Translate

الخميس، 8 يونيو 2023

تفسير سورة المائدة من 71 الي 76 .ومن الآيات من {77. حتي82 .}

تفسير سورة المائدة من 71 الي 76 .ومن الآيات من {77. حتي82 .}


تفسير سورة المائدة من 71 الي 76 .

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)  
المائدة - تفسير ابن كثير 
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) }
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل، على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه؛ ولهذا قال: { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي: وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصَمُّوا، فلا يسمعون حقًا (1) ولا يهتدون إليه، { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي: مما كانوا فيه { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا }
أي: بعد ذلك { [وَصَمُّوا] (2) كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.
__________
(1) في د: "فلا يستمعون خيرا".
(2) زيادة من ر.
(3/156)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) }
يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى، من الملكية واليعقوبية والنسطورية، ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا.
هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله. بل قال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } إلى أن قال: { وإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [مريم:30-36].
وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته، آمرًا لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له؛ ولهذا قال تعالى: { وَقَالَ الْمَسِيح ُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } أي: فيعبد معه غيره { فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } أي: فقد أوجب له النار، وحرم عليه الجنة، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48، 116]، وقال تعالى: { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [الأعراف:50].
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة"، وفي لفظ: "مؤمنة". (1)
وتقدم في أول سورة النساء عند قوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48، 116] حديث يزيد (2) بن بَابَنُوس عن عائشة: الدواوين ثلاثة فذكر منهم ديوانًا لا يغفره (3) الله، وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [وَمَأْوَاهُ النَّارُ] } (4) الحديث في مسند أحمد. (5)
ولهذا قال [الله] (6) تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (111).
(2) في أ: "زيد".
(3) في أ: "لا يغفر".
(4) زيادة من أ.
(5) المسند (6/240).
(6) زيادة من أ.
(3/157)
أي: وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.
وقوله { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهِسَتْجَاني، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا الفضل، حدثني أبو صخر في قول الله: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } قال: هو قول اليهود: { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وقول النصارى: { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة:30] فجعلوا الله ثالث ثلاثة.
وهذا قول غريب في تفسير الآية: أن المراد بذلك طائفتا (1) اليهود والنصارى والصحيح: أنها أنزلت في النصارى (2) خاصة، قاله مجاهد وغير واحد.
ثم اختلفوا (3) في ذلك فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة (4) من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، قال (5) ابن جرير وغيره: والطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنَّسطورية تقول بهذه الأقانيم. وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاث كافرة.
وقال السُّدِّي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله (6) ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } الآية [المائدة:116].
وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم. قال الله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: ليس متعددا، بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات.
ثم قال: تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا: { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ } أي: من هذا الافتراء والكذب { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الآخرة من الأغلال والنكال.
ثم قال: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه، ثم قال: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } (7) أي: له سَويَّة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال: { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [الزخرف:59].
وقوله: { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي: مؤمنة به مصدقة له. وهذا أعلى مقاماتها (8) فدل على أنها ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص: 7]،
__________
(1) في ر: "طائفتي" والصحيح ما أثبتناه.
(2) في أ: "نزلت في قول النصارى".
(3) في أ: "واختلفوا".
(4) في أ: "المنبعثة".
(5) في ر: "قاله".
(6) في د: "فجعلوه".
(7) في ر، أ: "الرسل وأمه صديقة".
(8) في أ: "مقاماتنا".
(3/158)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
[قالوا] (1) وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي (2) إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف: 109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك.
وقوله: { كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } أي: يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت (3) فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة (4) إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ } أي: نوضحها ونظهرها، { ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون؟ وبأيّ قول يتمسكون؟ وإلى أيّ مذهب من الضلال يذهبون؟ (5) ؟
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر: "يوحي".
(3) في ر، أ: "كما زعمه".
(4) في ر، أ: "التابعة".
(5) في ر: "يزهون".
=========
 
المائدة - تفسير القرطبي

71- {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} المعنى؛ ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {تَكُونُ} بالرفع؛ ونصب
(6/247)
الباقون؛ فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن. و{أن} مخففة من الثقيلة ودخول {لا} عوض من التخفيف، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه؛ ففصلوا بينهما بـ{ـلا} ومن نصب جعل {أن} ناصبة للفعل، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره. قال سيبويه: حسبت ألا يقول ذلك؛ أي حسبت أنه قال ذلك. وإن شئت نصبت؛ قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي
وإنما صار الرفع أجود؛ لأن حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت.
قوله تعالى: {فَعَمُوا} أي عن الهدى. {وَصَمُّوا} أي عن سماع الحق؛ لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان {تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة. {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فارتفع {كَثِيرٌ} على البدل من الواو. وقال الأخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم. وإن شئت كان على إضمار مبتدأ أي العمي والصم كثير منهم. وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير. وجواب رابع أن يكون على لغة من قال: "أكلوني البراغيث" وعليه قول الشاعر:
ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
ومن هذا المعنى قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} "الأنبياء: 3". ويجوز في غير القرآن {كَثِيراً} بالنصب يكون نعتا لمصدر محذوف.
(6/248)
72- {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هذا قول اليعقوبية فرد الله ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به؛ فقال: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي إذا كان المسيح يقول: يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} قيل: هو من قول عيسى. وقيل: ابتداء كلام من الله تعالى. والإشراك أن يعتقد معه موجدا. وقد مضى في {آل عمران} القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لإعادته.
73- {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
74- {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} أي أحد ثلاثة. ولا يجوز فيه التنوين؛ عن الزجاج وغيره. وفيه للعرب مذهب آخر؛ يقولون: رابع ثلاثة؛ فعلى هذا يجوز الجر والنصب؛ لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم. وكذلك إذا قلت: ثالث اثنين؛ جاز التنوين. وهذا قول فرق النصارى من الملكية والنسطورية واليعقوبية؛ لأنهم يقولون أب وابن وروح القدس إله واحد؛ ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم. وما كان هكذا صح أن
(6/249)
يحكى بالعبارة اللازمة؛ وذلك أنهم يقولون: إن الابن إله والأب إله وروح القدس إله. وقد تقدم القول في هذا في {النساء} فأكفرهم الله بقولهم هذا، وقال {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي أن الإله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا؛ وقد مضى في {البقرة} معنى الواحد. و {مِنْ} زائدة. ويجوز في غير القرآن {إِلَهاً وَاحِداً} على الاستثناء. وأجاز الكسائي الخفض على البدل.
قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} أي يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. {أَفَلا يَتُوبُونَ} تقرير وتوبيخ. أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم؛ والمراد الكفرة منهم. وإنما خص الكفرة بالذكر لأنهم القائلون بذلك دون المؤمنين.
75- {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ابتداء وخبر؛ أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل؛ فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها؛ فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ابتداء وخبر {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين؛ ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا؟! وقولهم: كان يأكل بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث. وقال بعض المفسرين في قوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} إنه كناية عن الغائط والبول. وفى هذا دلالة
(6/250)
على أنهما بشران. وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} .
قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام؛ وقد مضى في {آل عمران} ما يدل على هذا. والله أعلم. وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به؛ عن الحسن وغيره. والله أعلم.
قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ} أي الدلالات. {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؛ يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه. وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة.
76- {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم؛ أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟. {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع. ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة. والله أعلم.
============= 
المائدة - تفسير الطبري 
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
القول في تأويل قوله : { وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى: وظن هؤلاء الإسرائيليون (1) = الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: أنه أخذ ميثاقهم: وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا= أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون (2)
="فعموا وصموا"، يقول: فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم، من إخلاص عبادتي، والانتهاء
__________
(1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 7: 384 ، 421.
(2) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف ص: 392 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(10/478)
إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي، بحسبانهم ذلك وظنهم ="وصموا" عنه = ثم تبت عليهم. يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصيَّ وخلاف أمري والعمل بما أكرهه منهم، إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي ="ثم عموا وصموا كثير منهم"، (1) يقول: ثم عموا أيضًا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم: من العمل بطاعتي، والانتهاء إلى أمري، واجتناب معاصيَّ ="وصموا كثير منهم"، يقول: عمى كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل، باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي (2) = عن الحق وصموا، بعد توبتي عليهم، واستنقاذي إياهم من الهلكة ="والله بصير بما يعملون"، يقول"بصير"، فيرى أعمالهم خيرَها وشرَّها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12288 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، الآية، يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ ="فعموا وصموا"، كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه.
12289 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا"، يقول: حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصمُّوا.
12290 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك، عن الحسن:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، قال: بلاء.
12291 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، قال: الشرك.
12292 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا"، قال: اليهود.
__________
(1) انظر تفسير"العمى" و"الصمم" ، فيما سلف 1: 328- 331/3: 315.
(2) انظر القول في رفع"كثير" في معاني القرآن للفراء 1: 316 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174.
(3) انظر تفسير"بصير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/479)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
12293 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فعموا وصموا"، قال: يهود= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: هذه الآية لبني إسرائيل. قال: و"الفتنة"، البلاء والتَّمحيص.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فَتَن به الإسرائيلين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره: فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به، فنقضوا فيه ميثاقي، وغيَّروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا يعبدوا سواي، ولا يتخذوا ربًّا غيري، وأن يوحِّدوني، وينتهوا إلى طاعتي= عبدي عيسى ابن مريم، فإني خلقته، وأجريت على يده نحوَ الذي أجريت على يد كثير من رسلي، فقالوا كفرًا منهم:"هو الله". (1)
وهذا قول اليعقوبيّة من النصارى عليهم غضب الله.
يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به، أشركوا بي، وقالوا لخلق من خلقي، وعبدٍ مثلهم من عبيدي، وبشر نحوهم معروفٍ نسبه وأصله، مولود من البشر، يدعوهم إلى توحيدي، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي،
__________
(1) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف 10: 146 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.
(10/480)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
ويقرّ لهم بأني ربه وربهم، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئًا:"هو إلههم"، جهلا منهم بالله وكفرًا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدًا ولا مولودًا.
ويعني بقوله:"وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم"، يقول: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يَذِلّ كل شيء، وله يخضع كل موجود (1) ="ربيّ وربكم"، يقول: مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم (2) ="إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة"، أن يسكنها في الآخرة="ومأواه النار"، يقول: ومرجعه ومكانه- الذي يأوي إليه ويصير في معاده، من جعل لله شريكًا في عبادته- نارُ جهنم (3) ="وما للظالمين"، يقول: وليس لمن فعل غير ما أباح الله له، وعبد غير الذي له عبادة الخلق (4) ="من أنصار"، ينصرونه يوم القيامة من الله، فينقذونه منه إذا أورده جهنم. (5)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل: أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُتبلون ولا يفتنون، قالوا كفرًا بربهم وشركًا:"الله ثالث ثلاثة".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"العبادة" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد).
(2) انظر تفسير"الرب" فيما سلف 1: 142 ، ثم فهارس اللغة فيما سلف.
(3) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 9: 225 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف 9: 339 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك.
(10/481)
وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. (1) كانوا فيما بلغنا يقولون:"الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما".
* * *
يقول الله تعالى ذكره، مكذّبًا لهم فيما قالوا من ذلك:"وما من إله إلا إله واحد"، يقول: ما لكم معبود، أيها الناس، إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولود="وإن لم ينتهوا عما يقولون"، يقول: إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم:"الله ثالث ثلاثة" (2) ="ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم"، يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الأخرى:"هو المسيح ابن مريم"، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم، (3) ولم يقل:"ليمسنَّهم عذابٌ أليم"، لأن ذلك لو قيل كذلك، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني، وهم القائلون:"الله ثالث ثلاثة"، ولم يدخل فيهم القائلون:"المسيح هو الله". فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه.
* * *
فإن قال قائل: وإن كان الأمر على ما وصفت، فعلى مَنْ عادت"الهاء والميم" اللتان في قوله:"منهم"؟
قيل: على بني إسرائيل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "والملكانية" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف 3 : 569/ 6 : 14.
(3) انظر تفسير"مس" فيما سلف 7: 414 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(10/482)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
فتأويل الكلام، إذْ كان الأمر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسنَّ الذين يقولون منهم:"إن المسيح هو الله"، والذين يقولون:"إن الله ثالث ثلاثة"، وكل كافر سلك سبيلهم= عذابٌ أليم، بكفرهم بالله. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى.
ذكر من قال ذلك:
12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة"، قال: قالت النصارى:"هو والمسيح وأمه"، فذلك قول الله تعالى:( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [سورة المائدة: 116].
12295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران (2) = القائل أحدهما:"إن الله هو المسيح ابن مريم"، والآخر القائل:"إن الله ثالث ثلاثة" = عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، (3) ويسألان
__________
(1) انظر تفسير"عذاب أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
(2) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب).
(3) في المطبوعة: "وقطعا به من كفرهما" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.
(10/483)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
ربهما المغفرة مما قالا ="والله غفور"، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم="رحيم" بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ }
قال أبو جعفر: وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره، (2) احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح.
يقول= مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم:"هو الله" والآخرين في قيلهم:"هو ابن الله" =: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (3) ="وأمه صِدّيقة"، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"استغفر" و"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) = وتفسير"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم).
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ص: 480 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(10/484)
و"الصِدِّيقة""الفِعِّيلة"، من"الصدق"، وكذلك قولهم:"فلان صِدِّيق"،"فِعِّيل" من"الصدق"، ومنه قوله تعالى ذكره:( وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ). [سورة النساء: 70]. (1)
وقد قيل إن"أبا بكر الصدّيق" رضي الله عنه إنما قيل له:"الصّدّيق" لصدقه.
وقد قيل: إنما سمي"صديقًا"، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها.
* * *
وقوله:"كانا يأكلان الطعام"، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا.
* * *
القول في تأويل قوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى="الآيات"، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، (2) وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه
__________
(1) انظر تفسير"الصديق" فيما سلف 8: 530- 532.
(2) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف (أيي).
(10/485)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
وسلم:"ثم انظر"، يا محمد="أنَّى يؤفكون"، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ (1) وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟
* * *
والعرب تقول لكل مصروف عن شيء:"هو مأفوك عنه". يقال:"قد أفَكت فلانًا عن كذا"، أي: صرفته عنه،"فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك". و"قد أُفِكت الأرض"، إذا صرف عنها المطر. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ.
يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة= أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم= شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ
__________
(1) المطبوعة: "بينته لهم" ، والصواب من المخطوطة ، وهي غير منقوطة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174 ، 175.
(10/486)
المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون.
* * *
وأما قوله:"والله هو السميع العليم" فإنه يعني تعالى ذكره بذلك:"والله هو السميع"، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه="العليم"، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
============

