول : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه . الورع لأحمد بن حنبل : 71 و151 .

وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إنْ كان المالُ كثيراً ، أخرج منه قدرَ الحرام ، وتصرَّف في الباقي ، وإنْ كان المالُ قليلاً ، اجتنبه كلَّه(1) ، وهذا لأنَّ القليل إذا تناول منه شيئاً ، فإنَّه تَبْعُدُ معه السلامةُ من الحرام بخلاف الكثير ، ومن أصحابنا مَنْ حَمَل ذلك على الورع دُون التَّحريم ، وأباح التصرُّف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه ، وهو قولُ الحنفيَّة وغيرهم ، وأخذ به قومٌ مِنْ أهل الورع منهم بشرٌ الحافي .
ورخَّص قومٌ من السَّلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنّه من الحرام بعينه، كما تقدَّم عن مكحولٍ والزُّهريِّ . وروي مثلُه عن الفُضيل بن عياض .
وروي في ذلك آثارٌ عن السَّلف ، فصحَّ عن ابن مسعود أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانيةً ولا يتحرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يأخُذُه يدعوه إلى طعامه ، قال : أجيبوهُ ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْرُ عليه(2) . وفي رواية أنَّه قال : لا أعلمُ له شيئاً إلاّ خبيثاً أو حراماً ، فقال : أجيبوه . وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود ، ولكنَّه عارضه بما رُوي عنه أنَّه قال : الإثم حَوَازُّ القلوب(3) .
__________
(1) انظر : المغني 4/334 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 14675 ) و( 14676 ) .
(3) قول ابن مسعود هذا ، أخرجه : هناد في " الزهد " ( 934 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 8748 ) و( 8749 ) .
حواز القلوب : رواه شمر بتشديد الواو ، من حاز يحوز ، أي : يجمع القلوب ويغلب عليها ، والمشهور بتشديد الزاي .
والمشهور عند المحدّثين : جمع حازة ، وهي الأمور التي تَحُزُّ في القلوب وتَحُكُّ وتؤثر . انظر : النهاية 1/459 ، تاج العروس 15/125 ( حرز ) .

وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول(1) ، وعن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومُورِّق العِجلي ، وإبراهيم النَّخعي ، وابنِ سيرين وغيرهم ، والآثار بذلك موجودة في كتاب " الأدب " لحُمَيد بن زَنجويه ، وبعضها في كتاب " الجامع " للخلال ، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم(2) .
ومتى علم أنَّ عينَ الشيء حرامٌ ، أُخِذَ بوجه محرم ، فإنَّه يحرم تناولُه ، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البرِّ وغيرُه ، وقد رُوي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا ، قال : لا بأس به ، وعن الرجل يُقضى من القمار قال : لا بأس به(3) ، خرَّجه الخلال بإسناد صحيح ، ورُوي عن الحسن خلاف هذا ، وأنَّه قال : إنَّ هذه المكاسب قد فسدت ، فخذوا منها شبه المضطَر .
وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان ، ما روي عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه أكل طعاماً ثم أخبر أنَّه من حرام ، فاستقاءه(4) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 14677 ) .
(2) انظر : مصنف عبد الرزاق الأحاديث ( 14678 )-( 14682 ) .
(3) من قوله : ( وعن الرجل يقضي ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : البخاري 5/53 ( 3842 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5770 ) من حديث عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : كان لأبي بكر غلامٌ يخرج له الخرج ، وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيءٍ فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : وما هو ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسنُ الكهانة إلا أني خدعتهُ فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده ، فقاء كل شيء في بطنه .

وقد يقع الاشتباه في الحكم ، لكون الفرع متردِّداً بين أصول تجتذبهُ ، كتحريم الرجل زوجته ، فإنَّ هذا متردِّدٌ بين تحريم الظِّهار الذي ترفعه الكفَّارةُ الكبرى ، وبين تحريم الطَّلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تُباحُ معه الزوجة بعقدٍ جديدٍ ، وبين تحريم الطَّلاق الثلاث الذي لا تُباح معه الزوجةُ(1) بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحلَّه الله له مِنَ الطَّعام والشراب الذي لا يحرمه ، وإنَّما يُوجب الكفَّارة الصُّغرى ، أو لا يُوجب شيئاً على الاختلاف في ذلك ، فمن هاهنا كَثُرَ الاختلافُ في هذه المسألة في زمن الصحابة فمن بعدهم .
وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنَّها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، قد يتبيَّنُ لبعضِ النَّاس أنَّها حلال أو حرام ، لما عِنده مِنْ ذلك من مزيدِ علمٍ(2)، وكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على أنَّ هذه المشتبهات مِنَ النَّاسِ من يعلمُها، وكثيرٌ منهم لا يعلمها ، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان :
أحدهما : من يتوقَّف فيها ؛ لاشتباهها عليه .
والثاني : من يعتقدُها على غيرِ ما هي عليه ، ودل كلامُه على أنَّ غير هؤلاء
يعلمها ، ومرادُه أنَّه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم ، وهذا من أظهر الأدلة على أنَّ المصيبَ عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلفِ(3) فيها واحدٌ عند الله - عز وجل - ، وغيره ليس بعالم بها ، بمعنى أنَّه غيرُ مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر ، وإنْ كان يعتقدُ فيها اعتقاداً يستندُ فيه إلى شبهة يظنُّها دليلاً ، ويكون مأجوراً على اجتهاده ، ومغفوراً له خطؤه لعدم اعتماده .
__________
(1) من قوله : ( بعقد جديد ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن اتَّقى الشُّبهاتِ ، فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ ، وقع في الحرام ) قسَّم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين ، وهذا إنَّما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه ، وهو ممن لا يعلمها ، فأمَّا مَنْ كان عالماً بها ، واتَّبع ما دلَّه علمهُ عليها ، فذلك قسمٌ ثالثٌ ، لم يذكره لظهور حكمه ، فإنَّ هذا القسم أفضلُ الأقسام الثلاثةِ ؛ لأنَّه عَلِمَ حكمَ الله في هذه الأمور المشتبهة على النَّاس(1) ، واتَّبع علمَه في ذلك . وأما من لم يعلم حكم الله فيها ، فهم قسمان : أحدهما من يتقي هذه الشبهات ؛ لاشتباهها عليه ، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه .
ومعنى استبرأ : طلب البراءة لدينه وعرضه(2) مِنَ النَّقْص والشَّين ، والعرض : هو موضعُ المدح والذمِّ من الإنسان ، وما يحصل له بذكره بالجميل مدحٌ ، وبذكره بالقبيح قدحٌ، وقد يكون ذلك تارةً في نفس الإنسان ، وتارةً في سلفه ، أو في أهله ، فمن اتَّقى الأمور المشتبهة واجتنبها ، فقد حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ القَدح والشَّين الداخل على من لا يجتنبها ، وفي هذا دليل على أنَّ من ارتكب الشُّبهات ، فقد عرَّض نفسه للقدح فيه والطَّعن ، كما قال بعض السَّلف : من عرَّض نفسه للتُّهم ، فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ(3) .
__________
(1) عبارة : ( على الناس ) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( ومعنى استبرأ : طلب البراءة لدينه وعرضه ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 8/479 من طريق سعيد بن المسيب من قول عمر بن الخطاب .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 8345 ) من طريق سعيد بن المسيب من قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . بلفظ : ( من عرض نفسه للتهم فلا يلومن الا نفسه ) .

وفي روايةٍ للترمذي(1) في هذا الحديث : ( فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه ، فقد سَلِمَ ) والمعنى : أنَّه يتركُها بهذا القصد - وهو براءةُ دينه وعرضه من النقص - لا لغرضٍ آخر فاسدٍ من رياءٍ ونحوه .
وفيه دليلٌ على أنَّ طلب البراءة للعرض ممدوحٌ كطلب البراءة للدين ، ولهذا ورد : ( أنَّ ما وقى به المرءُ عِرضَه ، فهو صدقةٌ(2) ) .
وفي رواية في " الصحيحين " (3) في هذا الحديث : ( فمن ترك ما يشتبه
عليه مِنَ الإثمِ ، كان لما استبانَ أتركَ ) يعني : أنَّ من ترك الإثمَ مع اشتباهه عليه ، وعدم تحققه ، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنَّه إثمٌ ، وهذا إذا كان تركه تحرُّزاً من الإثم ، فأمَّا من يَقصِدُ التصنعَ للناسِ ، فإنَّه لا يتركُ إلا ما يَظُنُّ أنَّه ممدوحٌ عندهم تركُهُ(4) .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 1205 ) .
(2) أخرجه : الدارقطني 3/28 ، والحاكم 2/50 ، وهو حديث ضعيف ضعفه الذهبي في التلخيص ، وأقره ابن الملقن في " مختصر استدراك الذهبي " 1/556 .
(3) " صحيح البخاري " 3/69 ( 2051 ) ، ولم نقف عليها في " صحيح مسلم " .
وأخرجه : الحميدي ( 918 ) ، وأبو عوانة 3/398-399 ، والبيهقي 7/264 و334 من حديث النعمان بن بشير ، بهذا اللفظ .
(4) سقطت من ( ص ) .

القسم الثاني : من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهةً عنده ، فأمَّا مَنْ أتى شيئاً مما يظنُّه الناس شبهةً ، لعلمه بأنَّه حلال في نفس الأمر ، فلا حَرَج عليه من الله في ذلك ، لكن إذا خشيَ من طعن الناس عليه بذلك ، كان تركُها حينئذ استبراءً لعرضه ، فيكون حسناً ، وهذا كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه واقفاً مع صفية : ( إنَّها صفيَّةُ بنتُ حُيي(1) ) . وخرج أنس إلى الجمعة ، فرأى الناسَ قد صلَّوا ورجعوا ، فاستحيى ، ودخل موضعاً لا يراهُ النَّاس فيه ، وقال : ( من لا يستحيي من الناس ،
لا يستحيي من الله ) . وخرّجه الطبراني مرفوعاً ، ولا يصحُّ(2) .
وإنْ أتى ذلك لاعتقاده أنَّه حلال ، إمَّا باجتهادٍ سائغٍ ، أو تقليدٍ سائغٍ ، وكان مخطئاً في اعتقاده ، فحكمهُ حكمُ الذي قبلَه ، فإنْ كان الاجتهادُ ضعيفاً ، أو التقليدُ غيرَ سائغٍ ، وإنَّما حمل عليه مجرّد اتباع الهوى ، فحكمُهُ حكمُ من أتاه مع اشتباهه عليه ، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه ، فقد أخبر عنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وقع في الحرام ، وهذا يفسر بمعنيين :
أحدهما : أنَّه يكونُ ارتكابُهُ للشبهة مع اعتقاده أنَّها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنَّه حرام بالتدريج والتسامح .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/64 ( 2035 ) و3/65 ( 2039 ) و4/99 ( 3101 ) و4/150
( 3281 ) و8/60 ( 6219 )، ومسلم 7/8 ( 2175 ) ( 24 ) ، وأبو داود ( 4994 ) ، وابن ماجه ( 1779 ) ، وابن حبان ( 3671 ) .
(2) في " الأوسط " ( 7159 ) ، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/27 ، قال : ( وفيه جماعة لم أعرفهم ) . وانظر : فيض القدير 6/312 ( 9095 ) .

وفي رواية في " الصحيحين " (1) لهذا الحديث : ( ومن اجترأَ على ما يشكُّ فيه مِنَ الإثمِ ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما استبانَ ) . وفي رواية : ( ومَنْ يُخالطِ الرِّيبةَ ، يوشِكُ أن يَجْسُرَ(2) ) ، أي : يَقرُب أنْ يقدم على الحرام المحضِ ، والجسورُ : المقدام الذي لا يهابُ شيئاً، ولا يُراقب أحداً ، ورواه بعضهم : ( يجشُر ) بالشِّين المعجمة ، أي : يرتع(3) ، والجَشْر : الرعي ، وجشرتُ الدابة : إذا رعيتها . وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ يرعى بجنباتِ الحرامِ ، يوشكُ أنْ يخالطهُ ، ومن تهاون بالمحقِّرات ، يُوشِكُ أنْ يُخالِطَ الكبائر ) (4).
والمعنى الثاني : أنَّ من أقدم على ما هو مشتبهٌ عنده ، لا يدري : أهو حلالٌ أو حرام ، فإنَّه لا يأمن أنْ يكون حراماً في نفس الأمر ، فيُصادِفُ الحرام وهو لا يدري أنَّه حرامٌ . وقد رُوي من حديث ابن عمر عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّن وبينهما(5) مُشتبهاتٌ ، فمن اتَّقاها ، كان أنزَه لدينِهِ وعِرضه ، ومن وقعَ في الشُّبهَاتِ أوشَكَ أنْ يقع في الحَرامِ ، كالمرتع حَولَ الحِمى ، يُوشِكُ أنْ يُواقعَ الحِمى وهو لا يشعر ) خرَّجه الطبراني(6) وغيره .
__________
(1) صحيح البخاري 3/70 ( 2051 ) ، ولم أقف عليه في " صحيح مسلم " .
(2) أخرجه : أبو داود ( 3329 ) ، والبزار ( 3268 ) ، والنسائي 8/327 ، وابن حبان
( 721 ) ، من حديث النعمان بن بشير ، به .
(3) عبارة : ( أي : يرتع ) سقطت من ( ص ) .
(4) وهو ضعيف لإرساله .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( أمور ) .
(6) في " الأوسط " ( 2889 ) .

واختلف العلماء : هل يُطيع والديه في الدُّخول في شيءٍ من الشُّبهة أم لا يُطيعهما ؟ فرُوي عن بشر بن الحارث ، قال : لا طاعة لهما في الشُّبهةِ ، وعن محمد ابن مقاتل العبَّادانيِّ قال : يُطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة ، وقال : يُداريهما، وأبى أنْ يُجيبَ فيها .
وقال أحمد : لا يشبعُ الرَّجل مِنَ الشُّبهة ، ولا يشتري الثوبَ للتَّجمُّل من الشُّبهة ، وتوقف في حدِّ ما يُؤكل وما يُلبس منها ، وقال في التَّمرة يلقيها الطيرُ : لا يأكلها ، ولا يأخذها ، ولا يتعرَّضُ لها .
وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلُسَ أو الدَّراهِم : أحبُّ إليَّ أنْ يتنزَّه
عنها ، يعني : إذا لم يدرِ من أين هي . وكان بعضُ السَّلف لا يأكلُ إلا شيئاً يعلمُ من أينَ هو ، ويسأل عنه حتّى يقفَ على أصله . وقد رُويَ في ذلك(1) حديثٌ مرفوعٌ ، إلا أنَّ فيه ضعفاً(2)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) لعله الحديث الذي أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الورع " ( 115 ) ، والطبراني في " الكبير " 25/( 428 ) ، والحاكم 4/125-126 ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/105 من حديث أم =
= ... عبد الله أخت شداد بن أوس ، أنَّها بعثت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في طول النهار وشدة الحر ، فرد إليها الرَّسول : ( أنى لك هذا اللبن ؟ ) قالت : من شاةٍ لي ؛ فرد إليها رسولها : ( أنى لك هذا الشاة ؟ ) قالت : أشتريتها من مالي ؛ فشرب، فلما كان من غد ، أتت أم عبد الله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول الله : بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحرِّ، فرددت فيه إليَّ الرسول ! فقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( بذلك أُمِرت الرسل قبلي، أنْ لا تأكل إلاّ طيباً ، ولا تعمل إلاّ صالحاً ) بلفظ ابن أبي الدنيا .

ذكره الهيثمي في " المجمع " 10/291 قال : ( وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ) ، وقال الذهبي في " تلخيص المستدرك " 4/126 : ( ابن أبي مريم واهٍ ) .

.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يرتَعَ فيه ، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حِمى، وإنَّ حِمى اللهِ محارمه ) : هذا مَثَلٌ ضربه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن وقع في الشُّبهات، وأنَّه يقرُب وقوعه في الحرام المحض ، وفي بعض الروايات أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( وسأضرب لذلك مثلاً ) ، ثم ذكر هذا الكلامَ ، فجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوكُ ، ويمنعون غيرهم من قُربانه ، وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حول مدينته(1) اثني عشر ميلاً حمى محرَّماً لا يُقطعُ شجرُه ولا يُصادُ صيدُه(2) ، وحمى عمرُ وعثمان أماكنَ ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة(3)
__________
(1) عبارة : ( حول مدينته ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/279 ، ومسلم 4/116 ( 1372 ) ( 472 ) من حديث أبي هريرة .
(3) أخرجه : البخاري 3/ 148 ( 2370 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أنَّ الصعب ابن جثامة ، قال : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا حمى إلا لله ورسوله ) . وقال بلغنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع ، وأنَّ عمر حمى السرف والربذة .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 23193 ) من حديث ابن عمر: أنَّ عمر حمى الربذة لنعم الصدقة .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 37690 ) ، والبيهقي 6/147 من حديث أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري ، قال: سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنَّ وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم فلما سمعوا =

= ... به أقبلوا نحوه ، قال : وكره أنْ يقدموا عليه بالمدينة فأتوه فقالوا له : ادع المصحف وافتح السابعة وكانوا يسمون سورة يونس السابعة فقرأها حتّى أتى على هذه الآية { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ } ، وقالوا له: قف . أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله تفترون ؟ فقال : امضه ، نزلت في كذا وكذا ، فأما الحمى ، فإنَّ عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة ، فلما وليت زادت إبل الصدقة ، فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة . بلفظ البيهقي .

.
والله - عز وجل - حمى هذه المحرَّمات ، ومنع عباده من قربانها وسمَّاها حدودَه ، فقال :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (1) ، وهذا فيه بيان أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهم وما حرَّم عليهم ، فلا يقربوا الحرامَ ، ولا يتعدَّوا الحلال ، ولذلك قال في آية أخرى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2) ، وجعل من يرعى حول الحمى ، أو قريباً منه جديراً بأنْ يدخُلَ الحِمى ويرتع فيه ، فكذلك من تعدَّى الحلال ، ووقع في الشبهات ، فإنَّه قد قارب الحرام غايةَ المقاربة ، فما أخلقَهُ بأنْ يُخالِطَ الحرامَ المحضَ ، ويقع فيه ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه(3) ينبغي التباعد عن المحرَّماتِ ، وأنْ يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً .
وقد خرّج الترمذي(4) وابن ماجه(5) مِنْ حديثِ عبد الله بن يزيد ، عن النَّبيِّ

- صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يبلغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتَّقين حَتّى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذراً مما به بأسٌ (6) ) .
__________
(1) البقرة : 187 .
(2) البقرة : 229 .
(3) إلى أنّه ) سقطت من ( ص ) .
(4) في " الجامع الكبير " ( 2451 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف .
(5) في " سننه " ( 4215 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 484 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 446 ) ، والحاكم 4/319 من حديث عطية السعدي .
(6) عبارة : ( حذراً مما به بأس ) سقطت من ( ص ) .

وقال أبو الدرداء : تمامُ التقوى أنْ يتقي الله العبدُ ، حتّى يتقيَه مِنْ مثقال ذرَّة ، وحتّى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلال ، خشيةَ أنْ يكون حراماً ، حجاباً بينه وبينَ
الحرام(1) .
وقال الحسنُ : مازالتِ التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام .
وقال الثوري : إنما سُموا المتقين ؛ لأنَّهم اتَّقَوْا مالا يُتَّقى(2) . وروي عن ابن عمر قال : إنِّي لأحبُّ أنْ أدعَ بيني وبين الحرام سترةً من الحلال لا أخرقها .
وقال ميمون بن مهران : لا يسلم للرجل الحلالُ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال(3) .
وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبينَ الحرام حاجزاً من الحلال(4) ، وحتى يدعَ الإثم وما تشابه منه(5) .
ويستدلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرَّمات وتحريم
الوسائل إليها ، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً من قواعدِ الشَّريعة تحريمُ قليلِ ما يُسكر كثيرُه(6)
__________
(1) أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته " على كتاب " الزهد " لابن المبارك ( 79 ) ، وابن أبي الدنيا في " التقوى " كما في " فتح الباري " 1/68 .
(2) لم أقف على قول الثوري ؛ ولكن وجدته من كلام ابن عيينة . انظر: حلية الأولياء 7/284 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/84 .
(4) من قوله : ( وقال سفيان بن عيينة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/288 .
(6) لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أسكر كثيرة فقليله حرام ) .
أخرجه : أحمد 3/343 ، واللفظ له ، وأبو داود ( 3681 ) ، وابن ماجه ( 3393 ) ، والترمذي ( 1865 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 4/217 ، وابن حبان ( 5382 ) ، والبيهقي 8/296 من حديث جابر بن عبد الله ، به ، قال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وله شواهد عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ،عن جده عند أحمد 2/167 و171 ، وابن ماجه ( 3394 ) .

وعن ابن عمر عند أحمد 2/91 ، وابن ماجه ( 3392 ) ، والبيهقي 8/296 .

، وتحريمُ الخلوة بالأجنبية ، وتحريمُ الصَّلاة بعد الصُّبح وبعدَ العصرِ سدَّاً لذريعة الصَّلاة عند طُلوع الشَّمس وعندَ غروبها(1) ، ومنعُ الصَّائم من المباشرة إذا كانت تحرِّكُ شهوتَه ، ومنع كثيرٍ من العلماءِ مباشرةَ الحائضِ فيما بين سرّتها ورُكبتها إلا مِنْ وراء حائلٍ ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر امرأتَه إذا كانت حائضاً أنْ تَتَّزر ، فيباشِرُها مِنْ فوق الإزار(2) .
ومن أمثلة ذلك وهو شبيه(3) بالمثل الذي ضربه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : من سيَّب دابَّته ترعى بقُرْب زرع غيرِه ، فإنَّه ضامن لما أفسدته من الزرع ، ولو كان ذلك
نهاراً(4)
__________
(1) ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّ الصلاة لا تجوز في هذه الأوقات بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه ، قالوا : فإنَّه جوّز أنْ يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه ، انظر : بداية المجتهد 1/191 ، والمفصّل 1/338 .
(2) عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا إذا حاضت تأتزر ، ثم يباشرها .
أخرجه : الطيالسي ( 1375 ) ، وأحمد 6/134 ، واللفظ له ، والبخاري 1/82 ( 300 ) ، ومسلم 1/166 ( 293 ) ( 1 ) ، وأبو داود ( 268 ) ، وابن ماجه ( 635 ) و( 636 ) ، وابن الجارود ( 106 ) ، وابن حبان ( 1364 ) و( 1367 ) ، والبيهقي 1/310 ، والبغوي
( 317 ) .
(3) عبارة : ( وهو شبيه ) سقطت من ( ص ) .
(4) عن حرام بن سعد ، قال : إنَّ ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً لقوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها .
... أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 1691 ) بتحقيقي ، واللفظ له ، وأحمد 5/435-436 ، وابن ماجه ( 2332 ) ، والبيهقي 8/341 ، والبغوي ( 2169 ) .

جاء في كتاب ابن سحنون أنَّ الحديث إنَّما جاء في أمثال المدينة التي لها حيطان محدقة ، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة وبساتين كذلك فيضمن أرباب الغنم ما أفسدت من ليل أو نهار . انظر : المحرر الوجيز لابن عطية : 1289 .

، هذا هو الصحيح ؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ بإرسالها في هذه الحال .
وكذا الخلاف لو أرسل كلبَ الصَّيدِ قريباً من الحرم ، فدخل الحرمَ فصاد فيه ، ففي ضمانه روايتان عن أحمد(1) ، وقيل : يضمنه بكلِّ حال(2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا وإنَّ في الجسد مضغةً ، إذا صَلَحَتْ ، صَلَحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه ، ألا وهي القلب ) ، فيه إشارةٌ إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه ، واجتنابه للمحرَّمات واتَّقاءه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه .
فإنْ كان قلبُه سليماً ، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله ، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها ، وتوقي للشبهات حذراً مِنَ الوقوعِ في المحرَّمات .
وإنْ كان القلبُ فاسداً ، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه ، وطلب ما يحبُّه ، ولو كرهه الله ، فسدت حركاتُ الجوارح كلها ، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب .
ولهذا يقال : القلبُ مَلِكُ الأعضاء ، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه ، وهم مع هذا(3) جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره ، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً ، وإنْ كان فاسداً كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً ، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم(4)
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 1/229 بتحقيقي ، والمغني لابن قدامة 3/354-355 .
(2) وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي ، وانظر : المغني لابن قدامة 3/354-355 .
(3) عبارة : ( جنوده وهم مع هذا ) سقطت من ( ص ) .
(4) ورد في هذا حديث عن أبي هريرة موقوف .
أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20375 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 109 ) .

وانظر : نوادر الأصول للحكيم الترمذي 2/192-193 و3/150 ، وفيض القدير للمناوي
( 6191 ) .

، كما قال تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } (1) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( اللهم إني(2) أسألُكَ قلباً سليماً )(3) ، فالقلب السليم : هو السالم من الآفات والمكروهات كلِّها ، وهو القلبُ الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبُّه الله ، وخشية الله ، وخشية ما يُباعد منه .
وفي " مسند الإمام أحمد " (4) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ) .
والمراد باستقامة إيمانه : استقامةُ أعمال جوارحه ، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلا باستقامة القلب ، ومعنى استقامة القلب : أنْ يكونَ ممتلئاً مِنْ محبَّةِ الله(5) ، ومحبَّة طاعته ، وكراهة معصيته .
__________
(1) الشعراء : 88-89 .
(2) عبارة : ( اللهم إني ) لم ترد في ( ج ) .
(3) أخرجه : أحمد 4/123 و125 ، والترمذي ( 3407 ) ، والنسائي 3/54 وفي " الكبرى " ، له ( 10648 ) ، وابن حبان ( 1974 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7135 ) و( 7175 ) ، والحاكم 1/508 من حديث شداد بن أوس ، به . وإسناده ضعيف .
(4) 3/198 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة .
وأخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " ( 887 ) عن أنس . وله شاهد عن الحسن ، عن بعض أصحاب النبي عند البيهقي في " شعب الإيمان " ( 8 ) .
(5) في ( ص ) : ( ممتلئاً من خشية الله ) .

وقال الحسن(1) لرجل : داوِ قلبكَ؛ فإنَّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم(2) ، يعني : أنَّ مراده منهم ومطلوبه صلاحُ قلوبهم ، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه(3) ومحبَّتُه وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليهِ ، وتمتلئَ مِنْ ذَلِكَ ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيد ، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) ، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هوَ الله وحده لا شريكَ لهُ ، ولو كانَ في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله ، لفسدت بذلك(4) السماوات والأرض ، كما قالَ تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا } (5) .
فعلم بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَم العلويِ والسُّفليّ(6) معاً حتى تكونَ حركاتُ أهلها كلُّها لله (7) ، وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلب وإرادته ، فإنْ كانت حركتُه وإرادتُه لله وحدَه ، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كلِّه(8) ، وإنْ كانت حركةُ القلب وإراداته لغيرِ الله تعالى فسدَ ، وفسدت حركاتُ الجسد بحسب فسادِ(9) حركة القلب .
وروى الليثُ ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى : { لا تُشْرِكوا به شيئاً } (10) قال : لا تحبُّوا غيري .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/154 .
(2) في ( ص ) : ( فإن مراد الله في العباد القلوب ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) الأنبياء : 22 .
(6) في ( ص ) : ( والعالم السفلي ) .
(7) في ( ص ) : ( لله وحده لا شريك له ) .
(8) من قوله : ( وإن كانت حركته ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(9) سقطت من ( ص ) .
(10) النساء : 36 ، والأنعام : 151 .

وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الشِّركُ أخفى من دبيب الذرِّ(1) على الصفا في اللَّيلة الظَّلماء ، وأدناهُ أنْ تُحِبَّ على شيءٍ من الجور ، وأنْ تُبغض على شيءٍ من العدل ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغض ؟ قال الله - عز وجل -
: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله } (2) ) (3) فهذا يدلُّ على أنَّ محبةَ ما يكرهه الله ، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيِّ ، ويدل على ذلك قوله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله } فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباعَ رسولِهِ ، فدلَّ على أنَّ المحبة لا تتمُّ بدون الطاعة والموافقة .
قال الحسن : قال أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، إنّا نُحِبُّ ربنا حباً شديداً . فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبه عَلَماً(4) ، فأنزل الله هذه الآية : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله } . ومن هنا قال الحسن : اعلم أنَّك لن تُحِبَّ الله حتى تُحِبَّ طاعته .
__________
(1) في ( ص ) : ( النمل ) .
(2) آل عمران : 31 .
(3) أخرجه : الحاكم 2/291 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/823 ( 1378 ) وهو حديث ضعيف ضعفه الدارقطني وابن الجوزي والذهبي .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5385 ) ، وطبعة التركي 5/325 ، وانظر : تفسير ابن أبي حاتم ( 3402 ) .

وسئل ذو النون : متى أُحِبُّ ربي ؟ قالَ : إذا كانَ ما يُبغضه عندك أمرَّ من الصبر(1) . وقال بشر بن السَّرِي : ليس من أعلام الحبِّ أنْ تُحبَّ ما يُبغِضُه حبِيبك(2) . وقال أبو يعقوب النهرجوري : كلُّ من ادَّعى محبة الله - عز وجل - ، ولم يُوافق الله في أمره ونهيه (3)، فدعواه باطل . وقال رُويم : المحبة الموافقة في كلِّ الأحوال ، وقال يحيى بنُ معاذ : ليس بصادقٍ من ادَّعى محبة الله ولم يحفظ حدوده ، وعن بعض السَّلف قال : قرأتُ في بعض الكتب السالفة : من أحبَّ الله لم يكن عنده شيء آثرَ من رضاه ، ومن أحبَّ الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه .
وفي " السنن " عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ أعطى للهِ ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، فقد استكمل الإيمان ) (4) ومعنى هذا أنَّ حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهراً وباطناً ، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه ، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه(5) وإنْ لم يتيقن ذلك .
قال الحسن : ما نظرتُ ببصري ، ولا نطقتُ بلساني ، ولا بطشتُ بيدي ، ولا نهضتُ على قدمي حتّى أنظر على طاعةٍ أو على معصية ، فإنْ كانت طاعةٌ تقدمت ، وإنْ كانت معصية تأخَّرت .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/363 و392 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/300 .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) عبارة : ( وعما يخشى أن يكون مما يكرهه ) سقطت من ( ص ) .

وقال محمد بن الفضل البَلخي : ما خطوتُ منذ أربعين سنة خطوةً لغير الله - عز وجل - . وقيل لداود الطائي : لو تنحيتَ من الظلِّ إلى الشمس ، فقال : هذه خُطا لا أدري كيف تكتب(1) .
فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبُهم ، فلم يبق فيها إرادةٌ لغير الله - عز وجل - ، صلحت جوارحُهم ، فلم تتحرّك إلا لله - عز وجل - ، وبما فيه رضاه ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) انظر : صفوة الصفوة لابن الجوزي 3/69 .


الحديث السابععَنْ تَميمٍ الدَّاريِّ - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الدِّينُ النَّصيحَةُ ثلاثاً ) ، قُلْنا : لِمَنْ يا رَسُولَ اللهِ ؟ قالَ : ( للهِ ولِكتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأئمَّةِ المُسلِمِينَ وعامَّتِهم ) رَواهُ مُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجه مسلم(1) من رواية سُهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بنِ يزيد الليثي ، عن تميم(2) الدَّاري ، وقد روي عن سهيل وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(3) ، وخرَّجه الترمذي (4) من هذا الوجه ، فمن العلماء مَنْ صححه من الطريقين جميعاً ، ومنهم من قال : إنَّ الصحيح حديثُ تميم ، والإسناد الآخر وهم(5) .
__________
(1) في " صحيحه " 1/53 ( 55 ) ( 95 ) و( 96 ) و1/54 ( 55 ) ( 96 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 837 ) ، وأحمد 4/102 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 6/248
( 2990 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1089 ) و( 1090 ) و( 1091 ) ، وعبد الله ابن أحمد في " زياداته " 4/102 ، والنسائي 7/156 وفي " الكبرى " ، له ( 7820 )
و( 7821 ) و( 8753 ) ، وابن حبان ( 4574 ) و( 4575 ) ، والبيهقي 8/163 وفي
" شعب الإيمان "، له ( 7400 ) و( 7401 ) ، والبغوي ( 3514 ) من حديث تميم الداري، به .
(2) عن تميم ) لم ترد في ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/297 ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1092 ) و( 1093 )
و( 1094 ) ، والنسائي 7/157 وفي "الكبرى" ، له ( 7822 ) و( 7823 ) و( 8754 ) ، وابن حجر في " تغليق التعليق " 2/58 من حديث أبي هريرة ، به .
(4) في " جامعه " ( 1926 ) .
(5) قال البخاري في " التاريخ الأوسط " 2/35 : ( مدار الحديث كله على تميم ولم يصح عن أحد غير تميم ) . وانظر : فتح الباري 1/182 .

وقد رُوي هذا الحديثُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابنِ عمر ، وثوبان ، وابنِ عباسٍ ، وغيرهم(1) .
وقد ذكرنا في أوَّل الكتاب عن أبي داود : أنَّ هذا الحديث أحدُ الأحاديث التي يدور عليها الفقه(2) .
وقال الحافظ أبو نُعيم : هذا حديثٌ له شأن ، ذكر محمدُ بنُ أسلم الطوسي أنَّه أحدُ أرباع الدين(3) .
وخرَّج الطبرانيُّ(4) من حديث حُذيفة بن اليمان ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ لا يَهْتَمُّ بأمرِ المُسلمين فليس منهم ، ومَنْ لَمْ يُمْسِ ويُصْبِحْ ناصِحاً للهِ ولرسوله ولكتابه ولإمامِه ولعامَّة المسلمين فليس منهم ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(5)
__________
(1) أخرجه : الدارمي ( 2757 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 62 ) ، وابن حجر في
" تغليق التعليق " 2/60 من حديث ابن عمر ، به .
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 2/11 ( 1522 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 1095 ) ، والروياني في "مسند الصحابة" ( 657 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1206 ) من حديث ثوبان ، به .
وأخرجه : أحمد 1/351 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 61 ) ، والطبراني في
" الأوسط " ( 11198 ) ، وابن حجر في "تغليق التعليق" 2/59 من حديث ابن عباس، به .
(2) في ( ص ) : ( الدين ) .
(3) انظر : صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح 1/221 .
(4) في " الأوسط " ( 7473 ) وفي " الصغير " ، له ( 890 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " أخبار أصبهان " 2/252 من حديث حذيفة بن اليمان ، به ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 1/87 .
(5) في " مسنده " 5/254 . =

= ... وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 204 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7833 )
و( 7880 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/175 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 3515 ) من حديث أبي أمامة ، به ، وإسناده ضعيف جداً لضعف عبيد الله بن زَحْر ، ولشدة ضعف علي ابن يزيد الألهاني .

من حديث أبي أمامة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله - عز وجل - : أحبُّ ما تعبَّدَني به عبدي النصحُ لي ) .
وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموماً ، وفي بعضها : النصح لولاة أمورهم ، وفي بعضها : نصح ولاة الأمور لرعاياهم .
فأما الأوَّل : وهو النصحُ للمسلمين عموماً(1) ، ففي " الصحيحين " (2) عن جرير بن عبد الله قال : بايعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على إقامِ الصَّلاةِ ، وإيتاءِ الزكاة ، والنصح لكلِّ مسلم .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( حقُّ المؤمن على المؤمن ستّ ) فذكر منها : ( وإذا استنصحك فانصَحْ له ) . ورُوي هذا الحديث من وجوه أخر عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(4) .
وفي " المسند " (5)
__________
(1) من قوله : ( وفي بعضها : النصح لولاة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 1/22 ( 57 ) و1/139 ( 524 ) و2/131 ( 1401 ) و3/94
( 2157 ) و3/247 ( 2715 )، وصحيح مسلم1/54 ( 56 ) ( 97 ) و( 98 ) و( 99 ).
وأخرجه : الحميدي ( 795 ) ( 798 ) ، وأحمد 4/360 و361 و364 و365 ، والدارمي
( 2543 ) ، والترمذي ( 1925 ) ، والنسائي 7/152 وفي " الكبرى " ، له ( 321 )
و( 7781 ) ، وابن خزيمة ( 2259 ) من حديث جرير بن عبد الله ، به .
(3) 7/3 ( 2162 ) ( 5 ) .
وأخرجه : أحمد 2/321 و372 و412 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 925 )
و( 991 ) ، والترمذي ( 2737 ) ، والنسائي 4/53 وفي " الكبرى " ، له ( 2065 ) ، وأبو يعلى ( 6504 ) ، وابن حبان ( 242 ) ، والبيهقي 5/347 و10/108 وفي "شعب الإيمان" ( 9167 ) ، والبغوي ( 1405 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) أخرجه : أحمد 1/89 ، والدارمي ( 2633 ) ، والبزار ( 850 ) من حديث علي ، به .
وأخرجه : أحمد 2/68 من حديث ابن عمر ، به .
(5) مسند الإمام أحمد 3/418 .

وأخرجه : الطيالسي ( 1312 ) ، وعبد بن حميد ( 438 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 4/11 ، والطبراني في " الكبير " 22/( 888 ) - ( 892 ) عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه ، به ، وإسناد الحديث فيه اضطراب من قبل عطاء بن السائب ؛ لكن المتن له ما يعضده .

عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( إذا استَنْصَحَ أحَدُكُم أخاه ، فليَنْصَح له ) .
وأما الثاني : وهو النصحُ لولاة الأمور ، ونصحهم لرعاياهم ، ففي " صحيح
مسلم " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً : يَرْضَى
لكم (1) أنْ تعبُدُوه ولا تُشْرِكوا به شيئاً ، وأنْ تعتصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرَّقوا ، وأنْ تُناصِحُوا مَنْ وَلاّه الله أمركم(2) ) .
وفي " المسند " (3) وغيره عن جُبير بنِ مطعم : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بالخَيْفِ مِنْ مِنى : ( ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ امرئ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومناصحةُ ولاةِ الأمر ، ولزومُ جماعة المسلمين ) . وقد روى هذه الخطبة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ منهم أبو سعيد الخدري(4) .
وقد رُوي حديثُ أبي سعيد بلفظ آخر خرَّجه الدَّارقطني في " الأفراد "(5) بإسناد جيد ، ولفظه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلم : النصيحةُ لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين ) .
وفي " الصحيحين " (6)
__________
(1) عبارة : ( يرضى لكم ) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح مسلم 5/130 ( 1715 ) ( 10 ) .
أخرجه : أحمد 2/327 و360 و367 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 442 ) ، وابن حبان ( 3388 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) مسند الإمام أحمد 4/80 .
وأخرجه : ابن حبان في " المجروحين " 1/4-5 ، والطبراني في " الكبير " ( 1541 ) ، والحاكم 1/87 من حديث جبير بن مطعم ، به . وهو حديث قويٌّ .
(4) أخرجه البزار كما في " كشف الأستار " ( 141 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
(5) لم أجده في أطراف الغرائب والأفراد .
(6) صحيح البخاري 9/80 ( 7150 ) ، وصحيح مسلم 1/87 ( 142 ) ( 229 ) و6/8
( 142 ) ( 22 ) .

وأخرجه : أحمد 5/27 ، وأبو عوانة 4/386 ، وابن قانع في " معجم الصحابة " 3/79 من حديث معقل بن يسار ، به .

عن معقل بن يسار ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً ثُمَّ لم يُحِطْها بنصيحةٍ إلا لم يَدْخُلِ الجنة ) .
وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السَّلامُ أنَّهم نصحوا لأممهم كما أخبر بذلك(1) عن نوحٍ ، وعن صالح ، وقال تعالى (2) : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ } (3) يعني : أنَّ من تخلف عن الجهادِ لعذر ، فلا حرج عليه بشرط أنْ يكونَ ناصحاً لله ورسوله في تخلُّفِهِ ، فإنَّ المنافقين كانوا يُظهرون الأعذارَ كاذبين ، ويتخلَّفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله .
وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الدينَ(4) النصيحةُ ، فهذا يدلُّ على أنَّ النصيحة تَشْمَلُ خصالَ الإسلام والإيمانِ والإحسانِ التي ذكرت في حديث جبريل ، وسمَّى ذلك كُلَّه(5) ديناً ، فإنَّ النُّصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهِها ، وهو مَقام الإحسّان ، فلا يكملُ النُّصحُ لله بدون ذلك ، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرَّب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرَّمات والمكروهات على هذا الوجه أيضاً .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) تعالى ) لم ترد في ( ج ) .
(3) التوبة : 91 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( عند الله ) .
(5) سقطت من ( ص ) .

وفي مراسيل الحسن ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدانِ ، فكان أحدهما يُطِيعُه إذا أمره ، ويُؤدي إليه إذا ائتمنه ، وينصح له إذا غابَ عنه ، وكان الآخر يَعصيه إذا أمره ، ويخونُه إذا ائتمنه ، ويغِشُّه إذا غاب عنه كانا
سواء ؟ ) قالوا : لا ، قال : ( فكذاكم أنتم عند الله - عز وجل - )(1) خرَّجه ابنُ أبي
الدنيا .
وخرَّج الإمام أحمد(2) معناه من حديث أبي الأحوص ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - .
وقال الفضيل بنُ عياض : الحبُّ أفضلُ من الخوف ، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يُحبك ، والآخر يخافك ، فالذي يُحبّك منهما ينصحُك(3) شاهداً كنت أو غائباً لِحبه إيَّاك ، والذي يخافك عسى أنْ ينصحَك إذا شَهِدْتَ لما يخاف ، ويغشك إذا غبتَ ولا ينصحُك(4) .
قال عبدُ العزيز بن رفيع : قال الحواريون لعيسى - عليه السلام - : ما الخالصُ من
العمل ؟ قال : ما لا تُحِبُّ أنْ يَحْمَدَك الناسُ عليه ، قالوا : فما النصحُ لله ؟ قال : أنْ تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإنْ عَرَض لكَ أمران : أحدهما لله ، والآخرُ للدنيا ، بدأت بحقِّ الله تعالى(5) .
قال الخطابيُّ : النصيحةُ كلمةٌ يُعبر بها عن جملة هي إرادةُ الخيرِ للمنصوح له ، قال : وأصلُ النصح في اللغة الخُلوص ، يقال : نصحتُ العسل : إذا خلصتَه من الشمع .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في كتاب " الزهد الكبير " 2/285 ، وإسناده ضعيف لإرساله .
(2) في " مسنده " 4/137 .
وأخرجه : الحميدي ( 883 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 622 ) عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، به ، وهو حديث صحيح .
(3) عبارة : ( منهما ينصحك ) سقطت من ( ص ) .
(4) انظر : التخويف من النار للمصنف : 17 .
(5) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 308 ) ، وابن أبي حاتم في " التفسير " ( 10207 ) عن أبي ثمامة الصائدي ، به .
وانظر : نوادر الأصول للحكيم الترمذي 2/27 .

فمعنى النصيحة لله سبحانه : صحةُ الاعتقادِ في وحدانيته ، وإخلاصُ النية في
عبادته ، والنصيحة لكتابه : الإيمانُ به ، والعمل بما فيه ، والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوّته ، وبذل الطاعة له فيما أمَرَ به ، ونهى عنه ، والنصيحةُ لعامة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم . انتهى(1) .
وقد حكى الإمامُ أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب " تعظيم قدر
الصَّلاة " (2) عن بعض أهلِ العلم أنَّه فسَّر هذا الحديث بما لا مزيدَ على حسنه ، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه . قال محمد بن نصر : قال بعض أهل العلم : جماعُ تفسير النصيحة هو عنايةُ القلب للمنصوح له مَنْ كان ، وهي على وجهين : أحدهما
فرض ، والآخر نافلة ، فالنصيحةُ المفترضة لله : هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ، ومجانبة ما حرَّم .
وأما النصيحة التي هي نافلة ، فهي إيثار مَحبته على محبة نفسه ، وذلك أنْ يَعْرِض أمران ، أحدهما لنفسه ، والآخرُ لربه ، فيبدأ بما كان لربه ، ويؤخر ما كان لنفسه ، فهذه جملة تفسير النصيحة لله ، الفرض منه والنافلة ، ولذلك تفسير ، وسنذكر بعضَه لِيفهم (3) بالتفسير من لا يفهم الجملة .
__________
(1) انظر : حاشية السندي 1/158 .
(2) " تعظيم قدر الصلاة " 2/691-694 .
(3) في ( ص ) : ( وكذلك فصل تفسيره بعضهم ليفهم ) .

فالفرضُ منها مجانبةُ نهيه ، وإقامةُ فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقاً له ،
فإنْ عَجَزَ عن الإقامة بفرضه لآفة حَلَّتْ به من مرض ، أو حبس ، أو غير ذلك ،
عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلةُ المانعةُ له ، قال الله - عز وجل - : { لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } (1) ، فسماهم محسنين لِنصيحتهم لله بقلوبهم لمَّا مُنِعُوا من الجهاد بأنفسهم .
وقد ترفع الأعمالُ كُلُّها عن العبد في بعض الحالات ، ولا يُرفع عنه النصحُ
لله ، فلو كان من المرض بحالٍ لا يُمكنه عملٌ بشيء من جوارحه بلسانٍ ولا غيره ،
غير أنَّ عقلَه ثابتٌ ، لم يسقط عنه النصحُ لله بقلبه(2) وهو أنْ يندمَ على ذنوبه ، وينويَ إنْ صحَّ أنْ يقومَ بما افترض الله عليه ، ويجتنبَ ما نهاه عنه ، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه .
وكذلك النصحُ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أوجبه على الناس عن أمرِ ربه ، ومن النصح الواجب لله أنْ لا يرضى بمعصية العاصي ، ويُحِبَّ طاعةَ من أطاعَ الله ورسولَه .
وأما النصيحةُ التي هي نافلةٌ لا فرض (3) : فبذل المجهود بإيثار الله تعالى على كُلِّ محبوب بالقلب وسائرِ الجوارح حتى لا يكونَ في الناصح فضل عن غيره ، لأنَّ الناصحَ إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكُلِّ ما كان في القيام به سرورُه ومحبتُه ، فكذلك الناصحُ لربه ، ومن تنفَّل لله بدون الاجتهاد ، فهو ناصح على قدر عمله ، غير مستحق للنصح بكماله .
__________
(1) التوبة : 91 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( وكذا النصح لرسوله فيما أوجبه على الناس ) .
(3) عبارة : ( لا فرض ) سقطت من ( ص ) .

وأما النصيحة لكتاب الله ، فشدةُ حبه وتعظيمُ قدره ، إذ هو كلامُ الخالق ،
وشدةُ الرغبة في فهمه ، وشدةُ العناية(1) لتدبره والوقوف عند تلاوتهِ ؛ لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أنْ يفهمه عنه ، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه ، وكذلك الناصحُ من العباد يفهم وَصِيَّةَ من ينصحه ، وإنْ ورد عليه كتابٌ منه ، عُني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه ، فكذلك الناصحُ لِكتاب ربه ، يعنى بفهمه ؛ ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى ، ثم يَنْشُرُ ما فهم في العباد ويُديم دراسته بالمحبة له ، والتخلق بأخلاقه ، والتأدُّب بآدابه .
وأما النصيحة للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في حياته: فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته . وأما بعد وفاته : فالعناية بطلب سنته ، والبحث عن أخلاقه وآدابه ، وتعظيم أمره ، ولزوم القيام به ، وشدَّة الغضب ، والإعراض عمَّن تديَّن بخلاف سنته ، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا ، وإنْ كان متديناً بها ، وحبّ مَنْ كان منه بسبيلٍ من قرابة ، أو صِهرٍ ، أو هِجرةٍ أو نُصرةٍ ، أو صحبة ساعة من ليلٍ أو نهارٍ على الإسلام والتشبه به في زيِّه ولباسه .
وأما النصيحةُ (2) لأئمة المسلمين : فحبُّ صلاحِهم ورشدهِم وعدلهم ، وحبُّ اجتماع الأمة عليهم ، وكراهةُ افتراقِ الأمة عليهم ، والتدينُ بطاعتهم في طاعة الله - عز وجل - ، والبغضُ لمن رأى الخروجَ عليهم ، وحبُّ(3) إعزازهم في طاعة الله - عز وجل - .
__________
(1) عبارة : ( فهمه وشدة العناية ) سقطت من ( ص ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( لكتابه ) .
(3) سقطت من ( ص ) .

وأما النصيحةُ للمسلمين : فأنْ يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنفسه ، ويكره لهم
ما يكره لنفسه ، ويُشْفِقَ عليهم ، ويرحمَ صغيرهم ، ويُوَقِّرَ كبيرَهم ، ويَحْزَنَ
لحزنهم ، ويفرحَ لفرحهم ، وإنْ ضرَّه ذلك في دنياه كرخص أسعارهم ، وإنْ
كان في ذلك فواتُ ربح ما يبيعُ من تجارته ، وكذلك جميعُ ما يضرُّهم عامة ، ويحب صلاحَهم وألفتَهم ودوامَ النعم عليهم ، ونصرَهم على عدوهم ، ودفعَ كل أذى ومكروه عنهم .
وقال أبو عمرو بن الصلاح (1) : النصيحة كلمةٌ جامعة تتضمَّنُ قيامَ الناصح للمنصوح له بوجوهِ الخير إرادةً وفعلاً.
فالنصيحةُ لله تعالى : توحيدُه ووصفُه بصفاتِ الكمال والجلال ، وتنزيهُه عما يُضادُّها ويخالِفُها ، وتجنبُ معاصيه ، والقيامُ بطاعته ومحابه بوصفِ الإخلاصِ ، والحبُّ فيه والبغض فيه ، وجهادُ مَنْ كفر به تعالى وما ضاهى ذلك ، والدعاءُ إلى ذلك ، والحثُّ عليه .
والنصيحةُ لكتابه : الإيمانُ به وتعظيمُه وتنزيهُه ، وتلاوتُه (2) حَقَّ تلاوته ، والوقوفُ مع أوامره ونواهيه ، وتفهُّم علومه وأمثاله ، وتدبرُ آياته ، والدعاءُ إليه ،
وذبُّ تحريف الغالين(3) وطعنِ الملحدين عنه .
__________
(1) " صيانة صحيح مسلم " : 223-224 .
(2) عبارة : ( حق تلاوته ) سقطت من ( ص ) .
(3) الذب : يذب ذباً : دفع ومنع . تاج العروس 2/419 ( ذيب ) .
والتحريف : هو تغيير الكلمة عن معناها . العين : 183 ( حرف ) .
والغالين : من غلا : غلا الرجل في الأمر غُلواً : جاوز الحد . مجمل اللغة 3/683 ( غلو ) .
ومراد المصنف راجعه في كتاب " شرح التبصرة والتذكرة " 1/332-334 مع تعليقي عليه .

والنصيحةُ لِرسوله قريب من ذلك(1) : الإيمان به وبما جاء به وتوقيرُه وتبجيلهُ ، والتمسك بطاعته، وإحياءُ سنته واستنشارة علومه ونشرُها ومعاداةُ من عاداه وعاداها، وموالاةُ من والاه ووالاها ، والتخلقُ بأخلاقه ، والتأدبُ بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك .
والنصيحة لأئمة المسلمين : معاونتُهم على الحق ، وطاعتُهم فيه ، وتذكيرهم به ، وتنبيههم في رفق ولطف ، ومجانبة الوثوب عليهم ، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك .
والنصيحةُ لعامة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم ، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم ، وستر عوراتهم ، وسدِّ خلاتهم ، ونصرتهم على أعدائهم ، والذبّ عنهم ، ومجانبة الغش والحسد لهم ، وأنْ يحبَّ لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ، وما شابه ذلك ، انتهى ما ذكره (2).
ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم : إيثارُ فقيرِهم وتعليمُ جاهلهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردِّهم إلى الحق ، والرفقُ بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضررٍ له في دنياه ، كما قال بعضُ السَّلف : وددتُ أنَّ هذا الخلق أطاعوا الله وأنَّ لحمي قُرِضَ بالمقاريضِ(3) ، وكان عمرُ بن عبد العزيز يقول : يا ليتنِي عملتُ فيكم
بكتابِ الله وعملتُم به ، فكلما عملتُ فيكم بسنة ، وقع منى عضوٌ حتى يكونَ آخر شيءٍ منها خروج نفسي .
__________
(1) عبارة : ( قريب من ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(2) أي : ابن الصلاح .
(3) هذا قول زهير بن نعيم البابي . انظر : صفوة الصفوة لابن الجوزي 4/7 ، وتهذيب الكمال للمزي 3/40 ، وتهذيب التهذيب لابن حجر 3/312 .

ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله - وهو مما يختص به العلماء -
ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة ، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء
كلها ، وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء ، وبيانُ دلالة الكتاب والسنة على ردِّها ، ومن ذلك بيان ما صحَّ من حديث النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومالم يصح منه بتبين حالِ رواته ومَنْ تُقْبَلُ رواياته منهم ومن لا تُقبل ، وبيان غلط مَنْ غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم .
ومن أعظمِ أنواع النصح أنْ يَنْصَحَ لمن استشاره في أمره ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - :
( إذا استَنْصَحَ أحدُكُم أخاه ، فليَنْصَحْ له ) (1) ، وفي بعض الأحاديث : ( إنَّ من حقِّ المسلم على المسلم أنْ ينصحَ له إذا غابَ ) (2) ومعنى ذلك : أنَّه إذا ذكر في غيبه بالسوء أنْ ينصره ، ويرد عنه ، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبه ، كفه عن ذلك ، فإنَّ النصح في الغيب يدلُّ على صدق النصح، فإنَّه قد يظهر النصحَ في حضوره تملقاً، ويغشه في غيبه .
وقال الحسن : إنَّك لن تَبْلُغ حقَّ نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تَعْجَزُ عنه .
قال الحسن : وقال بعضُ أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده إنْ شئتم لأقسمنَّ لكم بالله إنَّ أحبَّ عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ويُحببون عباد الله إلى الله ، ويسعون في الأرض بالنصيحة(3) .
__________
(1) سبق تخريجه وهو في " مسند الإمام أحمد " 3/418 .
(2) أخرجه : أحمد 2/321 ، والترمذي ( 2737 ) ، والنسائي 4/53 وفي " الكبرى " ، له
( 2065 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8753 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حديث صحيح ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الأولياء " 1/20 عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، به .

وقال فرقد السَّبَخِيُّ : قرأتُ في بعض الكتب : المحبُّ لله - عز وجل - أميرٌ مُؤَمَّرٌ على الأمراء ، زمرتُه أوَّلُ الزمر يومَ القيامة ، ومجلسُه أقربُ المجالس فيما هناك والمحبةُ
منتهى القربة والاجتهاد ، ولن يسأَمَ المحبون من طول اجتهادهم لله - عز وجل - ، يحبُّونه ويُحِبُّونَ ذكره ، ويُحبِّبونه إلى خلقه ، يمشون بَيْنَ عباده بالنصائح ، ويخافون عليهم من أعمالهم يومَ تبدو الفضائح ، أولئك أولياءُ الله وأحبَّاؤه وأهلُ(1) صفوته ، أولئك الذين لا راحةَ لهم دونَ لقائه .
وقال ابنُ عُلَيَّةَ في قول أبي بكر المزني : ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه - أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيء كان في قلبه ، قال : الذي كان في قلبه الحبُّ لله - عز وجل - ، والنصيحة في خلقه .
وقال الفضيلُ بن عياض : ما أدركَ عندنا مَنْ أدرك بكثرة الصلاة والصيام ، وإنما أدرك عندنا بسخاءِ الأنفس ، وسلامةِ الصدور ، والنصح للأمة(2) .
وسئل ابنُ المباركَ : أيُّ الأعمال أفضلُ ؟ قال : النصحُ لله .
وقال معمر : كان يقال : أنصحُ الناسِ لك مَنْ خاف الله فيك .
وكان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ ، وعظوه سراً حتّى قال بعضهم : مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه(3).
وقال الفضيل : المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كان مَنْ كان قبلكم إذا رأى الرجلُ من أخيه شيئاً يأمره في رفق ، فيؤجر في أمره ونهيه ، وإنَّ أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/103 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 10891 ) .
(3) قال الشافعي : من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه .
أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/140 .

وسئل ابنُ عباس - رضي الله عنهما - عن أمر السلطان بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، فقال : إنْ كنت فاعلاً ولابدَّ ، ففيما بينك وبينه(1) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : ليس على المسلم نصحُ الذمي ، وعليه نصحُ المسلم . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والنصح لكل مسلم ، وأنْ ينصح لجماعةِ المسلمين وعامتهم )(2) .
__________
(1) أخرجه: سعيد بن منصور في " سننه " ( 846 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7592 ).
(2) سبق تخريجه .


الحديث الثامنعَنِ ابن عُمَرَ - رضيَ الله تعالَى عَنْهُما - : أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ ، فإذا فَعَلوا ذلكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُم وأَموالَهُم، إلاَّ بِحَقِّ الإسلامِ ، وحِسَابُهُم على اللهِ تَعالَى ) رَوَاهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ .
هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين " (1) من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمر .
وقوله : ( إلا بحقِّ الإسلام ) هذه اللفظة تفرَّد بها البخاري(2) دون مسلم .
وقد روي معنى هذا الحديث عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ ففي " صحيح
البخاري " (3)
__________
(1) صحيح البخاري 1/12 ( 25 ) ، وصحيح مسلم 1/39 ( 22 ) ( 36 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 175 ) و( 219 ) ، والدارقطني 1/232 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 4 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 25 ) ، والبيهقي 3/92 و367 و8/177 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 33 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(2) في " صحيحه " 1/12 ( 25 ) .
(3) صحيح البخاري 1/108 ( 392 ) .
وأخرجه : أحمد 3/199 و224 و225 ، وأبو داود ( 2641 ) و( 2642 ) ، والترمذي
( 2608 ) ، والنسائي 7/75 و76 و8/109 وفي " الكبرى " ، له ( 3414 ) و( 3415 ) ، وابن حبان ( 5895 ) من حديث أنس بن مالك ، به .

عن أنسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أُمِرتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتّى يَشهَدُوا أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُهُ ، فإذا شَهِدُوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله ، وصَلَّوا صَلاتَنا ، واستَقْبَلُوا قِبلَتَنا ، وأكلُوا ذَبِيحَتنا ، فقَدْ حَرُمَتْ علينا دِماؤُهم وأموالُهم إلاَّ بحقِّها ) .
وخرَّجَ الإمامُ أحمد(1) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( إنَّما أُمِرْتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يُقيموا الصلاة ، ويُؤْتُوا الزكاة ، ويَشهَدوا أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريكَ(2) له ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله ، فإذا فَعَلوا ذلك ، فقد اعتصَمُوا(3) وعَصَمُوا دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها ، وحِسابُهُم على اللهِ - عز وجل - ) .
وخرَّجه ابن ماجه مختصراً(4) .
وخرَّج نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً(5) ، ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكرُ : إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ، ففي " الصحيحين " (6)
__________
(1) في " مسنده " 5/246 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 113 ) ، وابن ماجه ( 72 ) ، والبزار ( 2669 )
و( 2670 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 7 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
(2) عبارة : ( وحده لا شريك له ) لم ترد في ( ص ) .
(3) فقد اعتصموا ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " سننه " ( 72 ) .
(5) في " سننه " ( 71 ) ، وسنده منقطع .
(6) صحيح البخاري 2/131 ( 1399 ) و4/58 ( 2946 ) و9/19 ( 6924 ) و9/115
( 7284 ) و( 7285 ) ، وصحيح مسلم 1/38 ( 20 ) ( 32 ) و1/38-39 ( 21 ) ( 33 ) و( 34 ) و( 35 ) . =

= ... وأخرجه : الطيالسي ( 2441 ) ، وأحمد 1/11 و2/314 و345 و377 و423 و439 و475 و482 و502 و528 ، وأبو داود ( 2640 )، وابن ماجه ( 3927 )، والترمذي ( 2606 ) ، والنسائي 5/14 و6/4 و6 و7 و7/77 و78 و79 وفي "الكبرى" ، له ( 3418 ) و( 3419 ) و( 3420 ) و( 3421 ) و( 3422 ) و( 3423 ) و( 3424 ) و( 3425 ) و( 3426 ) ، وابن الجارود ( 1032 ) ، وابن خزيمة ( 2248 )، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/115 ، وابن حبان ( 174 ) و( 216 ) و( 217 ) و( 218 ) و( 220 ) من حديث أبي هريرة ، به .

عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أُمِرتُ أنْ أقاتِلَ الناس حتَّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله عَصَمَ منِّي مالَه ونَفسَهُ إلا بحقِّه ، وحِسَابُه على الله - عز وجل - ) وفي رواية لمسلم (1): ( حتّى يَشهَدوا أنْ لا إله إلا الله ، ويُؤمِنوا بي وبما جئتُ به ) .
وخرَّجه مسلم(2) أيضاً من حديث جابر - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بلفظ حديث أبي هريرة الأوَّل وزاد في آخره : ثم قرأ : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ } (3) .
وخرّج أيضاً (4) من حديث أبي مالك الأشجعي ، عن أبيه قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( مَنْ قالَ : لا إله إلاَّ الله وكَفَرَ بما يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ حُرِّمَ مالُه ودَمُه
وحسابه على الله - عز وجل - ) .
وقد رُوي عن سفيان بن عُيينة أنَّه قال : كان هذا في أوَّل(5) الإسلام قَبْلَ فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة ، وهذا ضعيف جداً ، وفي صحته عن سفيان نَظَر ، فإنَّ رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وبعضُهُم تأخَّر إسلامُه .
__________
(1) في " صحيحه " 1/39 ( 21 ) ( 34 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) في " صحيحه " 1/39 ( 21 ) ( 35 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 10021 ) و( 19251 ) ، وأحمد 3/300 ، وابن ماجه ( 3928 ) ، والترمذي ( 3341 ) ، والنسائي 7/79 وفي " الكبرى " ، له ( 3425 )
و( 11606 ) ، وأبو يعلى ( 2282 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
(3) الغاشية : 21-22 .
(4) صحيح مسلم 1/39 ( 23 ) ( 37 ) و1/40 ( 23 ) ( 38 ) .
(5) في ( ص ) : ( بدو ) .

ثم قوله : ( عَصَمُوا منِّي دماءهُم وأموالَهُم ) يدلُّ على أنَّه كان عند هذا القول مأموراً بالقتال ، وبقتل من أبى الإسلام ، وهذا كُلُّه بعد هجرته إلى المدينة ، ومن المعلوم بالضرورة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل مِنْ كل منْ جاءه يريدُ الدخولَ في الإسلامِ الشهادتين فقط ، ويَعْصِمُ دَمَه بذلك ، ويجعله مسلماً ، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتلَه لمن قال : لا إله إلا الله ، لما رفع عليه السيفَ ، واشتدَّ نكيرُه عليه(1) .
ولم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يشترطُ على مَنْ جاءه يريدُ الإسلامَ أنَّ يلتزمَ الصلاة والزكاة ، بل قد روي أنَّه قبل من قومٍ الإسلام ، واشترطوا أنْ لا يزكوا ، ففي " مسند الإمام
أحمد "(2) عن جابر قال : اشترطت ثقيفٌ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا صدقةَ عليها ولا جهادَ ، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سَيَصَّدَّقُون ويُجاهدون ) .
وفيه أيضاً عن نصر بن عاصم الليثي ، عن رجل منهم : أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلم على أنْ لا يُصلي إلا صلاتين ، فقبل منه(3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/200 و207 ، والبخاري 5/183 ( 4269 ) ، 9/4 ( 6872 ) ، ومسلم 1/67 ( 96) ( 158 ) و1/68 ( 96 ) ( 159 ) ، وأبو داود ( 2643 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 8540 ) و( 8541 ) من حديث أسامة بن زيد ، به .
(2) المسند 3/341 .
وأخرجه : أبو داود ( 3025 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 5/306 ، وهو حديث صحيح .
(3) أخرجه : أحمد 5/25 ، وإسناده كلهم ثقات غير هذا المبهم الذي حدّث نصر بن عاصم . وانظر : المغني 10/625 .

وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث ، وقال : يصحُّ الإسلامُ على الشرط الفاسد ، ثم يُلزم بشرائع الإسلام كُلها ، واستدلَّ أيضاً بأنَّ حكيم بنَ حِزام قال : بايعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أَخِرَّ إلاّ قائماً(1) . قال أحمد : معناه أنْ يسجد من غير ركوع(2) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/402 ، والنسائي 2/205 وفي " الكبرى " ، له ( 675 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 3106 ) ، وإسناده ضعيف لإنقطاعه .
قوله : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أخر إلا قائماً :
من الخرور : وهو السقوط ، يقال : خَرَّ يَخِرُّ بالكسر ، وَخَرَّ يخُر بالضم : إذا سقط من عُلو .
انظر : النهاية في غريب الحديث 1/370 .
(2) انظر : المغنى 10/625 .

وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ(1) بإسنادٍ ضعيف جداً عن أنس قال : لم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقبل مَنْ أجابه إلى الإسلام إلاّ بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانتا فريضتين على مَنْ أقرَّ بمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلام ، وذلك قولُ الله - عز وجل - : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (2) وهذا لا يثبت ، وعلى تقدير ثبوته ، فالمرادُ منه أنَّه لم يكن يُقِرُّ أحداً دخل في الإسلام على ترك الصَّلاةِ والزكاة وهذا حقٌّ ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً لما بعثه إلى اليمن أنْ يدعُوَهُم أوَّلاً إلى الشهادتين ، وقال : ( إنْ هُم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم بالصلاة ، ثم بالزكاة )(3) ومرادُه أنَّ من صار مسلماً بدخوله في الإسلام أمر(4) بعد ذلك بإقام الصلاة ، ثم بإيتاء الزكاة ، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان(5) الإسلام ، كما قال لجبريل - عليه السلام - لما سأله عن الإسلام(6) ، وكما قال للأعرابيِّ الذي جاءه ثائر الرأس يسأل عن الإسلام(7) .
__________
(1) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 12 ) .
(2) المجادلة : 13 .
(3) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 673 ) بتحقيقي ، والدارمي ( 1614 ) و( 1622 )
و( 1631 ) ، والبخاري 2/130 ( 1395 ) و2/147 ( 1458 ) و2/158 ( 1496 ) و5/205 ( 4347 ) و9/140 ( 7371 ) ( 7372 ) ، ومسلم 1/38 ( 19 ) ( 30 ) من حديث ابن عباس ، به .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) تقدم تخريجه .
(7) أخرجه: البخاري 1/18 ( 46 ) و3/30 ( 1891 ) و3/235 ( 2678 ) و9/29 ( 6956 )، ومسلم 1/31 ( 11 ) ( 8 ) و1/32 ( 11 ) ( 9 ) من حديث طلحة بن عبيد الله .

وبهذا الذي قرَّرناه يظهر الجمع بين ألفاظ(1) أحاديث هذا الباب ، ويتبين أنَّ كُلَّها
حقٌّ ، فإنَّ كلمتي الشهادتين بمجردهما تَعْصِمُ من أتى بهما ، ويصير بذلك مسلماً ، فإذا دخل في الإسلام ، فإنْ أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وقام بشرائع الإسلام ، فله ما
للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وإنْ أخلَّ بشيء من هذه الأركان ، فإنْ كانوا جماعةً لهم مَنَعَةٌ قُوتِلوا .
وقد ظنَّ بعضُهم أنَّ معنى الحديثِ : أنَّ الكافرَ يُقاتل حتى يأتي بالشهادتين ، ويقيمَ
الصلاة ، ويؤتيَ الزكاة ، وجعلوا ذلك حجةً على خطاب الكفار بالفروع ، وفي هذا
نظر ، وسيرة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار تَدُلُّ على خلاف هذا ، وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا علياً يومَ خيبر ، فأعطاه الراية وقال : ( امشِ ولا تَلتَفِتْ حتّى يفتَحَ الله عليكَ ) فسار عليٌّ شيئاً ، ثم وقف ، فصرخ : يا رسولَ الله على ماذا أُقاتِلُ الناس ؟ فقال : ( قاتلهم على أنْ يشهدوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً
رسول اللهِ ، فإذا فَعلُوا ذلك ، فقدْ عَصَموا منكَ دِماءهُم وأموالَهم إلاّ بحقِّها ، وحِسابُهُم على الله - عز وجل - ) فجعل مجرَّد الإجابة إلى الشهادتين عاصمة للنفوس والأموال إلا بحقها ، ومِنْ حقها الامتناعُ من الصلاة والزكاة بعدَ الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة - رضي الله عنهم -(3) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) الصحيح 7/121 ( 2405 ) ( 33 ) و( 2406 ) ( 34 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2441 ) ، وأحمد 2/384 ، والنسائي في " الكبرى " ( 8546 )
و( 8547 ) و( 8549 ) .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/59 ، وفتح الباري 1/104 .

ومما يدلُّ على قتال الجماعة الممتنعين من إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة من القرآن قولُه تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (1) وقولُه تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } (2) وقولُه تعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ } (3) مع قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ } (4) .
وثبت أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا قوماً لم يُغِرْ عليهم حتى(5) يُصبحَ فإنْ سمع أذاناً وإلا أغارَ عليهم ، مع احتمال أنْ يكونوا قد دخلُوا في الإسلام(6) . وكان يُوصي سراياه : ( إنْ سمعتُم مؤذناً أو رأيتم مسجداً ، فلا تقتلوا أحداً )(7) .
__________
(1) التوبة : 5 .
(2) التوبة : 11 .
(3) البقرة : 193 .
(4) البينة : 5 .
(5) في ( ص ) : ( إذا غزا لم يغر حتى ) .
(6) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1345 ) برواية يحيى الليثي ، والطيالسي ( 2127 ) ، وأحمد 3/159 و206 و236 و237 و263 ، والبخاري 1/158 ( 610 ) و4/58 ( 2943 )
و( 2944 ) و( 2945 ) ، وأبو داود ( 2596 ) و( 2638 ) ، والترمذي ( 1550 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 8544 ) ، وأبو يعلى ( 2908 ) و( 3804 ) ، وابن حبان ( 4745 ) و( 4746 ) ، والبيهقي 9/79 و80 و108 ، والبغوي ( 2702 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(7) أخرجه : الحميدي ( 820 ) ، وسعيد بن منصور ( 2385 ) ، وأحمد 3/448 ، وأبو داود
( 2635 ) ، والترمذي ( 1549 ) ، والبزار ( 1731 ) ، والطبراني في "الكبير" 17/( 467 ) ، والبيهقي 9/108 ، والبغوي ( 2703 ) من حديث عصام المزني ، وإسناده ضعيف لجهالة ابن عصام .

وقد بعث عُيينة بنَ حِصنٍ إلى قوم من بني العنبر ، فأغار عليهم ولم يسمع أذاناً ، ثم ادَّعوا أنَّهم قد أسلموا قبل ذلك .
وبعث - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل عُمان كتاباً فيه : ( مِنْ محمد النَّبيِّ إلى أهل عُمان ، سلامٌ أما بعدُ : فأقِرُّوا بشهادةِ أنْ لا إله إلا الله ، وأنِّي رسولُ الله ، وأدُّوا الزكاة ، وخُطوا المساجد ، وإلا غَزَوْتُكم ) خرَّجه البزار والطبراني وغيرهما(1) .
فهذا كله يدلُّ على أنَّه كان يعتبر حالَ الداخلين في الإسلام ، فإنْ أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة وإلا لم يمتنع عن قِتالهم ، وفي هذا وقع تناظرُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما(2) كما في " الصحيحين "(3) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : لمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر الصديق بعده(4) ، وكَفَرَ مَنْ كَفَر مِنَ العربِ ، قال عمر لأبي بكر : كيف تُقاتلُ الناسَ وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أُمِرتُ أنْ أقاتِلَ الناسَ حتّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، فقد عَصَم منِّي ماله ونفسَه إلا بحقه وحسابُه على الله - عز وجل - ) فقال أبو بكر : والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين الصَّلاة والزكاة فإنَّ الزكاة حقُّ المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتُهم على منعه ، فقال عمر : فوالله ما هو إلا أنْ رأيتُ أنَّ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنَّه الحق .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 880 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 6849 ) من حديث أبي شداد ، به ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 3/64 .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/53 .
(3) أخرجه : البخاري 2/131 ( 1399 ) و4/58 ( 2946 ) و9/19 ( 6924 ) و9/115
( 7284 ) و( 7285 ) ، ومسلم 1/38 ( 20 ) ( 32 ) و1/38-39 ( 21 ) ( 33 )
و( 34 ) و( 35 ) .
(4) سقطت من ( ص ) .

فأبو بكر - رضي الله عنه - أخذ قتالهم من قوله : ( إلا بحقه ) فدلَّ على أنَّ قتال من أتى بالشهادتين بحقه جائز ، ومن حقه أداء حقِّ المالِ الواجب ، وعمر - رضي الله عنه - ظنَّ أنَّ مجرَّد الإتيان بالشهادتين يَعصِمُ الدمَ في الدنيا تمسكاً بعموم أوَّل الحديث كما ظنَّ طائفة من الناس أنَّ من أتى بالشهادتين امتنع من دخول النار في الآخرة تمسكاً(1) بعموم ألفاظ وردت ، وليس الأمر على ذلك ، ثم إنَّ عمر رجع إلى موافقة أبي بكر - رضي الله عنه -(2) .
__________
(1) قوله : ( أول الحديث كما ظن ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/53 .

وقد خرَّج النسائي قصةَ تناظر أبي بكر وعمر بزيادة : وهي أنَّ أبا بكر قال لعمر : إنَّما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أُمرت أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتّى يَشهدُوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنِّي رسولُ الله ، ويُقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة )(1) وخرجه ابنُ خزيمة في
" صحيحه " (2) ، ولكن هذه الرواية أخطأ فيها عمران القطان إسناداً ومتناً ، قاله أئمة الحفاظ ، منهم : علي بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم والترمذي والنسائي ، ولم يكن هذا الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر ، وإنَّما قال أبو بكر : والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة ، فإنَّ الزكاة حقُّ المال ، وهذا أخذه - والله أعلمُ - من قوله في الحديث(3) ( إلاّ بحقها ) . وفي رواية : ( إلاّ بحقِّ الإسلام ) فجعل من حقِّ الإسلام إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، كما أنَّ من حقه أنْ لا يرتكب الحدود ، وجعل كل ذلك مما استثنى بقوله : ( إلا بحقها )(4) .
وقوله : لأقاتلنَّ مَنْ فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإنَّ الزكاة حقُّ المال ، يدلّ على أنَّ من ترك الصلاة ، فإنَّه يقاتل ؛ لأنَّها حقُّ البدن ، فكذلك من ترك الزكاة التي هي حقُّ المال .
وفي هذا إشارة إلى أنَّ قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه ؛ لأنَّه جعله أصلاً مقيساً عليه ، وليس هو مذكوراً في الحديث الذي احتج به عمر(5) وإنَّما أخذ من قوله : ( إلا بحقها ) فكذلك الزكاة ؛ لأنَّها من حقها ، وكلّ ذلك من حقوق الإسلام(6) .
__________
(1) أخرجه : النسائي في " المجتبى " 5/14-15 عن أبي هريرة ، به .
(2) مختصر المختصر ( 2247 ) من حديث أنس بن مالك ، به ، وانظر تعليقي هناك .
(3) عبارة : ( في الحديث ) لم ترد في ( ص ) .
(4) انظر : السنن للبيهقي 8/177 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 2/53 ، وفتح الباري 1/104 .
(5) لم ترد في ( ص ) .
(6) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/53 .

ويُستدلُّ أيضاً على القتال على ترك الصلاة بما في " صحيح مسلم " (1) عن أمِّ سلمةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يُستَعْمَل عليكُم أُمراءُ ، فتَعرِفون وتُنكِرون ، فمن أنكرَ فقد بَرِئ ، ومن كَرِهَ فقد سَلِم ، ولكن من رَضِي وتَابَع ) فقالوا : يا رسول الله ألا نُقاتِلُهم ؟ قال : ( لا ما صلَّوا ) .
وحكمُ من ترك شيئاً من(2) أركانِ الإسلام أنْ يُقاتلوا عليها كما يقاتلون على تركِ الصلاة والزكاة .
وروى ابنُ شهاب ، عن حنظلة بن علي بن الأسقع : أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق بعث خالدَ بن الوليد ، وأمره أنْ يقاتل الناسَ على خمسٍ ، فمن ترك واحدةً من الخمس ، فقاتله عليها كما تُقاتل على الخمس : شهادةِ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، وإقام الصلاةِ ، وإيتاءِ الزكاةِ ، وصوم رمضان(3) .
وقال سعيد بن جبير : قال عمرُ بن الخطاب : لو أنَّ الناس تركوا الحجَّ لقاتلناهم عليه ، كما نُقاتِلُهم على الصلاة والزكاة . فهذا الكلامُ في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات .
__________
(1) الصحيح 6/23 ( 1854 ) ( 64 ) وعقب 6/24 ( 1858 ) ( 64 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 37296 ) ، وأحمد 6/295 و302 و305 و321 ، وأبو داود
( 4760 ) و( 4761 ) ، والترمذي ( 2265 ) ، وأبو يعلى ( 6980 ) ، وأبو عوانة 4/471 و473 ، والطبراني في " الكبير " 23/( 760 ) و( 761 ) و( 762 ) ، والبيهقي 3/367 و8/158 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 4/234 ، والبغوي ( 2459 ) .
(2) في ( ج ) : ( سائر ) .
(3) انظر : تعظيم قدر الصلاة ( 975 ) .

وأما قتلُ الواحد الممتنع عنها ، فأكثرُ العلماء على أنَّه يُقتَلُ الممتنع من الصلاة ، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد وأبي عُبيد ، وغيرهم(1) ، ويَدلُّ على ذلك ما في
" الصحيحين "(2) عن أبي سعيد الخدريّ : أنَّ خالدَ بنَ الوليد استأذن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قتل رجل ، فقال : ( لا ، لعله أنْ يكونَ يُصلي ) ، فقال خالد : وكم مِنْ مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنِّي لم أُومَر أنْ أُنَقِّبَ عن قلوبِ الناسِ ولا أشُقَّ بُطونَهُم(3) ) .
وفي " مسند الإمام أحمد "(4)
__________
(1) قال الإمام ابن رشد القرطبي : ( وأما الواجب على من تركها عمداً وأُمر بها فأبى أنْ يصليها لا جحوداً لفرضها ، فإنَّ قوماً ما قالوا : يقتل ، وقوماً قالوا : يُعزر ويحبس ، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفراً ، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك وأبو إسحاق بن شاقلا والحسن البصري والنخعي وأيوب السختياني والشعبي والأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن حزم وحماد بن زيد وابن حامد ، ومنهم من أوجبه حَدَّاً وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه . وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يُصلي . والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار ) .
انظر : بداية المجتهد 1/117 ، والأم 2/563 ، والحاوي الكبير 2/525 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/352 ، والمحلى 2/155-156 ، والانتصار في المسائل الكبار 2/603-604 ، والمغني 2/297-298 ، والذخيرة في فروع المالكية 2/305 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 1/447 ، ومنتهى الإرادات 1/52، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 1/111-112، والفقه الإسلامي وأدلته 1/658 ، وفقه العبادات للعلامة محمد بن صالح العثيمين : 58 و109-110 .
(2) أخرجه : البخاري 5/207 ( 4351 ) ، ومسلم 3/110 ( 1064 ) ( 144 ) .
(3) في ( ص ) : ( قلوبهم ) .
(4) المسند 5/432 و433 .

وأخرجه : أبو داود ( 4928 ) ، والبيهقي 3/367 و8/196 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 10/150 و162 و163 و164 و165 و166 و167 ، وهو حديث صحيح .

عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار : أنَّ رجلاً منَ الأنصار حدَّثه أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في قتل رجلٍ من المنافقين ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( أليس يَشهَدُ أنْ لا إله إلا الله ؟ ) قال : بلى ، ولا شهادة له ، قال : ( أليس
يُصلي ؟ ) قال : بلى ، ولا صلاةَ له ، قال : ( أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ) .
وأما قتلُ الممتنع عن أداءِ الزكاة ، ففيه قولان لمن قال : يقتل الممتنع من فعل الصلاة :
أحدهما: يقتل أيضاً، وهو المشهورُ عن أحمد ، ويستدلُّ له بحديث ابن عمر هذا(1).
والثاني : لا يقتل ، وهو قولُ مالك ، والشافعي ، وأحمد في رواية(2) .
وأما الصوم فقال مالك وأحمد في رواية عنه : يُقتل بتركه(3) ، وقال الشافعي وأحمد في رواية : لا يقتلُ بذلك ، ويستدلُّ له بحديث ابن عمر وغيره مما في معناه ، فإنَّه ليس في شيء منها ذكرُ الصوم ، ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب : الصوم لم يجئ فيه شيء(4) .
قلتُ : قد روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً : أنَّ من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصيام ، فهو كافر حلال الدم(5) بخلاف الزكاة والحجِّ(6) . وقد سبق ذكرُه في
شرح (7) حديث : ( بني الإسلام على خمس )(8) .
__________
(1) انظر : الحاوي الكبير 2/526 ، والانتصار في المسائل الكبار 2/613 ، والمغني 2/298 .
(2) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613-614 .
(3) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613 .
(4) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613 .
(5) في ( ص ) : ( المال والدم ) .
(6) أخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1576 ) ، وأبو يعلى ( 2349 ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) انظر : الحديث الثالث .

وأما الحج ، فعن أحمد في القتل بتركه روايتان ، وحمل بعضُ أصحابنا روايةَ قتله على من أخَّره عازماً على تركه بالكلية ، أو أخَّره وغلب على ظنه الموت في عامه ، فأما إنْ أخَّره معتقداً أنَّه على التراخي كما يقولُهُ كثيرٌ من العلماء ، فلا قَتلَ بذلك(1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إلا بحقِّها ) وفي رواية : ( إلاّ بحقِّ الإسلام ) قد سبق أنَّ أبا بكر أدخل في هذا الحقِّ فعلَ الصلاة والزكاة ، وأنَّ من العلماء من أدخل فيه فعلَ الصيامِ والحج أيضاً .
ومن حقها ارتكابُ ما يُبيح دمَ المسلم من المحرمات، وقد ورد تفسيرُ حقها بذلك، خرَّجه الطبراني وابنُ جرير الطبري من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ الناسَ حتّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عَصَمُوا منِّي دماءهُم وأموالَهم إلا بحقِّها ، وحِسَابُهم على الله - عز وجل - ) قيل : وما حَقُّها ؟ قال : ( زِنىً بعد إحصانٍ ، وكفرٌ بعد إيمانٍ ، وقتلُ نفسٍ ، فيُقتل بها(2) ) ولعلَّ آخِرَه من قولِ أنس ، وقد قيل : إنَّ الصوابَ وقفُ الحديث كله عليه .
ويشهدُ لهذا ما في " الصحيحين "(3)
__________
(1) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613-614 ، والمغني 2/298 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 3221 ) ، وقال : ( لم يرو هذا اللفظ الذي في آخر الحديث عن حُميد إلاّ أبو خالد الأحمر ، تفرد به عمرو بن هاشم ) .
قلت : عمرو بن هاشم صدوق يخطئ كما في " التقريب " ( 5127 ) .
(3) صحيح البخاري 9/6 ( 6878 ) ، وصحيح مسلم 5/106 ( 1676 ) ( 25 ) و( 26 ) .

وأخرجه : الطيالسي (289 ) ، وعبد الرزاق ( 18704 ) ، والحميدي ( 119 ) ، وأحمد 1/382 و428 و444 و465 ، والدارمي ( 2303 ) و( 2451 ) ، وأبو داود ( 4352 ) ، وابن ماجه ( 2534 ) ، والترمذي ( 1402 ) ، والنسائي 7/90 و8/13 ، وابن الجارود
( 832 ) ، وأبو يعلى ( 5202 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 1804 ) ، والشاشي
( 375 ) و( 376 ) و( 377 ) و( 379 ) ، وابن حبان ( 4407 ) و( 4408 ) و( 5976 ) و( 5977 ) ، والدارقطني 3/68 ( 3071 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/19 و194 و202 و213 وفي "شعب الإيمان" ، له ( 5331 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .

عن ابن مسعود ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلم يَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله ، وأني رسولُ الله إلاّ بإحدى ثلاثٍ : الثَّيِّبِ الزَّاني ، والنفسِ بالنفسِ ، والتَّاركِ لدينه المفارق للجماعة ) ، وسيأتي الكلامُ على هذا الحديث مستوفى عندَ ذكره في موضعه من هذا الكتاب إنْ شاء الله تعالى(1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وحسابُهُم على الله - عز وجل - ) يعني : أنَّ الشهادتين مع إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة تَعصِمُ دمَ صاحبها وماله في الدنيا إلا أنْ يأتيَ ما يُبِيحُ دَمَهُ، وأما في الآخرة، فحسابُه على اللهِ - عز وجل - ، فإنْ كان صادقاً ، أدخله الله بذلك الجنة ، وإنْ كان كاذباً فإنَّه من جملة المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النار .
وقد تقدَّم أنَّ في بعض الروايات في " صحيح مسلم " (2) ثم تلا : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } (3) والمعنى : إنَّما عليك تذكيرُهم بالله ، ودعوتهم إليه، ولستَ مسلطاً على إدخالِ الإيمانِ في قلوبهم قهراً ولا مكلفاً بذلك، ثم أخبر أنَّ مرجعَ العبادِ كلهم إليه وحسابُهم عليه(4) .
__________
(1) سيأتي عند الحديث الرابع عشر .
(2) انظر : .
(3) الغاشية : 21-26 .
(4) انظر : تفسير الطبري 15/207-208 ، وتفسير البغوي 5/246 ، والمحرر الوجيز 15/427 ، وتفسير ابن الجوزي 9/100-101 ، وتفسير القرطبي 20/37-38 ، والبحر المحيط 8/459 ، والدر المنثور 6/576 .

وفي " مسند البزار "(1) عن عياض الأنصاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ لا إله
إلا الله كلمةٌ على اللهِ كريمةٌ ، لها عندَ اللهِ مكانٌ ، وهي كلمةٌ من قالها صادقاً ، أدخله الله بها الجنةَ ، ومن قالها كاذباً حقنت مالَه ودمَه ، ولَقِيَ الله غداً فحاسبه(2) ) .
وقد استدلَّ بهذا من يرى قبولَ توبةِ الزنديقِ ، وهو المنافق إذا أظهر العودَ إلى الإسلام ، ولم يرَ قتله بمجرَّدِ ظهورِ نفاقه ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعامِلُ المنافقين ، ويُجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن ، وهذا قولُ الشافعي وأحمد في رواية عنه ، وحكاه الخطابيُّ عن أكثر العلماء ، والله أعلم(3) .
__________
(1) كشف الأستار ( 4 ) .
(2) في ( ص ) : ( وفي غداً فحاسبه ) .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/56 .


الحديث التاسععَنْ أَبي هُرُيرة - رضي الله عنه - قال : سَمِعتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( ما نَهَيتُكُمْ عَنْهُ ، فاجْتَنِبوهُ ، وما أمرتُكُم به ، فأتُوا منهُ ما استطعتُم ، فإنَّما أهلَكَ الَّذين من قبلِكُم كَثْرَةُ مسائِلِهم واختلافُهم على أنبيائِهم ) . رواهُ البخاريُّ ومُسلمٌ(1) .
هذا الحديثُ بهذا اللفظ(2) خرَّجه مسلم وَحْدَهُ من رواية الزهري ، عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هُريرة(3) ، وخرَّجاه من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( دَعُوني ما تركتُكم ، إنَّما أهلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنبُوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم ) (4) وخرَّجه مسلم مِن طريقين آخرين(5) عن أبي هريرة بمعناه(6) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 9/116 ( 7288 ) ، ومسلم 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) و7/91
( 1337 ) ( 130 ) و( 131 ) .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20372 ) ، والحميدي ( 1125 ) ، وأحمد 2/247 و258 و428 و447 و448 و457 و467 و482 و495 و508 و517 ، وابن ماجه
( 1 ) و( 2 ) ، والترمذي ( 2679 ) ، والنسائي 5/110-111 ، وابن خزيمة ( 2508 ) ، وابن حبان ( 18 ) و( 19 ) و( 21 ) ، والبيهقي 4/326 و7/103 ، والبغوي ( 99 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) عبارة : ( بهذا اللفظ ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " صحيحه " 7/91 ( 1337 ) ( 130 ) .
(4) صحيح البخاري 9/116 ( 7288 ) ، وصحيح مسلم 7/91 ( 1337 ) ( 131 ) .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( عن الزهري ) .
(6) في " صحيحه " 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) و7/91 ( 1337 ) ( 131 ) .

وفي رواية له ذكرُ سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( يا أيَّها النَّاس قد فرضَ الله عليكم الحجَّ
فحجُّوا ) فقال رجل : أكُلَّ عامٍ يا رسول الله ؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثاً ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلتُ : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتُم ) ثمَّ قال : ( ذَرُوني ما تَرَكْتُكُم ، فإنَّما أُهْلِكَ مَنْ كانَ قبلَكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتُكُم بشيءٍ ، فأتوا منه ما استطعتُم ، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فدعوه(1) )(2) .
وخرَّجه الدَّارقطني من وجه آخر مختصراً(3) ، وقال فيه : فنَزل قولُه تعالى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (4) .
وقد رُوِي مِن غير وجهٍ أنَّ هذه الآية نزلت لمَّا سألوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجِّ ، وقالوا : أفي كلِّ عام ؟ (5)
__________
(1) في ( ص ) : ( فاجتنبوه ) .
(2) أخرجه : مسلم 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) .
وأخرجه : أحمد 2/508 ، والنسائي 5/110-111 ، والطبري في " تفسيره " ( 9980 ) ، وابن حبان ( 3704 ) ، والدارقطني 2/247 ( 2679 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) " السنن " 2/247 ( 2680 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) المائدة : 101 .
(5) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 4/1217 ( 6875 ) ، وتفسير القرطبي 6/331 ، وأسباب النزول للواحدي : 334 بتحقيقي ، وتفسير البغوي 2/92 ، وبحر العلوم 3/158 ، وتفسير ابن الجوزي 2/434 ، والبحر المحيط 4/35 ، والدر المنثور 2/592 .

وفي " الصحيحين " (1) عن أنس قال : خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رجل :
من أبي ؟ فقال : ( فلان ) ، فنَزلت هذه الآية { لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } (2) .
وفيهما أيضاً عن قتادة ، عن أنسٍ قال : سألوا(3) رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوهُ في المسألة، فغضب ، فصَعدَ المنبر ، فقال : ( لا تسألوني اليومَ عن شيءٍ إلا بيَّنتُه ) ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجالَ دُعِيَ إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قالَ : ( أبوك حُذافة ) ، ثم أنشأ(4) عمرُ ، فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمَّد رسولاً ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية(5) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } (6) .
وفي " صحيح البخاري "(7) عن ابن عباس قال : كان قومٌ يسألون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاءً ، فيقولُ الرجلُ : من أبي ؟ ويقول الرجلُ تَضِلُّ ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/34 ( 93 ) و1/143 ( 540 ) و6/68 ( 4621 ) و9/118
( 7294 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 1184 ) ، ومسلم 7/93 ( 2359 ) ( 136 ) و7/94 ( 2359 ) ( 136 ) .
(2) المائدة : 101 .
(3) في ( ص ) : ( يا ) .
(4) في ( ص ) : ( جثا ) .
(5) أخرجه : البخاري 8/96 ( 6362 ) و9/66 ( 7089 ) و118 ( 7294 ) ، ومسلم 7/94 ( 2359 ) ( 137 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 9972 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 4/1218
( 6878 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(6) المائدة : 101 .
(7) الصحيح 6/68 ( 4622 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 9971 ) ، والبغوي في " تفسيره " 2/92 ، وابن الجوزي في " تفسيره " 2/434 ، من حديث عبد الله بن عباس ، به .

وخَرَّج ابن جرير الطبري في " تفسيره " (1) من حديث أبي هريرة ، قال :
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبانُ مُحمارّاً وجهه ، حتّى جلس على المنبرِ ، فقام إليه رجلٌ ، فقال : أين أنا ؟ فقالَ : ( في النار ) ، فقام إليه آخر(2) فقالَ : من أبي ؟ قال : ( أبوك حُذافة ) ، فقام عمر فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً ، إنا يا رسول الله حديثو عهدٍ بجاهلية وشركٍ ، والله أعلم مَن آباؤنا ، قال : فسكن غضبُه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (3) .
وروى أيضاً(4)
__________
(1) التفسير ( 9977 ) ، وطبعة التركي 9/17 .
وأخرجه : الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1475 ) ، وقال ابن كثير في " تفسيره " : 660 : ( إسناده جيد ) ، وانظر : الدر المنثور 2/592 .
(2) في ( ص ) : ( رجل ) .
(3) المائدة : 101 .
(4) أي الطبري ، وهو في " تفسيره " ( 9982 ) ، وفي طبعة التركي 9/20-21 .

وأخرجه : ابن أبي حاتم ( 6881 ) و( 6884 ) ، وإسناده ضعيف جداً .

من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } قال : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في الناس ، فقال : ( يا قوم كُتِبَ عليكُم الحجُّ ) ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، أفي كلِّ عامٍ ؟ فأُغْضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً ، فقال : ( والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم ، لوجَبَت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتُم ، فاتركُونِي ما تركتُكم ، فإذا أمرتكم بشيءٍ ، فافعلوا منه ما استطعتم (1)، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فانتهوا عنه ) ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُم } ، نهاهم أنْ يسألوا مثلَ الذي سألتِ النَّصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال : لا تسألوا عن أشياء إنْ نزل القرآن فيها بتغليظٍ ساءكم(2) ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآنُ ، فإنَّكم لا تسألون عن شيء
إلا وجدتُم تبيانه .
فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤال عمَّا لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه مثل سؤال السائل ، هل هوَ في النار أو في الجنة ، وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث
والاستهزاء (3) ، كما كان يفعلُه كثيرٌ من المنافقين وغيرهم .
وقريبٌ من ذلك سؤالُ الآيات واقتراحُها على وجه التعنتِ ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقد قال عكرمة وغيرُه : إنَّ الآية نزلت في ذلك(4) .
__________
(1) منه ما استطعتم ) سقطت من ( ج ) .
(2) من قوله : ( وقال لا تسألوا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) في ( ص ) : ( على التعنت والاستهزاء ) .
(4) ذكره : ابن الجوزي في " تفسيره " 2/435 ، وأبو حيان في " تفسيره " 4/35 ، والسيوطي في " الدر المنثور " 2/594 .

ويقرب من ذلك السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يُطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقتِ الساعة ، وعن الروح .
ودلَّت أيضاً على نهي المسلمين عن السؤال عن كثيرٍ من الحلالِ والحرام مما يُخشى أنْ يكون السؤال سبباً لنزول التشديد فيه ، كالسُّؤال عَنِ الحجِّ : هل يجب كلَّ عامٍ أم لا(1) ؟ وفي " الصحيح " (2) عن سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جرماً مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرَّم ، فحُرِّمَ من أجل مسألته ) .
ولما سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اللِّعان كره المسائل وعابها حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ
وقوعه بذلك في أهله(3) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعةِ المال(4) .
__________
(1) أم لا ) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 9/117 ( 7289 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 67 ) ، وأحمد 1/176 و179 ، ومسلم 7/92 ( 2358 ) ( 132 ) و( 133 ) ، وأبو داود ( 4610 ) ، وابن حبان ( 110 ) من حديث سعد ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/12 و19 و42 ، والدارمي ( 2237 ) ، ومسلم 4/206 ( 1493 )
( 4 ) ، والترمذي ( 1202 ) ، والنسائي 6/175 وفي "التفسير" ، له ( 377 ) و( 378 ) ، وابن الجارود ( 752 ) ، وأبو يعلى ( 5656 ) و( 5772 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 19542 ) ، وابن حبان ( 4286 ) و( 4287 ) ، والبيهقي 7/404-405 من حديث
عبد الله بن عمر ، به .
(4) أخرجه : البخاري 2/153 ( 1477 ) .
ونصه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّ الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وَكثرة السؤال ) من حديث المغيرة بن شُعبة ، به .

ولم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُرخِّصُ في المسائل إلاَّ للأعرابِ ونحوهم من الوُفود القادمين
عليه ، يتألَّفهم بذلك ، فأمَّا المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبهم ، فنُهُوا عَنِ المسألة ، كما في " صحيح مسلم "(1) عن النَّوَّاس بن سمعان ، قال : أقمتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة ما يمنعني منَ الهجرة إلاَّ المسألةُ ، كان أحدُنا إذا هاجر لم يسأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .
وفيه أيضا عن أنسٍ ، قال : نُهينا أنْ نسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ، فكان يُعجِبُنا أنْ يجيءَ الرجلُ من أهل البادية العاقل ، فيسأله ونحنُ نَسْمَعُ(2) .
وفي " المسند "(3)
__________
(1) الصحيح 8/7 ( 2553 ) ( 15 ) .
(2) صحيح مسلم 1/32 ( 12 ) ( 10 ) .
... وأخرجه : أحمد 3/143 و168 و193 ، وعبد بن حميد ( 1285 ) ، والدارمي ( 656 ) ، والبخاري 1/24 ( 63 ) ، وأبو داود ( 486 ) ، وابن ماجه ( 1402 ) ، والترمذي
( 619 ) ، والنسائي 4/121-122 ، وابن خزيمة ( 2358 ) ، وأبو عوانة 1/2-3 ، وابن حبان ( 154 ) و( 155 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 129 ) و( 130 ) ، والحاكم في
" معرفة علوم الحديث " ( 5 ) ، والبيهقي 4/325 ، والبغوي ( 3 ) و( 4 ) و( 5 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) مسند أحمد 5/266 .

وأخرجه : الدارمي ( 240 ) ، وابن ماجه ( 228 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7867 )
و( 7875 ) و( 7906 ) ، والخطيب في " تاريخ بغداد " 2/212 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العِلم وفضله " 1/28 ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن علي الألهاني .

عن أبي أُمامة قال : كان الله قد أنزل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (1) قال : فكنَّا قد كرهنا كثيراً مِنْ مسألته ، واتَّقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأتينا أعرابياً ، فرشوناه بُرداً ، ثمَّ قلنا له : سلِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديثاً .
وفي "مسند أبي يعلى"(2) عن البراء بنِ عازب، قال(3): إنْ كان لتأتي عليَّ السنةُ أريد أنْ أسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ، فأتهيب منه ، وإنْ كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ .
وفي " مسند البزار " (4) عن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً خيراً من أصحابِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألةً ، كلُّها في القرآن : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } (5) ، { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } (6) ، { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الْيَتَامَى } (7) ، وذكر الحديث .
__________
(1) المائدة : 101 .
(2) في " مسنده الكبير " كما في " المطالب العالية " ( 3961 ) ، وأخرجه الروياني في " مسنده " ( 308 ) ، وإسناده جيد .
(3) في ( ص ) : ( وفي مسند البزار عن ابن عباس ، قال ) .
(4) بعد تتبع مسند البزار لم نجده قد خرّج هذا الحديث ، كما أن الهيثمي لم يخرجه في " مجمع الزوائد " ولا في " كشف الأستار " . وأخرجه : الدارمي ( 125 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 12288 ) ، وعندهما ثلاثة عشرة مسألة .
... ونسبه الهيثمي في " المجمع " 1/158-159 للطبراني عن ابن عباس ، به .
(5) البقرة : 217 .
(6) البقرة : 220 .
(7) البقرة : 220 .

وقد كان أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يسألونه عن حكم حوادثَ قبلَ وقوعها ، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له : إنَّا لاقوا العدوِّ غداً ، وليس معنا مُدىً ، أفنذبح بالقصَبِ ؟(1) وسألوه عَنِ الأُمراءِ الَّذينَ أخبر عنهم بعدَه ، وعن طاعتهم وقتالهم ، وسأله حذيفةُ عن الفتنِ ، وما يصنع فيها(2) .
فهذا الحديث ، وهو قولهُ - صلى الله عليه وسلم - : ( ذَرُوني ما تركتُكم ، فإنَّما هلك مَنْ كان قبلَكُم بكثرةِ سُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، يدلُّ على كراهة المسائل وذمِّها ، ولكن بعضَ الناس يزعمُ أنَّ ذلك كان مختصاً بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يُحرم ، أو إيجاب ما يشقُّ القيام به ، وهذا قد أمن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - .
ولكن ليس هذا وحده هو سببَ كراهة المسائل ، بل له سببٌ آخر ، وهو
الذي أشارَ إليه ابنُ عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله : ولكن(3) انتظرُوا ، فإذا نزل
القرآن ، فإنَّكم لا تَسألونَ عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانه .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/181 ( 2488 ) و3/185 ( 2507 ) و4/91 ( 3075 ) و7/117
( 5498 ) و7/119 ( 5503 ) و( 5506 ) و7/127 ( 5543 ) و( 5544 ) ، ومسلم 6/78 ( 1968 ) ( 20 ) و( 21 ) و( 22 ) و( 23 ) ، وأبو داود ( 2821 ) ، وابن ماجه ( 3137 ) و(3178 ) و( 3183 ) ، والترمذي ( 1491 ) و( 1492 ) و( 1600 ) ، والنسائي 7/191 و221 و226 و228 ، والطبراني في " الكبير " ( 4385 ) من حديث رافع بن خديج ، به .
(2) أخرجه : البخاري 4/242 ( 3606 ) و9/65 ( 7084 ) ، ومسلم 6/20 ( 1827 )
( 51 ) ، وابن ماجه ( 3979 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .

ومعنى هذا : أنَّ جميعَ ما يَحتاجُ إليه المسلمون في دينهم لابدَّ أنْ يُبينه الله في كتابه العزيز ، ويبلِّغ ذلك رسوله عنه ، فلا حاجةَ بعدَ هذا لأحدٍ في السؤال ، فإنَّ الله تعالى أعلمُ بمصالح عباده منهم ، فما كان فيه هدايتُهم ونفعُهُم ، فإن الله لابدَّ أنْ يبيِّنه لهمُ ابتداءً من غيرِ سؤال ، كما قال : { يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } (1) ، وحينئذ فلا حاجة إلى السُّؤال عن شيءٍ ، ولا سيما قبلَ وقوعه والحاجة إليه ، وإنَّما الحاجةُ المهمةُ إلى فهم ما أخبرَ الله به ورسولُه ، ثمَّ اتباعُ ذلك والعملُ به ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسأَل عنِ المسائل ، فيُحيل على القرآن ، كما سأله عمرُ عنِ الكَلالَةِ ، فقالَ
: ( يَكفيك آيةُ الصيف )(2) .
__________
(1) النساء : 176 .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 11 ) ، وأحمد 1/15 و26 و27 و48 ، ومسلم 2/81-82
( 567 ) ( 78 ) و5/61 ( 1617 ) ، وابن ماجه ( 2726 ) ، وأبو يعلى ( 184 ) ، وابن خزيمة ( 1666 ) ، وابن حبان ( 2091 ) ، والبيهقي 3/78 و6/224 من حديث عمر بن الخطاب ، به .
والمصقود بآية الصيف : الآية التي نزلت في الصيف ، وهي قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } النساء : 176 . شرح النووي لصحيح مسلم 3/46 .

وأشار - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى أنَّ في الاشتغال بامتثالِ أمرِه ، واجتنابِ نهيه شغلاً عن المسائل ، فقال : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ ، فأتوا منه ما استطعتم ) فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ أنْ يبحثَ عمَّا جاءَ عن الله ورسوله(1) - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يجتهدُ في فهم ذلك ، والوقوف على معانيه ، ثم يشتغل بالتصديقِ بذلك إنْ كان من الأمور العلمية ، وإنْ كان من الأمور العملية ، بذل وسْعَهُ في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر ، واجتناب ما يُنهى عنه ، وتكون همَّتُهُ مصروفةً بالكلية إلى ذلك ؛ لا إلى غيره . وهكذا كان حالُ(2) أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسّانٍ في طلب العلم النافع مِنَ الكتاب والسنة .
فأما إنْ كانت همةُ السامع مصروفةً عند سماعِ الأمر والنهي إلى فرض أمورٍ قد
تقع ، وقد لا تقع ، فإنَّ هذا مما يدخل في النَّهي ، ويثبِّطُ عنِ الجد في متابعة الأمر . وقد سألَ رجلٌ ابنَ عمر عن استلام الحجر ، فقال له : رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُه ، فقال له الرجل : أرأيتَ إنْ غُلِبْتُ عليه ؟ أرأيت إنْ زُوحِمْتُ ؟ فقالَ لهُ ابن عمر : اجعل ( أرأيت ) باليمن، رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلِمُه ويقبِّلُه . خرَّجه الترمذي(3).
__________
(1) في ( ص ) : ( عما جاء به الرسول ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " جامعه " ( 861 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1864 ) ، وأحمد 2/152 ، والبخاري 2/186 ( 1611 ) ، والنسائي 5/231 ، والبيهقي 5/74 من حديث عبد الله بن عمر ، به .

ومرادُ ابن عمر أنَّه لا يكن لك همٌّ إلا في الاقتداء بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلك أو تعسُّره قبلَ وقوعه ؛ فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ على التَّصميم على المتابعة ، فإنَّ التَّفقُّهَ في الدِّين ، والسُّؤالَ عن العِلم إنَّما يُحمَدُ إذا كان للعمل ، لا لِلمراءِ والجدال .
وقد روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه ذكر فتناً تكونُ في آخر الزَّمان ، فقال له عمر : متَى ذلك يا عليُّ ؟ قال : إذا تُفُقِّه لغير الدين ، وتُعُلِّم لغير العمل ، والتمست الدنيا بعمل (1) الآخرة (2) .
وعن ابن مسعود أنَّه قال : كيف بكم إذا لَبِستكم فتنةٌ يربو فيها الصغيرُ ، ويَهْرَمُ فيها الكبيرُ، وتُتَّخَذُ سُنةً، فإنْ غيرت يوماً قيل: هذا منكر ؟ قالوا: ومتى ذَلِكَ؟ قال : إذا قلَّت أمناؤكم ، وكثرت أمراؤُكم ، وقلَّت فقهاؤُكم ، وكثر قُرَّاؤُكم ،
وتُفُقِّهَ لغير الدين، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة. خرَّجهما عبد الرزاق في "كتابه"(3).
ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبلَ وقوعها ، ولا يُجيبون عن ذلك ، قال عمرو بن مُرة : خرج عمرُ على الناس ، فقال : أُحرِّجُ عليكم أنْ تسألونا عن ما لم يكن ، فإنَّ لنا فيما كان شغلاً(4) .
__________
(1) في ( ج ) : ( بغير ) .
(2) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20743 ) من رواية عبد الرزاق عنه .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20742 ) من رواية عبد الرزاق ، والدارمي 1/64 ( طبعة دار الفكر ) ، والحاكم 4/514 ، وأبو نعيم في " الحلية " .
(4) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/141 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/76 .

وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعتُ عمر لعنَ السَّائل عمَّا لم يكن(1) .
وكان زيدُ بنُ ثابتٍ إذا سُئِلَ عن الشَّيءِ يقول : كان هذا ؟ فإنْ قالوا : لا ، قال : دعوه حتّى يكون(2) .
وقال مسروقٌ : سألت أبيَّ بن كعبٍ عن شيءٍ ، فقال : أكان بعدُ ؟ فقلت : لا ، فقال : أجِمَّنا – يعني : أرحنا حتَّى يكونَ - ، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا(3) .
وقال الشَّعبيُّ : سئل عمارٌ عن مسألة فقال : هل كان هذا بعدُ ؟ قالوا : لا ، قال : فدعونا حتَّى يكون ، فإذا كان تَجَشَّمْنَاهُ لكم(4) .
وعن الصَّلْتِ بنِ راشدٍ ، قال : سألت طاووساً عن شيء ، فانتهرني وقال : أكان هذا ؟ قلت : نعم ، قال : آلله ؟ قلت : آلله ، قال : إنَّ أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل أنَّه قال : أيُّها النَّاسُ ، لا تعجلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله(5) ، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا ، فإنَّكم إنْ لم تعجَلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله ، لم ينفكَّ المسلمون أنْ يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ ، أو قال وُفِّقَ(6) .
وقد خرَّجه أبو داود في كتاب " المراسيل "(7)
__________
(1) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/139 و143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/75 .
(2) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 183 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142-143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
(3) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142 .
(4) ذكره : إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 3328 ) ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
(5) من قوله : ( فيذهب بكم ها هنا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 183-184 .
(7) المراسيل : 224 .
وأخرجه : إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 3329 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 353 ) .

وذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وهو ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّ طاووساً لم يسمع من معاذ ، ومعنى الإرسال هنا هو المعنى العام الذي يراد به كل انقطاع .

مرفوعاً من طريق ابن عجلان ، عن طاووس ، عن معاذ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تعجَلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنَّكم إنْ لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أنْ يكون منهم من إذا قال سُدِّدَ أو وفق ، وأنَّكم إنْ عجِلْتُم ، تشتِّتُ بكمُ السُّبُلَ هاهنا وهاهنا . ومعنى إرساله(1) أنَّ طاووساً لم يسمع من معاذ .
وخرَّجه أيضاً من رواية يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بمعناه (2) مرسلاً(3) .
وروى الحجاج بن منهال : حدَّثنا جرير بن حازم ، سمعتُ الزبير بنَ سعيدٍ : أنَّ رجلاً من بني هشامٍ قالَ : سمعتُ أشياخنا يحدِّثونَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يزالُ في أمتي من إذا سئلَ سدّد وأرشدَ حتَّى يسألوا عنْ ما لا ينْزل تبينهُ ، فإذا فعلوا ذَلِكَ ذُهبَ بهم هاهنا وهاهنا(4) ) .
وقد روى الصنابحيُّ، عنْ معاوية، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّهُ نهى عنِ الأغلوطات ) خرَّجهُ الإمامُ أحمد رحمه الله (5) .
وفسرهُ الأوزاعيُّ وقالَ : هي شدادُ المسائلِ(6) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) ذكره : ابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
(4) ذكره : ابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وهو ضعيف لضعف الزبير بن سعد ، ولجهالة من فوقه .
(5) في " مسنده " 5/435 .
وأخرجه : أبو داود ( 3656 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 892 ) و( 913 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 2108 ) ، والآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن سعد .
(6) أخرجه : سعيد بن منصور في " سننه " ( 1179 ) ، وأحمد 5/435 ، والطبراني في "الكبير" 19/( 892 ) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/139 .
وذكره ابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/76 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/323 .

وقال عيسى بنُ يونسَ : هي ما لا يحتاجُ إليهِ منْ كيف وكيف(1) .
ويروى من حديثِ ثوبانَ ، عنِ النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( سيكونُ أقوامٌ منْ أمتي يُغَلِّطونَ فقهاءهم بعضلِ المسائلِ ، أولئكَ شرارُ أمتي ) .(2)
وقالَ الحسنُ : شرارُ عبادِ اللهِ الذينَ يتبعونَ شرارَ المسائلَ يَغُمُّون بها عبادَ اللهِ(3).
وقالَ الأوزاعيُّ : إنَّ اللهَ إذا أرادَ أنْ يَحرُمَ عبدَهُ بركةَ العلمِ ألقى على لسانهِ
المغاليط ، فلقدْ رأيتهم أقلَّ النَّاسِ علماً(4) .
وقالَ ابنُ وهبٍ ، عنْ مالكٍ : أدركتُ هذه البلدة وإنَّهم ليكرهون الإكثارَ الذي فيهِ النَّاس اليومَ : يريدُ المسائلَ(5) .
وقالَ أيضاً : سمعتُ مالكاً وهو يعيبُ كثرةَ الكلامِ وكثرةَ الفتيا ، ثُمَّ قالَ : يتكلمُ كأنَّهُ جملٌ مغتلمٌ ، يقولُ : هوَ كذا هوَ كذا يهدرُ في كلامهِ .
وقال: سمعتُ مالكاً يكره(6) الجوابَ في كثرة المسائل(7)، وقال : قال الله - عز وجل -: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } (8) فلم يأته في ذلك جواب .
__________
(1) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/11 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1431 ) ، والآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ يزيد بن ربيعة متروك ، وانظر : مجمع الزوائد 1/155 .
(3) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/145 .
(4) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/145 ، وابن حجر في فتح الباري 13/323 .
(5) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/323 نحوه .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2/141 و145 ، وإعلام الموقعين 1/83 .
(8) الإسراء : 85 .

وكان مالكٌ يكره المجادلة عن السُّنن أيضاً(1) . قال الهيثم بن جميل : قلت لمالك : يا أبا عبدِ الله ، الرجلُ يكونُ عالماً بالسُّنن يُجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسُّنَّةِ ، فإنْ قُبِلَ منه ، وإلاّ سكت .
قال إسحاق بن عيسى : كان مالك يقول : المِراء والجِدال في العلم يَذهبُ بنور العلم من قلب الرجل .
وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول(2) : المراء في العلم يُقسِّي القلوب ، ويورِّث الضغن .
وكان أبو شريح الإسكندراني يوماً في مجلسه ، فكثُرَتِ المسائلُ ، فقال : قد دَرِنَتْ قلوبُكم منذُ اليوم ، فقوموا إلى أبي حُميدٍ خالد بن حميد اصقُلوا قلوبكم ، وتعلَّمُوا هذه الرغائب ، فإنَّها تُجدِّدُ العبادة ، وتُورث الزهادة ، وتجرُّ الصداقة ، وأقِلُّوا المسائلَ إلا ما نزل ، فإنَّها تقسي القلوب ، وتورث العداوة .
وقال الميمونيُّ : سمعتُ أبا عبد الله - يعني : أحمد - يُسأل عن مسأَلة ، فقال : وقعَت هذه المسألة ؟ بُليتم بها بعدُ ؟
وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقساماً :
فمن أتباع أهلِ الحديث منْ سدَّ بابَ المسائل حتَّى قلَّ فقهه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله ، وصار حامِلَ فقه غير فقيه(3) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 8/108 .
(2) في ( ص ) : ( وقال مالك ) بدل : ( وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول ) .
(3) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18 .

ومن فقهاء أهل الرأي من توسَّع في توليدِ المسائل قبلَ وقوعها ، ما يقع في العادة منها وما لا يقع ، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجواب عنْ ذلك(1) ، وكثرة الخصومات فيه ، والجدال عليه حتَّى يتولدَ مِنْ ذلك افتراقُ القلوب ، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلوِّ والمباهاة ، وصرف وجوه الناس وهذا ممَّا ذمه العلماءُ الربانيون ، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قبحه
وتحريمه .
وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به ، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله - عز وجل - ، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة ، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان ، وعن سُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة صحيحها وسقيمِها ، ثم التفقه فيها وتفهمها ، والوقوف على معانيها ، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ، ومسائل الحلال والحرام ، وأصول السُّنة والزهد والرقائق وغيرِ ذلك ، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَنْ وافقه من علماء الحديث الرَّبّانيين ، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ، ولا يقع ، وإنَّما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القيل والقال . وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سُئِلَ عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول : دعونا منْ هذه المسائل المحدثة(2) .
__________
(1) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18 ، ومناهج الاجتهاد في الإسلام في الأحكام الفقهيه والعقائدية : 121 .
(2) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18-19 .

وما أحسن ما قاله يونسُ بنُ سليمان السَّقَطِيُّ : نظرتُ في الأمرِ ، فإذا هو الحديث والرأي ، فوجدتُ في الحديث ذكرَ الرب - عز وجل - وربوبيتَه وإجلاله وعظمته ، وذكرَ العرش وصفة الجنة والنار ، وذكرَ النبيين والمرسلين ، والحلال والحرام ، والحثَّ على صلة الأرحام(1) ، وجماع الخير فيه ، ونظرت في الرأي ، فإذا فيه المكرُ ، والغدرُ ، والحيلُ ، وقطيعة الأرحام ، وجماع الشَّرِّ فيه .
وقال أحمد بن شبويه : من أراد علمَ القبرِ فعليه بالآثار ، ومن أراد علم الخُبْزِ ، فعليه بالرأي(2) .
ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ، تمكَّن من فهم جواب
الحوادث الواقعة غالباً ؛ لأنَّ أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها ، ولابدَّ أنْ
يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمَعِ على هدايتهم ودرايتهم
كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومن سلك مسلكَهم ، فإنَّ مَنِ ادعى سلوكَ
هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوزَ ومهالك ، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به ، وترك ما يجب العملُ به(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( على فعل الخير ) .
(2) ذكره : الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 11/7-8 ، وفي " تذكرة الحفاظ " 2/464 .
(3) انظر : إعلام الموقعين 1/75-76 .

ومِلاكُ الأمرِ كلِّه أنْ يقصِدَ بذلك وجه الله ، والتقرُّبَ إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله ، وسلوكِ طَريقه ، والعمل بذلك ، ودعاء الخلق إليه ، ومَنْ كان كذلك ، وفَّقه الله وسدَّده ، وألهمه رشده ، وعلَّمه ما لم يكن يعلم ، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (1) ، ومن الراسخين في العلم، وقد خرَّج ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الرَّاسخين في العلم ، فقال : ( من برَّت يمينُه ، وصدق لسانُه ، واستقامَ قلبُه ، ومن عفَّ بطنُه وفرجُه ، فذلك مِنَ الرَّاسخين في العلم )(2) .
وقال نافع بن يزيد : يقال : الرَّاسخونَ في العلم : المتواضعون لله ، والمتذلِّلون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم(3) .
__________
(1) فاطر : 28 .
(2) التفسير 2/599 ( 3205 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5212 ) ، وطبعة التركي 5/223 والطبراني ( 7658 ) ، وهذا حديث باطل وعلته عبد الله بن يزيد بن آدم ، قال الإمام أحمد : ( أحاديثه موضوعة ) . لسان الميزان 5/40 .
(3) ذكره : ابن كثير في " تفسيره " : 352 ( طبعة دار ابن حزم ) .

ويشهد لهذا قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أتاكم(1) أهلُ اليمن ، هُمْ أبرُّ قلوباً ، وأرقُّ أفئدةً . الإيمان يمانٍ ، والفِقه يمانٍ ، والحكمة يمانيةٌ )(2) . وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري ، ومن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن ، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم الخولاني ، وأويس القَرَنيِّ ، وطاووس ، ووهب بن منبه ، وغيرهم من عُلماء أهل اليمن ، وكلُّ هؤلاء مِنَ العلماء الربانيين الخائفين لله ، فكلهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه ، وبعضُهم أوسعُ علماً بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ، ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلٍ وقالٍ ، ولا بحثٍ ولا جدالٍ .
وكذلك معاذُ بنُ جبل - رضي الله عنه - أعلم الناس بالحلال والحرام(3) ، وهو الذي يحشر يومَ القيامة أمام العلماء برتوة(4)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : الحميدي ( 1049 ) ، وأحمد 2/235 و474 و480 و502 ، والبخاري 5/219 ( 4388 ) ، ومسلم 1/51 ( 52 ) ( 82 ) و( 83 ) و( 84 ) و1/53 ( 52 ) ( 90 )
و( 91 ) ، والترمذي ( 3935 ) ، والبغوي ( 4001 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) انظر : حلية الأولياء 1/228 ، وسير أعلام النبلاء 1/446 ، وتذكرة الحفاظ 1/19 .
(4) أخرجه : أحمد 1/18 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/228 .
وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 1/446 ، وفي " تذكرة الحفاظ " 1/19 .
والرتوة : الدرجة والمنزلة .

انظر : النهاية 2/195 ، ولسان العرب 5/134 ، وتاج العروس 4/524 ، ومختار الصحاح : 233 ، وجاءت هذه اللفظة في بعض كتب الحديث : ( قذفه ) وفي بعضها : ( نبذه ) .

، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها ، بل قد سبق عنه كراهةُ الكلام فيما لا يقع ، وإنما كان عالماً بالله وعالماً بأصول دينه . وقد قيل للإمام أحمد : مَنْ نسألُ بعدَك ؟ قال : عبد الوهَّاب الورَّاق ، قيل له : إنَّه ليس
له اتَّساعٌ في العلم ، قال : إنَّه رجل صالح مثلُه يُوفَّقُ لإصابة الحق .
وسئل عن معروف الكرخي ، فقال : كان معه أصلُ العلم : خشية الله . وهذا يرجعُ إلى قولِ بعض السَّلف : كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار بالله جهلاً . وهذا بابٌ واسع يطول استقصاؤه .
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فنقول : مَنْ لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجدُ مثلُها في كتاب ، ولا سنة ، بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله ، وقصدُه بذلك امتثالُ الأوامر ، واجتنابُ النواهي ، فهو ممَّنِ امتثلَ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وعَمِلَ بمقتضاه ، ومن لم يكن اهتمامُه بفهم ما أنزل الله على رسوله ، واشتغل بكثرةِ توليدِ المسائل قد تقع وقد لا تقع ، وتكلَّفَ أجوبتها بمجرَّد الرأي ، خُشِيَ عليه أنْ يكونَ مخالفاً لهذا الحديث ، مرتكباً لنهيه ، تاركاً لأمره .
واعلم أنَّ كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنَّما هو مِنْ ترك الاشتغال بامتثالِ أوامر الله ورسوله ، واجتنابِ نواهي الله ورسوله ، فلو أنَّ من أرادَ أنْ يعمل عملاً سأل عمَّا شرع الله في ذلك العمل فامتثله ، وعما نهى عنه فاجتنبه ، وقعت الحوادثُ مقيدةً بالكتاب والسنة .
وإنَّما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله وربما عسر ردُّها إلى الأحكام المذكورةِ في الكتاب والسنة ؛ لبعدها عنها .

وفي الجملة : فمن امتثل ما أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وانتهى عما نهى
عنه ، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره ، حَصَلَ له النجاةُ في الدنيا والآخرة ، ومَنْ خالف ذلك ، واشتغلَ بخواطرهِ وما يستحسنه ، وقع فيما حذَّرَ منه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، وعدمِ انقيادهم وطاعتهم لرسلهم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) قال بعضُ العلماء : هذا يؤخذ منه أنَّ النَّهيَّ أشدُّ من الأمر ؛ لأنَّ النَّهيَّ لم يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه ، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة(1) ، ورُوي هذا عن الإمام أحمد .
ويشبه هذا قولُ بعضهم : أعمال البِرِّ يعملُها البرُّ والفاجرُ ، وأمَّا المعاصي ، فلا يتركها إلاَّ صِدِّيق(2) .
ورُوي عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( اتَّق المحارم ، تَكُن أعبدَ
الناس )(3) .
وقالت عائشة رضي الله عنها : من سرَّه أنْ يسبق الدائبَ المجتهدَ ، فليكفَّ عن الذنوب ، وروي عنها مرفوعاً(4) .
وقال الحسن : ما عُبِّدَ العابدون بشيءٍ أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه .
__________
(1) انظر : التمهيد في أصول الفقه 1/364 .
(2) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 10/211 من قول سهل التستري .
(3) أخرجه : أحمد 2/310 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 252 )، وابن ماجه ( 4217 ) ، والترمذي ( 2305 ) ، وأبو يعلى ( 5865 ) و( 6240 ) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" : 42 ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/365 ، والبيهقي في " الزهد " ( 818 ) ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي ضعيف ، وبعضهم قواه بالشواهد ، وتصدير المصنف له بصيغة التمريض يريد تضعيفه ، والله أعلم .
(4) أخرجه : أبو يعلى ( 4950 ) مرفوعاً ، وإسناده ضعيف لضعف يوسف بن ميمون .

والظاهر أنَّ ما ورد مِن تفضيل ترك المحرَّمات على فعل الطاعات ، إنَّما أُريد به على نوافل الطّاعات ، وإلاّ فجنسُ الأعمال الواجبات أفضلُ مِنْ جنسِ ترك المحرَّمات ؛ لأنَّ الأعمال مقصودة لذاتها ، والمحارم المطلوبُ عدمها ، ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمالِ ، وكذلك كان جنسُ ترك الأعمال قد يكون كفراً كتركِ التوحيد ، وكتركِ أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق ، بخلاف ارتكاب(1) المنهيات فإنَّه لا يقتضي الكفر بنفسه ، ويشهد لذلك قولُ ابنِ عمر : لردُّ دانقٍ من حرام أفضلُ مِنْ مئة ألف تُنْفَقُ في سبيل الله .
وعن بعض السَّلفِ قال : تركُ دانق مما يكره الله أحبُّ إليَّ من خمس مئة
حجة .
وقال ميمون بن مِهران : ذكرُ اللهِ باللسان حسن ، وأفضلُ منه أنْ يذكر الله العبدُ عندَ المعصية فيمسِكَ عنها(2) .
وقال ابنُ المبارك : لأنْ أردَّ درهماً من شبهة أحبُّ إلىَّ من أنْ أتصدَّقَ بمئة ألفٍ ومئة ألف ، حتّى بلغ ست مئة ألف .
وقال عمر بنُ عبد العزيز : ليست التقوى قيامَ الليل ، وصِيام النهار ، والتخليطَ فيما بَيْنَ ذلك ، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله ، وترك ما حرَّم الله ، فإنْ كان مع ذلك عملٌ ، فهو خير إلى خير ، أو كما قال(3) .
وقال أيضاً : وددتُ أني لا أصلي غيرَ الصَّلوات الخمس سوى الوتر ، وأنْ أؤدِّي الزكاة ، ولا أتصدَّق بعدها بدرهم ، وأنْ أصومَ رمضان ولا أصوم بعده يوماً أبداً ، وأنْ أحجَّ حجة الإسلام ثم لا أحجَّ بعدها أبداً ، ثم أعمد إلى فضل قوتي ، فأجعله فيما حرَّم الله عليَّ ، فأمسك عنه .
وحاصل كلامهم يدلُّ على أنَّ اجتناب المحرمات - وإنْ قلَّتْ - فهي أفضلُ من الإكثار من نوافل الطاعات فإنَّ ذلك فرضٌ ، وهذا نفلٌ .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 4/87 .
(3) ذكره : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 48/153 .

وقالت طائفة من المتأخرين : إنَّما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ؛ لأنَّ امتثالَ الأمر لا يحصلُ إلاّ بعمل ، والعملُ يتوقَّفُ وجودُه على شروط وأسباب ، وبعضها قد لا يُستطاع ، فلذلك قيَّده بالاستطاعة ، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة ، قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (1) . وقال في الحجّ : { وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (2) .
وأما النهيُّ : فالمطلوب عدمُه ، وذلك هو الأصل ، فالمقصود استمرار
العدم (3) الأصلي ، وذلك ممكن ، وليس فيه ما لا يُستطاع ، وهذا أيضاً فيه نظر ، فإنَّ الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قوياً ، لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها ، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذٍ إلى مجاهدةٍ شديدةٍ ، ربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرَّدِ مجاهدة النفس على فعل الطاعة ، ولهذا يُوجَدُ كثيراً من يجتهد فيفعل الطاعات ، ولا يقوى على ترك المحرمات(4) .
وقد سئل عمرُ عن قومٍ يشتهون المعصية ولا يعملون بها ، فقال : أولئِكَ قومٌ امتحنَ الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم .
وقال يزيد بن ميسرة : يقولُ الله في بعض الكتب : أيُّها الشابُّ التارك
شهوتَه ، المتبذل شبابه من أجلي ، أنت عندي كبعض ملائكتي(5) .
وقال : ما أشد الشهوة في الجسد ، إنَّها مثلُ حريق النار ، وكيف ينجو منها الحصوريون ؟(6) .
__________
(1) التغابن : 16 .
(2) آل عمران : 97 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) انظر : قواطع الأدلة 1/138-139 ، والمستصفى 2/25-26 ، والمحصول 2/303-304 ، والإبهاج في شرح المنهاج 2/71 ، والبحر المحيط 2/153 .
(5) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 5/237 .
(6) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 5/241 .