المائدة - تفسير الدر المنثور

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
- قَوْله تَعَالَى: وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ
- أخرج ابْن جرير عَن مُجَاهِد {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} قَالَ: يهود
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن الْحسن فِي قَوْله {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} قَالَ: بلَاء
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} قَالَ: حسب الْقَوْم أَن لَا يكون بلَاء {فعموا وصموا} قَالَ: كلما عرض لَهُم بلَاء ابتلوا بِهِ هَلَكُوا فِيهِ
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} قَالَ: حسبوا أَن لَا يبتلوا فعموا عَن الْحق
(3/121)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
- قَوْله تَعَالَى: لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم أَنه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَمَا للظالمين من أنصار لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَأَن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة كَانَا يأكلان الطَّعَام انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم
(3/121)
- أخرج ابْن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: لما رفع الله عِيسَى بن مَرْيَم اجْتمع من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل مائَة رجل فَقَالَ بَعضهم: أَنْتُم كثير نتخوف الْفرْقَة اخْرُجُوا عشرَة فاخرجوا عشرَة ثمَّ قَالُوا: أَنْتُم كثير نتخوف الْفرْقَة اخْرُجُوا عشرَة فاخرجوا عشرَة ثمَّ قَالُوا: أَنْتُم كثير فاخرجوا عشرَة فاخرجوا عشرَة ثمَّ قَالُوا: أَنْتُم كثير فاخرجوا عشرَة حَتَّى بَقِي عشرَة فَقَالُوا: أَنْتُم كثير حَتَّى الْآن فاخرجوا سِتَّة وَبَقِي أَرْبَعَة فَقَالَ بَعضهم: ماتقولون فِي عِيسَى فَقَالَ رجل مِنْهُم: أتعلمون أَنه لايعلم الْغَيْب إِلَّا الله قَالُوا: لَا
فَقَالَ الرجل: هُوَ الله كَانَ فِي الأَرْض مَا بدا لَهُ ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء حِين بدا لَهُ
وَقَالَ الآخر: قد عرفنَا عِيسَى وعرفنا أمه هُوَ وَلَده وَقَالَ الآخر: لَا أَقُول كَمَا تَقولُونَ قد كَانَ عِيسَى يخبرنا أَنه عبد الله وروحه وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم فَنَقُول كَمَا قَالَ لنَفسِهِ لقد خشيت أَن تَكُونُوا قُلْتُمْ قولا عَظِيما
قَالَ: فَخَرجُوا على النَّاس فَقَالُوا لرجل مِنْهُم: مَاذَا قلت قَالَ: قلت هُوَ الله كَانَ فِي الأَرْض مابدا لَهُ ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء حِين بدا لَهُ
قَالَ: فَاتبعهُ عنق من النَّاس وَهَؤُلَاء النسطورية واليعقوبية ثمَّ خرج الرَّابِع فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا قلت قَالَ: قلت هُوَ عبد الله روحه وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم فَاتبعهُ عنق من النَّاس فَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب فَكل قد ذكره الله فِي الْقُرْآن {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} الْآيَة
ثمَّ قَرَأَ {وبكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتاناً عَظِيما} النِّسَاء الْآيَة 156 ثمَّ قَرَأَ {وَلَو أَن أهل الْكتاب آمنُوا وَاتَّقوا} الْمَائِدَة الْآيَة 65 إِلَى قَوْله {مِنْهُم أمة مقتصدة وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ} الْمَائِدَة الْآيَة 66 قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب: فَهَؤُلَاءِ أمة مقتصدة الَّذين قَالُوا: عِيسَى عبد الله وكلمته وروحه أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} قَالَ: النَّصَارَى يَقُولُونَ: {إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وكذبوا
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد قَالَ: تفرق بَنو إِسْرَائِيل ثَلَاث فرق فِي
(3/122)
عِيسَى فَقَالَت فرقة هُوَ الله
وَقَالَت فرقة: هُوَ ابْن الله
وَقَالَت فرقة: هُوَ عبد الله وروحه وَهِي المقتصدة وَهِي مسلمة أهل الْكتاب
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} قَالَ: قَالَت النَّصَارَى: إِن الله هُوَ الْمَسِيح وَأمه فَذَلِك قَوْله {أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} الْمَائِدَة الْآيَة 116
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا عبد الله بن هِلَال الدِّمَشْقِي حَدثنَا أَحْمد بن أبي الْحوَاري قَالَ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي: ياأحمد - وَالله - مَا حرك ألسنتهم بقَوْلهمْ ثَالِث ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ وَلَو شَاءَ الله لأخرس ألسنتهم
=======