والتحقيق في هذا أنَّ الله لا يكلِّفُ العبادَ مِنَ الأعمال ما لا طاقةَ لهم به ، وقد أسقط عنهم كثيراً من الأعمال بمجرَّدِ المشقة رخصةً عليهم ، ورحمةً لهم ،
وأمَّا المناهي ، فلم يَعْذِرْ أحداً بارتكابها بقوَّةِ الدَّاعي والشَّهوات ، بل كلَّفهم
تركها على كلِّ حال، وأنَّ ما أباح أنْ يُتناول مِنَ المطاعم المحرَّمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة ، لا لأجل التلذذ والشهوة ، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إنَّ النهي أشدُّ من الأمر. وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان وغيره أنَّه قال : ( استقيموا ولن تُحْصُوا ) (1) يعني : لن تقدروا على الاستقامة كلها .
وروى الحكم بن حزن الكُلَفي ، قال : وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهدتُ معه الجمعة ، فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئاً على عصاً أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه بكلماتٍ خفيفاتٍ طيباتٍ مباركاتٍ ، ثُمَّ قال : ( أيُّها النَّاسُ إنَّكم لن تُطيقُوا ، أو لن تَفْعَلوا كُلَّ ما أَمَرْتُكم به ، ولكن سَدِّدُوا وأبشِرُوا ) خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود(2) .
__________
(1) وأخرجه : الطيالسي ( 996 ) ، وأحمد 5/278 و282 ، والدارمي ( 661 ) ، وابن ماجه ( 277 )، وابن حبان ( 1037 )، والطبراني في " الصغير " 1/8 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 170 )، والبيهقي 1/457، والخطيب في "تاريخه" 1/293 ، وهو حديث صحيح.
(2) مسند أحمد 4/212 ، وسنن أبي داود ( 1096 ) .
... وأخرجه : ابن سعد في "الطبقات" 5/516، وأبو يعلى ( 6826 )، وابن خزيمة ( 1452 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3165 ) ، والبيهقي في " السنن " 3/206 ، وفي " دلائل النبوة " ، له 5/354 ، وابن الأثير في " أُسد الغابة " 2/34 ، وهو حديث حسن .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) دليلٌ على أنَّ من عَجَزَ عن فعل المأمور به كلِّه ، وقدرَ على بعضه ، فإنَّه يأتي بما أمكنه منه ، وهذا مطرد في مسائل :
منها : الطهارة ، فإذا قدر على بعضها ، وعجز عن الباقي : إما لعدم الماء ، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنَّه يأتي مِنْ ذلك بما قدر عليه ، ويتيمم للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور(1) .
ومنها : الصلاة ، فمن عَجَزَ عن فعل الفريضة قائماً صلَّى قاعداً ، فإن عجز صلَّى مضطجعاً(2) ، وفي "صحيح البخاري" (3) عن عِمْرَانَ بن حصين: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( صَلِّ قائماً، فإنْ لم تستطع فقاعداً ، فإنْ لم تستطع فعلى جنبٍ ) ، ولو عجز عن ذلك كلِّه ، أومأ بطرفه ، وصلى بنيته ، ولم تسقُط عنه الصلاةُ على المشهور(4) .
ومنها : زكاة الفطر ، فإذا قَدَرَ على إخراج بعضِ صاع ، لزمه ذلك على الصحيح(5)
__________
(1) انظر : الأُم 2/96-97 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/162-163 ، واللباب 1/30-31، والمحلى 2/75 ، والهداية للكلوذاني 1/71 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 1/86-87، والمغني 1/267 ، ومنتهى الإرادات 1/33 .
(2) انظر : المغني 1/813-815 .
(3) الصحيح 2/60 ( 1117 ) .
وأخرجه : أحمد 4/426 ، وأبو داود ( 952 ) ، وابن ماجه ( 1223 ) ، والترمذي
( 372 )، وابن خزيمة ( 979 ) و( 1250 ) ، والدارقطني 1/369 ( 1410 ) و( 1411 ) و( 1412 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 2/304 ، والبغوي ( 983 ) .
(4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 1/192 ، والهداية للكلوذاني 1/124 بتحقيقنا ، والمغني 1/817 ، ومنتهى الإرادات 1/120 .
(5) انظر : رؤوس المسائل في الخِلاف 1/307 ، والمغني 2/652 ، قال الإمام الكلوذاني - رحمه الله -: زكاة الفطر واجبة على كل مسلم فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع ،=

= ... وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه ؟ على روايتين . انظر : الهداية للكلوذاني 1/175 بتحقيقنا . جاء في الشرح الكبير علىالمغني : إحداهما : لا يلزمه ، وهو اختيار ابن عقيل ؛ لأنها طُهرة فَلا تجب على من يعجز عن بعضها كالكفارة . والثانية : يلزمه ؛ لأنها طهرة فوجب منها ما قَدر عليه . انظر : الشرح الكبير على المغني 2/649 .

، فأمَّا من قدر على صيامِ بعض النهار دُونَ تكملته ، فلا يلزمه ذلك بغير
خلاف ؛ لأنَّ صيامَ بعض اليوم ليس بقُربَةٍ في نفسه(1) ، وكذا لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه ؛ لأنَّ تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يُؤْمَرُ بتكميله بكلِّ طريق(2) .
وأما من فاته الوقوفُ بعرفةَ في الحج، فهل يأتي بما بقيَ منه من المبيت بمزدلفة ، ورمي الجمار أم لا ؟ بل يقتصر على الطواف والسعي ، ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد ، أشهرهما : أنَّه يقتصر على الطواف والسعي ؛ لأنَّ المبيتَ والرميَّ من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه ، وإنَّما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام ، وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات ، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر(3) .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 1/346 ، والهداية للكلوذاني 1/204-205 بتحقيقنا ، ومنتهى الإرادات 1/227 .
(2) انظر : الهداية للكلوذاني 1/192-193 بتحقيقنا .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/295-296 ، والهداية للكلوذاني 1/247 بتحقيقنا ، والمغني 3/56 ، ومنتهى الإرادات 1/288 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 2/543-544 .


الحديث العاشرعَنْ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ
إلاَّ طيِّباً ، وإنَّ الله تعالى أمرَ المُؤْمِنينَ بما أمرَ به المُرسَلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا } (1) ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم } (2) ، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ : أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ : يا رَب يا رب ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ ، ومَشْرَبُهُ
حَرامٌ(3) ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ ، وَغُذِّيَ بالحَرَامِ ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ ؟ ) . رواهُ مُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجه مسلم(4) من رواية فضيل بن مرزوق، عن عديِّ بن ثابت، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، وخرّجه الترمذي(5) ، وقال : حسن غريب . وفضيل بن مرزوق(6) ثقة وسط خرَّج له مسلم دون البخاري .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله تعالى طيب ) هذا قد جاء أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إن الله طيِّبٌ يحبُّ الطَّيِّبَ ، نظيفٌ يحبُّ النظافة ، جواد يحبُّ الجود ) . خرَّجه الترمذي(7)
__________
(1) المؤمنون : 51 .
(2) البقرة: 172 .
(3) عبارة : ( ومشربه حرام ) سقطت من ( ص ) .
(4) في " صحيحه " 3/85 ( 1015 ) ( 65 ) .
(5) في " الجامع الكبير " ( 2989 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 8839 ) ، وعلي بن الجعد ( 2094 ) ، وأحمد 2/328 ، والدارمي
( 2720 ) ، والبخاري في " رفع اليدين " ( 91 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/264 ، والبيهقي 3/346 ، والبغوي ( 2028 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(6) من قوله : ( عن عدي بن ثابت ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(7) في " الجامع الكبير " ( 2799 ) .

وأخرجه : الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 3/408 ، والبزار ( 1114 ) ، وأبو يعلى
( 791 ) ، وابن حبان في " المجروحين " 1/279 ، وابن عدي في " الكامل " 3/414 من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، به .

، وفي إسناده مقال(1) ، والطيب هنا : معناه
الطاهر(2) .
والمعنى : أنَّه تعالى مقدَّسٌ منَزَّه عن النقائص والعيوب كلها ، وهذا كما في قوله : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون } (3) ، والمراد : المنزهون من أدناس الفواحش وأوضَارها(4) .
وقوله : ( لا يقبل إلا طيباً ) قد ورد معناه في حديث الصدقة ، ولفظُه : ( لا يتصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً … )(5) ، والمراد أنَّه تعالى لا يقبل مِن الصدقات إلا ما كان طيباً حلالاً .
وقد قيل : إنَّ المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله : ( لا يقبلُ الله إلا طيباً ) أعمُّ مِنْ ذلك ، وهو أنَّه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلِّها ، كالرياء والعُجب ، ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً ، فإنَّ الطيب تُوصَفُ به الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ ، فكلُّ هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيثٍ .
__________
(1) في سنده : ( خالد بن إلياس ) ، قال النسائي في " الضعفاء والمتروكون " ( 172 )
: ( مدني متروك الحديث ) ، وقال ابن حبان في " المجروحين " 1/279 : ( يروي الموضوعات عن الثقات حتى يسبق إلى القلب أنَّه الواضع لها ) .
(2) انظر : لسان العرب 8/235 .
(3) النور : 26 .
(4) في ( ص ) : ( ظاهرها وباطنها ) . والأوضار : جمع وضر وهو وسخ الدسم واللبن . انظر : لسان العرب 15/325 .
(5) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 648 ) ، وأحمد 2/418 ، والبخاري 2/134
( 1410 ) ، ومسلم 3/85 ( 1014 ) ( 63 ) و( 64 ) ، وابن ماجه ( 1842 ) ، والترمذي ( 661 ) ، والبغوي ( 1632 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

وقد قيل : إنَّه يدخل في قوله تعالى : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } (1) هذا كلُّه(2) .
وقد قسَّم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث ، فقال : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة } (3) ، { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } (4) ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } (5) ، ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يحلُّ الطيبات ويحرِّمُ الخبائث .
وقد قيل : إنَّه يدخل في ذلك الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ أيضاً ، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ } (6) وإنَّ الملائكة تقولُ عند الموت: اخرُجي أيتها النفس الطَّيِّبة التي كانت في الجسد الطيِّب، وإنَّ الملائكة تسلِّمُ عليهم عندَ دُخول الجنة، ويقولون لهم: طبتم فادخلوها خالدين(7)، وقد ورد في الحديث أنَّ المؤمن إذا زار أخاً له في الله تقول له الملائكة : ( طِبْتَ ، وطابَ ممشاك ، وتبوَّأْتَ من الجنة منْزلاً )(8) .
__________
(1) المائدة : 100 .
(2) عبارة : ( هذا كله ) سقطت من ( ص ) .
(3) إبراهيم : 24 .
(4) إبراهيم : 26 .
(5) فاطر : 10 .
(6) النحل : 32 .
(7) عبارة : ( فادخلوها خالدين ) لم ترد في ( ج ) .
(8) أخرجه : ابن المبارك في " مسنده " ( 3 ) ، وفي " الزهد " ، له ( 708 ) ، وأحمد 2/326 و344 و354 ، وعبد بن حميد ( 1451 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 345 ) ، وابن ماجه ( 1443 ) ، والترمذي ( 2008 ) ، وابن حبان ( 2961 ) ، والبيهقي في " شعب
الإيمان " ( 9026 ) وفي " الآداب " ، له ( 219 ) ، والبغوي ( 3472 ) و( 3473 ) من طريق أبي سنان عيسى بن سنان ، عن عثمان بن أبي سودة ، عن أبي هريرة ، به ، وإسناده ضعيف لضعف أبي سنان عيسى بن سنان .

فالمؤمن كله طيِّبٌ قلبُه ولسانُه وجسدُه بما سكن في قلبه من الإيمان ، وظهر على لسانه من الذكر ، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان ، وداخلة في اسمه ، فهذه الطيباتِ(1) كلُّها يقبلها الله - عز وجل - .
ومن أعظم ما يحصل به طيبةُ الأعمَال للمؤمن طيبُ مطعمه ، وأنْ يكون من
حلال ، فبذلك يزكو عملُه .
وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يقبل العملُ ولا يزكو إلاَّ بأكل الحلال ، وإنَّ أكل الحرام يفسد العمل ، ويمنع قبولَه ، فإنَّه قال بعد تقريره : ( إنَّ الله لا يقبلُ إلاَّ طيباً ) إنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً } (2) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (3) .
والمراد بهذا أنَّ الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال ، وبالعمل الصالح ، فما دام الأكل حلالاً ، فالعملُ صالح مقبولٌ ، فإذا كان الأكلُ غير حلالٍ ، فكيف يكون العمل مقبولاً ؟
وما ذكره بعد ذَلِكَ من الدعاء ، وأنَّه كيف يتقبل مع الحرام ، فهوَ مثالٌ لاستبعاد قَبُولِ الأعمال مع التغذية بالحرام . وقد خرَّج الطبراني بإسناد فيهِ نظر عن ابن عباس(4)
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( التي هي الإيمان والعمل الصالح ) .
(2) المؤمنون : 51 .
(3) البقرة : 172 .
(4) في " المعجم الأوسط " ( 6495 ) .

وعزاه الهيثمي في " المجمع " 10/294 إلى " المعجم الصغير " والصواب " المعجم الأوسط " ، وقال : ( وفيه من لم أعرفهم ) .

، قالَ : تُليَتْ هذه الآية عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً } (1) ، فقام سعدُ بنُ أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أنْ يجعلني مستجابَ الدعوة ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يا سعد(2) ، أطِبْ مطعَمَك تكن مستجاب الدَّعوة ، والذي نفس محمد بيده إنَّ العبد ليقذف اللُّقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوماً، وأيُّما عبدٍ نبت لحمُه من سُحْتٍ فالنارُ أولى به ).
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) بإسناد فيه نظر أيضاً عن ابن عمر قال : ( من اشترى ثوباً بعشرة دراهم في ثمنه درهمٌ حرام، لم يقبلِ الله له صلاة ما كان عليه ) ، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال : صُمَّتا إنْ لم أكن سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ويُروى من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - مرفوعاً معناه أيضاً، خرَّجه البزار وغيره بإسنادٍ ضعيف
جداً(4).
__________
(1) البقرة : 168 .
(2) يا سعد ) لم ترد في ( ص ) .
(3) في المسند 2/98 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 849 ) ، وابن حبان في " المجروحين " 2/40 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 6114 ) ، والخطيب في " تاريخه " 14/21 وإسناده ضعيف جداً ، فهو مسلسل بالعلل ، وقال الحافظ العراقي : ( سنده ضعيف جداً ) فيض القدير 6/84 .
(4) في " مسنده " ( 819 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، فيه النضر بن منصور ، قال البخاري
: ( منكر الحديث ) . وعقبة بن علقمة أبو الجنوب ، قال أبو حاتم : ( ضعيف الحديث ) . انظر : الجرح والتعديل 6/402 ( 1743 ) ، ومجمع الزوائد 10/292 .

وخرَّج الطبراني بإسنادٍ فيه ضعفٌ من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا خرج الرجلُ حاجاً بنفقةٍ طيبةٍ ، ووضع رجله في الغَرْزِ(1) ، فنادى : لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيكَ ، ناداه منادٍ من السَّماء : لبَّيْكَ وسَعْدَيك زادُك حلالٌ ، وراحلتك حلالٌ(2) ، وحجك مبرورٌ غير مأزورٍ ، وإذا خرج الرجلُ بالنفقة الخبيثة ، فوضع رجله في الغَرْزِ ، فنادى : لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك ، ناداه منادٍ من السَّماء : لا لبَّيْكَ ولا سَعْدَيك ، زادُك حرام ، ونفقتُك حرام ، وحجُّكَ غيرُ مبرورٍ ) (3). ويُروى من حديث عمر نحوه بإسناد ضعيف أيضاً(4) .
وروى أبو يحيى القتات(5) ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لا يقبل الله صلاة امريءٍ في جوفه حرام .
__________
(1) في ( ص ) : ( في المزدلفة ) .
(2) عبارة : ( وراحلتك حلال ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المعجم الأوسط " ( 5228 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، سليمان بن داود اليمامي ، قال أبو حاتم : ( هو ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، ما أعلم له حديثاً صحيحاً ) . انظر : الجرح والتعديل 4/108 ( 487 ) .
(4) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 3/585 ، وفي إسناده أبو الغصن الدجين بن ثابت ، قال النسائي في " الضعفاء والمتروكون " ( 179 ) : ( ليس بثقة ) .
(5) وهو ضعيف .

وقد اختلفَ العلماءُ في حجِّ من حجَّ بمالٍ حرام ، ومن صلَّى في ثوب حرام ، هل يسقط عنه فرضُ الصلاة والحج بذلك ، وفيه عن الإمام أحمد روايتان ، وهذه الأحاديث المذكورة تدلُّ على أنَّه لا يتقبل العملُ مع مباشرة الحرام ، لكن القبول قد يُراد به الرضا بالعمل ، ومدحُ فاعله ، والثناءُ عليه بين الملائكة والمباهاةُ به ، وقد يُراد به حصولُ الثواب والأجر عليه ، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة ، فإنْ كان المراد هاهنا القبولَ بالمعنى الأوَّل أو الثاني لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة(1) ، كما ورد أنَّه لا تقبل صلاة الآبق ، ولا المرأة التي زوجها عليها ساخطٌ ، ولا من أتى كاهناً ، ولا من شرب الخمر أربعين يوماً ، والمراد - والله أعلم - نفي القبول بالمعنى الأوَّل أو الثاني ، وهو المراد - والله أعلم - من قوله - عز وجل - : { إنَّما يَتقبَّلُ الله من المتَّقين } (2) . ولهذا كانت هذه الآية يشتدُّ منها خوفُ السَّلف على نفوسهم ، فخافوا أنْ لا يكونوا من المتَّقين الذين يُتقبل منهم .
وسُئل أحمد عن معنى ( المتقين ) فيها ، فقال : يتقي الأشياء ، فلا يقع فيما لا يَحِلُّ له .
__________
(1) من قوله : ( فإن كان المراد هاهنا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) المائدة : 27 .

وقال أبو عبد الله الناجي(1) الزاهد رحمه الله : خمسُ خصال بها تمامُ العمل : الإيمان بمعرفة الله - عز وجل - (2)، ومعرفةُ الحقِّ ، وإخلاصُ العمل للهِ ، والعمل على السُّنَّةِ ، وأكلُ الحلالِ، فإن فُقدَتْ واحدةٌ، لم يرتفع العملُ ، وذلك أنَّك إذا عرَفت الله - عز وجل - ، ولم تَعرف الحقَّ ، لم تنتفع ، وإذا عرفتَ الحقَّ ، ولم تَعْرِفِ الله ، لم تنتفع ، وإنْ عرفتَ الله ، وعرفت الحقَّ ، ولم تُخْلِصِ العمل ، لم تنتفع ، وإنْ عرفت الله ، وعرفت الحقَّ (3)، وأخلصت العمل ، ولم يكن على السُّنة ، لم تنتفع ، وإنْ تمَّتِ الأربع ، ولم يكن الأكلُ من حلال لم تنتفع(4) .
وقال وُهيب بن الورد(5) : لو قمتَ مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام(6) .
وأما الصدقة بالمال الحرام ، فغيرُ مقبولةٍ كما في " صحيح مسلم " (7) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقبلُ الله صلاةً بغير طهورٍ ، ولا صدقةً من غلولٍ ) .
__________
(1) وهو : سعيد بن بريد الزاهد . انظر : الجرح والتعديل 4/8 ( 26 ) .
(2) في ( ص ) : ( الإيمان بالله - عز وجل - ) .
(3) من قوله : ( لم تنتفع ، وإذا عرفت ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/310 .
(5) وهو ابن أبي الورد القرشي ، أبو عثمان ، ويقال : أبو أمية المكي ، مولى بني مخزوم ، أخو
عبد الجبار بن الورد ، واسمه عبد الوهاب ، ووهيب لقب غلب عليه . انظر : تهذيب الكمال 7/505 ( 7366 ) .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/154 .
(7) الصحيح 1/140 ( 224 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1874 )، وأحمد 2/19 و20 و39 و51 و57 و73، وابن ماجه
( 272 )، والترمذي ( 1 )، وابن الجارود ( 65 )، وابن خزيمة ( 8 )، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 3299 ) ، وابن حبان ( 3366 ) ، والبيهقي 4/191 من طرق عن ابن عمر، به.

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(1) : ( ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطَّيِّبَ- إلا أخذها الرحمان بيمينه )(2)، وذكر الحديث .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن ابن مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يكتسب عبدٌ مالاً من حرام ، فيُنفِقَ منه ، فَيُباركَ له فيه ، ولا يتصدَّقُ به ، فيتقبلَ منه، ولا يتركه خلفَ ظهره إلا كان زادَه إلى النار، إنَّ الله لا يمحو السيِّىء بالسيِّئ ، ولكن يمحو السَّيىءَ بالحسن ، إنَّ الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ ) .
__________
(1) من قوله : ( لا يقبل الله صلاة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) أخرجه : الحميدي ( 1154 ) ، وأحمد 2/538 ، والدارمي ( 1682 ) ، والبخاري 9/154 ( 7430 ) ، ومسلم 3/85 ( 1014 ) ( 64 ) والنسائي 5/57 وفي " الكبرى " ، له ( 2304 ) و( 7734 ) و( 7735 ) و( 7759 ) وفي " التفسير " ، له ( 419 ) ، وابن خزيمة ( 2425 ) و( 2426 ) و( 2427 ) ، وابن حبان ( 3316 ) و( 3319 ) ، والبغوي ( 1631 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) في " مسنده " 1/387 .
وأخرجه : البزار ( 2026 ) ، والشاشي ( 877 ) ، والحاكم 2/447 ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/165 و166 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 607 ) و( 5524 )، والبغوي ( 2030 ) من طرق عن عبد الله بن مسعود ، به ، وإسناده ضعيف ورفعه منكر ، الصواب فيه الوقف وعلته الصباح بن محمد ضعيف وقد خولف .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 1134 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8990 ) وأبو نعيم في " الحلية " 4/165 عن عبد الله بن مسعود ، موقوفاً .

ويُروى من حديث دراج، عن ابن حُجيرة، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من كسب مالاً حراماً ، فتصدق به ، لم يكن له فيه أجرٌ ، وكان إصرُه عليه ) . خرَّجه ابنُ حبان في " صحيحه " (1) ، ورواه بعضهم موقوفاً على أبي هريرة .
ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أصاب مالاً مِنْ مأثم ، فوَصَلَ به رحمه ، أو تصدّق به ، أو أنفقه في سبيل الله ، جمع الله ذلك جميعاً ، ثم قذف به في نار جهنم ) (2) .
ورُوي عن أبي الدرداء ، ويزيد بن مَيْسَرَة أنَّهما جعلا مثلَ من أصاب مالاً من غير حلِّه ، فتصدَّق به مثلَ من أخذ مال يتيم ، وكسَا بهِ أرملةً(3) .
وسُئِلَ ابنُ عباس عمَّن كان على عمل ، فكان يَظلِمُ ويأخُذُ الحرام ، ثم تابَ ، فهو يحجُّ ويعتِق ويتصدَّق منه ، فقال : إنَّ الخبيث لا يُكَفِّرُ الخبيثَ ، وكذا قال ابن مسعود : إنَّ الخبيثَ لا يُكفِّر الخبيث ، ولكن الطَّيِّبَ يُكفِّرُ الخبيث(4) ، وقال الحسنُ : أيها المتصدِّق على المسكين يرحمُه ، ارحم من قد ظَلَمْتَ .
واعلم أنَّ الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين :
__________
(1) الصحيح ( 3216 ) و( 3367 ) .
وأخرجه أيضاً : ابن الجارود ( 336 ) ، والحاكم 1/548 ، والبيهقي 4/84 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 625 ) ، وأبو داود في " المراسيل " ( 131 ) .
(3) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 737 ) .
(4) أخرجه : البزار ( 1977 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 7728 ) من طرق عن
عبد الله بن مسعود مرفوعاً ، وهو ضعيف .

أحدهما : أنْ يتصدَّقَ به الخائنُ أو الغاصبُ ونحوهما عن نفسه ، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يُتُقبَّلُ منه ، بمعنى : أنَّه لا يُؤجَرُ عليه ، بل يأثمُ بتصرفه في مال غيره بغير إذنه ، ولا يحصلُ للمالك بذلك أجرٌ ؛ لعدم قصده ونيته ، كذا قاله جماعةٌ من العلماء ، منهم : ابنُ عقيلٍ من أصحابنا ، وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي : أنَّه سأل سعيد بنَ المسيب قال : وجدت لقطةً ، أفأتصدق بها ؟ قالَ : لا تُؤجر أنت ولا صاحبُها(1) .
ولعلَّ مرادَه إذا تَصدَّقَ بها قبلَ تعريفها الواجب . ولو أخذ السلطانُ ، أو بعضُ نوابه من بيت المال ما لا يستحقه ، فتصدق منه أو أعتق ، أو بنى به مسجداً أو غيره مما ينتفع به الناسُ، فالمنقولُ عن ابنِ عمر أنَّه كالغاصبِ إذا تصدق بما غصبه، كذلك قالَ لعبد الله بن عامر أميرِ البصرة ، وكان الناس قد اجتمعُوا عنده في حال موته وهم يُثنون عليهِ ببرِّه وإحسانه، وابن عمر ساكتٌ، فطلب منه أنْ يتكلَّم، فروى له حديث : ( لا يقبلُ الله صدقة من غُلولٍ )(2)، ثم قال له(3): وكنت على البصرة.
وقال أسدُ بنُ موسى في " كتاب الورع " : حدثنا الفضيلُ بن عياض ، عن
منصور ، عن تميم بن سلمة قال : قال ابنُ عامر(4) لعبد الله بن عمر : أرأيتَ هذا العقاب التي نُسَهِّلُها ، والعيون التي نُفَجِّرُها ، ألنا فيها أجرٌ ؟ فقال ابن عمر : أما علمتَ أنَّ خبيثاً لا يُكَفِّرُ خبيثاً قط ؟(5)
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18622 ) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) قال له ) سقطت من ( ص ) .
(4) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن عباس ) .
(5) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1063 ) .

حدثنا عبدُ الرحمان بنُ زياد ، عن أبي مليح ، عن ميمون بن مِهران قال : قال ابنُ عمر لابنِ عامر وقد سأله عن العتق : مَثَلُكَ مثلُ رجلٍ سرق إبلَ حاجٍّ ، ثم جاهد بها(1) في سبيل الله ، فانظر هل يقبل منه ؟
وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع(2) ، كطاووسٍ ووهيب بن الورد(3) يَتَوقَّوْنَ الانتفاع بما أحدثه مثلُ هؤلاء الملوك ، وأما الإمام أحمد – رحمه الله – فإنَّه رخَّصَ فيما فعلوه من المنافع العامة ، كالمساجد والقناطر والمصانع ، فإنَّ هذه ينفق عليها من مال الفيء ، اللهم إلاَّ أنْ يتيقَّن أنَّهم فعلوا شيئاً من ذلك بمالٍ حرام كالمُكوس والغصوب ونحوها ، فحينئذ يتوقَّى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام ، ولعلَّ ابنَ عمر إنَّما أنكر عليهم أخذَهُم لأموال بيت المال لأنفسهم ، ودعواهم أنَّ ما فعلوه منها بعد ذلك ، فهو صدقة منهم ، فإنَّ هذا شبيهٌ بالغصوب ، وعلى مثل هذا يُحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد .
__________
(1) في ( ص ) : ( فتصدق بها ) .
(2) عبارة : ( في الورع ) لم ترد في ( ص ) .
(3) في ( ص ) : ( ووهب بن المنبه ) .

قال أبو الفرج بنُ الجوزي : رأيت بعضَ المتقدمين سُئلَ عمن كسب حلالاً وحراماً من السلاطين والأمراء ، ثم بنى الأربطة والمساجد : هل له ثواب ؟ فأفتى بما يُوجِبُ طيب قلب المنفق ، وأنَّ لهُ في إيقاف ما لا يملكه نوع سمسرة ؛ لأنَّه لا يعرف أعيان المغصوبين ، فيرد عليهم . قالَ : فقلتُ واعجباً من متصدِّرين للفتوى لا يعرفونَ أصولَ الشريعة ، ينبغي أنْ ينظر في حال هذا المنفق أوَّلاً ، فإنْ كانَ سلطاناً ، فما يخرج من بيت المال ، قد عرفت وجوهُ مصارفِه ، فكيف يمنع مستحقيه ، ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط؟ وإنْ كان مِن الأُمراء ونوَّابِ السلاطين، فيجب أنْ يردَّ ما يجب ردُّه إلى بيت المال ، وإنْ كان حراماً أو غصباً ، فكلُّ تصرف فيه حرام ، والواجب ردُّه على من أخذ منه أو ورثته ، فإن لم يعرف ردَّ إلى بيت المال(1) يصرف في المصالح أو في الصدقة ، ولم يحظ آخذه بغير الإثم . انتهى .
وإنَّما كلامُه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم ، ويتصرَّفونَ فيه لأنفسهم تصرف المُلاَّكِ ببناء ما ينسبونه إليهم من مدارسَ وأربطةٍ ونحوها مما قد لا يحتاج إليه ، ويخص به قوماً دون قوم ، فأما لو فرض إمامٌ عادلٌ يعطي الناس حقوقهم من الفيء ، ثم يبني لهم منه ما يحتاجون إليه من مسجدٍ ، أو مدرسة ، أو مارستان ، ونحوِ ذلك كان ذلك جائزاً ، ولو كان بعضُ من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذه بناء محتاجاً إليه في حال ، يجوز البناء فيه من بيتِ المال ، لكنَّه نسبه إلى نفسه ، فقد يتخرَّجُ على الخلاف في الغاصب إذا ردَّ المالَ إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم
لا ؟ وهذا كلُّه إذا بني على قدر الحاجة من غير سرفٍ ولا زخرفةٍ .
__________
(1) من قوله : ( وإن كان حراماً أو غصباً ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وقد أمر عمرُ بنُ عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من مال بيت المال ، ونهاهم أنْ يتجاوزوا ما تصدَّع منه ، وقال : إني لم أجد للبنيان في مال الله حقاً ، ورُوي عنه أنَّه قال : لا حاجة للمسلمين فيما أضرَّ ببيت مالهم .
واعلم أنَّ من العلماء من جعل تصرُّفَ الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفاً على إجازة مالكه ، فإنْ أجاز تصرُّفه فيه جاز ، وقد حكى بعضُ أصحابنا روايةً عن أحمد أنَّ من أخرج زكاته من مالٍ مغصوبٍ ، ثم أجازه لهُ المالك ، جاز وسقطت عنه الزكاة ، وكذلك خرَّج ابن أبي موسى روايةً عن أحمد : أنَّه إذا أعتق عبدَ غيره عن نفسه ملتزماً ضمانه في ماله ، ثم أجازه المالك جاز ، ونفذ عتقه ، وهو خلافُ نصِّ أحمد ، وحكي عن الحنفية أنَّه لو غصب شاة ، فذبحها لمتعته وقرانه ، ثم أجازه المالك أجزأت عنه .
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب : أنْ يتصدَّق به عن صاحبه إذا عجز عن ردِّه إليه أو إلى ورثته ، فهذا جائزٌ(1) عند أكثر العلماء ، منهم : مالكٌ ، وأبو حنيفة ، وأحمد وغيرهم . قال ابنُ عبد البر : ذهب الزُّهري ومالك والثوري ، والأوزاعي ، والليث إلى أنَّ الغالَّ إذا تفرَّق أهلُ العسكر ولم يَصِلْ إليهم أنَّه يدفع إلى الإمام خمسه ، ويتصدق بالباقي ، روي ذلك عن عُبادة بن الصامت ومعاوية ، والحسن البصري ، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس ؛ لأنَّهما كانا يريان أنْ يتصدَّق بالمال الذي لا يعرف صاحبه ، قال : وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها ، وجعلوه إذا جاء مخيراً بين الأجر والضمان ، وكذلك الغصوب . انتهى(2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) التمهيد 1/295 . ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .

وروي عن مالك بن دينار ، قال : سألتُ عطاء بن أبي رباح عمن عنده مالٌ
حرام ، ولا يعرف أربابه ، ويريدُ الخروج منه ؟ قال : يتصدق به ولا أقول : إنَّ ذلك يُجزئ عنه . قال مالك : كان هذا القول من عطاء أحبَّ إليَّ من وزنه ذهباً .
وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئاً مغصوباً : يردُّه إليهم ، فإنْ لم يقدر
عليهم ، تصدَّق به كلَّه ، ولا يأخذ رأس ماله ، وكذا قال فيمن باع شيئاً ممن تكره معاملته لشبهة ماله ، قال : يتصدَّقُ بالثمن ، وخالفه ابنُ المبارك ، وقال : يتصدق بالرِّبح خاصَّةً ، وقال أحمد : يتصدَّق بالربح .
وكذا قال فيمن ورث مالاً من أبيه ، وكان أبوه يبيعُ ممَّن تكره معاملته : أنَّه يتصدَّق منه بمقدار الرِّبح ، ويأخذ الباقي (1). وقد رُوي عن طائفةٍ من الصَّحابة نحوُ ذلك : منهم : عمرُ بنُ الخطاب ، وعبدُ الله بنُ يزيد الأنصاري .
والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام : أنَّها تُحفظ ، ولا يُتصَدَّقُ بها حتى يظهر مستحقُّها .
وكان الفضيلُ بنُ عياض يرى : أنَّ من عنده مالٌ حرامٌ لا يعرف أربابه ، أنَّه يُتلفه ، ويُلقيه في البحر ، ولا يتصدَّق به ، وقال : لا يتقرَّب إلى الله إلاَّ بالطيب .
والصحيح الصدقةُ به ؛ لأنَّ إتلاف المال وإضاعته منهيٌّ عنه ، وإرصاده أبداً تعريض له للإتلاف ، واستيلاء الظلمة عليه ، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقرُّباً منه بالخبيث ، وإنَّما هي صدقةٌ عن مالكه ، ليكون نفعُه له في الآخرة حيث يتعذَّرُ عليه الانتفاعُ به في الدنيا .
وقوله : ( ثم ذكر الرجل يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ ، يمدُّ يديه إلى السَّماء : يا رب ، يا رب ، ومطعمُه حرام ، ومشربه حرامٌ ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، فأنَّى يُستجاب لذلك ؟! )(2) .
__________
(1) من قوله : ( وقال أحمد : يتصدق بالربح ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) تقدم تخريجه .

هذا الكلام أشار فيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته ، وإلى ما يمنع من إجابته ، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة :
أحدهما : إطالةُ السفر ، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء ، كما في حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شك فيهن : دعوةُ المظلومِ ، ودعوةُ المسافر ، ودعوةُ الوالد لولده ) (1) ، خرَّجه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وعنده : ( دعوة الوالد على ولده ) .
وروي مثله عن ابن مسعود من قوله .
ومتى طال السفر ، كان أقربَ إلى إجابةِ الدُّعاء ؛ لأنَّه مَظنِّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان ، وتحمُّل المشاق ، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء .
والثاني : حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والإغبرار ، وهو - أيضاً - من المقتضيات لإجابة الدُّعاء ، كما في الحديث المشهور عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ربَّ أشعث أغبرَ ذي طِمرين ، مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرَّه )(2)
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 1531 ) ، وابن ماجه ( 3862 ) ، والترمذي ( 1905 ) و(3448) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2517 ) ، وأحمد 2/258 و348 و434 و478 و517 و523 ، وعبد بن حميد ( 1421 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 32 ) ( 481 ) ، والعقيلي في "الضعفاء" 1/72 ، وابن حبان ( 2699 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 24 ) ، والبغوي ( 1394 ) ، قال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) ، على أنَّ في إسناده مقالاً ، ولعله قال ذلك لما للحديث من شواهد .
وأخرجه : أحمد 4/154 من طريق عقبة بن عامر الجهني ، به .
(2) أخرجه : عبد بن حميد ( 1236 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 8650 ) بهذا اللفظ من حديث أنس بن مالك ، به .

وأخرجه : مسلم 8/36 ( 2622 ) ( 138 ) و8/154 ( 2854 ) ( 48 ) من حديث أبي هريرة ، به ، ولم يذكر : ( ذي طمرين ) .

. ولما خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للاستسقاء ، خرج متبذِّلاً متواضعاً متضرِّعاً (1) . وكان مُطَرِّفُ بنُ عبد الله قد حُبِسَ له ابنُ أخٍ ، فلبس خُلْقان ثيابه ، وأخذ عكازاً بيده ، فقيل له : ما هذا ؟ قالَ : أستكين لربي ، لعلَّه أنْ يشفِّعني في ابن أخي(2) .
الثالث : مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمانَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله تعالى حييٌّ كريمٌ ، يستحيي إذا رفع الرجلُ إليه يديه أنْ يردَّهما صِفراً خائبتين ) ، خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه . وروي نحوه من حديث أنس وجابر وغيرهما(3)
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/230 و269 و355 ، وأبو داود ( 1165 ) وابن ماجه ( 1266 ) ، والترمذي ( 558 ) و( 559 ) ، والنسائي 3/156 و163 وفي " الكبرى " ، له ( 1807 )
و( 1808 ) و( 1811 ) و( 1826 ) ، وابن خزيمة ( 1405 ) و( 1408 ) و( 1419 ) ، وابن حبان ( 2862 ) ، والطبراني في " المعجم الكبير " ( 10818 ) و( 10819 ) ، والحاكم 1/326 ، والبيهقي 3/347 ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/198 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 61/238 .
(3) أخرجه : أحمد 5/438 ، وأبو داود ( 1488 ) ، والترمذي ( 3556 ) ، وابن ماجه
( 3865 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 876 ) و( 880 ) ، والطبراني في " المعجم الكبير " ( 6148 ) وفي
" الدعاء " ، له ( 202 ) ، وابن عدي 2/562 ، والحاكم 1/497 ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " ( 1110 ) ، والبيهقي 2/211 ، والخطيب في " تاريخه " 8/317 ، والبغوي ( 1385 ) من طرق عن سلمان الفارسي ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : أحمد في " الزهد " ( 821 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1361 ) من طرق عن سلمان الفارسي ، موقوفاً .

وأخرجه : معمر في "جامعه " ( 19648 ) ، وعبد الرزاق ( 3250 ) ، والحاكم 1/497-498 ، والبغوي ( 1386 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
وأخرجه : أبو يعلى ( 1867 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : ابن عدي 2/431 من حديث ابن عمر ، به .

.
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه(1) ، ورَفَعَ يديه يومَ بدرٍ يستنصرُ على المشركين حتى(2) سقط رداؤه عن منكبيه(3)
__________
(1) عن أنس بن مالك : أنَّه قال : لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في شيءٍ من الدعاء إلا في الاستقاء ، فإنه كان يرفعُ يديه حتى يرى بياض إبطيه .
أخرجه : أحمد 3/181 و282 ، والدارمي ( 1543 ) ، والبخاري 2/39 ( 1031 ) و4/231 ( 3565 ) ، وفي " رفع اليدين " ، له ( 84 ) ، ومسلم 3/24 ( 895 ) ( 5 )
و( 7 ) وأبو داود ( 1170 ) ، وابن ماجه ( 1180 ) ، والنسائي 3/158 وفي " الكبرى " ، له ( 1817 ) و( 1819 ) ، وابن خزيمة ( 1411 ) و( 1791 ) ، والبيهقي 3/357 ، والبغوي ( 1163 ) و( 1164 ) من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عن عمر بن الخطاب ، قال : نظر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً ، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ، ثمَّ مدَّ يديه وجعل يهتف بربه : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه ، ماداً يديه ، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه من منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، فقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، إنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } الأنفال : 9 .

أخرجه : أحمد 1/30 و32 ، وعبد بن حميد ( 31 ) ومسلم 5/156 ( 1763 ) ( 58 ) ، وأبو داود ( 2690 ) ، والترمذي ( 3081 ) واللفظ له ، والبزار ( 196 ) وابن حبان
( 4793 ) ، وأبو نعيم في " الدلائل " ( 408 ) ، والبيهقي 6/321 ، وفي " الدلائل " ، له 3/51-52 من طرق عن عمر بن الخطاب ، به .

.
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة رفع يديه في الدُّعاء(1) أنواعٌ متعددة ، فمنها
أنَّه كان يُشير بأصبعه السَّبَّابةِ فقط(2) ، وروي عنه أنَّه كان يفعل ذلك على المنبر(3)
__________
(1) في ( ص ) : ( إلى السماء ) .
(2) عن سعد ، قال : مرَّ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصابعي فقال : ( أحد أحد ) وأشار بالسَّبابة .
أخرجه : أبو داود ( 1499 ) ، والنسائي 3/38 وفي " الكبرى " ، له ( 1196 ) ، والحاكم 1/536 من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، به . وعن أبي هريرة أنه ، قال : إنَّ رجلاً كان يدعو بأصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أحد أحد ) .
أخرجه : أحمد 2/420 و520 ، والترمذي ( 3557 ) والنسائي 3/38 وفي " الكبرى " ، له
( 1195 ) ، وابن حبان ( 884 ) ، والحاكم 1/536 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (1134) ، وفي " الدعوات الكبير " ، له ( 265 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) عن عمارة بن رويبة ، قال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما يزيد على هذه - يعني : السبابة التي تلي الإبهام .
أخرجه : أحمد 4/135 و136 و261 ، والدارمي ( 1568 ) و( 1569 ) ، ومسلم 3/13
( 874 ) ( 53 ) ، وأبو داود ( 1104 ) ، والترمذي ( 515 ) ، وابن أبي عاصم في
"الآحاد والمثاني" ( 1581 ) ، وابن خزيمة ( 1793 ) و( 1794 ) ، وابن حبان ( 882 ) ، والبيهقي 3/210 ، والبغوي ( 1079 ) من طرق عن عمارة بن رويبة ، به .
وعن سهل بن سعد ، قال : ما رأيت رسول الله شاهراً يديه قط يدعو على منبره ولا على
غيره . ولكن رأيته ، يقول هكذا : وأشار بإصبعه السبابة يحركها .

أخرجه : أحمد 5/337 ، وأبو داود ( 1105 ) ، وابن خزيمة ( 1450 ) ، وابن حبان
( 883 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6023 ) ، والحاكم 1/535-536 ، والبيهقي 3/210 من طرق عن سهل بن سعد ، به .

، وفعله لما ركب راحلته(1) .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنَّ دعاء القنوت في الصلاة يُشير فيه بإصبعه ، منهم : الأوزاعي ، وسعيدُ بن عبد العزيز ، وإسحاق بن راهويه . وقال ابن عباس وغيره : هذا هو الإخلاص في الدعاء(2) ، وعن ابن سيرين : إذا أثنيت على الله ، فأَشِرْ بإصبعٍ واحدة .
ومنها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه وجعل ظُهورَهما إلى جهةِ القبلة وهو مستقبلها ، وجعل بطونَهما ممَّا يلي وجهَه(3) . وقد رُويت هذه الصَّفةُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستسقاء(4) ، واستحبّ بعضُهمُ الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة ، منهم : الجوزجاني .
وقال بعض السَّلف : الرفع على هذا الوجه تضرُّعٌ .
__________
(1) هو جزء من حديث طويل لجابر بن عبد الله في حجة الوداع .
أخرجه : أحمد 3/320 ، وعبد بن حميد ( 1135 ) ، والدارمي ( 1857 ) ، ومسلم 4/38-43 ( 1218 ) ( 147 ) و( 148 ) ، وأبو داود ( 1905 ) ، وابن ماجه
( 3074 ) ، وابن الجارود ( 465 ) و( 469 ) ، وابن خزيمة ( 2534 ) و( 2620 ) =
= ... و( 2687 ) و( 2754 ) و( 2755 ) و( 2757 ) و( 2802 ) و( 2812 ) و( 2826 و( 2855 ) و( 2944 ) ، وابن حبان ( 3944 ) ، والبيهقي /6-9 وفي " الدلائل " ، له 5/433-438 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 3244 ) ، والبيهقي 2/133 من طرق عن ابن عباس ، به .
(3) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 2590 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 6625 ) من طرق عن السائب بن خلاد ، به .
وأخرجه : أحمد 4/56 من حديث خلاد بن السائب ، به .
(4) عن عمير مولى آبي اللحم : أنَّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزَّيت قريباً من الزوراء قائماً ، يدعو يستسقي رافعاً كفيه ، لا يجاوز بهما رأسه مقبل بباطن كفيه إلى وجهه .
أخرجه : أحمد 5/223 ، وأبو داود ( 1168 ) ، والترمذي ( 557 ) وابن حبان ( 878 ) ، والحاكم 1/535 .

ومنها عكسُ ذلك ، وقد رُوي عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء أيضاً ، ورُوي عن جماعة من السَّلف أنَّهم كانوا يدعون كذلك ، وقال بعضهم : الرفع على هذا الوجه استجارةٌ بالله - عز وجل - واستعاذة به ، منهم : ابنُ عمر ، وابنُ عباس ، وأبو هريرة ، ورُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان إذا استسقى رفعَ يديه ، وإذا (1) استعاذَ رفع يديه على هذا الوجه(2) .
ومنها : رفع يديه ، جعل كفَّيه إلى السَّماء وظهورهما إلى الأرض . وقد ورد الأمرُ بذلك في سُؤال الله - عز وجل - في غير حديث(3) ، وعن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وابن سيرين أنَّ هذا هو الدُّعاء والسُّؤال لله - عز وجل - .
__________
(1) عبارة : ( استسقى رفع يديه وإذا ) لم ترد في ( ج ) .
(2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه .
أخرجه : أحمد 4/56 من حديث خلاد بن السائب ، به .
(3) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا سألتم الله عز وجل فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ) .
أخرجه : أبو داود ( 1486 ) من حديث مالك بن يسار ، به .

ومنها : عكسُ ذلك ، وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطونهما مما يلي الأرض . وفي " صحيح مسلم " (1) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفَّيه إلى السَّماء . وخرَّجه الإمام أحمد(2) - رحمه الله - ولفظه : ( فبسط يديه ، وجعل ظاهرهما مما يلي السماء ) . وخرَّجه أبو داود(3) ، ولفظه : استسقى هكذا ، يعني : مدّ يديه ، وجعل بطونَهما مما يلي الأرض .
وخرّج الإمام أحمد(4) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه حيال ثُنْدوتِه(5) ، وجعل بُطون كفَّيه مما يلي الأرض . وهكذا وصف حمادُ بن سلمة رفع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يديه بعرفة . ورُوي عن ابن سيرينَ : أنَّ هذا هو الاستجارة . وقال الحميدي : هذا هو الابتهالُ .
والرابع : الإلحاح على الله بتكرير ذكر (6) ربوبيته ، وهو مِنْ أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء ، وخرَّج البزارُ(7) من حديث عائشة مرفوعاً : ( إذا قال العبدُ : يا ربِّ أربعاً ، قال الله : لَبَّيْكَ عَبدي ، سل تُعْطَه ) .
وخرَّج الطبراني(8)
__________
(1) الصحيح 3/24 ( 869 ) ( 6 ) ، وأخرجه أيضاً : عبد بن حميد ( 1338 ) ، والبيهقي 3/357 من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(2) في " مسنده " 3/153 و241 ، وأخرجه : البيهقي 3/357 من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(3) في " سننه " ( 1171 ) ، وأخرجه : عبد بن حميد ( 1293 ) ، وابن خزيمة ( 1412 ) ، والبيهقي 3/357 من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(4) في " مسنده " 3/13 و14 و85 و96 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 29407 ) ، وإسناده ضعيف لضعف بشر بن حرب .
(5) ثندوته : الثندوتان للرجل كالثديين للمرأة . انظر : النهاية 1/223 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) في " زوائده " كما في " كشف الأستار " ( 3145 ) ، وإسناده ضعيف لضعف الحكم بن سعيد الأموي .
(8) في " المعجم الأوسط " ( 5981 ) .

وأخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" 6/457 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 665 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف عامر بن خارجة ، وقال البخاري : ( في إسناده نظر ) ، وقال أبو حاتم كما في " الجرح والتعديل " 3/188 : ( إسناده منكر ) .

وغيره من حديث سعد بن خارجة : أنَّ قوماً شكوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قُحُوط المطر ، فقال : ( اجثُوا على الرُّكَب ، وقولوا : يا ربِّ يا ربّ(1) ) ورفع السَّبَّابة إلى السَّماء ، فسُقُوا حتى أحبُّوا أنْ يُكشَفَ عنهم .
وفي " المسند " وغيره عن الفضل بن عباس(2) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصلاةُ مثنى مثنى ، وتَشَهُّدٌ في كلِّ ركعتين ، وتضرُّعٌ ، وتخشعٌ ، وتمسكنٌ ، وتُقنعُ يَديك - يقول : ترفعهما إلى ربِّك مستقبلاً بهما وجهَك - وتقول : يا ربِّ يا ربِّ ، فمن لم يفعل ذلك فهي خِداجٌ )(3) .
وقال يزيد الرَّقاشي عن أنس : ما مِنْ عبدٍ يقول : يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ ، إلا قال له ربُّه : ( لبيك لبيك ) .
وروي عن أبي الدرداء وابن عباس أنَّهما كانا يقولان : اسم الله الأكبر ربِّ
ربِّ(4) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يا رب ) فقط .
(2) تحرف في ( ص ) إلى : ( الفضيل بن عياض ) .
(3) أخرجه : أحمد 1/211 و4/167 ، والترمذي ( 385 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 615 ) و( 1440 ) ، وأبو يعلى ( 6738 ) ، وابن خزيمة ( 1213 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 1094 ) و( 1095 ) و( 1096 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 757 ) ، وفي " الأوسط " ، له ( 4827 ) ، والبيهقي 2/487 ، والبغوي ( 740 ) ، وهو حديث ضعيف مداره على عبد الله بن نافع وهو مجهول .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29365 ) ، والحاكم 1/505 عن أبي الدرداء ، وابن عباس ، به .

وعن عطاءٍ قال : ما قال عبدٌ يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ (1) ثلاث مرات ، إلاّ نظر الله إليه ، فذكر ذلك للحسن ، فقال : أما تقرءون القرآن ؟ ثم تلا قوله تعالى
: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ } (2) (3) .
ومن تأمَّل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالباً تفتتح باسم الرَّبِّ ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (4) ،
{ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } (5) ، وقوله : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } (6) . ومثل هذا في القرآن كثير .
__________
(1) يا رب ) لم ترد في ( ج ) .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 4668 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/313 عن الحسن البصري .
(3) آل عمران : 191-195 .
(4) البقرة : 201 .
(5) البقرة : 286 .
(6) البقرة : 8 .

وسئل مالك وسفيان عمَّن يقول في الدعاء: يا سيدي ، فقالا : يقول يا ربّ . زاد مالك : كما قالت الأنبياء في دعائهم .
وأما ما يمنع إجابة الدعاء ، فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أنّه التوسُّع في الحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذيةً ، وقد سبق حديثُ ابن عباس في هذا المعنى أيضاً ، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد : ( أطِبْ مطعمَكَ ، تَكُنْ مُستجاب الدعوة )(1) فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجبٌ لإجابة الدعاء .
ورَوى عكرمةُ بن عمار : حدَّثنا الأصفر ، قال : قيل لسعد بن أبي وقاص : تُستجابُ دعوتُك من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : ما رفعتُ إلى فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيئُها ، ومن أين خرجت .
وعن وهب بن مُنبِّه قال : من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته ، فليُطِب طُعمته ، وعن سهل بن عبد الله قال : من أكل الحلال أربعين يوماً (2) أُجيبَت دعوتُه ، وعن يوسف بن أسباط قال : بلغنا أنَّ دعاءَ العبد يحبس عن السماوات بسوءِ المطعم .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) في ( ج ) : ( صباحاً ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فأنَّى يستجاب لذلك ) ، معناه : كيف يُستجاب له ؟ فهوَ استفهامٌ وقع على وجه التَّعجُّب والاستبعاد ، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ، ومنعها بالكلية ، فَيُؤْخَذُ من هذا أنَّ التوسُّع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة ، وقد يُوجد ما يمنعُ هذا المانع من منعه ، وقد يكونُ ارتكابُ المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً ، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث : أنَّ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء (1) الأخيار(2) ، وفعل الطاعات يكون موجباً لاستجابة الدعاء . ولهذا لمَّا توسَّل الذين دخلوا الغارَ ، وانطبقت عليهمُ الصخرةُ بأعمالهم الصالحةِ التي أخلصوا فيها لله تعالى ودَعُوا الله بها، أجيبت دعوتهم .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يا أيها الناس ، إنَّ الله - عز وجل - ، يقول : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني، فلا أنصركم ).
أخرجه : إسحاق بن راهويه ( 864 ) ، وأحمد 6/159 ، وابن ماجه ( 4004 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 3304 ) و( 3305 ) و( 3306 ) ، وابن حبان ( 290 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 6665 ) من طرق عن عائشة ، به ، وإسناده ضعيف .
وأخرجه : أحمد 5/388 و391 ، والترمذي ( 2169 ) ، والبيهقي 10/93 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7558 ) ، والبغوي ( 4154 ) من طرق عن حذيفة بن اليمان ، بنحوه ، وقال الترمذي : ( حديث حسن ) .
وأخرجه : أحمد 5/390 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/279 من طرق عن حذيفة ، موقوفاً .

وقال وهب بن مُنبِّه : مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل ، كمثل الذي يرمي بغير وَتَر(1) . وعنه قال : العملُ الصالحُ يبلغ الدعاء ، ثم تلا قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه } (2) .
وعن عمر قال : بالورع عما حرَّم الله يقبلُ الله(3) الدعاء والتسبيحَ .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : يكفي مع البرِّ من الدعاء مثلُ ما يكفي الطعامُ من الملح(4) .
وقال محمد بن واسع : يكفي من الدعاء (5) مع الورع اليسيرُ(6) ، وقيل لسفيان : لو دعوتَ الله ؟ قالَ : إنَّ تركَ الذنوب هوَ الدعاء .
وقال الليث(7) : رأى موسى - عليه السلام - رجلاً رافعاً يديه وهو يسأل الله مجتهداً ، فقالَ موسى : أي ربِّ عبدُك دعاكَ(8) حتَّى رحمتَه ، وأنت أرحمُ الراحمين ، فما صنعتَ في حاجته ؟ فقال : يا موسى لو رفع يديه حتّى يَنقَطِعَ ما نظرتُ في حاجته حتى ينظر في حقِّي .
وخرَّج الطبراني(9) بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن عباس مرفوعاً معناه .
__________
(1) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 322 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/53 .
(2) فاطر : 10 .
(3) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( من الدعاء ما يكفي من الملح ) .
والأثر أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 319 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 789 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/164 .
(5) عبارة : ( من الدعاء ) لم ترد في ( ص ) .
(6) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 59/89 .
(7) عبارة : ( وقال الليث ) لم ترد في ( ص ) .
(8) لم ترد في ( ص ) .
(9) في " المعجم الأوسط " ( 540 ) ، وفي إسناده : ( سلام الطويل ) ، قال النسائي في
" الضعفاء والمتروكون " ( 237 ) : ( متروك الحديث ) ، وقال الدارقطني في " الضعفاء والمتروكون " ( 265 ) : ( متروك ) .

وقال مالك بنُ دينار : أصاب بني إسرائيل بلاءٌ ، فخرجوا مخرجاً ، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه أنْ أَخبرهم أنَّكم تخرُجون إلى الصَّعيد بأبدانٍ نجسة ، وترفعون إليَّ أكُفَّاً قد سفكتُم بها الدماء وملأتم بها بيوتَكم من الحرام ، الآن اشتدَّ غضبي عليكم ، ولن تزدادوا مني إلا بعداً .
وقال بعض السَّلف : لا تستبطئ الإجابة ، وقد سددتَ طرقها بالمعاصي ، وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
نحن نَدْعُو الإله في كُلِّ كَربٍ
كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعاءٍ

ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشفِ الكُروبِ
قَدْ سَدَدْنا طرِيقَها بالذُّنوب


الحديث الحادي عشرعَنِ الحَسَنِ بن علي سِبْطِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ورَيحَانَتِهِ - رضي الله عنه - قال : حَفِظْتُ مِنْ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دَعْ ما يريبُكَ إلى ما لاَ يرِيبُكَ ) . رواه النسائي(1) والترمِذيُّ(2)، وقال : حَسَنٌ صحيحٌ .
هذا الحديث خرّجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابنُ حبان في
" صحيحه " والحاكم(3) من حديث بُريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء ، عن الحسن ابن عليٍّ ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء(4) السَّعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعةُ بنُ شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أنَّ أبا الحوراء (5)اسمه ربيعةُ بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف(6) .
وهذا الحديثُ قطعة من حديثٍ طويلٍ فيه ذكر قنوت الوتر(7) ، وعند الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث وهي : ( فإنَّ الصِّدق طُمأنينة ، وإنَّ الكذبَ ريبةٌ ) ، ولفظ ابنِ حبان : ( فإنَّ الخيرَ طمأنينةٌ ، وإنَّ الشرَّ ريبةٌ ) .
وقد خرّجه الإمامُ أحمد(8)
__________
(1) المجتبى 8/327 .
(2) الجامع الكبير ( 2518 ) .
(3) أخرجه : أحمد 1/200، والترمذي ( 2518 ) ، والنسائي 8/327 ، وابن حبان ( 722 )، والحاكم 2/13 .
(4) من قوله : ( عن الحسن بن علي ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) عبارة : ( أبا الحوراء ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : تهذيب الكمال 2/468 .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) في "مسنده" 3/153. وفي إسناده : أبو عبد الله الأسدي مجهول .

وأخرجه : أحمد 3/111 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 22920 ) من طرق عن أنس ابن مالك ، موقوفاً .

بإسنادٍ فيه جهالة عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك ) وخرَّجه من وجهٍ آخر أجود منه موقوفاً على أنس (1).
وخرّجه الطبراني(2) من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعاً ، قال الدارقطني : وإنَّما يُروى هذا من قول ابنِ عمر ، وعن عمر(3) ، ويُروى عن مالك من قوله (4) . انتهى .
ويروى بإسنادٍ ضعيف ، عن عثمان بنِ عطاء الخراساني - وهو ضعيف - عن
أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال لرجل : ( دَعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يريبُكَ ) ، قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : ( إذا أردتَ أمراً ، فضع يَدَكَ على صدرِكَ ، فإنَّ القلبَ يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإنَّ المسلم الورعَ يدع الصغيرةَ مخافةَ الكبيرة ) . وقد رُوي عن عطاء الخراساني مرسلاً (5).
وخرّج الطبراني(6) نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد فيه : قيل له : فمن الورعُ ؟ قال : ( الذي يقف عند الشبهة ) .
__________
(1) من قوله : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) في " الصغير " ( 276 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/352 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 645 ) ، والخطيب في "تاريخه" 2/220 و6/386 من طرق عن ابن عمر ، به ، وإسناده ضعيف جداً ؛ لشدة ضعف عبد الله بن أبي رومان .
(3) عن عمر ) لم ترد في ( ص ) .
(4) وكذا قال الخطيب في " تاريخه " 3/673 طبعة دار الغرب .
(5) وهذه الرواية لم أقف عليها ، وفيها ثلاث علل : ضعف عثمان ، وعدم سماع الحسن من أبي هريرة ، وإعلاله بالإرسال .
(6) في " الكبير " 22/( 193 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 7491 ) ، وإسناده ضعيف جداً .

وقد روي هذا الكلام موقوفاً على جماعة من الصحابة : منهم عُمَرُ ، وابنُ عمرَ ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريدُ إلى ما يريبُكَ وحولَك أربعةُ آلاف لا تريبُكَ ؟!(1)
وقال عمر(2) : دَعُوا الرِّبا والرِّيبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإنْ لم تتحققوا أنَّه رِباً .
ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإنَّ الحلالَ المحض لا يَحْصُلُ لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفسُ ، ويطمئن به القلبُ ، وأما المشتبهات فيَحْصُل بها للقلوب القلقُ(3) والاضطرابُ الموجب للشك .
وقال أبو عبد الرحمان العمري الزاهد : إذا كان العبدُ ورعاً ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبُه .
وقال الفضيلُ : يزعم الناسُ أنَّ الورعَ شديدٌ ، وما ورد عليَّ أمران إلا أخذتُ بأشدِّهما ، فدع ما يريبُك إلى ما لا يريبُك(4) .
وقال حسّانُ بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء فدعه . وهذا إنَّما يسهل على مثل حسّان - رحمه الله - .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 8791 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 1067 ) ، والبزار ( 8791 ) من طرق عن ابن عمر ، موقوفاً .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 16154 ) من حديث أبي الدرداء ، موقوفاً .
(2) لم ترد في ( ص ) .
(3) من قوله : ( بل تسكن إليه النفس ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 51/297 .

قال ابن المبارك : كتب غلامٌ لحسّانَ بن أبي سنان إليه من الأهواز : إنَّ قَصَبَ السكر أصابته آفةٌ ، فاشتر السكر فيما قِبَلَكَ ، فاشتراه من رجل ، فلم يأتِ عليه إلا قليلٌ فإذا فيما اشتراه ربحَ ثلاثين ألفاً ، قال : فأتى صاحبَ السُّكرِ ، فقال : يا هذا إنَّ غلامي كان قد كتب إليَّ ، فلم أُعْلِمكَ ، فأَقِلْني فيما اشتريتُ منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طَيَّبْتُه لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قَلْبُهُ ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آتِ هذا الأمر من قبل وجهه ، فأُحبُّ أنْ تستردَّ هذا البَيع ، قال : فما زال به حتى ردَّ عليه .
وكان يونُس بنُ عبيد إذا طُلِبَ المتاعُ ونَفَقَ ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أَعْلِمْ من تشتري منه أنَّ المتاعَ قد طُلِبَ .
وقال هشامُ بنُ حسّان : ترك محمدُ بن سيرين أربعين ألفاً فيما لا ترون به اليومَ بأساً(1) .
وكان الحجاج بنُ دينار قد بعث طعاماً إلى البصرة مع رجلٍ وأمره أنْ يبيعه يَوْمَ يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : أني قدمت البصرة ، فوجدتُ الطعام مبغَّضاً فحبستُه ، فزاد الطعامُ ، فازددتُ(2) فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنَّك قد خُنتنا ، وعملتَ بخلافِ ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدَّق بجميع ثمن ذَلِكَ الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلتَ ذلك .
وتنَزَّه يزيدُ بنُ زُريع عن خمس مئة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيدُ يعملُ الخُوص ، ويتقوَّتُ منه إلى أنْ مات - رحمه الله -.
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 56/165 .
(2) سقطت من ( ص ) .

وكان المِسْوَرُ بنُ مَخرَمَةَ قد احتكر طعاماً كثيراً ، فرأى سحاباً في الخريف
فكرهه ، فقال : ألا أُراني قد كرهت ما يَنفعُ المسلمين ؟ فآلى أنْ لا يربحَ فيه شيئاً ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : جزاك الله خيراً(1) .
وفي هذا أنَّ المحتكر ينبغي له التنَزُّه عن ربح ما احتكره احتكاراً منهياً عنه . وقد نصَّ الإمامُ أحمد رحمه الله على التنزُّه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لِدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -(2) ، فقال أحمد في رواية عنه فيمن أجَّر ما استأجره بربحٍ : إنَّه يتصدَّق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنَّه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة
قبل بدو(3) صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتّى بدا صلاحها : إنَّه يتصدَّق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ؛ لأنَّ الصدقة بالشبهات مستحب .
وروي عن عائشة – رضي الله عنها - : أنَّها سُئِلَتْ عن أكل الصيدِ للمحرم، فقالت : إنَّما هي أيامٌ قلائل فما رابك فدعه(4) ، يعني : ما اشتبه عليك ، هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإنَّ الناسَ اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يَصِدْه هُوَ .
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 61/123 .
(2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ ، ولا شرطان في بيعٍ ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك ) .
أخرجه : أحمد 2/174 و178 و205 ، والدارمي ( 2563 ) ، وأبو داود ( 3504 ) ، وابن ماجه ( 2188 ) ، والترمذي ( 1234 ) ، والنسائي 7/288 و295 وفي " الكبرى " ، له ( 6204 ) و( 6226 ) و( 6227 ) ، والبيهقي 5/340 من طرق عن عبد الله بن عمرو ابن العاص ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 8326 ) .

وقد يستدلُّ بهذا على أنَّ الخروج من اختلاف العلماء أفضلُ(1) ؛ لأنَّه أبعدُ عن الشبهة ، ولكن المحققون من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أنَّ هذا ليس هو على إطلاقه، فإنَّ من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رخصة ليس لها معارض، فاتباعُ تلك الرخصة أولى من اجتنابها ، وإنْ لم تكن تلك الرخصة بلغت بعضَ العلماء ، فامتنع منها لذلك ، وهذا كمن تَيَقَّن الطهارة ، وشكَّ في الحدث ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ( لا يَنْصَرِف حتّى يَسمع صوتاً أو يَجِدَ(2) ريحاً )(3) ولا سيما إنْ كان شكُّه في الصلاة ، فإنَّه لا يجوز له قطعُها لِصحة النهي عنه ، وإنْ كان بعض العلماء يوجب ذلك .
__________
(1) وهذا إذا لم يترجح أحد الدليلين ، وأما إذا ترجح أحد الدليلين فيؤخذ بالراجح ويترك المرجوح .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الحميدي ( 413 )، وأحمد 4/40 ، والبخاري 1/46 ( 137 ) و1/55 ( 177 ) و3/71 ( 2056 ) ، ومسلم 1/189 ( 361 ) ( 98 ) ، وأبو داود ( 176 ) ، وابن ماجه ( 513 ) ، والنسائي 1/98-99 وفي "الكبرى" ، له ( 152 ) ، وابن الجارود في " المنتقى " ( 3 ) ، وابن خزيمة ( 25 ) و( 1018 ) ، والبيهقي 1/114 و161 ، و2/254 ، و7/364 من طرق عن عبد الله بن زيد ، به .
وأخرجه : أحمد 2/410 و414 و435 و471 ، والدارمي ( 727 ) ، ومسلم 1/190
( 362 ) ( 99 )، وأبو داود ( 177 ) ، وابن ماجه ( 515 ) والترمذي ( 74 ) و( 75 ) ، وابن خزيمة ( 24 ) و( 28 ) ، والبيهقي 1/117 و161 و2/254 من طرق عن أبي هريرة ، به .