المائدة - تفسير فتح القدير

[سورة المائدة (5) : الآيات 68 الى 75]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
__________
(1) . القصص: 56.
(2) . أشمه: أختبره.
(2/70)
قَوْلُهُ: عَلى شَيْءٍ فِيهِ تَحْقِيرٌ وَتَقْلِيلٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ: أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ: أَيْ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِمَا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَمْرُكُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَنَهْيُكُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ لَهُمَا. قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قِيلَ:
هُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الْكِتَابَيْنِ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِقَامَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ. قَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أَيْ كفرا إلى كفرهم وطغيانا إلى طُغْيَانِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَتَصْدِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا، قَوْلُهُ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ دَعْ عَنْكَ التَّأَسُّفَ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَنَازِلٌ بِهِمْ، وَفِي الْمُتَّبِعِينَ لَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غِنًى لَكَ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ، جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَرْغِيبِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ هادُوا أَيْ دَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الرَّفْعُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
أَيْ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا بُغَاةٌ وأنتم كذلك، ومثله قول ضابئ الْبُرْجُمِيِّ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ «1» بِهَا لَغَرِيبُ
أَيْ فَإِنِّي لَغَرِيبٌ وَقَيَّارٌ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ «الصَّابِئُونَ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي «هادُوا» . قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّدَ. وَثَانِيهُمَا أَنَّ الْمَعْطُوفَ شَرِيكُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى:
إِنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَهَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَازَ الرَّفْعُ لِأَنَّ إِنَّ ضَعِيفَةٌ فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الِاسْمِ دُونَ الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ إِنَّ وَاسْمِهَا وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ إِنَّ مُقَدَّرٌ، وَالْجُمْلَةَ الْآتِيَةَ خَبَرٌ الصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف
__________
(1) . «قيّار» : اسم جمل ضابئ.
(2/71)
وقيل: إِنَّ هُنَا بِمَعْنَى نَعَمْ، فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، ومثله قول ابن قيس الرُّقَيَّاتِ:
بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا ... حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهْ بِمَعْنَى نَعَمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى فِي الْبَقَرَةِ، وَقُرِئَ الصَّابِيُونَ بِيَاءٍ صَرِيحَةٍ تَخْفِيفًا لِلْهَمْزَةِ، وَقُرِئَ: الصَّابُونَ بِدُونِ يَاءٍ، وَهُوَ مِنْ صَبَا يَصْبُو لِأَنَّهُمْ صَبَوْا إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَقُرِئَ وَالصَّابِئِينَ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إن. قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مبتدأ خبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمُبْتَدَأُ وخبره خبر ل إِنَّ، وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْعَائِدُ إِلَى اسْمِ إِنَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ آمَنَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ إِنَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ خَبَرُ إِنَّ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إِيمَانًا خَالِصًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَهُوَ الَّذِي لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ وَلَا حُزْنٌ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ: الْمُخْلِصَ وَالْمُنَافِقَ، فَالْمُرَادُ بِمَنْ آمَنَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَحْدَثَ إِيمَانًا خَالِصًا بَعْدَ نِفَاقِهِ. قَوْلُهُ: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُ مَعْنَى الْمِيثَاقِ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لِيُعَرِّفُوهُمْ بِالشَّرَائِعِ وَيُنْذِرُوهُمْ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَقَعَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ نَاسٍ مِنَ الْأَحْبَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا فَعَلُوا بِالرُّسُلِ؟ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَصَوْهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ نَاسٍ عَنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ فَعَلُوا بِهِمْ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا مِنْهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِضَرَرٍ، وَفَرِيقًا آخَرَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاة رؤوس الْآيِ، فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. قَوْلُهُ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ حَسِبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنَ الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اعتزازا «1» بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» .
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَكُونُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَحَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ، لِأَنَّ أَنْ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ أَنْ نَاصِبَةٌ لِلْفِعْلِ، وَحَسِبَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالرَّفْعُ عند النحويين في حسب وَأَخَوَاتِهَا أَجْوَدُ، وَمِثْلُهُ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَلَّا يَشْهَدَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي «3»
قَوْلُهُ فَعَمُوا وَصَمُّوا أَيْ عَمُوا عَنْ إِبْصَارِ الْهُدَى، وَصَمُّوا عَنِ اسْتِمَاعِ الحق، وهذه إشارة إلى ما
__________
(1) . في القرطبي اغترارا.
(2) . المائدة: 18. [.....]
(3) . البيت لامرئ القيس. «بسباسة» : امرأة من بني أسد.
(2/72)
وَقَعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَقَتْلِ شِعْيَا، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ تَابُوا، فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْقَحْطَ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ قتل يحيى بن زكريا وقصدهم قتل عِيسَى، وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلَيْنِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: كَمَا تَقُولُ رَأَيْتُ قَوْمَكَ ثَلَاثَتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ: أَيِ الْعُمْيُ وَالصُّمُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مُرْتَفِعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومنه قوله الشاعر:
ولكن ديافيّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ «1»
وَقُرِئَ عَمُوا وَصَمُّوا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ أَعْمَاهُمُ اللَّهُ وَأَصَمَّهُمْ. قَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ بَعْضِ فَضَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ: يُقَالُ لَهُمُ: الْيَعْقُوبِيَّةُ وَقِيلَ: هُمُ الْمِلْكَانِيَّةُ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلَّ فِي ذَاتِ عِيسَى، فردّ الله عليهم بقوله: وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْمَسِيحُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَكَيْفَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ لِمَنْ يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ؟ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ أَنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ عِيسَى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يَنْصُرُونَهُمْ فَيُدْخِلُونَهُمُ الْجَنَّةَ أَوْ يُخَلِّصُونَهُمْ مِنَ النَّارِ.
قَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَهَذَا كَلَامٌ أَيْضًا مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَخَازِيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَى ما بعده، ولا يجوز فيه التَّنْوِينُ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُنَوَّنُ وَيُنْصَبُ مَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ دُونَهُ بِمَرْتَبَةٍ نَحْوَ ثَالِثُ اثْنَيْنِ وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ هُمُ النَّصَارَى، وَالْمُرَادُ بِالثَّلَاثَةِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعِيسَى، وَمَرْيَمُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ «2» وهذا هو المراد بقولهم ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: إِقْنِيمُ «3» الْأَبِ، وَإِقْنِيمُ الِابْنِ، وَإِقْنِيمُ روح وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي هَذَا، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ فَقَالَ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أَيْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّفْيِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَمِنْ فِي مِنْهُمْ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ. قَوْلُهُ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الرِّسَالَةِ، لَا يُجَاوِزُهَا كَمَا زَعَمْتُمْ، وَجُمْلَةُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ المعجزات لا يوجب كونه إلها، فقد
__________
(1) . البيت للفرزدق. «دياف» : قرية بالشام. «السليط» : الزيت.
(2) . المائدة: 116.
(3) . في معاجم اللغة: أقنوم.
(2/73)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مِثْلُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَحْيَا الْعَصَا فِي يَدِ مُوسَى، وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ إِحْيَاءَ عِيسَى لِلْمَوْتَى وَوُجُودَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ يُوجِبَانِ كَوْنَهُ إِلَهًا، فَإِنْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُونَ إِلَهًا لِذَلِكَ فَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ آلِهَةٌ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ عَطْفٌ عَلَى الْمَسِيحِ:
أَيْ وَمَا أُمُّهُ إِلَّا صِدِّيقَةٌ: أَيْ صَادِقَةٌ فِيمَا تَقُولُهُ أَوْ مُصَدِّقَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ وَلَدُهَا مِنَ الرِّسَالَةِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ لَهَا، بَلْ هِيَ كَسَائِرِ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ النِّسَاءِ. قَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ التَّقْرِيرَ لِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ: أَيْ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَيْسَ بِرَبٍّ، بل وعبد مَرْبُوبٌ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ، فَمَتَى يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ رَبًّا؟ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ بناسوته لا لاهوته، فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَاطَ الْإِلَهِ بِغَيْرِ الإله واجتماع الناسوت واللاهوت، لو جاز اختلاط القديم الحادث لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ حَادِثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أَيِ الدَّلَالَاتِ، وَفِيهِ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ تِلْكَ الْأَوْصَافَ مُسْتَلْزَمَةً لِلْإِلَهِيَّةِ ويغفلون عن كونها موجودة في من لَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ إِلَهٌ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ؟ يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ. وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في العجيب، وجاء ب ثُمَّ لِإِظْهَارِ مَا بَيْنَ الْعَجَبَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس قال: جاء نافع ابن حَارِثَةَ وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَرَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَتَشْهَدُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ حَقٌّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ وَكَفَرْتُمْ مِنْهَا بِمَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، فَبَرِئْتُ مِنْ إحداثكم» قالوا: فإنا نأخذ بِمَا فِي أَيْدِينَا وَإِنَّا عَلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتَّبِعُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ:
بَلَاءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ قَالَ: النَّصَارَى يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَكَذَبُوا.
أخرج ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ فِرَقٍ فِي عِيسَى، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ اللَّهُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَهِيَ المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب.  

ومن تفسير سورة المائدة الآيات{77. حتي82 .}

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) * لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
============

المائدة - تفسير ابن كثير
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) }
يقول تعالى منكرًا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبينًا له أنها لا تستحق شيئًا من الإلهية: { قُلْ } أي: يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم، ودخل في ذلك النصارى وغيرهم: { أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } أي: لا يقدر على إيصال ضرر (1) إليكم، ولا إيجاد نفع { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (2) أي: فلم (3) عدلتم عن إفراد السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء إلى عبادة جَمَاد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه.
ثم قال: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تُطْروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه، حتى تخرجوه عن حَيّز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء، فجعلتموه إلهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال، الذين هم سلفكم ممن ضل قديمًا، { وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضلال.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: وقد كان قائم قام عليهم، فأخذ بالكتاب والسنة زمانًا، فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عُمِل قبلك، فلا تَجْمُد (4) عليه، ولكن ابتدع أمرًا من قِبَل نفسك وادع إليه وأجبر الناس عليه، ففعل، ثم ادَّكر (5) بعد فعله زمانًا فأراد أن يتوب فخلع مُلْكه،
__________
(1) في ر، أ: "ضر".
(2) في أ: "والله واسع عليم" وهو خطأ.
(3) في ا: "فلو".
(4) في ر، د: "تحمد".
(5) في د: "ادكر من".
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
وسلطانه وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أيامًا، فأتي فقيل له: لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة، فكيف لك بهداهم، فلا توبة لك أبدًا. ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزل (1) على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه.
قال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة و [في] (2) الإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان. (3)
ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } أي: كان لا ينهي أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يُرْكَبَ مثل الذي (4) ارتكبوا، فقال: { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يزيد (5) حدثنا شَرِيك بن عبد الله، عن علي بن بَذيمة (6) عن أبي عُبَيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم -قال يزيد: وأحسبه قال: وأسواقهم-وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا". (7) (8)
وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النُّفَيْلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بَذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني
__________
(1) في د، أ: "أنزله".
(2) زيادة من ر،أ.
(3) في أ: "القرآن".
(4) في أ: "أي من ارتكب مثل ما".
(5) في أ: "يزيد بن عباس".
(6) في د: "نديمة"، وفي ر: "يديمة".
(7) في ر: "إطراء"؟.
(8) المسند (1/391).
إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } إلى قوله: { فَاسِقُونَ } ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد (1) الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا (2) -أو تقصرنه على الحق قصرًا".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بَذيمة، به (3) وقال الترمذي: "حسن غريب". ثم رواه هو وابن ماجه، عن بُنْدَار، عن ابن مَهْدِىّ، عن سفيان، عن علي بن بَذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا. (4)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عَمْرو بن مُرَّة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكِيلَه وخَلِيطه وشَرِيكه -وفي حديث هارون: وشريبه، ثم اتفقا في المتن-فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرُنَّه على الحق أطرًا (5) أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعَنْكم كما لعنهم"، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية (6) هذا الحديث.
وقد رواه أبو داود أيضًا، عن خَلَف بن هشام، عن أبي شهاب الخياط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم -وهو ابن عِجْلان الأفطس-عن أبي عبيدة (7) بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. ثم قال أبو داود: وكذا رواه خالد، عن العلاء، عن عمرو بن مُرَّة، به. ورواه المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله (8)
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج (9) المزّي: وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي، عن العلاء، عن عمرو بن مرة، عن أبي موسى (10)
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام.
__________
(1) في ر: "يدي".
(2) في ر: "إطراء".
(3) سنن أبي داود برقم (4336) وسنن الترمذي برقم (3047) وسنن ابن ماجة برقم (4006).
(4) سنن الترمذي برقم (3048) وسنن ابن ماجة برقم (4006).
(5) في أ: "إطراء".
(6) في أ: "روايته".
(7) في أ: "عن أبي عبيدة بن عبدة".
(8) سنن أبي داود برقم (4337).
(9) في أ: "أبو الحجاج يوسف".
(10) تحفة الأشراف (7/161)


[و] (1) قد تقدم حديث جرير عند قوله [تعالى] (2) { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } [المائدة: 63]، وسيأتي عند قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]، حديثُ أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخُشَنِي [رضي الله عنهما] (3) -فقال الإمام أحمد:
حدثنا سليمان الهاشمي، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نَفْسِي بيده لتَأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المُنْكَرِ، أو ليُوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عِقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم".
ورواه الترمذي عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، به. وقال: هذا حديث حسن (4)
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة، حدثنا معاوية بن هشام، عن هشام بن سعد، عن عمرو بن عثمان، عن عاصم بن عمر بن عثمان، عن عروَة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مُروا بالمعروف، وانْهَوْا عن المنكر، قبل أن تَدْعوا فلا يستجاب لكم". تفرد به، وعاصم هذا مجهول. (5)
وفي الصحيح من طريق الأعمش، عن إسماعيل بن رَجاء، عن أبيه، عن سعيد -وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم مُنْكَرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (6) رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا سَيْف -هو ابن أبي سليمان سمعت عَدِيّ بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي -يعني: عدي بن عميرة، رضي الله عنه-يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله (7) لا يُعذِّب العامَّة بعَمَلِ الخاصة، حتى يَرَوا المنكر بين ظَهْرانيْهِم، وهم قادرون على أن ينكروه. فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عَذَّبَ الله العامة والخاصة".
ثم رواه أحمد، عن أحمد بن الحجاج، عن عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان، عن عدي (8) بن عدي الكندي، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره. هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين. (9)
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن (10) العلاء، حدثنا أبو بكر، حدثنا مُغِيرة بن زياد الموصلي، عن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) المسند (5/388) وسنن الترمذي برقم (2169).
(5) سنن ابن ماجة برقم (4004) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (10/93) من طريق أبي همام الدلال، عن هشام بن سعد به.
(6) صحيح مسلم برقم (49).
(7) في أ: "الله عز وجل".
(8) في ر، أ: "عيسى".
(9) المسند (4/192) وقال الهيثمي في المجمع (7/267): "رواه احمد من طريقين إحداها عن عدي بن عدي، حدثني مولى لنا وهو الصواب" أ. هـ. بتصرف.
(10) في ر: "أبو".


عَدِيّ بن عدي، عن العُرْس -يعني ابن عَميرة-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شَهِدَها فكَرِهَها -وقال مرة: فأنكرها-كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فَرَضِيَها كان كمن شهدها."
تفرد به أبو داود، ثم رواه عن أحمد بن يونس، عن أبي شهاب، عن مغيرة بن زياد، عن عدي بن عدي، مرسلا. (1)
[و] (2) قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا حدثنا شعبة -وهذا لفظه-عن عمرو بن مرة، عن أبي البَخْتَري قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم -وقال سليمان: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال: "لن يهلك الناس حتى يعْذِروا-أو: يُعْذِروا -من أنفسهم". (3)
وقال ابن ماجه: حدثنا عمران بن موسى، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا علي بن زيد بن جُدْعان، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال: "ألا لا يمنعن (4) رجلا هَيْبَةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه". قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد -والله-رأينا أشياء، فَهِبْنَا. (5)
وفي حديث إسرائيل: عن محمد بن حجادة، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق (6) عند سلطان جائر".
رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. (7)
وقال ابن ماجه: حدثنا راشد بن سعيد الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (8) قال: عَرَض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ عند الجَمْرة الأولى فقال: يا رسول الله، أيّ الجهاد أفضل؟ فسكت عنه. فلما رَمَى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه. فلما رمى جمرة العَقَبة، ووضع رجله في الغَرْز ليركب، قال: "أين السائل؟" قال: أنا يا رسول الله، قال: "كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر". تفرد به. (9)
وقال ابن ماجه: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْترِي، عن
أبي سعيد (10) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحْقِر أحدكم
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4345) ومرسلا برقم (4346).
(2) زيادة من أ.
(3) سنن أبي داود برقم (4347).
(4) في ر: "تمنعن".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4007) وفي إسناده على بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(6) في أ: "عدل".
(7) سنن أبي داود برقم (4344) وسنن الترمذي برقم (2174) وسنن ابن ماجة برقم (4011).
(8) في أ: "أبي أسامة".
(9) سنن أبن ماجة برقم (4012) وقال البوصيري في الزوائد (3/243): "هذا إسناد فيه مقال، أبو غالب مختلف فيه ضعفه ابن سعد وأبو حاتم والنسائي، ووثقه الدارقطني وقال ابن عدي: لا بأس به، وراشد بن سعيد قال فيه أبو حاتم: صدوق وباقي رجال الإسناد ثقات".
(10) في أ: "أبي سعيد الخدري".


نفسه". قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟. قال: "يرى أمرًا لله فيه مَقَال، ثم لا يقول فيه. فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا وكذا؟ فيقول: خَشْيَةَ الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تَخْشَى". تفرد به. (1)
وقال أيضا: حدثنا علي بن محمد، حدثنا محمد بن فُضَيل، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أبو طُوَالة، حدثنا نَهَارُ العَبْدِيّ؛ أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذ (2) رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لَقَّنَ (3) الله عبدًا حجته، قال: يا رب، رَجَوْتُكَ وفَرقْتُ من الناس". تفرد به أيضًا ابن ماجه، (4) وإسناده لا بأس به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن عاصم، عن حماد (5) بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن جُنْدَب، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه". قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعًا، عن محمد بن بَشَّار، عن عمرو بن عاصم، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (6)
وقال ابن ماجه: حدثنا العباس بن (7) الوليد الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى بن عُبَيد الخُزَاعي، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا أبو مَعْبَد حفص بن غَيْلان (8) الرُّعَيني، عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظَهَر فيكم ما ظَهَر في الأمم قبلكم". قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: "المُلْك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رُذالكم". قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:" "والعلم في رُذالكم": إذا كان العلم في الفُسَّاق.
تفرد به ابن ماجه (9) وسيأتي في حديث أبي ثَعْلَبة، عند قوله: { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105] شاهد لهذا، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقوله: { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين. وقوله: { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين، التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم؛ ولهذا قال: { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ }
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (4008) وقال البوصيري في الزوائد (3/242): "هذا إسناد صحيح".
(2) في ر: "إذا".
(3) في ر: "ألقى".
(4) سنن ابن ماجة برقم (4017) وقال البوصيري في الزوائد (3/244): "هذا إسناد صحيح".
(5) في ر: "خالد".
(6) المسند (5/405) وسنن الترمذي برقم (2254) وسنن ابن ماجة برقم (4016).
(7) في أ: "حدثنا".
(8) في أ: "عبدان".
(9) سنن ابن ماجة برقم (4015) وقال البوصيري في الزوائد (3/244): "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".
(3/164)
فسر بذلك ما ذمهم به. ثم أخيرًا أنهم { وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } يعني يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مسلمة (1) بن علي، عن الأعمش بإسناد ذكره قال: "يا معشر المسلمين، إياكم والزنا، فإن فيه ست خصال، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فإنه يُذهب البهاء، ويُورِث الفقر، ويُنقِص العمر. وأما التي في الآخرة: فإنه يُوجب سَخَط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }
هكذا ذكره ابن أبي حاتم، وقد رواه ابن مَرْدُويه عن طريق هشام بن عمار، عن مسلمة (2) عن الأعمش، عن شَقِيق، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم -فذكره. وساقه أيضًا من طريق سعيد بن غُفَير، عن مسلمة، عن أبي عبد الرحمن الكوفي، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
وهذا حديث ضعيف على كل حال (3) والله أعلم. ثم قال تعالى: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } أي: لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان (4) لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه { وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.
__________
(1) في ر، أ: "مسلم".
(2) في ر، أ: "مسلم".
(3) ورواه ابن عدي في الكامل (6/317) من هذين الطريقين فقال:
1- حدثنا عبدان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مسلمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة بن اليمان به.
2- وحدثنا جعفر بن أحمد بن علي بن بيان، حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا مسلمة بن علي، عن أبي علي الكوفي، عن الأعمش، عن شقيق عن حذيفة نحوه.
ثم قال: "وهذا عن الأعمش غير محفوظ وهو منكر واختلف ابن عفير وهشام في إسناده، فقال هشام: عن مسلمة، عن الأعمش، وقال ابن عفير: عن مسلمة عن أبي على الكوفي، عن الأعمش، وأبو علي لا يدري من هو؟ ويروي هذا الحديث عن عبد الله بن عصمة النصيبي، عن محمد بن سلمة البناني، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأحاديث غير محفوظة".
(4) في أ: "والقرآن".