وإنْ كان للرخصة معارض ، إما من سنة أخرى ، أو من عمل الأُمَّةِ بخلافها ، فالأولى تركُ العمل بها ، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذٌ من الناس ، واشتهر في الأمة العملُ بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة ، فإنَّ الأخذ(1) بما عليه عملُ المسلمين هو المتعيَّنُ ، فإنَّ هذه الأمة قد أجارها الله أنْ يظهر أهلُ باطلها على أهل حَقِّها ، فما ظهر العملُ به في القرون الثلاثة المفضلة ، فهو الحقُّ ، وما عداه فهو باطل .
وهاهنا أمر ينبغي التفطنُ له وهو أنَّ التدقيقَ في التوقف عن(2) الشبهات إنَّما يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع ، فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة ، ثم يريد أنْ يتورَّعَ عن شيء من دقائق الشُّبَهِ ، فإنَّه لا يحتمل له ذلك ، بل يُنكر عليه ، كما قال ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلُوا الحسين ، وسمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( هُمَا رَيحَانَتاي من الدُّنيا )(3) .
وسأل رجلٌ بشرَ بنَ الحارث عن رجلٍ له زوجةٌ وأُمَّه تأمره بطلاقها ، فقال : إنْ كان بَرَّ أمه في كُلِّ شيءٍ ، ولم يبق من برِّها إلا طلاقُ زوجته فليفعلْ ، وإنْ كان يَبَرُّها بطلاق زوجته ، ثم يقوم بعد ذلك إلى أُمِّه ، فيضربها ، فلا يفعل .
__________
(1) في ( ص ) : ( كان العمل ) .
(2) عبارة : ( التوقف عن ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 1927 ) ، وأحمد 2/85 و93 و114 و153 ، والبخاري 5/33
( 3753 ) و8/8 ( 5994 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 85 ) ، والترمذي ( 3770 ) ، والنسائي في " الخصائص " ( 145 ) ، وأبو يعلى ( 5739 ) ، وابن حبان ( 6969 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2884 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/70-71 و7/165 ، والبغوي
( 3935 ) من طرق عن ابن عمر ، به .

وسئل الإمامُ أحمد رحمه الله عن رجلٍ يشتري بقلاً ، ويشترط الخُوصة ، يعني : التي تربط بها جُرْزَةُ(1) البقل ، فقال أحمد : أيش هذه المسائل ؟! قيل لهُ : إنَّه إبراهيمَ بن أبي نعيم، فقال أحمد : إنْ كان إبراهيمُ بنُ أبي نعيم ، فنعم هذا يُشبه ذاك.
وإنَّما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله ، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع ، فإنَّه أمر من يشتري له سمناً ، فجاء به على ورقة ، فأمر بردِّ الورقة إلى البائع .
وكان الإمام أحمد لا يستمدُّ من محابر أصحابه ، وإنَّما يُخرج معه محبرَةً يستمدُّ منها ، واستأذنه رجل أنْ يكتب من محبرته ، فقال له : اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسَّم ، وقال : لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا ، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع ، وكان يُنكِرُه على من لم يَصِلْ(2) إلى هذا المقام ، بل يتسامحُ في المكروهات الظاهرة ، ويقدم على الشبهات من غير توقف .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنَّ الخيرَ طُمأنينة وإنَّ الشرَّ ريبة ) (3) يعني : أنَّ الخيرَ تطمئنُّ به
القلوبُ ، والشرَّ ترتابُ به ، ولا تطمئنُّ إليه ، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، وسيأتي مزيدٌ لهذا الكلام على حديث النَّواس بن سمعان إنْ شاء الله تعالى(4) .
__________
(1) في ( ص ) : ( عوزة ) .
(2) في ( ص ) : ( على من يقبل ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) سيأتي تخريجه عند الحديث السابع والعشرين .

وخرَّج ابنُ جرير بإسناده عن قتادة ، عن بشير بن كعب : أنَّه قرأ هذه الآية :
{ فامشُوا في منَاكبِها } (1) ثم قال لجاريته : إنْ دَرَيْتِ ما مناكِبُها ، فأنت حُرَّةٌ لوجه الله ، قالت: مناكبُها : جبالُها ، فكأنَّما سُفِعَ في وجهه ، ورغب في جاريته ، فسألهم، فمنهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخيرُ طمأنينة والشر ريبة ، فذَرْ ما يريبك إلى ما لا يريبك(2) .
وقوله في الرواية الأخرى : ( إنَّ الصدقَ طمأنينةٌ ، وإنَّ الكذبَ ريبةٌ ) يشير إلى أنَّه لا ينبغي الاعتمادُ على قول كلِّ قائلٍ كما قال في حديث وابصة : ( وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوكَ ) (3) وإنَّما يُعْتَمَدُ على قولِ مَنْ يقول الصدقَ ، وعلامةُ الصدق أنَّه تطمئن به القلوبُ، وعلامة الكذب أنَّه تحصل به الريبةُ ، فلا تسكن القلوبُ إليه ، بل تَنفِرُ منه .
ومن هنا كان العقلاء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا كلامَه وما يدعو إليه ، عرفوا أنَّه صادق ، وأنَّه جاء بالحق ، وإذا سمعوا كلامَ مسيلمة ، عرفوا أنَّه كاذب ، وأنَّه جاء بالباطل ، وقد رُوي أنَّ عمرو بن العاص سمعه قبلَ إسلامه يَدَّعي أنَّه أُنْزِلَ عليه : يا وَبْرُ يا وَبْرُ ، لَكِ أذنان وصَدْر ، وإنَّك لتعلم يا عمرو ، فقال : والله إني لأعلم أنَّك تَكْذِبُ .
__________
(1) الملك : 15 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26739 ) و( 26742 ) ، وطبعة التركي 23/128 و129 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 403 ) .

وقال بعضُ المتقدمين : صوِّرْ ما شئتَ في قلبك ، وتفكر فيه ، ثم قِسه إلى ضدِّه ، فإنَّك إذا ميَّزْتَ بينهما ، عرفتَ الحقَّ من الباطل ، والصدقَ من الكذب ، قال : كأنَّك تَصَوَّرُ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تتفكر فيما أتى(1) به من القرآن فتقرأ { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } (2) ، ثم تَتَصوَّرُ ضِدَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فتجده مسيلمة ، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ :
ألا يَا رَبَّة المَخْدَع

قَدْ هُيئ لَكِ المَضْجَعْ

يعني قوله لِسجاح حين تزوَّج بها ، قال : فترى هذا - يعني : القرآن - رصيناً
عجيباً ، يلوطُ بالقلب ، ويَحْسُنُ في السمع ، وترى ذا - يعني : قول مسيلمة - بارداً غثَّاً فاحشاً ، فتعلم أنَّ محمداً حقا أُتِي بوحي ، وأنَّ مسيلمة كذَّاب أُتِيَ
بباطل .
__________
(1) في ( ص ) : ( جاء ) .
(2) البقرة : 164 .


الحديث الثاني عشرعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ ) حديثٌ حَسَنٌ ، رَوَاهُ التِّرمذيُّ وغَيرُهُ .
هذا الحديث خرَّجه الترمذي(1) ، وابن ماجه(2) من رواية الأوزاعي ، عن قُرَّةَ ابنِ عبد الرحمان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - ، وقال الترمذي : غريب(3) ، وقد حسّنه الشيخ المصنف رحمه الله ؛ لأنَّ رجال إسناده ثقات ، وقرة ابن عبد الرحمان بن حيويل(4) وثقة قوم وضعفه آخرون(5)
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 2317 ) .
(2) في " سننه " ( 3976 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 229 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 361 ) ، وابن عدي في "الكامل" 5/454-455 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 192 ) ، والبغوي ( 4132 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) ذكره في " الجامع الكبير " عقب حديث ( 2317 ) ، وانظر : تحفة الأشراف 10/432
( 1534 ) .
(4) قال ابن حجر في " التقريب " ( 5541 ) : ( بمهملة مفتوحة ثم تحتانية ، وزن جبريل ) .
(5) من الذين وثقوه : الأوزاعي ، قال عنه : ( ما أحد أعلم بالزهري من قرة بن عبد الرحمان بن حيويل ) . انظر : الجرح والتعديل 7/177 ( 2295 ) .

ومن الذين ضعفوه : الإمام أحمد بن حنبل ، قال عنه : ( منكر الحديث جداً ) ، وقال يحيى بن معين : ( ضعيف الحديث ) ، وقال أبو زرعة : ( الأحاديث التي يرويها مناكير ) ، وقال أبو حاتم : ( ليس بقوي ) . انظر : الجرح والتعديل 7/177 ( 2295 ) .

، وقال ابنُ عبد البرِّ(1) : هذا الحديثُ محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات ، وهذا موافق لتحسين الشيخ له ، وأما أكثر الأئمة ، فقالوا : ليس هو محفوظاً بهذا الإسناد وإنَّما هو محفوظٌ عن الزهري ، عن عليّ بن حسين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً(2) ، كذلك رواه الثقات عن الزهري ، منهم : مالك في " الموطأ " (3) ، ويونس ، ومعمر ، وإبراهيم ابن سعد إلا أنَّه قال : ( من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه )(4) وممن قال : إنَّه لا يصح إلا عن عليّ بن حسين مرسلاً الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، والدارقطني(5) ، وقد خلط الضعفاءُ في إسناده عن الزهري تخليطاً فاحشاً ، والصحيح فيه المرسل ، ورواه عبد الله(6) بن عمر(7) العمري ، عن الزهري ، عن عليِّ بن حسين ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فوصله وجعله من مسند الحسين بن عليٍّ ، وخرَّجه الإمامُ أحمد في "
__________
(1) كلام ابن عبد البر هذا لم أجده في " التمهيد " .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2628 ) برواية الليثي ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 4/188 ، والترمذي ( 2318 ) ، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " ( 90 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/249 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 193 ) ، والبغوي ( 4133 ) من طرق عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، مرسلاً .
(3) الموطأ ( 2628 ) برواية الليثي .
(4) عن يونس ، أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20617 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 193 ) ، وأما إبراهيم بن سعد فلم أقف له على رواية ، والله أعلم .
(5) لم أجد كلام الإمام أحمد ، ويحيى بن معين . وكلام البخاري في " التاريخ الكبير " 4/188 ، وكلام الدارقطني في " العلل " 3/108 ( 310 ) .
(6) في ( ص ) : ( ورواه عبد الرحمان وعبد الله ) .
(7) تحرف في ( ج ) إلى : ( عمرو ) والصواب ما أثبته . انظر : الجرح والتعديل 5/131
( 499 ) .

مسنده " من هذا الوجه(1) ، والعمري ليس بالحافظ(2) ، وخرَّجه أيضاً من وجه آخر عن الحسين ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (3)، وضعفه البخاري في
" تاريخه " من هذا الوجه أيضاً ، وقال : لا يصحُّ إلا عن عليِّ بن حسين مرسلاً(4) ، وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر وكُلُّها ضعيفة .
وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب ، وقد حكى الإمامُ أبو عمرو بن الصلاح ، عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنَّه قال : جماعُ آداب(5) الخير وأزمته تتفرَّعُ من أربعة أحاديث : قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كَانَ يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فليَقُلْ خيراً أو ليَصْمُتْ ) (6) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرءِ تَركُهُ ما لا يَعْنِيهِ ) (7) ، وقوله للذي اختصر له في الوصية : ( لا تَغْضَبْ(8) ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -
: ( المُؤْمِنُ يُحبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه )(9) .
__________
(1) في " مسنده " 1/201 ، وسبق تخريجه موسعاً .
(2) قال أحمد بن حنبل : ( صالح لا بأس به ، قد روي عنه ، ولكن ليس مثل عبيد الله ) ، وقال يحيى بن معين : ( صويلح ) . انظر : الجرح والتعديل 5/131 ( 499 ) ، وقال الذهبي
: ( صدوق في حفظه شيء ) ، وقال ابن المديني : ( عبد الله ضعيف ) ، وقال ابن حبان =
= ... : ( كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة ، حتى غفل عن حفظ الأخبار، وجودة الحفظ للآثار، فلما فحش خطؤه : استحق الترك ) . انظر : ميزان الاعتدال 2/465 ( 4472 ) .
(3) من قوله : ( وجعله من مسند الحسين … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) انظر : التاريخ الكبير 4/188 .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) سيأتي تخريجه عند الحديث الخامس عشر .
(7) سبق تخريجه .
(8) سيأتي تخريجه عند الحديث السادس عشر .
(9) سيأتي تخريجه عند الحديث الثالث عشر .

ومعنى هذا الحديث : أنَّ مِنْ حسن إسلامه تَركَ ما لا يعنيه من قولٍ وفعلٍ ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ، ومعنى يعنيه : أنْ تتعلق عنايتُه به ، ويكونُ من مقصده ومطلوبه ، والعنايةُ : شدَّةُ الاهتمام بالشيء ، يقال : عناه يعنيه : إذا اهتمَّ به وطلبه ، وليس المُراد أنَّه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس ، بل بحكم الشرع والإسلام ، ولهذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء ، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال ، فإنَّ الإسلامَ يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل - عليه السلام - .
وإنَّ الإسلام الكاملَ الممدوحَ يدخل فيه تركُ المحرمات ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -
: ( المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ) (1)
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/379 ، والترمذي ( 2627 ) ، والنسائي 8/104-105 ، وابن حبان
( 180 ) ، والحاكم 1/10 من طرق عن أبي هريرة ، به .
وأخرجه: البخاري 1/9 ( 10 ) ، ومسلم 1/47 ( 40 ) ( 64 ) ، وأبو داود ( 2481 ) ، وابن حبان ( 196 ) من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .

وأخرجه : الطيالسي ( 1777 ) ، وأحمد 3/372 ، ومسلم 1/48 ( 41 ) ( 65 ) ، وابن حبان ( 197 ) من طرق عن جابر بن عبد الله ، به .

، وإذا حسن الإسلامُ ، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات ، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها ، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامهُ ، وبلغ إلى درجة الإحسان ، وهو أنْ يَعْبُدَ الله تعالى كأنَّه يراه ، فإنْ لم يكن يراه ، فإنَّ الله يراه ، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه ، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه ، فقد حسن إسلامه ، ولزم من ذلك أنْ يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ، ويشتغل بما يعنيه فيه ، فإنَّه يتولَّدُ من هذين المقامين الاستحياءُ من الله وترك كلِّ ما يُستحيى منه ، كما وصَّى - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أنْ يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يُفارقه .
وفي " المسند " والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً : ( الاستحياء من الله تعالى أنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وما حَوَى ، وتَحفَظَ البَطنَ وما وَعَى ، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلى(1) ، فمن فَعَل ذلك ، فقد استحيَى من الله حقَّ الحياء )(2) .
قال بعضهم : استحي من الله على قدر قربه منك ، وخَفِ الله على قدر قدرته عليك .
وقال بعضُ العارفين : إذا تكلمتَ فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك ، وإذا سكتَّ فاذكر نظره إليك(3) .
__________
(1) ج ) : ( ولتذكر الموت والبلى ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/387 ، والترمذي ( 2458 ) . =
= ... وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34320 ) ، وأبو يعلى ( 5047 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 10290 ) ، والحاكم 4/323 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/209 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 7730 ) و( 10561 ) ، وإسناده ضعيف لضعف الصباح بن محمد ، وقد تفرد به مرفوعاً ، والحديث معلول بالوقف .
(3) روي هذا القول عن أحمد بن منيع ، وروي عن الربيع بن خثيم ، وروي عن حاتم الأصم . انظر : سير أعلام النبلاء 11/485 ، وصفة الصفوة 3/68 و4/162 .

وقد وقعتِ الإشارةُ في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كثيرة (1): كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) ، وقوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (3) ، وقال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } (4) .
وأكثر ما يُراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ( ق ) .
وفي " المسند " من حديث الحسين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ من حُسْنِ إسلام المَرءِ قِلَّةَ الكَلامِ فيما لا يَعنيه )(5) .
وخرَّج الخرائطي(6) من حديث ابن مسعود قال : أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال :
يا رسول الله إني مطاعٌ في قومي فما آمرهم ؟ قال له : ( مُرْهُم بإفشاء السَّلام ، وقِلَّةِ الكلام إلا فيما يعنيهم ) .
__________
(1) كثيرة ) سقطت من ( ج ) .
(2) ق : 16-18 .
(3) يونس : 61 .
(4) الزخرف : 80 .
(5) سبق تخريجه .
(6) في " مكارم الأخلاق " ( 196 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ السري بن إسماعيل الكوفي متروك .

وفي " صحيح ابن حبان "(1) عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كان في صحف إبراهيم عليه الصَّلاةُ والسلام : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أنْ تكونَ له ساعات : ساعةٌ يُناجي فيها ربَّه ، وساعةٌ يُحاسِبُ فيها نَفسه ، وساعةٌ يتفكَّرُ فيها في صُنع الله ، وساعةٌ يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أنْ لا يكون ظاعناً إلا لثلاث : تزوُّدٍ لمعاد ، أو مَرَمَّةٍ لمعاشٍ ، أو لذَّةٍ في غير محرَّم ، وعلى العاقل أنْ يكونَ بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، ومَنْ حَسَب كلامَه من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه ) .
وقال عمر بنُ عبد العزيز - رَحِمه الله - : من عدَّ كلامه من عمله ، قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه(2) . وهو كما قال ؛ فإنَّ كثيراً من الناس لا يعدُّ كلامَه من عمله ، فيُجازف فيه ، ولا يتحرَّى ، وقد خَفِيَ هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنؤاخذ بما نتكلَّمُ به ؟ قال : ( ثَكِلَتكَ أُمُّك يا معاذ ، وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم )(3) .
وقد نفى الله الخير عن كثيرٍ مما يتناجى به الناسُ بينهم ، فقال : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس } (4) .
وخرَّج الترمذي(5) ، وابن ماجه(6)
__________
(1) في " الإحسان " ( 361 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ في سنده إبراهيم بن هشام متروك .
(2) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 48/117 .
(3) سيأتي تخريجه عند الحديث التاسع والعشرين .
(4) النساء : 114 .
(5) في " الجامع الكبير " ( 2412 ) .
(6) في " سننه " ( 3974 ) .

وأخرجه : عبد بن حميد ( 1554 ) ، والبخاري في" التاريخ الكبير " 1/258-259
( 837 ) ، وأبو يعلى ( 7132 ) و( 7134 ) ، والطبراني في " الكبير " 23/( 484 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 5 ) ، والحاكم 2/512-513 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 305 ) ، وإسناده ضعيف لجهالة أم صالح .

من حديث أمِّ حبيبة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلُّ(1) كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمرَ بالمعروفِ ، والنهيَ عن المنكر ، وذكر الله - عز وجل - ) .
وقد تعجب قومٌ من هذا الحديث عندَ سفيان الثوري ، فقال سفيان : وما تعجُّبُكم من هذا، أليسَ قد قال الله تعالى: { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس } ؟(2) أليس قد قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً } ؟(3)
وخرَّج الترمذي من حديث أنسٍ قالَ : تُوفِّيَ رجُلٌ من أصحابه – يعني : النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - - فقالَ رجل : أبشرْ بالجَنَّةِ ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أو لا تدري ، فلعلَّه تَكلَّم بِما لا يَعنيه أو بَخِلَ بما لا يُغنِيه )(4) . وقد روي معنى هذا الحديث من وجوهٍ متعددةٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وفي بعضها : أنَّه قتل شهيداً(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) النساء : 114 .
(3) النبأ : 38 .
(4) في " الجامع الكبير " ( 2316 ) .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 109 ) ، وأبو يعلى ( 4017 ) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/55-56 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 10835 ) و( 10836 ) ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/240 من طرق عن الأعمش ، عن أنس بن مالك ، به ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي : ضعيف ، وذلك لانقطاعه فإنَّ الأعمش لم يسمع من أنس .
(5) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 7/86 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5010 ) من طرق عن أبي هريرة ، مرفوعاً ، وإسناده ضعيف لضعف عصام بن طليق .

وخرَّج أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث شهاب بن مالك ، وكان وَفَدَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه سَمعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقالت له امرأة : يا رسولَ الله ألا تُسلمُ علينا ؟ فقالَ : ( إنَّكِ من قَبيلٍ يُقَلِّلن الكثيرَ ، وتمنع ما لا يُغنيها ، وسؤالها عما لا يعنيها )(1) .
وخرَّج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( أكثرُ الناسِ ذنوباً أكثَرُهُم كلاماً فيما لا يعنيه )(2) .
قال عمرو بنُ قيس الملائي : مرَّ رجلٌ بلقمان والناسُ عندَه ، فقال له : ألستَ
عبدَ بني فلان(3) ؟ قال : بلى ، قال : الذي كنت ترعى عندَ جبلِ كذا وكذا ؟ قال : بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قالَ : صِدْقُ الحديثِ وطولُ السُّكوت عما لا يعنيني(4) .
وقال وهبُ بنُ مُنبِّهٍ : كانَ في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنْ مشيا على الماء ، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء ، فقالا لهُ : يا عبدَ الله بأيِّ شيء أدركت هذه المنزلة ؟ قال : بيسيرٍ من الدُّنيا : فَطَمْتُ نفسي عن الشهوات ، وكففتُ لساني عما لا يعنيني ، ورغبتُ فيما دعاني إليه ، ولزمت الصمتَ ، فإنْ أقسمتُ على الله ، أبرَّ قسمي ، وإنْ سألته أعطاني .
دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلَّلُ ، فسألوه عن سبب(5) تهلل
وجهه ، فقال: ما مِنْ عمل أوثقَ عندي من خَصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليماً للمسلمين .
__________
(1) أخرجه : ابن قانع في " معجم الصحابة " 1/350 ، وإسناده ضعيف .
(2) في " الضعفاء الكبير " 3/424 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34659 ) ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/705 من طرق عن أبي هريرة ، به . وإسناده ضعيف لضعف عصام بن طليق .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) انظر : تفسير ابن كثير 3/444 ، وشعب الإيمان 4/230 ، والتمهيد 9/200 .
(5) سقطت من ( ص ) .

======

ج3. كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

وقال مُوَرِّق العجلي : أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدِرْ عليه ولستُ بتاركٍ طلبه أبداً ، قالوا : وما هو ؟ قالَ : الكفُّ عما لا يعنيني . رواه ابن أبي الدنيا(1) .
وروى أسدُ بن موسى ، حدثنا أبو معشر(2) ، عن محمد بن كعب قالَ : قالَ
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوَّل من يَدخُلُ عليكم رَجُلٌ من أهل الجنة ) فدخل عبدُ الله بنُ
سلام ، فقامَ إليه ناسٌ ، فأخبروه ، وقالوا له : أخبرنا بأوثق عَمَلِكَ في نَفسِكَ ، قال : إنَّ عملي لضعيف ، أوثقُ ما أرجو به سلامةُ الصدر ، وتركي ما لا يعنيني .
وروى أبو عبيدة ، عن الحسن قال : مِنْ علامة إعراض الله تعالى عن العبد أنْ يجعل شغله فيما لا يعنيه . وقال سهل بنُ عبد الله التُّسترِي : من تكلم فيما لا يعنيه حُرِم الصدق(3) ، وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه(4) خذلان من اللهِ
- عز وجل -(5) .
وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ تركَ ما لا يعني المرء من حسن إسلامه ، فإذا ترك ما لا يعنيه ، وفعل ما يعنيه كله ، فقد كَمُلُ حُسْنُ إسلامه ، وقد جاءت الأحاديثُ بفضل من حسن إسلامُه وأنَّه تضاعف حسناته ، وتُكفر سيئاته ، والظاهر أنَّ كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " (6)
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في "حلية الأولياء" 2/235 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/140 .
(2) وهو ضعيف .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 10/169 .
(4) من قوله : ( وقال سهل بن عبد الله ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/361 .
(6) الصحيح 1/81 ( 129 ) ( 205 ) .

وأخرجه : أحمد 2/317 ، والبخاري 1/17 ( 42 ) ، وابن حبان ( 228 ) ، وابن منده في
" الإيمان " ( 373 ) ، وابن حزم في " المحلى " 1/99 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 7046 ) ، والبغوي ( 4148 ) .

عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أحْسَنَ أَحَدُكُم إسلامَهُ ، فكُلُّ حَسَنةٍ يَعْمَلُها تُكتَبُ بِعَشرِ أَمْثالِها إلى سبعِ مئة ضعفٍ ، وكلُّ سَيِّئةٍ يعملها تُكتَبُ بمثلِها حتَّى يَلقى الله - عز وجل - ) فالمضاعفةُ للحسنة بعشر أمثالها لابدَّ منه ، والزيادةُ على ذلك تكونُ بحسب إحسّان الإسلام ، وإخلاصِ النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله ، كالنفقة في الجهاد ، وفي الحج ، وفي الأقارب ، وفي اليتامى والمساكين ، وأوقات الحاجة إلى النفقة ، ويشهد لذلك ما رُوي عن عطية ، عن ابن عمر قال : نزلت : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (1) في الأعراب ، قيل له : فما للمهاجرين (2) ؟ قال : ما هو أكثرُ ، ثم تلا قوله تعالى : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً } (3) (4) .
وخرَّج النسائي(5)
__________
(1) الأنعام : 160 .
(2) في ( ص ) : ( فما بال المهاجرين والأنصار ) ، وزيادة : ( والأنصار ) غير صحيحة لعدم ورودها في مصادر التخريج .
(3) النساء : 40 .
(4) أخرجه : سعيد بن منصور ( 636 ) طبعة الحميد ، والطبري في " تفسيره " ( 7542 ) ، وطبعة التركي 7/36 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/955 ( 5338 ) .
(5) في " المجتبى " 8/105-106 .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 24 ) ، وإسناده لا بأس به .

وعلقه البخاري 1/17 ( 41 ) مختصراً بصيغة الجزم .

من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أسلمَ العبدُ فحَسنُ إسلامُهُ ، كَتبَ الله له كُلَّ حَسنةٍ كان أزلَفَها ، ومُحِيتْ عنه كُلُّ سيئة كان أزلَفَها(1) ، ثم كان بَعْدَ ذلك القِصَاصُ ، الحسَنَةُ بِعَشْر أمثالِها إلى سَبع مئةِ ضِعفٍ ، والسَّيِّئَةُ بمِثلِها إلا أنْ يتجاوَزَ الله ) ، وفي رواية أخرى : ( وقيلَ له : استأنفِ
العمل ) .
والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها : ما سبق منه قبل الإسلام ، وهذا يدلُّ على أنَّه يُثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم وتُمحى عنه سيئاته إذا أسلم ، لكن بشرط أنْ يَحْسُنَ إسلامُه ، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه ، وقد نص على ذلك الإمام أحمد ، ويدلُّ على ذلك ما في " الصحيحين " (2) عن ابن مسعود قال : قلنا : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال : ( أمَّا مَنْ أحسَنَ منكم في الإسلام فلا يُؤَاخَذُ بها ، ومن أساءَ أُخِذَ بعمله في الجاهلية والإسلام ) .
وفي " صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم : أريدُ أنْ أَشْتَرطَ ، قال : ( تشترط ماذا ؟ ) قلتُ : أنْ يُغْفَرَ لي ، قال : ( أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِمُ ما كان قبله ؟ )(3)
__________
(1) من قوله : ( ومحيت عنه كل ... ) إلى هنا لم ترد في ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 9/17 ( 6921 ) ، وصحيح مسلم 1/77 ( 120 ) ( 189 ) و( 190 ) و( 191 ) . =
= ... وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 19686 ) ، والحميدي ( 108 ) وأحمد 1/379 و409 و429 و431 و462 ، وابن ماجه ( 4242 ) ، وأبو يعلى ( 5071 ) و( 5113 ) ، وابن حبان ( 396 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/125 ، والبيهقي 9/123 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 23 ) .
(3) في " صحيحه " 1/78 ( 121 ) ( 129 ) .

وأخرجه أيضاً: ابن خزيمة ( 2515 ) ، وابن منده في "الإيمان" ( 270 ) ، والبيهقي 9/98 .

. وخرَّجه الإمام أحمد ولفظه : ( إنَّ الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الذنوب )(1) وهذا محمولٌ على الإسلام الكامل الحسن جمعاً بينه وبين حديث ابن مسعودٍ الذي قبله .
وفي " صحيح مسلم " (2) أيضا عن حكيم بن حزامِ قال : قلتُ : يا رسول الله
أرأيتَ(3) أموراً كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم ، أفيها أجرٌ ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْتَ من خيرٍ ) وفي رواية له : قال : فقلتُ : والله لا أدعُ شيئا صنعتُه في الجاهلية إلا صنعتُ في الإسلام مثله ، وهذا يدلّ على أنَّ حسنات الكافر إذا أسلم يُثابُ عليها كما دلَّ عليه حديث أبي سعيد المتقدِّم .
__________
(1) في " مسنده " 4/198 و204 و205 .
وأخرجه أيضاً : البخاري في " التاريخ الكبير " 2/299 ( 2587 ) ، والبيهقي 9/123 ، وفي
" دلائل النبوة " ، له 4/343 و346-348 .
(2) في " صحيحه " 1/78-79 ( 123 ) ( 194 ) و( 195 ) و( 196 ) .
وأخرجه أيضاً : معمر في " جامعه " ( 19685 ) ، والحميدي ( 554 ) ، وأحمد 3/402 ، والبخاري 2/141 ( 1436 ) و3/107 ( 2220 ) و3/193 ( 2538 ) و8/7 ( 5992 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 70 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 594 ) ، وابن حبان ( 329 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3084 ) و( 3085 ) و( 3086 ) و( 3087 ) و( 3088 ) و( 3089 ) ، والحاكم 3/483-484 ، والبيهقي 9/123 و10/316 ، والبغوي ( 27 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .

وقد قيل : إنَّ سيئاته في الشرك تبدَّل حسنات ، ويُثابُ عليها أخذاً من قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (1) ، وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين :
فمنهم مَنْ قال : هو في الدنيا بمعنى أنَّ الله يُبَدِّلُ من أسلم وتاب إليه بَدَلَ ما كان عليه من الكفر والمعاصي : الإيمان والأعمال الصالحة ، وحكى هذا القول إبراهيم الحربي في " غريب الحديث " عن أكثر المفسرين ، وسمى منهم : ابنَ عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والسُّدي ، وعِكرمة ، قلت : وهو المشهورُ عن الحسن .
قال : وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما : هي في أهل الشرك خاصة ليس هي في أهل الإسلام . قلت : إنَّما يصحُّ هذا القول على أنْ يكونَ التبديلُ في الآخرة كما سيأتي ، وأما إنْ قيل : إنَّه في الدنيا ، فالكافرُ إذا أسلم والمسلمُ إذا تاب في ذلك سواء ، بل المسلم إذا تاب ، فهو أحسنُ حالاً من الكافر إذا أسلم .
__________
(1) الفرقان : 68-70 .

قال : وقال آخرون : التبديلُ في الآخرة : جعلت لهم مكان كلِّ سيئةٍ حسنة ، منهم : عمرو بن ميمون ، ومكحول ، وابن المسيب ، وعلى بن الحسين قال : وأنكره أبو العالية ، ومجاهد ، وخالد سبلان(1) ، وفيه مواضع إنكار ، ثم ذكر ما حاصلهُ أنَّه يلزمُ من ذلك أنْ يكونَ مَنْ كثرت سيئاته أحسنَ حالاً ممن قلَّت سيئاته(2) حيث يُعطى مكان كلّ سيئة حسنة ، ثم قال : ولو قال قائل : إنَّما ذكر الله أنْ يُبدل السيئات حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل ، فيجوز أنَّ معنى تبدل : أنَّ من عمل سيئةً واحدةً وتاب منها تبدل مئةَ ألفِ حسنةٍ ، ومنْ عمل ألف سيئة أنْ تبدَّل ألف حسنةٍ ، فيكون حينئذ من قلت سيئاتُهُ أحسن حالاً .
__________
(1) في ( ص ) : ( خالد بن معدان ) .
(2) عبارة : ( أحسن حالاً ممن قلت ) سقطت من ( ص ) .

قلت : هذا القول - وهو التبديل في الآخرة - قد أنكره أبو العالية ، وتلا قوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } (1) وردَّه بعضهم بقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (2) ، وقوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } (3) ولكن قد أجيب عن هذا بأنَّ التائبَ يُوقف على سيئاته ، ثم تبدَّل حسنات ، قال أبو عثمان النَّهدي(4) : إنَّ المؤمن يُؤتى كتابَه في ستر من الله - عز وجل - ، فيقرأ سيئاته ، فإذا قرأ تغيَّر لها لونُه حتّى يمرَّ بحسّناته، فيقرؤها فيرجع إليه لونه ، ثم ينظر فإذا سيئاتُه قد بُدِّلت حسّناتٍ، فعند ذلك يقول : { هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ } (5) ورواه بعضهم عن أبي عثمان ، عن ابن مسعود ، وقال بعضهم : عن أبي عثمان ، عن سلمان (6) .
وفي " صحيح مسلم " (7)
__________
(1) آل عمران : 30 .
(2) الزلزلة : 8 .
(3) الكهف : 49 .
(4) أخرجه : ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" : 1914 ، والخطيب في " تاريخه " 11/6 ، وطبعة دار الغرب 12/251 .
(5) الحاقة : 19 .
(6) أخرجه : ابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " : 1366 .
(7) الصحيح 1/121 ( 190 ) ( 314 ) و( 315 ) .

وأخرجه : وكيع في " الزهد " ( 367 ) ، وأحمد 5/157 و170 ، والترمذي ( 2596 ) وفي " الشمائل " ، له ( 229 ) بتحقيقي ، وابن حبان ( 7375 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 847 ) و( 848 ) و( 849 ) ، والبيهقي 10/190 ، والبغوي ( 4360 ) .

من حديث أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنِّي لأعْلَمُ آخِرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولاً الجنَّة ، وآخِرَ أهلِ النار خروجاً منها ، رجلٌ يُؤتَى به يوم القيامةِ فيقال : اعرضُوا عليه صِغارَ ذنوبه ، وارفَعُوا عنه كِبارَهَا ، فيعْرِضُ الله عليه صِغَارَ ذنوبهِ(1) ، فيقال له : عَمِلْتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعَمِلْتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول : نعم ، لا يستطيعُ أنْ يُنكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أنْ تعرض عليهِ ، فيقال له : فإنَّ لك مكانَ كُلِّ سيئةٍ حسنةً ، فيقول : يا ربِّ قد عمِلْتُ أشياء لا أراها هاهنا ) قال : فلقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بدتْ نواجذه .
فإذا بُدِّلَت السيئاتُ بالحسّنات في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبه بالنار ، ففي حقِّ من مَحى سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولى ؛ لأنَّ مَحْوَها بذلك أحبُّ إلى الله من محوها بالعقاب .
__________
(1) من قوله : ( وأرفعوا عنه كبارها ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .

وخَرَّج الحاكم(1) من طريق الفَضْل بن موسى ، عن أبي العَنْبس ، عن أبيه ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليتَمنَّينَّ أقوامٌ أنَّهم أكثَرُوا من
السيِّئاتِ ) ، قالوا : بِمَ يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( الذين بَدَّل الله سيئاتهم حسّنات ) ، وخرَّجه ابنُ أبي حاتم(2) من طريق سليمان أبي داود(3) الزهري ، عن أبي العَنْبس ، عن أبيه(4) ، عن أبي هريرة موقوفاً ، وهو أشبهُ مِن المرفوع(5) ، ويروى مثلُ هذا عن الحسن البصري أيضاً يُخالف قولَه المشهور : إنَّ التبديل في الدنيا(6) .
وأمَّا ما ذكره الحربي في التبديل ، وأنَّ من قلَّت سيئاتُه يُزاد في حسناته ، ومن كثرت سيئاتُه يُقَلَّلُ من حسناته ، فحديثُ أبي ذرٍّ صريحٌ في ردِّ هذا ، وأنَّه يُعطى مكان كلّ سيئة حسنة .
وأما قوله : يَلْزَمُ من ذلك أنْ يكون مَنْ كَثُرَت سيئاتُه أحسنَ حالاً ممن
قلَّتْ سيئاتُهُ ، فيقال : إنَّما التبديلُ في حقِّ مَنْ نَدِمَ على سيئاته ، وجعلها نصبَ
عينيه ، فكلما ذكرها ازداد خوفاً ووجلاً ، وحياء من الله ، ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } (7) وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله ، فإنَّه يتجرَّعُ من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعافَ ما ذاق من حلاوتها عندَ فعلها ، ويصيرُ كلُّ ذنبٍ من ذنوبه سبباً لأعمال صالحةٍ ماحية له ، فلا يُستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات .
__________
(1) في " المستدرك " 4/252 .
(2) كما في " تفسير ابن كثير " : 1366 .
(3) تحرف في ( ص ) : ( إلى سليمان بن داود ) .
(4) عن أبيه ) سقطت من ( ص ) .
(5) على أنَّ الشيخ الألباني أورده في السلسلة الصحيحة ( 2177 ) .
(6) انظر : تفسير القرطبي 13/78 .
(7) الفرقان : 70 .

وقد ورَدَت أحاديثُ صريحةٌ في أنَّ الكافرَ إذا أسلم ، وحَسُنَ إسلامُه ، تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرْك حسنات ، فخرَّج الطبراني(1) من حديث عبد الرحمان بن جبير بن نفير ، عن أبي فروة شطب : أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : أرأيتَ رجلاً عَمِلَ الذنوب كُلَّها ، ولم يترك حاجةً ولا داجةً ، فهل له مِنْ توبة ؟ فقالَ : ( أسلمتَ ؟ ) قال : نَعَمْ ، قال: ( فافعلِ الخيراتِ ، واترك السيئاتِ ، فيجعلها الله لك خيراتٍ كلّها(2) )، قال : وغَدَرَاتي وفَجَرَاتي ؟ قال : ( نعم ) ، قال : فما زال يُكبِّرُ حتّى توارَى . وخرَّجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن سلمة بن نفيل ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلاً ، وخرَّج البزارُ(3) الحديثَ الأوَّل وعنده : عن أبي طويل شطب الممدود(4) : أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره
بمعناه ، وكذا خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " ، وذكر أنَّ الصوابَ عن
عبد الرحمان بن جُبير بن نفير مرسلاً : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طوي(5) شَطْب ، والشطب في اللغة : الممدود ، فصحفه بعض الرواة ، وظنه اسم رجل .
__________
(1) في " الكبير " ( 7235 ) .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 2718 ) ، وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " ( 3809 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/352 وطبعة دار الغرب 4/559 ، والحديث صححه ابن منده كما في " الإصابة " 2/152 .
(2) في ( ص ) : ( حسنات ) .
(3) في زوائده كما في " كشف الأستار " ( 3244 ) .
(4) انظر كتاب : تسمية من لقب بالطويل : 62-64 ليحيى بن عبد الله الشهري .
(5) في ( ص ) : ( طويل ) .


الحديث الثالث عشرعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسه ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ(1) .
هذا الحديث خرَّجاه في " الصحيحين " (2) من حديث قتادة ، عن أنسٍ ، ولفظُ مسلم : ( حَتَّى يُحِبَّ لجاره أو لأخيه ) بالشَّكِّ(3) .
وخرَّجه الإمام أحمد ، ولفظه : ( لا يبلغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتَّى يحبَّ للناس ما يُحِبُّ لنفسه من الخِير )(4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/10 ( 13 ) ، ومسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 677 ) ، والطيالسي ( 2004 ) ، وأحمد 3/176 و206 و251 و272 و278 و289 ، وعبد بن حميد ( 1175 ) ، والدارمي ( 2743 ) ، وابن ماجه ( 66 ) ، والترمذي ( 2515 ) ، والنسائي 8/115 ، وأبو عوانة 1/33 ، وابن حبان ( 234 ) و( 235 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 294 ) و( 295 ) و( 296 )
و( 297 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 889 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) صحيح البخاري 1/10 ( 13 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 ) من طريق قتادة ، عن أنس بن مالك ، به .
(3) الصحيح 1/49 ( 45 ) ( 72 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) لم أره بهذا اللفظ عند أحمد ، والذي عنده هو لفظ الشيخين ، ولفظ : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ) .
انظر : مسند الإمام أحمد 3/206 .
وأما لفظ : ( لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان …. ) فهو عند ابن حبان ( 235 ) من رواية ابن عدي ، عن حسين المعلم ، عن قتادة ، عن أنس ، به .

وهذه الرواية تبيِّنُ معنى الرِّواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأنَّ المرادَ بنفي الإيمان نفيُّ بلوغِ حقيقته ونهايته ، فإنَّ الإيمانَ كثيراً ما يُنفى لانتفاءِ بعض أركانِهِ وواجباته(1) ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزني الزَّاني حِينَ يَزني وهو مؤمن ، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ ، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمنٌ )(2) ، وقوله : ( لا يُؤْمِنُ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائِقَه )(3) .
وقد اختلف العلماءُ (4) في مرتكب الكبائر : هل يُسمَّى مؤمناً ناقصَ الإيمان ، أم لا يُسمى مؤمناً ؟ وإنَّما يُقالُ : هو مسلم ، وليس بمؤمنٍ على قولين ، وهما روايتان عن الإمام أحمد(5) .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 30 .
(2) سبق تخريجه عند الحديث الثاني .
قال الحسن : يجانبه الإيمان ما دام كذلك ، فإن راجع راجعه الإيمان .
وقال أحمد : حدثنا معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن الأوزاعي ، قال : وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن … ) فإنَّهم يقولون : فإنْ لم يكن مؤمناً فما هو ؟ قال : فأنكر ذلك ، وكره مسألتي ، انظر : الإيمان لابن تيمية : 30 .
(3) سبق تخريجه عند الحديث الثاني .
(4) لم ترد في ( ص ) .
(5) انظر : الإيمان لابن تيمية : 190 ، والعقيدة الطحاوية :65-66 ، والتبصير بقواعد التكفير : 16-17 ، وشرح العقيدة الطحاوية : 321-322 .
قال محمد بن نصر المروزي : وحكى غير هؤلاء أنَّه سأل أحمد بن حنبل عن قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( لا يزني الزاني ….. ) فقال : من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ، ولا أُسميه مؤمناً ؟ ومن أتى دون ذلك - يريد : دون الكبائر - أُسميه مؤمناً ناقص الإيمان .
انظر : الإيمان لابن تيمية : 199 .

فأمَّا من ارتكبَ الصَّغائرَ ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكبَ من ذلك(1) .
والقولُ بأنَّ مرتكب الكبائر يقال له : مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ مرويٌّ عن جابرِ بنِ
عبد الله ، وهو قولُ ابنِ المبارك وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم ، والقول بأنَّه مسلمٌ ، ليس بمؤمنٍ مرويٌّ عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضُهم أنَّه المختارُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ .
وقال ابنُ عباس : الزاني يُنزَعُ منه نورُ الإيمان(2) . وقال أبو هريرة : يُنْزَعُ منه الإيمانُ ، فيكون فوقَه كالظُّلَّةِ ، فإذا تابَ عاد إليه(3) .
وقال عبدُ الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمانُ كالقميصِ ، يَلبَسُه الإنسانُ تارةً ، ويخلعه أخرى ، وكذا قال الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره(4) ، والمعنى : أنَّه إذا كمَّل خصالَ الإيمان لبسه ، فإذا نقصَ منها شيئاً نزعه ، وكلُّ هذا إشارةٌ إلى الإيمان الكامل التَّام الذي لا يَنْقُصُ من واجباته شيء .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 199 ، والتبصير بقواعد التكفير : 17 ، والوجيز في عقيدة السلف الصالح : 121 .
(2) ذكره : الآجري في " الشريعة " : 115 ، وابن تيمية في " الإيمان " : 30 .
(3) ذكر : ابن تيمية في " الإيمان " : 30 نحوه .
(4) ورد نحو هذا القول عن أبي هريرة . انظر : الإيمان لابن تيمية : 30 .
وورد نحوه أيضاً من قول سفيان الثوري . انظر : حلية الأولياء 7/32 .
وورد من قول الإمام أحمد . انظر : المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 1/92 .

والمقصودُ أنَّ مِن جملة خِصال الإيمانِ الواجبةِ أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيه المؤمن ما يحبُّ لنفسه ، ويكره له ما يكرهه لنفسه ، فإذا زالَ ذلك عنه ، فقد نَقَصَ إيمانُهُ بذلك . وقد رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي هريرة : ( أَحِبَّ للنَّاسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مسلماً ) خرَّجه الترمذي وابن ماجه(1) .
وخرَّج الإمام أحمد(2) من حديث معاذٍ : أنَّه سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أفضلِ الإيمان ، قال : ( أفضلُ الإيمانِ أنْ تُحِبَّ للهِ وتُبغِضَ للهِ ، وتُعْمِلَ لسانَك في ذكر الله ) ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : ( أنْ تُحِبَّ للنَّاس ما تُحبُّ لنفسك ، وتكرَه لهم ما تكرهُ لنفسك ، وأنْ تقول خيراً أو تَصْمُت ) .
وقد رتَّب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دخولَ الجنَّة على هذه الخَصْلَةِ ؛ ففي " مسند الإمام
أحمد " (3) - رحمه الله - عن يزيد بن أسدٍ القَسْري ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتحبُّ الجنَّةَ ) قلت : نعم ، قال : ( فأحبَّ لأخيكَ ما تُحبُّ لنفسك ) .
وفي " صحيح مسلم " (4) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنة فلتدركه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ ، ويأتي إلى الناسِ الذي يحبُّ أنْ يُؤْتَى إليه ) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) في" مسنده " 5/247 من حديث معاذ بن أنس الجهني ، به ، وإسناده ضعيف لضعف رشدين ابن سعد ولضعف زبان بن فائد .
(3) المسند 4/70 . وأخرجه : الحاكم 4/168 ، وإسناده ضعيف لضعف روح بن عطاء بن أبي ميمونة .
(4) الصحيح 6/18-19 ( 1844 ) ( 46 ) و( 47 ) .
وأخرجه : أحمد 2/161 و191 و192 ، وابن ماجه ( 3956 ) ، والنسائي 7/152-153، وابن حبان ( 5961 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، به .

وفيه أيضاً عن أبي ذرٍّ ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أبا ذرٍّ ، إني أراكَ ضعيفاً ، وإني أحبُّ لك ما أُحبُّ لنفسي ، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين ، ولا تولَّينَّ مالَ
يتيم ) (1) .
وإنَّما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ هذا لكلِّ ضعيفٍ ، وإنَّما كان يتولَّى أمورَ النَّاسِ ؛ لأنَّ الله قوَّاه على ذلك ، وأمره بدعاء الخَلْقِ كلِّهم إلى طاعته ، وأنْ يتولَّى سياسةَ دينهم ودنياهم(2) .
وقد رُوِيَ عن عليٍّ قال : قال لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنِّي أرضى لك ما أرضى لِنفسي ، وأكره لك ما أكرهُ لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنتَ جنبٌ ، ولا وأنتَ
راكعٌ ، ولا وأنت ساجد )(3)
__________
(1) صحيح مسلم 6/7 ( 1826 ) ( 17 ) . وأخرجه : أبو داود ( 2868 ) ، والنسائي 6/255 ، وابن حبان ( 5564 ) من حديث أبي ذر ، به .
(2) انظر : شرح السيوطي لسنن النسائي 6/255-256 .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 2836 ) ، وأحمد 1/146 ، والدارقطني 1/125 ( 420 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، مرفوعاً . وهو ضعيف .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 2833 ) ، ومسلم 2/48 ( 480 ) ( 209 ) ، وابن حبان
( 1895 ) عن علي بلفظ : ( نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ) .

وأخرجه : الطيالسي ( 101 ) ، والحميدي ( 57 ) ، وأحمد 1/83 و84 و107 و124 و134 ، وأبو داود ( 229 ) ، وابن ماجه ( 594 ) ، والترمذي ( 146 ) ، والنسائي 1/144 ، وابن الجارود ( 94 ) ، وأبو يعلى ( 287 ) و( 348 ) و( 406 ) و( 524 )
و( 579 ) و 623 ) ، وابن خزيمة ( 208 ) ، وابن حبان ( 799 ) ، والدارقطني 1/125
( 419 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 4/107 ، والبيهقي 1/88-89 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 273 ) ، عن علي . بلفظ : كان رسول الله يأتي الخلاء فيقضي الحاجة ثم يخرج فيأكل معنا الخبز واللحم ويقرأ القرآن ، ولا يحجبه ، وربما قال : ولا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة .

.
وكان محمَّدُ بنُ واسعٍ يبيع حماراً له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه(1) ، وهذه إشارةٌ منه إلى أنَّه لا يرضى لأخيه إلاَّ ما يرضى لنفسه ، وهذا كلُّه من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي مِنْ جملة الدين كما سبق تفسيرُ ذلك في موضعه(2) .
وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديثَ النعمان بنِ بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثلُ الجسدِ ، إذا اشتكى منه عُضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمى والسَّهر ) خرَّجاه في " الصحيحين " (3) ، وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمنَ يسوؤه ما يسوءُ أخاه المؤمن ، ويُحزِنُه ما يُحزنه .
وحديثُ أنس الذي نتكلَّمُ الآن فيه يدلُّ على أنَّ المؤمن يَسُرُّهُ ما يَسرُّ أخاه المؤمن ، ويُريد لأخيه المؤمن ما يُريده لنفسه من الخير ، وهذا كُلُّه إنَّما يأتي من كمالِ سلامةِ الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسدِ ، فإنَّ الحسدَ يقتضي أنْ يكره الحاسدُ أنْ يَفوقَه أحدٌ في خير ، أو يُساوَيه فيه ؛ لأنَّه يُحبُّ أنْ يمتازَ على الناسِ بفضائله ، وينفرِدَ بها عنهم ، والإيمانُ يقتضي خلافَ ذلك ، وهو أنْ يَشْرَكَه المؤمنون كُلُّهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أنْ ينقص عليه منه شيء(4) .
__________
(1) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 2/349 .
(2) انظر : الحديث السابع .
(3) سبق تخريجه .
(4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/98 ، وفتح الباري 1/80 .

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يُريد العلوَّ في الأرض ولا الفساد ، فقال :
{ تلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً } (1) . وروى ابنُ جريرٍ بإسنادٍ فيه نظرٌ(2) عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، قال : إنَّ الرَّجُلَ ليُعْجِبهُ مِن
شِراكِ نعله أنْ يكونَ أجود من شراكِ صاحبه فَيدْخُلُ في قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (3) (4) . وكذا رُوي عن الفضيل بنِ عياض في هذه الآية ، قال : لا يُحِبُّ أنْ يكونَ نعلُه أجودَ من نعل غيره ، ولا شِراكُهُ أجودَ مِنْ شراك غيره (5).
__________
(1) القصص : 83 .
(2) وذلك أنَّ في إسناده أشعث بن سعيد البصري السمان، قال عنه أبو حاتم : ( ضعيف الحديث، منكر الحديث، سيء الحفظ، يروي المناكير عن الثقات ) . الجرح والتعديل 2/199 ( 980 ).
(3) القصص : 83 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21060 ) وطبعة التركي 18/344 ، وابن أبي حاتم في
" تفسيره " 9/3023 ( 17181 ) ، وأبو حيان في " تفسيره " 7/131 ، وأورده ابن كثير في " تفسيره " : 1427 ( طبعة دار ابن حزم ) ، والسيوطي في " الدر المنثور " 5/265 .
(5) عبارة : ( ولا شراكه أجود من شراك غيره ) سقطت من ( ص ) .

وقد قيل : إنَّ هذا محمولٌ على أنَّه إذا أراد(1) الفخر على غيره لا مجرَّد التجمل(2)، قال عكرمةُ وغيرُه من المفسرين في هذه الآية : العلوُّ في الأرض : التكبُّر، وطلبُ الشرف والمنْزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي(3) .
وقد ورد ما يَدُلُّ على أنَّه لا يأثم مَنْ كره أنْ يفوقَه من الناسِ أحدٌ في الجمال ، فخرَّج الإمامُ أحمدُ - رحمه الله -(4) والحاكم في " صحيحه "(5) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، قال : أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعنده مالكُ بن مرارةَ الرَّهَاوِيُّ ، فأدركتُه وهو يقول : يَا رسولَ الله ، قد قُسِمَ لي من الجمال ما ترى ، فما أحبُّ أحداً من النَّاس فضلني بشِراكَيْن فما فوقهما ، أليس ذلك هو من البَغي ؟ فقال : ( لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بَطِرَ – أو قال : سفه - الحقَّ وغَمط الناس ) .
وخرَّج أبو داود(6) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه ، وفي حديثه : ( الكبر ) (7) بدل : ( البغي ) .
__________
(1) إذا أراد ) سقطت من ( ص ) .
(2) ذكره : ابن كثير في " تفسيره " : 1427 ( طبعة دار ابن حزم ) .
(3) ذكره : الطبري في " تفسيره " ( 21056 ) و( 21059 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 9/3022 ( 17176 ) و9/3023 ( 17185 ) ، وابن الجوزي في " تفسيره " 6/248 ، والقرطبي في " تفسيره " 13/320 ، وابن كثير في " تفسيره " : 1427 طبعة دار ابن حزم ، والسيوطي في " الدر المنثور " 5/264-265 .
(4) في " المسند " 1/385 ، وهو حديث صحيح .
(5) " المستدرك " 4/182 .
(6) في " سننه " ( 4092 ) وهو صحيح .
(7) سقطت من ( ص ) .

فنفى أنْ تكونَ كراهتُه ؛ لأنْ يَفوقَهُ أحدٌ في الجمال بغياً أو كبراً ، وفسَّر الكبر والبغي ببطر الحقِّ وغمط الناس(1) ، وهو التكبُّر عليه ، والامتناع مِن قبوله كِبراً إذا خالف هواه . ومن هنا قال بعض السَّلف : التَّواضُعُ أنْ تَقْبَلَ الحقَّ مِن كلِّ من جاء به ، وإنْ كان صغيراً ، فمن قَبِلَ الحقَّ ممَّن جاء به ، سواء كان صغيراً أو كبيراً ، وسواء كان يحبُّه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قَبُولَ الحقِّ تعاظُماً عليه ، فهو متكبِّرٌ .
وغمط الناس : هو احتقارُهم وازدراؤهم ، وذلك يحصُل مِنَ النَّظرِ إلى النَّفس بعينِ الكمالِ ، وإلى غيره بعينِ النَّقص(2) .
وفي الجملة : فينبغي للمؤمن أنْ يُحِبَّ للمؤمنينَ ما يُحبُّ لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لِنفسه ، فإنْ رأى في أخيه المسلم نقصاً في دينه اجتهدَ في إصلاحه . قال بعضُ الصالحين مِن السَّلف : أهلُ المحبة لله نظروا بنور الله ، وعطَفُوا على أهلِ معاصي الله ، مَقَتُوا أعمالهم ، وعطفوا عليهم ليزيلوهُم بالمواعظ عن فِعالهم ، وأشفقوا على أبدانِهم من النار ، لا يكون المؤمنُ مؤمناً حقاً حتى يرضى للناسِ ما يرضاه لنفسه ، وإنْ رأى في غيره فضيلةً فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها ، فإنْ كانت تلك الفضيلةُ دينية ، كان حسناً ، وقد تمنى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لنفسه منْزلةَ الشَّهادة(3).
__________
(1) عبارة ( وغمط الناس ) سقطت من ( ج ) .
(2) انظر : النهاية 3/1014-1015 ، ومجمل اللغة 3/686 ، وأساس البلاغة 1/713 ، ولسان العرب 10/125 ، ومختار الصحاح : 481-482 .
(3) حديث تمني النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهادة أخرجه : البخاري 1/15 ( 36 )، ومسلم 6/33 ( 1876 )
( 103 ) و6/64 ( 1876 ) ( 106 ) من حديث أبي هريرة .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا حسدَ إلاَّ في اثنتين : رجل آتاهُ الله مالاً ، فهو يُنفقهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ ، ورجُلٌ آتاهُ الله القرآن ، فهو يقرؤهُ آناءَ الليل وآناءَ النهار )(1) .
وقال في الذي رأى مَنْ(2) ينفق مالَه في طاعة الله ، فقال : ( لو أنَّ لي مالاً ، لفعلتُ فيه كما فعل ، فهما في الأجر سواءٌ )(3) وإنْ كانت دنيويةً ، فلا خيرَ في تمنيها ، كما قال تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } (4) . وأما قول الله - عز وجل -
: { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } (5) ، فقد فُسِّرَ ذلك بالحسد ، وهو تمنِّي الرجل نفس ما أُعطي أخوه من أهلٍ ومال ، وأنْ ينتقل ذلك إليه ، وفُسِّرَ بتمني ما هو ممتنع شرعاً أو قدراً ، كتمني النِّساءِ (6) أنْ يكنَّ رجالاً ، أو يكون لهن مثلُ ما للرجالِ من الفضائلِ الدينية كالجهاد ، والدنيوية كالميراثِ والعقلِ والشهادةِ
ونحو ذلك ، وقيل : إنَّ الآية تشمل ذلك كُلَّه(7) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/28 ( 73 ) و2/134 ( 1409 ) ، ومسلم 2/201 ( 816 )
( 268 ) ، من حديث عبد الله بن مسعود .
(2) عبارة : ( رأى من ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : البخاري 6/236 ( 5026 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) القصص : 79-80 .
(5) النساء : 32 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) انظر : تفسير مجاهد : 154 ، وتفسير الطبري ( 7319 ) و( 7320 ) و( 7321 )
و( 7322 ) ، وتفسير ابن أبي حاتم 3/935 ( 5226 ) ، وتفسير القرطبي 5/162-163 ، والبحر المحيط 1/609 ، وأسباب النزول عن الصحابة والمفسرين : 66 .

ومع هذا كُلِّه ، فينبغي للمؤمن أنْ يحزنَ لفواتِ الفضائل الدينية ، ولهذا أُمِرَ أنْ ينظر في الدين إلى مَنْ فوقَه ، وأنْ يُنافِسَ في طلب ذلك جهده وطاقته ، كما قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمتَنَافِسُونَ } (1) ولا يكره أنَّ أحداً يُشارِكُه في
ذلك ، بل يُحِبُّ للناس كُلِّهم المنافسةَ فيه ، ويحثُّهم على ذلك ، وهو من تمام أداءِ النَّصيحة للإخوان(2) .
قال الفضيلُ : إنْ كُنتَ تحبُّ أنْ يكونَ الناسُ مثلَك ، فما أديتَ النَّصيحة لأخيك(3) ، كيف وأنت تحبُّ أنْ يكونوا دونك ؟!(4) يشير إلى أنَّ أداء النَّصيحة لهم أنْ يُحبَّ(5) أنْ يكونوا فوقَه ، وهذه منزلةٌ عالية ، ودرجةٌ رفيعةٌ في النُّصح ، وليس ذَلِكَ بواجبٍ ، وإنَّما المأمورُ به في الشرع أنْ يُحبَّ أنْ يكونوا مثلَه ، ومع هذا فإذا فاقه أحدٌ في فضيلة دينية اجتهد على لَحاقه ، وحزن على تقصير نفسه ، وتخلُّفِهِ عن لحاق السابقين ، لا حسداً لهم على ما آتاهُم الله من فضله - عز وجل - (6)، بل منافسةً لهم ، وغبطةً وحزناً على النَّفس بتقصيرها وتخلُّفها عن درجات السابقين .
__________
(1) المطففين : 26 .
(2) انظر ما ذكره الطبري في " تفسيره " 15/134 ، والقرطبي في " تفسيره " 19/266 ؛ والبغوي في " تفسيره " 5/266 ، وابن عطية في " تفسيره " 15/366 ، وابن الجوزي في
" تفسيره " 9/59 .
(3) في ( ج ) : ( لربك ) .
(4) انظر : حلية الأولياء 8/87 نحوه .
(5) أن يحب ) سقطت من ( ص ) .
(6) عبارة : ( من فضله - عز وجل - ) لم ترد في ( ج ) .

وينبغي للمؤمن أنْ لا يزال يرى نفسَه مقصِّراً عن الدَّرجات العالية ، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين : الاجتهاد في طلب الفضائل ، والازدياد منها ، والنظر إلى نفسه بعينِ النَّقص ، وينشأ مِنْ هذا أنْ يُحِبَّ للمؤمنين أنْ يكونوا خيراً منه ؛ لأنَّه لا يرضى لَهم أنْ يكونوا على مثلِ حاله ، كما أنَّه لا يرضى لنفسه بما هي عليه ، بل يجتهد في إصلاحها ، وقد قالَ محمدُ بنُ واسع لابنه : أمَّا أبوكَ ، فلا كثَّرَ الله في المسلمين مثلَه(1) .
فمن كان لا يرضى عن نفسه ، فكيف يُحبُّ للمسلمين أنْ يكونوا مثلَه مع نصحه لهم ؟ بل هو يحبُّ للمسلمين أنْ يكونوا(2) خيراً منه ، ويحبُّ لنفسه أنْ يكونَ خيراً ممَّا هو عليه .
وإنْ عَلِمَ المرءُ أنَّ الله قد خصَّه على غيره بفضل ، فأخبر به لمصلحة دينية ، وكان إخباره على وجه التحدُّث بالنِّعمِ ، ويرى نفسه مقصراً في الشُّكر ، كان جائزاً ، فقد قال ابنُ مسعود : ما أعلم أحداً أعلمَ بكتاب الله مني ، ولا يمنع هذا أنْ يُحِبَّ للنَّاسِ أنْ يُشاركوه فيما خصَّهُ الله به ، فقد قال ابنُ عبَّاسٍ : إني لأمرُّ على الآية من كِتاب الله ، فأودُّ أنَّ النَّاسَ كُلَّهم يعلمُون منها ما أعلم ، وقال الشافعيُّ : وددتُ أنَّ النَّاسَ تعلَّموا هذا العلمَ ، ولم يُنْسَبْ إليَّ منه شيء(3) ، وكان عتبةُ الغلامُ إذا أراد أنْ يُفطر يقول لبعض إخوانه المطَّلِعين على أعماله : أَخرِج إليَّ ماءً أو تمراتٍ أُفطر عليها ؛ ليكونَ لك مثلُ أجري(4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/350 .
(2) من قوله : ( مثله مع نصحه ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/119 .
... وانظر : سير أعلام النبلاء 10/55 ، وآداب الشافعي : 92 ، وتهذيب الأسماء واللغات 1/540 ، والمناقب للبيهقي 1/173 ، والانتقاء : 84 ، ومعرفة السنن والآثار 1/129 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/235 .


الحديث الرابع عشرعَنْ عبدِ الله بن مَسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ : قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلاَّ بِإحْدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، والنَّفسُ بالنَّفسِ ، والتَّارِكُ لِدينِهِ المُفارِقُ لِلجماعَةِ ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ(1) .
هذا الحديث(2) خرّجاه في " الصحيحين " (3) من رواية الأعمش ، عن
عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، وفي رواية لمسلم : ( التارك للإسلام ) بدل قوله : ( لدينه )(4) .
وفي هذا المعنى أحاديثُ متعددة : فخرَّج مسلم(5) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ حديثِ ابن مسعود .
__________
(1) أخرجه : البخاري 9/6 ( 6878 ) ، ومسلم 5/106 ( 1676 ) ( 25 ) و( 26 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 289 ) ، وعبد الرزاق ( 18704 ) ، والحميدي ( 119 ) ، وأحمد 1/382 و428 و444 و465، والدارمي ( 2303 ) و( 2451 ) ، وأبو داود ( 4352 ) ، وابن ماجه ( 2534 ) ، والترمذي ( 1402 ) ، والنسائي 7/90-91 و8/13 ، وابن الجارود ( 832 ) ، وأبو يعلى ( 5202 ) ، وابن حبان ( 4408 ) ، والدارقطني 3/67
( 3071 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/19 و194 و202 و213 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5331 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .
(2) عبارة : ( هذا الحديث ) سقطت من ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 9/6 ( 6878 ) ، وصحيح مسلم 5/106 ( 1676 ) ( 25 ) .
(4) صحيح مسلم 5/106 ( 1676 ) ( 26 ) .
(5) في " صحيحه " 5/106 ( 1676 ) ( 26 ) .