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
===============

المائدة - تفسير القرطبي

77- {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}
(6/251)
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى؛ غلو اليهود قولهم في عيسى، ليس ولد رشدة، وغلو النصارى قولهم: إنه إله. والغلو مجاوزة الحد؛ وقد تقدم في {النساء} بيانه.
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} الأهواء جمع هوى وقد تقدم في {البقرة}. وسمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} قال مجاهد والحسن: يعني اليهود. {وَأَضَلُّوا كَثِيراً} أي أضلوا كثيرا من الناس. {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي عن قصد طريق محمد صلى الله عليه وسلم. وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد؛ والمراد الأسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى.
78- {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فيه مسألة واحدة: وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء. وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم. ومعنى {لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي لعنوا في الزبور والإنجيل؛ فإن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى أي لعنهم الله في الكتابين. وقد تقدم اشتقاقهما. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: لعنهم مسخهم قردة وخنازير. قال أبو مالك: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة. والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. وقال ابن عباس: الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لعن الأسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى؛ لأنهما أعلما أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به.
(6/252)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} ذلك في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن بما عصوا؛ أي بعصيانهم. ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ؛ أي الأمر ذلك. ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم.
79- {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ} أي لا ينهى بعضهم بعضا: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم. خرج أبو داود عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم" وخرجه الترمذي أيضا. ومعنى لتأطرنه لتردنه
الثانية- قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا
(6/253)
واستدلوا بهذه الآية؛ قالوا: لأن قوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} {وَمَا} من قوله: {مَا كَانُوا} يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها؛ التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه. أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي.
80- {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}
قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} أي من اليهود؛ قيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقال مجاهد: يعني المنافقين {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي المشركين؛ وليسوا على دينهم. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي سولت وزينت. وقيل: المعنى لبئس ما قدموا لأنفسهم ومعادهم. {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} {أَنْ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقولك: بئس رجلا زيد. وقيل: بدل من {مَا} في قوله {لَبِئْسَ} على أن تكون {مَا} نكرة فتكون رفعا أيضا. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله عليه: {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} ابتداء وخبر.
81- {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم.
(6/254)
82- {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}
قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} اللام لام القسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل. {عَدَاوَةً} نصب على البيان وكذا {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم؛ وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب. فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة {مريم} فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وقرأ {إِلَى الشَّاهِدِينَ} رواه أبو داود. قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحرث بن هشام، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة، وساق الحديث بطوله. وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم
(6/255)
عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه، بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا. فيقال: إن النفر النصارى من أهل. نجران، ويقال: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} وقيل: إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة {يس} إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع. وقال سعيد بن جبير: وأنزل الله فيهم أيضا {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} إلى آخر الآية. وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية وستون من
(6/256)
أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} واحد {القِسِّيسِينَ} قس وقسيس؛ قال قطرب. والقسيس العالم؛ وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه؛ قال الراجز:
يصبحن عن قس الأذى غوافلا
وتقسمت أصواتهم بالليل تسمعتها. والقس النميمة. والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد. ويقال في جمع قسيس مكسرا: قساوسة أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. والأصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها. ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد، قال: حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب قال: قلت لسلمان {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} فقال: دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم {بِأَنَّ مِنْهُمْ صديقين وَرُهْبَاناً} . وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه؛ وكانوا أربعة نفر الذين غيروه؛ لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس.
قوله تعالى: {وَرُهْبَاناً} الرهبان جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة:
(6/257)
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبدالإله صرورة متعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
والفعل منه رهب الله يرهبه أي خافه رهبا ورهبا ورهبة. والرهبانية والترهب التعبد في صومعة. قال أبو عبيد: وقد يكون {رُهْبَان} للواحد والجمع؛ قال الفراء: ويجمع {رُهْبَان} إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين؛ قال جرير في الجمع:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف العقول الفادر
الفادر المسن من الوعول. ويقال: العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة؛ قال الجوهري. وقال آخر في التوحيد:
لو أبصرت رهبان دير في الجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويصل
من الصلاة. والرهابة على وزن السحابة عظم في الصد مشرف على البطن مثل اللسان. وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال: { وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي عن الانقياد إلى الحق.
============