وخرَّج الترمذيُّ(1) ، والنسائي(2) ، وابنُ ماجه(3) من حديث عثمان ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4) ، قال : ( لا يَحلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاثٍ : رجلٍ كفر بعد إسلامه ، أو زَنى بعد إحصانهِ(5) ، أو قتلَ نفساً بغير نفسٍ ) . وفي روايةٍ للنَّسائي
: ( رجلٌ زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجمُ ، أو قتل عمداً ، فعليه القَوَدُ ، أو ارتدَّ بعدَ إسلامِهِ ، فعليه القتلُ )(6) .
وقد رُوي هذا المعنى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من روايةِ ابن عبَّاس(7) وأبي هريرة وأنس وغيرهم(8) ، وقد ذكرنا حديثَ أنسٍ فيما تقدَّم ، وفيه تفسير أنَّ هذه الثلاث خصال هي حقُّ الإسلام التي يُستباح بها دَمُ مَنْ شهد أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، والقتلُ بكلِّ واحدةٍ مِنْ هذه الخصالِ الثَّلاثِ متَّفقٌ عليه بين المسلمين(9) .
أما زنى الثَّيِّبِ ، فأجمع المسلمون على أنَّ حَدَّه الرجمُ حتَّى يموتَ ، وقد رجم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية(10)
__________
(1) في " جامعه " ( 2158 ) ، وقال : ( هذا حديث حسن ) .
(2) في " المجتبى " 7/104 .
(3) في " سننه " ( 2533 ) .
(4) من قوله : ( مثل حديث ابن مسعود ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( كفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ) .
(6) أخرجه : النسائي في " المجتبى " 7/103 من حديث عثمان بن عفان ، به .
(7) نسبه الحافظ ابن حجر إلى النسائي . انظر : فتح الباري 12/251 ، وانظر : مجمع الزوائد 1/25 .
(8) انظر : مجمع الزوائد 1/25-26 .
(9) تقدم تخريجه عند الحديث الثامن .
(10) أخرجه : أحمد 3/61-62، ومسلم 5/118 ( 1694 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 4431 )، وابن حبان ( 4438 ) ، والحاكم 4/362-363 ، والبيهقي 8/220-221 من حديث أبي سعيد الخدري ، به .

وللحديث طرق أخرى ، وانظر : المغني 10/119 .

، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه : ( والشَّيخُ
والشَّيخَةُ إذا زَنيا فارجُموهُما البتة نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم )(1) .
وقد استنبط ابنُ عباسٍ الرَّجمَ مِنَ القرآن من قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ } (2) ، قال : فمن كفر بالرَّجم ، فقد كفر بالقرآن من حيثُ لا يحتسب ، ثمَّ تلا هذه الآية ، وقال : كان الرجمُ مما أخفوا . خرَّجه النَّسائي(3) ، والحاكم(4) ، وقال : صحيحُ الإسناد .
ويُستنبط أيضاً من قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } إلى قوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله } (5) . وقال الزهري : بلغنا أنَّها نزلت في اليهوديَّيْن اللذيْن رجمهما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنِّي أحكم بما في التوراة ) وأمر بهما فرُجما(6) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 13363 ) ، وابن حبان ( 4428 ) و( 4429 ) ، والحاكم 2/415 من حديث أبي بن كعب ، به ، وإسناده لا بأس به ، وانظر : المغني
10/118-119 .
(2) المائدة : 15 .
(3) في " الكبرى " ( 7162 ) وفي " التفسير " ، له ( 159 ) .
وأخرجه : الطبري في "تفسيره" ( 9057 )، وطبعة التركي 8/262 ، وابن حبان ( 4430 )، والحاكم 4/359 من حديث عبد الله بن عباس ، به . وهو صحيح .
(4) في " المستدرك " 4/359 .
(5) المائدة : 44-49 .
(6) أخرجه : عبد الرزاق في " تفسيره " 1/189 - 190 وفي مصنفه ( 13330 ) ، وأبو داود ( 4450 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 9387 ) ، وطبعة التركي 8/451 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 6401 ) .

وخرَّج مسلم في " صحيحه " (1) من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين ، وقال في حديثه : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } (2) وأنزل : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (3) في الكفار كلها .
وخرَّجه الإمام أحمد(4) وعنده : فأنزل الله : { لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } إلى قوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } (5) ، يقولون : ائتوا محمداً (6)، فإنْ أفتاكم بالتَّحميم والجلدِ ، فخُذوه ، وإنْ أفتاكم بالرجم ، فاحذروا ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (7) ، قال : في
اليهود .
ورُوِيَ من حديث جابر قصَّةُ رجم اليهوديين ، وفي حديثه قال : فأنزل الله :
{ فَإِنْ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَينهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم } إلى قوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط } (8) .
__________
(1) الصحيح 5/122 ( 1700 ) ( 28 ) ، وأبو داود ( 4448 ) .
(2) المائدة : 41 .
(3) المائدة : 44 .
(4) في " مسنده " 4/286 .
وأخرجه : مسلم 5/122-123 ( 1700 ) ( 28 )، وأبو داود ( 4447 ) و( 4448 ) ، وابن ماجه ( 2327 ) و( 2558 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 11144 ) وفي " التفسير " ، له ( 164 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 9316 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل
الآثار " ( 4541 ) ، وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/142 من حديث البراء بن عازب ،
به .
(5) المائدة : 41 .
(6) في ( ص ) : ( يعني : الجلد ) .
(7) المائدة : 44 .
(8) المائدة : 42 .
والحديث أخرجه : الحميدي ( 1294 ) ، وإسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد .

وكان الله تعالى قد أمر أوَّلاً بحبسِ النِّساء(1) الزَّواني إلى أنْ يتوفَّاهنَّ الموت ، أو يجعل الله لهنَّ السبيل ، ثم جعل الله (2) لهنَّ سبيلاً ، ففي " صحيح مسلم " (3) عن عبادة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خُذوا عنِّي خُذوا عنِّي قد جعل الله لهنَّ سبيلاً : البكرُ بالبكِر جلدُ مئة وتغريبُ عامٍ ، والثيبُ بالثيب جلدُ مئة والرجمُ ) .
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعةٌ من العلماء ، وأوجبوا جلدَ الثيب مئة ، ثم رجمه كما فعل عليٌّ بشُراحة الهَمْدَانيَّةِ ، وقال : جلدتُها بكتاب الله ، ورجمتُها بسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4) . يشير إلى أنَّ كتاب الله فيه جلدُ الزَّانيين من غير تفصيلٍ بين ثيِّبٍ وبِكرٍ ، وجاءت السُّنةُ برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضاً ، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق ، وهو قول الحسن وطائفة من السَّلف(5) .
وقالت طائفة منهم : إنْ كان الثَّيِّبان شيخين رُجمَا وجُلِدا ، وإنْ كانا شابَّين ، رُجِما بغيرِ جلدٍ؛ لأنَّ ذنبَ الشيخِ أقبحُ ، لا سيما بالزنى ، وهذا قولُ أبيِّ بنِ كعبٍ ، وروي عنه مرفوعاً ، ولا يصحُّ رفعه ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضاً(6) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(3) الصحيح 5/115 ( 1690 ) ( 12 ) .
(4) أخرجه : أحمد 1/93 ، والبخاري 8/204 ( 6812 ) ، والدارقطني 3/95 ( 3206 ) ، والحاكم 4/364-365 ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/329 ، والبيهقي 8/220 من حديث علي بن أبي طالب ، به . وانظر : المغني 10/119 .
(5) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/978 ، والمغني 10/119 .
(6) انظر : المغني 10/117 .

وأما النَّفسُ بالنفسِ ، فمعناه : أنَّ المكلَّف إذا قتل نفساً بغير حق(1) عمداً ، فإنَّه يُقْتَلُ بها ، وقد دلَّ القرآن على ذلك بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس } (2) وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى } (3) .
ويُستثنى من عُموم قوله تعالى : { النَّفْسَ بالنَّفْسِ } صُورٌ :
منها : أنْ يقتل الوالدُ ولدَه ، فالجمهورُ على أنَّه لا يُقْتَلُ به ، وصحَّ ذلك عن عُمر . وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ مُتعدِّدَةٍ ، وقد تُكُلِّمَ في أسانيدها(4)
__________
(1) في ( ص ) : ( نفس ) .
(2) المائدة : 45 .
(3) البقرة : 178 .
(4) أخرجه : أحمد 1/22 و49 ، وعبد بن حميد ( 41 ) ، وابن ماجه ( 2662 ) ، والترمذي
( 1400 ) ، وابن الجارود ( 788 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8901 ) ، والبيهقي 8/38 و72 من حديث عمر بن الخطاب ونصه : قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا يُقاد الوالد بالولد ) .
وأخرجه: أحمد 1/16 من طريق مجاهد، عن عمر وهو منقطع ؛ لأنَّ مجاهداً لم يسمع من عمر.
ورواه من حديث عبد الله بن عباس :
الدارمي ( 2362 ) ، وابن ماجه ( 2661 ) ، والترمذي ( 1401 ) ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/18، والحاكم 4/369، والبيهقي 8/39، وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن مسلم المكي.
ونصه : عن عبد الله بن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد ) .

وأخرجه : عبد الرزاق ( 1710 ) من طريق طاووس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً .

، وقال مالك : إنْ تَعمَّدَ قتله تعمداً لا يشكُّ فيه ، مثل أنْ يذبحه ، فإنَّه يُقتل به ، وإنْ
حذفه بسيفٍ أو عصا، لم يقتل . وقال البتِّي : يقتل بقتله بجميع وجوه العَمدِ للعمومات(1).
ومنها : أنْ يقتل الحرُّ عبداً ، فالأكثرون على أنَّه لا يُقتل به(2) ، وقد
وردت في ذلك أحاديثُ في أسانيدها مقالٌ(3) . وقيل : يقتل بعبدِ غيره دُون
عبدِه(4) ، وهو قولُ أبي حنيفة وأصحابه ، وقيل : يقتل بعبده وعبدِ غيره ، وهي رواية عن الثوري ، وقول طائفةٍ من أهل الحديث(5) ؛ لحديث سمرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من قَتَلَ عبدهُ قتلناهُ ، ومن جَدَعَهُ جدَعْناهُ )(6) وقد طعن فيه الإمام أحمد
وغيره .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/912 ، وبداية المجتهد 2/710-711 .
(2) انظر : الهداية للكلوذاني 2/230 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 2/706 .
(3) أخرجه : البيهقي 8/35 . ونصه : عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يقتل حر بعبد ) .
وأخرجه : البيهقي 8/34 . ونصه : قال علي - رضي الله عنه - : ( من السنة أن لا يقتل حر بعبد ) .
وانظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 و912 .
(4) عبارة : ( دون عبده ) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : بداية المجتهد 2/706-707 .
(6) أخرجه : أحمد 5/10 و11 و12 و18 و19، والدارمي ( 2363 ) ، وأبو داود ( 4515 ) و( 4516 ) و( 4517 ) ، وابن ماجه ( 2663 ) ، والترمذي ( 1414 ) وفي " العلل
الكبير " ، له ( 238 ) ، والنسائي 8/20 و21 و26 ، وابن عدي في " الكامل " 3/156 و8/417 من حديث الحسن ، عن سمرة بن جندب ، به ، وإسناده ضعيف فإنَّ الحسن لم يسمع كل أحاديث سمرة ، وهذا الحديث جاء التصريح بأنه لم يسمعه الحسن من سمرة كما في " مسند الإمام أحمد " 5/10 .

وقد أجمعوا على أنَّه لا قصاص بين العبيدِ والأحرار في الأطراف ، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الحديث مطَّرَحٌ لا يُعمل به ، وهذا مما يُستدلُّ به على أنَّ المراد بقوله تعالى : { النَّفْسَ بالنَّفْسِ } (1) الأحرار ؛ لأنَّه ذكر بعده القصاص في الأطراف ، وهو يختصُّ بالأحرار(2) .
ومنها : أنْ يَقتُلَ المسلم كافراً ، فإنْ كان حربياً ، لم يقتل به بغير خلافٍ(3) ؛ لأنَّ قتل الحربيِّ مباحٌ بلا ريب ، وإنْ كان ذمياً أو معاهَداً ، فالجمهور على أنَّه لا
يقتل به أيضاً(4) ، وفي " صحيح البخاري " (5)
__________
(1) المائدة : 45 .
(2) انظر : بداية المجتهد 2/710 .
(3) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 ، والهداية للكلوذاني 2/230 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 2/708 .
(4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 ، وبداية المجتهد 2/708 .
اختلف العلماء في قتل المؤمن بالكافر الذمي ، فقال الإمام ابن رشد - رحمه الله - :
وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
فقال قوم : لا يقتل مؤمن بكافر ، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة .
وقال قوم : يقتل به ، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى .
وقال مالك والليث ، لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله .
انظر : بداية المجتهد 2/708 .
(5) الصحيح 1/38 ( 111 ) و4/84 ( 3047 ) و9/13 ( 6903 ) و9/16 ( 6915 ) .

وأخرجه : الشافعي في " المسند " ( 1625 ) و( 1626 ) بتحقيقي ، والطيالسي ( 91 ) ، وعبد الرزاق ( 18508 ) ، والحميدي ( 40 ) ، وابن أبي شيبة ( 27471 ) ( ط الحوت ) ، وأحمد 1/79 ، والدارمي ( 2361 ) ، وابن ماجه ( 2658 ) ، والترمذي ( 1412 ) ، والبزار ( 486 ) ، والنسائي 8/23-24 وفي " الكبرى " ، له ( 6946 ) ، وأبو يعلى
( 451 ) ، وابن الجارود ( 794 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/192 ، والبيهقي 8/28 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 2530 ) .

عن علي ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا
يُقتلُ مسلمٌ بكافرٍ ) .
وقال أبو حنيفة وجماعةٌ من فقهاء الكوفيين : يُقتل به(1) ، وقد روى ربيعةُ ، عن ابن البيلماني، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قتل رجلاً من أهل القبلة برجل من أهل الذمةِ ، وقال : ( أنا أحقُّ من وفَّى بذمَّته )(2) وهذا مرسل ضعيف قد ضعَّفه الإمام أحمد ، وأبو عبيد ، وإبراهيمُ الحربي ، والجوزجاني ، وابنُ المنذر ، والدارقطني ، وقال : ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله ؟ وقال الجوزجاني : إنَّما أخذه ربيعةُ ، عن إبراهيمَ بن أبي يحيى ، عن ابنِ المنكدر ، عن ابن البيلماني ، وابن أبي يحيى : متروك الحديث . وفي " مراسيل أبي داود " حديث آخر مرسل : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَتَلَ يوم خيبر مسلماً بكافرٍ ، قتله غيلةً ، وقال : ( أنا أولى وأحقُّ من وفى بذِمَّته )(3) . وهذا مذهبُ مالك وأهل المدينةِ : أنَّ القتلَ(4) غيلة لا تُشترط له المكافأة ، فَيُقْتَلُ فيه المسلمُ بالكافرِ ، وعلى هذا حملُوا حديثَ ابن البيلماني أيضاً على تقدير صحَّته(5) .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 ، وبداية المجتهد 2/708 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 18514 ) ، وأبو داود في " المراسيل " : 155 ، والدارقطني 3/101 ( 3234 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/30 ، وهو ضعيف كما أشار إليه المصنف .
(3) أخرجه : أبو داود في " المراسيل " : 155 وطبعة الرسالة ( 250 ) و( 251 ) ، وهو في
" مسند الشافعي " ( 1622 ) بتحقيقي ، وانظر هناك تمام تخريجه والتعليق عليه .
(4) من قوله : ( وقال : أنا أولى ... ) إلى هنا سقط ( ص ) .
(5) انظر : بداية المجتهد 2/708 .

ومنها : أنْ يقتل الرجل امرأةً ، فيُقتل بها بغيرِ خلاف(1) ، وفي كتاب عمرو ابن حزمٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ الرَّجُلَ يقتل بالمرأة(2) . وصحَّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قتل يهودياً قتلَ جارية(3) وأكثرُ العلماء على أنَّه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيءٌ . وروي عن عليّ أنَّه يدفع إليهم نصف الدية ؛ لأنَّ ديةَ المرأة نصفُ ديةِ الرجل وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلف وأحمد في رواية عنه(4) .
__________
(1) انظر : بداية المجتهد 2/710 .
(2) أخرجه : ابن حبان ( 6559 ) ، والحاكم 1/395-397 ، والبيهقي 4/89-90 من حديث عمرو بن حزم ، به . وهو ضعيف من حيث الصناعة الإسنادية .
(3) عن أنس - رضي الله عنه - : أنَّ يهودياً قتل جارية على أوضاح ، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
... أخرجه : أحمد 3/170 و203 ، والبخاري 9/5-6 ( 6877 )، ومسلم 5/103 ( 1672 ) ( 15 ) ، وأبو داود ( 4529 ) ، وابن ماجه ( 2666 ) ، والنسائي 8/35-36 ، وابن حبان ( 5992 ) ، والدارقطني 3/118 ( 3315 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/42 من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) انظر : بداية المجتهد 2/710 . وهو قول : عثمان البتي ، وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في " المنتقى " عن الحسن البصري وعطاء : أنَّه لا يقتل الذكر بالأنثى وحكاه الخطابي في " معالم السنن " وهو شاذ . انظر : معالم السنن 4/14 .

وأمَّا التَّاركُ لِدينه المفارق للجماعة ، فالمرادُ به من ترك الإسلام ، وارتدَّ عنه ، وفارقَ جماعة المسلمين(1) ، كما جاء التصريحُ بذلك في حديث عثمان ، وإنَّما استثناه مع من يحلُّ دمه من أهل الشهادتين باعتبارِ ما كان عليه قبل الرِّدَّة وحكم الإسلام لازم له بعدها ، ولهذا يُستتاب ، ويُطلب منه العود إلى الإسلام(2) ،
وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الرِّدَّة من العبادات اختلافٌ مشهورٌ بَيْنَ
العلماء(3) .
وأيضاً فقد يتركُ دينَه ، ويُفارِقُ الجماعة ، وهو مقرٌّ بالشَّهادتين ، ويدَّعي الإسلام ، كما إذا جحد شيئاً مِنْ أركان الإسلام ، أو سبَّ(4) الله ورسولَه ، أو كفرَ ببعضِ الملائكة أو النَّبيِّينَ أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم(5) بذلك(6) ،
وفي " صحيح البخاري " (7)
__________
(1) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/381 ، والمغني 10/72 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/597-598 .
(2) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/848 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/382 ، والهداية للكلوذاني 2/284 بتحقيقنا ، والمغني 10/74 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/600 .
(3) انظر : الهداية للكلوذاني 2/286 بتحقيقنا .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عبارة : ( مع العلم ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : الهداية للكلوذاني 2/286 بتحقيقنا ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/600 .
(7) الصحيح 4/75 ( 3017 ) و9/18 ( 6922 ) .

وأخرجه : عبد الرزاق ( 9413 ) و( 18706 ) ، والحميدي ( 533 ) ، وأحمد 1/217 و282 ، وأبو داود ( 4351 ) ، وابن ماجه ( 2535 ) ، والترمذي ( 1458 ) ، والنسائي 7/104 ، وأبو يعلى ( 2532 ) ، وابن الجارود ( 843 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
( 2865 ) و( 2866 ) و( 2867 ) ، وابن حبان ( 4476 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 11835 ) و( 11850 ) ، والدارقطني 3/85 ( 3157 ) و3/90 ( 3175 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 3/538-539 ، والبيهقي 8/195 و202 و9/71 ، والبغوي
( 2560 ) و( 2561 ) .
قال ابن قدامة : وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ، ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً .
انظر : المغني 10/72 ، والشرح الكبير على متن المقنع 10/72 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/381 .

عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من بدَّل دينَهُ فاقتلوه ) .
ولا فرق في هذا بين الرجلِ والمرأة عندَ أكثر العلماء(1) ، ومنهم من قال : لا
تُقتل المرأةُ إذا ارتدَّت كما لا تُقتل نساء أهلِ دارِ(2) الحربِ في الحرب ، وإنَّما تُقتل رجالُهم ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه(3) ، وجعلوا الكفر الطارئ كالأصلي ، والجمهور فرَّقوا بينهما ، وجعلوا الطارئ أغلظ من الأصلي(4) لما سبقه من الإسلام ، ولهذا يقتل بالرِّدَّة عنه من لا يقتل من أهل الحرب ، كالشَّيخ الفاني والزَّمِن(5) والأعمى ، ولا يُقتلون في الحرب(6) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( التارك لدينه المفارق للجماعة(7) ) يدلُّ على أنَّه لو تاب ورجع إلى الإسلام لم يقتل ؛ لأنَّه ليس بتاركٍ لدينه بعد رجوعه ، ولا مفارقٍ للجماعة(8) .
__________
(1) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/847 ، ورؤوس المسائل في الخلاف 2/972 ، والهداية للكلوذاني 2/285 بتحقيقنا ، والمغني 10/72 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 5/381 ، ومنتهى الإرادات 2/499 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/847 ، وتحفة الفقهاء 3/309 ، والمغني 10/72 .
(4) عبارة : ( من الأصلي ) سقطت من ( ج ) .
(5) أي : المبتلى ، والزَّمانة : العاهة . لسان العرب 6/87 .
(6) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/972 ، والمهذب 5/208 ، وتحفة الفقهاء 3/309 .
(7) سبق تخريجه .
(8) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/848 ، والمغني 10/76 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/600 .

فإنَّ قيل : بل استثناء هذا ممَّن يعصم دَمُه من أهل الشهادتين يدلُّ على أنَّه يقتل ولو كان مقراً بالشهادتين ، كما يقتل الزاني المُحصَن ، وقاتل النفس ، وهذا يدلُّ على أنَّ المرتدَّ لا تُقبل توبتُه(1) ، كما حُكي عن الحسن ، أو أنْ يحمل ذلك على منِ ارتدَّ ممَّن وُلِدَ على الإسلام ، فإنَّه لا تُقبل توبتُه(2) ، وإنَّما تقبل توبةُ مَنْ كانَ كافراً ، ثم أسلم ، ثم ارتدَّ على قول طائفةٍ من العلماء ، منهم : الليثُ بنُ سعدٍ ، وأحمد في رواية عنه ، وإسحاق . قيل : إنَّما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبْلَ مفارقة دينه كما سبق تقريره ، وليس هذا كالثيبِ الزَّاني ، وقاتل النفس ؛ لأنَّ قتلَهُما وَجب عقوبةً لجريمتهما الماضية ، ولا يُمكن تلافي ذلك(3) .
وأمَّا المرتدُّ ، فإنَّما قُتِلَ لوصفٍ قائمٍ به في الحال ، وهو تركُ دينه ومفارقةُ الجماعة ، فإذا عاد إلى دينِهِ ، وإلى موافقته الجماعة ، فالوصف الذي أُبيح به دمُه قدِ انتفى ، فتزولُ إباحةُ دمِهِ ، والله أعلم(4) .
فإنْ قيل : فقد خرَّج النَّسائي(5) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث خصالٍ : زانٍ محصن يُرجَمُ ، ورَجُلٍ قتل متعمداً فيُقتل ، ورجلٍ يخرجُ من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل ، أو يُصلب ، أو يُنفى من الأرض ) . وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ من جمع بين الردَّة والمحاربة .
قيل : قد خرَّج أبو داود(6)
__________
(1) انظر : المغني 10/76 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 .
(2) من قوله : ( كما حكي عن الحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) انظر : المغني 10/76 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/394 .
(4) انظر : المغني 10/76 .
(5) في " المجتبى " 7/101-102 ، وفي " الكبرى " ( 3511 ) ، وهو صحيح .
(6) في " سننه " ( 4353 ) .

وأخرجه : النسائي 7/101-102 و8/23 وفي " الكبرى " ، له ( 3511 ) و( 6945 ) ، وهو حديث صحيح .

حديث عائشة بلفظ آخر ، وهو أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يحلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله إلا في إحدى(1) ثلاث : [ رجل ](2) زنى بعد إحصانٍ فإنَّه يُرجم ، ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنَّه يقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض ، أو يقتل نفساً فيقتل بها ) .
وهذا يدلُّ على أنَّ مَنْ وُجِدَ منه الحِراب من المسلمين، خُيِّرَ الإمامُ فيه مطلقاً ، كما يقوله علماءُ أهلِ المدينة مالك وغيره(3)، والرواية الأولى قد تُحمل على أنَّ المرادَ بخروجه عن الإسلام خروجُه عن أحكام الإسلام(4) ، وقد تُحمل على ظاهرها ، ويستدلُّ بذلك مَنْ يقول : إنَّ آيةَ(5) المحاربة تختصُّ بالمرتدين(6)
__________
(1) في " سنن أبي داود " : ( بإحدى ) .
(2) ما بين المعكوفتين زيادة من " سنن أبي داود " .
(3) انظر : بداية المجتهد 2/816 .
(4) انظر : نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/597-598 .
(5) لم ترد في ( ص ) .
(6) انظر : تفسير البغوي 2/43 ، والدر المنثور 2/492 .

قال ابن قدامة في " المغني " 10/297 : ( وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين ، وبه يقول مالك والشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وحكي عن ابن عمر أنَّه قال : نزلت هذه الآية في المرتدين ، وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وعبد الكريم ؛ لأنَّ سبب نزولها قصة العرنيين ، وكانوا ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الرعاة ، فاستاقوا إبل الصدقة ، فبعث النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من جاء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة حتىّ ماتوا ، قال أنس : فأنزل الله تعالى في ذلك { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ } المائدة : 33 .

، فمن ارتدَّ وحارب فُعِل به ما في الآية ، ومن حارب من غيرِ رِدَّةٍ ، أقيمت عليه أحكامُ المسلمين مِنَ القِصاص والقطع في السرقة ، وهذا رواية عن أحمد لكنَّها غيرُ مشهورةٍ عنه ، وكذا قالت طائفة من السَّلف : إنَّ آية المحاربة تختصُّ بالمرتدين ، منهم : أبو قِلابة
وغيرُه(1) .
وبكلِّ حالٍ فحديث عائشة ألفاظُه مختلفةٌ ، وقد روي عنها مرفوعاً، وروي عنها موقوفاً ، وحديثُ ابنِ مسعودٍ لفظه لا اختلاف فيه ، وهو ثابت متفق على صحته ، ولكن يُقال على هذا : إنَّه قد ورد قتلُ المسلم بغير إحدى هذه الخصال الثلاث :
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/278 بتحقيقنا ، والمغني 10/303 ، ومنتهى الإرادات 2/491 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/587-588 .

فمنها : في اللواط ، وقد جاء من حديثِ ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( اقتُلوا الفاعِلَ والمفعولَ به ) (1) ، وأخذ به كثيرٌ من العلماء كمالكٍ وأحمد ، وقالوا : إنَّه موجبٌ للقتل بكلِّ حالٍ ، محصناً كان أو غير محصن(2) ، وقد رُوي عن عثمان أنَّه قال : لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلا بأربع ، فذكر الثلاثة المتقدمة ، وزاد : ورجل عمِلَ عمَلَ قوم لوط(3) .
ومنها من أتى ذات محرم ، وقد روي الأمر بقتله ، وروي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قتل من تزوَّجَ بامرأة أبيه(4)
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 13492 ) ، وأحمد 1/300 ، وعبد بن حميد ( 575 ) ، وأبو داود ( 4462 ) ، وابن ماجه ( 2561 ) ، والترمذي ( 1456 ) وفي " العلل الكبير " ، له
( 251 ) ، وأبو يعلى ( 2463 ) و( 2743 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "
( 3834 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11568 ) و( 11569 ) ، والدارقطني 3/96
( 3207 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 4/355 ، والبيهقي 8/231-232 وفي
" معرفة السنن والآثار " ، له ( 5087 ) ، وإسناده ضعيف ، وانظر تعليق الترمذي عقب الحديث في " جامعه " .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/316 ، والجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 210 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 3/553 .
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة ( 27905 ) و(28350 ) وطبعة الرشد ( 28362 ) و( 28816 ).
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 33607 ) و( 36149 ) ( ط الحوت ) ، وأحمد 4/290 و295 ، وابن ماجه ( 2607 ) ، والترمذي ( 1362 ) ، والنسائي 6/109 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 2592 ) عن البراء بن عازب ، عن خاله ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 10804 ) ، وأحمد 4/292 و297 ، وأبو داود ( 4457 ) ، والنسائي 6/109-110 ، والبيهقي 7/162 عن البراء بن عازب ، عن عمه ، به .

وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 28866 ) ( ط الحوت ) عن البراء بن عازب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، به .

، وأخذ بذلك طائفةٌ من العلماء ، وأوجبوا قتله مطلقاً محصناً كان أو غير محصن(1) .
ومنها الساحر : وفي " الترمذي " (2) من حديث جُندب مرفوعاً(3) : ( حدُّ السَّاحر(4) ضربةٌ بالسَّيف ) ، وذكر أنَّ الصحيح وقفه على جندب(5) ، وهو مذهبُ جماعةٍ من العلماء ، منهم : عُمَرُ بنُ عبد العزيز ومالك وأحمد وإسحاق ، ولكن هؤلاء يقولون : إنَّه يكفر بسحره ، فيكون حكمُه حكمَ المرتدين(6) .
ومنها : قتلُ من وقع على بهيمة ، وقد ورد فيه حديث مرفوع(7)
__________
(1) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/318-319 ، وشرح السنة 10/305 .
(2) في " جامعه " ( 1460 ) ، وضعّف المرفوع ثم أعله بالوقف .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1665 ) و( 1666 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/462 ، والدارقطني 3/90 ( 3179 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 4/360 ، والبيهقي 8/136 من حديث جندب ، به .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 18752 ) من طريق الحسن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرسلاً .
(3) عبارة : ( من حديث جندب مرفوعاً ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( حده ) .
(5) انظر : جامع الترمذي ( 1460 ) ، والرواية الموقوفة أخرجها : البيهقي في السنن الكبرى 8/136 .
(6) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/303 ، والمغني 10/106 و111 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/601 .
(7) ونصه : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : ( من وقع على ذات محرم فاقتلوه ، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ) .

أخرجه : عبد الرزاق ( 13492 ) ، وأحمد 1/269 و300 ، وأبو داود ( 4464 ) ، والترمذي (1455)، والدارقطني 3/96 (3210) (ط دار الكتب العلمية)، والحاكم 4/355، والبيهقي 8/231 و232 من حديث عبد الله بن عباس ، به ، وقد أعله الترمذي بالوقف .

، وقال به
طائفةٌ من العلماء(1) .
ومنها : من ترك الصَّلاة ، فإنَّه يُقتل عندَ كثيرٍ من العُلماء مع قولهم : إنَّه ليس
بكافرٍ ، وقد سبق ذكرُ ذلك مستوفى .
ومنها قتلُ شاربِ الخمر في المرَّة الرابعة ، وقد ورد الأمرُ به عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من
وُجوهٍ متعدِّدَةٍ(2)
__________
(1) انظر : الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 218 .
(2) حديث صحيح نصه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ) .
... أخرجه : عبد الرزاق ( 17087 ) ، وأحمد 4/95 و96 و101 ، وأبو داود ( 4482 ) ، وابن ماجه ( 2573 ) ، والترمذي ( 1444 ) وفي " العلل الكبير " ، له ( 246 ) ، وأبو يعلى ( 7363 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/159 ، وابن حبان ( 4446 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 767 ) و( 768 ) ، والحاكم 4/372 ، والبيهقي 8/313 من حديث معاوية بن أبي سفيان ، به .
وأخرجه : أبو داود ( 4483 ) ، والنسائي 8/313 ، والحاكم 4/371 من حديث عبد الله ابن عمر ، به .
وأخرجه : أحمد 2/291 ، وأبو داود ( 4484 ) ، وابن ماجه ( 2572 ) ، والنسائي 8/314 ، وابن حبان ( 4447 ) ، والحاكم 4/371 من حديث أبي هريرة ، به .

وأخرجه : ابن حبان ( 4445 ) من حديث أبي سعيد ، به .

، وأخذَ بذلك عبدُ الله بنُ عمرو بن العاص وغيره ، وأكثر العلماء على أنَّ القتل انتسخ ، وروي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بالشَّارب في المرَّةِ الرَّابعة، فلم يقتُله(1). وفي " صحيح البخاري " (2) : أنَّ رجلاً كان يُؤتى به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الخمر ، فلعنه رجلٌ ، وقال : ما أكثرَ ما يُؤتى به ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تلعنه ؛ فإنَّه يُحِبُّ الله ورسوله ) ولم يقتله بذلك .
وقد روي قتلُ السارق في المرة الخامسة(3) ، وقيل : إنَّ بعضَ الفُقهاء ذهبَ

إليه(4) .
ومنها : ما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( إذا بُويِعَ لِخَلِيفَتين ، فاقتلوا الآخرَ
منهما ) خرَّجه مسلم (5) من حديث أبي سعيد ، وقد ضعف العقيلي أحاديثَ هذا الباب كلها(6) .
ومنها : قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( من أتاكم وأمرُكُم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ ، فأراد
أنْ يشقَّ عصاكم ، أو يفرِّقَ جماعَتَكُم فاقتلوه ) (7) ، وفي رواية : ( فاضربوا
رأسه بالسيف كائناً من كان ) . وقد خرَّجه مسلم(8) أيضاً من رواية
عرفجة .
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 4485 ) من حديث قبيصة بن ذؤيب ، وهو مرسل . انظر : تهذيب الكمال 6/94 ( 5431 ) .
(2) في " صحيحه " 8/197 ( 6780 ) من حديث عمر بن الخطاب ، به .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4410 ) ، والنسائي 8/90-91 من حديث جابر بن عبد الله ، وهو ضعيف كما سيأتي وضعفه النسائي .
وأخرجه : النسائي 89-90 من حديث الحارث بن حاطب ، وهو ضعيف كما سيأتي .
(4) انظر : شرح الزركشي على متن الخرقي 4/73-74 .
(5) في " صحيحه " 6/23 ( 1853 ) ( 61 ) .
(6) انظر : الضعفاء الكبير للعقيلي 3/457 .
(7) أخرجه : مسلم 6/23 ( 1852 ) ( 60 ) .
(8) في " صحيحه " 6/22-23 ( 1852 ) ( 59 ) .
وأخرجه : أحمد 4/261 و341 و5/24 ، وأبو داود ( 4762 ) ، والنسائي 7/92-93 من حديث عرفجة ، به .

ومنها : من شَهَرَ السِّلاحَ ، فخرَّج النسائيُّ(1) من حديث ابن الزبير ، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ شَهَرَ السِّلاحَ ثم وضعه ، فدمه هدرٌ ) ، وقد روي عن ابن الزبير
مرفوعاً وموقوفاً ، وقال البخاري : إنَّما هو موقوف(2) .

وسئل أحمد عن معنى هذا الحديث ، فقال : ما أدري ما هذا . وقال إسحاق ابن راهويه : إنَّما يريد من شهر سلاحه ثمَّ وضعه في النَّاس حتّى استعرض النَّاس ، فقد حل قتله ، وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنِّساء والذرية .
وقد رُوِيَ عن عائشة ما يخالف تفسير إسحاق ، فخرَّج الحاكم(3) من رواية علقمة ابن أبي علقمة ، عن أمِّه : أنَّ غلاماً شهر السَّيف على مولاه في إمرةِ سعيدِ بن
العاص، وتفلَّت به عليه ، فأمسكه النَّاسُ عنه ، فدخل المولى(4) على عائشة ، فقالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من أشارَ بحديدةٍ إلى أحدٍ من المسلمين يريد قتله ، فقد وجب دمه ) فأخذه مولاه فقتله ، وقال : صحيح على شرط الشيخين (5) .
وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال : ( من قُتِلَ دون ماله ، فهو شهيد ) (6)
__________
(1) في " المجتبى " 7/117 ، وأخرجه : الحاكم 2/159 من حديث عبد الله بن الزبير ، وتفصيل الكلام عليه في كتابي " الجامع في العلل " .
(2) انظر : علل الترمذي 1/327 .
(3) في " مستدركه " 2/158-159 .
... وأخرجه : أحمد 6/266 ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1287 ) و( 1288 ) ، وهو حديث ضعيف ، فإنَّ في إسناده أم علقمة مرجانة مقبولة حيث تتابع ولم تتابع ، بل قد انفردت ، وهي ممن لا يحتمل تفرده .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : المستدرك 2/159 .
(6) أخرجه : عبد الرزاق ( 18566 ) و( 18567 ) ، وأحمد 2/163 و206 و221 ، والبخاري 3/179 ( 2480 ) ، ومسلم 1/87 ( 141 ) ( 226 )، والترمذي ( 1419 ) ، والنسائي 7/114-115 من حديث عبد الله بن عمرو ، به .

وللحديث طرق أخرى .

، وفي رواية : ( ومن قتل دون دمه ، فهو شهيد )(1) .
فإذا أريد مالُ المرء أو دمُه ، دافع عنه بالأسهل . هذا مذهب الشافعي(2) وأحمد ، وهل يجب أنْ ينوي أنَّه لا يريد قتله أم لا ؟ فيه روايتان عن الإمام
أحمد(3) .
وذهب طائفة إلى أنَّ مَنْ أراد مالَه أو دمَه ، أُبيح له قتلُه ابتداء ، ودخل على ابن عمرَ لِصٌّ ، فقام إليه بالسيف صلتاً ، فلولا أنَّهم حالوا بينه وبينه ، لقتله(4) . وسئل الحسنُ عن لصٍّ دخل بيت رجلٍ ومعه حديدة ، قال : اقتله بأيِّ قتلة قدرتَ عليه ، وهؤلاء أباحوا قتله وإنْ ولَّى هارباً من غير جناية(5) ، منهم : أيوبُ السَّختياني .
وخرَّج الإمام أحمد(6) من حديث عبادة بن الصامت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( الدَّارُ حرمك ، فمن دخل عليك حَرَمَكَ ، فاقتله ) ولكن في إسناده ضعف .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 233 ) ، وأحمد 1/190 ، وأبو داود ( 4772 ) ، والترمذي
( 1421 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 342 ) ، والبيهقي 3/266 و8/335 من حديث سعيد بن زيد ، به .
(2) لم يرد في ( ص ) .
(3) عبارة : ( عن الإمام أحمد ) لم ترد في ( ص ) ، وانظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/476-477 .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 18557 ) و( 18818 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
وانظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/476-477 .
(5) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/477 .
(6) في " مسنده " 5/326 .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 4/130 ، وابن عدي في " الكامل " 7/498 ، والبيهقي 8/341 من حديث عبادة بن الصامت ، به .

ومنها : قتلُ الجاسوسِ المسلم إذا تجسَّسَ للكفار على المسلمين ، وقد توقَّف فيه أحمد(1) ، وأباح قَتْلَهُ طائفة من أصحاب مالِك ، وابنُ عقيل من
أصحابنا(2) ، ومن المالكية مَنْ قال : إنْ تكرَّر ذلك منه ، أُبِيحَ قتله(3) ، واستدلَّ من أباحَ قتله(4) بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتابَ إلى أهلِ مكَّةَ يخبرهم بسير النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم(5)، ويأمرهم بأخذ حذرهم، فاستأذن عمرُ في قتله ، فقال : ( إنَّه شهدَ بدراً ) (6) ، فلم يقل : إنَّه لم يأتِ ما يُبيحُ دمه ، وإنَّما علَّل بوجود مانعٍ مِنْ قتله ، وهو شهودُه بدراً ومغفرةُ الله لأهل بدر ، وهذا المانعُ منتفٍ في حقِّ مَنْ بعدَه .
ومنها : ما خرَّجه أبو داود في " المراسيل " (7)
__________
(1) انظر : السياسة الشرعية : 123 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1158 ، والولاء والبراء في الإسلام : 301 .
(2) انظر : منح الجليل على مختصر سيدي خليل 3/163 ، والشرح الكبير للدردير 2/182 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1159 ، والولاء والبراء في الإسلام : 301 .
(3) انظر : أحكام القرآن لابن العربي 4/1771 ، والجامع لأحكام القرآن 18/53 .
... وممن قال بذلك : عبد الملك بن الماجشون إذ قال : إن كانت تلك عادته قُتل ؛ لأنَّه جاسوس . انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1159 .
... قال القرطبي في تفسيره : ( ولعل ابن الماجشون إنَّما اتخذ التكرار في هذا ؛ لأنَّ حاطباً أُخذ في أول فعله ، والله أعلم ) . الجامع لأحكام القرآن 18/53 .
(4) عبارة : ( واستدل من أباح قتله ) لم ترد في ( ص ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : البخاري 4/72 ( 3007 ) ، ومسلم 7/167 ( 2494 ) ( 161 ) .
(7) المراسيل : 234 .

وأخرجه أيضاً : ابن عدي في " الكامل " 2/210 .

من رواية ابن المسيَّب : أنَّ
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من ضرب أباه فاقتلوه ) ورُويَ مسنداً من وجهٍ آخرَ لا
يصحُّ(1) .
وأعلم أنَّ من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصحُّ ولا يُعرف به قائلٌ معتبر ، كحديث : ( مَنْ ضرب أباه فاقتلوه ) ، وحديث : ( قتل السارق في المرة
الخامسة ) (2) . وباقي النصوص كلُّها يمكن ردُّها إلى حديث ابن مسعود ، وذلك أنَّ حديثَ ابنِ مسعودٍ تضمَّن أنَّه لا يُستباح دمُ المسلم إلاَّ بإحدى ثلاث خصالٍ : إمَّا أنْ يترك دينه ويفارق جماعة المسلمين ، وإمَّا أنْ يزني وهو محصن ، وإمَّا أنْ يقتل نفساً بغير حقٍّ (3) .
فيؤخذ منه أنَّ قتل المسلم لا يُستباح إلاَّ بأحد ثلاثة أنواع : تركِ الدين ، وإراقةِ الدم المحرَّم ، وانتهاك الفرج المحرَّم ، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تُبيح دم المسلم دون غيرها .
فأما انتهاكُ الفرج المحرّم ، فقد ذكر في الحديث أنَّه الزنا بعد الإحصان ، وهذا - والله أعلم - على وجه المثال ، فإنَّ المحصن قد تمَّت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة
بالنِّكاح(4) ، فإذا أتاها بعد ذلك مِنْ فرجٍ محرَّمٍ عليه ، أُبيح دمه(5) ، وقد ينتفي شرط
الإحصان ، فيخلفه شرط آخر ، وهو كون الفرج لا يُستباحُ بحال ، إمَّا مطلقاً كاللواط ، أو في حقِّ الواطئ ، كمن وطىء ذاتَ محرم بعقد أو غيره ، فهذا الوصف هل يكون قائماً مقامَ الإحصان وخلفاً عنه ؟ هذا هو محلُّ النِّزاع بين العلماء ، والأحاديثُ دالَّةٌ على أنَّه يكون خلفاً عنه ، ويُكتفى به في إباحة الدم(6) .
__________
(1) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 2/209-210 من حديث أبي هريرة ، به . وسنده ضعيف جداً .
(2) سبق تخريجه .
(3) في ( ص ) : ( نفس ) .
(4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/400-401 .
(5) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/318-319 .
(6) انظر : تحفة الفقهاء 3/138-139 .

وأما سفك الدَّم الحرام ، فهل يقومُ مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء ، كتفريق جماعة المسلمين(1) ، وشقِّ العصا(2) ، والمبايعةِ لإمامٍ ثانٍ(3) ، ودلِّ الكُفَّارِ على عورات المسلمين(4) ؟ هذا هو محلُّ النزاع . وقد روي عن عمر ما يَدُلُّ على
إباحة القتل بمثل هذا(5) .
وكذلك شهرُ السلاح لطلب القتل : هل يقومُ مقامَ القتل في إباحة الدم أم
لا ؟ فابنُ الزبير وعائشة رأياه قائماً مقام القتل الحقيقي في ذلك(6) .
__________
(1) من قوله : ( الفتن المؤدية ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1156 و1160 و1161 .
(6) انظر : المجتبى للنسائي 7/117 ، والمستدرك 2/159 ، والنهاية 2/515 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/117 .

وكذلك قطعُ الطَّريق بمجرَّده : هل يبيحُ القتلَ أم لا ؟ لأنَّه مظِنَّةٌ لسفك
الدِّماء المحرَّمة ، وقول الله - عز وجل - : { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } (1) ، يدلُّ على أنَّه إنَّما يُباحُ قتل النفس
بشيئين : أحدهما : بالنفس(2) ، والثاني : بالفساد في الأرض ، ويدخل في
الفساد في الأرض : الحراب(3) والرِّدَّة ، والزنى ، فإنَّ ذلك كلَّه فساد في
الأرض(4)، وكذلك تكرُّر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنةُ سفكِ الدِّماء المحرمة. وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر على حدِّه ثمانينَ ، وجعلوا السكر مَظِنَّة الافتراءِ والقذفِ الموجب لجلد الثمانين(5) ، ولمَّا قدِمَ وفدُ عبدِ القيس على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ونهاهُم عن الأشربة والانتباذِ في الظُّروف قال : ( إنَّ أَحَدَكُم ليقومُ إلى ابن عمه - يعني : إذا شرب - فيضربه بالسَّيف ) ، وكان فيهم رجلٌ قد أصابته جراحةٌ مِنْ ذلك (6) ، فكان يخبؤها حياءً من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(7) فهذا كلُّه يرجِعُ إلى إباحة الدَّم بالقتل إقامة لمظان القتل مقامَ حقيقته ، لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق وهذا هو محلُّ النِّزاع .
__________
(1) المائدة : 32 .
(2) انظر : تحفة الفقهاء 3/99 .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/456 ، ومنتهى الإرادات 2/491 .
(4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/397 .
(5) انظر : مستدرك الحاكم 4/375-376 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/462 .
(6) من ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : مسلم 1/36 ( 18 ) ( 26 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .

وأما تركُ الدين ، ومفارقةُ الجماعة ، فمعناه : الارتدادُ عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين ، فلو سبَّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مقرٌّ بالشهادتين ، أُبيح دمُه ؛ لأنَّه قد ترك بذلك دينه(1) .
وكذلك(2) لو استهان بالمُصحف ، وألقاه في القاذورات ، أو جحد ما يُعلم من الدِّين بالضَّرورة كالصلاة ، وما أشبه ذلك ممَّا يُخرج منَ الدِّين(3) .
وهل يقومُ مقامَ ذلك تركُ شيء مِنْ أركان الإسلام الخمس ؟ وهذا ينبني على أنَّه هل يخرج من الدِّين بالكُلِّيَّة بذلك أم لا ؟ فمن رآه خروجاً عنِ الدِّين ، كان عنده كتركِ الشَّهادتين وإنكارهما ، ومن لم يره خروجاً عن الدِّين ، فاختلفوا هل يلحقُ بتارك الدِّين في القتل ، لكونه ترك أحدَ مباني الإسلام أم لا ؟ لكونه لم يخرج عن الدِّين .
__________
(1) انظر : المغني 10/103 ، ومنتهى الإرادات 2/498 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/597-598 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : المغني 10/82-83 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/386 ، ومنتهى الإرادات 2/498-499 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/598 .

ومِنْ هذا الباب ما قاله كثيرٌ من العلماء في قتل الدَّاعية إلى البدع ، فإنَّهم نظروا إلى أنَّ ذلك شبيهٌ بالخروج عَنِ الدِّين ، وهو ذريعةٌ ووسيلة إليه ، فإن استخفى بذلك ولم يَدْعُ غيرَه ، كان حُكمُه حكمَ المنافقين إذا استخفَوا ، وإذا دعا إلى ذلك ، تَغَلَّظ جرمُه بإفساد دين الأمة(1) . وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج وقتلهم(2) . وقد اختلف العلماء في حكمهم .
فمنهم من قال : هم كفَّارٌ ، فيكون قتلُهم لكفرهم(3) .
ومنهم من قال : إنَّما يُقتلون لفسادهم في الأرض(4) بسفكِ دماءِ المسلمين وتكفيرهم لهم ، وهو قولُ مالكٍ وطائفة من أصحابنا ، وأجازوا الابتداء بقتالهم ، والإجهازَ على جريحهم .
ومنهم من قال : إن دَعَوْا إلى ما هُمْ عليه ، قوتلوا ، وإنْ أظهروه ولم يدعوا إليه لم يُقاتلوا ، وهو نصُّ أحمد وإسحاق ، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة .
ومنهم من لم يرَ البداءة بقتالهم حتّى يبدءوا بقتالٍ يُبيح قتالَهم مِنْ سفك دماءٍ
ونحوه ، كما رُوِيَ عن عليٍّ ، وهو قولُ الشافعي وكثيرٍ من أصحابنا(5) .
__________
(1) الإيمان لابن تيمية : 225-226 ، والولاء والبراء في الإسلام : 308 .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 168 ) ، وأحمد 1/81 و113 و131 و156 ، والبخاري 4/244
( 3611 ) و6/243 ( 5057 ) و9/21 ( 6930 ) ، ومسلم 3/113-114 ( 1066 ) ( 154 ) ، وأبو داود ( 4767 ) ، والنسائي 7/119 ، وأبو يعلى ( 261 ) و( 324 ) ، وأبو القاسم البغوي في " الجعديات " ( 2595 ) ، وابن حبان ( 6739 ) ، والبيهقي 8/187-188 وفي " دلائل النبوة " ، له 6/430 ، والبغوي ( 2554 ) من حديث علي بن أبي طالب ، به .
(3) انظر : فتح الباري 6/755 ، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 2/352 .
(4) في الأرض ) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 4/161-163 .

وقد روي من وجوه متعددة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجلٍ كان يُصلي ، وقال : ( لو قتل ، لكان أوَّلَ فتنةٍ وآخرها ) (1) ، وفي رواية : ( لو قُتِلَ ، لم يختلف
رجلان من أمتي حتى يخرجَ الدَّجَّالُ ) ، خرّجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره(2) . فيستدلَّ بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شرَّه عن المسلمين ، ويحسم مادة الفتن(3) .
وقد حكى ابنُ عبد البر وغيرُه عن مذهبِ مالكٍ جوازَ(4) قتل الدَّاعي إلى البدعة .
فرجعت نصوصُ القتل كلُّها إلى ما في حديث ابن مسعود(5) بهذا التقدير ، ولله الحمد .
وكثيرٌ من العلماء يقولُ في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا : إنَّها منسوخةٌ (6) بحديث ابنِ مسعودٍ ، وفي هذا نظرٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّه لا يُعلم أنَّ حديثَ ابنِ مسعود كان متأخراً عن تلك النصوص كلِّها ، لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين . وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخَّر إسلامُه كأبي هريرة ، وجريرِ بنِ عبد الله ، ومعاوية ، فإنَّ هؤلاء كلهم
رووا حديثَ(7) قتل شارب الخمر في المرة الرابعة(8) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/42 من حديث أبي بكرة ، به .
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1851 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/52 و53 و226 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/287-288 من حديث أنس بن مالك ، به .
وانظر : مجمع الزوائد 6/225-226 ، وفتح الباري 12/299 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في" الحلية " 3/52-53 و226 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/287-288 من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) انظر : الولاء والبراء في الإسلام : 308 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( من قدماء المهاجرين ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) انظر : شرح السيوطي لسنن النسائي 8/90-91 .

والثاني : أنَّ الخاصَّ لا يُنْسَخُ بالعامِّ ، ولو كان العامُّ متأخراً عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ؛ لأنَّ دلالة الخاصِّ على معناه بالنصِّ ، ودلالة العام عليهِ بالظاهر عندَ الأكثرين ، فلا يُبطِلُ الظاهرُ حكمَ النص(1) . وقد روي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجل كذَب عليهِ في حياته ، وقال لحيٍّ من العرب : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني وأمرني أنْ أحكمَ في دمائِكم وأموالكم ، وهذا رُوي من وجوهٍ متعدِّدةٍ كلها ضعيفة(2) ، وفي بعضها أنَّ هذا الرجل كانَ قد خطب امرأةً منهم في الجاهلية ، فأبوا أنْ يُزوِّجوه ، وأنَّه لمَّا قالَ لهم هذه المقالة صدَّقوه ، ونزل على تلك المرأة ، وحينئذٍ
فهذا الرَّجُلُ قد زنى(3)، ونسب إباحةَ ذَلِكَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4)، وهذا كفرٌ وردَّة عن الدِّين .
وفي " صحيح مسلم " (5)
__________
(1) انظر : التقريب والإرشاد الصغير 3/11-12 ، وقواطع الأدلة 1/200 ، والبحر المحيط 2/393 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 6215 ) من حديث عبد الله بن محمد بن الحنيفة ، به .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 2112 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، به .
انظر : مجمع الزوائد 1/145 .
(3) عبارة : ( قد زنى ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 5/81-82 من حديث بريدة ، به .
(5) الصحيح 8/119 ( 2771 ) ( 59 ) .
... وأخرجه : أحمد 3/281 ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 1/498 ، والحاكم 4/39-40 من حديث أنس بن مالك ، به .

وأخرجه : الطحاوي في" شرح المشكل " ( 4953 ) من حديث علي ، به .

: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر علياً بقتل القبطي الذي كان
يدخل على أمِّ ولده مارية ، وكان الناسُ يتحدثون بذلك ، فلما وجده عليٌّ مجبوباً تركه . وقد حمله بعضُهم على أنَّ القبطيَّ لم يكن أسلمَ بعدُ ، وأنَّ المعاهَدَ إذا فعل ما يُؤذي المسلمين انتقض عهدُه ، فكيف إذا آذى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ وقال بعضهم : بل كان مسلماً ، ولكنَّه نُهي عن ذلك فلم ينته ، حتَّى تكلَّم الناسُ بسببه في فراش النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأذى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فراشه(1) مبيحٌ للدم ، لكن لما ظهرت براءتُه بالعيان ، تبيَّن للناس براءةُ مارية ، فزال السببُ المبيح للقتل(2) .
وقد رُوي عن الإمام أحمد : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يَقْتُلَ بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود ، وغَيْرُهُ ليس له ذلك ، كأنَّه يُشير إلى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يُعَزِّرَ بالقتل إذا رأى ذلك مصلحةً ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من التعدِّي والحَيْفِ ، وأما غيرُه فليس لهُ ذَلِكَ ؛ لأنَّه غير مأمون عليهِ التعدِّي بالهوى . قالَ أبو داود : سمعتُ أحمد سُئِلَ عن حديث أبي بكر ما كانت لأحدٍ بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لم يكن لأبي بكر أنْ يقتل رجلاً إلا بإحدى ثلاثٍ(3)
__________
(1) عبارة : ( في فراشه ) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 9/103 .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4363 ) .
وانظر : مسائل الإمام أحمد : 226-227 برواية أبي داود .

، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان له ذَلِكَ أنْ يقتل ، وحديث أبي بكر المشار إليه هو أنَّ رجلاً كلم أبا بكر فأغلظ له ، فقال له أبو برزة : ألا أقتلُه يا خليفةَ رسولِ الله ؟ فقال أبو بكر : ما كانت لأحدٍ بعدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(1) .
وعلى هذا يتخرَّجُ حديثُ الأمرِ بقتل هذا القبطي ، ويتخرَّجُ عليه أيضاً حديثُ الأمر بقتل السارق إنْ كان صحيحاً ، فإنَّ فيه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله في
أوَّلِ مرةٍ ، فراجعوه فيه فقطعه ، ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله ،
فيُراجع فيه ، فيُقطع حتَّى قُطعت أطرافُه الأربع ، ثمَّ قتل في الخامسة ، والله تعالى أعلم(2) .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 6 ) ، وأحمد 1/9، وأبو داود ( 4363 ) ، والنسائي 7/109-110 ، والحاكم 4/354 من حديث أبي برزة ، به ، وهو صحيح .
(2) أخرجه : أبو داود ( 4410 ) ، والنسائي 8/90-91 من حديث جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : النسائي 8/89-90 من حديث الحارث بن حاطب ، به .
وانظر : معالم السنن 3/270-271 .


الحديث الخامس عشرعَنْ أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - عن رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بالله واليَومِ
الآخرِ ، فَلْيَقُلْ خَيراً أَوْ لِيَصْمُتْ ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ ، فَليُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ) رواه البخاريُّ ومُسلمٌ(1).
هذا الحديث خرَّجاه من طُرُقٍ عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : ( فلا يؤذ جاره ) وفي بعض ألفاظها : ( فليُحسن قِرى ضيفِه ) ، وفي بعضها : ( فليَصِلْ رحمه ) بدل ذكر الجار .
وخرَّجاه أيضاً بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/13 ( 6018 ) و8/39 ( 6136 ) ، 8/125 ( 6475 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 47 ) ( 74 ) و( 75 ) و( 76 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 368 ) و( 372 ) ، والطيالسي ( 2347 ) ، وأحمد 2/267 و269 و433 و463 ، وابن ماجه ( 3971 ) ، وأبو داود ( 5154 ) ، والترمذي ( 2500 )، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 324 ) ، وفي " الصمت " ، له ( 40 )، والبزار ( 2031 ) ، وأبو يعلى ( 6218 ) ، وأبو عوانة ( 94 ) ، وابن حبان ( 506 )
و( 516 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 298 ) و( 299 ) و( 300 ) و( 301 ) ، والحاكم 4/164 ، والقضاعي ( 469 ) ، والبيهقي في " الكبرى " 8/164 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 9532 ) و( 9533 ) ، والبغوي ( 4121 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أخرجه : البخاري 8/13 ( 6019 ) و8/39 ( 6135 ) و8/125 ( 6476 ) ، ومسلم 5/137 ( 48 ) ( 15 ) و( 16 ) .

وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة(1) وابن مسعود(2)
وعبد الله بن عمرو(3)، وأبي أيوب الأنصاري(4) وابن عباس(5) وغيرهم مِنَ
الصَّحابة .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كان يؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر ) فليفعل كذا وكذا ، يدلُّ على أنَّ هذه الخصال مِنْ خصال الإيمان ، وقد سبق أنَّ الأعمال تدخلُ في الإيمان ، وقد فسَّر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالصبر والسماحة(6) ، قال الحسن : المراد(7) : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطَّاعة(8) .
وأعمال الإيمان تارة تتعلَّق بحقوق الله ، كأداءِ الواجبات وترك المحرَّمات ، ومِنْ ذلك قولُ الخير ، والصمتُ عن غيره .
__________
(1) أخرجه : أحمد 6/69 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 3575 ) من طرق عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه: الطبراني في "الكبير" ( 10442 ) و22/( 1024 ) من طرق عن شقيق ، عنه ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/174 من طريق أبي عبد الرحمان الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، به .
(4) أخرجه : ابن حبان ( 5597 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3873 ) ، والحاكم 4/289 ، والبيهقي في " الكبرى " 7/309 من طرق عن عبد الله بن يزيد الخطمي ، عن أبي أيوب الأنصاري ، به .
(5) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1926 )، والطبراني في " الكبير " ( 10843 ) من طرق عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، به .
(6) أخرجه : أحمد 4/385 ، وعبد بن حميد ( 300 ) من طريق شهر بن حوشب ، عن عمرو ابن عبسة ، به ، وشهر ضعيف ولم يسمع من عمرو بن عبسة .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/156 .

وتارةً تتعلق بحقوق عبادِه كإكرامِ الضيف ، وإكرامِ الجارِ ، والكفِّ عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدها : قولُ الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسودَ بنِ أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : ( هل تملك لسانكَ ؟ ) قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : ( فهل تملك يدك ؟ ) قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : ( فلا تَقُلْ
بلسانك إلا معروفاً ، ولا تبسُط يدَك إلاَّ إلى خير )(1) .
وقد ورد أنَّ استقامة اللسانِ من خصالِ الإيمان ، كما في " المسند " (2) عن أنس(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَستَقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه ، ولا يستقيم قلبُه حتَّى يستقيمَ لسانُه ) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) أخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 1/444 ، الطبراني في " الكبير " ( 818 ) من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، به . وقال البخاري : ( في إسناده نظر ) .
(2) المسند 3/198 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 9 ) ، والقضاعي ( 887 ) ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة .
(3) عبارة : ( عن أنس ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " الأوسط " ( 6563 ) ، وفي " الصغير " ، له ( 944 ) .

وأخرجه : القضاعي ( 893 )، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 5005 ) و( 5006 ) ، وإسناده ضعيف .

من حديث أنسٍ (1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَبْلُغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَخْزِنَ من لسانه )، وخرَّج الطبراني(2) من حديث معاذ بن جبل، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّكَ لن تزالَ سالماً ما سكتَّ ، فإذا تكلَّمتَ ، كُتِبَ لك أو عليك ) . وفي " مسند الإمام أحمد " (3) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من صمت نجا ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها ، يزِلُّ بها في النَّارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغرب ) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( علي ) .
(2) في " الكبير " 20/( 137 ) من طرق عبد الرحمان بن غنم ، عن معاذ ، به . قال الهيثمي في
" المجمع " 10/300 : ( رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات ) .
(3) المسند 2/159 و177 .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 385 ) ، وعبد بن حميد ( 345 ) ، والدارمي
( 2716 ) ، والترمذي ( 2501 ) ، وابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 10 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " ( 1 ) ، وأبو الشيخ في " الأمثال " ( 207 ) ، والقضاعي ( 334 ) ، =
= ... والبغوي ( 4129 ) ، ومداره على ابن لهيعة ، وهو ضعيف لكن سمعه منه من هو قديم السماع عنه ؛ لذا قواه بعضهم لذلك .
(4) صحيح البخاري 8/125 ( 6477 )، وصحيح مسلم 8/223 ( 2988 ) ( 49 ) و( 50 ).
وأخرجه : أحمد 2/379 ، وابن حبان ( 5707 ) و( 5708 ) ، والبيهقي 8/164 ، وفي
" شعب الإيمان " ، له ( 4956 ) من طرق عن عيسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، به .

وخرَّج الإمامُ أحمد ، والترمذي(1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار )(2) .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(4) : ( إنَّ الرَّجُلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ ، وإنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم ) .
وخرَّج الإمام أحمد(5) من حديث سليمان بن سُحيم ، عن أمِّه ، قالت : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( إنَّ الرجلَ ليدنو من الجنة حتَّى ما يكونَ بينه وبينَها إلا ذراعٌ فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد منها أبعدَ مِن صنعاء ) .
__________
(1) لم يرد في ( ص ) .
(2) حديث صحيح أخرجه : أحمد 2/236 و355 و533 ، والترمذي ( 2314 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 3971 ) ، وأبو يعلى ( 6235 ) ، وابن حبان ( 5706 ) ، والحاكم 4/597 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) الصحيح 8/125 ( 1478 ) .
وأخرجه : أحمد 2/334 ، والبيهقي 8/165 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 7/143-144 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(4) من قوله : ( إن الرجل ليتكلم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) المسند 4/64 و5/377 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 429 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني "
( 3458 ) ، وإسناده ضعيف محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن .

وخرَّج الإمام أحمد ، والترمذي ، والنَّسائي من حديث بلالِ بنِ الحارث
قال : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ أحدكم ليتكلَّمُ بالكلمة مِن رضوان الله ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه ، وإنَّ أحدَكُم ليتكلَّمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بلغت ، فيكتب الله عليه بها سَخطه إلى يوم يلقاه )(1) .
وقد ذكرنا فيما سبق حديثَ أمِّ حبيبة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلامُ ابنِ آدم عليه لا له ، إلا الأمرَ بالمعروف ، والنهيَ عن المنكر ، وذكر الله - عز وجل - )(2) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فليقل خيراً أو ليصمُت ) أمر بقول الخير، وبالصمت عمَّا عداه، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس هناك كلام يستوي قولُه والصمت عنه ، بل إمَّا أنْ يكون خيراً ، فيكون مأموراً بقوله، وإمَّا أنْ يكون غير خير، فيكون مأموراً بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/469 ، والترمذي ( 2319 ) ، والنسائي كما في " تحفة الأشراف " 2/126 ( 2028 ) .
وأخرجه : مالك ( 2818 ) برواية الليثي ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1394 ) ، والحميدي ( 911 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 81 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1141 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 2/92 ( 1852 ) وفي " التاريخ الصغير " ، له 1/94-95 ، وابن ماجه ( 3969 ) ، وابن حبان ( 280 ) و( 281 ) و( 287 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 1129 ) و( 1130 ) و( 1131 ) و( 1132 ) و( 1133 ) و( 1134 ) و( 1135 ) و( 1136 ) و( 1137 )، والحاكم 1/45 و46 ، والبيهقي 8/165 ، وفي "شعب الإيمان" ، له ( 4957 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 13/50 ، والبغوي ( 4124 ) و( 4125 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) تقدم تخريجه .

وخرَّج ابنُ أبي الدنيا حديث معاذ بن جبل ولفظه : إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له
: ( يا مُعاذُ ثكلتك أُمُّكَ وهَلْ تقول شيئاً إلاَّ وهو لك أو عليك )(1).
وقد قال الله تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) وقد أجمع السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يكتُبُ الحسناتِ ، والذي عن شِماله يكتبُ السيئات ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف(3) . وفي " الصحيح " (4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان أحدُكُم يُصَلِّي ، فإنَّه يُناجي ربَّه والملك عن يمينه(5) ) . ورُوي من حديث حُذيفة مرفوعاً : ( إنَّ عن يمينه كاتب الحسنات )(6) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 6 ) ، وسنده منقطع .
(2) ق : 17-18 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 8/( 7765 ) و( 7787 ) و( 7971 ) ، وفي " مسند الشاميين " ، له ( 468 ) و( 526 ) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 7049 ) و( 7050 ) و( 7051 ) .
(4) صحيح البخاري 1/113 ( 416 ) .
وأخرجه : همام بن منبه في " صحيفته " ( 119 ) ، وعبد الرزاق ( 1686 ) ، وابن حبان
( 2269 ) ، والبغوي في " شرح السنة " ( 490 ) ، والبيهقي في " الكبرى " 2/293 من طرق عن أبي هريرة ، به .
وأخرجه : الحميدي ( 729 ) ، وابن أبي شيبة ( 7449 ) ، وأحمد 3/24 ، وأبو داود
( 480 )، وأبو يعلى ( 993 ) ، وابن خزيمة ( 880 ) و( 926 ) ، وابن حبان ( 2270 ) ، والحاكم 1/257 من طرق عن أبي سعيد الخدري ، به .
(5) زاد في ( ص ) : ( يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات ) .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 7455 ) .