المائدة - تفسير الطبري

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) }
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح="يا أهل الكتاب"، يعني بـ"الكتاب"، الإنجيل="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، (1) فتقولوا فيه:"هو الله"، أو:"هو ابنه"، ولكن قولوا:"هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"="ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا:"هو لغير رَشْدة"، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها
__________
(1) انظر تفسير"غلا" فيما سلف 9: 415- 417.
(10/487)
بالفرية وهي صدِّيقة = (1) "وأضلوا كثيرًا"، يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح=
"وضلوا عن سواء السبيل"، يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق. (2)
وإنما يعني تعالى ذكره بذلك، كفرَهم بالله، وتكذيبَهم رسله: عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12296 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وضلوا عن سواء السبيل"، قال: يهود.
12297 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم="وضلوا عن سواء السبيل"، عن عَدْل السبيل.
* * *
__________
(1) المطبوعة: "كما يبهتونها" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
= وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف ص: 443 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(10/488)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
القول في تأويل قوله : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء النصارى الذين وصفَ تعالى ذكره صفتهم: لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله، داود وعيسى ابن مريم. (1)
* * *
وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم، كالذي:-
12298 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" قال: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن.
12299 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، يقول: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود.
12300 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم،
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: 452 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
= وتفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: 447 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(10/489)
فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم.
12301 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حصين، عن مجاهد:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولُعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازيرَ.
12302 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل"، بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن= قال ابن جريج: وقال آخرون:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير. قال:"اللهم اجعلهم خنازير!" فكانوا خنازير. قال: ثم أصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال:"اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين"!
12303 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" الآية، لعنهم الله على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين= وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير.
12304 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، عن حصين= يعني: ابن عبد الرحمن=، عن أبي مالك قال:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، قال: مسخوا على لسان داود قردة، وعلى لسان عيسى خنازير. (1)
__________
(1) الأثر: 12304-"أبو محصن الضرير": "حصين بن نمير الواسطي" ، ثقة ، ولكن كان يحمل على علي رضي الله عنه ، فقال الحاكم: "ليس بالقوي عندهم". مترجم في التهذيب.
(10/490)
12305 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، مثله.
12306 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، (1) فإذا كان من الغدِ لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشَرِيبَه. (2) فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، قال: والذي نفسي بيده، لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي المسيء، ولتُؤَطِّرُنَّه على الحقّ أطْرًا، (3) أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعنَّنكم كما لعنهم. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "تعزيرًا" ، وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة ، وتفسير ابن كثير. و"التعذير": أن يفعل الشيء غير مبالغ في فعله. وتعذير بني إسرائيل: أنهم لم يبالغوا في نهيهم عن المعاصي ، وداهنوا العصاة ، ولم ينكروا أعمالهم بالمعاصي حق الإنكار ، فنهوهم نهيًا قصروا فيه ولم يبالغوا.
(2) "الأكيل": الذي يصاحبك في الأكل. و"الشريب": الذي يصاحبك في الشراب. و"الخليط": الذي يخالطك. كل ذلك"فعيل" بمعنى"مفاعل".
(3) في المطبوعة: "ولا تواطئونه على الخواطر" ، وهو من عجيب الكلام ، فضلا عن أنه عبث وتحريف لما كان في المخطوطة!! وكان في المخطوطة: "ولواطونه على الحواطرا" ، غير منقوطة ، فلعب بها ناشر المطبوعة لعبًا كما شاء. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت. وبمثل ذلك سيأتي في الأخبار التالية.
إلا أني قرأت المخطوطة: "ولتؤطرنه" (بتشديد الطاء) من قولهم في ماضيه: "أطره" (بتشديد الطاء) أي: عطفه. ورواية الآثار الآتية ، ثلاثية الفعل: "حتى تأطروه" من قولهم في الثلاثي: "أطره يأطره أطرًا": وذلك إذا قبض على أحد طرفي العود مثلا ، فعطفه عطفًا.
(4) الأثر: 12306-"عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي" ، ثقة ، مضى برقم: 221 ، 875.
و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي" ، ثقة مأمون ، مضى برقم: 3789.
و"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي" ، روى عنه أبيه ، وعن محمد بن سوقة ، وعاصم ابن بهدلة.
و"سالم الأفطس" ، هو: "سالم بن عجلان الجزري الحراني" ، روى عنه عمرو بن مرة. وهو من أقرانه. وذكر الحافظ في التهذيب: "ويقال: عبد الله بن عمرو بن مرة".
ويمثل هذا الإسناد من رواية المحاربي = أي: "عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس" ، رواه أبو داود في سننه 4: 172 ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، فيما نقله ابن كثير في تفسيره 3: 205 ، وعقب عليه بقوله: "ورواه خالد الطحان = هو: خالد بن عبد الله الواسطي = عن العلاء ، عن عمرو بن مرة" ، ورواه قبله برقم: 4337 ، من طريق خلف بن هشام ، عن أبي شهاب الحناط ، عن العلاء بن المسيب ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس". فالذي هنا هو رواية المحاربي ، لا شك أنها: "عبد الله بن عمرو بن مرة" ، وكأنه خطأ من المحاربي ، فسائر الرواة على أنه"عن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس".
و"عمرو بن مرة المرادي الجملي" ، "أبو عبد الله الأعمى" ، ثقة صدوق. وهو يروي عن أبي عبيدة مباشرة ، فرواه هنا عن أحد أقرانه"سالم الأفطس" ، عن أبي عبيدة" ، ورواه خالد الطحان ، عن العلاء ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة مباشرة ، دون واسطة"سالم الأفطس".
وهذا إسناد ضعيف على كل حال ، لانقطاعه.
(10/491)
12307 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقَى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنزل فيهم كتابًا:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَّكئًا، فجلس وقال: كلا والذى نفسي بيده، حتى تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا". (1)
__________
(1) الأثر: 12307- خبر علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، رواه أبو جعفر من خمس طرق. سيأتي تخريجها مفصلا ، ثم انظر آخرها رقم: 12311.
"الحكم بن بشير بن سلمان النهدي" ، ثقة مضى برقم: 1497 ، 2872 ، 3014 ، 6171 ، 9646. وكان في المطبوعة هنا: "ابن سليمان" ، وهو خطأ مر مثله.
و"عمرو بن قيس الملائي" ، مضى برقم: 886 ، 1497 ، 3956 ، 6171 ، 9646. و"علي بن بذيمة الجزري" ، ثقة ، مضى برقم: 629.
وهذا الخبر ، لم أجده بهذا الإسناد إلى علي بن بذيمة.
(10/492)
12308 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر، جعل الرجل يرى أخاه وجارَه وصاحبَه على المنكر، فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشَرِيبَه ونديمه، فضرب الله قلوبَ بعضهم على بعض، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، إلى"فاسقون"، قال عبد الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا، فاستوى جالسًا، فغضب وقال: لا والله، حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطِرُوه على الحق أطرًا. (1)
12309 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقصُ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه، فإذا كان الغدُ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال:"لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" حتى بلغ"ولكن كثيًرا منهم فاسقون"،
__________
(1) الأثر: 1308-"مؤمل بن إسمعيل العدوي" ، ثقة ، مضى برقم: 2057 ، 3337 ، 5728 ، 8356 ، 8367.
و"سفيان" هو الثوري.
وطريق سفيان ، عن علي بن بذيمة ، يأتي أيضا برقم: 12309 ، 12311 ، مرسلا ، "عن أبي عبيدة قال قال رسول الله" ، ليس فيه ذكر"عبد الله بن مسعود". وهو المعروف من رواية سفيان. روى الترمذي في السنن (في كتاب التفسير): "قال عبد الله بن عبد الرحمن ، قال يزيد بن هرون: وكان سفيان الثوري لا يقول فيه: "عبد الله" يعني أنه مرسل من خبر أبي عبيدة. فأفادنا الطبري هنا أن سفيان الثوري ، رواه مرة أخرى ، "عن أبي عبيدة ، أظنه عن مسروق ، عن عبد الله" ، فلم يذكر"عبد الله" فحسب ، بل شك في أن أبا عبيدة رواه عن مسروق عن عبد الله ، فإذا صح ظن سفيان هذا ، فإن حديث صحيح الإسناد ، غير منقطع ولا مرسل.
ولم أجد هذه الرواية بهذا الإسناد في مكان آخر.
(10/493)
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، وقال: لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا. (1)
12310 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود= قال: أملاه عليَّ= قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. (2)
12311 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، على علي بن بذيمة قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه= غير أنهما قالا في حديثهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فاستوى جالسًا، ثم قال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا". (3)
__________
(1) الأثر: 12209- وهذا الإسناد الثالث من أسانيد خبر علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، والثاني من خبر سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، رواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق محمد بن بشار ، بمثله. ورواه ابن ماجه رقم: 4006 أيضا ، بمثله.
(2) الأثر: 12310-"محمد بن أبي الوضاح" منسوب إلى جده ، وهو: "محمد بن مسلم ابن أبي الوضاح القضاعي". روى عنه أبو داود الطيالسي. ثقة مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر بهذا الإسناد ، رواه الترمذي في السنن في (كتاب التفسير) ، وابن ماجه في السنن ، تابع رقم: 4006 ، بمثله.
(3) الأثر: 12311- هذا هو الإسناد الثالث من أسانيد"سفيان ، عن علي بن بذيمة". وهو خبر مرسل.
وخبر علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، روى من طرق أخرى.
رواه أحمد في المسند رقم: 3713 ، من طريق يزيد بن هرون ، عن شريك بن عبد الله ، عن علي بن بذيمة ، بلفظ آخر مثله. ورواه الترمذي في (كتاب التفسير) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن هرون ، بمثل رواية أحمد.
ورواه أبو داود في سننه 4: 172 ، رقم: 4336 ، من طريق عبد الله بن محمد النفيلي ، عن يونس بن راشد ، عن علي بن بذيمة ، بمثله ، بلفظ آخر.
وهذه الآثار كلها ، من منقطعة أو مرسلة ، ولم يوصل الخبر إلا في الإسناد رقم: 12308. وقال الترمذي بعد روايته: "هذا حديث حسن غريب".
انظر تفسير ابن كثير 3: 205 ، 206 ، والدر المنثور 2: 300.
(10/494)
12312 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال فقال: لعنوا في الإنجيل وفي الزبور= وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ رَحَى الإيمان قد دارت، فدُوروا مع القرآن حيث دار [*فإنه... قد فرغ الله مما افترض فيه]. (1) [وإن ابن مرح] كان أمة من بني إسرائيل، (2) كانوا أهل عدل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير، وصلبوهم على الخشب، وبقيت منهم بقية، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم، (3) فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة. فذلك قول الله تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" إلى:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، ماذا كانت معصيتهم؟ قال:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
* * *
فتأويل الكلام إذًا: لَعَن الله الذين كفروا= من اليهود= بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم، ولُعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، بما عصوا الله فخالفوا أمره="وكانوا يعتدون"، يقول: وكانوا يتجاوزون حدودَه. (4)
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة: "... حيث دار ، فإنه قد فرغ الله مما افترض فيه" ، ساق الكلام سياقًا واحدًا بعد تغييره ، والذي في المخطوطة هو ما أثبته ، وبين الكلامين بياض بقدر كلمة أو كلمتين ، وضعت مكانهما نقطًا ، تركته حتى يعثر على الخبر فيتمه وجدانه.
(2) وهذا الذي بين القوسين ، هو الثابت في المخطوطة ، ولا أدري ما هو ، ولكن ناشر المطبوعة الأولى جعل الكلام هكذا: "وإنه كانت أمة من بني إسرائيل" ، فرأيت أن أثبت ما في المخطوطة على حاله ، حتى إذا وجد الخبر في مكان آخر صحح. وكان هذا والذي قبله في المخطوطة في سطر واحد ، وأمام السطر حرف (ط) بالأحمر دلالة على الخطأ.
(3) هكذا في المطبوعة والمخطوطة"فلم يرضوا" و"ثم لم يرضوا" في الموضعين ، وأنا في شك منها ، وأرجح أنها: "فلم يريموا" ، و"ثم لم يريموا" ، أي: لم يلبثوا.
(4) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف قريبا ص: 489 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(10/495)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
القول في تأويل قوله : { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله="لا يتناهون"، يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضًا. (1) ويعني بـ"المنكر"، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. (2)
* * *
فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه="لبئس ما كانوا يفعلون". وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول: أقسم: لبئس الفعل كانوا يفعلون، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله، (3) كما:-
12313 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ترى"، يا محمد، كثيرًا من بني إسرائيل="يتولون الذين كفروا"، يقول: يتولون المشركين من عَبَدة الأوثان،
__________
(1) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف قريبًا ص: 482 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف 7: 91 ، 105 ، 130.
(3) انظر تفسير"بئس" فيما سلف 2 : 338 ، 393/ 3 : 56/ 7 : 459.
(10/496)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
ويعادون أولياء الله ورسله (1) ="لبئس ما قدمت لهم أنفسهم"، يقول تعالى ذكره: أُقسم: لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة (2) ="أنْ سخط الله عليهم"، يقول: قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا.
* * *
و"أن" في قوله:"أنْ سخط الله عليهم"، في موضع رفع، ترجمةً عن"ما"، الذي في قوله:"لبئس ما". (3)
* * *
="وفي العذاب هم خالدون"، يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة="هم خالدون"، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل="يؤمنون بالله والنبي"، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل="وما أنزل إليه"، يقول: ويقرُّون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان=
"ما اتخذوهم أولياء"، يقول: ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين (5) ="ولكن كثيرًا منهم فاسقون"، يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج
__________
(1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
(2) انظر تفسير"قدم" فيما سلف 2: 368/7: 447/8: 514.
(3) "الترجمة": البدل ، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(4) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(5) انظر تفسير"الأولياء" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(10/497)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل. (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-
12314 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء"، قال: المنافقون.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام="اليهودَ والذين اشركوا"، يعني: عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله="ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، يقول: ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة.
* * *
و"المودة""المفعلة"، من قول الرجل:"ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا، ووِدًّا، ووَدًّا ومودة"، إذا أحببته. (2)
* * *
="للذين آمنوا"، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ="الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"،
__________
(1) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).
(2) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470/5: 542/6: 500/8: 371/9: 17
(10/498)
عن قبول الحق واتباعه والإذعان به.
* * *
وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقيل: إنها نزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه.
ذكر من قال ذلك:
12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال: فأنزل الله تعالى فيهم:"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا"، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات، فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنجاشي ثَمَّ.
12316 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
12317 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن
(10/499)
مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ، فقالوا، إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشي، (1) فقالوا: استأذن لأولياء الله! (2) فقال، ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول:"هو عبد الله، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه"، ويقول في مريم:"إنها العذراء البتول". قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرأوا! فقرأوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" الآية.
12318 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، الآية. قال: بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى
__________
(1) في المطبوعة: "فأقاموا بباب النجاشي" ، والصواب المحض من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فقالوا: أتأذن" ، والصواب من المخطوطة. يعني : قالوا لحاجب باب النجاشي ، ولذلك جاء الجواب: "فقال: ائذن لهم".
(10/500)
عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم:"وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له.
12319 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء في قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به.
ذكر من قال ذلك:
12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، فقرأ حتى بلغ:"فاكتبنا مع الشاهدين"، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، صدَّقوا به وآمنوا به، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندي: أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا:"إنا نصارى"، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقربَ الناس وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحابُ النجاشي= ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة
(10/501)
عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.
* * *
وأما قوله تعالى:"ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا"، فإنه يقول: قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين، من أجل أنّ منهم قسيسين ورهبانًا.
* * *
و"القسيسون" جمع"قسيس". وقد يجمع"القسيس"،"قسوسًا"، (1) لأن"القَسّ" و"القسيس"، بمعنى واحد.
* * *
وكان ابن زيد يقول في"القسيس" بما:-
12321 - حدثنا يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"القسيس"، عبَّادُهم. (2)
* * *
وأما الرهبان، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا، فإن واحدهم يكون"راهبًا"، ويكون"الراهب"، حينئذ"فاعلا" من قول القائل:"رَهب الله فلان"، بمعنى خافه،"يرهبه رَهَبًا ورَهْبَا"، ثم يجمع"الراهب"،"رهبان" مثل"راكب" و"ركبان"، و"فارس" و"فرسان". ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر: (3)
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزلُوا... والْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعَقُولِ الفَادِرِ (4)
__________
(1) في المطبوعة: "قسوس" ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "القسيسين" ، بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب ، ولا بأس هنا بشرح المفرد بالجمع.
(3) هو جرير ، ونسبه ياقوت في معجم البلدان لكثير عزة ، وأدخله في شعره جامع ديوانه ص: 240 ، والصواب أنه لجرير.
(4) ديوانه: 305 ، وسيأتي في التفسير 20: 34 (بولاق) وديوان كثير 1: 240 ، واللسان (رهب) ومعجم البلدان (مدين) ، من قصيدة هجا فيها الأخطل والفرزدق ، يقول قبله: يَا أُمَّ طَلْحَةَ، مَا لَقِينَا مِثْلكُمْ ... فِي الْمُنْجِدِينَ ولا بغَوْرِ الغَائِرِ
و"مدين" مدينه شعيب عليه السلام ، على بحر القلزم ، تجاه تبوك ، بين المدينة والشام ، ذكرها كثير أيضًا في شعره فقال: اللهُ يَعْلَمُ لَوْ أَرَدْتُ زِيَادَةً ... في حُبِّ عَزَّةَ ما وجدْتُ مَزِيدَا
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا
و"العقول" عندي بفتح العين ، من قولهم: "عقل الوعل يعقل عقولا" ، امتنع برأس الجبل ، فهو"عاقل" وبذلك سمي ، والقياس يقبل أيضًا"فهو عقول" (بفتح العين). وفي الديوان ، ضبط بالقلم"العقول" (بضم العين) ، جمع"عقل" (بفتح فسكون): وهو المعقل والحصن. ولست أرضى ذلك هنا ، وروى صاحب المعجم"والعصم في شعف الجبال" ، وهي موافقة في المعنى لمن ضبط"العقول" بضم العين ، وأرجح أن صواب إنشاده في المعجم"من شعف الجبال". و"الشعف" جمع"شعفة" (بفتحتين): وهي رأس الجبل. و"الفادر": الوعل العاقل الممتنع في رأس الجبل ، وهو حينئذ مسن معتقل في رأس جبله. و"العصم" جمع"أعصم": وهو الوعل. سمى بالصفة الغالبة ، لأن في إحدى يديه بياضًا. وذلك أن"العصم" و"العصمة": البياض في الذراعين أو إحداهما.
ولما كان"العصم" جمعًا ، أنفت أن أجعل"الفادر" من صفته ، لو قرئ"العقول" (بضم العين) بمعنى: الحصون والملاجئ ، بل جعلتها بفتح العين ، بمعنى أن العصم غير المسنة تنزلت أيضا من المعقل الذي يعقل إليه مسن الوعول امتناعًا من الصيد ، لقلة احتفاله بمفارقة معقله ، كاحتفال شواب الوعول.
(10/502)
وقد يكون"الرهبان" واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه"رهابين" مثل"قربان" و"قرابين"، و"جُرْدان". و"جرادين". (1) ويجوز جمعه أيضًا"رهابنة" إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر: (2)
لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في الْقُلَلْ... لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي وَنزل (3)
* * *
__________
(1) "الجردان": ما يستحى من ذكره من الإنسان وغيره.
(2) لم أعرف هذا الراجز.
(3) تفسير القرطبي 6: 258 ، مع اختلاف شديد في الرواية."عاين الشيء معاينة وعيانًا": نظر إليه بعينيه مواجهة. ومنه قيل: "رأيت فلانًا عيانًا" أي: مواجهة. وحق شرح هذا اللفظ هنا أن يقال: لو رمتهم بعينيها مواجهة. و"القلل": جمع"قلة": وهي رأس الجبل ، وإنما عنى بذلك صوامع الرهبان في الجبال.
(10/503)
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا".
فقال بعضهم: عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتَّبعوه على شريعته.
ذكر من قال ذلك:
12321م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: كانوا نَوَاتِيَّ في البحر= يعني: ملاحين (1) = قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه: قال: فذلك قوله:"قسيسين ورهبانًا".
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
12322 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو ثمان وستون، (2) من الحبشة، كلهم
__________
(1) في ابن الأثير ثم في لسان العرب"كانوا نَوَّاتِين ، أي ملاحين- تفسيره في الحديث" وكذلك نقله عنهما صاحب تاج العروس. وأنا أخشى أن يكون خطأ من النساخ ، وأن صوابه"كانوا نواتى ، أي ملاحين" ، كما جاء هنا وفي المخطوطة أيضا. ولم أجد أحدًا ذكره كذلك: "نواتا" (بفتح النون وتشديد الواو) ، ولو كان كذلك لتعرض له أصحاب اللغة ، ولكنهم لم يذكروه إلا فيما نقلوه عن ابن الأثير ، وواحد"النواتى" (بفتح النون والواو المفتوحة غير المشددة)"نوتى" (بضم النون ، آخره ياء مشددة). والذي في مخطوطة الطبري يرجح أن الذي كتبه ابن الأثير ، خطأ ، أو سهو في قراءة الحرف. وابن الأثير وحده ، لا يحتج برواية كتابه غير مقيدة مضبوطة بإسنادها ومصدرها. ثم وجدته بعد أن كتبت هذا ، في مجمع الزوائد 7: 17 ، كما جاء في ابن الأثير واللسان: "نواتين ، يعني ملاحين". وذكر هناك الخبر بطوله ، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه العباس بن الفضل الأنصاري ، وهو ضعيف". وهو إسناد غير إسناد أبي جعفر بلا شك ، وانظر ابن كثير 3: 212 ، 213.
(2) هكذا في المطبوعة: "أو اثنان وستون" ، وفي المخطوطة: "اثنان وستون" بغير "أو" ، وغير منقوطة ، فأرجح أن صواب قراءتها: "أو ثمان وستون"... وهو الذي يدل عليه السياق ، ولذلك أثبتها كذلك.
(10/504)
صاحب صَوْمعة، عليهم ثيابُ الصوف.
12323 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: بعث النجاشيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء!
12324 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم:( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) [سورة يس: 1، 2]، فبكوا وعرفوا الحق، فأنزل الله فيهم:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"، وأنزل فيهم:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) إلى قوله:( يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) [سورة القصص: 53، 54].
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، (1) وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه، لأنهم
__________
(1) في المطبوعة: "وترهيب" ، وفي المخطوطة: "وترهب" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، فإنه لا يقال: "رهب ترهيبًا" ، وإنما يقال: "ترهب ترهبًا" ، إذا صار راهبًا يخشى الله ، ويتعبد في صومعته.
(10/505)
أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريفِ تنزيله الذي أنزله في كتبه. (1)
* * *
__________
(1) قال الجصاص في أحكام القرآن 2: 451: "ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحًا للنصارى ، وإخبارًا بأنهم خير من اليهود. وليس ذلك كذلك ، لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول. يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة ، من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله والرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين ، أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة ، وأظهر فسادًا من مقالة اليهود. لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة ، وإن كان فيها مشبهة تنقض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه".
ونقل هذا: أبو حيان في تفسيره (4: 4 ، 5) ، ثم قال: "والظاهر ما قاله المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود. وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ، ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعًا. وليس الكلام واردا بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين. وأما قوله: "لأن ما في الآية من ذلك ، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول" ، ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم ، لأنه قال: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" ، ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادًا متواضعين ، وسريعي استجابة للإسلام ، وكثيري بكاء عند سماع القرآن. واليهود بخلاف ذلك. والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين ، وبعد اليهود".
وهذا كلام فيه نظر يطول ، ليس هذا موضع تفصيله ، وإنما نقلته لك لتتأمله وتتدبره.
===============