واختلفوا : هل يكتب كلَّ ما تكلَّم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عِقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال عليُّ بنُ أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما تكلم به من خيرٍ أو شرٍّ حتى إنَّه ليكتب قوله : أكلتُ وشربتُ وذهبتُ وجئتُ ، حتّى إذا كان يوم الخميسِ عُرِضَ قوله وعمله فأقرَّ ما كان فيه من خير أو شرٍّ(1) ، وألقي سائره ، فذلك قولُه تعالى : { يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (2) .
وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمارَ ، فعثر به ، فقال : تَعِسَ
الحمارُ ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحبُ الشمال : ما هي من السيئات فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحبُ اليمين من شيء ، فاكتبهُ ، فأثبت في السيئات : ( تَعِسَ الحمارُ )(3) .
وظاهر هذا أنَّ ما ليس بحسنةٍ فهو سيئة ، وإنْ كان لا يُعاقب عليها ، فإنَّ بعضَ السيئات قد لا يُعاقب عليها (4) ، وقد تقع مكفرةً باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبُها حيث ذهب باطلاً ، فيحصل له بذلك حسرةٌ في القيامة
وأسف عليه ، وهو نوعُ عقوبة .
وخرَّج الإمامُ أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ قوم يقومون مِنْ مجلس لا يذكُرون الله فيه ، إلاَّ قاموا عن مثلِ جِيفة حمار ، وكان لهم حسرة )(5)
__________
(1) من قوله : ( حتى إنه ليكتب ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) الرعد : 39 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35480 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/76 ، والحسين المروزي في " زياداته على الزهد لابن المبارك " ( 1013 ) .
(4) من قوله : ( فإن بعض السيئات ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أحمد 2/389 و494 و515 و527 ، وأبو داود ( 4855 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 10241 ) ، وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 403 ) و( 408 ) ، وهو حديث قويٌّ .

وأخرجه : ابن حبان ( 590 ) و( 592 ) و( 853 ) ، وابن السني في " عمل اليوم
والليلة " ( 446 ) وأبو الشيخ في " طبقات المحدّثين بأصبهان " 3/448 ، والحاكم 1/491-492 و492 ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/207 ، وفي " تاريخ أصبهان " ، له 2/224 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 541 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

.
وخرَّجه الترمذي(1) ولفظه : ( ما جلسَ قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يُصَلُّوا على نبيهم ، إلاَّ كان عليهم تِرَة (2) ، فإنْ شاء عذبهم ، وإنْ شاء غفر لهم ) .
وفي رواية لأبي داود والنَّسائي : ( من قَعَدَ مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه
من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة ) زاد النَّسائي : ( ومَنْ قام مقاماً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من اللهِ تِرة ) (3) . وخرَّج أيضاً من حديث أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ قوم يجلسون مجلساً لا يذكُرونَ الله فيه إلا كانت عليهم حسرةً يوم القيامة ، وإنْ دخلوا الجنَّة )(4) .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 3380 ) وقال : ( هذا حديث حسن ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2311 ) ، وأحمد 2/446 و453 و481 و484 و495 ، وأبو داود
( 4856 ) و( 5059 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 404 ) و( 405 )
و( 406 ) ، وابن حبان ( 853 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1923 ) و( 1924 )
و( 1925 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 450 ) ، والحاكم 1/496 و550 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/130، والبيهقي 3/210 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 1569 ) ، والبغوي ( 1254 ) و( 1255 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أي : حسرة وندامة يوم القيامة .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4856 ) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ( 404 ) وفي " الكبرى " ، له ( 10236 ) عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
(4) أخرجه : النسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 409 ) و( 410 ) وفي " الكبرى " ، له
( 10242 ) و( 10243 ) مرفوعاً وموقوفاً ، والرواية المرفوعة أقوى .

وقال مجاهد : ما جلس قومٌ مجلساً ، فتفرَّقوا قبل أنْ يذكُرُوا الله ، إلا تفرَّقوا عن أنتنِ من ريح الجيفة ، وكان مجلسُهم يَشهدُ عليهم بغفلتهم ، وما جلس قومٌ مجلساً ، فذكروا الله قبل أنْ يتفرَّقوا ، إلاَّ تفرَّقوا عن أطيب من ريحِ المسك ، وكان مجلسهم يشهدُ لهم بذكرهم .
وقال بعضُ السَّلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعاتُ عمره ، فكلُّ ساعة تمرُّ بابنِ آدمَ (1)لم يذكر الله فيها تتقطَّعُ نفسه عليها(2) حسراتٍ .
وخرَّجه الطبراني(3) من حديث عائشة مرفوعاً : ( ما مِنْ ساعة تمرُّ بابن آدم لم
يذكرِ الله فيها بخيرٍ ، إلا حسرَ عندَها يومَ القيامةِ ) .
فمن هنا يعلم أنَّ ما ليس بخيرٍ مِنَ الكلامِ، فالسُّكوتُ عنه أفضلُ من التكلم به، اللَّهمَّ إلا ما تدعو إليه الحاجةُ مما لابدَّ منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إيَّاكم وفضولَ الكلام ، حسبُ امرئ ما بلغ حاجته(4) ، وعن النَّخعي قال : يَهلِكُ الناسُ في فضول المال والكلام .
وأيضاً فإنَّ الإكثارَ من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجبُ قساوةَ القلب كما في " الترمذي "(5) من حديث ابن عمر مرفوعاً : ( لا تُكثِرُوا الكلامَ بغيرِ ذكر الله ، فإنَّ كثرةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله يُقسِّي القلب ، وإنَّ أبعدَ الناس عن الله القلبُ
القاسي ) .
__________
(1) عبارة : ( تمرّ بابن آدم ) لم ترد في ( ج ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " الأوسط " ( 8316 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/361-632 ، وإسناده ضعيف جداً ؛ عمرو بن الحصين العقيلي متروك ، وقد تفرد به كما نص عليه الطبراني .
(4) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 8507 ) موقوفاً .
(5) الجامع الكبير ( 2411 ) ، وقال : ( حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن
عبد الله بن حاطب ) ، وقوله : ( غريب ) يعني ضعيف .

وقال عمر : مَنْ كَثُرَ كلامُه ، كَثُرَ سَقَطُهُ ، ومَنْ كَثُرَ سَقَطُه ، كَثُرَتْ ذُنوبهُ ، ومَن كَثُرَتْ ذنوبُه ، كانت النارُ أولى به(1) . وخرَّجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعاً بإسنادٍ ضعيفٍ(2) .
وقال محمد بن عجلان : إنَّما الكلام أربعة : أنْ تذْكُرَ الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلَّم فيما يعنيك من أمر دنياك .
وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلَّم ، قال : ما يستطيعُ من عاش في الناس أنْ لا يتكلم ، قال : فإنْ تكلَّمت ، فتكلم بحقٍّ أو اسكُت(3) .
وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد(4) .
__________
(1) أخرجه : ابن حبان في " روضة العقلاء " : 36 ، والطبراني في " الأوسط " ( 6541 ) ، والقضاعي ( 374 ) .
(2) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 3/384 ، وفي إسناده عيسى بن موسى : مجهول ،
وفيه عمر ، قال عنه : ( إن كان هذا عمر بن راشد فهو ضعيف ، وإن كان غيره
فمجهول ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/74 ، والقضاعي ( 372 ) و( 373 ) و( 374 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 44 ) .
(4) أخرجه : مالك ( 2825 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 369 ) ، ووكيع بن الجراح في " الزهد " ( 287 ) ، وابن أبي شيبة ( 26500 ) و( 37047 ) ، وفي " الأدب " ، له ( 222 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 562 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/33 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4947 ) .

وقال ابن مسعود : والله الذي(1) لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحقُّ بطول سجنٍ مِنَ اللِّسانِ(2) . وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماءُ على أنَّ رأسَ الحكمِ الصمتُ(3) .
وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنَّك ما سكتَّ ، فأنت سالمٌ ، فإذا تكلمت ، فخذ حِذرَك ، إمَّا لك وإمَّا عليك(4) . وهذا بابٌ يطول استقصاؤه .
والمقصود أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكلام بالخير ، والسُّكوتِ عمَّا ليس بخيرٍ ، وخرَّج الإمام أحمدُ وابنُ حبان(5) من حديث البراء بن عازب: أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله، علمني عملاً يُدخلُني الجنَّة ، فذكر الحديثَ ، وفيه قال : ( فأطعم الجائع ، واسقِ الظمآن ، وأْمُر بالمعروف ، وانْهَ عَنِ المُنكر ، واسكت عن الشَّرِ(6) ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك ، فكفَّ لسانك إلاَّ مِن خيرٍ )(7)
__________
(1) في ( ص ) : ( والذي ) .
(2) أخرجه : وكيع بن الجراح في " الزهد " ( 285 ) ، وابن أبي شيبة ( 26499 ) ، وفي
" الأدب " ، له ( 221 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 162 ) ، وابن حبان في " روضة العقلاء " : 39 ، والطبراني في " الكبير " ( 8744 ) و( 8745 ) و( 8746 ) و( 8747 ) ، وأبو الشيخ في " الأمثال " ( 244 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/134 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 619 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 623 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/129 .
(5) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن ماجه ) .
(6) عبارة : ( واسكت عن الشر ) سقطت من ( ج ) .
(7) أخرجه : أحمد 4/299 ، وابن حبان ( 374 ) .

وأخرجه : الطيالسي ( 739 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 69 ) ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 2743 ) و( 2744 ) ، والدارقطني 2/135 ، والحاكم 2/217 ، والبيهقي 10/272-273 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 4335 ) ، والبغوي ( 2419 ) من طرق عن عبد الرحمان بن عوسجة ، عن البراء بن عازب ، به ، وهو حديث صحيح .

.
فليس الكلامُ مأموراً به على الإطلاق ، ولا السُّكوتُ كذلك ، بل لابدَّ منَ الكلامِ بالخير ، والسكوت عنِ الشرِّ ، وكان السَّلفُ(1) كثيراً يمدحُون الصَّمتَ عن الشَّرِّ ، وعمَّا لا يعني ؛ لِشِدَّته على النفس ، ولذلك يقع فيه النَّاسُ كثيراً ، فكانوا يُعالجون أنفسهم ، ويُجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .
قال الفضيلُ بن عياض : ما حجٌّ ولا رِباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِنْ حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمُّكَ لسانُك ، أصبحتَ في غمٍّ شديد ، وقال : سجنُ اللسان سجنُ المؤمن ، ولو أصبحت يهمُّك لسانُك ، أصبحت في غمٍّ شديد(2) .
وسئلَ ابنُ المبارك عن قولِ لقمان لابنه : إنَّ كان الكلامُ من فضَّةٍ ، فإنَّ الصَّمتَ من ذهبٍ ، فقال : معناه : لو كان الكلامُ بطاعة الله من فضة ، فإنَّ الصَّمتَ عن معصيةِ الله من ذهبٍ(3) . وهذا يرجعُ إلى أنَّ الكفَّ عن المعاصي أفضلُ من عمل الطاعات ، وقد سبق القولُ في هذا مستوفى .
وتذاكروا عندَ الأحنفِ بنِ قيس ، أيُّما أفضل الصمتُ أو النطقُ ؟ فقالَ قوم : الصمتُ أفضلُ ، فقالَ الأحنفُ : النطقُ أفضل ؛ لأنَّ فضلَ(4) الصمت لا يعدو صاحبَه ، والمنطق الحسن ينتفع به مَنْ سَمِعَهُ(5) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) من قوله : ( ولو أصبحت يهمك ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
والأثر أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 651 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/110 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 47 ) من قول نبي الله سليمان - عليه السلام - .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 712 ) .

وقال رجلٌ من العلماء عند عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله : الصَّامت على علمٍ كالمتكلم على علمٍ ، فقال عمر : إنِّي لأرجو أنْ يكونَ المتكلمُ على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً ، وذلك أنَّ منفعته للناس ، وهذا صمتُه لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة المنطق (1) ؟ فبكى عمرُ عند ذلك(2) بكاءً شديداً .
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوماً فرقَّ الناسُ وبكَوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممتَ كلامك رجونا أنْ ينفعَ الله به ، فقال عمر : إنَّ القولَ فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .
وكنت من مدَّةٍ طويلةٍ قد رأيتُ في المنام(3) أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ عبد العزيز - رضي الله عنه - ، وسمعته يتكلَّمُ في هذه المسألة ، وأظنُّ أنِّي فاوضتُه فيها ، وفهمتُ من كلامِه أنَّ التكلُّم بالخير أفضلُ من السُّكوتِ ، وأظُنُّ أنَّه وقع في أثناء الكلام ذكرُ سليمان ابن عبد الملك ، وأنَّ عمر قال ذلك له ، وقد رُويَ عن سليمانَ بن عبد الملك أنَّه قال : الصمت منامُ العقل ، والمنطقُ يَقظَتُهُ (4) ، ولا يتمُّ حالٌ إلا بحالٍ ، يعني : لابدَّ من الصَّمت والكلام .
وما أحسنَ ما قال عُبيدُ الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحدَ الحكماء : إذا كان المرءُ يحدِّث في مجلسٍ ، فأعجبه الحديثُ فليسكتْ ، وإذا كان ساكتاً ، فأعجبه السكوتُ ، فليُحدِّث(5) ، وهذا حسنٌ فإنَّ من كان كذلك ، كان سكوتُه وحديثُه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديراً بتوفيق الله إيَّاه وتسديده في نطقه وسكوته ؛ لأنَّ كلامَه وسكوتَه يكونُ لله - عز وجل - .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( عند ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( في المنام ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن الدنيا في " الصمت " ( 696 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 97 ) و( 269 ) .

وفي مراسيل الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه - عز وجل - قالَ : ( علامة الطُّهر أنْ يكونَ قلبُ العبد عندي معلَّقاً ، فإذا كانَ كذلك لم ينسني على حال ، وإذا كانَ كذلك مننتُ عليهِ بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني حرَّكتُ قلبهُ ، فإنْ تكلّم، تكلّم لي ، وإن سكتَ، سكتَ لي، فذلك الذي تأتيه المعونةُ من عندي ) خرَّجه إبراهيمُ بنُ الجنيد .
وبكلِّ حالٍ ، فالتزامُ الصمت مطلقاً ، واعتقاده قربة إمَّا مطلقاً ، أو في بعض العبادات ، كالحجِّ والاعتكاف والصيام منهيٌّ عنه . ورُوي من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن صيامِ الصَّمت(1) . وخرَّج الإسماعيلي من حديث عليٍّ قال : نهانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصمت في العُكوفِ ، وفي " سنن أبي داود " (2) من حديث عليٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا صُماتَ يَومٍ إلى الليلِ ) . وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لامرأة حَجَّتْ مُصمتَةً : إنَّ هذا لا يَحلُّ هذا من عمل الجاهلية(3) . وروي عن عليِّ بنِ الحسين زين العابدين أنَّه قال : صومُ الصَّمْتِ حرام(4) .
__________
(1) أخرجه: أبو حنيفة كما في "جامع المسانيد" للخوارزمي 1/476 من حديث أبي هريرة ، به .
(2) السنن ( 2873 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 11450 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 658 ) ، والبيهقي 6/57 و7/461 ، وفي إسناده مقال .
وأخرجه : أبو حنيفة كما في " جامع المسانيد " للخوارزمي 1/474 من حديث النَزال بن سبرة ، به .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 13899 ) و( 15919 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
(3) أخرجه : الدارمي ( 212 ) ، والبخاري 5/52 ( 3834 ) ، موقوفاً عليه .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/142 .

الثاني مما أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث المؤمنين : إكرامُ الجار ، وفي بعض الرِّوايات : ( النهي عن أذى الجار ) فأمَّا أذى الجار ، فمحرَّمٌ ، فإنَّ الأذى بغيرِ حقٍّ محرَّمٌ لكلِّ أحدٍ ، ولكن في حقِّ الجار هو أشدُّ تحريماً ، وفي " الصحيحين " (1) عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : أيُّ الذَّنبِ أعظمُ ؟ قالَ : ( أنْ تجعل للهِ ندَّاً وهو خلقك ) ، قيل : ثُمَّ أي ؟ قالَ : ( أنْ تقتُلَ ولدَكَ مخافة أنْ يَطْعَمَ معك ) ، قيل : ثُمَّ أي ؟ قال : ( أن تُزَانِي حليلةَ جارك ) . وفي " مسند الإمام أحمد " (2)
__________
(1) صحيح البخاري 6/22 ( 4477 ) ، و9/186 ( 7520 ) ، وصحيح مسلم 1/63
( 441 ) ( 86 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 103 ) ، وسعيد بن منصور ( 2302 ) ، وأحمد 1/380 و431، والنسائي في " الكبرى " ( 3478 ) و( 10987 ) و( 11368 ) ، وفي " التفسير " ، له
( 388 ) و( 389 ) ، وأبو يعلى ( 5098 ) و( 5130 ) و( 5167 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 20123 ) ، والشاشي ( 486 ) و( 487 ) و( 493 ) و( 775 ) و( 776 ) و( 778 ) ، وابن حبان ( 4414 ) و( 4415 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9811 )
و( 9819 ) و( 9820 ) و( 9821 ) ، والدارقطني في " العلل " 5/223 ، والبيهقي في
" الكبرى " 8/18 من طرق عن عبد الله بن مسعود ، به .
(2) المسند 6/8 .

وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 103 ) ، وفي " التاريخ الكبير " ، له 7/361
( 2126 ) والطبراني في " الكبير " 20/( 605 ) ، وفي " الأوسط " ، له ( 6333 ) من طرق عن المقداد بن الأسود ، به ، وإسناده لا بأس به .

عن المقداد بنِ الأسود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ما تقولون في الزنى؟ ) قالوا :
حرام حرَّمه الله ورسوله ، فهو حرامٌ إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لأنْ يزني الرَّجلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أنْ يزنيَ بامرأةِ جاره ) ، قال : ( فما تقولون في السَّرقة ؟ ) قالوا : حرَّمها الله ورسوله ، فهي حرام ، قال : ( لأنْ يَسرِقَ الرجلُ من عشرة أبياتٍ أيسرُ عليه من أنْ يسرق من جاره ) .
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي شُريح ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والله لا يُؤْمِنُ ، والله لا يُؤْمِنُ ، واللهِ لا يؤمنُ ) قيل : وَمَنْ يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( مَنْ لا يأْمَنُ جارهُ بوائِقَهُ ) . وخرَّجه الإمامُ أحمد(2) ، وغيره من حديث أبي هُريرة .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَدخُلُ الجنَّة مَنْ لا يَأْمَنُ جارُه بوائقهُ ) .
__________
(1) الصحيح 8/12 ( 6016 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1340 ) ، وأحمد 4/31 ، و6/385 ، والطبراني في " الكبير "
22/( 487 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9534 ) وفي " الآداب " ، له ( 77 ) من طرق عن سعيد المقبري ، عن أبي شريح ، به .
(2) المسند 2/288 و336 .
وأخرجه : البخاري عقيب الحديث ( 6016 ) ، والحاكم 1/10 ، و4/165 من طرق عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، به .
(3) الصحيح 1/49 ( 46 ) ( 73 ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 121 ) من طريق العلاء بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة ، به .

وخرَّج الإمامُ أحمد ، والحاكم من حديث أبي هُريرة ، قال : قيلَ :
يا رسولَ الله إنَّ فُلانةَ تُصلي الليلَ ، وتصومُ النهار وفي لسانها شيءٌ تؤذي جيرانها سليطة ، قال : ( لا خير فيها ، هي في النار ) ، وقيل له : إنَّ فلانة تُصلي المكتوبةَ ، وتصومُ رمضانَ ، وتتصدَّقُ بالأثوارِ ، وليس لها شيء غيره ، ولا تؤذي أحداً ، قال : ( هي في الجنة ) ولفظ الإمام أحمد : ( ولا تؤذي بلسانها جيرانها ) (1) .
وخرَّج الحاكمُ(2) من حديث أبي جُحيفة قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو جارَه ، فقال له : ( اطرح متاعَك في الطَّريق ) ، قال: فجعل النَّاسُ يمرُّون به فيلعنونه ، فجاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، ما لقيتُ من الناس ، قال
: ( وما لقيتَ منهم ؟ ) قال : يلعنوني ، قال : ( فقد لعنك الله قبلَ النَّاسِ ) ، قال : يا رسولَ الله ، فإني لا أعود . وخرَّجه أبو داود (3)
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/440 ، والحاكم 4/166 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 119 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار "
( 1902 )، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" ( 385 ) و( 616 )، وابن حبان ( 5764 )، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9545 ) و( 9546 ) ، وفي إسناده أبو يحيى ، مولى آل جعدة مقبول حيث يتابع ولم يتابع .
(2) المستدرك 4/166 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 125 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار "
( 1903 ) ، وفي إسناده شريك القاضي ضعيف عند التفرد .
(3) السنن ( 5153 ) .

وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 124 ) ، وابن حبان ( 520 ) ، والحاكم 4/165-166 من طرق عن محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، به ، ومحمد بن عجلان قال عنه الحافظ في " التقريب " ( 6136 ) : ( صدوق إلاَّ أنَّه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ) .

بمعناه من حديث أبي هريرة ، ولم يذكر فيه : ( فقد لعنك الله قبل الناس ) .
وخرَّج الخرائطي من حديث أمِّ سلمة ، قالت : دخلت شاةٌ لجارٍ لنا ، فأخذت قرصةً لنا ، فقمت إليها فاجتذبتها من بين لحْيَيْهَا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
: ( إنَّه لا قليلَ من أذى الجار ) (1).
وأمَّا إكرامُ الجارِ والإحسانُ إليه ، فمأمورٌ به ، وقد قال الله - عز وجل - : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } (2) ، فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكرِ حقِّه على العبد وحقوقِ العباد على العبد أيضاً ، وجعل العبادَ الذين أمرَ بالإحسّان إليهم خمسة أنواع :
أحدها : من بينَه وبينَ الإنسان قرابةٌ ، وخصَّ منهمُ الوالدين بالذِّكر ؛ لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يَشْرَكونهما فيه ، فإنَّهما كانا السببَ في وجود الولد ولهما حقُّ التربية والتأديب وغير ذلك .
الثاني : مَنْ هو ضعيفٌ محتاجٌ إلى الإحسَّان ، وهو نوعان : من هو محتاج لضعف بدنه ، وهو اليتيم ، ومن هو محتاج لِقِلَّةِ ماله ، وهو المسكين .
والثالث: مَنْ له حقُّ القُرب والمخالطة ، وجعلهم ثلاثة أنواع : جارٌ ذو قربى ، وجار جُنبٌ ، وصاحبٌ بالجنب .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 23/( 535 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/27 من حديث أم سلمة رضي الله عنها ، به . قال الهيثمي في " المجمع " 8/170 : ( ورجاله ثقات ) .
(2) النساء : 36 .

وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فمنهم مَن قال : الجارُ ذو القربى : الجارُ الذي له قرابةٌ ، والجارُ الجُنب : الأجنبيُّ(1) ، ومنهم من أدخل(2) المرأةَ في الجارِ ذي القربى ، ومنهم من أدخلها في الجار الجُنب(3) ، ومنهم من أدخل الرَّفيقَ في السَّفر في الجارِ الجُنب(4) ، وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول في دعائه : ( أعوذُ بكَ من جارِ السُّوءِ في دار الإقامة ، فإنَّ جار البادية يتحوَّلُ )(5) .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7485 ) و( 7486 ) و( 7487 ) ( 7494 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5296 ) و( 5299 ) .
(2) عبارة : ( من أدخل ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7512 ) و( 7515 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5297 ) .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7502 ) و( 7503 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5300 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 25421 ) ، وأحمد 2/346 ، والبخاري في " الأدب المفرد "
( 117 ) ، والنسائي 8/274 ، وأبو يعلى ( 6536 ) ، وابن حبان ( 1033 ) ، والحاكم 1/532 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9553 ) ، وهو حديث قويٌّ .

ومنهم من قال : الجارُ ذو القربى : الجار المسلم ، والجارُ الجنب : الكافر(1) ، وفي " مسند البزار " (2) من حديث جابر مرفوعاً : ( الجيرانُ ثلاثةٌ : جارٌ له حقٌّ واحدٌ ، وهو أدنى الجيران حقاً(3) ، وجارٌ له حَقَّان ، وجار له ثلاثةُ حقوق وهو أفضلُ الجيران حقاً ، فأمَّا الذي له حقٌّ واحدٌ ، فجارٌ مشرك ، لا رَحِمَ له ، له حقُّ الجوار ، وأمَّا الذي له حقَّان ، فجارٌ مسلمٌ ، له حقُّ الإسلام وحقُّ الجوار ، وأمَّا الذي له ثلاثةُ حقوقٍ ، فجار مسلمٌ ذو رحم ، له حقُّ الإسلام ، وحقُّ الجوار ، وحقُّ الرحم ) . وقد روي هذا الحديثُ من وجوه أُخر متصلة ومرسلة(4) ، ولا تخلو كلُّها مِنْ مقالٍ .
وقيل: الجار ذو القربى : هو القريبُ الملاصق ، والجار الجُنُب: البعيد الجوار(5).
وفي " صحيح البخاري " (6)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7492 ) و( 7501 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5298 ) .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 1896 ) من طريق الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، به ، والحسن لم يسمع من جابر .
(3) عبارة : ( وهو أدنى الجيران حقاً ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/207 من طريق الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 341 ) من طريق سعيد بن أبي هلال ، وإسناده معضل .
(5) انظر : المحرر الوجيز 4/51 ، وتفسير البغوي 1/616 ، وتفسير القرطبي 5/184 .
(6) الصحيح 3/115 ( 2259 ) و3/208 ( 2595 ) و8/13 ( 6020 ) .

وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " مسنده " ( 10 ) وفي " الزهد " ، له ( 720 ) ، والطيالسي ( 1529 ) ، وإسحاق بن راهويه ( 1367 ) ، وأحمد 6/175 و187 و193 و239 ، والحسين المروزي في زياداته على " البر والصلة " لابن المبارك ( 244 ) و( 259 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 107 ) و( 108 ) ، وأبو داود ( 5155 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 336 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 2797 ) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 39 ، والحاكم 4/167 ، والبيهقي في " الكبرى " 6/275 و7/28 ، والخطيب في " تاريخه " 7/275 من طرق عن طلحة بن عبد الله ، عن عائشة رضي الله عنها ، به .

عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسولَ الله ، إنَّ لي جارين ، فإلى أيهما أُهدي ؟ قال : ( إلى أقربهما منك باباً ) .
وقال طائفة من السَّلف : حَدُّ الجوارِ أربعون داراً ، وقيل : مستدار أربعين داراً من كلِّ جانب(1) .
وفي مراسيل الزهري (2) : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو جاراً له ، فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ أصحابه(3) أنْ يُنادي : ( ألا إنَّ أربعين داراً جار ) . قال الزهري(4) : أربعونَ هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا ، وأربعون هكذا ، يعني : بين يديه ، ومِن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله(5) .
وسئل الإمام أحمد عمَّن يطبخ قدراً(6) وهو في دارِ السبيل ، ومعه في الدار نحو ثلاثين أو أربعين نفساً ، يعني : أنَّهم سكان معه في الدار ، فقال : يبدأ بنفسه ، وبمن يعولُ ، فإنْ فضلَ فضلٌ أعطى الأقرب إليه ، وكيف يُمكنه أنْ يُعطِيَهم كلَّهم ؟ قيل له : لعلَّ الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر ليس له عنده موقع ؟ فرأى أنَّه لا يبعث إليه(7) .
__________
(1) ذكره : ابن عطية في " تفسيره " 4/51 ، والقرطبي في " تفسيره " 5/185 . والقول الثاني للأوزاعي .
(2) ومراسيله من أضعف المراسيل ، وهو ومن في طبقته فإنَّ مراسيلهم ألصق بالمعضل من المرسل من أجل أنَّ أكثر حديثهم حملوه عن التابعين ، والله أعلم .
(3) عبارة : ( بعض أصحابه ) سقطت من ( ص ) .
(4) لم يرد في ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو داود في " المراسيل " ( 350 ) وورد موصولاً أخرجه : الطبراني في " الكبير " 19/( 143 ) من طريق الزهري ، عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، به ؛ لكن إسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ فيه يوسف بن السفر متروك .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 109 ) عن الحسن ، به .

وأمَّا الصَّاحبُ بالجنب ، ففسره طائفةٌ بالزَّوجة(1) ، وفسره طائفةٌ منهم : ابن عباس بالرَّفيق في السفر(2) ، ولم يريدوا إخراجَ الصاحب الملازم في الحضر إنَّما أرادوا أنَّ صحبة السفر تكفي ، فالصحبة الدائمة في الحضر أولى ، ولهذا قالَ سعيدُ بن جبير : هوَ الرفيق الصالحُ(3) ، وقال زيدُ بن أسلم : هوَ جليسُك في الحضر ، ورفيقُك في السَّفر(4) ، وقال ابنُ زيدٍ : هوَ الرَّجلُ يعتريك ويُلِمُّ بك لتنفعه(5) . وفي " المسند " والترمذي عن عبد الله بنِ عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خيرُ الأصحابِ عندَ الله خيرُهُم لصاحبه ، وخير الجيرانِ عندَ الله خيرُهم لجاره ) (6)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7512 ) - ( 7515 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5301 ) .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7502 ) – ( 7506 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5305 ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7510 ) ، وابن أبي حاتم " تفسيره " ( 5307 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5305 ) .
(5) ذكره : ابن عطية في " تفسيره " 4/53 ، وابن الجوزي في " زاد المسير " 2/80 ، وأبو حيان في " البحر المحيط " 3/255 .
(6) أخرجه : أحمد 2/168 ، والترمذي ( 1944 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .

وأخرجه : سعيد بن منصور ( 2388 ) ، وعبد بن حميد ( 342 ) ، والدارمي ( 2437 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 115 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 281 )
و( 330 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 7519 ) ، وابن خزيمة ( 2539 ) ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 2800 ) و( 2801 ) ، وابن حبان ( 518 ) و( 519 ) ، والحاكم 1/443 و2/101 و4/164 ، والقضاعي ( 1235 ) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 9541 ) و( 9542 ) ، والخطيب في " تاريخه " 12/28 من طرق عن أبي عبد الرحمان
عبد الله بن يزيد الحبلي ، عن عمرو بن العاص ، به .
إلا أن في "مستدرك الحاكم" 4/164، من طريق شرحبيل بن مسلم، عن عمرو بن العاص، به.

.
الرابع : من هو واردٌ على الإنسان ، غيرُ مقيم عندَه ، وهو ابن السبيل يعني : المسافر إذا ورد إلى بلدٍ آخر(1) ، وفسَّره بعضُهم بالضَّيف ، يعني : به ابنَ السبيل إذا نزل ضيفاً(2) على أحد(3) .
والخامس : ملكُ اليمين، وقد وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم كثيراً وأمر بالإحسانِ إليهم ، وروي أنَّ آخرَ ما وصَّى به عند موته : ( الصلاة وما ملكت أيمانكم )(4)، وأدخل
بعضُ السَّلف في هذه الآية : ما يملكُهُ الإنسان من الحيوانات والبهائم(5) .
ولنرجع إلى شرح(6) حديث أبي هريرة في إكرام الجار ، وفي "الصحيحين" (7) عن عائشة وابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما زال جبريل يُوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّه سيورِّثُه ) .
فمن أنواع الإحسَّان إلى الجارِ مواساتُه عندَ حاجته ، وفي " المسند " (8)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7520 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5309 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7522 ) و( 7523 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5308 ) .
(4) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 2/195 ، وأحمد 3/117 ، وعبد بن حميد ( 1214 ) ، وابن ماجه ( 2697 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7094 ) و( 7095 ) و( 7096 ) ، وأبو يعلى ( 2933 ) و( 2990 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 3201 )
و( 3202 ) ، وابن حبان ( 6605 ) ، والحاكم 3/57 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 8552 ) ، وفي " دلائل النبوة " ، له 7/205 ، والخطيب في " تاريخه " 4/239 ، والضياء في " المختارة " ( 2155 ) و( 2156 ) و( 2157 ) ، وفي إسناده مقال .
(5) ذكره : ابن الجوزي في " زاد المسير " 2/80 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : البخاري 8/12 ( 6014 ) ، ومسلم 8/36 ( 2624 ) ( 140 ) .
(8) مسند الإمام أحمد 1/55 .

وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 513 ) و( 514 ) و( 515 ) ، والحاكم 4/167 ، وأبو نعيم في "الحلية" 9/27 من طريق عباية بن رفاعة ، عن عمر ، به ، وفي إسناده اختلاف .
وقد ورد عند أبي نعيم : ( عباية ، عن رفاعة ) وهو خطأ ، والصواب : ( عباية بن رفاعة ) انظر : تهذيب الكمال 4/80 ( 3137 ) .

عن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَشْبَعُ المؤمنُ دُونَ جارِه ) ، وخرَّج الحاكم من حديث ابنِ عباس عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ المؤمن الذي يشبعُ وجارُه جائعٌ ) (1) ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما آمن مَنْ بات شبعاناً وجارُهُ طاوياً ) (2) .
وفي " المسند " (3) عن عقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أوَّل خصمينِ يومَ القيامةِ جاران ) .
وفي كتاب " الأدب " (4) للبخاري عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كم من جارٍ متعلِّقٌ بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا ربِّ هذا أغلقَ بابه دوني فمنع
معروفه ) .
__________
(1) أخرجه : الحاكم 4/167 ، وقال : ( صحيح الإسناد ) ، ولم يتعقبه الذهبي . =
= ... وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 112 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق "
( 347 ) ، وأبو يعلى ( 2699 ) ، والطبراني في " الكبير " 12/( 12741 ) .
(2) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 2/512 ، وإسناده ضعيف لضعف خكيم بن جبير وأخرجه : البزار كما في "كشف الأستار" ( 119 ) من طريق علي بن زيد ، عن أنس ، به . وعلي بن زيد ضعيف . وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 751 ) من طريق ثابت عن أنس ؛ لكن قال أبو حاتم : ( منكر جداً ) . علل الحديث ( 2294 ) .
(3) مسند الإمام أحمد 4/151 .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 17/( 836 ) و( 852 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(4) الأدب المفرد ( 111 ) .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 346 ) ، والأصبهاني في " الترغيب والترهيب " ( 848 ) ، وهو حديث قويٌّ .

وخرَّج الخرائطي(1) وغيرُه بإسنادٍ ضعيف من حديث عطاءٍ الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن ، جدِّه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من أغلقَ بابَه دونَ جارِه مخافةً على أهله ومالِه ، فليس ذلك بمؤمنٍ ، وليس بمؤمن من لم يأمنْ جارُه بوائقه . أتدري ما حقُّ الجار ؟ إذا استعانك أعنته ، وإذا استقرضك أقرضته ، وإذا افتقر ، عُدْتَ عليهِ ، وإذا مَرِضَ عُدته ، وإذا أصابه خير هنأته ، وإذا أصابته مُصيبةٌ عزَّيته ، وإذا ماتَ اتبعتَ جنازته ، ولا تستطل عليه بالبناء ، فتحجبَ عنه الرِّيح إلا بإذنه ، ولا تؤذيه بقُتار قدرك إلاَّ أنْ تَغرفَ له منها ، وإنِ اشتريتَ فاكهةً ، فاهد له ، فإنْ لم تفعل ، فأدخلها سرَّاً، ولا يخرج بها ولدُك ليغيظَ بها ولدَه ) ورَفْعُ هذا الكلام مُنكرٌ ، ولعلَّه من تفسير عطاء الخراساني .
وقد روي أيضاً عن عطاء ، عن الحسن ، عن جابر مرفوعاً : ( أدنى حقِّ الجوار أنْ لا تُؤذي جارَك بقتارِ قِدْرِك إلاَّ أنْ تَقدَحَ له منها ) (2) .
وفي " صحيح مسلم " (3)
__________
(1) في " مكارم الأخلاق " ( 104 ) .
(2) والحسن لم يسمع من جابر ، والحديث أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار "
( 1901 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 3591 ) من طريق أبي سفيان ، عن جابر ، به ، وإسناده ضعيف أيضاً .
(3) الصحيح 8/37 ( 2625 ) ( 142 ) و( 143 ) .

وأخرجه : الطيالسي ( 450 )، والحميدي ( 139 )، وأحمد 5/149 و156 و161 و171 ، والدارمي ( 2079 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 113 ) و( 114 ) ، وابن ماجه
( 3362 )، والترمذي ( 1833 )، وأبو عوانة ( 1526 )، وابن حبان ( 513 ) و( 514 ) و( 523 ) ، والبغوي ( 1689 ) من طرق عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، به .

عن أبي ذرٍّ قال : ( أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - : إذا طبختَ مرقاً ، فأكثِر ماءهُ ، ثم انظُر إلى أهلِ(1) بيتِ جيرانِك ، فأصِبْهُم منها بمعروفٍ ) . وفي رواية أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يا أبا ذرٍّ إذا طبخت مرقةً(2) ، فأكثِر ماءها ، وتعاهد جيرانَك ) .
وفي " المسند " والترمذي(3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنَّه ذبح شاةً ، فقال : هل أهديتُم منها لجارنا اليهودي ثلاثَ مرَّات ، ثم قال : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتَّى ظننت أنه سَيُورِّثُه ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَمنَعَنَّ أحدُكم جَارَه أن يَغْرِزَ خَشبَةً في جداره ) ، ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها مُعرِضين ، والله لأرمِيَنَّ بها بين أكتافكم .
ومذهبُ الإمامِ أحمد أنَّ الجار يلزمه أنْ يُمَكِّنَ جاره من وضع خشبه على جداره إذا احتاجَ الجارُ إلى ذلك ولم يضرَّ بجداره ، لهذا الحديث الصحيح ، وظاهرُ كلامه أنَّه يجب عليه أنْ يُواسِيهَ من فضل ما عندَه بما لا يضرُّ به إذا علم حاجته(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/160 ، والترمذي ( 1943 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : الحميدي ( 593 ) ، وابن أبي شيبة ( 25417 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 105 ) و( 128 )، وأبو داود ( 5152 ) ، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" ( 321 )، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 36-37 ، والطبراني في " الأوسط " ( 2424 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/306 من طرق عن مجاهد بن جبر ، عن عبد الله بن عمرو ، به .
(4) صحيح البخاري 3/173 ( 2463 ) و7/145 ( 5627 ) ، وصحيح مسلم 5/57
( 1609 ) ( 136 ) .
(5) انظر : المغني 5/37 .

قال المروذي : قلتُ لأبي عبد الله : إني أسمع السائل في الطريق يقول : إنِّي جائع ، فقال : قد يَصدُق وقد يَكذِبُ . قلت : فإذا كان لي جار أعلم أنَّه يجوعُ ؟ قال : تواسيه ، قلت : إذا كان قوتي رغيفين ؟ قال : تُطعمه شيئاً ، ثم قال : الذي جاء في الحديث إنَّما هو الجارُ .
وقال المروذي : قلتُ لأبي عبد الله : الأغنياءُ يجبُ عليهمُ المواساة ؟ قال : إذا كان قوم يضعون شيئاً على شيءٍ كيف لا يجبُ عليهم ، قلت : إذا كان للرجل قميصان ، أو قلت : جُبَّتان ، يجب عليه المواساة ؟ قال : إذا كان يحتاج إلى أنْ يكون فضلاً .
وهذا نصٌّ منه في وجوب المواساة من الفاضل ، ولم يخصَّه بالجار ، ونصُّه الأوَّل(1) يقتضي اختصاصه بالجار .
وقال في رواية ابن هانئ في السُّؤال يكذِبُون أحبُّ إلينا لو صدقوا ما وَسِعَنا إلا مواساتُهم ، وهذا يدلُّ على وجوب مواساة الجائع مِنَ الجيران ، وغيرهم .
وفي " الصحيح " عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أطعِموا الجائع ، وعُودُوا المريضَ ، وفُكُّوا العاني ) (2) .
وفي " المسند " و" صحيح الحاكم " عن ابن عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( أيُّما أهل عَرَصةٍ أصبحَ فيهم امرؤٌ جائع ، فقد برئت منهم ذِمَّةُ الله - عز وجل - )(3)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 4/83 ( 3046 ) و7/31 ( 5174 ) و7/87 ( 5373 ) و7/150
( 5649 ) و9/88 ( 7173 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 489 ) ، وعبد الرزاق ( 333 ) و( 6763 ) ، وأحمد 4/394 و406 ، وعبد بن حميد ( 554 ) ، والدارمي ( 2465 ) ، وأبو داود ( 3105 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7492 ) و( 8666 ) ، من طرق عن أبي وائل ، عن أبي موسى الأشعري ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/33 ، والحاكم 2/11-12 ، وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته ، ومتنه لا يخلو من نكارة .

وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1311 ) ، وأبو يعلى ( 5746 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8426 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/101 .

.
ومذهب أحمدَ ومالكٍ أنَّه يمنع الجار أنْ يتصرَّف في خاصِّ ملكه بما يضرُّ
بجاره ، فيجبُ عندهما كفُّ الأذى عن الجار بمنعِ إحداث الانتفاع المضرِّ به ، ولو كان المنتفعُ إنَّما ينتفعُ(1) بخاصِّ ملكه، ويجب عندَ أحمد أنْ يبذُلَ لجاره ما يحتاجُ إليه، ولا ضررَ عليه في بَذله(2)، وأعلى مِنْ هذين أنْ يصبر على أذى جاره، ولا يُقابله بالأذى .
قال الحسن : ليس حسنُ الجوار كفَّ الأذى ، ولكن حسن الجوار احتمالُ الأذى ، ويُروى من حديث أبي ذرٍّ يرفعه : ( إنَّ الله يحبُّ الرَّجل يكونُ له الجارُ يؤذيه جِوارُه ، فيصبر على أذاه حتى يُفرِّقَ بينهما موتٌ أو ظعنٌ ) خرَّجه الإمام أحمد(3) . وفي مراسيل أبي عبد الرحمان الحبلي : أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو إليه جارَه ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كفَّ أذاكَ عنه ، واصبِرْ لأذاه ، فكفى بالموت مفرِّقاً ) خرَّجه ابن أبي الدنيا(4) .
الثالث ممَّا أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين : إكرامُ الضيف ، والمرادُ : إحسّانُ ضيافته ، وفي "الصحيحين" (5)
__________
(1) عبارة : ( إنما ينتفع ) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : المغني 37-38 .
(3) في " المسند " 5/151 من طريق ابن الأحمس ، عن أبي ذر ، به .
وأخرجه : ابن المبارك في " الجهاد " ( 47 ) ، والطيالسي ( 468 ) ، والبزار ( 3908 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1637 ) من طرق عن أبي ذر ، به .
(4) في " مكارم الأخلاق " ( 328 ) ، وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد ولإرساله .
(5) صحيح البخاري 8/13 ( 6019 ) و8/39 ( 6135 ) ، وصحيح مسلم 5/137-138
( 48 ) ( 14 ) .

وأخرجه : مالك ( 2687 ) برواية الليثي ، والحميدي ( 576 ) ، وأحمد 4/31 و6/385 ، وعبد بن حميد ( 482 ) ، وأبو داود ( 3748 ) ، والترمذي ( 1967 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 12056 ) .

من حديث أبي شُريح ، قال : أبصَرَتْ عيناي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسمعتهُ أذنايَ حينَ تكلَّم به قال : ( مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر ، فليُكْرِمْ ضيفَه جائزته ) قالوا : وما جائزته ؟ قال : ( يَومٌ وليلة ) قال : ( والضيافةُ ثلاثةُ أيام ، وما كان بعد ذلك ، فهو صدقة ) .
وخرَّج مسلم من حديث أبي شُريح أيضاً ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الضيافة ثلاثةُ أيَّام ، وجائزتُه يومٌ وليلةٌ ، وما أنفق عليه بعد ذلك ، فهو صدقةٌ ، ولا يَحِلُّ له أنْ يَثْوِي عندَه حتى يُؤْثِمهُ ) ، قالوا : يا رسول الله وكيف يُؤثِمُهُ ؟ قالَ : ( يُقيم عنده ولا شيءَ لهُ يقرِيه به )(1) .
وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( مَنْ كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليُكرِمْ ضَيفهُ ) . قالها ثلاثاً ، قالوا : وما كرامة الضيف يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( ثلاثةُ أيام ، فما جلس بعد ذَلِكَ فهوَ صدقة )(2) .
ففي هذه الأحاديث أنَّ جائزة الضيف يومٌ وليلةٌ ، وأنَّ الضيافة ثلاثةُ أيام ، ففرَّق بين الجائزة والضيافة ، وأكَّدَ الجائزة ، وقد ورد في تأكيدها أحاديثُ أخرُ ، فخرَّج أبو داود(3)
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/138 ( 48 ) ( 15 ) .
(2) أخرجه : أحمد 3/76 من طريق أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، به .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 33476 ) ، وأحمد 3/8 و21 و64 ، وعبد بن حميد ( 870 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 1931 ) و( 1932 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 4/240 ، وفي " شرح مشكل الآثار " ، له ( 2824 ) ، وابن حبان ( 5281 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/99 و6/203-204 ، والبيهقي في " الكبرى " 9/197 ، وهو حديث قويٌّ .
(3) السنن ( 3750 ) من طريق الشعبي ، عن المقدام بن معدي كرب ، به ، وهو صحيح .

وأخرجه : الطيالسي ( 1151 ) ، وأحمد 4/130 و132-133 و133 ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 1839 ) و( 2812 ) و( 2813 ) ، وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/242 ، والطبراني في " الكبير " 20/( 621 ) و( 622 ) و( 623 ) و( 624 ) ، والبيهقي 9/197 من طرق عن المقدام بن معدي كرب ، به .

مِنْ حديث المقدام بن(1) معدي كرب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( ليلة الضيف حقٌّ على كلِّ مسلم ، فمن أصبحَ بِفِنائه ، فهو عليه دَيْنٌ ، إنْ شاءَ اقتضى ، وإنْ شاءَ ترك ) . وخرَّجه ابن ماجه(2) ولفظه : ( ليلةُ الضيفِ حقٌّ على كُلِّ
مسلمٍ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد ، وأبو داود من حديث المقدام ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( أيُّما رجلٍ أضاف قوماً ، فأصبح الضيفُ محروماً ، فإنَّ نَصْرَهُ حقٌّ على كُلِّ مسلمٍ حتَّى يأخذ بِقِرَى ليلةٍ من زرعه وماله )(3) .
وفي " الصحيحين " (4) عن عُقبة بن عامر ، قال : قلنا يا رسول الله ، إنَّك تبعثُنا ، فننزلُ بقوم لا يُقرونا ، فما ترى(5) ؟ فقال لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ نزلتُم بقومٍ فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضَّيف ، فاقْبَلُوا ، فإنْ لم يفعلوا فخذُوا منهم حق الضَّيف الذي ينبغي لهم ) .
__________
(1) المقدام بن ) لم ترد في ( ص ) .
(2) السنن ( 3677 ) من طريق الشعبي ، عن المقدام بن معدي كرب ، به .
وأخرجه : الدارمي ( 2037 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 744 ) ، وأبو داود
( 3751 ) ، وهو حديث صحيح .
وانظر التخاريج التي قبله .
(3) سبق تخريجه .
(4) صحيح البخاري 3/172 ( 2461 ) و8/39 ( 6137 ) ، وصحيح مسلم 12/31
( 1727 ) ( 17 ) .
وأخرجه : أحمد 4/149 ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 745 ) ، وابن ماجه ( 3676 ) ، وأبو داود ( 3752 ) ، والترمذي ( 1589 ) ، وأبو عوانة ( 6487 ) و( 6488 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1840 ) و( 2814 ) وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/242 ، وابن حبان ( 5288 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 766 ) ، والبيهقي 9/197 و10/270 ، والبغوي ( 3003 ) من طرق عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، به .
(5) عبارة : ( فما ترى ) سقطت من ( ص ) .

وخرَّج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هُريرة(1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( أيُّما ضيفٍ نزلَ بقومٍ ، فأصبح الضَّيفُ محروماً ، فله أنْ يأخُذَ بقدرِ قراهُ ، ولا حَرَجَ عليه )(2) .
وقال عبد الله بن عمرو : مَنْ لم يُضِف ، فليس مِن محمَّدٍ ، ولا من إبراهيم .
وقال عبد الله(3) بن الحارث بن جَزْء : من لم يُكرِمْ ضيفَه ، فليس من محمد ، ولا من إبراهيم(4) .
وقال أبو هريرة لِقوم نزل عليهم ، فاستضافهم ، فلم يُضَيِّفوهُ ، فتنحَّى ونزل ، فدعاهم إلى طعامه ، فلم يُجيبوه ، فقال لهم : لا تُنزلون الضيف ولا تجيبون الدعوة ما أنتُم من الإسلام على شيء ، فعرفه رجل منهم ، فقال له : انْزِل عافاك الله ، قال : هذا شرٌّ وشرٌّ ، لا تنزلون إلاَّ مَنْ تَعرِفُون .
ورُوي عن أبي الدرداء نحو هذه القضية إلاّ أنَّه قال لهم : ما أنتُم مِنَ الدِّين إلا على مثلِ هذه ، وأشار إلى هُدبةٍ في ثوبه .
وهذه النُّصوصُ تدلُّ(5) على وجوب الضِّيافة يوماً وليلة ، وهو قولُ الليث وأحمد(6) ، وقال أحمد : له المطالبةُ بذلك إذا منعه ؛ لأنَّه حقٌّ له واجب ، وهل يأخذُ بيده من ماله إذا منعه ، أو يرفعه إلى الحاكم ؟ على روايتين منصوصتين عنه(7) .
__________
(1) في ( ص ) : ( وخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/380 .
وأخرجه : الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 2816 ) و( 2817 ) ، وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/242 ، وهو حديث صحيح .
(3) تحرف ( ص ) إلى : ( محمد بن عبد الله ) .
(4) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " 1/218 ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 2437 ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : التمهيد 21/43 ، والمغني 11/91 ، وشرح صحيح مسلم للنووي 6/227 .
(7) انظر : المغني 11/91 ، والشرح الكبير 11/119 .

وقال حُميدُ بن زَنجويه : ليلةُ الضَّيف واجبةٌ ، وليس له أنْ يأخذَ قِراه منهم قهراً ، إلاَّ أنْ يكونَ مسافراً في مصالح المسلمين العامَّة دونَ مصلحة نفسه .
وقال الليثُ بن سعد : لو نزل الضَّيفُ بالعبد أضافه من المال الذي بيده ، وللضيف أنْ يأكلَ ، وإنْ لم يعلم أنَّ سيِّده أذِنَ له ؛ لأنَّ الضيافة واجبة(1) . وهو قياسُ قول أحمد ؛ لأنَّه نصَّ على أنَّه يجوز إجابةُ دعوة العبد المأذون له في التجارة وقد روي عن جماعة من الصحابة أنَّهم أجابوا دعوة المملوك ، ورُويَ ذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيضاً(2)، فإذا جاز له أنْ يدعوَ الناس إلى طعامه ابتداءً وجازَ إجابةُ دعوته ، فإضافتُه لمن نزل به أولى .
ومنع مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما مِنْ دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيِّده(3)، ونقل عليُّ بن سعيدٍ ، عن أحمدَ ما يدلُّ على وجوب الضيافة للغُزاة خاصَّةً بمن مرُّوا بهم ثلاثةَ أيَّامٍ (4)، والمشهور عنه الأولُ ، وهو وجوبُها لكلِّ ضيفٍ نزلَ بقومٍ .
واختلف قوله : هل تجبُ على أهلِ الأمصار والقُرى أم تختصُّ بأهلِ القُرى ومَنْ كان على طريقٍ يمرُّ بهم المسافرون ؟ على روايتين منصوصتين عنه(5) .
__________
(1) انظر : التمهيد 21/43 .
(2) أخرج الترمذي في " جامعه " ( 1017 ) من حديث أنس بن مالك أنه قال : ( ثم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد … ) .
وأخرجه : الدارقطني في " العلل " 6/226 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/63 ، والبيهقي 1/370 ، والخطيب في " تاريخه " 12/32 ، وفيه مقال .
(3) انظر : التمهيد 21/43 .
(4) انظر : المغني 10/569-570 .
(5) انظر : التمهيد 21/43-44 ، والمغني 11/91 ، وشرح صحيح مسلم للنووي 6/227 .

والمنصوص عنه : أنَّها تجبُ للمسلمِ والكافرِ ، وخصَّ كثيرٌ من أصحابه الوجوبَ للمسلم ، كما لا تجبُ نفقةُ الأقارب مع اختلاف الدِّين على إحدى الروايتين عنه(1) .
وأمَّا اليومان الآخران ، وهما الثاني والثالث ، فهما تمامُ الضِّيافة ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه لا يجبُ إلا الجائزةُ الأولى ، وقال : قد فرَّق بين الجائزة والضيافة ، والجائزة أوكدُ ، ومِنْ أصحابنا مَنْ أوجَبَ الضيافة ثلاثة أيام ، منهم : أبو بكر بن عبد العزيز ، وابنُ أبي موسى ، والآمدي ، وما بعدَ الثَّلاث ، فهو صدقة ، وظنَّ بعضُ النَّاسِ أنَّ الضيافة ثلاثة أيام(2) بعد اليوم والليلة الأولى ، وردَّه أحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الضيافة ثلاثة أيام ، فما زاد فهو صدقة ) (3)، ولو كان كما ظنَّ هذا لكان أربعة(4) .
قلتُ : ونظيرُ هذا قوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ } إلى قوله : { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } (5) والمراد : في تمام الأربعة .
وهذا الحديث الذي احتجَّ به أحمد قد تقدَّم(6) من حديث أبي شُريح ، وخرَّجه البخاري من حديث أبي هريرة(7) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فَلْيُحسن قِرى ضَيفه ) ، قيل : يا رسول الله ، وما قِرى الضيف ؟ قال : ( ثلاث ، فما كان بعدُ فهو صدقة )(8) .
__________
(1) انظر : المغني 11/91 .
(2) من قوله : ( منهم أبو بكر ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) انظر : المغني 11/91 .
(5) سورة فصلت : 9-10 .
(6) عبارة : ( قد تقدم ) سقطت من ( ص ) .
(7) تحرف في ( ص ) إلى : ( أبي ذر ) .
(8) أخرجه : البخاري 8/39 ( 6136 ) ؛ ولكن بغير هذا اللفظ .

قال حُميد بن زنجويه : عليه أنْ يتكلَّف له في اليوم والليلة من الطعام أطيب ما يأكله هو وعيالُه ، وفي تمام الثلاث يطعمه من طعامه ، وفي هذا نظر . وسنذكر حديثَ سلمان بالنَّهي عنِ التَّكلُّف للضَّيف ، ونقل أشهبُ عن مالكٍ ، قال : جائزتُه يومٌ وليلةٌ يُكرمه ويُتحفه ويخصه يوماً وليلةً وثلاثة أيَّام ضيافة(1) ، وكان ابنُ عمر يمتنع مِن الأكل مِنْ مالِ مَنْ نزل عليه فوق ثلاثة أيامٍ ، ويأمر أنْ يُنْفَقَ عليه من ماله(2) .
ولصاحب المنْزل أن يأمر الضيف بالتحوّل عنه بعد الثلاث ؛ لأنَّه قضى ما
عليهِ ، وفعل ذَلِكَ الإمام أحمد .
__________
(1) انظر : التمهيد 21/42 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 33477 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/311 من طريق نافع عن ابن عمر ، به . وهو قريب من هذا اللفظ .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يَحِلُّ لهُ أنْ يَثوِيَ عندَه حتَّى يُحْرِجَه ) يعني : يُقيم عندَه حتَّى يُضَيِّقَ عليهِ ، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد عليها ؟ فأما فيما ليس بواجبٍ ، فلا شك في تحريمه ، وأما في ما هو واجب وهو اليوم والليلة فينبني على أنَّه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئاً أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به ؟ فإنْ قيل : إنَّها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به – وهو قولُ طائفةٍ من أهلِ الحديث ، منهم : حُميدُ بنُ زنجويه – لم يحل للضيف أنْ يستضيف من هُوَ عاجز عن ضيافته . وقد رُوِيَ من حديث سلمان قال : ( نهانا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نتكلَّفَ للضيفِ(1) ما ليسَ عندنا ) (2) فإذا نهي المضيف أنْ يتكلَّفَ للضيف ما ليس عنده دلَّ على أنَّه لا تَجِبُ عليه المواساةُ للضيف إلا مما عنده ، فإذا لم يكن عنده فَضلٌ لم يلزمه شيءٌ ، وأما إذا آثَرَ على نفسه ، كما فعل الأنصاريُّ(3) الذي نزل فيه
: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4) فذلك مقامُ فضلٍ
وإحسّان ، وليس بواجب .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 1404 ) و( 1405 ) و( 1406 ) و( 1407 )
و( 1408 ) ، وأحمد 5/441 ، والبخاري في " التأريخ الكبير " 2/375 ( 2867 ) ، والبزار ( 2514 ) و( 2515 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6083 ) و( 6084 )
و( 6085 ) ، والحاكم 4/123 ، وأبو نعيم في " تأريخ أصبهان " 1/56 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 9598 ) و( 9599 ) و( 9600 ) و( 9601 ) وفي " الآداب " ، له
( 84 ) ، والخطيب في " تأريخه " 8/45 .
(3) أخرجه : البخاري 6/185 ( 4889 ) ، ومسلم 6/127 ( 2054 ) ( 172 ) عن أبي حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة ، به .
(4) الحشر : 9 .

ولو علم الضيف أنَّهم لا يُضيفونه إلا بقوتِهم وقوت صبيانهم ، وأنَّ الصبية يتأذَّوْنَ بذلك ، لم يجز له استضافتُهم حينئذ عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يَحِلُّ له أنْ يُقيمَ عندَه حتَّى يُحرجه )(1) .
وأيضاً فالضيافة نفقة واجبة ، فلا تجب إلا على مَنْ عنده فضلٌ عن قوته وقوتِ عياله ، كنفقة الأقارب ، وزكاةِ الفطر . وقد أنكر الخطابي تفسيرَ تأثيمه بأنْ يُقيمَ عندَه ولا شيءَ له يَقريه ، وقال : أراه غلطاً ، وكيف يأثم في ذلك وهو لا يتسع لِقراه ، ولا يجد سبيلاً إليه ؟ وإنَّما الكلفة على قَدرِ الطاقة ، قال : وإنَّما وَجْهُ الحديثِ أنَّه كَرِهَ له المقام عندَه بعدَ ثلاث لِئلا يضيقَ صدرُه بمكانه ، فتكون الصدقة منه على وجه المنِّ والأذى فَيَبْطُلُ أجرُه(2) ، وهذا الذي قاله فيه نظر ؛ فإنَّه قد صحَّ تفسيرُه في الحديث بما أنكره ، وإنَّما وجهه أنَّه إذا أقامَ عندَه ولاشيءَ له يقريه به ، فربما دعاه ضيقُ صدره به ، وحرجه إلى ما يأثم به في قول ، أو فعل ، وليس المرادُ أنَّه يأثم بترك قِراه مع عجزه عنه ، والله أعلم .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) انظر : معالم السنن 4/221 .


الحديث السادس عشرعَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أوصِني ، قال : ( لا تَغْضَبْ ) فردَّد مِراراً قال : ( لا تَغْضَبْ ) . رواهُ البُخاريُّ(1) .
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من طريق أبي حَصين الأسدي (2) ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يُخرجه مسلم ؛ لأنَّ الأعمشَ رواه عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة ، كقول أبي حَصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أنَّ هذا هو الصحيحُ ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد(3) ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى .
وخرَّج الترمذي(4) هذا الحديثَ من طريق أبي حصين أيضاً ولفظُه : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله علِّمني شيئاً ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه ، قال : ( لا تَغْضَب ) ، فردد ذلك مراراً كلُّ ذلك يقول : ( لا تغضب ) وفي رواية أخرى(5) لغير الترمذي قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا
تُكثِرْ عليَّ ، قال : ( لا تَغْضَب ) .
__________
(1) في " صحيحه " 8/35 ( 6116 ) .
وأخرجه : أحمد 2/362 و466 ، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/340 ، والبيهقي 10/105 .
(2) هو عثمان بن عاصم بن حُصين الأسدي ، الكوفي ، أبو حَصين بفتح المهملة . تقريب التهذيب ( 4484 ) .
(3) جملة : ( وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ) سقطت من ( ص ) .
(4) في " جامعه " ( 2020 ) ، وقال : ( حسن صحيح غريب ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 1593 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1731 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(5) أخرجه : أحمد 2/362 ، والبغوي ( 3580 ) من حديث أبي هريرة ، به .

فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها ؛ لكثرتها ، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يغضب ، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير(1) .
ولعلَّ هذا الرجلَ الذي سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو أبو الدرداء ، فقد خرَّج الطبراني(2) من حديث أبي الدرداء قال : قلتُ : يا رسولَ الله دلني على عمل يدخلني الجنَّة ، قال : ( لا تَغْضَبْ ولكَ الجَنَّةُ ) .
وقد روى الأحنفُ بنُ قيسٍ ، عن عمه جارية(3) بن قدامة : أنَّ رجلاً قال :
يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولاً ، وأقْلِلْ عليَّ لعلي أعقِلُهُ ، قال : ( لا تغضبْ ) ، فأعاد عليه مراراً كُلُّ ذلك يقول : ( لا تَغضَبْ ) خرَّجه الإمام أحمد(4) ، وفي رواية(5)
__________
(1) انظر : فتح الباري 10/638 .
(2) في " الأوسط " ( 2374 ) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/70 : ( رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " وأحد إسنادي الكبير رجاله ثقات ) .
(3) تصحف في ( ص ) : إلى : ( حارثة ) .
(4) في " مسنده " 3/484 و5/34 .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 1168 ) ، وابن حبان ( 5690 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2095 ) و( 2097 ) و( 2099 ) و( 2105 ) وفي " الأوسط " ، له ( 7491 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/108 عن جارية بن قدامة ، عن رجل ، به ، وانظر ماسيأتي .
(5) مسند الإمام أحمد 5/34 و370 و372 . =

= ... وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/40 ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" ( 1167 )، وابن حبان ( 5689 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2093 ) و( 3094 ) و( 2096 )
و( 2098 ) و( 2100 ) و( 2101 ) و( 2102 ) و( 2103 ) و( 2104 ) و( 2106 ) و( 2107 ) ، والحاكم 3/615 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8279 ) و( 8280 ) من حديث جارية بن قدامة ، به . وجارية بن قدامة مختلف في صحبته .

له
أنَّ جارية بن قُدامة قال : سألت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره .
فهذا يغلب على الظنِّ أنَّ السائلَ هو جارية بنُ قدامة ، ولكن ذكر الإمامُ أحمد(1) عن يحيى القطان أنَّه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أنَّ هشاماً ذكر في الحديث أنَّ جارية سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال يحيى : وهم يقولون : لم يُدرك النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا قال العجليُّ وغيرُه : إنَّه تابعيٌّ وليس بصحابي .
وخرَّج الإمامُ أحمد(2) من حديث الزهري ، عن حُميد بنِ عبد الرحمان ، عن رجلٍ من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : قلتُ : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( لا
تَغْضَبْ ) قال الرجل : ففكرتُ حين قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه ، ورواه مالك في " الموطأ " (3) عن الزهري ، عن حُميد ، مرسلاً .
وخرَّج الإمامُ أحمد(4) من حديث عبد اللهِ بن عمرو : أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل - ؟ قال : ( لا تَغْضَب ) .
__________
(1) في " مسنده " 3/484 .
(2) في " مسنده " 5/373 .
وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20286 ) - ومن طريقه البيهقي 10/105 عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمان ، عن رجل ، به . وإسناده صحيح وهو صحيح موصولاً ، وقد توبع معمر تابعه سفيان بن عيينة عند ابن أبي شيبة 8/535 ، وأحمد 5/408 ، وأبي نعيم
في " معرفة الصحابة " 5/92 فلا يضره إرسال مالك ؛ إذ اتفق معمر وسفيان على
وصله ، وقد قال ابن المبارك : ( الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثة : مالك ومعمر وابن عيينة فإذا اجتمع اثنان على قول أخذنا به وتركنا قول الآخر ) السنن الكبرى للنسائي عقيب
( 2072 ) .
(3) الموطأ ( 2636 ) برواية يحيى الليثي .
(4) في "مسنده" 2/175 وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ؛ لكن هذا الحديث له شواهد يتقوى بها .

وقول الصحابي : ففكرتُ فيما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا الغضبُ يجمع الشرَّ كلَّه يشهد لما ذكرناه أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ، قال جعفر بنُ محمد : الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ . وقيل لابنِ المبارك : اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال : تركُ الغضبِ .
وكذا فسَّر الإمام أحمد ، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً ، خرَّجه محمدُ بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " (1) من حديث أبي العلاء بنِ الشِّخِّير : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ وجهه ، فقالَ : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ قالَ : ( حُسْنُ الخلق ) ثُمَّ أتاه عن يمينه ، فقالَ : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( حسنُ الخُلُقِ ) ، ثم أتاه عن شِماله ، فقال : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( حسنُ الخُلُقُ ) ، ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ فالتفت إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مالك لا تَفْقَهُ ! حسْنُ الخُلُقِ هو أنْ لا تَغْضَبَ إنِ استطعْتَ ) . وهذا مرسل .
فقولُه - صلى الله عليه وسلم - لمن استوصاه : ( لا تَغْضَبْ ) يحتَمِلُ أمرين :
أحدُهما : أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلمِ والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه .
__________
(1) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 878 ) مرسلاً .

والثاني : أنْ يكونَ المرادُ : لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك ، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له(1) ، ولهذا المعنى قال الله - عز وجل - : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } (2) فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شرُّ الغضب ، وربما سكن غَضَبُهُ ، وذهب عاجلاً ، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل - : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } (3) ، وبقوله - عز وجل - : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ ، وتُسَكِّنُهُ ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه ، ففي " الصحيحين " (5)
__________
(1) انظر : فتح الباري 10/639 .
(2) الأعراف : 154 .
(3) الشورى : 37 .
(4) آل عمران : 134 .
(5) صحيح البخاري 18/19 ( 6048 ) و34 ( 6115 ) و150 ( 3282 ) ، وصحيح مسلم 8/30-31 ( 2610 ) ( 109 ) و( 110 ) .

وأخرجه : أحمد 6/394 ، وأبو داود ( 4781 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10224 )
و( 10225 ) من حديث سليمان بن صرد ، به .

عن سليمانَ بن صُرَد قال : استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ عنده جلوسٌ ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضباً قد احمرَّ وجهُهُ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها لذهبَ عنه ما يجد ، لو قال : أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم ) فقالوا للرجل : ألا تسمعُ ما يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إني لَسْتُ بِمجنونٍ(1) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(2) والترمذيُّ(3) من حديث أبي سعيد الخُدري : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطْبته : ( ألا إنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ في قلبِ ابنِ آدمَ ، أفما رأيتُم إلى حُمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه ، فمن أحسَّ من ذلك شيئاً فليَلْزَقْ بالأرضِ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ(4) ، وأبو داود(5) من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( إذا غَضِبَ أحدُكُم وهو قائِمٌ ، فَلْيَجْلِسْ ، فإنْ ذَهَبَ عَنه الغضبُ وإلا فليَضطجعْ ) .
__________
(1) يحتمل أنْ هذا الرجل كان من المنافقين ، أو من جُفاة العرب ، فهو لم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة ، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان .
انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 8/336 .
(2) في " مسنده " 3/19 و61 .
وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20720 ) ، والحميدي ( 752 ) ، وعبد بن حميد ( 864 )، وأبو يعلى ( 1101 ) ، والحاكم 4/505-506 ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 8289 ) ، والبغوي ( 4039 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به ، وهو جزء من حديث طويل .
(3) في " جامعه " ( 2191 ) وقال : ( حسن ) ، وإسناد الحديث ضعيف لضعف علي بن زيد ابن جدعان .
(4) في " مسنده " 5/152 .
وأخرجه : الخرائطي في " مساوئ الأخلاق " ( 346 ) ، وابن حبان ( 5688 ) ، والبغوي
( 3584 ) وقد اختلف في إسناده ورجح أبو داود إرساله .
(5) السنن ( 4782 ) و( 4783 ) .

وقد قيل : إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك ، والمضطجع أبعدُ عنه ، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام(1) ، ويَشْهَدُ لذلك أنَّه رُوي من حديث سِنان بنِ سعد ، عن أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومن حديث الحسن مرسلاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2) قال : ( الغَضَبُ جَمرةٌ في قَلبِ الإنسانِ تَوَقَّدُ ، ألا ترى إلى حُمرةِ عَيْنَيهِ وانْتِفَاخِ أوداجِهِ ، فإذا أحس أحدُكُم مِنْ ذلك شيئاً ، فليَجْلِسْ ، ولا يَعْدُوَنَّه الغَضَبُ )(3) .
والمرادُ : أنَّه يحبسه في نفسه ، ولا يُعديه إلى غيره بالأذى بالفعلِ ، ولهذا المعنى قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الفتن : ( إنَّ المضطجِعَ فيها خَيْرٌ من القَاعِدِ ، والقَاعِدَ فيها خيرٌ من القَائِم ، والقائمَ خَيرٌ مِنَ المَاشِي ، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعي )(4) ، وإنْ كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن ، إلا أنَّ المعنى : أنَّ من كان أقرب إلى الإسراع فيها ، فهو شرٌّ ممن كان أبعد عن ذلك .
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا غَضِبَ
أحَدُكُمْ ، فليَسْكُتْ ) ، قالها ثلاثاً(5)
__________
(1) انظر : معالم السنن 4/100-101 .
(2) من قوله : ( ومن حديث الحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) حديث أنس لم أعثر عليه فيما بين يدي من الكتب الحديثية .
أما رواية الحسن المرسلة فقد أخرجها : معمر في " جامعه " ( 20289 ) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 8290 ) عن الحسن ، مرسلاً .
(4) أخرجه : البخاري 4/241 ( 3601 ) و9/64 ( 7081 ) و( 7082 ) ، ومسلم 8/168 - 169 ( 2886 ) ( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) ، وأبو داود ( 4256 ) ، والبيهقي 8/190 من حديث أبي هريرة ، به .
(5) في " مسنده " 1/239 و283 و365 .

وأخرجه : الطيالسي ( 2608 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 245 ) ، والبزار كما في
" كشف الأستار " ( 152 ) و( 153 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10951 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 764 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8287 ) و( 8288 ) ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف .

.
وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب ؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيراً من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه ، وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله - : ما امتلأتُ غيضاً قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ(1) . وغضب يوماً عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه : عبدُ الملكِ – رحمهما الله - : أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ ؟ فقال له : أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك ؟ فقال عبد الملك : وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه
الغضبَ حتى لا يظهر(2) ؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب - رضي الله عنهم - .
وخرَّج الإمامُ أحمد(3) ، وأبو داود(4) من حديث عُروة بنِ محمد السَّعدي : أنَّه كلَّمه رجل فأغضبه ، فقام فتوضأ ، ثم قال : حدثني أبي عن جدِّي عطيةَ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطانِ ، وإنَّ الشيطانَ خُلِقَ من النَّارِ ، وإنَّما تُطفَأُ النار بالماءِ ، فإذا غَضِبَ أحَدُكُم فَليَتوضَّأ ) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/235 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/358 .
(3) في " مسنده " 4/226 .
وأخرجه : ابن قانع في " معجم الصحابة " 2/307 ، والطبراني في " الكبير " 17/( 443 ) ، والبغوي ( 3583 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/234 و43/81 و57/172 ، وإسناده ضعيف .
(4) السنن ( 4784 ) ، وينظر التخريج المتقدم ذكره .

وروى أبو نعيم(1) بإسناده عن أبي مسلم الخولاني : أنَّه كلَّم معاوية بشيءٍ وهو على المنبر ، فغضب ، ثم نزل فاغتسل ، ثم عاد إلى المنبر ، وقال : سمعتُ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الغضبَ مِن الشيطان ، والشيطانَ من النار ، والماءُ يُطفئُ النار ، فإذا غَضِبَ أحدكم فليغتسل ) .
وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ ) .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فيكم ؟ ) قلنا : الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ ، قال : ( ليس ذلك ، ولكنَّه الذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغضبِ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(4) ، وأبو داود(5) ، والترمذي(6) ، وابن ماجه(7) من حديث معاذ بن أنس الجهني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ كَظَمَ غَيظاً وهو يَستطيعُ
أنْ يُنفذه ، دعاه الله يومَ القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى يخيره في أيِّ الحورِ
شاء ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(8)
__________
(1) في " الحلية " 2/130 ، وإسناده ضعيف .
(2) صحيح البخاري 8/34 ( 6114 )، وصحيح مسلم 8/30 ( 2609 ) ( 107 ) و( 108 ).
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2637 ) برواية الليثي ، وأحمد 2/268 و517 ، والنسائي في " الكبرى " ( 10226 ) و( 10227 ) و( 10228 ) ، والبيهقي 10/235 و241 .
(3) الصحيح 8/30 ( 2608 ) ( 106 ) .
وأخرجه : أحمد 1/382 ، وأبو داود ( 4779 ) ، وأبو يعلى ( 5162 ) من حديث عبد الله ابن مسعود ، به .
(4) في " مسنده " 3/438 و440 .
(5) السنن ( 4777 ) .
(6) في " جامعه " ( 2021 ) و( 2493 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده سهل بن معاذ ضعفه بعض الأئمة .
(7) السنن ( 4186 ) .
(8) في " مسنده " 2/128 . =

= ... وأخرجه : ابن ماجه ( 4189 ) ، والطبراني في " مكارم الأخلاق " ( 51 ) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 8305 ) و( 8306 ) و( 8307 ) وفي " الآداب " ، له ( 160 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به ، مرفوعاً ، وإسناده صحيح .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 1318 ) ، موقوفاً .
وأخرجه : البيهقي في" شعب الإيمان " ( 8308 ) وفي " الآداب " ، له ( 161 ) ، مرسلاً .

من حديث ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما تَجَرَّع عبدٌ جُرعَةً أفضلَ عندَ اللهِ من جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابتغاءَ وجهِ الله - عز وجل - ) ومِن حديث ابن عباسٍ(1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جُرعةِ غَيظٍ يَكظِمُها عبد ، ما كظم عبدٌ لله إلا ملأ الله جوفَه إيماناً ) . وخرَّج أبو
داود(2) معناه من رواية بعضِ الصحابة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( ملأه الله أمناً وإيماناً(3) ) .
وقال ميمون بن مِهران: جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال : يا أبا عبدِ الله أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : أمرتني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ ، قال : فإنْ غضبتَ ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك . خرَّجه ابن أبي الدنيا(4) ، وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأمره لمن غَضِبَ أنْ يجلس ، ويضطجع وبأمره له أنْ يسكت(5) .
قال عمرُ بنُ عبد العزيز : قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى ، والغضب ، والطمع(6) .
وقال الحسن : أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان ، وحرَّمه على النار : مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة ، والرهبة ، والشهوةِ ، والغضبِ(7) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/327 ، وفي إسناده نوح بن جعونة مجهول ، ولعله نوح بن أبي مريم الكذاب فيكون إسناد الحديث تالفاً .
(2) السنن ( 4778 ) وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته .
(3) من قوله : ( وخرج أبو داود ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن عساكر في " تأريخ دمشق " 23/314 .
(5) سبق تخريجة .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/290 .
(7) أخرجه : أبو نعيم في " الحيلة " 2/144 .

فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه ، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه ، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلاً إليه(1) ، وقد يكون كثير منها محرماً ، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّماً .
والرهبة : هي الخوفُ من الشيء(2) ، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعاً له ، وقد يكون كثير منها محرَّماً .
والشهوة : هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها ، وتلتذُّ به(3) ، وقد تميل كثيراً إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر ، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع .
والغضب : هو غليانُ دم القلب طلباً لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه ، أو طلباً للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه(4) ، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان ، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم(5)
__________
(1) انظر : لسان العرب 5/254 .
(2) انظر : العين : 372 ، وأساس البلاغة 1/399 ، ولسان العرب 5/237 .
(3) انظر : المفردات في غريب القرآن : 279 ، ولسان العرب 7/231 .
(4) انظر : المفردات في غريب القرآن : 375 ، والتعريفات : 162 .
(5) هو ابن الحارث بن أبي شعر ، واسمه المنذر بن الحارث ، روي في أحاديث دخل بعضها في بعض ، قالوا : وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له هدية ، ثم لم يزل مسلماً حتى كان زمن =

= ... عمر بن الخطاب ، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطيء رجلاً من مزينة ، فوثب المزني فلطمه ، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا : هذا لطم جبلة . قال : فليلطمه . قالوا : أو ما يقتل ؟ قال : لا ، فقالوا : أفما تقطع يده ؟ قال : لا ، إنَّما أمر الله بالقود ، قال جبلة : أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي جاء من عمق ؟ بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانياً ، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم . انظر : تاريخ دمشق 11/19 .

، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعاً ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ .
والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له ، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ ، فأثيب عليها ، وأنْ يكونَ غضبه دفعاً للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاماً ممن عصى الله ورسولَه ، كما قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } (1) .
__________
(1) التوبة : 14-15 .

وهذه كانت حالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه ، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء(1) ولم يضرب بيده خادماً ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله(2) . وخدمه أنس عشرَ سنين ، فما قال له : ( أفٍّ ) قط ، ولا قال له لشيء فعله : ( لم فعلت كذا )(3) ، ولا لشيء لم يفعله : ( ألا فعلت كذا ) . وفي رواية أنَّه كان إذا لامه بعضُ أهله قال - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه فلو قُضي شيءٌ كان )(4) . وفي رواية للطبراني(5) قال أنس : خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما دَرَيْتُ شيئاً قطُّ وافقه ، ولا شيئاً قط خالفه رضي من الله بما كان .
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2627 ) برواية الليثي ، والحميدي ( 258 ) ، وأحمد 6/31-32 و115-116 و181-182 و229 و232 و262، وعبد بن حميد ( 1481 ) ، والبخاري 4/230 ( 3560 ) و8/36 ( 6126 ) و8/216 ( 6853 ) وفي " الأدب
المفرد " ، له ( 274 ) ، ومسلم 7/80 ( 2327 ) ( 77 ) و7/80 ( 2328 ) ( 79 ) ، وأبو داود ( 4785 ) من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 17942 ) ، وأحمد 6/31-32 و206 و229 و232 و281 ، وعبد بن حميد ( 1481 ) ، والدارمي ( 2224 ) ، ومسلم 7/80 ( 2328 ) ( 79 ) ، وأبو داود ( 4786 ) ، وابن ماجه ( 1984 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9165 ) من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 17946 ) ، وأحمد 3/101 ، وعبد بن حميد ( 1361 ) ، والبخاري 4/13 ( 2768 ) و8/17 ( 6038 ) و9/15 ( 6911 ) ، ومسلم 7/73
( 2309 ) ( 51 ) و( 52 ) و( 53 ) ، وأبو داود ( 4774 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 17947 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) في " الأوسط " ( 9152 ) وفي " الصغير " ، له ( 1072 ) .
وانظر : مجمع الزوائد 9/16 .

وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : كان خُلُقُه القُرآن(1) ، تعني : أنَّه كان تأدَّب بآدابه ، وتخلَّق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن ، كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآنُ ، كان فيه سخطه(2) ، وجاء في رواية عنها ، قالت : كان خُلُقُه القُرآن يَرضى لِرضاه ويَسخَطُ لسخطه(3) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحداً بما يكره، بل تعرف الكراهة في وجهه ، كما في " الصحيح " (4) عن أبي سعيد الخدري قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها ، فإذا رأى شيئاً يكرهه ، عرفناه في وجهه ، ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، شقَّ عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وتَغيَّر وجهه ، وغَضِبَ ، ولم يَزِدْ على أنْ قال : ( قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر )(5) .
__________
(1) أخرجه : أبو عبيد في " فضائل القرآن " : 51-52 ، وأحمد 6/54 و91 و111 و188 و216 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 308 ) ، ومسلم 2/169 ( 746 ) ( 139 ) ، وأبو داود ( 1342 ) ، وابن ماجه ( 2333 ) ، والنسائي 3/199-200 وفي " الكبرى " ، له ( 11350 ) وفي " التفسير " ، له ( 158 ) و( 370 ) ، وابن خزيمة ( 1127 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1963 ) ، والبيهقي 3/30 وفي " دلائل النبوة " ، له 1/308-309 من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 3/226 .
(3) أخرجه : أبو عبيد في " فضائل القرآن " : 51 من حديث عائشة ، به .
(4) صحيح البخاري 4/230 ( 3562 ) و8/31 ( 6102 ) ، وصحيح مسلم 7/77
( 2320 ) ( 67 ) .
(5) أخرجه : البخاري 4/115 ( 3150 ) و5/202 ( 4336 ) ، ومسلم 3/109 ( 1062 ) ( 140 ) و( 141 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .

وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ، أو سَمِعَ ما يكرهه الله ، غَضِبَ لذلك ، وقال فيه ، ولم يَسْكُتْ ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى ستراً فيه تصاويرُ ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه ، وقال : ( إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذاباً يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ )(1) . ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه ، غَضِبَ ، واشتد غضبُه ، ووَعَظَ النَّاسَ(2) ، وأمر بالتَّخفيف(3) .
ولما رأى النُّخامَةَ في قبلة المسجد ، تَغَيَّظ ، وحكَّها ، وقال : ( إنَّ أحدَكُمْ إذا كان في الصَّلاةِ ، فإنَّ الله حِيالَ وَجْهِهِ ، فلا يَتَنخَّمَنَّ حِيال وجهه في الصَّلاةِ )(4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 7/215 ( 5954 ) ، ومسلم 6/158 ( 2107 ) ( 91 ) و6/159
( 2107 ) ( 92 ) ، والنسائي 8/214 ، وابن حبان ( 5847 ) ، والبيهقي 7/267 و269 من حديث عائشة ، به .
(2) لم ترد في ( ص ) .
(3) أخرجه : مسلم 2/42 ( 466 ) ( 182 ) من حديث أبي مسعود الأنصاري ، به .
(4) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 522 ) برواية الليثي ، والبخاري 1/112 ( 406 ) و1/191 ( 753 ) و2/82 ( 1213 ) و8/33 ( 6111 ) ، ومسلم 2/75 ( 547 )
( 50 ) ، وأبو داود ( 479 ) ، والنسائي 2/51 من حديث عبد الله بن عمر ، به .

وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : ( أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا ) (1) وهذا عزيز جداً ، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول .
وخرَّج الطبراني(2) من حديث أنس مرفوعاً : ( ثلاثٌ من أخلاقِ الإيمان : مَنْ إذا غَضِبَ ، لم يُدخله غضبُهُ في باطلٍ ، ومن إذا رَضِيَ ، لم يُخرجه رضاه من حقٍّ ، ومن إذا قَدَرَ ، لم يتعاطَ ما ليسَ له ) .
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان
أحدُهما عابداً ، وكان الآخرُ مسرفاً على نفسه ، فكان العابدُ(3) يَعِظُهُ ،
فلا ينتهي ، فرآه يوماً على ذنبٍ استعظمه ، فقال : والله لا يَغفِرُ الله لك ،
فغفر الله للمذنب ، وأحبط عملَ العابد ) . وقال أبو هريرة : لقد تكلَّم
بكلمة أوبقت دنياه وآخِرتَه ، فكان أبو هريرة يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا
مثلَ هذه الكلمة(4) في غضب . وقد خرَّجه الإمامُ أحمد(5)
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/264 ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 467 ) و( 1190 ) ، والبزار
( 1392 ) و( 1393 ) ، والنسائي 3/54-55 وفي " الكبرى " ، له ( 1229 ) ، وابن خزيمة في "التوحيد": 12، وابن حبان ( 1971 )، والطبراني في "الدعاء" ( 624 ) و( 625 ) من حديث عمار بن ياسر ، به . وهو جزء من حديث طويل ، وهو حديث صحيح .
(2) في "الصغير" ( 158 ) ، وإسناده ضعيف جداً فيه بشر بن الحسين ، قال عنه البخاري : ( فيه نظر ) ، وقال الدارقطني : ( متروك ) ، وقال ابن عدي : ( عامة حديثه ليس بمحفوظ ) ، وقال أبو حاتم : ( يكذب على الزبير ) الميزان 1/315 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " مسنده " 2/323 و363 .

وأخرجه : ابن حبان ( 5712 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6689 ) ، والمزي في
" تهذيب الكمال " 3/487-488 ( 2927 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وإسناده لا بأس به .

وأبو
داود(1) ، فهذا غَضِبَ لله ، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ ، وحتم على الله بما لا يعلم ، فأحبط الله(2) عمله ، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه ، ومتابعة هواه بما لا يجوز .
وفي " صحيح مسلم "(3) عن عِمران بن حُصين : أنَّهم كانوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وامرأةٌ من الأنصار على ناقةٍ ، فضَجِرَتْ ، فلعَنَتها فسَمِعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( خذُوا مَتَاعَها ودَعُوها ) .
وفيه أيضاً عن جابر قال : سِرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ورجلٌ من الأنصارِ على ناضحٍ له ، فتلدَّنَ عليه بعض التلدُّن ، فقال له : سِرْ ، لَعنَك الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انْزِلْ عنه ، فلا تَصْحَبْنا بملعونٍ ، لا تدعوا على أنفُسِكُم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تَدْعوا على أموالكم ، لا تُوافِقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء ، فيستجيب لكم )(4) .
فهذا كله يدلُّ على أنَّ دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب .
__________
(1) السنن ( 4901 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) عبارة : ( فأحبط الله ) لم ترد في ( ص ) .
(3) الصحيح 8/23 ( 2595 ) ( 80 ) و( 81 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 2561 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8816 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
(4) الصحيح 8/233 ( 3009 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 5742 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .

وأما ما قاله مجاهد(1) في قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } (2) ، قال : هو الواصِلُ لأهله وولده وماله إذا غَضِبَ عليه ، قال : اللهمَّ لا تُبارِكْ فيه ، اللهم العنه ، يقول : لو عجل له ذلك ، لأهلك مَنْ دعا عليه ، فأماتَه . فهذا يدلُّ على أنَّه لا يُستجاب جميعُ ما يدعو به الغضبانُ على نفسه وأهله وماله ، والحديثُ دلَّ على أنَّه قد يُستجابُ لمصادفته ساعة إجابة .
وأما ما رُوي عن الفُضيل بنِ عياض قال : ثلاثةٌ لا يُلامون على غضبٍ : الصائمُ والمريضُ والمسافرُ ، وعن الأحنف بن قيس قال : يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم : لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئاً ، وعن أبي عمران الجوني قال : إنَّ المريضَ إذا جزع فأذنب ، قال المَلَكُ الذي على اليمين للملك الذي على الشمال : لا تكتب . خرَّجه ابن أبي الدنيا ، فهذا كلُّه لا يُعرف له أصلٌ صحيحٌ من الشرع يدلُّ عليه ، والأحاديثُ التي ذكرناها من قبل تدلُّ على خلافه .
وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا غضبتَ فاسكت ) (3) يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت ، فيكون حينئذٍ مؤاخذاً بالكلام ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال ، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب ، فكيف يقال : إنَّه غيرُ مكلَّف في حال غضبه بما يصدر منه .
وقال عطاءُ بنُ أبي رباح : ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة ، أو ستين سنة ، أو سبعين سنة ، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحماً ما استقاله . خرَّجه ابن أبي الدنيا .
__________
(1) في " تفسيره " : 292 . وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 13625 ) و( 13626 ) .
(2) يونس : 11 .
(3) سبق تخريجه .

ثم إنَّ من قال مِن السَّلف : إنَّ الغضبان إذا كان سببُ غضبه مباحاً، كالمرض، أو السفرِ ، أو طاعةٌ كالصَّوْم لا يُلام عليه إنَّما مرادُه أنَّه لا إثمَ عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيراً من كلام(1) يُوجِبُ تضجراً أو سباً ونحوه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّما أنا بَشَرٌ أرضى كما يرضي البَشَرُ ، وأغْضَبُ كما يَغْضَبُ البشر ، فأيُّما مسلم سببتُه أو جلدتُه ، فاجعلها له كفارةً )(2) .
فأما ما كان من كفر ، أو ردَّةٍ ، أو قتل نفس ، أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك ، فهذا لا يشكُّ مسلم أنَّهم لم يُريدوا أنَّ الغضبانَ لا يُؤاخذُ به ، وكذلك ما يقعُ من الغضبان من طلاقٍ وعَتاقٍ، أو يمينٍ، فإنَّه يُؤاخَذُ بذلك كُلِّه بغيرِ خلافٍ(3) . وفي " مسند الإمام أحمد " (4)
__________
(1) عبارة : ( من كلام ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/316-317 ، والبخاري 8/96 ( 6361 ) ، ومسلم 8/25 ( 2601 )
( 89 ) ، وابن حبان ( 6516 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/22-23 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/399 .
(4) المسند 6/410-411 .

وأخرجه : أبو داود ( 2214 ) و( 2215 )، وابن الجارود ( 746 ) ، والطبري في "تفسيره" ( 26109 ) ، وابن حبان ( 4279 ) ، والطبراني في " الكبير " 24/( 633 ) و( 634 ) ، والبيهقي 7/389-390 و391-392 و392 من حديث خولة بنت ثعلبة . والروايات مطولة ومختصرة ، والحديث قويٌّ بشواهده .

عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنَّها راجعت زوجَها ، فغَضِبَ ، فظاهر منها ، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ ، وأنَّها جاءت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه ، فأنزل الله آيةَ(1) الظهار ، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكفارة الظِّهار في قصة طويلة ، وخرَّجها ابن أبي حاتم(2) من وجه آخر ، عن أبي العالية : أنَّ خُويلة غضب زوجها فظاهر منها ، فأتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته بذلك ، وقالت : إنَّه لم يُرِدِ الطلاقَ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أراكِ إلا حَرُمْتِ عليه ) ، وذكر القصةَ بطولها ، وفي آخرها ، قال : فحوَّل الله الطلاقَ ، فجعله ظهاراً .
فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرى حينئذ أنَّ الظهارَ طلاق ، وقد قال : إنَّها حَرُمَتْ عليه بذلك ، يعني : لزمه الطلاق ، فلما جعله الله ظهاراً مكفراً ألزمه بالكفارة ، ولم يُلغه .
وروى مجاهد عن ابنِ عباس : أنَّ رجلاً قال له : إني طلقت امرأتي ثلاثاً وأنا غضبان ، فقال : إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أنْ يُحِلَّ لك ما حرَّم الله عليك ، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك . خرَّجه الجوزجاني والدارقطني(3) بإسناد على شرط مسلم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في " تفسيره " 10/3342 ( 18840 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26108 ) .
(3) في " سننه " 4/13 ( 3882 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 2197 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11139 ) .

وخرَّج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب " أحكام القرآن " بإسنادٍ صحيح عن عائشة قالت : اللغو في الأيمان ما كان في المراءِ والهزل والمزاحة ، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وأيمانُ الكفارة على كُلِّ يمينٍ حلفت عليها على جدٍ من الأمر في غضب أو غيره : لَتَفْعَلنَّ أو لَتَترُكنَّ ، فذلك عقدُ الأيمان فيها الكفارة . وكذا رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وهذا من أصحِّ الأسانيد(1) ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحديث المروي عنها مرفوعاً : ( لا طلاقَ ولا عتاق في إغْلاقٍ ) (2)
__________
(1) انظر : فتح الباري 11/668 عقب الحديث ( 6663 ) .
(2) أخرجه : أحمد 6/276 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 1/172 ( 514 ) ، وأبو داود
( 2193 ) ، وابن ماجه ( 2046 ) ، وأبو يعلى ( 4444 ) و( 4570 ) ، والطحاوي في =

= ... " شرح المشكل " ( 655 )، والدارقطني 4/36 ( 3943 ) و( 3944 )، والحاكم 2/198 ، والبيهقي 7/357 و10/61 من حديث عائشة ، به . وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبيد ؛ لكن انظر تعليق أخي الفاضل عبد الرحمان حسن قائد على رسالة اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم : 4 و5 .

إما أنَّه غير صحيح ، أو إنَّ تفسيرَه بالغضب غيرُ صحيح(1) . وقد صحَّ عن غير(2) واحد من الصحابة أنَّهم أفْتَوا أنَّ يمينَ الغضبان منعقدة وفيها الكفارةُ(3) ، وما روي عن ابن عباسٍ مما يُخالِفُ ذلك فلا يصحُّ إسنادُه(4) ، قال الحسنُ : طلاقُ السنة أنْ يُطلقها واحدة طاهراً من غير جماعٍ ، وهو بالخيار ما بينه وبينَ أنْ تحيضَ ثلاث حيض ، فإنْ بدا له أنْ يُراجِعَهَا كان أملكَ بذلك ، فإنْ كان غضبان ، ففي ثلاثِ حيض ، أو في ثلاثة أشهر إنْ كانت لا تحيضُ ما يذهب غضبَهُ . وقال الحسن : لقد بَيَّن الله لئلا يندم أحدٌ في طلاق كما أمره الله، خرَّجه القاضي إسماعيل .
وقد جعل كثيرٌ من العلماء الكناياتِ معَ الغضبِ كالصريح في أنَّه يقعُ بها الطلاقُ ظاهراً ؛ ولا يقبل تفسيرُها مع الغضبِ بغير الطلاق ، ومنهم مَنْ جعل الغضب مع الكنايات كالنية ، فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضاً ، فكيف يجعل الغضب مانعاً من وقوع صريحِ الطلاق(5) .
__________
(1) انظر : معالم السنن 3/209 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/17 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/391 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/24-25 .
(4) سبق تخريجه .
(5) انظر : المغني 8/268-269 ، والشرح الكبير 8/293-294 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/22-23 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/399-400 ، والمفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم للدكتور عبد الكريم زيدان 7/460-461 .


الحديث السابع عشرعَنْ أَبي يَعْلَى شَدَّاد بنِ أوسٍ ، عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَة ، وإذا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا
الذِّبْحَةَ (1) ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) . رواهُ مُسلم(2) .
هذا الحديث خرَّجه مسلم دونَ البخاري من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شدَّادِ بنِ أوس(3) ، وتركه البخاري ؛ لأنَّه لم يخرِّج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئاً وهو شاميٌّ ثقة . وقد روي نَحوهُ من حديث سَمُرُةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله - عز وجل - محسِنٌ فأحسنوا ، فإذا قَتَلَ أحدكُم ، فليُكْرِم مقتولَه ، وإذا ذبح ، فليحدَّ شفرته ، وليُرِحْ ذبيحته ) خرَّجه ابن عدي(4) .
وخرَّج الطبراني(5)
__________
(1) بكسر الذال والهاء كالقتلةِ ، وهي الهيئة ، ويروى : ( الذَّبح ) بفتح الذال بغير هاء . انظر : شرح النووي على صحيح مسلم 7/95 ( 1955 ) ( 57 ) .
(2) في " صحيحه " 6/72 ( 1955 ) ( 57 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1119 ) ، وعبد الرزاق ( 8603 ) و( 8604 ) ، وعلي بن الجعد
( 1262 ) ، وأحمد 4/123 و124 و125، والدارمي ( 1976 ) ، وأبو داود ( 2815 )، وابن ماجه ( 3170 ) ، والترمذي ( 1409 ) ، والنسائي 7/227 و229 و230 ، وابن الجارود ( 839 ) و( 899 ) ، والطبراني في " الصغير " ( 1035 ) ، والبيهقي 8/60-61 و9/68 و280 ، والخطيب في " تاريخه " 5/278 ، والبغوي ( 2783 ) من حديث شداد بن أوس ، به .
(3) في " صحيحه " 6/72 ( 1955 ) ( 57 ) من حديث شداد بن أوس ، به .
(4) في " الكامل " 8/175 من حديث الحسن ، عن سمرة بن جندب ، به ، وإسناده ضعيف لضعف مجاعة بن الزبير فقد ضعفه الدارقطني كما في " الميزان " 3/437 ، والحسن لم يسمع جميع ما رواه عن سمرة .
(5) في " الأوسط " ( 5735 ) .

وأخرجه : ابن أبي عاصم في "الديات" : 94 ، وإسناده ضعيف من أجل عمران بن داور القطان .

من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا ،
وإذا قَتَلتُم فأَحْسِنُوا ، فإنَّ الله مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحسنين ) .
فقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتب الإحسّانَ على كُلِّ شيء ) ، وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالدٍ ، عن أبي قِلابة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتبَ الإحسّانَ على كلِّ شيءٍ ) ، أو قال : ( على كلِّ خلقٍ ) هكذا خرَّجها مرسلةً ، وبالشكِّ في : ( كُلِّ شيءٍ ) ، أو : ( كلِّ خلق ) ، وظاهرُهُ يقتضي أنَّه كتب على كلِّ مخلوق الإحسّان ، فيكون كُلُّ شيءٍ ، أو كُلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه ، والمكتوب هو الإحسّانُ(1) .
وقيل : إنَّ المعنى : أنَّ الله كتب الإحسّانَ إلى كلِّ شيء ، أو في كلِّ شيء ، أو كتب الإحسّانَ في الولاية على كُلِّ شيءٍ ، فيكون المكتوبُ عليه غيرَ مذكور ، وإنَّما المذكورُ المحسن إليه(2) .
__________
(1) من قوله : ( فيكون كل شيء ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 7/94-95 .

ولفظ : ( الكتابة ) يقتضي الوجوب عندَ أكثرِ الفقهاء والأصوليين خلافاً
لبعضهم ، وإنَّما يعرف(1) استعمالُ لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتمٌ إمَّا شرعاً، كقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } (2) ، وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (3) ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } (4) ، أو فيما هو واقع
قدراً لا محالة ، كقوله : { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } (5) ، وقوله : { وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (6) ، وقوله
: { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان } (7) . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قيام شهر رمضانَ
: ( إنِّي خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عَلَيكُمْ )(8)
__________
(1) يعرف ) سقطت من ( ج ) .
(2) النساء : 103 .
(3) البقرة : 183 .
(4) البقرة : 216 .
(5) المجادلة : 21 .
(6) الأنبياء : 105 .
(7) المجادلة : 22 .
(8) أخرجه : البخاري 1/186 ( 729 ) من حديث عائشة ، به .

وأخرجه : أحمد 5/182 و184 و187 ، والبخاري 9/117 ( 7290 ) ، ومسلم 2/188
( 781 ) ( 213 ) ، والنسائي 3/197-198 ، والطبراني في " الكبير " ( 4892 ) ، والبيهقي 3/109 من حديث زيد بن ثابت ، به .

، وقال : ( أُمِرْتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ أنْ يُكتَبَ عليَّ )(1) ، وقال : ( كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّه من الزِّنى ، فهو مُدرِكٌ ذلك لا محالة )(2) .
وحينئذٍ فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسّان ، وقد أمر الله تعالى به ،
فقال : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } (3) ، وقال : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
وهذا الأمرُ(5) بالإحسّان تارةً يكونُ للوجوب كالإحسّان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البرُّ والصِّلَةُ والإحسّانُ إلى الضيف بقدر ما يحصل به قِراه على ما سبق ذكره .
وتارةً يكونُ للندب كصدقةِ التطوعِ ونحوها(6) .
وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوب الإحسّانِ في كل شيء من الأعمال ، لكن إحسانُ كُلِّ شيء بحسبه ، فالإحسّانُ في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنةِ : الإتيانُ بها على وجه كمال واجباتها ، فهذا القدرُ من الإحسّان فيها واجب ، وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحباتها فليس بواجب .
والإحسّانُ في ترك المحرَّمات : الانتهاءُ عنها ، وتركُ ظاهرها وباطنها ، كما
قال تعالى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } (7) . فهذا القدرُ من الإحسّان فيها
واجب(8) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/490 ، والطبراني في " الكبير " 22/( 189 ) و( 190 ) من حديث واثلة بن الأسقع ، به ، وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم ، وانظر : مجمع الزوائد 2/98 .
(2) أخرجه : أحمد 2/317 و343 و379 و536 ، والبخاري 8/156 ( 6612 ) ، ومسلم 8/52 ( 2657 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 2152 ) و( 2153 ) و( 2154 ) من حديث أبي هريرة ،
به .
(3) النحل : 90 .
(4) البقرة : 195 .
(5) من قوله : ( وقال : فأحسنوا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 2/94 .
(7) الأنعام : 120 .
(8) انظر : تفسير البغوي 2/155 ، وزاد المسير 3/114 .

وأما الإحسّانُ في الصبر على المقدورات ، فأنْ يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تَسَخُّطٍ ولا جَزَع .
والإحسّانُ الواجبُ في معاملة الخلق ومعاشرتهم : القيامُ بما أوجب الله من حقوق ذلك كلِّه، والإحسّانُ الواجب في ولاية الخلق وسياستهم ، القيام بواجبات الولاية كُلِّها، والقدرُ الزائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب .
والإحسّانُ في قتل ما يجوزُ قتله من الناس والدواب : إزهاقُ نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها وأَوحاها من غير زيادةٍ في التعذيب ، فإنَّه إيلامٌ لا حاجة إليه . وهذا النوعُ هو الذي ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، ولعله ذكره على سبيلِ المثال ، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال : ( إذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلة ، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة ) والقِتلة والذِّبحة بالكسر ، أي : الهيئة ، والمعنى : أحسنوا هيئة الذبح ، وهيئة القتل . وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوه(1) . وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة(2) ، وأسهلُ وجوه(3) قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق ، قال الله تعالى في حقِّ الكفار : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (4) ، وقال تعالى : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ } (5) . وقد قيل : إنَّه عيَّن الموضع الذي يكونُ الضربُ فيه أسهلَ على المقتول وهو فوقَ العظام دونَ الدماغ ، ووصى دريدُ بنُ الصِّمة قاتله أنْ يَقْتُلَهُ كذلك .
__________
(1) انظر : عون المعبود 8/10 .
(2) انظر : المحلى 12/31-32 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) محمد : 4 .
(5) الأنفال : 12 .

وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سريةً تغزوا في سبيل الله قال لهم : ( لا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا
وليداً )(1) .
وخرَّج أبو داود ، وابن ماجه من حديثِ ابنِ مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( أَعَفُّ الناسِ قِتلةً أهلُ الإيمانِ )(2) .
وخرَّج أحمد وأبو داود من حديث عمران بنِ حُصينٍ وسَمُرَة بنِ جُندبٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المُثْلةِ(3) .
وخرَّجه البخاري(4) من حديث عبد الله بن يزيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه : نَهى عن

المُثلَةِ(5) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديث يعلى بنِ مُرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله تعالى : لا تُمَثِّلوا بِعِبادي(6) )(7)
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/139-140 ( 1731 ) ( 3 ) من حديث بريدة ، به .
(2) أخرجه : أبو داود في " سننه " ( 2666 ) ، وابن ماجه ( 2681 ) و( 2682 ) .
وأخرجه : أحمد 1/393 ، وابن الجارود ( 840 ) ، وابن حبان ( 5994 ) ، والبيهقي 8/61 و9/71 من حديث عبد الله بن مسعود ، به . وإسناده معلول بالوقف ، وقد حصل فيه اختلاف كبير بيانه في كتابي " الجامع في العلل " .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 18232 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9737 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، موقوفاً .
(3) أخرجه : أحمد 4/439 و440 و445 ، والطبراني في " الكبير " 18/( 325 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
وأخرجه : أحمد 5/12 ، وأبو داود ( 2667 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6945 ) من حديث سمرة بن جندب ، به .
(4) في " صحيحه " 3/177 ( 2474 ) و7/122 ( 5516 ) .
وأخرجه : أحمد 4/307 من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري ، به .
(5) من قوله : ( وخرجه البخاري ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) متن الحديث لم يرد في ( ص ) .
(7) في " مسنده " 4/172 و173 .

وأخرجه : الطبراني 22/( 697 ) و( 698 ) و( 699 ) ، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن حفص ، وقد سقط من بعض الروايات .

.
وخرَّج أيضاً من حديث رجلٍ من الصحابة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من مَثَّلَ بذي روحٍ ، ثم لم يَتُبْ مثَّلَ الله به يومَ القيامة )(1) .
واعلم أنَّ القتلَ المباحَ يقع على وجهين : أحدُهما أنْ يكون قصاصاً ، فلا يجوزُ التمثيلُ فيه بالمقتص منه ، بل يُقتَلُ كما قَتَلَ ، فإنْ كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ ، فهل يُمثَّلُ به كما فعل أمْ لا يُقتل إلا بالسيف ؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء :
أحدُهما(2) : أنَّه يُفعَلُ به كما فَعَلَ ، وهو قولُ مالك والشافعي(3) وأحمد في المشهور عنه(4) ، وفي " الصحيحين " (5) عن أنسٍ قالَ : خَرَجَتْ جاريةٌ عليها أوضاحٌ بالمدينة ، فرماها يهودي بحجر ، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبها رَمَقٌ ، فقالَ لها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فلانٌ قتلك ؟ ) فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة : ( فلان قتلك ؟ ) فخفضت رأسها ، فدعا به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرضخ رأسه بَيْنَ الحَجَرَين . وفي روايةٍ لهما : فَأُخِذَ فاعترفَ ، وفي روايةٍ لمسلم : أنَّ رجلاً من اليهود قتلَ جاريةً من الأنصار على حليٍّ لها ، ثم ألقاها في القَلِيب ، ورضَخَ رأسَها بالحجارة ، فأُخِذَ ، فأُتي به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر به أنْ يُرجَمَ حتّى يموت ، فرُجِمَ حتى ماتَ(6) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 2/92 و115 من حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإسناده ضعيف لضعف شريك النخعي .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 7297 ) عن عبد الله بن عمر ، به ؛ لكن سنده ضعيف .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) لم يرد في ( ص ) .
(4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259 .
(5) سبق تخريجه .
(6) صحيح مسلم 5/104 ( 1672 ) ( 16 ) من حديث أنس ، به .

والقول الثاني : لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف ، وهو قولُ الثوري ، وأبي حنيفة ، ورواية عن
أحمد(1) .
وعن أحمد رواية ثالثة : يُفعل به كما فعل إلا أنْ يكونَ حرَّقه بالنار أو مَثَّلَ به ، فيُقْتَلُ بالسيف للنهي عن المُثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرمُ(2) ، وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا قَودَ إلاَّ بالسيف ) خرَّجه ابن ماجه وإسناده ضعيف(3) ، قال أحمد : يُروى : ( لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف ) وليس إسنادُه بجيدٍ(4) ، وحديث أنس ، يعني : في قتل اليهودي بالحجارة أسندُ منه وأجودُ(5) .
ولو مَثَّلَ به ، ثم قتله مثلَ أنْ قطّع أطرافَه ، ثم قتله ، فهل يُكتفى بقتله أم يُصنع به كما صنع ، فَتُقطع أطرافُه ثم يُقتل ؟ على قولين :
أحدهما : يُفعل به كما فعل سواء ، وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم(6) .
والثاني : يُكتفى بقتله ، وهو قولُ الثوري وأحمد في رواية وأبي يوسف ومحمد(7) ، وقال مالك : إنْ فعل به ذلك على سبيل التمثيلِ والتعذيبِ ، فُعِلَ به كما فَعَلَ ، وإنْ لم يكن على هذا الوجه اكتفي بقتله(8) .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/235 بتحقيقنا ، والمغني 9/387 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259 .
(2) انظر : المغني 9/392 .
(3) السنن ( 2668 ) .
وأخرجه : البيهقي 8/63 من حديث أبي بكرة ، به . وللحديث طرق أخرى .
(4) انظر : المغني 9/388 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260 .
(5) المغني 9/387-388 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260 .
(6) انظر : المغني 9/387 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259-260، وبداية المجتهد 2/716.
(7) انظر : المصادر السابقة .
(8) انظر : بداية المجتهد 2/716 .

الوجه الثاني : أنْ يكون القتلُ(1) للكفر ، إما لكفر أصلي ، أو لردَّة عن الإسلام ، فأكثرُ العلماء على كراهة المُثلة فيه أيضاً ، وأنَّه يُقتل فيه بالسيف ، وقد رُوي عن طائفةٍ من السَّلف جوازُ التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك ، كما فعله خالدُ بن الوليد وغيره(2) .
ورُوي عن أبي بكر : أنَّه حرَّق الفجاءة بالنَّار(3) .
ورُوي أنَّ أم قِرْفة الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق ، فأمر بها ، فشدَّت ذوائِبُها في أذناب قَلُوصَيْنِ أو فرسين ، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة ، وأسانيد هذه القصة منقطعة . وقد ذكر ابنُ سعد في " طبقاته " بغير إسناد : أنَّ زيدَ بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك(4) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الطبقات الكبرى 7/278 ، والمغني 10/76 ، والشرح الكبير 10/80 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 ، وفتح الباري 6/182 .
(3) انظر : تاريخ الطبري 3/264 .
(4) انظر : الطبقات الكبرى 2/69 .

وصحَّ عن عليٍّ أنَّه حرَّق المرتدين ، وأنكر ذلك ابنُ عباس عليه(1) ، وقيل : إنَّه لم
يُحرّقهم ، وإنَّما دَخَّنَ عليهم حتى ماتوا(2) ، وقيل : إنَّه قتلهم ، ثم حَرَّقَهُم ، ولا يصحُّ ذلك . وروي عنه أنَّه جيء بمرتدٍّ ، فأمر به فوطئ بالأرجل حتَّى مات .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18706 ) ، والحميدي ( 533 ) ، وأحمد 1/217 و220 و282 ، والبخاري 4/75 ( 3017 ) و9/18 ( 6922 )، وأبو داود ( 4351 )، والترمذي ( 1458 )، والنسائي 7/104 ، وأبو يعلى ( 2532 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2865 )
و( 2866 ) و( 2867 ) و( 2868 ) ، وابن حبان ( 4476 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 11850 ) ، والدارقطني 3/85 ( 3157 ) ، والحاكم 3/538-539 ، والبيهقي 8/195 و202 و9/71 ، والبغوي ( 2561 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .
(2) ذكره : البيهقي 9/71 .

واختار ابنُ عقيلٍ - من أصحابنا - جوازَ القتل بالتمثيل للكفر لاسيما إذا تغلَّظ ، وحمل النهي عن المُثلةِ على القتل بالقصاص ، واستدلَّ من أجاز ذلك بحديثِ العُرنيين ، وقد خرَّجاه في " الصحيحين " من حديث أنس : أنَّ أناساً من عُرينة قَدِمُوا على
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجْتَوَوْهَا ، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ شئتم أنْ تَخْرُجُوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها ، فافعلوا ) ففعلوا فصحُّوا، ثم مالوا على الرعاء ، فقتلوهم ، وارتدُّوا عن الإسلام ، وساقوا ذَودَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث في أثرهم ، فأُتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجُلَهم ، وسَمَلَ أعينَهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا(1) ، وفي روايةٍ : ثم نُبِذُوا في الشمس حتى ماتوا(2) ، وفي روايةٍ : وسمرت أعينُهم ، وألقوا في الحرَّةِ(3) يَستسقونَ فلا يُسقون(4) ، وفي رواية للترمذي : قطع أيديَهم وأرجلهم من خلافٍ(5)
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 17132 ) و( 18538 ) ، وأحمد 3/170 و177 و233 و290 ، والبخاري 5/164 ( 4192 ) و7/159 ( 5685 ) و7/160 ( 5686 ) و7/167
( 5727 ) ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 9 ) ، وأبو داود ( 4364 ) ، والترمذي ( 72 ) ، والنسائي 1/158 و7/96-97 وفي " التفسير " ، له ( 163 ) ، وابن حبان ( 1388 )
و( 4472 ) ، والبيهقي 9/69 و10/4 من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : أحمد 3/177 ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 10 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) عبارة : ( وألقوا في الحرة ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 18538 ) ، وأحمد 3/170 ، والبخاري 7/167 ( 5727 ) ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 11 ) ، والترمذي ( 72 ) ، والنسائي 7/97 ، وابن حبان ( 1388 )
و( 4472 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) الجامع الكبير ( 72 ) من حديث أنس بن مالك ، به .

، وفي رواية للنسائي : وصَلَبَهُم(1) .
وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء ، فمنهم من قال : من فعل مِثلَ فعلهم
فارتدَّ ، وحارب ، وأخذ المالَ ، صنع به كما صنع بهؤلاء ، وروي هذا عن طائفة ، منهم : أبو قِلابة(2) ، وهو روايةٌ عن أحمد .
ومنهم مَنْ قال : بل هذا يدلُّ على جواز التمثيل بمن تغلَّظَتْ جرائمُهُ في
الجملة ، وإنَّما نهي عن التمثيل في القصاص ، وهو قول ابنِ عقيل من
أصحابنا .
ومنهم من قال : بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المُثلةِ(3) .
ومنهم من قال : كان قبلَ نزولِ الحدود وآيةِ المحاربة(4) ، ثم نُسخ بذلك(5) ، وهذا قولُ جماعة منهم : الأوزاعي وأبو عُبيد .
ومنهم من قال : بل ما فعله النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم إنَّما كان بآية المحاربة ، ولم ينسخ شيء من ذلك ، وقالوا : إنَّما قتلهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقَطَعَ أيديهم ؛ لأنَّهم أخذوا المالَ ، ومن أخذ المالَ وقَتَلَ(6) ، قُطِعَ وقُتِلَ ، وصُلِبَ حتماً ، فيُقتَلُ لقتله(7) ويُقطع لأخذه المال يَدُه ورجلُه من خِلاف ، ويُصلَبُ لجمعه(8) بين الجنايتين وهما : القتلُ وأخذُ المال ، وهذا قول الحسن، ورواية عن أحمد(9) .
وإنَّما سَمَلَ أعينهم ؛ لأنَّهم سملوا أعينَ الرعاة كذا خرَّجه مسلم من حديثِ أنس(10)
__________
(1) في " المجتبى " 7/96 من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) ذكره : أبو داود ( 4364 ) ، وانظر : معالم السنن 3/256-257 .
(3) انظر : المحلى 12/29-30 .
(4) ذكره : أحمد 3/290 ، وأبو داود ( 4371 ) ، والترمذي ( 73 ) ، وانظر : معالم السنن 3/258 ، والمحلى 12/30-31 .
(5) انظر : المحلى 12/31 و13/154 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) انظر : المغني 10/299-300 ، والشرح الكبير 10/300 .
(10) في " صحيحه " 5/103 ( 1671 ) ( 14 ) .

وأخرجه : الترمذي ( 73 ) ، والبيهقي 9/70 ، وانظر : المحلى 12/29 و13/155 ، وتحفة الأحوذي 1/246 .

، وذكر ابنُ شهابٍ أنَّهم قتلوا الراعي(1) ، ومَثَّلوا به(2) ، وذكر ابن سعد أنَّهم قطعوا يدَه ورجله ، وغرسوا الشوكَ في لسانه وعينيه حتّى مات(3) ، وحينئذ فقد يكونُ قطعُهم ، وسملُ أعينهم ، وتعطيشُهم قصاصاً(4) ، وهذا يتخرَّجُ على قول مَنْ يقولُ : إنَّ المحاربَ إذا جنى جنايةً توجبُ القصاصَ استُوفِيت منه قبل قتله ، وهو مذهب أحمد . لكن هل يستوفى(5) منه تحتماً كقتله أم على وجه القصاص ، فيسقط بعفو الولي ؟
على روايتين عنه(6) ، ولكن رواية الترمذي أنَّ قطعَهُم من خلاف يدلُّ على أنَّ
قطعهم للمحاربة إلا أنْ يكونوا قد قطعوا يدَ الراعي ورجلَه من خلاف ، والله
أعلم(7) .
وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان أَذِنَ في التحريق بالنار(8) ، ثم نهى عنه كما في
" صحيح البخاري " (9)
__________
(1) انظر : المحلى 13/155 .
(2) ذكره : البيهقي 9/70 .
(3) في " الطبقات " 2/71 .
(4) انظر : معالم السنن 3/258 ، وتحفة الأحوذي 8/246-247 .
(5) عبارة : ( لكن هل يستوفى ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : الشرح الكبير على المغني 10/303 .
(7) من قوله : ( يدل على أن قطعهم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) الصحيح 4/60 ( 2954 ) و4/74 ( 3016 ) .
وأخرجه : أحمد 2/307 و338 و453 ، وأبو داود ( 2674 ) ، والترمذي ( 1571 ) وفي
" العلل " ، له ( 278 ) ، والنسائي في "الكبرى " ( 8613 ) و( 8804 ) و( 8832 ) ، وابن الجارود ( 1057 ) ، والبيهقي 9/71 .

عن أبي هريرة قال : بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث(1)
فقال : ( إنْ وَجَدتُم فلاناً وفلاناً - لرجلين من قريشٍ - فاحرقوهما بالنار ) ،
ثمَّ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروجَ : ( إني كنتُ أمرتُكم أنْ تحرِقوا فُلاناً
وفُلاناً بالنار ، وإنَّ النارَ لا يُعذِّبُ بها إلا الله ، فإنْ وجدتموهما فاقتلوهما ) .
وفيه أيضاً عن ابن عبَّاسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تُعذِّبُوا بعذاب الله - عز وجل - )(2) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنَّسائي من حديث ابن مسعودٍ قال : كُنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فمَرَرنا بقريةِ نملٍ قد أُحرقَت ، فغَضِب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( إنَّه لا ينبغي لِبشرٍ أنْ يعذِّبَ بعذاب الله - عز وجل - )(3) .
وقد حرَّقَ خالدٌ جماعة في الرِّدة(4) ، وروي عن طائفة من الصحابة تحريقُ من عَمِل عمل قومِ لوطٍ(5) ، ورُوي عن عليٍّ أنَّه أشار على أبي بكر أنْ يقتلَه ثم يحرقه
بالنار(6) ، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه(7) لئلا يكون تعذيباً بالنار(8).
__________
(1) عبارة : ( في بعث ) سقطت من ( ص ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : أحمد 1/423 ، وأبو داود ( 2675 ) و( 5268 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 8614 ) ، وهو حديث صحيح .
(4) انظر : المغني 10/6 ، والشرح الكبير 10/80 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 .
(5) انظر : المغني 10/156 ، والشرح الكبير 10/170 .
(6) انظر : المغني 10/156 ، والشرح الكبير 10/170-171 .
(7) انظر : الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 210 .
(8) من قوله : ( واستحسن ذلك إسحاق ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وفي " مسند الإمام أحمد " (1) : أنَّ علياً لما ضربه ابنُ مُلجم ، قال : افعلوا به كما أرادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يفعلَ برجل أراد قتلَه ، قال : ( اقتلوه ثم حرِّقوه ) .
وأكثرُ العلماء على كراهةِ التحريق بالنار حتى للهوام ، وقال إبراهيم النَّخعيُّ : تحريقُ العقرب بالنار مُثلةٌ . ونهت أمُ الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار . وقال أحمد : لا يُشوى السمكُ في النار وهو حيٌّ ، وقال : الجرادُ أهونُ ؛ لأنَّه لا دم لهُ(2) .
وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن صَبرِ البهائم ، وهو : أنْ تحبس البهيمة ، ثُمَّ تُضرب بالنبل ونحوه حتَّى تموتَ(3) . ففي " الصحيحين " (4) عن أنسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ تُصبر البهائم .
وفيهما أيضاً عن ابن عمر : أنَّه مرَّ بقوم نصبوا دجاجةً يرمونها ، فقال ابنُ عمر : من فعل هذا ؟ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل هذا (5) .
وخرَّج مسلم من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى أنْ يُتخذ شيء فيه الروح غرضاً(6)
__________
(1) المسند 1/92-93 ، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله النخعي .
(2) انظر : المغني 11/43 ، والشرح الكبير 11/48 .
(3) انظر : النهاية 3/8 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238 .
(4) صحيح البخاري 7/121 ( 5513 ) ، وصحيح مسلم 6/72 ( 1956 ) ( 58 ) .
وأخرجه : أحمد 3/117 و171 و180 و191، وأبو داود ( 2816 )، وابن ماجه ( 3186 )، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى " ، له ( 4528 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) صحيح البخاري 7/122 ( 5515 ) ، وصحيح مسلم 6/73 ( 1958 ) ( 59 ) . =
= ... وأخرجه : أحمد 1/338 و2/13 و43 و60 و86 و103 و141 ، والدارمي ( 1979 ) ، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى " ، له ( 4530 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(6) في " صحيحه " 6/73 ( 1957 ) ( 58 ) .

وأخرجه: أحمد 1/274 و280 و285 و340 و345، والنسائي 7/238-239 وفي "الكبرى"، له ( 4532 ) و( 4533 ) ، وابن حبان ( 5608 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 12262 )
و( 12263 ) ، والبيهقي 9/70 ، والبغوي ( 2784 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .

، والغرض : هو الذي يرمى فيه بالسهام(1) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (2) عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الرَّمِيَّةِ : أنْ ترمى الدابة ثم تُؤكلُ ولكن تُذبح ، ثم يرموا (3) إنْ شاؤوا . وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
فلهذا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإحسانِ القتلِ والذبح ، وأمر أنْ تُحَدَّ الشفرةُ ، وأنْ تُراح الذبيحة ، يشير إلى أنَّ الذبح بالآلة الحادة يُرِيحُ الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها(4) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وابنُ ماجه من حديث ابنِ عمر ، قال : أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحَدِّ الشفارِ ، وأنْ تُوارى عن البهائم ، وقال : ( إذا ذَبَحَ أَحَدُكُم ، فليُجْهِزْ )(5) يعني :
فليسرع الذبح(6) .
وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عندَ ذبحها ، وخرَّج ابنُ ماجه(7) من حديث أبي سعيد الخدري قال : مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وهو يجرُّ شاة بأُذنها ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دع أُذنَها وخُذْ بِسالِفَتِها ) والسالفة : مقدَّمُ العنق(8) .
__________
(1) انظر : النهاية 3/360 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238 .
(2) المسند 2/402 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(3) في ( ج ) : ( ليرموا ) ، وهو يخالف ما في المسند و( ص ) .
(4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 7/95 .
(5) أخرجه : أحمد 2/108 ، وابن ماجه ( 3172 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13144 ) ، والبيهقي 9/280 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(6) انظر : لسان العرب 2/400 .
(7) السنن ( 3171 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ موسى بن محمد بن إبراهيم منكر الحديث .
(8) انظر : النهاية في غريب الحديث 2/390 .

وخرَّج الخلالُ والطبرانيُّ من حديث عكرمة ، عن ابن عباس قال : مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ واضع رجلَه على صفحة شاةٍ وهو يحدُّ شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها ، فقال : ( أفلا قبْلَ هذا ؟ تريدُ أنْ تُميتها موتتان(1) ؟ )(2) . وقد روي عن عكرمة مرسلاً خرَّجه عبدُ الرزاق(3) وغيره ، وفيه زيادة : ( هلاَّ حددت شفرتك قبل أنْ تُضْجِعها ) .
وقال الإمام أحمد : تُقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً ، وتُوارى السكينُ عنها ، ولا تُظهر السكين إلا عندَ الذبح ، أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك : أنْ تُوارى الشفار(4) . وقال : ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنَّها تعرف ربها ، وتعرف أنَّها تموت . وقال : يُروى عن ابن سابط أنَّه قال : إنَّ البهائم جُبِلَتْ على كلِّ شيءٍ إلاَّ على أنَّها تعرف ربها ، وتخافُ الموتَ .
وقد وردَ الأمرُ بقطع الأوداج عندَ الذبح ، كما خرَّجه أبو داود من حديث عِكرمة ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ، ولا تفري الأوداج ، وخرَّجه ابن حبان في " صحيحه " وعنده : قال عكرمة : كانوا يقطعون منها الشيء اليسيرَ ، ثم يدعونها حتى تموتَ ، ولا يقطعون الودجَ ، فنهى عن ذلك(5)
__________
(1) في ( ج ) : ( موتات ) ، والمثبت من ( ص ) ، و" المعجم الكبير " للطبراني .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11916 ) وفي " الأوسط " ، له ( 3590 ) ، وذكر الطبراني في " الأوسط " أنَّ عبد الرحيم بن سليمان تفرد بوصله .
وأخرجه : الحاكم 4/233 من حديث عبد الله بن عباس ، به ، وصححه . انظر : مجمع الزوائد 4/33 .
(3) المصنف ( 8608 ) .
(4) انظر : المغني 11/47 ، والشرح الكبير 11/61-62 .
(5) أخرجه : أبو داود ( 2826 ) ، وابن حبان ( 5888 ) .

وأخرجه : أحمد 1/289 ، والحاكم 4/113 ، والبيهقي 9/278 ، وإسناده ضعيف لضعف عمرو ابن عبد الله اليماني .

.
وروى عبدُ الرزاق في " كتابه " (1) عن محمد بن راشدٍ ، عن الوضين بنِ عطاء ، قال : إنَّ جزَّاراً فتح باباً على شاةٍ ليذبحها فانفلتت منه حتَّى جاءت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فاتبعها ، فأخذ يَسْحَبُها برجلها ، فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( اصبري لأمرِ الله ، وأنتَ يا جزَّارُ فسُقْها إلى الموتِ سَوقاً رفيقاً ) .
وبإسناده عن ابن سيرين : أنَّ عُمَرَ رأى رجلاً يسحب شاةً برجلها ليذبحها ، فقال له : وَيْلَكَ قُدْها إلى الموت(2) قوداً جميلاً(3) .
وروى محمدُ بنُ زيادٍ : أنَّ ابن عمر رأى قصَّاباً يجُرُّ شاةً ، فقال : سُقها إلى الموت سوقاً جميلاً ، فأخرج القصابُ شفرة ، فقال : ما أسوقها سوقا جميلاً وأنا أريد أنْ أذبحها الساعة ، فقال : سقها سوقاً جميلاً(4) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (5) عن معاوية بنِ قُرة ، عن أبيه : أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يا رسولَ اللهِ إني لأذبحُ الشاةَ وأنا أرحمها ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والشاة إنْ رحمتها رَحِمَكَ الله ) .
__________
(1) المصنف ( 8609 ) ، وإسناده ضعيف لإرساله فإنَّ الوضين بن عطاء متأخر من الطبقة السادسة مات سنة ( 149 ه‍ ) وقد تكلم فيه بعضهم .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( قوداً رفيقاً ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 8605 ) .
(4) من قوله : ( فأخرج القصاب شفرة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) المسند 3/436 و5/34 .
وأخرجه : البخاري في "الأدب المفرد" ( 373 ) ، والبزار كما في "كشف الأستار" ( 1221 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 44 ) و( 45 ) و( 46 ) و( 47 ) وفي " الصغير " ، له ( 293 ) ، والحاكم 3/586-587 و4/231 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/302 و6/343 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 11067 ) و( 11069 ) ، وهو حديث صحيح .

وقال مطرف بنُ عبد الله : إنَّ الله ليرحم برحمة العصفور(1) .
وقال نوفٌ البكالي : إنَّ رجلاً ذبح عِجَّوْلاً (2) له بين يدي أمه ، فخُبِّلَ ، فبينما هو تحتَ شجرة فيها وكْرٌ فيه فَرْخٌ ، فوقع الفرخُ إلى الأرض ، فرحمه فأعاده في مكانه ، فردَّ الله إليه قوَّته(3) .
وقد رُوي من غير وجه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى أنْ تُولَّه والدة عن ولدها ، وهو
عام في بني آدم وغيرهم(4) .
وفي " سنن أبي داود " (5) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن الفَرَعِ ، فقال : ( هو حَقٌّ وإنْ تتركوه حتّى يكونَ بكراً ابنَ مخاض ، أو ابنَ لَبُون ، فتُعطيه أرملة ، أو تحمل عليه في سبيل الله خيرٌ من أنْ تَذْبَحَهُ فيلصقَ لحمُه بوبره ، وتُكفئ إناءك وتُولِّه ناقتك ) .
__________
(1) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 2/210 .
(2) هو الأنثى من ولد البقرة . انظر : لسان العرب ( عجل ) .
(3) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 6/52 .
(4) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 382 ) ، وأبو داود ( 2675 ) و( 5268 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10375 ) و( 10376 ) ، والحاكم 4/239 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/32-33 من حديث عبد الله بن مسعود ، به بهذا المعنى .
وأخرجه : أحمد 1/404 ، مرسلاً من حديث عبد الرحمان بن عبد الله ، به بمعناه .
(5) السنن ( 2842 ) .
وأخرجه : أحمد 2/182-183 ، والحاكم 4/236 ، والبيهقي 9/312 عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، به ، ورواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من نوع الحسن .
وأخرجه : النسائي 7/168 وفي " الكبرى " ، له ( 4551 ) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده وزيد بن أسلم .

والمعنى : أنَّ ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عندَ ولادته لم يُنتفع بلحمه ، وتضرَّر صاحبُه بانقطاع لبنِ ناقته ، فتُكفِئ إناه وهُوَ المِحْلَبُ الذي تُحلَب فيه الناقة ، وتولَّه الناقة على ولدها بفقدها إيَّاه(1) .
__________
(1) انظر : معالم السنن 4/266 ، وحاشية السندي على سنن النسائي 7/168-169 ، وعون المعبود 8/45 .