المائدة - تفسير الدر المنثور

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
- قَوْله تَعَالَى: قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل
- أخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم أَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {لَا تغلوا فِي دينكُمْ} يَقُول لَا تبتدعوا
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله {لَا تغلوا فِي دينكُمْ} قَالَ: الغلوا فِرَاق الْحق وَكَانَ مِمَّا غلوا فِيهِ أَن دعوا الله صَاحِبَة وَولدا
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الرّبيع بن أنس قَالَ: قد كَانَ قَائِم قَامَ عَلَيْهِم فَأخذ بِالْكتاب وَالسّنة زَمَانا فَأَتَاهُ الشَّيْطَان فَقَالَ: إِنَّمَا تركب اثر وأمراً قد عمل بِهِ قبلك فَلَا تحمد عَلَيْهِ وَلَكِن ابتدع أمرا من قبل نَفسك وادع إِلَيْهِ واجبر النَّاس عَلَيْهِ فَفعل ثمَّ ادّكر من بعد فعله زَمَانا فاراد أَن يَمُوت فَخلع سُلْطَانه وَملكه وَأَرَادَ أَن يتعبد فَلبث فِي عِبَادَته أَيَّامًا فَأتي فَقيل لَهُ: لَو أَنَّك تبت من خَطِيئَة عملتها فِيمَا بَيْنك وَبَين رَبك عَسى أَن يُتَاب عَلَيْك وَلَكِن ضل فلَان وَفُلَان فِي سَبِيلك حَتَّى فارقوا الدُّنْيَا وهم على الضَّلَالَة فَكيف لَك بهداهم فَلَا تَوْبَة لَك أبدا فَفِيهِ سمعنَا وَفِي
(3/123)
اشباهه هَذِه الْآيَة {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن السّديّ فِي قَوْله {وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} فهم أُولَئِكَ الَّذين ضلوا وأضلوا أتباعهم {وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} عَن عدل السَّبِيل
وَالله أعلم
(3/124)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
- قَوْله تَعَالَى: لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
- أخرج عبد الرَّزَّاق وَأحمد وَعبد بن حميد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَابْن ماجة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كَانَ الرجل يلقى الرجل فَيَقُول لَهُ: ياهذا اتَّقِ الله ودع ماتصنع فانه لايحل لَك ثمَّ يلقاه من الْغَد فَلَا يمنعهُ ذَلِك أَن يكون أكيله وشريبه وقعيده فَلَمَّا فعلوا ذَلِك ضرب الله على قُلُوب بَعضهم بِبَعْض
قَالَ {لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد} إِلَى قَوْله {فَاسِقُونَ} ثمَّ قَالَ: كلا وَالله لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر ولتأخذن على يَدي الظَّالِم ولتأطرنه على الْحق اطراء
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن بني اسرئيل لما عمِلُوا الْخَطِيئَة نَهَاهُم علماؤهم تعزيراً ثمَّ جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم كَأَن لم يعملوا بالْأَمْس خَطِيئَة فَلَمَّا رأى الله ذَلِك مِنْهُم ضرب بقلوب بَعضهم على بعض ولعنهم على لِسَان نَبِي من الْأَنْبِيَاء ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالله لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهن عَن الْمُنكر ولتأطرنهم على الْحق أطراً أَو ليضربن الله بقلوب بَعْضكُم على بعض وليلعننكم كَمَا لعنهم
وَأخرج عبد بن حميد عَن معَاذ بن جبل قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذُوا الْعَطاء ماكان عَطاء فَإِذا كَانَ رشوة عَن دينكُمْ فَلَا تأخذوه وَلنْ تتركوه يمنعكم
(3/124)
من ذَلِك الْفقر والمخافة إِن بني يَأْجُوج قد جاؤوا وَإِن رحى الْإِسْلَام ستدور فَحَيْثُ مَا دَار الْقُرْآن فدوروا بِهِ يُوشك السُّلْطَان وَالْقُرْآن أَن يقتتلا ويتفرقا إِنَّه سَيكون عَلَيْكُم مُلُوك يحكمون لكم بِحكم وَلَهُم بِغَيْرِهِ فَإِن أطعتموهم أضلوكم وَإِن عصيتموهم قتلوكم قَالُوا: يارسول الله فَكيف بِنَا ان أدركنا ذَلِك قَالَ: تَكُونُونَ كأصحاب عِيسَى نشرُوا بالمناشير وَرفعُوا على الْخشب موت فِي طَاعَة خير من حَيَاة فِي مَعْصِيّة إِن أول ماكان نقص فِي بني اسرئيل أَنهم كَانُوا يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر شبه التَّعْزِير فَكَانَ أحدهم إِذا لَقِي صَاحبه الَّذِي كَانَ يعيب عَلَيْهِ آكله وشاربه كَأَنَّهُ لم يعب عَلَيْهِ شَيْئا فلعنهم الله على لِسَان دَاوُد وَذَلِكَ بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليسلطنَّ الله عَلَيْكُم شِرَاركُمْ ثمَّ ليدعون خياركم فَلَا يُسْتَجَاب لكم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهن عَن الْمُنكر ولتأخذن على يَد الظَّالِم فلتأطرنه عَلَيْهِ اطراً أَو ليضربن الله قُلُوب بَعْضكُم بِبَعْض
وَأخرج ابْن رَاهَوَيْه وَالْبُخَارِيّ فِي الوحدانيات وَابْن السكن وَابْن مَنْدَه والباوردي فِي معرفَة الصَّحَابَة وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن أَبْزَى عَن أَبِيه قَالَ خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ ذكر طوائف من الْمُسلمين فَأثْنى عَلَيْهِم خيرا ثمَّ قَالَ: مَا بَال أَقوام لَا يعلمُونَ جيرانهم وَلَا يفقهونهم وَلَا يفطنونهم وَلَا يأمرونهم وَلَا ينهونهم وَمَا بَال أَقوام لَا يتعلمون من جيرانهم وَلَا يتفقهمون وَلَا يتفطنون وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليعلمن جِيرَانه أَو ليتفقهن أَو ليفطنن أَو لأعاجلنهم بالعقوبة فِي دَار الدُّنْيَا ثمَّ نزل فَدخل بَيته
فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يَعْنِي بِهَذَا الْكَلَام قَالُوا: مَا نعلم يَعْنِي بِهَذَا الْكَلَام إِلَّا الْأَشْعَرِيين فُقَهَاء عُلَمَاء وَلَهُم جيران من أهل الْمِيَاه جُفَاة جهلة فَاجْتمع جمَاعَة من الْأَشْعَرِيين فَدَخَلُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ذكرت طوائف من الْمُسلمين بِخَير وذكرتنا بشر فَمَا بالنا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لتعلمن جِيرَانكُمْ ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهونهم أَو لأعاجلنكم بالعقوبة فِي دَار الدُّنْيَا فَقَالُوا: يارسول الله فاما إِذن فامهلنا سنة فَفِي سنة مَا نعلمهُ ويتعلمون فامهلهم سنة ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
(3/125)
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {لُعِن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد} يَعْنِي فِي الزبُور {وَعِيسَى} يَعْنِي فِي الْإِنْجِيل
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {لعن الَّذين كفرُوا} الْآيَة
قَالَ: لعنُوا بِكُل لِسَان لعنُوا على عهد مُحَمَّد فِي الْقُرْآن
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس {لعن الَّذين كفرُوا} الْآيَة
خالطوهم بعد النَّهْي على تجارهم فَضرب الله قُلُوب بَعضهم على بعض وهم ملعونون على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى بن مَرْيَم
وَأخرج أَبُو عبيد وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن أبي مَالك الْغِفَارِيّ فِي الْآيَة قَالَ: لعنُوا على لِسَان دَاوُد فجُعلوا قردة وعَلى لِسَان عِيسَى فجُعِلوا خنازير
وَأخرج ابْن جرير عَن مُجَاهِد
مثله
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة فِي الْآيَة قَالَ: لعنهم الله على لِسَان دَاوُد فِي زمانهم فجعلهم قردة خَاسِئِينَ ولعنهم فِي الْإِنْجِيل على لِسَان عِيسَى فجعلهم خنازير
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله {ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون} مَاذَا كَانَ بَعضهم قَالُوا {لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ}
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن أبي عَمْرو بن حماس أَن ابْن الزبير قَالَ لكعب: هَل لله من عَلامَة فِي الْعباد إِذا سخط عَلَيْهِم قَالَ: نعم يذلهم فَلَا يامرون بِالْمَعْرُوفِ ولاينهون عَن الْمُنكر وَفِي الْقُرْآن {لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل} الْآيَة
وَأخرج الديلمي فِي مُسْند الفردوس عَن أبي عُبَيْدَة بن الْجراح مَرْفُوعا قتلت بَنو إِسْرَائِيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعين نَبيا من أوّل النَّهَار فَقَامَ مائَة وَاثنا عشر رجلا من عبادهم فأمروهم بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَن الْمُنكر فَقتلُوا جَمِيعًا فِي آخر النَّهَار فهم الَّذين ذكر الله {لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل} الْآيَات
وَأخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالْبَيْهَقِيّ عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليوشكن أَن يبْعَث الله عَلَيْكُم عقَابا من عِنْده ثمَّ لتدعنه فَلَا يستجيب لكم
(3/126)
وَأخرج ابْن مَاجَه عَن عَائِشَة قَالَت: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مروا بِالْمَعْرُوفِ وانهوا عَن الْمُنكر قبل أَن تدعوا فَلَا يُسْتَجَاب لكم
وَأخرج مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان
وَأخرج أَحْمد عَن عدي بن عميرَة
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله لايعذب الْعَامَّة بِعَمَل الْخَاصَّة حَتَّى يرَوا الْمُنكر بَين ظهرانيهم وهم قادرون على أَن ينكروه فَإِذا فعلوا ذَلِك عذب الله الْعَامَّة والخاصة
وَأخرج الْخَطِيب فِي رُوَاة مَالك من طَرِيق أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله لايعذب الْعَامَّة بِعَمَل الْخَاصَّة حَتَّى يرَوا الْمُنكر بَين ظهرانيهم وهم قادرون على أَن ينكروه فَلَا ينكرونه فَإِذا فعلوا ذَلِك عذب الله الْخَاصَّة والعامة
وَأخرج الْخَطِيب فِي رُوَاة مَالك من طَرِيق أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ ليخرجن من أمتِي اناس من قُبُورهم فِي صُورَة القردة والخنازير داهنوا أهل الْمعاصِي سكتوا عَن نهيهم وهم يَسْتَطِيعُونَ
وَأخرج الْحَكِيم وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا عظمت أمتِي الدُّنْيَا نزعت مِنْهَا هَيْبَة الْإِسْلَام واذا تركت الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر حرمت بَرَكة الْوَحْي وَإِذا تسابَّت امتي سَقَطت من عين الله
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قيل يارسول الله أتهلك الْقرْيَة فيهم الصالحون قَالَ: نعم
فَقيل يارسول الله
قَالَ: تهانونهم وسكوتهم عَن معاصي الله عز وَجل
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن من كَانَ قبلكُمْ من بني إِسْرَائِيل إِذا عمل الْعَامِل فيهم الْخَطِيئَة فَنَهَاهُ الناهي تعزيراً فَإِذا كَانَ من الْغَد جالسه وآكله وشاربه كَأَنَّهُ لم يره على خَطِيئَة بالْأَمْس فَلَمَّا رأى الله ذَلِك مِنْهُم ضرب بقلوب بَعضهم على بعض ولعنهم على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى بن مَرْيَم {ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون} وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهن عَن الْمُنكر ولتأخذن على يَد الْمُسِيء ولتأطرنه على الْحق أطرا أَو ليضربن الله بقلوب بَعْضكُم على بعض ويلعنكم كَمَا لعنهم
(3/127)
وَأخرج الديلمي عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتغنى النِّسَاء بِالنسَاء وَالرِّجَال بِالرِّجَالِ فبشروهم برِيح حَمْرَاء تخرج من قبل الْمشرق فَينْسَخ بَعضهم ويخسف بِبَعْض {ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون}
(3/128)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
- قَوْله تَعَالَى: ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ
- أخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم} قَالَ: مَا أَمرتهم
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم والخرائطي فِي مساوىء الْأَخْلَاق وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب وَضَعفه عَن حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يامعشر الْمُسلمين إيَّاكُمْ وَالزِّنَا فَإِن فِيهِ سِتّ خِصَال: ثَلَاث فِي الدُّنْيَا وَثَلَاث فِي الْآخِرَة فاما الَّتِي فِي الدُّنْيَا قد طَابَ إِلَيْهَا ودوام الْفقر وَقصر الْعُمر وَأما الَّتِي فِي الْآخِرَة فسخط الله وَطول الْحساب وَالْخُلُود فِي النَّار ثمَّ تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ}
(3/128)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
- قَوْله تَعَالَى: وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ
- أخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء} الْآيَة==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم

ج8.كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ   ...