الحديث الثامن عشر :
عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - : أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ
حَسَنٍ ) .
رواه التِّرمِذيُّ وقال : حَديثٌ حَسنٌ ، وفي بعضِ النُّسَخِ : حَسَنٌ صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه الترمذي(1)(2) من رواية سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذرٍّ، وخرَّجه أيضاً بهذا الإسناد عن ميمون، عن معاذ(3) ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنَّه قال : حديثُ أبي ذرٍّ أصحُّ(4) .
فهذا الحديثُ قد اختلف في إسناده وقيل فيه : عن حبيب(5) ، عن ميمون : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى بذلك ، مرسلاً ، ورجَّحَ الدارقطني هذا المرسل(6) .
__________
(1) من قوله : ( وقال : حديث حسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 1987 ) و( 1987 م1 ) .
وأخرجه : أحمد 5/153 و158 و177 ، والدارمي ( 2794 ) ، والحاكم 1/54 ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/378 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8026 ) من طرق عن سفيان الثوري ، بهذا الإسناد .
(3) في " الجامع الكبير " ( 1987 م2 ) .
وأخرجه : أحمد 5/228 و236 ، والطبراني في "الكبير" 20/( 296 ) و( 297 ) و( 298 ) وفي " الصغير " ، له ( 521 ) ، والحاكم 1/54 و4/244 ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/376 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 24/301 من طرق عن معاذ ، به .
(4) ذكره في " الجامع الكبير " عقيب حديث ( 1987م2 ) ، وانظر : تحفة الأشراف
( 11989 ) .
(5) عبارة : ( فيه : عن حبيب ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : علل الدارقطني 6/72 – 73 .

وقد حسَّن الترمذي هذا الحديثَ ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه(1) ،
فبعيد ، ولكن الحاكم خرَّجه ، وقال : صحيح على شرطِ الشيخين(2) ، وهو وهم مِن وجهين :
أحدُهما : أنَّ ميمونَ بنَ أبي شبيب ، ويقال : ابنُ شبيب لم يخرج له البخاري في " صحيحه " شيئاً ، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثاً عن المغيرة بن شعبة(3) .
والثاني : أنَّ ميمون بن أبي شبيب لم يصحَّ سماعه من أحدٍ من الصحابة ، قال الفلاس(4) : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة : ( سمعتُ ) ، ولم أخبر أنَّ أحداً يزعم أنَّه سمع من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(5) . وقال أبو حاتم الرازي : روايته عن أبي ذرٍّ وعائشة غير متصلة(6) . وقال أبو داود : لم يدرك عائشة(7) ، ولم يَرَ علياً(8) ، وحينئذٍ فلم يُدرك معاذاً بطريق الأولى .
__________
(1) في المطبوع من جامع الترمذي : ( حسن صحيح ) وكذا في تحفة الأحوذي ، وأما المزي فلم ينقل شيئاً من حكم الترمذي .
(2) المستدرك 1/54 .
(3) نعيم لم يخرج له البخاري في " صحيحه " ، وإنَّما أخرج له في كتاب " الأدب المفرد " .
انظر : تهذيب الكمال 7/291 ( 6930 ) .
(4) هو عمرو بن علي بن بحر بن كنيز ، حفيد الحافظ بحر بن كنيز ، توفي سنة ( 249ه‍ )‍ .
انظر: تهذيب الكمال 5/445 – 446 ( 5005 ) ، وسير أعلام النبلاء 11/470 – 472.
(5) انظر : تهذيب الكمال 7/291 ( 6930 ) وتهذيب التهذيب 10/347 .
(6) انظر : الجرح والتعديل 8/266 – 267 ( 1054 ) .
(7) انظر : ميزان الاعتدال 4/233 ، وتهذيب التهذيب 10/347 .
(8) ذكره أبو داود في " سننه " عقب حديث ( 2696 ) .

ورأْيُ البخاري وشيخِه عليّ بن المديني ، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أنَّ الحديثَ لا يَتَّصِلُ إلا بصحة اللقيِّ ، وكلامُ الإمام أحمد يدلُّ على ذلك ، ونصَّ عليه الشافعي في " الرسالة " (1) وهذا كُلُّه خلاف رأي مسلم - رحمه الله -(2) .
وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى بهذه الوصية معاذاً وأبا ذرٍّ من وجوهٍ أخَر ، فخرّج البزارُ(3) من حديث ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى قوم ، فقال : يا رسول الله أوصني ، فقال (4) : ( أفش السَّلام ، وابذل الطعام ، واستحي من الله استحياء رجل ذا هيئةٍ من أهلك ، وإذا أسأتَ فأحسن ، وليحسن خلقك ما استطعت ) .
وخرّج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بنِ عمرو بن العاص : أنَّ معاذَ ابن جبل أراد سفراً ، فقال : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( اعبد الله ، ولا تشرك به شيئاً ) قال : يا رسول الله زِدني ، قال : ( إذا أسأتَ فأحسنْ ) ، قال :
يا رسول الله زدني ، قال : ( استقم ولْتُحْسِنْ خلقك )(5) .
__________
(1) 378 – 379 ( 1032 ) .
(2) انظر : مقدمة صحيح مسلم 1/22 – 23 ، والمحدّث الفاصل : 450 ، والتمهيد 1/12 ، وإكمال المعلم 1/164 ، والاقتراح : 206 ، ومحاسن الاصطلاح : 155 ، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر 2/583 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/221 بتحقيقنا .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 1972 ) ، وكذلك هو في " مسنده " ( 2642 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(4) في ( ج ) : ( قال ) ، والمثبت من ( ص ) وكشف الأستار والبحر الزخار .
(5) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 8747 ) ، والحاكم 1/54 ، وإسناده ضعيف من أجل عبد الله بن صالح .

وخرّج الإمامُ أحمدُ(1) من حديث درَّاج ، عن أبي الهيثم(2) ، عن أبي ذرٍّ : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( أُوصيك بتقوى الله في سِرِّ أمرك وعلانيته ، وإذا أسأتَ فأحسِنْ ، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً وإنْ سقط سوطُك ، ولا تَقبضْ أمانةً ، ولا تقضِ بين اثنين ) .
وخرَّج أيضاً من حديث آخر عن أبي ذرٍّ قال : قلتُ : يا رسول الله علِّمني عملاً يقرِّبني من الجنة ويُباعدني من النار ، قال : ( إذا عملتَ سيئةً ، فاعْمَلْ حسَنَةً ، فإنَّها عشرُ أمثالها ) قال : قلتُ : يا رسول الله ، أمِنَ الحسناتِ لا إله إلاَّ الله ؟ قال : ( هي أحسنُ الحسناتِ )(3) .
وخرّج ابن عبد البرّ في " التمهيد "(4) بإسناد فيه نظر عن أنسٍ قال : بعث النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن ، فقال : ( يا معاذ اتَّق الله ، وخالِقِ النَّاس بخُلُقٍ حَسَنٍ ، وإذا عملتَ سيئةً ، فأَتْبِعْهَا حسنةً ) فقال : قلتُ : يا رسولَ الله لا إله إلا الله مِن الحسنات ؟ قالَ : ( هي من أكبرِ الحسناتِ ) . وقد رويت وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ من حديثِ ابنِ عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف .
__________
(1) المسند 5/181 ، وإسناده ضعيف درَّاج هو ابن سمعان أبو السمح ضعيف صاحب مناكير ، وكذا في السند ابن لهيعة ضعيف أيضاً .
(2) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن لهيعة ) .
(3) مسند الإمام أحمد 5/169 ، وإسناده ضعيف لجهالة أشياخ شِمْر بن عطية .
(4) التمهيد 3/28 ، والنظر الذي في إسناده هو جهالة أحد رواة السند ، وهو محمد بن حفص ابن عائشة . قال ابن حجر في " التقريب " ( 5824 ) : ( مجهول ) .

ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : ما أَكْثَرُ(1) ما يُدخِلُ الناسَ الجنة ؟ قالَ : ( تقوى الله وحسنُ الخُلُقِ ) خرَّجه الإمام أحمد وابن
ماجه والترمذي وصححه ، وابن حبان في " صحيحه "(2) .
فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإنَّ حقَّ الله على عباده أنْ يتقوه حقَّ تقاته ، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين . قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ } (3) .
وأصلُ التّقوى(4) : أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه .
__________
(1) ما أكثر ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/291 و392 و442 ، وابن ماجه ( 4246 ) ، والترمذي ( 2004 ) .
(3) النساء : 131 .
(4) من قوله : ( وصية الله للأولين ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .

وتارة تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ - عز وجل - (1)، كقوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (2) ، وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (3) ، فإذا أضيفت التقوى إليه - سبحانه وتعالى -، فالمعنى : اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يتقى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } (4) ، وقال تعالى : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } (5) ، فهو سبحانه أهل أنْ يُخشى ويُهاب ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه ، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمة وقوَّةِ البطش ، وشِدَّةِ البأس . وفي الترمذي (6) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } قال : ( قال الله تعالى : أنا أهل أنْ أُتَّقى، فمن اتَّقاني فلم يَجْعَل معي إلهاً آخر، فأنا أهْلٌ أنْ أغفِرَ له ).
__________
(1) من قوله : ( من ذلك وهو فعل ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) المائدة : 96 .
(3) الحشر : 18 .
(4) آل عمران : 28 .
(5) المدثر : 56 .
(6) في " الجامع الكبير " ( 3328 ) ، وقال : ( هذا حديث غريب ، وسهيل ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت ) .
وأخرجه : أحمد 3/142 و143 ، والدارمي ( 2727 ) ، وابن ماجه ( 4299 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11630 ) وفي " التفسير " ، له ( 650 ) ، وأبو يعلى ( 3317 ) ، والحاكم 2/508 ، والبغوي في " تفسيره " 4/420 .

وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (1) ، وقال تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (2) ، وقال تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } (3) ، وقال تعالى : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (4)، { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا } (5) .
ويدخل في التقوى الكاملة فعلُ الواجبات ، وتركُ المحرمات والشبهات ، وربما دَخَلَ فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات ، وتركُ المكروهات ، وهي أعلى درجات التقوى(6) ، قال الله تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (7) .
__________
(1) آل عمران : 131 .
(2) البقرة : 24 .
(3) البقرة : 281 .
(4) هذه الآية لم ترد في ( ج ) ، وهي في سورة المجادلة : 9 .
(5) البقرة : 48 و123 .
(6) في ( ص ) : ( وهي درجات ) فقط .
(7) البقرة : 1 – 4 .

وقال تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ } (1) .
قال مُعاذُ بنُ جبل : يُنادى(2) يوم القيامة : أين المتقون ؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمان لا يحتجِبُ منهم ولا يستترُ ، قالوا له : مَنِ المتَّقون ؟ قال : قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثان ، وأخلصوا للهِ بالعبادة (3) .
وقال ابنُ عباس : المتَّقون الذين يَحْذَرون من الله عقوبتَه في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويَرجون رحمَته في التصديق بما جاء به (4) .
وقال الحسن : المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم ، وأدَّوا ما افْتُرِض عليهم (5) .
وقال عُمَر بن عبد العزيز : ليس تقوى الله بصيام النهار ، ولا بقيام الليل ، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك ، ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله ، وأداءُ ما افترضَ الله ،
فمن رُزِقَ بعد ذلك خيراً ، فهو خيرٌ(6) إلى خير (7) .
__________
(1) البقرة : 177 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( منادٍ ) .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/35 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " 1/77 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/35 .
(5) ذكره ابن كثير في " تفسيره " 1/40 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : ابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .

وقال طلقُ بنُ حبيب : التقوى أنْ تعملَ بطاعةِ الله ، على نورٍ من الله ، ترجو ثوابَ الله ، وأنْ تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله (1) .
وعن أبي الدرداء قال : تمامُ التقوى أنْ يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال
ذرَّةٍ ، حتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ خشيةَ أنْ يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبينَ الحرام (2) ، فإنَّ الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصيرهم إليه فقال : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (3) ، فلا تحقرن شيئاً من الخير أنْ تفعله ، ولا شيئاً من الشرِّ أنْ تتقيه .
وقال الحسنُ : ما زالت التقوى بالمتقين حتَّى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام(4) .
وقال الثوري : إنَّما سُمُّوا متقينَ ؛ لأنَّهم اتقوا ما لا يُتقى(5) .
وقال موسى بنُ أَعْيَن : المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام ، فسماهم الله متقين .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن أبي حاتم كما في " الدر المنثور " 1/57 .
(2) أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته على الزهد " لعبد الله بن المبارك ( 79 ) ، وابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .
(3) الزلزلة : 7 – 8 .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .

وقد سبق حديثُ : ( لا يَبلغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتقين حتَّى يدعَ ما لا بأس
به حذراً مما به بأس ) (1) . وحديث : ( من اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لِدينه
وعِرْضِه)(2) .
وقال ميمونُ بنُ مِهران : المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من الشريكِ الشحيحِ لِشريكه(3) .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : { اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } (4) ، قال : أنْ يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا ينسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر . وخرَّجه الحاكم مرفوعاً والموقوف أصحّ(5) ، وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات .
ومعنى ذكره فلا ينسى : ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها .
__________
(1) أخرجه : عبد بن حميد ( 484 ) ، وابن ماجه ( 4215 ) ، والترمذي ( 2451 ) وقال
: ( هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) .
(2) جزء من حديث طويل . أخرجه : الحميدي ( 918 ) ، وأحمد 4/267 و269 و270 و271 ، والدارمي ( 2245 ) و( 2534 ) ، والبخاري 1/20 ( 52 ) و3/9 ( 2051 ) ، ومسلم 5/50 ( 1599 ) ( 107 ) ، وابن ماجه ( 3984 ) ، والترمذي ( 1205 ) ، والنسائي 7/241 و8/327 وفي " الكبرى " ، له ( 5219 ) و( 6040 ) ، وابن
الجارود ( 555 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 749 ) و( 750 )
و( 751 ) و( 752 ) ، وابن حبان ( 721 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2285 )
و( 2493 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5740 ) و( 5741 ) وفي
" الآداب " ، له ( 485 ) وفي " الزهد الكبير " ، له ( 863 ) من طرق عن النعمان بن
بشير ، به .
(3) أخرجه : أبو نعيم كما في " الدر المنثور " 1/57 .
(4) آل عمران : 102 .
(5) أخرجه : الطبراني ( 8501 ) و( 8502 ) ، والحاكم 2/294 ، ولم أقف فيه على المرفوع .

وقد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرَّمات كما قال أبو هريرةَ وسئل عن التقوى، فقال : هل أخذتَ طريقاً ذا شوكٍ ؟ قالَ: نعم ، قالَ : فكيف صنعتَ ؟ قال : إذا رأيت الشوكَ عدلْتُ عنه ، أو جاوزته ، أو قصرت عنه ، قال : ذاك
التقوى(1) . وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال :
خلِّ الذُّنوبَ صَغِيرَها

وكَبِيرَها فَهْوَ التُّقَى

واصْنَعْ كماشٍ فَوْقَ أَرْ

ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى

لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً

إنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى

وأصلُ التقوى : أنْ يعلم العبدُ ما يُتَّقى ثم يتقي ، قال عونُ بنُ عبد الله : تمامُ التقوى أنْ تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها(2) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " كتاب التقوى " كما في " الدر المنثور " 1/57 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34959 ) ، وابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .

وذكر معروفٌ الكرخيُّ(1) عن بكر بن خُنيسٍ ، قال : كيف يكون متقياً من لا يدري ما يَتَّقي ؟ ثُمَّ قالَ معروفٌ : إذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي أكلتَ الربا ، وإذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي لقيتكَ امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك ، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك ، وقد قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة : ( إذا رأيتَ أُمَّتِي قد اختلفَتْ ، فاعمد إلى سيفِكَ فاضْرِبْ به أُحُداً(2) )(3) ، ثُمَّ قالَ معروف : ومجلسي هذا لعله كانَ ينبغي لنا أنْ نتَّقِيَهُ ، ثم قال : ومجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي لنا أنْ نتقيه ، أليس جاء في الحديث : ( إنَّه فتنة للمتبوع مذلة
للتابع ؟ )(4) يعني : مشيُ الناس خلف الرجل(5) .
__________
(1) هو معروف بن فيروز ، وقيل الفيرُزان الكرخي ، أبو محفوظ البغدادي، توفي سنة ( 200ه‍ ) ، وقيل : ( 204ه‍ ) . انظر : سير أعلام النبلاء 9/339 ، وشذرات الذهب 1/360 .
(2) معنى ذلك : أن الفتن يجب اعتزالها وعدم الخوض فيها ، فجاءت الوصية النبوية – إن صح الخبر - بضرب جبل أحد عند حصول الفتن، أي : كسره ؛ لئلا يضرب به أحداً من المسلمين.
(3) جزء من حديث طويل . أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 3/235 ، وابن أبي شيبة
( 37198 ) ، وأحمد 3/493 و4/225 ، وابن ماجه ( 3962 ) ، والطبراني في "الكبير" 19/( 513 ) و( 517 ) و( 518 ) و( 523 ) و( 524 ) وفي "الأوسط"، له ( 1311 ) ، والحاكم 3/117 ، والبيهقي في " الكبرى " 8/191 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد ابن جدعان ، وجاء في بعض الطرق غير ذلك .
(4) أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته على الزهد " لعبد الله بن المبارك ( 48 ) ، وهو موقوف على عمر بن الخطاب .
(5) انظر : الحلية 8/365 .

وفي الجملة ، فالتقوى : هي وصيةُ الله لجميع خلقه ، ووصيةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بَعَثَ أميراً على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيراً(1) .
ولما خطبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصَّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم(2) .
ولما وَعَظَ الناسَ ، وقالوا له : كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا ، قال :
( أُوصيكم بتقوى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعة )(3) .
وفي حديث أبي ذرٍّ الطويل الذي خرَّجه ابنُ حبان وغيره : قلتُ :
يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( أوصيكَ بتقوى الله ، فإنَّه رأسُ الأمرِ كله )(4) .
__________
(1) جزء من حديث طويل ، أخرجه : مسلم 5/139 ( 1731 ) من حديث بريدة ، به .
(2) أخرجه : أحمد 5/251 ، والترمذي ( 616 ) ، وابن حبان ( 4563 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 7617 ) و( 7664 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 834 ) و( 1967 ) ، والحاكم 1/9 و389 و473 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7348 ) من طرق عن أبي أمامة ، به .
(3) أخرجه : أحمد 4/126 – 127 ، وأبو داود ( 4607 ) ، وابن ماجه ( 42 ) و( 43 )
و( 44 ) ، والترمذي ( 2676 ) ، وابن حبان ( 5 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 617 ) و( 618 ) و( 619 ) و( 620 ) وفي "مسند الشاميين"، له ( 437 ) و( 438 ) و( 697 ) و( 786 ) و( 1180 ) و( 1379 ) ، والحاكم 1/95 – 97 ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/220 و10/115 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7515 ) و( 7516 ) . من طرق عن العرباض بن سارية ، به ، قال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(4) أخرجه : ابن حبان ( 361 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1651 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/166-168 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 740 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ إبراهيم بن هشام بن يحيى كذاب .

وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( أوصيك بتقوى الله ، فإنَّه رأسُ كُلِّ شيء ، وعليكَ بالجهاد ، فإنَّه رهبانيةُ الإسلام )(1) ، وخرَّجه غيرُه ولفظه : قال : ( علَيكَ بتقوى الله فإنَّها جِماع كُلِّ خيرٍ ) .
وفي الترمذي(2) عن يزيد بن سلمة : أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني سمعتُ منك حديثاً كثيراً فأخافُ أنْ ينسيني أوَّلَه آخرُه ، فحدثني بكلمة تكون جماعاً ، قال : ( اتَّق الله فيما تَعْلَمُ ) .
ولم يزل السَّلفُ الصالح يتَواصَوْنَ بها ، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول في خطبته : أما بعد ، فإني أُوصيكم بتقوى الله ، وأنْ تُثنوا عليه بما هو أهلُه ، وأنْ تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبة ، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة ، فإنَّ الله - عز وجل - أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } (3) (4) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/82 .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 840 ) ، وأبو يعلى ( 1000 ) ، والطبراني في
"الصغير" ( 949 ) ،والبيهقي في "الآداب" ( 1014 ) من طرق عن أبي سعيد الخدري ، به ، وهو حديث ضعيف .
(2) في" الجامع الكبير " ( 2683 ) ، وقال : ( هذا حديث ليس إسناده بمتصل ، وهو عندي مرسل ولم يدرك عندي ابن أشوع يزيد بن سلمة ) .
وذكره المزي في " تهذيب الكمال " 8/128 ( 7591 ) .
وأخرجه أيضاً : عبد بن حميد ( 436 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 633 ) .
(3) الأنبياء : 90 .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34431 ) ، والحاكم 2/383 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/35 .

ولمَّا حضرته الوفاةُ ، وعهد إلى عمر ، دعاه ، فوصَّاهُ بوصيةٍ ، وأوَّلُ ما قالَ له : اتَّقِ الله يا عمر(1) .
وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله: أما بعدُ، فإني أُوصيك بتقوى الله - عز وجل -، فإنَّه من اتقاه وقاه، ومَنْ أقرضه جزاه، ومَنْ شكره زاده، فاجعل التقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلاً على سَريَّة ، فقال له : أُوصيك بتقوى الله الذي لابُدَّ لك من لقائه ، ولا منتهى لك دونَه ، وهو يَملِكُ الدنيا والآخرة(2) .
وكتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى رجلٍ : أُوصيك بتقوى الله - عز وجل - التي لا يقبلُ
غَيرَها ، ولا يَرْحَمُ إلاَّ أهلَها ، ولا يُثيبُ إلا عليها ، فإنَّ الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل ، جعلنا الله وإيَّاك من المتقين(3) .
ولما وُلِّي خطب ، فحَمِد الله ، وأثنى عليه ، وقال : أُوصيكُم بتقوى الله - عز وجل - ، فإنَّ تقوى الله - عز وجل - خَلفٌ من كلِّ شيءٍ ، وليس من تقوى الله خَلَفٌ(4) .
وقال رجل ليونس بن عُبيد: أوصني ، فقال : أُوصيك بتقوى الله والإحسّان ، فإنَّ الله مَعَ الذين اتَّقَوا والَّذينَ هُمْ مُحسِنُون .
وقال له رجل يُريدُ الحجَّ : أوصني ، فقال له : اتَّقِ الله ، فمن اتقى الله ، فلا وحشة عليه .
وقيل لرجل(5) من التابعين عندَ موته : أوصنا ، فقال : أوصيكم بخاتمة سورةِ النحل : { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (6).
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة 8/145 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/36 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34499 ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/267 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/297 .
(5) الرجل هو : هرم بن حيان ، وكلامه أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/95 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/121 .
(6) النحل : 128 .

وكتب رجلٌ من السَّلف إلى أخٍ له : أوصيكَ بتقوى الله ، فإنّها أكرم ما أسررتَ ، وأزينُ ما أظهرتَ ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ ، أعاننا الله وإيَّاكَ عليها ، وأوجب لنا ولك ثوابَها .
وكتب رجلٌ منهم إلى أخٍ له : أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقوى ، فإنَّها خيرُ زادِ الآخِرَةِ والأُولى ، واجعلها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَك ، ومِن كلِّ شرٍّ مهرَبك ، فقد توكل الله - عز وجل - لأهلها بالنجاة مما يحذرون ، والرزق من حيث لا يحتسبون .
وقال شعبة : كنتُ إذا أردتُ الخروجَ ، قلتُ للحكم : ألك حاجةٌ ، فقال أوصيك بما أوصى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معاذَ بنَ جبل : ( اتَّقِ الله حيثُما كُنتَ ، وأتْبِعِ السَّيِّئة الحَسَنة تَمحُها ، وخَالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ )(1) . وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان يقولُ في دعائه : ( اللَّهُمَّ إني أسألُك الهُدى والتُّقى والعِفَّةَ والغِنَى )(2) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1270 ) ، وابن أبي شيبة ( 29192 ) ، وأحمد 1/343 و389 ، و411 و416 و434 و437 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 674 ) ، ومسلم 8/80
( 2721 ) ( 72 )، والترمذي ( 3489 ) ، وابن ماجه ( 3832 ) ، وابن حبان ( 900 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10096 ) ، والبغوي ( 1373 ) من طرق عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، به .

وقال أبو ذرٍّ : قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجاً } (1) ، ثم قال : ( يا أبا ذرٍّ لو أنَّ النَّاسَ كُلَّهم(2) أخذوا بها
لَكَفَتهم )(3) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( اتَّق الله حيثما كُنت ) مراده في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه ، وقد ذكرنا من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( أُوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته(4) )(5) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( أسألك خشيتَك في الغَيبِ والشَّهادة )(6) وخشية الله في الغيب والشهادة هي من
المنجيات .
__________
(1) الطلاق : 2 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/178-179 ، وابن ماجه ( 4220 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 11539 ) ، وابن حبان ( 6669 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2495 ) ،
والحاكم 2/492 من طرق عن كهمس بن الحسن ، عن أبي السليل ضريب بن نقير ،
عن أبي ذر مختصراً ، وإسناده ضعيف ؛ لانقطاعه فإنَّ أبا السليل ضريب بن نقير لم يدرك
أبا ذر .
(4) عبارة : ( في سر أمرك وعلانيته ) سقطت من ( ص ) .
(5) سبق تخريجه .
(6) جزء من حديث طويل .
أخرجه : ابن أبي شيبة ( 39348 ) ، وأحمد 4/264 ، والنسائي 3/54-55 ، وفي
" الكبرى " ، له ( 1229 ) و( 1230 ) من طرق عن عمار بن ياسر ، به ، وهو حديث صحيح .

وقد سبق من حديث أبي الطفيل ، عن معاذ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( استحي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك )(1) وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان ، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره ، وسرِّه وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته ، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل - : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (2) .
كان بعضُ السَّلف يقولُ لأصحابه : زهَّدنا الله وإيَّاكم في الحرام زهد مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة ، فَعَلِم أنَّ الله يراه ، فتركه من خشيته ، أو كما قال(3) .
وقال الشافعي : أعزُّ الأشياء ثلاثة : الجودُ من قِلَّة ، والورعُ في خَلوة ، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف .
وكتب ابنُ السَّماك الواعظ إلى أخٍ له : أما بعدُ ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك ، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك ، وخفِ الله بقدر قُربه منك ، وقُدرته عليك ، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره، فليعظم منه حَذَرُك، وليكثر منه وَجَلُكَ والسلام(4) .
__________
(1) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1972 ) وقال : ( لا نعلمه بهذا اللفظ إلا عن معاذ ) .
(2) النساء : 1 .
(3) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 2078 ) و( 2376 ) ، وهو قول بكر بن عبد الله
المزني .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/206 .

وقال أبو الجلد : أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء : قُلْ لقومك : ما بالكم تسترون الذنوبَ من خلقي ، وتُظهرونها لي ، إنْ كنتم ترون أني لا أراكم ، فأنتم مشركون بي ، وإنْ كنتم تَرَونَ أني أراكم(1) فلم جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم ؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول : خَفِ الله على قدر قدرته عليك ، واستحي منه على قدر قُربه منك(2) ، وقال له رجل : عِظني ، فقال : اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك(3) . وكان بعضُ السَّلف يقول : أتراك ترحم مَنْ لم تقرَّ عينيه بمعصيتك حتَّى علم أنْ لا عين تراه غيرك ؟
وقال بعضُهم : ابنَ آدم إنْ كنتَ حيث ركبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت إلا أحدُ رجلين : إنْ كنت ظننتَ أنَّه لا يراك ، فقد كفرتَ ، وإنْ كنت علمتَ أنَّه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه لقد اجترأت عليه (4) .
دخل بعضُهم غَيضةً(5) ذات شجر ، فقال : لو خلوتُ هاهنا بمعصيةٍ مَنْ كان يراني ؟ فسمع هاتفاً بصوت ملأ الغَيْضَةَ : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ } (6) (7).
راود بعضُهم أعرابيةً ، وقال لها : ما يرانا إلا الكواكبُ ، قالت : فأين مُكوكِبُها ؟
رأى محمد بن المنكدر رجلاً واقفاً مع امرأة يُكلمها فقال : إنَّ الله يراكما سترنا الله وإياكما .
__________
(1) من قوله : ( فأنتم مشركون بي ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/140 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/142 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) غَيْضَة : مجمع الشجر في فيض الماء والشجر الكثير الملتف .
انظر : تاج العروس 18/471 ( غيض ) .
(6) الملك : 14 .
(7) انظر : تفسير القرطبي 18/214 بمعناه .

قال الحارثُ المحاسبي : المراقبةُ علمُ القلب بقرب الربِّ(1) . وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر ، قال : بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره . وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ :
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُلْ :
ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً

خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ : عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا أنَّ ما يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ(2)

وكان ابنُ السَّماك ينشد :
يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إمْهَالُهُ

والله في الخَلْوَةِ ثَانِيكَا
وستْرُهُ طولَ مَساوِيكَا

والمقصود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما وصَّى معاذاً بتقوى الله سِرَّاً وعلانيةً ، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك وهو أنْ يستحييَ من الله كما يستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من قومه . ومعنى ذلك : أنْ يستشعِرَ دائماً بقلبه قُرْبَ الله منه واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه .
وقد امتثل معاذٌ ما وصَّاه به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكان عمر قد بعثه على عَمَلٍ ، فقدم وليس معه شيء، فعاتبته امرأتُه ، فقال : كان معي ضاغط ، يعني : من يُضيق عليَّ ، ويمنعني من أخذ شيءٍ ، وإنَّما أراد معاذ ربَّه - عز وجل - ، فظنت امرأتُه أنَّ عُمَر بعث معه
رقيباً ، فقامت تشكوه إلى النَّاس .
ومن صار له هذا المقام حالاً دائماً أو غالباً ، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونه ، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحِشَ إلا اللممَ .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/94 بمعناه .
(2) الأبيات من قصيدة لأبي العتاهية .

وفي الجملة فتقوى الله في السرِّ هو علامةُ كمالِ الإيمانِ ، وله تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناءَ في قلوب المؤمنين . وفي الحديث : ( ما أَسَرَّ عبدٌ سَريرةً إلا ألبسه الله رِدَاءها علانيةً إنْ خيراً فخيرٌ ، وإنْ شراً فشرٌّ )(1) رُوي هذا مرفوعاً ، ورُوي عن ابن مسعودٍ من قوله .
وقال أبو الدرداء : لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر ، يخلو بمعاصي الله ، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين(2) .
قال سليمانُ التيميُّ : إنَّ الرجل لَيُصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلتُه(3)، وقال غيره(4) : إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله ، ثم يجيءُ إلى إخوانه ، فيرون أَثَرَ ذلك عليه ، وهذا مِن أعظم الأدلة على وجودِ الإِله الحقِّ المجازي بذرَّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة(5) ، ولا يضيع عندَه عملُ عاملٍ ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيدُ مَنْ أصلح ما بينَه وبينَ الله(6)، فإنَّه من أصلح ما بينه وبينَ الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامدَ الناسِ بسخط الله ، عاد حامده من النَّاس له ذاماً .
قال أبو سليمان : الخاسرُ من أبدى للناس صالح عمله ، وبارز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 2/( 1702 ) وفي " الأوسط " ، له ( 7906 ) عن جندب ابن سفيان ، به ، وهو حديث ضعيف جداً لا يصح .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/215 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/31 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( الدنيا والآخرة ) .
(6) من قوله : ( ولا يضيع عنده عمل ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

ومِنْ أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال : كان حبيبٌ أبو محمد تاجراً يَكْرِي الدراهمَ ، فمرَّ ذات يوم ، فإذا هو بصبيان يلعبون ، فقال بعضهم لبعض : قد جاء آكِلُ الربا ، فنكس رأسه ، وقال : يا ربِّ ، أفشيت سرِّي إلى الصبيان ، فرجع فجمع ماله كُلَّه ، وقال : يا ربِّ إنِّي أسيرٌ ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فاعتقني ، فلما أصبح ، تصدَّق بالمال كلّه وأخذ في العبادة ، ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض(1) : اسكتوا فقد
جاء حبيبٌ العابد ، فبكى وقال : يا ربّ أنتَ تذمّ مرَّةً وتحمد مرَّةً ، وكله من
عندك .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأتْبِع السَّيِّئة الحَسنَة تَمحُها ) لما كان العبدُ مأموراً بالتقوى
في السرِّ والعلانية مع أنَّه لابُدَّ أنْ يقع منه أحياناً تفريط في التقوى ، إما بترك
بعض المأمورات ، أو بارتكاب بعض المحظورات ، فأمره أنْ يفعل(2) ما يمحو به
هذه السيئة وهو أنْ يتبعها بالحسنة ، قال الله - عز وجل - : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ } (3) .
وفي " الصحيحين " (4) عن ابنِ مسعود : أنَّ رجلاً أصاب من امرأة قُبلَةً ، ثم أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فسكت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية ، فدعاه فقرأها عليه ، فقال رجل : هذا له خاصة ؟ قال : ( بل للناس عامة ) .
__________
(1) عبارة : ( قال بعضهم لبعض ) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( أن يفعل ) سقطت من ( ص ) .
(3) هود : 114 .
(4) صحيح البخاري 6/94 ( 4687 ) ، وصحيح مسلم 8/100-101 ( 2763 ) ( 39 ) .

وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصَّى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوصية في قوله - عز وجل - : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } (1) .
فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسّان إليهم بالإنفاق ، وكظمِ الغيظ ، والعفو عنهم ، فجمع بين وصفهم ببذل النَّدى ، واحتمال الأذى ، وهذا هو غايةُ حسن الخلق الذي وصى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ، ثم وصفهم بأنَّهم : { إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ولم يُصرُّوا عليها ، فدلَّ على أنَّ المتقين قد يَقَعُ منهم أحياناً كبائر وهي الفواحش ، وصغائر وهي ظُلمُ النفس ، لكنَّهم لا يُصرُّون عليها ، بل يذكرون الله عَقِبَ وقوعها ، ويستغفرونه ويتوبون إليه منها ، والتوبة : هي تركُ الإصرار على الذنبِ (2).
__________
(1) آل عمران : 133-136 .
(2) عبارة : ( على الذنب ) سقطت من ( ج ) .

ومعنى قوله : { ذَكَروا الله } أي : ذكروا عظمته وشِدَّة بطشه وانتقامِه ، وما توعد به على المعصية من العقابِ ، فيوجب ذلك لهم الرجوعَ في الحال والاستغفارَ وتركَ الإصرار ، وقال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أَذْنَبَ عبدٌ ذنباً ، فقال : رَبِّ إنِّي عملتُ ذنباً فاغْفِر لي فقال الله : عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب ، قد غفرتُ لعبدي ، ثم أذنب ذنباً آخر - إلى أنْ قال في الرابعة : - فليعمل ما شاء ) يعني : ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه . وفي الترمذي(3) من حديث أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما أصرَّ من استَغْفَر ولو عادَ في اليومَ سَبْعِينَ مرَّة ) .
وخرَّج الحاكم(4) من حديث عُقبة بنِ عامر : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال :
يا رسولَ الله أحدُنا يُذنب ، قال : ( يُكتب عليه ) ، قال : ثم يستغفرُ منه ، قال
: ( يغفر له ، ويُتاب عليه ) ، قال : فيعود فيذنب ، قال : ( يكتب عليه ) ، قال : ثم يستغفر منه ويتوب ، قال : ( يغفر له ، ويتاب عليه ، ولا يَمَلُّ الله حتَّى
تملُّوا ) .
__________
(1) الأعراف : 201 .
(2) صحيح البخاري 9/178 ( 7507 ) ، وصحيح مسلم 8/98 ( 2758 ) ( 29 ) عن أبي هريرة ، به .
(3) في " الجامع الكبير " ( 3559 ) ، وقال : ( وهذا حديث غريب ، إنَّما نعرفه من حديث أبي نصيرة ، وليس إسناده بالقوي ) .
وأخرجه : أبو داود ( 1514 ) ، وأبو يعلى ( 137 ) و( 138 ) و( 139 ) .
(4) في " المستدرك " 1/58-59 ، وقال : ( صحيح ) ، ولم يتعقبه الذهبي .

وخرَّج الطبراني(1) بإسنادٍ ضعيفٍ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : جاء حبيبُ بنُ الحارث إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله إنِّي رجل مِقْرافٌ للذنوب ، قال : ( فتب إلى اللهِ - عز وجل - ) ، قال : أتوبُ ، ثم أعودُ ، قال : ( فكلما أذنبتَ ،
فتُبْ ) ، قال : يا رسول الله إذاً تكثرُ ذنوبي ، قال : ( فعفو الله أكثرُ من ذنوبك
يا حبيب بن الحارث ) . وخرَّجه بمعناه من حديث أنس مرفوعاً(2) بإسناد ضعيفٍ . وبإسناده عن عبد الله بن عمرو ، قال : من ذكر خطيئةً عَمِلَها ، فوَجِلَ قلبُه منها ، واستغفر الله ، لم يحبسها شيءٌ حتى يمحاها .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عليٍّ قال : خيارُكم كُلُّ مُفَتَّنٍ توَّاب ، قيل : فإنْ عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ، قيل : فإنْ عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ، قيل : فإنْ عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب(3) ، قيل : حتى متى ؟ قال : حتى يكون الشيطان هو المحسور .
وخرَّج ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعاً : ( التائبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لَهُ )(4) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 4854 ) و( 5257 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( قيل : فإن عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 4250 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 10281 ) وأبو نعيم في " الحلية " 4/210 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 108 ) من حديث أبي عبيدة ، عن أبيه ابن مسعود ولم يسمع منه .

وقيل للحسن(1) : ألا يستحيي أحدُنا من ربه يستغفِرُ من ذنوبه ، ثم يعود ، ثم يستغفر ، ثم يعود ، فقال : ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تملُّوا من الاستغفار . وروي عنه أنَّه قال : ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين(2) ، يعني : أنَّ المؤمن كلما أذنب تاب ، وقد رُوي ( المؤمن مُفَتَّنٌ توَّاب )(3) . وروي من حديث جابر بإسنادٍ ضعيفٍ مرفوعاً : ( المؤمن واهٍ راقعٌ فسعيدٌ من هلك على رقعه )(4) .
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته : من أحسن منكم فليَحْمَدِ الله ، ومن أساء فليستغفر الله وليتب(5) ، فإنَّه لابُدَّ لأقوامٍ من أنْ يعملوا أعمالاً وظَّفها الله في رقابهم ، وكتبها عليهم . وفي رواية أخرى عنه أنَّه قال : أيُّها الناسُ مَنْ ألمَّ بذنبٍ فليستغفرِ الله وليتب ، فإنْ عاد فليستغفر الله وليتب ، فإنْ عادَ فليستغفر الله وليتب ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجال ، وإنَّ الهلاك كُلَّ الهلاك في الإصرار
عليها(6) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1609 ) .
(3) أخرجه : أحمد 1/80 و103 ، وأبو يعلى ( 483 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/178-179 من حديث علي ، به ، وإسناده ضعيف جداً ، والمتن منكر .
(4) أخرجه : الطبراني في " الصغير " ( 179 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7123 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به ، وهو كذلك مع ضعف سنده فمتنه منكر باطل .
(5) لم ترد في ( ج ) .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35082 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/296 .

ومعنى هذا أنَّ العبدَ لابُدَّ أنْ يفعل ما قُدِّرَ عليه من الذنوب كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُتِبَ على ابنِ آدم حَظُّهُ من الزنى ، فهو مُدركٌ ذلك لا محالةَ )(1) . ولكنَّ الله جعل للعبد مخرجاً مما وقع فيه من الذنوب(2) بالتوبة والاستغفار ، فإنْ فعل ، فقد تخلص من شرِّ الذنب ، وإنْ أصرَّ على الذنب ، هلك .
وفي " المسند " من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( ارحَمُوا تُرْحَموا ، واغْفِروا يُغْفَرْ لكُم ، وَيلٌ لأقْماعِ القولِ ، وَيلٌ للمُصِرِّين الذين يُصرون على ما فعلوا وهُمْ يَعْلَمون )(3) وفسر أقماعُ القول بمن كانت أذناه كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة ، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه(4) خرج من الأخرى ، ولم ينتفع بشيء مما سمع .
__________
(1) أخرجه : البخاري 8/67 ( 6243 ) و8/156 ( 6612 ) ، ومسلم 8/51 ( 2657 )
( 20 ) ، وأبو داود ( 2152 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) زاد بعدها في ( ج ) : ( ومحاه ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/165 و219 ، وعبد بن حميد ( 320 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد "
( 380 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7236 ) و( 11052 ) عن حبان بن زيد ، عن عبد الله بن عمرو ، به ، وإسناده لا بأس به .
(4) عبارة : ( في أذنه ) سقطت من ( ص ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنة ) قد يُراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة ، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث مرسَلٍ (1) خرَّجه ابنُ أبي الدنيا من مراسيل محمد بن جُبيرٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : ( يا معاذ اتَّقِ الله ما استطعتَ ، واعمل بقوَّتِكَ لله - عز وجل - ما أطقت ، واذكرِ الله - عز وجل - عند كلِّ شجرةٍ وحجر ، وإن أحدثت ذنباً ، فأحدث عنده توبة ، إنْ سرَّاً فسر ، وإنْ علانيةً فعلانية )(2) . وخرَّجه أبو نعيم(3) بمعناه من وجهٍ آخرَ ضعيف عن معاذ . وقال قتادة : قال سلمان : إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ، فأحسن حسنة في سريرةٍ ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانية ، فأحسن حسنةً في علانية ، لكي تكونَ هذه بهذه . وهذا يحتمِلُ أنَّه أراد بالحسنة التوبة أو أعمَّ منها .
__________
(1) المرسل أحد أنواع الضعيف .
(2) أخرجه : الطبراني كما في "مجمع الزوائد" 10/74 ، وقال عنه الهيثمي : ( إسناده حسن ) .
(3) في " الحلية " 1/240-241 ، وضعفه بسبب إسماعيل بن رافع . قال أبو حاتم
: ( منكر الحديث ) ، وقال أحمد بن حنبل : ( ضعيف ) . الجرح والتعديل 2/110
( 566 ) .

وقد أخبر الله في كتابه أنَّ من تاب من ذنبه ، فإنَّه يُغفر له ذنبه أو يتاب عليه في مواضع كثيرةٍ ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ } (1) ، وقوله : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (2) ، وقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (3) ، وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (4) ، وقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً } (5) ، وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } (6) . الآيتين .
قال عبدُ الرازق : أخبرنا جعفرُ بنُ سليمان ، عن ثابت ، عن أنس قال : بلغني أنَّ إبليسَ حين نزلت هذه الآية { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ، بكى(7)
__________
(1) النساء : 17 .
(2) النحل : 119 .
(3) الفرقان : 70 .
(4) طه : 82 .
(5) مريم : 60 .
(6) آل عمران : 135 .
(7) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 6229 ) .

وانظر : الدر المنثور 2/137 .

. ويُروى عن ابن مسعودٍ قال : هذه الآية(1) خيرٌ لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها(2) . وقال ابنُ سيرين : أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : قال رجلٌ : يا رسولَ الله لو كانت(3) كفاراتُنا ككفاراتِ بني إسرائيل ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( اللهمَّ لا نبغيها - ثلاثاً - ما أعطاكم الله خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة ، وجدها مكتوبةً على بابه وكفارَتها ، فإنْ كفَّرها كانت خزياً في الدنيا ، وإنْ لم يكفِّرها كانت له خزياً في الآخرة ، فما أعطاكم الله خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً } (4) (5) .
وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (6)، قال : هو سعةُ الإسلامِ ، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة(7) .
وظاهر هذه النصوص تدلُّ على أنَّ من تاب إلى الله توبةً نصوحاً ، واجتمعت شروطُ التوبة في حقه، فإنَّه يُقطع بقبولِ الله توبته ، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً ، وهذا قولُ الجمهور ، وكلامُ ابن عبدِ البرِّ يدلُّ على أنَّه إجماع(8) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن المنذر كما في " الدر المنثور " 2/137 .
(3) من قوله : ( في كفارات ذنوبهم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) النساء : 110 .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 1477 ) .
(6) الحج : 78 .
(7) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 8/2506 ( 14034 ) .
(8) انظر : التمهيد 6/340 ( ط دار إحياء التراث العربي ) .

ومِنَ الناسِ مَنْ قال : لا يقطع بقبول التوبة ، بل يُرجى ، وصاحبُها تحت المشيئة وإنْ تاب(1) ، واستدلوا بقوله : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } (2) فجعل الذنوبَ كُلَّها تحت مشيئته ، وربما استدلَّ بمثل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (3) ، وبقوله : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } (4) ، وقوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (5) ، وقوله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } (6) .
والظاهر أنَّ هذا في حقِّ التائبِ ؛ لأنَّ الاعترافَ يقتضي الندم ، وفي حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تابَ تاب الله
عليه )(7) ، والصحيح قولُ الأكثرين .
__________
(1) انظر : المفهم 5/269 . والمحرر الوجيز 4/33 .
(2) النساء : 48 .
(3) التحريم : 8 .
(4) القصص : 67 .
(5) النور : 31 .
(6) التوبة : 102 ، وهذه الآية لم ترد في ( ص ) .
(7) أخرجه : عبد الرزاق ( 9748 ) ، وأحمد 6/196 ، والبخاري 3/227 ( 2661 ) و5/152 ( 4141 )، و6/127 ( 4750 ) ، ومسلم 8/112-116 ( 2770 ) ( 56 ) ، وابن حبان ( 4212 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7028 ) من طرق عن عائشة ، به .

وهذه الآيات لا تدلُّ على عدم القطع ، فإنَّ الكريمَ إذا أطمع ، لم يقطع
من رجائه المطمع ، ومِنْ هنا قال ابنُ عباس : إنَّ ( عسى ) من الله واجبة(1) ،
نقله عنه عليُّ بن أبي طلحة . وقد ورد جزاءُ الإيمان والعمل الصالح بلفظ
: ( عسى ) أيضاً ، ولم يدلَّ ذلك على أنَّه غيرُ مقطوع به ، كما في قوله
: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ } (2) .
وأما قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (3) ، فإنَّ التائب ممن شاء أنْ يغفرَ له ، كما أخبر بذلك في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه .
وقد يُراد بالحسنة في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أتبع السَّيِّئة الحسنة ) ما هو أعمُّ من التوبة ، كما في قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (4) ، وقد رُوي من حديث معاذ أنَّ الرجل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتوضَّأ ويُصلِّي(5) .
__________
(1) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 6/1766 . وتفسير القرطبي 8/91 .
(2) التوبة : 18 .
(3) النساء : 48 .
(4) هود : 114 .
(5) أخرجه : أحمد 5/244 ، والترمذي ( 3113 ) ، وقال : ( هذا حديث ليس إسناده متصل ، عبد الرحمان بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ) .
... والنسائي في " الكبرى " ( 7287 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 14376 ) ، والطبراني
في " الكبير " 20/ ( 277 ) ، ( 278 ) ، والدارقطني 1/134 ، والحاكم
1/135 .

وخرَّج الإمامُ أحمدُ(1) ، وأبو داود(2) ، والترمذي(3) ، والنسائي(4) ، وابنُ ماجه(5) من حديث أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ رَجُلٍ يُذنِبُ ذنباً ، ثمَّ يقومُ فيتطهَّر ، ثمَّ يُصلِّي ، ثمَّ يستغفر الله إلاَّ غَفَرَ الله له ) ثم قرأ هذه الآية : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } (6).
وفي " الصحيحين " (7) عن عثمانَ : أنَّه توضأ ، ثم قال : رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : ( مَنْ توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّثُ فيهما نفسَه ، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه ) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (8) عن أبي الدرداء قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مَنْ توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ ، ثمَّ قام فصلَّى ركعتين أو أربعاً يُحسِنُ فيهما الركوعَ والخشوعَ ، ثمَّ استغفرَ الله غُفِرَ له ) .
__________
(1) في " مسنده " 1/2 و10 .
(2) في " سننه " ( 1521 ) .
(3) الترمذي ) لم ترد في ( ص ) والحديث في " الجامع الكبير " ( 406 ) و( 3006 ) ، وقال : ( حديث علي حديث حسن ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، من حديث عثمان بن المغيرة ) .
(4) في " عمل اليوم والليلة " ( 414 ) و( 417 ) .
(5) في " سننه " ( 1395 ) .
(6) آل عمران : 135 .
(7) صحيح البخاري 1/51 ( 159 ) و( 164 )، وصحيح مسلم 1/141 ( 227 ) و( 228 ) و( 229 ) .
(8) المسند 6/443 و450 ، وإسناده ضعيف لجهالة ميمون أبي محمد المرائي .

وفي " الصحيحين " (1) عن أنس قال : كُنتُ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء رجل ، فقال : يا رسولَ الله إني أصبتُ حداً ، فأقمه عليَّ ، قال : ولم يسأله عنه ، فحضرتِ

الصلاةُ فصلى مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قضى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قام إليه الرجلُ فقال : يا رسول الله إنِّي أصبت حداً ، فأقم فيَّ كتاب الله ، قال : ( أليس قد صلَّيت معنا ؟ ) قال : نعم ، قال : ( فإنَّ الله قد غَفَرَ لك ذنبك - أو قال : - حدَّك ) ، وخرَّجه مسلم(2) بمعناه من حديث أبي أمامة ، وخرَّجه ابنُ جرير الطبري(3) من وجه آخر عن أبي أُمامة ، وفي حديثه قال : ( فإنَّك مِنْ خطيئتك كما ولدتك أمُّك فلا تَعُدْ ) ، وأنزل الله : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (4) .
وفي " الصحيحين " (5) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أرأيتُم لو أنَّ نهراً ببابِ أحدكم يَغْتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ هل يبقى من درنه شيء ؟ ) قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : ( فذلك مَثَلُ الصَّلواتِ الخمس يمحو الله بهنَّ
الخطايا ) .
وفي " صحيح(6) مسلم " (7) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من تَوضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ ، خرجت خطاياه من جسده حتى تَخرجَ من تحت أظفاره ) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/206 ( 6823 ) ، وصحيح مسلم 8/102 ( 2764 ) .
(2) في " صحيحه " 8/102 ( 2765 ) .
(3) في " تفسيره " ( 14378 ) .
(4) هود : 114 .
(5) صحيح البخاري 1/140 ( 528 ) ، وصحيح مسلم 2/130-131 ( 667 ) ( 283 ) .
(6) في ( ص ) : ( وفي الصحيح ) .
(7) صحيح مسلم 1/148 ( 245 ) ( 33 ) .

وفيه(1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(2) : ( ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدَّرجات ؟ ) قالوا : بلى يا رسولَ الله ، قالَ : ( إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ ، وكَثرةُ الخُطا إلى المساجد ، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصَّلاة ، فذلكُم الرباطُ ، فذلكُمُ الرباط ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ صَامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً ، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ، ومَنْ قَام لَيلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً ، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه(4) ) .
وفيهما(5) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ حَجَّ هذا البيتَ ، فلم يَرفُثْ ، ولم يَفسُقْ ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّهُ ) .
وفي " صحيح مسلم " (6) عن عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الإسلام يَهدِمُ ما كان قبله ، وإنَّ الهِجرةَ تَهدِمُ ما كان قبلها ، وإنَّ الحجَّ يَهدِمُ ما كانَ قبله ) .
__________
(1) صحيح مسلم 1/150 ( 251 ) ( 41 ) .
(2) من قوله : ( من توضأ فأحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 3/33 ( 1901 ) و3/58 ( 2008 ) و( 2009 ) و3/59 ( 2014 ) ، وصحيح مسلم 2/176 ( 759 ) ( 173 ) ( 174 ) .
(4) من قوله : ( ومن قام ليلة القدر ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) صحيح البخاري 3/14 ( 1819 ) و( 1820 ) ، وصحيح مسلم 4/106 ( 1350 )
( 438 ) .
(6) الصحيح 1/77 ( 121 ) ( 192 ) .

وفيه (1) من حديث أبي قتادة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في صوم عاشوراء :
( أحتسبُ على الله أنْ يُكفِّر السنة التي قبله ) ، وقال في صوم يوم عرفة
: ( أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث عُقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَثَلُ الذي يعمل السيئاتِ ، ثم يعمل الحسناتِ ، كمثل رجلٍ كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عَمِلَ حسنة فانفكت حلقة ، ثم عَمِلَ حسنة أخرى ، فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض )(2) .
ومما يُكفِّرُ الخطايا ذكرُ الله - عز وجل - ، وقد ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ
عن قول : ( لا إله إلاَّ الله ) أمِنَ الحسنات هي ؟ قالَ : ( هي أحسن
الحسنات ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من قال : سبحان اللهِ وبحمده في يومه مئة مرة ، حُطَّتْ خطاياه وإنْ كانت مِثلَ زَبَدِ
البَحرِ ) .
__________
(1) صحيح مسلم 3/166 ( 1162 ) ( 196 ) .
(2) أخرجه : أحمد 4/145. وأخرجه أيضاً : نعيم بن حماد في " زياداته على كتاب الزهد "
لعبد الله بن المبارك ( 170 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 783 ) و( 784 ) ، والبغوي
( 4149 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(3) صحيح البخاري 8/107 ( 6405 ) ، وصحيح مسلم 8/68 ( 2692 ) ( 29 ) .

وفيهما(1) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ قالَ : لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ له ، له الملكُ ، وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يوم مئة مرَّة ، كانت له عِدْل عشرِ رقابٍ ، وكتبت له مئةُ حسنةٍ ، ومُحيت عنه مئةُ سيئة ، وكانت له حِرزاً من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسيَ ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضَلَ مما جاء به إلا أحدٌ عمل أفضلَ مِنْ ذلك ) .
وفي " المسند " وكتاب ابن ماجه عن أمِّ هانئ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا إله إلا الله لا تترك ذنباً ، ولا يسبقها عمل )(2) .
وخرَّج الترمذيُّ(3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه مرَّ بشجرةٍ يابسة الورق ، فضربها بعصاه ، فتناثر الوَرَقُ ، فقال : ( إنَّ الحمدَ للهِ ، وسبحان الله ، ولا إله إلاَّ الله ، والله أكبر لتساقط من ذنوبِ العبد كما يتساقط ورقُ هذه الشجرة ) .
وخرَّجه الإمام أحمد(4) بإسنادٍ صحيح عن أنسٍ : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( إنَّ سبحانَ اللهِ ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر تَنفُضُ الخطايا كما تنفُضُ الشَّجرةُ ورقَها ) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/153 ( 3293 ) ، و8/106 ( 6403 ) ، وصحيح مسلم 8/68
( 2191 ) ( 28 ) .
(2) أخرجه : أحمد 6/425 ، وابن ماجه ( 3797 ) ، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر : نجيح ابن عبد الرحمان السندي ولجهالة صالح مولى وجزة ، وسند ابن ماجه ضعيف أيضاً لضعف زكريا بن منظور ومحمد بن عقبة مجهول الحال .
(3) في " الجامع الكبير " ( 3533 ) ، وقال : ( هذا حديث غريب ، ولا نعرف للأعمش سماعاً من أنس إلا أنه قد رآه ونظر إليه ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/55 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/240 .
(4) في " مسنده " 3/152 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 634 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1688 ) .

والأحاديث في هذا كثيرة جداً يطولُ الكتاب بذكرها .
وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أنَّ لسانه لا يفتر من ذكر الله ، قال : إنَّ ذلك لَعَوْنٌ حَسَنٌ .
وسُئِلَ الإمام أحمد عن رجلٍ اكتسب مالاً من شبهةٍ : صلاتُه وتسبيحُهُ يَحُطُّ عنه شيئاً من ذلك ؟ فقالَ : إنْ صلَّى وسبَّح يريد به ذَلِكَ ، فأرجو ، قالَ الله تعالى :
{ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } (1) .
وقال مالكُ بنُ دينارٍ : البكاءُ على الخطيئة يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريحُ الورقَ اليابسَ .
وقال عطاء : من جلس مجلساً من مجالس الذِّكر ، كَفَّر به عشرة مجالس من مجالس الباطل(2) .
وقال شويس العدوي(3) - وكان من قدماء التابعين - إنَّ صاحبَ اليمين أمير - أو قال : أمين - على صاحب الشمال ، فإذا عَمِلَ ابنُ آدم سيئة ، فأراد صاحبُ الشمال أنْ يكتبها ، قال له صاحبُ اليمين : لا تَعْجَلْ لعلَّه يعمل حسنة ، فإنْ عَمِلَ حسنةً ، ألقى واحدةً بواحدة ، وكتبت له تسع حسنات ، فيقول الشَّيطانُ : يا وَيلَه من يدرك تضعيف ابن آدم(4) .
وخرَّج الطبراني(5)
__________
(1) التوبة : 102 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/313 .
(3) هو شويس بن حياش العدوي ، أبو الرقاد البصري . انظر : تهذيب الكمال 3/412
( 2768 ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/255 .
(5) في " الكبير " ( 3451 ) . وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش ضعيف ، وحدّث عن أبيه ولم يسمع منه ، قال أبو حاتم : ( لم يسمع من أبيه شيئاً ) .
انظر : الجرح والتعديل 7/258 ( 1078 ) ، وتهذيب الكمال 6/241 ( 5656 ) .

بإسنادٍ فيه نظر عن أبي مالك الأشعري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا نام ابنُ آدمَ ، قال الملك للشيطان : أعطني صحيفَتك ، فيعطيه إيَّاها ، فما وجد في صحيفته من حسنةٍ ، محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ،
وكتبهنَّ حسناتٍ ، فإذا أراد أنْ ينامَ أحدُكم ، فليكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعاً وثلاثين تحميدة ، ويسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، فتلك مئة ) وهذا غريبٌ منكر .
وروى وكيع(1) : حدَّثنا الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ،
قال : قال عبدُ الله ، يعني : ابنَ مسعود : وددتُ أني صُولحت على أنْ أعمل
كُلَّ يوم(2) تسع خطيئات وحسنة(3). وهذا إشارة منه إلى أنَّ الحسنة يُمحى بها
التسع خطيئات ، ويَفضُلُ له ضعفٌ واحدٌ من ثواب الحسنة ، فيكتفي به ، والله
أعلم .
وقد اختلفَ الناسُ في مسألتين :
إحداهما : هل تُكفِّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ أم لا تكفر
سوى الصغائر ؟ فمنهم من قال : لا تُكفر سوى الصغائر(4) ، وقد رُوي هذا
عن عطاء وغيره من السَّلف في الوضوء أنَّه يُكفر الصغائر ، وقال سلمان الفارسيُّ
في الوضوء : إنَّه يكفر الجراحات الصِّغار ، والمشي إلى المسجد يُكفر أكبرَ
من ذلك ، والصلاة تكفر أكبرَ من ذلك . خرَّجه محمد بن نصر
المروزي(5) .
__________
(1) هو وكيع بن الجراح بن مليح أبو سفيان الرؤاسي الكوفي ، توفي سنة ( 197 ه‍ ) .
انظر : تهذيب الكمال 7/461 ( 7290 ) ، وسير أعلام النبلاء 9/140 .
(2) عبارة : ( كل يوم ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : وكيع بن الجراح في " الزهد " ( 277 ) ، وابن أبي شيبة ( 34543 ) .
(4) عبارة : ( فمنهم من قال : لا تكفر سوى الصغائر ) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 99 ) .

وأما الكبائر ، فلابدَّ لها من التوبة ؛ لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة ، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض ، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة ، وأداء بقية أركان الإسلام ، لم يُحْتَجْ إلى التوبة ، وهذا باطلٌ بالإجماع .
وأيضا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض ، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل ، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه " التمهيد " (1) وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدلَّ عليه
بأحاديث :
منها : قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الصَّلواتُ الخمسُ ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ ) وهو مخرَّج في " الصحيحين " (2) من حديث أبي هريرة ، وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ .
وقد حكى ابنُ عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين : أحدُهما
- وحكاه عن جمهور أهل السُّنة - : أنَّ اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر ، فإنْ لم تُجتنب ، لم تُكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية .
__________
(1) انظر : التمهيد 2/181 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .
(2) أخرجه : مسلم 1/143 ( 233 ) ( 14 ) – ( 16 ) ، ولم يخرجه البخاري .
وأخرجه : الطيالسي ( 2470 ) ، وأحمد 2/229 و359 و400 و414 و484 ، وابن ماجه
( 1086 ) ، والترمذي ( 214 ) ، وابن خزيمة ( 314 ) و( 1814 ) ، وأبو عوانة 2/20 ، والحاكم 1/119-120 ، و4/259 ، والبيهقي في " الكبرى " 2/466-467 و10/187 ، والبغوي ( 345 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

والثاني : أنَّها تُكفر الصغائر مطلقاً ، ولا تُكفر الكبائر وإنْ وجدت ، لكن بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، ورجَّحَ هذا القول ، وحكاه عن الحذاق(1) .
وقوله : بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، مرادُه أنَّه إذا أصرَّ
عليها ، صارت كبيرةً ، فلم تكفرها الأعمالُ . والقولُ الأوَّلُ الذي حكاه غريب ، مع أنَّه قد حُكِيَ عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثلُه .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِن امرئ مسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبة ، فيُحسِنُ وضوءها وخُشوعَها ورُكوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرةً ، وذلك الدهر كُلَّه ) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن سلمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يتطهَّرُ الرجلُ -يعني: يوم الجمعة- فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فَيُنْصِتَ حتى يقضيَ الإمامُ صلاته ، إلا كان كفَّارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت الكبائر
المقتلة ) .
__________
(1) انظر : التمهيد 2/181 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) ، وتفسير ابن عطية 4/33 .
(2) الصحيح 1/141 ( 228 ) ( 7 ) .
(3) المسند 5/439 و440 .
وأخرجه : النسائي ( 1665 ) و( 1725 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/368 والطبراني في " الكبير " ( 6089 ) و( 6090 ) ، والخطيب في " موضح أوهام الجمع
والتفريق " 1/164 ، وهو حديث قويٌّ .

وخرَّج النسائي ، وابنُ حبان(1) ، والحاكمُ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والَّذي نفسي بيده ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس ،
ويصومُ رمضان ، ويُخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبعَ ، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة ، ثم قيل له : ادخل بسلام ) (2) . وخرَّج الإمامُ أحمد والنَّسائي من حديث أبي أيوب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضاً(3) . وخرَّج الحاكم(4) معناه من حديث عبيد بن
عمير ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ويُروى من حديث ابن عمر مرفوعاً : ( يقولُ الله - عز وجل - : ابنَ آدمَ اذكُرني من أوَّلِ النهار ساعةً ومن آخرِ النهار ساعةً ، أَغْفِر لك ما بَينَ ذلك ، إلا الكبائر ، أو تتوب منها )(5) .
وقال ابن مسعود: الصلواتُ الخمس كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتنبت الكبائر(6).
وقال سلمان : حافظوا على هذه الصلوات الخمس ، فإنَّهنَّ كفَّارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة(7) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن ماجه ) .
(2) أخرجه : النسائي 5/8 ، وابن حبان ( 1748 ) ، والحاكم 1/200 و2/240 ، وإسناده ضعيف لجهالة صهيب مولى العتواري فقد تفرد بالرواية عنه نعيم المجمر .
(3) أخرجه : أحمد 5/413 ، والنسائي 7/88 .
وأخرجه : ابن حبان ( 3247 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3885 ) و( 3886 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 1144 ) من طرق عن أبي أيوب ، به .
(4) في " المستدرك " 1/59 و4/259 عن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، به .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/213 من حديث الحسن ، عن أبي هريرة . والحسن لم يسمع من أبي هريرة .
(6) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 206 ) .
(7) أخرجه : عبد الرزاق ( 148 ) و( 4737 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6051 ) .

قال ابنُ عمر لرجل : أتخاف النارَ أنْ تدخلها ، وتحبُّ الجنَّةَ أنْ تدخلها ؟ قال : نعم ، قال : برَّ أمَّك فوالله لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطَّعام ، لتدخلن الجنَّة ما اجتنبت الموجبات(1) . وقال قتادة : إنَّما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر(2) ، وذكر لنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اجتنبوا الكبائرَ وسدِّدوا وأبشروا )(3) .
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم إلى أنَّ هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ ، ومنهم : ابن حزم الظاهري ، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب " التمهيد " بالردِّ عليه وقال : قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب ، لولا قولُ ذلك القائل ، وخشيتُ أنْ يغترَّ به جاهلٌ ، فينهمِكَ في الموبقاتِ ، اتِّكالاً على أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة ، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ(4) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 19705 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " 1/17 ، والطبري في " تفسيره " 5/39 . والروايات مطولة والمختصرة ، متباينة اللفظ متفقة المعنى .
(2) من قوله : ( وقال قتادة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/394 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(4) انظر : التمهيد 2/183 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...